البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

الاستشراق وثنائية القوة والضعف بصدد البحث عما أضاعه نقد خطاب الاستشراق

الباحث :  عبد الفتاح نعوم/ باحث في العلوم السياسية في جامعة محمد الخامس في الرباط
اسم المجلة :  دراسات استشراقية
العدد :  6
السنة :  السنة الثالثة - شتاء 2016 م / 1437 هـ
تاريخ إضافة البحث :  January / 26 / 2016
عدد زيارات البحث :  2868
تحميل  ( 301.785 KB )
الاستشراق وثنائية القوة والضعف
بصدد البحث عما أضاعه نقد خطاب الاستشراق

■ عبد الفتاح نعوم(*)

مقدمة
قد يبدو للوهلة الأولى أن هذه المقالة جاءت متأخرة كثيرا، لأن موضوعها جرى استهلاكه بشكل مبالغ فيه أحيانا، خصوصا بعد صدور كتاب ادوارد سعيد([1]). وهو أمر أصبح عسيراً معه تمييز الاتجاهات التي أفرزها الخطاب النقدي المُنصب على دراسة الاستشراق، التمييز الذي يختلف من دارس لآخر تبعا لطبيعة المعايير المتبعة. وعموما يمكن تقسيم الكتابات التي تراكمت في حقل الاستشراق إلى أصناف قابلة للرصد على النحو الآتي([2]):
ـ أعمال المستشرقين.
ـ الردود السجالية على المستشرقين.
ـ الدراسات الأكاديمية النقدية حول الاستشراق بوصفها ظاهرة.
لكن أهمية هذه المقالة تأتي من كونها تروم إلقاء نظرة سريعة على أهم النقاط التي أثيرت في الخطاب النقدي العربي الموجه صوب الاستشراق، والتي تتعلق بشكل أساسي بموضوعة الهوية. فهوية المنطقة المسماة "شرقا" شغلت الحيز الأكبر ضمن خطاب الاستشراق، كما أن أغلب منتقدي الاستشراق فعلوا ذلك محاولة للدفاع عنها أمام خطاب لا يفهمها أو لا يريد أن يفهمها، والأهم من ذلك هو أن موضوع الهوية لم يجر استهلاكه على صعيد الدرس الاستشراقي، وإنما كان ولا يزال موضوعا لسياسات الدول العظمى اتجاه المنطقة عينها، وجرى على مدار القرن الماضي ولا يزال صراع محموم لخطفها والأخذ بها صوب عناوين إقصائية متشددة ومُغالية في الرجوع إلى الخلف.

الإشكالية والمنهج:
يتفق أغلب الدارسين العرب للخطاب الاستشراقي على أحد أمرين: إمّا إدانة خطاب الاستشراق، أو إدانة الهوية الثقافية والحضارية للمنطقة التي درسها الاستشراق، الأول يتبرأ من أي فضيلة يمكن نسبتها إلى الاستشراق، والثاني يتبرأ من كل ما يمُت لهوية تفاخر بثغرات قابلة للنقد بل وتصر على التمسك بها أمامه. فلابدّ أن المخرج لا هذا ولا ذاك، ربما يكون المخرج هو وضع الخطابين معا في سياقهما التاريخي الذي هو سياق تناوب الأمم على القوة والضعف، بحيث إنّ الحضارات وإن كان ظاهر العلاقات بينها هو الصراع في لحظات التزامن إلا أن كل واحدة منها تغذي جذورها ضرورة بإنجازات أسلافها([3]).

أولاً: هوية الشرق موضوع للاستشراق:
تشير كلمة "orientalism"  إلى دلالة مذهبية حسب ما درجت عليه بعض اللغات الأوربية عند إضافتها للمركب (sm) أو (sme) في اللغة الفرنسية، لكن في اللغة العربية جعل العرب كلمة "استشراق" مرادفا معمولا به على نطاق واسع لتلك اللفظة في اللغات الأوروبية([4]). فأحرف الطلب (إست) تسبغ معنى على اللفظة المتجذرة من (شرق) مؤداه: كل من ادخل نفسه في أهل الشرق، وصار منهم وطلب لغتهم وآدابهم وعلومهم([5]). ومن حيث الدلالة الاصطلاحية للكلمة فهي تحيل على "تقليد ثقافي خارجي" أنتجه خارج "الغرب" لأهداف ليست هي مصلحة "الشرق" على كل حال([6]).
ونظرا لأن تسمية الشرق ارتبطت بموقع بلدانه شرق البحر الأبيض المتوسط، مما يجعل التسمية أصلا قادمة من أوروبا، كان ذلك قبل الفتوحات الإسلامية، أما بعدها فقد شمل مصر وشمال إفريقيا أيضا([7]). وقد استقر الرأي في دائرة معارف العالم على أن الشرق يطلق على الأقطار والجزر الآسيوية، وفي بعض الأحيان يُطلق على القسم الغربي من آسيا التي تسمى أيضا شرقا أدنى([8]). إلا أن النقاش الأهم لا يتصل بموقع الشرق الذي لم يستقر على حدود إلى اللحظة، بل يتصل بهويته الثقافية وموقعه من خريطة الفواعل عبر العصور، خصوصا بعد عصر النهضة الأوروبية.
يُحكى أن يهوديا من أصل تونسي كان يعكس واقعه الهوياتي بجملة: كنت في تونس أوصف بأنني يهودي واليوم في إسرائيل أوصف بأنني تونسي([9]) !. وهناك موقف آخر تعرض له المفكر الهندي أمارتيا صن حينما أحرجه شرطي بمطار طارحا عليه سؤالا بخصوص العلاقة بينه وبين رئيس جامعة كمبريدج الذي كُتب عنوان بيته على البطاقة الشخصية لأمارتيا صن! ([10])، فانصرف ذهنه إلى طرح سؤال مدى تطابق المرء مع ذاته إلى الحد الذي نعرف معه أن الشخص "هو هو" بكل سماته التي ندركه من خلالها([11]).
قصص أخرى كثيرة تحتوي مواقف شبيهة وتقود إلى طرح نفس القضايا والإشكالات([12]).
تتقاطع هذه المواقف في كونها تطرح قضايا من قبيل «الهوية، الثقافة، الحضارة، الأمة، العروبة والإسلام..." وهي مفردات تحمل في طياتها نقاشا احتدم لزمن ليس باليسير سيما بين مثقفي عصر النهضة العربية، ولا يزال قائما من الناحية الإشكالية إلى اليوم، الشيء الذي  أدى في بعض الأحيان إلى تجاور هذه العناوين ومتاخمتها لبعضها البعض، وإلى تصارعها وتنافرها في أحايين أخرى كثيرة!. فعلى مستوى النقاش الذي دار حول تحديد الأمة العربية الإسلامية انطلاقا من تراثها، يتم التمييز لدى البعض ضمن هؤلاء القراء بين "أصحاب القراءة التراثية للتراث" وهم خريجو الجامعات العتيقة، وبين "أصحاب القراءة الاستشراقوية للتراث" وهم من ساروا على نهج المستشرقين سواء انتقادا أم مرجعية([13])، الأمر الذي يطرح إشكالا طويلا عريضا يشار إليه بجدلية الحداثة والتقليد أو القديم والجديد.
وبدون الانغماس في سرد وعرض كل تلك الآراء يمكن التسليم بكون مفهوم الهوية مفهوماً مركزياً تحيط به باقي المفاهيم الأخرى وتحايثه، إذ إنّ بوتقة الهوية هي التي تصهر كل تلك المفاهيم الأخرى، فليس التاريخ والنشأة وحتى الدين والعادات هي المعايير الوحيدة لرؤية أنفسنا والجماعات التي ننتمي إليها، بحيث هناك كثير من التصنيفات التي ننتمي إليها في وقت واحد وهي جميعها ما يحدد هويتنا([14]).
ولدى حديثنا عن الهوية الثقافية والحضارية للأمة العربية الإسلامية، فنحن لا نستحضر فقط المكون الديني أو اللغوي أو العرقي لترسيم تلك الهوية وعلى نحو ميكانيكي وإلا أصبحنا نتحدث عن إقصاء مباشر وصريح لكل من لا يدخل تحت تلك العناوين ولا تشمله تلك التصنيفات، وإنما نستحضرها بما يتيح الحديث عن منظومة من القيم الحضارية التي هي حامل للعروبة والإسلام، بهذا المعنى الذي يشير إلى أمة مجتمعية عربية إسلامية تربطها منظومة قيم حضارية وليست مجرد حشود تربطها مواضيع لحظية عابرة. فالإرث الحضاري العربي الإسلامي ملك لجميع أبناء هذه الحضارة ولديهم الحق في استعادة كل النقط المضيئة ضمنه.
إن الإسلام الذي خرج بالعرب من شبه الجزيرة العربية وحولهم إلى نموذج حضاري([15]) اتجه نحو جغرافيات أخرى  بمنظومة قيم يبشر بها – يمكن التعامل معه والنظر إليه بمعنى أوسع من المعنى الذي يكتسيه في نصوصه بما هو عقيدة وشريعة كما تصر على ذلك ميكانيكا الفقه المُسيس. فالمقصد الذي نشأت من أجله هذه الحضارة لا يكمن في العبادات والتشريعات، وإنما يظهر كلاميا في التعبير الأدبي وزمنيا في السياسة ومكانيا في تخطيط المدن وأزليا في العقيدة([16]).
وما دمنا ندرس الأمر في إطار علم السياسة وليس في إطار الفلسفة، فإنه يجدر القول أن كل الأهمية التي يكتسيها طرح هذا النقاش تكمن في كون تيارات سياسية عديدة في الوقت الراهن لا تزال تنطلق من فهم للإسلام وللعروبة يناقض تماما التصور الذي تحدثنا عنه وبيناه بإيجاز، بحيث ينظر أتباع هذه التيارات إلى الإسلام بوصفه عقيدة وشريعة فقط، مع كل العقم النظري الذي يسم المشروع السياسوي الدولتي لهذه التيارات([17])، إضافة إلى العجز عن حل الإشكالات الميتافيزيقية نظرا لكونهم ينظرون بعين الريبة وربما الانتقاص إلى الفلسفة واللاهوت.
فكيف درس الاستشراق هذا الموضوع؟ وكيف رد أبناء الشرق؟

ثانياً: الاستشراق والخطاب النقدي العربي:
بصرف النظر عن التداخل الحاصل بين موضوعي الهوية والتراث، فإن قراء التراث في ردودهم على متن النص الاستشراقي انقسموا بين مصفق لبراعة هذا النص والسبق الذي أنجزه على صعيد تفكيك ونقد تراث هوياتي موبوء، وهؤلاء تعرضوا في الغالب إلى نقد واستهجان شديد، وكيلت لهم شتى التهم([18]). في حين وقف البعض الآخر من قراء الاستشراق موقفا متشنجا رافضا([19])، كما اتجه الآخرون إلى التمييز بين الحسن والقبيح في هذا الخطاب([20]).
ولأنه لا يستقيم تناول كل دارسي المتن الاستشراقي لكثرتهم، فإنه يحسن بنا أن نتناول إسهام ادوارد سعيد باعتباره مركزيا، وحامت حول نصه معظم الآراء الأخرى التي تلت صدور كتابه باستثناء بعض النصوص التي سبقته، والتي أشار إليها هو في متن نصه كما هو الحال بالنسبة لمقالتي أنور عبد الملك وعبد الله العروي، زيادة على سيل الكتب السجالية المتشنجة.
ادوارد سعيد هو مفكر وناقد أدبي أمريكي من أصل فلسطيني، ولد عام 1935 بالقدس وتوفي عام 2003، درس بالقدس والقاهرة ثم أمريكا، تخصص في الأدب الانجليزي، وفاز بجائزة جامعة هارفارد كأفضل ناقد عام 1964، وأصبح بعدها أستاذا زائرا بعدة جامعات أمريكية، ليستقر به الأمر في جامعة كولومبيا أستاذا للغة الانجليزية وآدابها([21])، بدأ اهتمامه بالموضوعات التي احتواها كتابه الاستشراق منذ أن شرع يتأمل تجاور اسمين عربي وإنجليزي ضمن اسمه، زيادة على أنه لهج اللغتين معا في وقت متقارب([22]).
وبصرف النظر عن النقاش الذي أثارته ترجمة كتابه، يبقى من الضروري الوقوف على جوهر أطروحته التي أسسها على منهج الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو في دراسة التشكيلات الخطابية، فقام بدراسة الاستشراق بوصفه معرفة اتحدت بالسلطة لتقوم بتوليد إنشاء معين. بحيث إنّه يرى مصطلح الاستشراق فعلا إبيستيميا ظل غائما ونسبيا لكونه يتضمن موقفا تنفيذيا للاستعمار الأوروبي في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، وحتى إن لم يعد كما كان فانه ظل حاضرا في الجامعات والأكاديميات الغربية كخزان للذهنيات وللأطروحات المذهبية عن الشرق والشرقي([23])، إن هذا الإنشاء الذي ارتبط بفترة الحداثة في أوروبا، سيتعمق كثيرا في مرحلة ما بعد الحداثة، بحيث سيقدم العالم الالكتروني تعزيزا للنماذج المنمطة التي ينمط بها الغرب الشرق، فقد دفع التلفاز والأفلام المعلومات إلى قوالب أكثر نمذجة للشرق، وحسب ادوارد هناك ثلاث أشياء جعلت أبسط التصورات عن الشرق مُسيسة إلى حد بعيد وهي :
1- تاريخ التحيز الشعبي ضد العرب والإسلام في الغرب.
2- الصراع بين العرب والصهيونية الإسرائيلية.
3- غياب أي فرصة للتوحد الهوياتي الغربي / العربي الإسلامي، فالشرق الأدنى موحد بسياسات القوى العظمى لأنه يضم اليهود المحبين للسلام والعرب الأشرار الإرهابيين!([24]).
 لكن حين مقابلة هذا الرأي برصد تطورات الاستشراق خطابا وحركة نجد أنه لم ينشأ في فترة قوة هذا الغرب، بل كان رد فعل لأبناء أوروبا حيال نمط جديد للحياة اكتسح عليهم الجغرافيا، ولأن أوروبا في تلك الفترة كانت تعيش ظلمات العصور الوسطى التي تسيطر عليها قيم الكنيسة، فقد كان من الطبيعي أن تكون البدايات الأولى للاستشراق ظاهرة في شكل صراع ديني بين المسيحية والإسلام، وهو أمرٌ أثّر على إنتاج المستشرقين لفترة ما قبل الأنوار الأوروبية، وأثر ولا يزال يؤثر على طبيعة سيل كتابات العرب والمسلمين حول الاستشراق ومضامينه الخطابية([25]). فهشام جعيط يرى أن البيئة الفكرية التي تهيأت فيما بين القرنين الثاني عشر والثامن عشر الميلادي انطلقت من عداء شديد "للنبوة المحمدية الكاذبة"، باعتبارها السبب في إيقاف الدفق الإنساني المسيحي([26]).
لا يمكن النظر إلى ذلك الخطاب خارج الشروط التي تشكل هو ضمنها، بحيث انه وإن بدا أداة استعمارية في القرن العشرين فلا يمكن التغاضي عن أن ميلاده وافق فترة عاشها الغرب بكاملها في العصر الوسيط وهو ينتظر ما تجود به أقاصي الشرق، فقد كان جائعا في ظل تجارة دولية يقودها الشرق منذ أوائل القرن العاشر الميلادي، بحيث كان التبضيع سياسة ينهجها الشرق، ويقوض الاحتياجات اليومية للغرب وفق ما يشاءه([27]).
وبمجيء عصر نهضة الغرب ثم الأنوار في القرن الثامن عشر، سيوظف كل مقولاته المعرفية التي أنتجها في زمن الضعف ليقدم إنتاجا يدعى لأول مرة استشراقا، سيتحول الأمر وسيصير الشرق في أعين أبناء الغرب مكاناً يرزح أبناؤه تحت وطأة الاستبداد، بل ستبقى تلك النظرة هي السائدة إلى اليوم([28])، وسيأتي على الغرب زمن يدعي فيه انه هو الثقافة، وليس ثقافة بين الثقافات، وفي مقابله ستنبت أصولية إسلامية في الشرق تدعي أنها تمتلك الحقيقة أيضاً، من دون أن يسعى كلاهما إلى تكوين سيمفونية ثقافية([29])، الأمر الذي بدا واضحا مع دعوات فوكوياما وهنتنغتون.
وفي تعقيباته على كتابه تناول ادوارد سعيد بعض الانتقادات التي وجهت إليه، وأهمها أنه لم يُدرج الاستشراق الألماني لأنه لم يجد فيه ما يدفعه إلى ذلك، كما يستغرب لانتقادات دنيس بورتر له  على أن ادوارد لا تاريخي تأسيسا على ذلك([30]). إلا أن السبب في نظر هشام جعيط أن كتاب سعيد كله مفعم بالإشارات إلى الأدب الانجليزي، ولذلك هو لم يضف شيئا يذكر لم يكن يعرف الدراسات الاستشراقية، وليس هذا اختصاصه([31]) . ربما أطروحة ادوارد التي تربط بين خطاب الاستشراق وبين قوة الغرب في مرحلة معينة هي التي جعلته يهتم كثيرا بالاستشراق الأنجلو أمريكي ويقارنه بمثيله الفرنسي([32])، وذلك كي يدافع عن أطروحته القاضية بأن الاستشراق موقف تنفيذي فوقي للاستعمار الغربي للشرق، فبطبيعة الحال حينما يقول أنه لا يرى هناك من أهمية للحديث عن استشراقات لبلدان أخرى لم تستعمر الشرق، هو يتكلم من موقع الانسجام مع أطروحته، منن دون أن يقلل منها أنها لا تنسجم مع الوقائع التي يصدح بها التاريخ!
لدى دراسة الظواهر الإنسانية كلها يتبين أنها في الغالب تتشكل بناء على أسباب موضوعية، وبتداولها وامتدادها في الزمن قدما وتوارثها قد تختفي الأسباب الأصلية لوجودها وتحل محلها أسباب أخرى تستدعي تكريس الظاهرة نفسها. لذلك فالاستشراق تولد عن رغبة جامحة لدى أبناء أوروبا القرون الوسطى في فهم أسرار الحضارة الجديدة التي قدمت إليهم، واستمر نفس الهاجس بعد أن حدثت تحولات في المجتمعات والدول في أوروبا بعد عصري النهضة والأنوار، وأصبحت معرفة الشرق ليست ردة فعل فقط، وإنما ضرورة لضمان القوة إزاءه. في حين انشغل أبناء الشرق في الرد على المستشرقين، أما بخصوص استشراقات الشعوب التي لم تعرف بلدانها وثقافتها حضورا استعماريا في الشرق، فان هناك ما هو أبعد من ذلك بحيث سنجد فيما بعد استشراقات قام بها أبناء الشرق نفسه، فالظاهرة هي نفسها ويجب النظر إليها في سياقاتها التاريخية الأوسع التي لا تقصر خطاب الاستشراق على موقع سيادي لبلدان بعينها في الشرق([33]).
أطروحة ادوارد سعيد أغفلت تبعا لذلك التطورات التي عرفها حقل الاستشراق في القرن العشرين والصيغ الأكاديمية التي انتهى إليها، ولم يتجاوز مؤلفه إشارات عامة إلى الموضوع. فالاستشراق مات نظرا لأن الغرب لم يعد هو الوحيد المسيطر في عالم اليوم متعدد الأقطاب، وأيضا نظرا لأن العلوم الاجتماعية والسياسية قد اتسعت وبدأت تدرس العالم الشرقي كمناطق جغرافية بعيدا عن أي اعتبارات تاريخية ([34]).

على سبيل الختم: بحثا عن الفرصة الضائعة:
غالى نقاد الاستشراق في نقدهم إلى الحد الذي أصبحت معهم كل دراسة علمية لمنطقة من العالم سماها البشر في أزمنة معينة تسميات معينة (شرق، شرق أوسط، شرق أدنى، شرق المتوسط...) أصبحت أي دراسة للمنطقة استشراقا ومرفوضا أو منظورا إليه بريبة ومدانا في أحسن الأحوال. وحتى ادوارد سعيد بالرغم من كونه قدم منظورا نقديا بنفَس قادم من العلوم الإنسانية المعاصرة لموضوع الاستشراق، إلا انه هو الآخر لم يتسامح مع كل من درسوا الشرق، ووضَعهم في زمرة من يمثلون ذلك الاتحاد بين المعرفة والسلطة في الغرب لإنشاء موقف تنفيذي استعماري حيال الشرق، بل وكما أغفل الاعتبارات السالفة الذكر أغفل أيضا أن بعض من هؤلاء هم ضد الغرب نفسه أو لا يعترفون في أدبياتهم بتقسيمات للعالم ضمنها شرق أو غرب.
أدان ادوارد سعيد ماركس حينما أظهر "تسامحا" مع الاستعمار الذي يفصح عن وجهه المفيد، بحيث إنّ الاستعمار تنفيذا لمصالحه يُحدث رجة في أنماط الإنتاج التي تكون موضوعا له، فيدفعها إلى الأمام كما جرى في البلدان التي جرى استعمارها عل مدار القرنين التاسع عشر والعشرين، وهكذا يصبح ماركس بتحليله لسياق موضوعي تقتضيه الضرورات التاريخية وحديثه عنها مستشرقا، وحينما يدين عذابات الشرقيين يصبح خارجا عن دائرة المستشرقين، ولذلك كان مهدي عامل يرى أن هذا المنحى في الفهم السعيدي يعكس فقط بنية الفكر الذي يتأول عبره ادوارد النص الماركسي([35])، وربما هو السبب أيضا الذي جعله يتغاضى عن مسألة تناوب القوة والضعف بين الحضارات وصلته بولادة النص الاستشراقي ومضمونه الخطابي.
إذا كان هذا هو الحال مع مفكر من حجم ادوارد سعيد، فكيف هو مع البقية ممن ينظرون بعين العقيدة أو بعين الانتماء الضيق الأفق إلى نص الاستشراق؟!. للأسف التناول "الشرقي" للمسألة في جميع الأحوال انصب على كل ما يتصل بها إلا إذا تعلق الأمر بضرورة تنقية التراث، وهو مشروع ضخم لإعادة قراءة التراث عمل فيه عشرات من المفكرين العرب والمسلمين بهدف تنقية التراث من الشوائب، لكنه سار منفصلا عن الاعتبار الواجب إقامته للنص الاستشراقي إعمالا للحد الأدنى من الموضوعية والنزاهة. ولعل كل القنابل الموقوتة التي كانت مخبأة في ثنايا التراث انفجرت مع ما أصبح يسمى بالحركات الإسلامية التي تتفق جميعها على تصور للدين وللمجتمع يروم تقويض الهوية الحضارية والثقافية للعرب والمسلمين، ورمي كل القيم العصرية التي فرضت نفسها إلى سلة المهملات، فأكبر خطر على الهوية الثقافية والحضارية لأبناء هذه المنطقة يأتي من تمزيق نسيجهم الحضاري إلى خطابات تتصارع على من له الحق كي يتحدث باسم الموروث الأزلي المقدس.
ألم يكن في انتقادات المستشرقين لتراثنا وتاريخنا كثير من الصواب؟ هذا هو السؤال الذي يتهرب كثيرون من الإجابة عنه، وتحاول القلة أن تميز بين الصواب وبين نوايا قائله، كتب نجيب العقيقي في موسوعته عن المستشرقين: (...تناولوا تراثنا بالكشف والجمع والصون والتقويم والفهرسة، ولم يقفوا منه عندها فيموت بين جدران المكتبات والمتاحف.. وإنما عمدوا إلى درسه.. مصطنعين لنشره المعاهد والمطابع والمجلات... حتى.. أصبح جزءاً من تراثنا.. فإن نحن طوينا هذا الجهد تنكرنا للأمانة العلمية في البحث عن الحقيقة الموضوعية..)([36]).
فلاشك في أن المستشرقين قد دفعوا العرب على الأقل إلى الرجوع إلى تراثهم، ولو للبحث فيه عن ردود وتسويغ ما مضى. فمتى سنقتنع فعلا أن وجود الشرق كان ضرورة لغوية جغرافية في عصر معين كما هو الحال للاتجاهات الأربع للأرض، ونتعامل معه على هذا الأساس  معطين الأولية للإنسان؟ حينئذ سيعلم العرب والمسلمون أنهم ليسوا هم وحدهم من يعنيهم أمر هذا الشرق..

(*) باحث في العلوم السياسية في جامعة محمد الخامس في الرباط.

*  هوامش البحث  *
([1]) ادوارد سعيد، الاستشراق: المعرفة، السلطة، الإنشاء، ترجمة كمال أبو ديب، مؤسسة الأبحاث العربية، ط1، 1981.
([2]) يتعلق الأمر بتصنيف للأعمال كما هي من حيث طبيعتها النصية الظاهرة.
([3]) دونالد ر. هيل، العلوم  والهندسة في الحضارة الإسلامية، ترجمة احمد فؤاد باشا، عالم المعرفة، عدد 305، ص 15.
([4]) الاستشراق، دائرة المعارف، إدارة: فؤاد افرام البستاني، المجل 12، بيروت 1977، ص1.
([5]) احمد سمايلوفيتش، فلسفة الاستشراق وأثرها في الأدب العربي المعاصر، دار الفكر العربي، القاهرة، 1998، ص 21-23.
([6]) عبدالنبي اصطيف، نحو استشراق جديد، مجلة الاجتهاد، عدد50و51، صيف2001، ص36.
([7] ) احمد سمايلوفتش ،فلسفة الاستشراق،  مرجع سابق، ص 23.
([8]) محمد فتح الله الزيادي، ظاهرة انتشار الإسلام،  المؤسسة العامة للنشر-طرابلس، (د.ط/د.ت)، ص56.
([9] ) حامد ربيع، من يحكم في تل أبيب ؟، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط1، 1975،  ص 285.
([10] ) في ذلك الوقت كان أمارتيا صن هو الذي يشغل منصب رئيس جامعة كمبريدج.
([11] ) أمارتيا صن، الهوية والعنف، ترجمة سحر توفيق، سلسلة عالم المعرفة عدد 352، ص 7-8.
([12] ) باتريك سيل، الأسد: الصراع على الشرق الأوسط، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، ط10، 2007، ص 58.
([13] ) محمد عابد الجابري، التراث ومشكل المنهج، ندوة حول المنهجية في الأدب والعلوم الإنسانية، دار توبقال للنشر، الدار  البيضاء ط    2، 1993، ص77-78.   
([14] ) أمارتيا صن، الهوية والعنف، مرجع سابق، ص 34.
([15] ) هذا لا ينفي فرضية أن العرب عرفوا أشكالا "حضارية" سابقة على الإسلام وإن لم تكن بمضمون قومي وحدوي.
([16] ) بنسالم حميش  في تعليقه على مقالة العروي التي يرد فيها على فون غرونباوم  الموجودة ضمن كتابه أزمة المثقفين العرب، يراجع:        بنسالم حميش،  الاستشراق في أفق انسداده، منشورات المجلس القومي للثقافة العربية، ط1، 1991، ص 101.
([17] ) للمزيد عن هذه التنظيمات وعن تاريخها ومشاريعها ونشاطاتها يراجع: إغناتنكو، خلفاء بلا خلافة، ترجمة يوسف إبراهيم الجهماني، دار حوران للطباعة والنشر، دمشق، الطبعة الأولى 1997.
([18] ) أمثال: زكي مبارك وطه حسين وبنت الشاطئ وعبد الرحمن بدوي وميشيل جحا ونجيب العقيقي وغيرهم كثير.
([19] ) أمثال: مالك بن نبي وفارس الشدياق ومحمد الغزالي وزاهر عواض الألمعي وغيرهم.
([20] ) حاتم الطحاوي، الفكر الاستشراقي في المجتمعات الإسلامية، الاجتهاد عدد 50 و51، صيف 2001، ص321-335.
([21] ) ادوارد سعيد ، الاستشراق : المفاهيم الغربية للشرق، ترجمة محمد عناني، رؤية للنشر والتوزيع، ط1، 2002، ص20.
([22] ) ادوارد سعيد، خارج المكان، ترجمة فواز طرابلسي، نشر دار الآداب بيروت، ط1، 2000، ص25-26.
([23] ) ادوارد سعيد، الاستشراق: السلطة، المعرفة، الإنشاء، مرجع سابق، ص37.
([24] ) نفسه ، ص59.
([25] ) يثير الانتباه في هذا الصدد تعليقات الكثيرين على بعض المستشرقين وتناولهم لبعض القضايا في التراث الإسلامي، كما هو الشأن   بالنسبة لموقف إميل درمنغم من زواج نبي المسلمين من زينب بنت جحش، يراجع: زاهر عواض الألمعي، مع المفسرين والمستشرقين في زواج النبي من زينب بنت جحش، مطبعة عيسى البابي، القاهرة،ط2، 1976، ص23.
([26] ) لطفي بن ميلاد، الاستشراق في فكر هشام جعيط، المستقبل العربي، مركز دراسات الوحدة، عدد376، 2010، ص119-120.
([27] ) زيغريد هونكه ، شمس العرب تسطع على الغرب، ترجمة فاروق بيضون وكمال دسوقي، دار الآفاق  بيروت، 1993، ص23.
([28] ) جاك جودي، الشرق في الغرب، ترجمة محمد الخولي، مركز دراسات الوحدة العربية، ط1، 2008، ص13.
([29] ) روجيه غارودي، نحو حرب دينية، ترجمة صياح الجهيم، دار عطية للنشر، بيروت، ط1، 1996، ص10.
([30]) ادوارد سعيد، تعقيبات على الاستشراق، ترجمة صبحي حديدي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط1، 1996،  ص34-34.
([31] ) لطفي بن ميلاد، الاستشراق في فكر هشام جعيط، مرجع سابق، ص123.
([32] ) ادوارد سعيد في هذا الخصوص يعتبر أن المستشرقين الفرنسيين كانوا يشعرون بالضياع في شرق لا يوجد فيه حضور سيادي فرنسا، ادوار سعيد، الاستشراق: المعرفة، السلطة، الإنشاء، مرجع سابق، ص 184.
([33] ) هذا النقاش أثير في فلسفة الجمال بنفس الصيغة حول قضية الشروط الاجتماعية للظواهر الجمالية، ومؤدى السؤال المركزي فيه كيف يمكن أن نتحدث عن مضمون اجتماعي للوحة تشكيلية أو رقصة أو معزوفة موسيقية وقد حدث انسحاب لهذه الأشكال خارج البيئة التي أنتجتها، إلى الحد الذي جعل بعضهم ينكر أي مضمون اجتماعي للفن والجماليات باعتبارها انساقا مجردة (ألوان، أصوات، حركات،..) يجمعها بالإنسان فقط أنها صلة وصل بينه وبين الطبيعة بمعناها الواسع، فاتجه أوسكار وايلد مثلا إلى التأسيس  لأطروحته = الشهيرة في: الفن لأجل الفن، للاستزادة  يراجع هربرت ماركيوز، البعد الجمالي، ترجمة جورج طرابيشي، دار الطليعة، بيروت، 1979.
([34] ) لطفي بن ميلاد، الاستشراق في فكر هشام جعيط، مرجع سابق، ص121.
([35] ) مهدي عامل، ماركس في استشراقات ادوارد سعيد، منشورات الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، (د، ط)، (د، ت)، ص19-20.
([36] ) نجيب العقيقي، المستشرقون، الطبعة الثالثة، الجزء الأول، دار المعارف، القاهرة، 1964، ص7-8.
***