البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

تاريخ القرآن

الباحث :  د. جميل قاسم
اسم المجلة :  دراسات استشراقية
العدد :  8
السنة :  السنة الثالثة - صيف 2016م / 1437هـ
تاريخ إضافة البحث :  July / 14 / 2016
عدد زيارات البحث :  3649
تحميل  ( 571.589 KB )
ما معنى أن يُعاد نشر وترجمة كتاب (تاريخ القرآن) للمستشرق الألماني تيودور نولدكه (1836 ـ 1930) الذي أصدره المؤلف عام 1860 (بحثاً) عالج فيه ـ مستعملاً منهج النقد التاريخي ـ مسألة نشوء نص القرآن الكريم وجمعه وروايته؟ وناقش ـ في هذا الإطار ـ مسألة التسلسل التاريخي للسور، واقترح ترتيباً لها يختلف عن ترتيبها بحسب زمن نزولها، كما هو معهود في الإسلام. هذا على الرغم من (القطيعات) التي مرّ فيها هذا السفر الضخم، إذ كان بحث نولدكه موضوعاً لأجيال من الباحثين، منهم تلميذه فريدرِش شفالي F.Schwally الذي قام بإعادة صياغة الجزء الأول من الكتاب عام 1909، وذلك بطلب من نولدكه الذي منعه تقدّم السن من القيام بهذه المهمة، فاكتفى الطالب بكتابة مقدمة لهذا الجزء، لكن وفاة شفالي عام 1919 حالت دون أن يعاين صدور الجزء الثاني الذي يتناول جَمْعَ القرآن، وكان قد أعدّه للطبع فأضاف أوغست فيشر بعض التصحيحات عليه وأصدره بعد وفاته. وأضاف غوتشتر سر G.Bergsraber الجزء الثالث وهو بعنوان (تاريخ نص القرآن)، لكن المنية وافته فأكمله تلميذه أوتر بريتسل O.Pretzl في مطلع العام 1937.
ثلاثة أجيال من علماء الدراسات القرآنية الألمان تعاقبوا خلال سبعة عقود لإنجاز هذا العمل، الذي لم يترجم إلى العربية إلا في عصر العولمة الثقافية ـ وما أدراك ما العولمة؟ ـ بواسطة (دار الجمل) وبالتعاون مع مؤسسة كونراد ـ أدناور في العام 2008!
(عندما يهرم الأسد تستأسد عليه الكلاب) وثمة حديث للرسول الكريم يقول ما مفاده: (ستتكالب عليكم الأمم)، وها هو ذا العصر، عصر الصعود والتقدم الغربي مقابل التأخر العربي الإسلامي يلقي بكلكله وأعبائه على أمتنا وتاريخنا وديننا الحنيف، فيعيد قراءته وكتابته من وجهة نظر الغالب في علاقة الغلبة الاستراتيجية ـ الثقافية. فماذا ستكون المقدمة والنتيجة من هكذا إعادة قراءة وكتابة لتاريخ القرآن والإسلام؟ يستعرض المترجم د. جورج تامر في مقدمته للكتاب لمحة تاريخية موجزة عن أهم معالم ما سبقه من اهتمام (علمي) بالقرآن الكريم في أوروبا، ابتداء من النصف الأول من القرن الثاني عشر، إذ قام الإنكليزي روبرت الكتوني R.Ketensis سنة 1142ــ1143 بطلب من بطرس المبجّل P.Venerabilis رئيس دير كلوني بأول ترجمة لاتينية كاملة للقرآن الكريم، رغم نواقصها وعدم دقّتها في كثير من المواضع.
بعد ذلك توالت حتى القرن الثامن عشر ترجمات عديدة للقرآن الكريم إلى اللغات الإنكليزية والإيطالية والألمانية والهولندية والفرنسية وغيرها من اللغات الأوروبية.
وكان لأغلب هذه الدراسات ـ بحسب المترجم ـ طابع اعتذاري وهجومي على السواء ـ مثلٌ على ذلك كتاب ألفه الراهب الدومنيكاني ريكولدو دامونت كروتشه R.da monte croce الذي قضى في أواخر القرن الثالث عشر شطراً من حياته مبشّراً، وقد قارن القرآن بالكتاب المقدّس معتبراً اختلافات القرآن عن الإنجيل عيوباً، ومشيراً إلى تناقضاته وعدم تسلسله من الوجهة التاريخية، وقد نقله مارتين لوثر عن اللاتينية إلى اللغة الألمانية، كان هذا في زمن هددت فيه الجيوش العثمانية وسط أوروبا ووصلت إلى مشارف فيينّا. وكان الإسلام حينها مطبوعاً في الغرب بالطابع العثماني ـ التركي حتى أنّ القرآن الكريم نفسه دُعي بالكتاب المقدّس التركي Die turkische Bibel وهو العنوان الذي تحمله الترجمة الألمانية التي قام بها دافيد فريدرش مغرلين D.F.Megerlin (هل كان يهودياً؟).
وابتداءً من القرن السادس عشر عرفت أوروبا الدراسات الاستشراقية بمعناها الواسع مع بدايات الاستشراق، وإذا كانت البدايات تقوم على الاستطلاع والتعرف والمغامرة فإنه، لاحقاً، مع بدء الاستعمار، اقترن الاهتمام بالاستشراق بأهميته السياسية، بالنسبة الى بسط الدول المستعمرة سيطرتها على الشرق واستغلال ثرواته، ولم يعد الاستشراق ـ الذي كان له بعض ـ بل الكثير ـ من الإنجازات العلمية كتحقيقات بكر Becker لمخطوطات ابن رشد، وبروكلمان وموسوعته (تاريخ الأدب العربي) إلخ ـ حُراً من الدوافع السياسية والاقتصادية المتحكمة فيه.
وقد تأثرت الدراسات الاستشراقية والإسلامية في أوروبا ـ في عصر صعود النظرية التطورية الداروينية والوضعية الكونتية ـ بسيادة المنهج الفيلولوجي (الدراسات الفقه ـ لغوية المقارنة) والمنهج التاريخوي ـ النقدي. وهذه المنهجية استعملت في دراسات الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد، بروح علمية بحت، لا تتقيّد بقدسيّة النص ـ أي نص ـ وبالروح نفسه انكب بعض علماء اللغات السامية على دراسة القرآن، محاولين استكشاف الوقائع التاريخية المرتبطة به وكيفية حدوثها وعلاقتها بنشوئه ومصيره، وبناءً على هذه النزعة العلموية لم يقيّم نولدكه وتلامذته من العلماء القرآن كتاباً منزلاً، بل نصاً (وضعه) النبي في أفضل الأحوال ـ إلهاماً ـ يستند في إدراك ماهيته ومغزاه إلى الطب وعلم النفس في ذلك الحين..
يتبنى نولدكه في الجزء الأول من الكتاب التقسيم المعهود للقرآن إلى مكي ومدني، لكنه يوزع السور المكية على فترات ثلاث، معتمداً صفات أسلوبية ومضمونية، فيصف سور الفترة المكية الأولى بأنها تتميز بقصرها، وبلغتها الشعرية التسبيحية، وورود الكثير من الأقسام (جمع قَسَم) فيها التي تهدف إلى تثبيت مضمون الرسالة وإقناع المشركين بها. أما سور الفترة المكية الثانية فيغلب عليها طابع الوعد والإنذار والقصص. أما سور الفترة الثالثة فلا تختلف من حيث الأسلوب، لكنما تتميز بشدة لهجة الوعيد والتهديد الموجّه للكافرين.
أمّا بعد الهجرة ـ في المدينة ـ فتتّصف السور بإعلانها الشرائع والتنظيمات الضرورية لوضع أسس المجتمع الجديد (الشريعة).
وإذا كان المنهج التاريخي الضروري لمعرفة أسباب وظروف النص الديني الزمانية ـ المكانية مسألة لا مندوحة عنها، فإن المنهج الفيلولوجي ـ التاريخوي حصر الظواهر كلها ـ بما فيها الظاهرة الدينية الميتافيزيقية الطابع ـ بما هو حصري وملموس ومباشر ووضعي دون تمييز ما بين ظاهرة اجتماعية، اقتصادية، سياسية، وأخرى ميتافيزيقية وجمالية وميثولوجية رمزية.
وقد وجدنا مثالات لهذا المنهج الوضعي في كتابات هيغل (حياة يسوع) وأرنست رينان (تاريخ المسيحية) وجوزيف شتراوس (جوهر المسيحية) وقد تعاطت هذه الكتابات مع المسيحية ظاهرة (تاريخية) مجردة من البُعد القدس والرمزي، وتناولت شخصية (يسوع المسيح) كأي شخصية تاريخية (عادية) تخضع لمعطيات العلوم الوضعية والإنسانية.
وقد تناول نولدكه، بدوره، شخصية الرسول محمد، بناءً على معطيات هذا المنهج الفيلولوجي ـ التاريخي النقدي فركز على الأبعاد التاريخية (اللغوية ـ المقارنة) والاجتماعية، والسياسية، في مقارنة ما بين الإسلام والمسيحية واليهودية. وتناول ظاهرة النبوة، رواية تاريخية قد لا تتفق مع معطيات النبوة والرسالة والإيمان، من خلال إقامة صلة سببية بين الحدث والنص، بغية الوصول إلى الحقيقة المجردة والمتجردة..
في مقدمته للطبعة الثانية لكتابه يتحدث نولدكه عن ناشر كتابه الذي سأله إذا شاء أن يسمي من العلماء من يعيد النظر في الكتاب الذي أنجزه قبل نصف قرن فاقترح، بعد تفكير يسير تلميذه القديم وصديقه فريدريك شفالي «بجعل الكتاب الذي أنجزته بسرعة مراعياً المستلزمات الحاضرة (بقدر الإمكان) لأن آثار الوقاحة الصبيانية ـ كما نقول ـ لن يمكن محوها بالكلية». (المقدمة) ..
وقد قام الباحث شفالي في مقدمته الثانية بتعديلات جذرية أو بإضافة مقاطع كبيرة.
ولعل هذا ما فعله بكل تأكيد. غ برغشتر ومن بعده أ. بريتسل من الجزء الثالث من الكتاب. فماذا كانت النتيجة؟
في الفصل الأول وهو بعنوان (في نبوءة محمد والوحي) يقارب نولدكه معنى النبوة وصفاتها، فيرى أن النبوة في أسمى معانيها فن إلهي، لكنه يرى أن النبوة لم تتطور إلا في (الشعب الإسرائيلي). كيف؟ يقول نولدكه إن جوهر النبي يقوم على تشبع روحه من فكرة دينية ما، تسيطر عليه فيتراءى له أنه مدفوع بقوة إلهية ليبلغ من حوله من الناس تلك الفكرة على أنها حقيقة آتية من الله. وحالما يبدأ الأنبياء بتنظيم أنفسهم تتحول النبوة إلى (مهنة). وما يميز معنى النبي بحسب نولدكه ما يرد في سفر عاموس 14:7 «لست أنا نبياً ولا أنا ابن نبي بل أنا راعٍ وجاني جميّز. فأخذني الرب من وراء الضأن وقال لي الرب: اذهب تنبأ لشعب إسرائيل» (ص3 الهامش2).
هل نظر نولدكه إلى شخصية النبي محمد بالطريقة ذاتها؟ يعالج نولدكه ظاهرة النبوة باعتبارها (ظاهرة وضعية) لفهمها فهماً (صحيحاً) بحسب رأيه.
يتعرف نولدكه ـ بهذا المعنى ـ بنوة محمد، أي بمقياس ما يأتي به النبي بأفكار ـ وإن كانت مستمدة من نبوات ورسالات أُخر، ويرى أن المصدر الصحيح لمعرفة روح محمد هو (القرآن)، هل القرآن كتاب وحي ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْـهَوَى * إنْ هُوَ إلّا وَحْيٌ يُوْحَى﴾ أم هو كتاب فكري تأملي؟ يرى نولدكه ـ جواباً ـ إن محمداً حمل طويلاً في وحدته ما تسلمه من الغرباء، وجعله يتفاعل وتفكيره، ثم أعاد صياغته بحسب فكره، حتى أجبره أخيراً الصوت الداخلي الحازم على أن يبرّر لبني قومه رغم الخطر والسخرية اللذين تعرض لهما، ليدعوهم إلى الإيمان، الأمر الذي يجلعنا نتعرف في هذا على حماس الأنبياء (ص4).
يرى نولدكه، باختصار، أنّ المصدر الرئيس للوحي الذي (نُزّل) على النبي حرفياً، بحسب إيمان المسلمين وبحسب اعتقاد القرون الوسطى هو بدون شك ما تحمله الكتابات اليهودية. وتعاليم محمد برأيه ـ في جلّها «تنطوي في أقدم السور على ما يشير بلا لبس إلى مصدرها. لهذا لا لزوم للتحليل ـ حسب الكاتب ـ لنكتشف أن أكثر قصص الأنبياء في القرآن، لا بل الكثير من التعاليم والفروض، هي ذات أصل يهودي» (ص7).
لقد تواجد اليهود ـ بحسب نولدكه ـ في أماكن عدة من شبه الجزيرة العربية وكانوا يقيمون في مناطق يثرب التي كانت على صلة وثيقة بموطن (محمد)، وكانوا يترددون أيضاً في مكة. وكان ثمة تأثير يهودي على النبي كذلك كانت المسيحية على انتشار واسع في شبه الجزيرة العربية بين القبائل المتواجدة على الحدود الفارسية ـ البيزنطية «(كلب) وطيء وتنوخ وتغلب وبكر» وفي الداخل في تميم، وفي اليمن التي كانت منذ زمن طويل تحت سيطرة الحبشة المسيحية. وينبغي لنا، إذاً، أن نأخذ بعين الاعتبار التأثير المسيحي على النبي إلى جانب التأثير اليهودي.
ويرى نولدكه أنّ أهمّ مصدر استقى منه محمد معارفه لم يكن الكتاب المقدس، بل الكتابات العقائدية والليتورجية، وفي قصص (العهد القديم) (الهاجادا). أما القصص المستقاة من (العهد الجديد)، في الإسلام، فهي أسطورية الطابع، وتشبه في بعض معالمها ما يسرد في الأناجيل المنحولة.
أمّا سورة الصف 61: 6 التي يعِدُ فيها عيسى بأن الله سيرسل من بعده رسولاً اسمه أحمد فلا أثر لها في (العهد الجديد) المقصود هو الآية: ﴿وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَٰذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ﴾ وهي الآية التي تتطابق مع ما جاء في إنجيل برنابا بهذا الصدد على لسان المسيح (سيأتي من بعدي رسول اسمه أحمد).
وما يؤكد تأثر الإسلام بالصيغة المسيحية ـ بنظر نولدكه ـ أن الكفار أطلقوا على أتباع النبي محمد لقب (الصابئة) مما يعني أنهم اعتبروهم على علاقة وثيقة ببعض الفرق المسيحية (مثل المندائيين والكسائيين والمعمدانيين).
كذلك أنّ المسلمين يعتبرون أنفسهم خلفاء الأحناف، وهؤلاء كانوا أناساً رفضوا الوثنية وفتشوا عما يرضيهم في التعاليم المسيحية واليهودية.
إنّ الكلمتين دين (فارسية) وملة (آرامية) هما من أصل أجنبي فيما تتصف كلمة (إسلام) (سورة آل عمران 3: 19) بأنها عربية أصيلة، وقد وضعها محمد لدينه ـ كما يقول المؤلف، الذي قدر له أن يهزّ العالم كله، وقد انصهر في وجدان محمد من مواد مختلفة. وما أضافه هو إلى ذلك يقل أهمية ـ بحسب نولدكه ـ عما أخذه عن الآخرين (ص19). وأعلن النبي محمد أنه يتلقى الوحي من (الروح)، (روح القدس) (عبري) بأشكال عدة مختلفة. وسمي روح القدس جبريل (جبرائيل)، ويعد كل أمر إلهي وجه إليه وحياً حتى لو لم تعد كلماته قرآناً، غير أن مقارنة نولدكه بين هذا وما ذكره السيوطي في كتاب (الإتقان) بأن ما تلقاه مسيلمة وطليحة يدعى أيضاً وحياً، ينم عن استعراض حقيقي، ليس غايته العلم، لا الديني ولا التاريخي ـ باسم النقد التاريخي ـ لا سيما مع النتيجة التي يتوصل إليها بأن محمداً كان يعاني نوعاً من الصرع، وأن هذا الوضع الجسدي والنفسي المضطرب هو الذي يفسر الأحلام والرؤى التي رفعته إلى مصاف الرؤيا والنبوءة. و(دليل) نولدكه على ذلك أن محمداً كثيراً ما قضى الليل متهجداً، وأنه كثيراً ما صام، حيث تشتد في الصيام ـ برأيه ـ القدرة على مشاهدة الرؤى، ويربط ما بين هذا التفسير وقول الرسول (ويفصم عني وقد وعيت ما قال) أو (فأعي ما قال). وهذه الحالة السيكولوجية تتطابق مع ما جاء في سورة المزمل 73: 1: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلا * نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلا ثَقِيلا﴾. وتليها سورة المدثر: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ﴾.
ولعل أشهر ما يذكر في هذا الصدد الإسراء والمعراج الذي كان مجرد حلم، برأي نولدكه، وههنا لا يكلف نولدكه نفسه عبء (تفسير الأحلام) هل الحلم ههنا سيكولوجي عادي، أم حلم ميتافيزيقي أكسترا ـ عادي extra ordinaire؟
أبعد من هذا يستشهد بقول فايل weil وهو كاتب ينسب كل الهرطقات ـ بما فيها المذكورة أعلاه ـ الى النبي محمد الذي يظن بأن محمداً تلقى الوحي من إنسان كان يسخر منه، لكون الرسول كان قد شبه جبريل بشخص دحية، وكان جميل الطلعة، وهي شكل من أشكال التجليات العديدة التي يظهر فيها الملك؟
1. الوحي في مثل صليل الجرس.
2. بواسطة ما ينفثه روح القدس في روعه.
3. جبريل في صورته الحقيقية.
4. جبريل في صورة الرسول محمد نفسه، إلخ.
ويحاول نولدكه أن يفسر قصار السور باعتقاد (البعض) أن محمداً تلقى كل آيات القرآن أثناء نوبات الصرع التي كانت تعتريه، والتي لم تدم طويلاً (ص28).
ويفسر الكاتب وحدة التنزيل (السورة) بالأصل العبري (سدرا)، أو مقطع القراءة (؟) كما يربط كلمة قرآن بالكلمة اليهودية (مقرا) ويلتبس الأمر على نولدكه من الوجهة الفيلولوجية الفقهية حول أصل معنى القرآن الذي لا يجده مطابقاً لمعنى القراءة، وإنما الاقتران والتلاوة (قرأ) بمعنى تلا أو بمعنى (نادى)، أو أدى التحية (قرأ فلاناً السلام)، ولما لا يجد في العبرية ما يشفي الغليل يجد في كلمة (قريانا) السريانية الاحتمال الجذوري، وذلك بأن تكون كلمة سريانية وضعت على وزن (فعلان) بالعربية. كل هذا كي يثبت بأن محمداً لم يأت بجديد. ولماذا لا تكون كلمة قرآن مشتقة من كلمة فرقان: ههنا أيضاً يجد المستشرق نولدكه أن ذلك غير ممكن لأن كلمة فرقان اسماً مجرداً، تفيد معنى الوحي الذي تلقاه أنبياء آخرون..
ماذا عن أسلوب القرآن؟ يختلف أسلوب القرآن ـ بحسب نولدكه ـ تبعاً لأوقات التأليف المختلفة، إذ تشي المقاطع الأولى باضطراب شديد أو بجلال هادئ، وفي أقسام أُخر نجد اللغة عادية، فضفاضة، أقرب ما تكون إلى النثر. وتتميز أسلوبية القرآن بتكلم الله مباشرةً، ويرى أنّ القرآن خطابي ـ سجعي ـ أكثر منه شعري، يعتمد التنميق الخطابي. ويورد بيتاً من الشعر منظوماً على بحر الرجز:
أنا النبي لا كــذب          أنا ابن عبد المطلب
وذلك لتأكيد أنّ الرسول لم يتلفظ إلا نادراً بأبيات نظمها آخرون، ولم يقرض الشعر، إلا لماماً. وكان الرسول محمد يستعمل كل حرية أسلوبية يسمح له بها السجع، لا بل يضيف، ويغيّر، فهو لا يلفظ الفتحتين اللتين يجب التلفظ بهما في نهاية آية (وزورا) ويخفي الكسرتين أو الكسرة، والياء في الأفعال التي تنتهي بياء أو واو ويمد الفتحة في نصب الأسماء والأفعال جاعلاً منها ألفاً كما في القافية الشعرية إلخ، ومن الواضح من هذا الاستعراض أن نولدكه يعد كلام القرآن كلاماً بشرياً ـ لا كلاماً إلهياً ـ ويعد اللعب بالكلمات الذي لم يكثر منه الشعراء العرب القدامى سمة من سمات القرآن، ويورد على ذلك أمثلة: (راغباً راهباً) (لامية الشنفرى) (إن يغبطوا يهبطوا) (الخنساء) (بين عسر ويسر)، أخزي الحياة وخزي الممات (البحتري) إلخ.
ويرى نولدكه أنّ الرواية القائلة انّ محمداً حدد لكل آية، فوراً بعد نزولها، مكانها المحدد لا تتمتع بسند تاريخي ـ حتى لو كان قد قام أحياناً ببعض الإضافات إلى سور معينة، وأبعد من ذلك لم يتحرج محمد ـ حسب المستشرق الألماني من تكرار الآيات وتعديل مواضعها في المقاطع القرآنية أو نسخها بحسب الظروف، أو زمن تأليفها أو مضمونها. لكننا (لا يجوز أن نلومه على ذلك ـ كما يزعم فايل Weil، فهل كان للنبي فعلاً أن يتوقع، أن الخلاف سينشب بعد وقت قصير من وفاته حول حرفية ما نزّل عليه، وهو الرجل غير المتعلم (كذا) الذي لم يعرف تعظيم الحرف بتاتاً (ص44) وفي هذا الموقف تناقض إدائي واضح في موقف نولدكه فهو يتحدث عن التنزيل ومن ثم ينعت الرسول بالأمية: ألم يؤت الرسول جوامع الكلم، ومن هو العالم الحقيقي، ههنا، نولدكه أم النبي العربي؟
في استعراضه لأصل أجزاء القرآن، ومحاولة استكشاف الزمن الذي نشأت فيه هذه الأجزاء، يرى نولدكه أن الهدف الكبير الوحيد الذي يتبعه محمد، في السور المكية هو دعوة الناس إلى الإيمان بالإله الواحد الحق وما لا ينفصل عن ذلك الإيمان بالقيامة والحساب في يوم الدين لكنه لا يسعى إلى إقناع عقل سامعيه بواسطة البرهان المنطقي، بل بالعرف الخطابي المؤثر على الشعور والمخيلة. هل المنطق سمة من سمات الدين أم الفلسفة؟
ويرى في الإسلام نوعاً من النظام الديني، بل محاولة من نوع اشتراكي، لمقاومة أوضاع أرضية سيئة قاهرة (ص66) وهل هذا حسنة أم بدعة ومثلبة؟
يرى نولدكه في بحثه الفيلولوجي أن سور الفترة الأولى تتميز بقوة الحماس الذي حرك النبي في السنوات الأُول، وجعله يرى الملائكة الذين أرسلهم الله إليه، فكان لابدّ لها من أن تعبّر عن نفسها في القرآن. فالله الذي يملأه يتكلم بنفسه، فيتراجع الإنسان تماماً، كما لدى أنبياء إسرائيل العظام في (العهد القديم) (...) أما الكلام فعظيم، جليل، مفعم صوراً صارخة؛ والنبرة الخطابية تحتفظ بلونها الشعري الكامل والآيات القصيرة تعكس الحركة الشغوفة بتعاليم بسيطة، هادئة، لكنها زاخرة بالقوة. والكلام بأسره محرك إيقاعياً وذو جرس عفوي جميل. ومشاعر النبي تنطق عن نفسها أحياناً بواسطة غموض المعنى، ومن العلامات الفارقة والمميزة لهذه الفترة كلمات القسم التي ترد فيها كثيراً 30 مرة مقابل مرة واحدة في السور المدنية في سورة التغابن: ﴿زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ من الأمثلة على ذلك سورة النازعات ﴿وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا * وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا * وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا * فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا * فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا * يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ * تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ * قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ * أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ * يَقُولُونَ أَئِنَّا لَـمَرْدُودُونَ فِي الْـحَافِرَةِ﴾.
أما السور المدنية، فقد تميزت ـ حسب نولدكه ـ بطابع الدعوة المنتصرة والنبي الذي كان في مكة في وضع لا يحسد عليه، لا يتبعه إلا قليل من الناس فأصبح قائداً عالمياً لكيان كبير. وهو يفسر انضواء المدينة في الدعوة بالصراع والمعارك الطاحنة بين الأوس والخزرج، واعتياد سكان يثرب سريعاً على سيطرة شخص غريب عليهم. ويستنتج نولدكه بأن الرجال الذين أتوا من المدينة إلى مكة ليفاوضوا محمداً إنما فعلوا ذلك منساقين بالدافع السياسي فقط من أجل السلام في مدينتهم. وهو التفسير المصغر لانتصار الدعوة الإسلامية في ظل الصراع البيزنطي ـ الفارسي في المرحلة السابقة على الإسلام.
وتحتوي الآيات المدنية في الغالب على تشريعات قصيرة ومخاطبات وأوامر، والتعابير والمصطلحات الجديدة تستعمل حين تقتضي المادة ذلك فقط. وهذا ما يظهر على أوضح وجه في الشرائع، ويتجنب في صياغتها كل تزيين خطابي. وتعد سورة البقرة 2 أقدم السور المدنية. فالجزء الأكبر منها نشأ في العام الثاني بعد الهجرة قبل موقعة بدر. وهي تبدأ بكلمات مشابهة للآيات المكية (ذَلِكَ الْكِتَابُ) ولكنها تنتهي بآيات تشريعية: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾.
هو ذا ملخص كتاب نولدكه فماذا عن أتباعه وتلاميذه الذي استكملوا هذا الكتاب؟
يقول أوتو بريتسل في مقدمة الجزء الثالث من الكتاب أنه بعد وفاة فريدرش شفالي العام 1919 الذي عمل على إنجاز المجلدين الأولين من هذا الكتاب أخذ غوتهلف برغشتر سر على عاتقه إنجاز المجلد الثالث، وقبل وفاته على حين غرة في العام 1926. وبعد أن قضى آخر سنوات عمره في إعداد دراسات تمهيدية لم يتمكن من مشاهدة نتائجها، أنيطت به مهمة إكمال العمل ودفع جزءاً منه إلى الطبع العام 1929. وقد تناولت أبحاثه القراءات الشاذة، المتعددة للقرآن، ومن بينها (القراءات السبع) المتعارف عليها.
ويتحدث الباحث حول نسخ أربع رسمية للقرآن كتبت بأمر الخليفة عثمان، وهي لا تلعب تقريباً أي دور في علم القرآن، ما عدا النسخة الرسمية، المدنية، التي تسمى (مصحف عثمان) وهي النسخة المتداولة عند المسلمين قاطبة. ويرى بريتسل أن هذه النسخة وظروف نشأتها تتسم بعدم الوضوح، ويعمد إلى الكشف عن أخبارها المتناقضة، وطريقة إعدادها وإخراجها إلى النور.
يرى الباحث أن الاختلافات الحقيقية في نص القرآن في المدن الأربع التي تنطلق منها الرواية حول صياغات القرآن تبين أن كل نص محلي للقرآن تمسك به أهله بإخلاص كبير (...) وقد اعتمد تناقل النص كتابة، في كل ما يتعلق بالهجاء، على الرواية الشفهية، فقراء القرآن في كل مدينة اتبعوا نصهم الرسمي، وحتى عندما لم يتبعوه في مرة من المرات فإن الوعي بالاختلاف ظل حياً. وهذا يوضح لماذا لم تظهر الروايات حول هذه الكتابات أية تأرجحات تقريباً وأنها أمينة كلياً. وربما كان أول من ثبتها تحريراً هو الكسائي (توفي عام 189هـ). وكان ثمة اختلاف بين المدينة والعراق في القراءة القرآنية، وكان ثمة نسخة للقرآن تُعد مرجعاً للقارئين الدمشقيين ويمثلهم أبو الدرداء. وثمة قراءات خمس للكوفة مقابل البصرة، دون أن يؤتى على ذكر مكة، وكان ثمة خلاف محل جدل في قراءة القرآن وتدوينه، وكانت الكلمات تتفاوت ما بين نسخة وأخرى قبل جمع القرآن في مصحف واحد موحد هو (مصحف عثمان).
مثال على ذلك:
سورة المائدة 5: 54 ـ 59 (يرتدد) المدينة، مخطوطة دمشق، و(يرتد) عند البقية.
سورة الأنعام 6: 63 (أنجينا) الكوفة، (أنجيتنا) عند البقية.
سورة الأعراف 7: (تتذكرون) مخطوطة دمشق (تذكرون) عند البقية. وهكذا دواليك!
وكانت المخطوطات الكوفية تذهب أبعد من ذلك في مجال استبدال الألف الممدودة بالألف المقصورة، وهو ما نجده في (حتا) بدل (حتى) و(أغنا) بدل (أغنى) و(مضا) بدل (مضى) إلخ. والحال هذه أثرت هذه الاختلافات قبل جمع القرآن ـ وحتى بعد جمعه ـ على تهجئة اللغة القرآنية بحسب المناطق المختلفة، و(المصاحف) المتعددة (مصحف ابن مسعود في البصرة (مصحف أُبي) في دمشق إلخ، وقد رأينا أن النص العثماني (نسبة إلى الخليفة عثمان) لم يكن موحداً تماماً، وبحكم أن غالبية النسخ متكافئة فقد كان النص يحتوي على صياغات وعلى تأرجحات في الهجاء تكاثرت عند النسخ من هذا النص. ورغم ذلك شكل النص العثماني، في نهاية المطاف وحدة مترابطة نسبياً بالمقارنة مع الصياغات المنقولة بحروف ساكنة أو مع القراءات التي تشترط وجود نص سواكن مخالف.
كان الاختلاف في صفة الرواية بين أهل الكوفة وأهل الشام يعود إلى اختلاف الظروف الخارجية للتأثير الذي مارسه كلا النصين. فكما يشير إليه التأرجح حول سنة وفاته لم يلعب أُبي بعد وفاة الرسول محمد أي دور مرموق. وسواء بسبب موته المبكر، أو لأسباب أُخر، فقد أزيح عن المسرح السياسي وانتشر نصه القرآني على الصعيد الشخصي فقط. أما ابن مسعود فكان والياً على الكوفة، وكان يملك بالتالي إمكانيةً، استطاع استغلالها بنجاح لإيجاد اعتراف رسمي بقرآنه. ويبدو أن مصير نسختي القرآن، أي نسخة ابن مسعود ونسخة أُبي كان متغايراً. فقد اختفت نسخة أُبي باكراً، وربما لم تنسخ أبداً. أو انّ عثمان ـ كما يُنسب إلى ابن أُبي واسمه محمد ـ قد صادر مصحف أُبي (حرفياً: قبضه، أي قبض عليه وصادره)... أما نُسخ نص ابن مسعود فأُخبر عنها مدة طويلة. ويروي الزمخشري أن المخطوط كان مدفوناً في عهد الحجاج بن يوسف الثقفي وقد احترق سنة 398، وكان فيه، على ما يزعم قرآن ابن مسعود وقد اعتمد عليه الشيعة في بغداد (هل هو لعب على الوتر الطائفي قديم ـ جديد ههنا أيضاً؟).
ما سرّ الحملة الشعواء (العشواء) التي يشنها كتاب نولدكه وأتباعه على (مصحف عثمان)؟ هل هي الغيرة على التسامح والتعددية في مقابل الحفاظ على الحرف والكلمة اللوغرقراطية ـ الإلهية كما يراد لنا أن نقتنع؟
وهل المنهج التاريخي وغايته التسامح والتعددية والاختلاف عملاً بالحديث المأثور (اختلاف أمتي رحمة) أم إن غايته شرذمة الوعي الإسلامي؛ ليكون لدى المسلمين ليس فقط قراءات سبع للقرآن وإنما سبعة مصاحف وأكثر. وهل الوحدة تخالف التعدد؟ وهل الائتلاف ما بين (المؤلفة قلوبهم) من المسلمين وأهل الكتاب يستبعد الاختلاف بالمعنى الذي يحبذه الإسلام ديناً ودعوة ورسالة؟
يرى نولدكه وأتباعه أنه (قد يكون عثمان حاول القضاء على نسخ نصوص القرآن المخالفة، لكن الإزالة الكاملة لكل هذه النسخ لم تتحقق آنذاك، ولم يصبح ذلك ممكناً إلا عندما تم الالتزام في التلاوة بالنص العثماني. هذا الاعتراف النظري بالنص العثماني صار ذا تأثير عملي، حين تخلى المرء عن الحرية اللامبالية في التعامل مع النص، التي كانت سائدة في القديم (كذا) (ص544ــ545). ما الهدف والغاية من تلك الحرية اللامبالية؟ هل المعرفة الأفضل والفضلى أم اللا إبالية حقاً؟!
في زمن البعثة وحياة الرسول كان النبي نفسه يبت في الأمر، وحسب المراجع الإسلامية العديدة ـ ومن بينها مسند ابن حنبل، رفض النبي التشكيل الذي قاله عبد الله بن عمر لكلمة (ضَعْف) ـ وهي تعني الوهن ـ وطلب أن يقال (ضُعف) أي بمعنى الكم المضاعف.
هل المقصود بأن الهدف من الحديث النبوي بأن القرآن جاء على سبعة أحرف، رفض البت في صياغات النص التي يناقض بعضها البعض، وأن الاتجاهين المتناقضين (نجاح وانتصار النص العثماني التوحيدي والاعتراف بألوهية صيغ النص القديمة، غير العثمانية) قد نجحا، بالتوازي والمساواة؟ وقبل الإجابة على هذا السؤال لنر ما هي الصيغ التعددية التي يدافع عنها نولدكه وأتباعه: دفاع بعض القراء على كلمة (حيي) بدلاً من (حيّ) الواردة في سورة الأنفال 8: 42 ـ 44، ويحبذون قراءة البعض لجملة (آتاني الله) مع حرف النص (آتين)، (آتانِ) سورة النمل 27: 36 وفي سورة الكهف يحبذون كلمة (إيتوني) على صيغة المتكلم 200 (آتوني) (سورة الكهف 18: 96، 95)، فأيهما أقرب إلى العقل اللغوي حيي أم حي، وآتاني أم (إيتوني) ومن هو المتمسك بالحرف جماعة المسلمين أم جماعة المستشرقين؟
وهؤلاء يقدمون الكلمة غير الواضحة (ليلف.. إلفهم) على (لإيلاف.. إيلافهم) (صفحة 552)، سورة قريش 106: 1ـ2 فأيهما أقرب إلى البديهة والعقل والبداهة؟
ما الغاية التي يبحث عنها المستشرقون الألمان؟ لقد وجبت المحافظة على صفة القرآن ككلام الله الموحى به شفوياً والذي تناقلت الأفواه معرفته حتى لو كان أغلب نص القرآن كُتب في حياة النبي وربما بتكليف منه (ص557) إذاً المقصود هو إبطال صفة الوحي وتأكيد (خلق القرآن) وياليت ذلك بالمعنى الاعتزالي في الأقل (المعاني قديمة والحروف مخلوقة ومحدثة) وإنما بمعنى الاختلاق ورفض نبوّة ورسالة النبي! ولو كانت غاية هؤلاء الأكاديميين تجديد المعنى بما يتماشى مع مبدأ تعددية المعنى، وتطور الأحكام بتطوّر الأزمان، لما اعترضوا على التقعيد والتوحيد وإنما لكانوا طالبوا إدخال مبدأ الظاهر والباطن على منهجهم الفيلولوجي العتيد، بدلاً من الانحياز إلى القراءات المتشظية والمتعددة، ولكان هذا أجدى وأقوم وأفضل.
كان المقرئ والنحوي المشهور التابع لمدرسة الكوفة اللغوية والنحوية أبو بكر (محمد بن الحسن بن يعقوب بن الحسن) ابن مقسم العطار يسمح بكل قراءة مطابقة للمعنى وصحيحة لغوياً، تتفق مع النص المشكَّل، حتى ولو لم يقرأها أحد من القدامى، فاستدعاه السلطان ليقف أمام جميع الفقهاء والقراء الذين أجمعوا على استنكار دعوته وهددوه بالعقاب.
يقدم البحاثة المستشرق مثلاً على صحة موقف النحوي أبو بكر العطار قراءته في الآية 80 في سورة يوسف 12 (نجباء) بدل (نجياً) والآية تقول: ﴿فَلَمَّا اسْتَيْئَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ الله وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْـحَاكِمِينَ﴾ (يوسف: 80) والتفسير المتعارف عليه في مصحف عثمان هو بمعنى أنه (فلما يئسوا يأساً شديداً من يوسف وإجابته إياهم، انفردوا متناجين سراً فيما بينهم) أو أنّ الجملة تحتمل معنى (لما يئسوا من نجاته) ـ بكل بساطة ـ أما ابن العطار فاختار كلمة (نجباء) بدلاً من (نجياً) ما دعا خصومه إلى وصف القراءة بأنها لا معنى لها، وتخالف التشكيل المعروف، وأنها (تصحيف). ويرى المستشرقون الألمان بأن قراءة ابن مقسم العطار هذه لم تندرج في خانة (البدعة) وإنما الارتجال (الاكتشاف الحر للإمكانات التي تتيح قراءة الحروف الساكنة) ومن الواضح أن موقف هؤلاء الأكاديميين ليس أكاديمياً تماماً، لأن الأكاديمية في اللغة لا تقر الارتجال، فالعلوم اللغوية ليست علوماً جمالية وفنية تحتمل الارتجال والأسلبة، والتشكيل الجمالي، وإنما هو علم غايته الدقة في المعنى والمبنى، لا سيما عندما نكون بإزاء نص مقدس يفتح باب الارتجال فيه حروباً أين منها حروب البسوس و(داحس والغبراء) وحروب طروادة؟
وقد اشترط ابن مقسم العطار ـ هو نفسه شرطين لقبول قراءة القرآن هما صحة اللغة وموافقة القراءة لمصحف عثمان، وهذا دليل على أن موقفه يندرج في الحقيقة في باب الاجتهاد (اذا اجتهد الفقيه وأخطأ فله أجر، وإن اجتهد وأصاب فله أجران)، ولم تكن غايته الخروج عن القرآن؟!
ويقر العلماء الألمان بأن قبول المبادئ التي نادى بها ابن مقسم في حالة الإيجاب ـ لا النفي ـ تعني استبعاد المطالب الأُخر تجاه القراءات التي يمكن قبولها، خاصة تلك التي نادى بها ابن مجاهد، ونجح في إقرارها، من وجوب أن تكون القراءة منقولة بإسناد الذين رووها عن النبي. وبعد إضافة التقليد المتوارث أصبح المذهب الكلاسيكي يضم ثلاثة معايير يشترط توافرها في القراءات، وهذه المعايير الثلاثة هي (أن ينقل عن الثقاة عن النبي، ويكون وجهه في العربية سائغاً، ويكون موافقاً لخط المصحف. ويرى أصحابنا الألمان أنه كلما اشتد الارتباط بالتقاليد تعيّن التنازل عن الحق بالنقد، وهم يرون في موقف ابن الجزري (توفي 833) المحافظ على المعايير الثلاثة موقفاً علمياً يتمتع صاحبه بضمير حي. والسؤال على موقف هؤلاء العلماء من النص القرآني موقفاً يوازي موقف ابن الجزري من حيث التناسب ما بين النقد والتقليد! لا يعني ههنا (التقليد) دعوة إلى التقليدية في مقابل الإبداع، ولكن المقام هو مقام ديني ـ وليس فلسفياً ـ والدين ينطوي على بنية متزامنة في علاقة المقدس بالدهري، والدين والدنيا، والزمان بالمكان.
ويقابل قاعدة المعايير الثلاثة الضرورية لقبول إحدى القراءات قاعدة (الغالبية) أو (اجتماع العامة على القراءة) وهذه القاعدة لا تعجب أصحاب كتاب (تاريخ القرآن) أيضاً باعتبار أن علم القراءات حتى القرن الرابع كان لا يعني بكلمة العامة ـ وأيضاً الجماعة، والكافة، والجمهور، والناس مجموع القراء الكلي، بل الأغلبية، وهكذا فإن كلمات (الإجماع) و(الاجتماع) و(الاتفاق) لا تعني أكثر من صوت الأغلبية، ويعد الإجماع حالة قصوى ليست لها أهمية. وقد تكون له، باعتباره (صوت الأغلبية) أهمية لتوحيد النص القرآني، عن طريق استخدامه لتغييب قراءات الأقليات الصغيرة تغييباً كاملاً (ص569 كذا).. والحال هذه ما هو مناط الاتفاق والاختلاف، إذاً، إن لم يكن الأغلبية، وهل الإجماع المطلق ممكن، وهل القراءات الحرة، غير المقيدة أمكن وأكثر إمكاناً؟!
يوافق نولدكه وأتباعه على الاشتراك في مصطلح (رأي) و(استصلاح) و(استحباب) واستحسان، و(قياس)، (واجتهاد) لكنهم يناوئون عملية التوحيد في قراءة القرآن، دفاعاً عن اللهجات الشاذة، بالمعنى اللغوي، الاشتقاقي، والجهوي. ولا تعني الشواذات في الحقيقة شواذات عامية، فأهل الحجاز ـ كما يورد سيبويه يقولون (مررت بهو قبل) بدلاً من (مررت به قبلاً)، (ولديهو مال) بدلاً من (لديه مال) ومثل هذا التشكيل يرد كثيراً في أجزاء القرآن الكوفية، ولكن هذا لا يعني الانحياز إلى العامة باعتبار (البدوي) أو (العامي) هو (معلم الإنسانية)! يستشهد (د. أوتو بريتسل) عن أقوال مروية عن (نافع (ت169) أنه قال: (قرأت على سبعين من التابعين، فما اجتمع عليه اثنان أخذته، وما شذ فيه واحد تركته، حتى ألّفت هذه القراءة. ولكن عندما سُئل نافع عن طريقة نطق (ذئب) و(بئر) كما ينطقها في لهجته (ذيب، بير) انحاز الى صالح النطق المنتشر، أي مع الهمزة وقال: (إن كانت العرب تهمزها فأهمزها). هل يفضل بريتسل الفصحى الشائعة أم اللهجة العامية الشاذة؟ الجواب، على ما يظهر، أنه يحبذ ـ كغيره من المستشرقين ـ العامية لما لها من خواص التجزئة اللغوية، وهي الشكل العلمي للتجزئة السياسية في الشرق الأوسط، والعالم الثالث!
ماذا عن نقد الروايات؟
يرى بريتسل أن تدريس القرآن والقراءات للحكم على صدق روايات القراء أمست بين عام 100 وعام 300 تحتاج إلى نقد عميق حتى أظهرت قراءة الحسن البصري، إمام المعتزلة (المعتزل) ـ توفي 110 ـ التي تعد أقدم القراءات التي وصلتنا، وفي الوقت ذاته، إحدى أضعفها، تعزز الاحتمال بأننا أمام شكل للنص كان يستعمله هو، أو في الأقل، كان يستعمله أنصاره المباشرون. والحقيقة أن هذه المسألة لا علاقة لها بإشكالية القراءة التقليدية والقراءة الخارجة على التقليد بقدر ما لها علاقة بالمعتزلة، والحسن البصري، صاحب نظرية المنزلة بين المنزلتين عند المعتزلة، أصحاب مذهب الاختيار، الذين لم يجتهدوا فقط في مجال (الرأي)، أو (القياس) أو (المصلحة) الفقهية، وإنما في مجال أصول الدين وعلم الكلام الإسلامي، وكانوا بالتالي مذهباً وسطياً وإصلاحياً بامتياز.
وفي مقابل التجديد السلفي الذي أحدثه ابن مجاهد (توفي 424) في قطيعته الكبيرة مع القراءة التقليدية مهد لقوننة القراءات في أنّه استبدل القراءات المفردة بدراسة القراءات المترابطة، ولم يكن دافع ابن مجاهد سلفياً، وإنما ضمان يوافق التقليد، لا للقراءات فقط، وإنما للقرآن، وأصبح (الشاذ) الغالي على قلب الاستشراق ليس ما هو شاذ عن القراءات السبعة أو العشرة، بل هو كل ما هو خارج القراءات المشهورة، وتتوج النظام الجديد بانتقال تعبير (التواتر) من مصطلح نقد التقليد ومن أصول الفقه الى علم القراءات، والمقصود بهذا التعريف والتعبير الرواية التي تعود الى مصادر متعدّدة ومختلفة.
ومن الذين حافظوا على حرية أكبر أولئك الذين لا ينتسبون إلى جماعة المقرئين وخاصة مفسر القرآن البغوي (ت 510/ 516) ومثله الزمخشري (ت 538). ما هو نظام القراءات السبع الذي ذكرناه مراراً وتكراراً؟
ثمة كتب متعدّدة تتناول القراءات هذه، التي ازدهرت في القرن الخامس الهجري، منها أبي طالب القيسي (ت 437) صاحب كتاب (التبصرة)، وهو عبارة عن كتاب مختصر للمبتدئين وللحفظ غيباً حول الروايات الأربع عشرة المشهورة، بل الأربعين رواية، ودعم إسناداتها بتفصيل واسع وبيانات مختصة بالتراجم، ومن هذه الكتب كتاب (الكشف) لأبي عمرو عثمان الداني (توفي 444). ويستخدم ابن الجزري في كتابه (الطبقات) كشاف مختصرات لوضع ما يرد فيه من أسماء القراء.
والقراء السبعة هم في الحقيقة رواة عددهم أربعة عشرة تجمعهم سبعة أنماط من أنماط الرواية والقراءة واضحة المعالم، تركز على أصول للقراءة، والنطق، والاستعاذة، والتسمية، والقراءات المختلفة للفاتحة تشمل:
1. الإدغام الكبير للحروف المذكر الساكنة المفصولة بحرف مد.
2. هاء الكناية؛ اللاحقة للغائب المفرد المذكر.
3. المد.
4. قواعد الهمز.
5. ما يسمى الإدغام الصغير (للحروف الساكنة المتماسة).
6. الإمالة (بما في ذلك ميزة الكسائي بنطق نهاية التأنيث (ـة).
7. نطق حرف الراء واللام.
8. الوقف هنا أيضاً (رَوْم وإشمام).
9. السكوت القصير (سكوت، سكت).
10. نطق لاحقة المتكلم المفرد كـ(ـيْ) أو (ـيَ).
11. معالجة الياء المكتوبة بتعريف ناقص.
مخطوطات القرآن:
تستند أبحاث كتاب (تاريخ القرآن) على تراث استشراقي، وأدوات بحث ومواد مستعملة متوفرة في البلدان الغربية والشرقية.
إن استناد وتركيز المستشرقين نولدكه وأتباعه على ما يسمى بالقراءات الشاذة، ليس مسألة نظرية، وإنما تعتمد على الاطلاع ومعاينة مخطوطات غير عثمانية متعدّدة متوافرة في المتاحف والمكتبات الغربية المختصة.
ويعتمد علم القراءات على المخطوطات القديمة للقرآن الكريم، وإن كانت تقتصر على بداية القرن الرابع الهجري.
وقد أقرت الأكاديمية البافارية في ألمانيا للعلوم في مونيخ (عاصمة ولاية بافاريا خطة لجمع أكبر قدر ممكن من مصورات مخطوطات القرآن القديمة التي وصلتنا، ومهدت بذلك لأول مرة لبحث مادة هذه المصادر المهمة.
والمجموعة الأكثر ثراء، مع ذلك، والتي ترتكز عليها أبحاث القرآن المخطوطة متوافرة في مدينة إسطنبول، في تركيا، وقد أضيفت إليها كافة المصاحف الكوفية الموجودة في مكتبات المدينة العريقة. وتوجد مجموعة أخرى في متحف الأوقاف، كانت تضم في الأصل 16 نسخة، يضاف إليها بعض موجودات مكتبات المدينة. وتضم المكتبة الوطنية في باريس مجموعة قيمة من أجزاء القرآن الكريم القديمة التي تتميز بتعدد أنواع خطوطها. كما توجد مجموعة من المخطوطات القديمة جداً في المكتبة المصرية في القاهرة وفي جامع الأزهر. وثمة نسخ قيمة من القرآن موجودة في المغرب. وتضم مكتبات غربية مختلفة مجموعات كبيرة وصغيرة (غالباً أجزاء) في المصاحف.
خلاصة:
يدفع تمسك الباحث نولدكه وتلاميذه بالكلمة موضوعاً للبحث وركيزة له في آن إلى عدم الالتفات إلى معايير أُخر، كتلك التي تلعب عادةً دوراً مهماً في التعاطي مع الكتب المقدسة. وهكذا لا يقيم نولدكه وأتباعه من العلماء القرآن كتاباً منزلاً، بل نصّاً وضعه النبي محمد نتيجة إلهام، متفاعلاً مع الأحداث والتطورات الدينية والاجتماعية والسياسية التي واجهها خلال سني بعثته.
والحق أنهم اعترفوا بنبوّة الرسول، واعتبروه نبياً حقاً، لا شك في صدق الخبرة الدينية الخاصة التي عاشها والتي يعبر عنها القرآن الكريم أحسن تعبير. وشددوا في أكثر من سياق في الكتاب، على أن النبي كان مستغرقاً تماماً في الدعوة التي آمن بأن الله اصطفاه من أجل تبليغها، وأنه كان مغموراً بالحماس الشديد من أجل هداية قومه إلى الإيمان بالله الواحد الأحد، لكنهم فسّروا النبوة والرسالة تفسيراً وضعياً، باعتبارها (ملكة إنسانية) وليس إلهية.
يتبنى نولدكه، في الجزء الأول، التقسيم المعهود للقرآن إلى مكي ومدني. لكنه يوزّع السور المكية على فترات ثلاث، معتمداً على صفات أسلوبية ومضمونية تجمع بين سور المجموعة الواحدة. فهو يصف سور الفترة المكية الأولى بأنها تتميز عن سواها بقصرها، وبلغتها الشعرية التسبيحية، وورود الكثير من الأقسام (جمع قسم) فيها، تهدف إلى تثبيت مضمون الرسالة وإقناع المشركين بها. ويميز سور الفترة المكية الثانية تحول في الأسلوب: إذ يغلب عليه طابع الوعظ والإنذار؛ وتظهر في هذه الفترة مقاطع طويلة، تسترجع أحداثاً وشخصيات من الكتاب المقدس، مبرزة إياها أمثلة على صدق الله في وعده ووعيده. أما سور الفترة الثالثة فلا تختلف كثيراً، من حيث الأسلوب، عن سور الفترة السابقة، لكنها تتميز بشدة لهجة الوعيد والتهديد الموجه ضد الكافرين. يبقى التحول الذي حدث في رسالة النبي محمد بعد الهجرة الى المدينة المنورة من دون تأثير واضح في السور التي نشأت هناك، فهذه تتصف بالتزامها المضموني بشؤون جماعة المؤمنين الناشئة، وبإعلانها الشرائع والتنظيمات لوضع أسس المجتمع الجديد.
ما يزال الترتيب الذي وضعه نولدكه للسور القرآنية معتمداً في معظم الأوساط العلمية المتخصصة في الغرب، على الرغم من قيام باحثين آخرين، مثل الإنكليزي بل والفرنسي بلاشير، بمحاولات مماثلة، لا تتصف بالقدر نفسه من الرصانة والتحصين.
أما الجزء الثاني من الكتاب، فيعالج مسألة جمع القرآن الكريم، معتمداً على الروايات المتوارثة، مقارناً بعضها ببعضها الآخر في دقة، ومستخلصاً منها النتائج. وهو يناقش مسألة الجمع الأول الذي قام به زيد بن ثابت وسواه من المصاحف التي سبقت مصحف عثمان. ثم يتناول نشوء مصحف عثمان بدراسة مفصلة للروايات، عارضاً ترتيبه، ومعالجاً البسملة وفواتح السور. كذلك، يتطرق إلى ما يقال عن تحريف بعض المواضع، ثم يورد (سورة النورين) المنحولة، مناقشاً مضمونها.
ويعالج الجزء الأخير تاريخ نص القرآن، مناقشاً أهم خصائص الرسم في مصحف عثمان، ومقارناً إياه بصيغ وقراءات غير عثمانية. ثم يتناول بالتفصيل أنظمة القراءة وأشهر القراء، ويعرض أم المصادر التي تعنى بهذا الموضوع. وينتهي الكتاب بعرض لأهم مخطوطات القرآن التي كانت معروفة لدى الباحثين آنذاك.
يتصف البحث بالجهد الدؤوب، والعميق، بحسب مقتضى المنهج النقدي التاريخي لكنه ينطوي على تجنيات كثيرة على الإسلام ونبيه.
ويحمل الكتاب، ولا سيما في جزئه الثاني، تقاطباً لا بد هنا من الإشارة إليه. فهو يصف، على عادة أهل عصره، الأبحاث العلمية التي أنتجها البحاثة الأوروبيون بأنها أبحاث (مسيحية)، مقابلاً بينها وبين الأبحاث (المحمدية) أو (الإسلامية). وهو، إذ يذكر في صراحة تفوق الأبحاث الأوروبية من ناحية المنهجية، لا يفوته في الوقت نفسه أن ينوه إلى تميز البحاثة المسلمين العرب على سواهم في مجالات أثيرة لا يستطيع أقرانُهم في الغرب أن يجاورهم فيها.
ما الغرض من الكتاب؟
الغرض من الجهد العلمي الذي يضم هذا الكتاب ونتائجه الحط من قدر القرآن الكريم والنبي محمد. إنّه، محاولة علمية لاستكشاف مضامين فيلولوجية (لغوية مقارنة) في الكتاب العزيز، بواسطة ربطها الوثيق بشخص النبي ودعوته. وهذا يقتضي معالجة نص القرآن كما وصلنا، مع طرح التساؤلات حول الظروف التاريخية التي أحاطت بنزوله وروايته عبر التاريخ لكن النتائج المستخلصة (إيديولوجية)، وأوروبية ـ مركزية معادية ومضادة للإسلام.
والبحث العلمي لا ينطلق إلا مما يستطيع العقل البشري أن يدركه وأن يقبض عليه بمفاهيم. فما لا يُفهم، يمتنع القبض عليه بالأدوات العقلية. إنّه، إذاً، موضوع إيمان أو شعور. كذلك مسألة الوحي، الذي يأتي بشراً (مصطفين) بكلام الله، تتعدى نطاق قدرة العقل البشري ـ فهي موضوع إيمان. أما العلم فيتعاطى مع ما يمكن القبض عليه بالفهم؛ لذا يحاول أن يفسر ظاهرة النبوة بطريقة قد لا تتفق ومعطيات الإيمان. وهذا ما وقع فيه المستشرقون في قراءة وكتابة تاريخ القرآن.
وقد سبق للفلاسفة المسلمين، على سبيل المثال، أن حاولوا فهم ظاهرة النبوة من خلال أنسنتها، فشرحوا نشوء النبوات بواسطة مفاهيم أرسطوطالية وأفلاطونية محدثة. هكذا يعالج واضعو هذا الكتاب القرآن الكريم من منظور علمي نصاً، يقرأ ويكتب، وقد بلغه النبي محمد إلى أتباعه المؤمنين. الكلام الإلهي يتخذ حروف لغة بشرية، وينطق به بألفاظ بشرية: فهو جامع للبعدين الإلهي والبشري معاً. وإذا كان العالم يتعامل والقرآن الكريم وكأنه كتاب بشري فقط، فهذا يشكل نوعاً من الخلط ما بين الحكم المتيافيزيقي الديني ومقتضياته والحكم العقلي الوضعي ومقتضياته الذي لا يتعاطى إلا مع ما يمكن للعقل أن يحيط به. أما كون القرآن كتاب الله الذي نزل حرفياً على النبي محمد فهو موضوع إيمان.
على الرغم من تركيزه على أهمية التوافق بين النص والحدث التاريخي، لا يخفي نولدكه اقتناعه بأن الكثير من الأحداث التي جرت في أثناء رسالة النبي محمد لم تعد ممكنة إعادة تركيبه في دقة، وبأننا لا نستطيع أن نعرف ماذا جرى في ذلك الحين فعلاً. التمسك بالتاريخ هو، في هذه الحال، تمسك منهجي، يهدف، من خلال إقامة صلة سببية بين الحدث والنص. يمكن وصف هذه المنهجية بأنها محاولة مبدئية للعودة إلى ما قبل النص، إلى البدء، حين كان القرآن، بعدُ، في وضع المنطوق به، كلاماً حياً (معاشاً) يُتلى ويُعاد ويُحفظ، قبل أن يُدوَّن ويصبح مصحفاً.
يتمسك نولدكه بالنص، كونه محسوساً ملموساً، ويعامله بصورة منطقية وضعية؛ لكنه يبدو، في الوقت نفسه، لا منطقياً متحسساً لما هو وراء النص، أي لما يسميه اليوم مفكرون مسلمون حداثيون، مثل محمد أركون ونصر حامد أبو زيد، (الخطاب) الذي تولَّد منه القرآن. البحث عن بدايات الوحي محاولة أولى للتفتيش عن عناصر هذا (الخطاب) التفاعلي الذي تم في حياة الرسول وجماعة المسلمين الأولى. وإعادة وضع النصوص في سياقها التاريخي الحي سعياً إلى استجلاء الخطاب الذي جاء بها؛ وهو خطاب مزدوج: فالوحي خطاب (عمودي) يجمع بين الموحي والموحى إليه؛ وهو، في الوقت نفسه، خطاب (أفقي) أيضاً، عندما يصير الوحي حقيقة في التاريخ، في تفاعل مع البيئة التي تمّ فيها. وهو خطاب تزامني ـ تطوري وهو الأمر الذي أهملته هذه الدراسة.
يبقى أن نذكر، أخيراً، أنه خلال إحدى دورات معرض الكتاب العربي الدولي في بيروت منذ سنوات، وبعد أن وُزعت نسخ من (تاريخ القرآن) في المعرض مجاناً، أصدرت المديرية العامة للأمن العام اللبناني، بناءً على طلب تلقّته من دار الفتوى في بيروت، قراراً يمنع تداول الكتاب، وسحبه من المكتبات، باعتباره، كما جاء في طلب المرجعية الدينية (يثير النعرات الطائفية).
كما أن أحد المواقع الإلكترونية أورد خبراً عن أن الأستاذ عمر لطفي العالم من طرابلس الغرب قد ترجم الكتاب إلى العربية، ويتوقع كاتب الخبر أن تكون ترجمة (العالم) أفضل من الترجمة المتداولة، وأدق، لعلم العالم الممتاز باللغة الألمانية، ولتمرسه بالترجمة عنها، إضافةً لمعرفته الممتازة بالعلوم الشرعية.
غير أن النتيجة ـ بالنسبة للمؤلف والمؤلفين واحدة وهي القراءة غير الموضوعية للقرآن والإسلام.
***

(*) تأليف: تيودور نولدكه، تعديل: فريدريش شفالي، ترجمة: د. جورج تامر بالتعاون مع فريق عمل الناشر: منشورات الجمل/ كولونيا ـ ألمانيا. الطبعة العربية: 2008 - اعتماداً الطبعة الرابعة لايبستغ.
(**) أستاذ الفلسفة وعلم الجمال في الجامعة اللبنانية.