البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

السيرة النبوية في كتاب (الإسلام. عقائد ونظم)

الباحث :  د. محمد العمارتي
اسم المجلة :  دراسات استشراقية
العدد :  8
السنة :  السنة الثالثة - صيف 2016م / 1437هـ
تاريخ إضافة البحث :  July / 14 / 2016
عدد زيارات البحث :  4625
تحميل  ( 581.798 KB )
1)  الاستشراق البلجيكي  وبداية الاهتمام بمجال الإسلاميات:
عناية الاستشراق البلجيكي بمجال الإسلاميات عامة، وبسيرة المصطفى  (ص) خاصة ليست وليدة العصر الحديث، وإنما هو اهتمام تمتد جذوره إلى حدود القرن السادس عشر الميلادي، حينما كانت جامعات بلجيكا ومعاهدها تدرس التراث العربي الإسلامي وقتا طويلا، فطبعت حينئذ ترجمة التوراة باللغة العربية في أنفرة Anvers  سنة 1572، وضمت المكتبة الملكية في بروكسيل مليوني مجلد، بينها الكثير من الكتب الشرقية، أو عن الشرق وعنيت بالآثار الشرقية»(1).
وتمثلت بواكير هذا الاهتمام أيضا في إحداث جامعات ومعاهد لتدريس التراث الإسلامي في تجلياته الدينية، كجامعة لوفان Louvain  سنة 1426 التي يوجد بها معهد الدراسات الشرقية، وتوجد مجموعة من المخطوطات الإسلامية في مكتبتها، ثم جامعة لييج، فجامعة بروكسيل الحرة ، مع إنشاء مجلات شرقية لهذا الغرض مثل مجلة (بيزانسيون) التي تصدر في بروكسيل، وهي شديدة العناية بأمور الإسلام، ثم مجلة (مراسلات الشرق) Correspondance d’Orient  التي يصدرها المركز الوطني لدراسة شئون العالم الإسلامي المعاصر في بروكسيل أيضا .
 لكن هذ الاهتمام العلمي بكل ما هو مرتبط بالديانة الإسلامية لم يأخذ شكل الظاهرة، ولم يتخذ لنفسه مبحثا خاصا مستقلا إلا مع منتصف القرن التاسع عشر، حيث تزايدت هذه الانشغالات بشكل لافت للإنتباه، في إطار خلق معرفة معقولة وقريبة من الآخر (المسلم)، إذ تزايدت وتيرتها صعدا مع مجيء ثلة منتخبة من العلماء الباحثين البلجيكيين  أمثال المستشرق فيكتور شوفان Victor Chauvin (1844 – 1913)  الذي تخرج من جامعة لييج، وعين سنة 1872 أستاذا لكرسي الدراسات الشرقية في جامعة لوتس، وإنتاجه الرئيسي في مجال العناية بالإسلام والسيرة النبوية هو " فهرست للمؤلفات العربية، والمتعلقة بالعرب التي نشرت في أوروبا المسيحية من 1810 إلى 1885 Bibliographie  des Ouvrages Arabes ou Relatifs aux arabes ،حيث  أراد بعمله هذا أن يكمل كتاب شنوررSchnurrer  ،المعنون: Biblioteca Arabica  (المكتبة العربية)، ويقدم لنا  شوفان في هذا الكتاب فهرسا منفصلا للدراسات التي صدرت حول سيدنا محمد (ص)، وذلك في الجزء التاسع(2).
وهكذا تناول في القسم الأول من هذا الدراسة المؤلفات الحديثة، أي المؤلفات التي صدرت حول سيدنا محمد (ص) في الفترة الممتدة من عام 1810 حتى عام 1908، وبجانب ذكره لعناوين هذه المؤلفات بكل دقة، فإنه يقدم لنا أيضا بيانا بمحتويات المؤلفات ذات الأهمية، ويشير إلى أهم ما وجه إليها من نقد .
 أما القسم الثاني [من الكتاب] فإنه يتضمن ذكر المؤلفات السابقة على عام 1810، ويتناول بالتفصيل بصفة خاصة المؤلفات البيزنطية والإسبانية، ومؤلفات القرون الوسطى .
 وفي القسم الثالث يتناول رسائل جامعية حول مسائل دينية إسلامية خاصة مثل: الوفود، بدر، بحيرى، الصرع، فاطمة، نساء محمد (ص)، شجرة النسب، المعجزات، وفاة محمد (صلعم)، مولده، نبالة نسبه، أسماء محمد، صورته الجسمية وأخلاقه ... إلخ .
 أما القسم الرابع فإنه يخصصه للأساطير الغربية عن سيدنا محمد (ص)، بينما يخصص القسم الخامس للحديث عن الرسول في الأدب. فجاء هذا الفهرست غير مستوف على الرغم من وقوعه في إثني عشر جزءا، أصدر منها أحد عشر بمطابع لييج مابين ( 1892- 1909) ، والثاني نشره بولن عام 1922 (3) .
 ثم هناك المستشرق بيرين (1862- 1935) Pirenne، الذي ألف كتابا بعنوان: " محمد وشارلمان "، طبع مرات متعددة.
 كما كانت الرحلات والتدريس في المشرق الإسلامي مظهرا آخر من مظاهر عناية الاستشراق البلجيكي بالمسألة الدينية الإسلامية، إذ نجد طائفة  منهم قساوسة وكهنة نهضوا بهذه المهمة أمثال: الأب ريكمانس (المولود سنة 1887) Ryckmans ، وهو كاهن ورجل دين تخرج من جامعة لوفان وإكليركية مالين، ومدرسة الكتاب المقدس، والمدرسة الفرنسية للآثار في القدس. فعين أستاذا للكتابات المقدسة في إكليريكية مالين مابين (1920- 1930)، ومعيدا لفقه اللغات المقدسة في جامعة لوفان سنة 1926، ثم أستاذا بها، وقام برحلات إلى المملكة العربية السعودية بحثا عن كتابات جنوب الجزيرة، وهو بالإضافة إلى ذلك عضو في مجامع وجمعيات كثيرة. من أعماله نذكر " مدخل إلى ديانة العرب "  1936،  " وشعائر واعتقادات أهل الجاهلية في شبه الجزيرة العربية  " (1942)، " وشعراء العرب قبل الإسلام " (1950)، و " كتب مقدسة "  (1950- 1951 )، وغيرها (4) .

وهناك المستشرق جريجوار  Grégoireالمولود سنة 1888 الذي تخرج في جامعة بروكسيل الحرة ،وسمي أستاذا بها، ثم عميدا لكلية الآداب بالجامعة المصرية (1926- 1930). له دراسات عديدة عنيت بالإسلام وقضاياه أهمها: الإسلام والملحمة البيزنطية (1932) ومحمد وأصحاب الطبيعة الواحدة (1930)، وآية محمولة على الإسلام في أناشيدنا (1949-1950) (5).
وبطبيعة الحال فقد شكلت مواد الإسلام وحياة الرسول سيدنا محمد (ص) مباحث خصبة ثرة من قبل هؤلاء المهتمين، وتنوعت كتاباتهم ومؤلفاتهم، فأضحى دورهم في هذا الإتجاه نشيطا وحيويا. كما تنامى الوعي لديهم بهذه المسألة الهامة، إذ ظهرت في هذا السياق أعمال جادة لكل من المستشرق آرمن آبل (1903-) الذي اشتغل أستاذا للدراسات الإسلامية في جامعة بروكسيل الحرة. ولما افتتحت الجامعة المصرية الجديدة في سنة 1925 عين مدرسا للغتين اللاتينية واليونانية في كلية الآداب. واستمر في هذا العمل حتى سنة 1928. وحينما عاد إلى بلجيكا بدأ في سنة 1929 أول دروسه في اللغة العربية بمدرسة الدراسات العليا حتى وفاته، ولم يقتصر على تدريس اللغة العربية فقط، بل كان إلى جانب ذلك  يلقي دروسا ومحاضرات في العقيدة الإسلامية، وفي المجادلات بين المسلمين والنصارى(6).
من بين أعماله نذكر " مباحث عن العقيدة والشرع الإسلامي وتاريخ الجدل الإسلامي المسيحي في العصر الوسيط (1949) ،و" ذو القرنين نبي العالمية "، صدرت ضمن "حوليات معهد فلسفة وتاريخ الشرق "سنة 1951 ،" الطابع الاجتماعي لأصل تكريم محمد في الإسلام " سنة 1952، ثم  " التبدلات السياسية في أدب الآخرة في الإسلام " سنة 1954 .
 كذلك نجد مستشرقين بلجيكيين آخرين ممن اهتم بالإسلام وبرسوله الكريم(ص) أمثال كابار وموريس فولف وغيرهم. وبطبيعة الحال المستشرق الأب هنري لامنس الذي هو مدار هذه الورقة ومحورها. 
 لقد استأثر الإسلام عامة وحياة الرسول (ص) خاصة باهتمام هؤلاء المستشرقين، فأولوهما عناية خاصة، وحاولوا كلّ من جهته وبجهود كبرى تطوير حقل الدراسات الدينية المتصلة بالإسلام، وابتكار أساليب وطرق منهجية جديدة لمقاربة هذه المباحث، وطرح أفكار وتصورات كانت من نتائجها بناء نسق من الرؤى والمواقف والتصورات بإزاء الإسلام ورسوله الكريم  (ص).

 ولأجل فهم أعمق لتصورات الأب هنري لامنس، ورؤاه  تجاه الرسول (ص) سنركز عنايتنا في هذه الورقة على كتابه المعنون " الإسلام. عقائد ونظم " إن شاء الله تعالى .


 2) فمن هو الأب هنري  لامنس ؟
 الأب هنري لامنس مستشرق بلجيكي المولد، فرنسي الجنسية، لبناني الإقامة، راهب يسوعي، شديد التعصب ضد الإسلام، ولد في مدينة خنت Gent  ببلجيكا في أول يوليو من سنة 1862، جاء إلى بيروت في صباه، وتعلم في الكلية اليسوعية ببيروت، وبدأ حياة الرهبنة في سنة 1878، فأمضى المرحلة الأولى من حياته في دير لليسوعيين في قرية غزير (في جبل لبنان) طوال عامين، ثم قضى خمسة أعوام في دراسة الخطابة واللغات (7) .
 كان من أوائل خريجي جامعة القديس يوسف في بيروت حيث حصّل اللغة العربية ،ثم أصبح أستاذ البيان فيها. كان كتاب " فرائد اللغة في الفروق " أول نتاج شهد له فيه العلماء بسعة الاطلاع ودقة الملاحظة وقوة الاجتهاد. ثم تنقل شرقا وغربا ما بين سنوات (1891- 1897)، فدّرس اللاهوت في إنجلترا، وعلّم في لوفان ورومة، حتى استقر في جامعة القديس يوسف، وعهد إليه بالدراسات الشرقية فعكف عليها (8) .أي حينما عاد إلى بيروت سنة 1897 عيّن معلما للتاريخ والجغرافية في كلية اليسوعيين، ولما أُسس " معهد الدروس الشرقية " ضمن كلية اليسوعيين في سنة 1907 صار أستاذا للتاريخ الإسلامي .
 وعندما توفي الأب لويس شيخو في 1927 خلفه لامنس على إدارة مجلة " المشرق "، وهي مجلة فصلية تصدر عن اليسوعيين في بيروت، كما تولى إدارة مجلة دينية شعبية تبشيرية أخرى تدعى:

" البشير ".  فكان يكتب في هاتين المجلتين مقالات كثيرة، يكتبها بالفرنسية، ثم يتولى غيره ترجمتها إلى اللغة العربية، فتنشر باللغة العربية.
 توفي الأب لامنس في 23 أبريل سنة 1937. وقد بلغت مصنفاته، أي مجموع ماألف مابين كتاب ومقال إلى 185 مكتوبة باللغة الفرنسية و127 مكتوبة باللغة العربية (9) .
 تدور أعماله حول مواضيع شتى ومتنوعة، منها ما يتعلق بتاريخ الشرق الأدنى (الشام)، وتاريخ نصارى الشرق، وفقه اللغة واللغات والآداب العربية، وبين ما يتعلق بالعقائد والتصوف والنظم والعادات الإسلامية، وتاريخ الإسلام والإسلاميات. وهي كثيرة ومتنوعة ـ كما قلنا ـ لكن سنقتصر على ما له صلة وارتباط بموضوع دراستنا هذه.

 3)  الرسول (ص) في مؤلفات لامنس:
 الواقع أنه نادرا ما نجد مستشرقا تناول حياة الرسول (ص) وشخصيته بهذا الكم الهائل من الدراسات والمقالات والمؤلفات مثل الأب  هنري لامنس، كما أنه نادرا ما نرى مستشرقا تحامل على الرسول (ص) تحاملا عدائيا فظا مثلما فعله لامنس وانتهجه سلوكا وتصورا وموقفا،  فهو كما يذكر الدكتور عبد الرحمن بدوي «يفتقر افتقارا تاما إلى النزاهة في البحث والأمانة في نقل النصوص وفهمها، ويعد نموذجا سيئا جدا للباحثين في الإسلام من بين المستشرقين»(10).
حقيقة ثابتة لابد من إقرارها هنا وهي أن قراءة لامنس للسيرة النبوية عبر سلسلة من الدراسات والمؤلفات قد تمت في ضوء موجهات دينية مسيحية عدائية، وفي سياق قناعات غذتها الكنيسة وزكتها وباركتها، ودعمتها بكل ما أوتيت من أدوات وإرادات وإمكانيات مادية ومعنوية (طبع كتبه بالمطبعة الكاثوليكية ...). وهي عملية تمت كذلك ضمن خصوصيات لاهوتية يحكمها قانون الصراع، وليس ثقافة الحوار والتسامح الدينيين. ففي هذه البنية الفكرية الراكدة والآسنة يمكن إدراج مؤلفات هنري لامنس ودراساته المتصلة بالسيرة خاصة وبالإسلام عامة .
 وهكذا وفي إطار سعيه لمحاولة صياغة صورة مقبولة وموضوعية في نظره عن حياة الرسول (ص) سيعمد إلى نشر سلسلة متتابعة من الدراسات الأولية المبكرة في هذا المجال.
يقول في مقدمة كتابه: " مهد الإسلام " «إن منهجنا سيكون إذن بحثا أحاديا (يتعلق بموضوع واحد) أكثر من ترجمة للسيرة النبوية، إن جميع ما ورد هنا – لو شاهدنا نهايته – سوف يشكل ترجمة جديدة لحياة محمد» (11) .

 ولعل أول عمل له عن الرسول (ص) بشكل مستقل كان هو "القرآن والحديث، كيف ألفت حياة محمد " ؟
Qoran  et Tradition ; comment fut composée  la vie  de  Mahomet.
وهي مقالة ظهرت في: (بحوث في علوم الدين، باريس 1910 ).ثم نشر بعدها دراستين سنة 1911، الأولى بعنوان " هل كان محمد أمينا ؟ " Mahomet fut- il sincère ?، ضمن أعداد( بحوث في علوم الدين)، ج2، باريس، حيث ادعى فيها بأن الرسول (ص) كان رجلا غير أمين، قليل الشجاعة، أكولاً ونؤماًle Grand dormeur، وذكر في دراسته هذه أيضا بأنه أسلم نفسه للتمتع بملذات الحياة وأنه كان مصابا بالصرع. والثانية بعنوان: " عصر محمد وتأريخ السيرة " في (المجلة الآسيوية)  ع11 .

ثم أعقب ذلك بأعمال في الموضوع نذكر منها:
 - " فاطمة وبنات محمد، تعليقات نقدية لدراسة السيرة "، روما سنة 1912 .
 Fâtima  et les filles de Mahomet, notes critiques pour l’étude  de  la Sira.
" مهد الإسلام، الجزيرة العربية الغربية عشية الهجرة،( الجزء الأول: المناخ والبدو)، روما سنة 1914 .
 Le berceau de l’Islam, l’Arabie  occidentale  à  la veille de l’Hégire. Ier volume, Le climat, les Bédouins, Roma, 1914, XXIII-371 p.
" يهود مكة " نشر في (مباحث العلوم الدينية) سنة 1918. 
 " مدينة الطائف العربية عشية الهجرة «بيروت سنة 1922.
La cité arabe de Ṭāif  à  la veille de l’Hégire, Beyrouth, Imprimerie catholique, ("Mélanges de l’Université Saint-Joseph, tome VIII, fasc. 4"), 1922.

 - «مكة عشية الهجرة " نشر المطبعة الكاثوليكية، بيروت 1924.
  -  " غرب الجزيرة العربية قبل الهجرة "  نشر المطبعة الكاثوليكية، بيروت سنة 1928. وهو مجموع من ست دراسات عن اليهود والنصارى قبيل الهجرة النبوية ،وعن ديانات العرب قبل الإسلام،  يقع في ص344.
- " خصائص محمد بحسب القرآن "، نشر في (مباحث العلوم الدينية)  سنة 1930 .
- " الإسلام: عقائد ونظم " . نشر المطبعة الكاثوليكية، بيروت  سنة 1926 .
L’Islam. Croyances  et  Institutions .
 وله كتاب آخر عن حياة الرسول (ص) لم توافق دوائر الفاتيكان على نشره خشية أن يِؤدي إلى احتجاج الأمم الإسلامية لما فيه من طعن وتهجم على الرسول(ص) والإسلام . 
 وتأسيسا عليه فإن هذه الأعمال المتعددة لم تكن إلا صورة للعداء والتعصب، وقد بلغ أعلى ذروته مع أول دراسة له في الموضوع، وهي كما قلنا " القرآن والحديث، كيف ألفت حياة محمد ؟ " سنة 1910.

 ومما يؤسف له حقا أن هذا الطابع يكاد يكون هو السائد في أعماله ودراساته، ومما يزيد من استغراب المتتبع لمشروعه أن هذا الموقف ظل قائما طيلة مراحل حياته، دون تراجع أو تراخ .
كان يبالغ في الإساءة إلى الرسول (ص) والتعصب ضد الإسلام حتى أعلن المنصفون شكهم في أمانته العلمية، وقالوا: إنه لا ينسى عواطفه فيما يكتب عن النبي والإسلام، كما اتهم لامنس في جميع مؤلفاته رواة السيرة النبوية بأنهم مخترعون على الرغم من كونه يعتمد على رواياتهم إذا وجد على سبيل المثال في أية رواية مدخلا للطعن في الإسلام. وقد عرف بتهكمه على النصوص العربية، كما وصف بإرهاقه للنصوص وتحميلها أكثر مما تحتمل .
 أخذ عن المستشرقين الأوربيين أمثال: جولدزيهر، ونولدكه، والأمير ليون كيتاني الإيطالي، وفلهاوزن. وتحيز للأمويين في خلافهم مع العباسيين، وكان مصدر إعجابه هو اعتقاده أن دولتهم في تقديره لا دينية، ولأنهم أقاموا ملكهم بالشام وتأثروا بمدنيته .

 4)  وصف كتاب " الإسلام، عقائد ونظم " وموقعه ضمن مشروع لامنس العلمي :
 صدر هذا الكتاب في طبعته الأولى سنة 1926، عن المطبعة الكاثوليكية ببيروت. ثم أعيد طبعه مرات متعددة على مدى نصف قرن، وأقبل الناس على قراءته إقبالا كبيراً وشديداً، إذ أُعيد طبعه حتى بعد وفاة مؤلفه سنة 1940 و 1943 ...، وترجم إلى اللغة الإيطالية من قبل ريفجيرو روجييري،  بمدينة باري سنة 1929. ثم ترجمه  إلى اللغة الإنجليزية السير إدوارد دينيسون روس Sir  Edward  Dinision  Ross بلندن من نفس السنة 1929، وغيرها من اللغات الأوروبية الأُخر. فظلت هذه الترجمات تمارس تأثيرها في أوروبا حتى بعد وفاة مؤلفه الأب هنري لامنس سنة 1937 .
 يضم الكتاب بين دفتيه 317 صفحة من حجم القطع المتوسط في طبعته الثالثة سنة 1943(**)، ويقع في ثمانية فصول أساسية بعد مقدمتين: الأولى للمؤلف أثناء إصداره للطبعة الأولى، والثانية بقلم زميله الشدياق بتاريخ 13 دجمبر 1940، وهي الطبعة الثانية للكتاب، مع خاتمة وفهرس للمصادر والمراجع المعتمدة في الكتاب ثم أخيرا فهرس للآيات القرآنية الكريمة .
 في الفصل الأول (ص5 ــ  ص30) الذي جعل له عنوانا (مهد الإسلام)، يتناول فيه لامنس الموقع الجغرافي لشبه الجزيرة العربية وأوضاعها الاقتصادية، والمناخية، مع ذكر البنيات السكانية والاجتماعية والإثنية والعقائدية الدينية (عبادة الأصنام / اليهودية والمسيحية ...، وكل ما يتعلق بمظاهر سكانها، وأساليب عيشهم ،والعلاقات التي تربط  بين هذه الشرائح البشرية (الطبائع / الخشونة / الفوضى وغياب السلطة الرسمية ...) .

 في الفصل الثاني (ص32 – ص47) بعنوان: (محمد مؤسس الإسلام) .
 يقدم فيه عرضا لحياة الرسول الكريم سيدنا محمد، ولمراحل ميلاده ونشأته، ويوجز ذلك في محطتين أساسيتين هما:  أولا - مرحلة مكة: يتحدث فيها لامنس عن أسرة الرسول الكريم(ص) وعن نسبه ويتمه وتربيته وتنشئته الأولى، وزواجه بسيدتنا خديجة رضي الله عنها، ومرحلة التنسك والبحث عن الحلول الدينية التي كانت تؤرقه  ثم الهجرة من مكة إلى المدينة. وثانيا - مرحلة المدينة وتتمثل في انتقال الإسلام من الدعوة إلى الدولة ،وتأسيس نظام الأمة الإسلامية، إذ يلقي لامنس الضوء بشكل مختصر جدا عن مسألة تنظيم المجتمع الإسلامي بالمدينة وعلاقات الرسول (ص) بسكانها من المهاجرين والأنصار وباقي الإثنيات وأصحاب الديانات السماوية الأُخر كاليهودية والمسيحية...، ثم ينتقل لامنس بالحديث إلى الغزوات (بدر، أحد، غزوة الخندق، ومؤتة) التي خاضها الرسول الكريم والمسلمين ضد دعاة الشرك، وعبدة الأصنام  لإعلاء كلمة الله تعالى .
 الفصل الثالث (ص 48 – ص 84) بعنوان: " القرآن، الكتاب المقدس في الإسلام "
 يعرض فيه أهمية القرآن باعتباره نصا دينيا مقدسا في حياة المسلمين من جوانب متعددة، منها العقائدية والإيمانية والتنظيمية والسلوكية، ثم انتقل بعدها إلى الحديث عن مسألة تقسيم القرآن إلى سور مكية وأُخر مدنية. وأبرز في هذا الفصل سيرة الأنبياء والقديسين باقتضاب شديد جدا، مشيرا إلى موقف القرآن من الأديان السماوية الأُخر كاليهودية والمسيحية، ومسألة الإسراء والمعراج. وفي الشق الثاني من هذا الفصل تحدث عن أركان الإسلام الخمسة.

 الفصل الرابع (ص87 ـ ص102) بعنوان: "السنة أو الحديث في الإسلام ".
ويتوجه فيه لامنس بالحديث عن المصدر الثاني في التشريع الإسلامي بعد القرآن الكريم،
 الفصل الخامس (ص 108 – ص 145) بعنوان: " القضاء والقانون الإسلامي".
 الفصل السادس (ص147 – ص 182) بعنوان: "الزهد والتصوف في الإسلام" .
 الفصل السابع (ص 183 – ص 230) بعنوان: "الملل والنحل في الإسلام".
 الفصل الثامن (ص 232 – ص 284) بعنوان: "الإصلاحيون والمجددون".
وهو في هذه الفصول الأربعة الأخيرة لا يعدو أن يكون مجرد ناقل لأفكار وآراء من سبقه من المستشرقين المهتمين بهذا المبحث.
 وبطبيعة الحال لا يمكننا الإلمام أو الإحاطة بجميع محتويات الكتاب ومواده ومحاوره المتعددة، والمتنوعة، فهذا عمل يخرج عن حدود هذه الدراسة ونطاقها، ويبتعد عما رسمناه سلفا من أهداف ومرام متعلقة بمواد السيرة النبوية ومحتوياتها في هذا الكتاب، وموقف صاحبه  منها  أيضاً.

 إن أولى الخطوات المنهجية التي ينبغي القيام بها لبناء معرفة نقدية بهذا الكتاب تبدأ بالضرورة بقراءة فاحصة له في ضوء مشروع هنري لامنس ككل، في دراسته للسيرة. إذ لا يمكننا فعل ذلك خارج التصورات والمواقف والرؤى العامة التي كونها وبلورها عن السيرة في مؤلفاته ودراساته الأُخر عامة. فهذه الدراسات أو الكتب السابقة قد تضيء لنا هذه الخلفيات التي درج هذا الكتاب( الإسلام. عقائد ونظم) على اختزالها، بمعنى أن الحديث عن هذا الكتاب يقتضي تتبع كتابات لامنس وتحليلها والتدليل عليها، وهو ما يحتاج منا إلى أن نعود إليها كل مرة، لنسجل بعض الملاحظات المنهجية والمعرفية والعلمية على دراساته مشروعاً علمياً، ثم نحاول أن نشير إلى المرجعيات والمصادر التي استرفد منها مواد دراساته  وتصوراته. إن الباحث في هذا الكتاب مدعو كل مرة إلى الرجوع الدائب إلى مجمل ما ألفه الرجل في هذا المجال .

 والكتاب بالإضافة إلى ذلك يتسم بطابعه المدرسي التعليمي، إذ جاء سطحيا، ومختصرا جدا، وهو من الكتب الشعبية كما أراد له صاحبه أن يكون، إذ لا يفي بالغرض العلمي والأكاديمي في مقاربة مثل هذه المواضيع الشائكة التي طرحها مؤلفه، مثل بسط الأفكار وتتبع تسلسلها العلمي والتطوري التاريخي مع الإشارة القوية إلى المصادر والمظان التي استمد منها مادة دراسته. كما يفتقد لأهم شروط ومواصفات الكتابة العلمية، ويحتاج إلى تصور متكامل للموضوع الذي يعالجه. فهو يقينا خلاصة تركيبية  لمجمل ما عرضه هنري لامنس في مختلف كتبه الأُخر التي اهتمت بالسيرة النبوية وقضاياها. يقول عبدالرحمن بدوي عن هذا الكتاب في "موسوعة المستشرقين": «..... وعلى كل حال فإنه قصد منه أن يكون كتابا شعبيا، ومتنا بسيطا يستعرض تطور العقائد والنظم الإسلامية من البداية حتى العصر الحالي. وهو عرض سطحي جدا، وليست له أية قيمة علمية ولا حتى دراسة مبسطة ابتدائية، لأنه مزجه بوجهات نظره المليئة بكراهيته للإسلام في غل منقطع النظير» (12) .

 إن الطابع العام لهذا الكتاب متنوع، ويستطيع القارئ من خلال استعراض فصوله المتعددة أن يلمس بوضوح مقدار التداخل بين محاوره و تشعبها فقد شغلت قضايا الدين  وعلوم القرآن والحديث والسنة... حيزا متميزا منه.
 كما أن الكتاب امتداد لسلسلة كتبه ودراساته التي ألفها عن الإسلام ونبيه عموما، ولا يختلف عنها في قراءته للموضوع  من كون أنه ينطلق مدفوعا بروح تنصيرية تدور في فلك الكنيسة الكاثوليكية، حيث يبدو في هذا الكتاب أنه يسير في نفس التوجه العدائي في تشويه الإسلام والرسول (ص)، وتاريخيا جاء في مرحلة متأخرة من مراحل مشروعه التأليفي، فلا غرو إذا نحن قلنا إن هذا الكتاب يختزل كل المفاتيح التي تساعدنا على فهم قراءة لامنس للسيرة، فهو بقدر ما يحدد وجهة نظره وتصوراته إزاء الموضوع، بقدر ما يضع بين يدي القارئ كل آليات فهم خطابه حول الرسول (ص).

وقد تتيح لنا القراءة الأولى لهذا الكتاب إدراك درجة التشابه بين ما ورد فيه من مواقف وتصورات، وبين ما تحمله كتبه الأُخر السابقة من تطابق فيما بينها جميعا، ثم خاصية الامتدادية في اختيار مواضيع كتبه، مما تتيح لنا هذه القراءة إمكانية إعادة إنتاج الأسئلة ذاتها حول أعمال لامنس عامة، ودورها، وحدود اشتغالها وإنجازاتها التي حققتها .
 وهكذا تكشف متابعة أفكاره ومواقفه في هذا الكتاب عن قدرة شيطانية ماكرة وعجيبة على  مواصلة التمويه، وقلب الحقائق وممارسة الزيف والتشكيك في حق رسول الرحمة سيدنا محمد (ص)، ودس السموم باسم الموضوعية العلمية، رغم ما يعلن عنه من صدق النوايا في مقدمة الكتاب وأثناء تناوله للموضوع. فقد أعلن في مقدمة هذا الكتاب بأنه:  «كتاب حسن النية، هذا هو ما سيكون عليه العمل بدون نقاش أو مجادلة، عرض موضوعي، كما هو مثبت في عنوانه (عقائد ونظم الإسلام)، وكدليل للمعرفة أيضا، إنه عمل ذو طابع شعبي مبسط، وعلماء الإسلام والمستشرقون سيدركون ذلك ...» (13) .

 لكنه لم يذكر بأنه بدافع الكراهية والمكر والخبث «قد دس فيه كل سمومه التي سبق أن عرضها تفاريق في مؤلفاته التي أتينا على ذكرها ، وأنه عرض موضوعي تماما  Exposé tout objectif، وهذا أيضا غير صحيح أبدا» (14) .
 فهذه المقدمة قصيرة جدا، لا تعلن عن منهج محدد، وواضح، فهي ملغومة، تضمر في ثناياها وعبر سطورها عكس ما تعلن، فالقارئ أو الدارس لهذه  المقدمة سيعتقد بأن الأب لامنس قد تخلى عن أفكاره العدائية التي تبناها في أعماله السابقة، وسيكون نزيها وموضوعيا هذه المرة، بعد تلك الانتقادات الكثيرة التي وجهت إليه من رفقائه المستشرقين على مواقفه العدائية التي عرف بها. لكننا للأسف نلاحظ أنه ظل متشبتا بتلك العدوانية التي لا تخدم الحقيقة العلمية في شيء.فهذه الرؤية هي التي تسود أعماله ودراساته عن الرسول (ص) بشكل خاص، وهي رؤية على حد تعبير الأستاذ هشام جعيّط  تنطلق من عداء واسع للنبي (ص) الذي بنبوته الكاذبة قد أوقف تطور الإنسانية باتجاه المسيحية حسب المزاعم النصرانية  (15) .

5) الرسول (ص) في كتاب " الإسلام، عقائد ونظم ":
 بهذه الصفة يعلن الكاتب عن قصد شريف ونزيه من تأليفه، ويستبطن أهدافا معينة  بعيدة عن النزاهة والشرف العلميين في تحليله. فمن جملة ذلك أنه حاول تفسير بواعث وملابسات البعثة النبوية تفسيرا ماديا من خلال تركيزه على الموقع الجغرافي والاقتصادي والإثني للحجاز عامة، ولمكة المكرمة والمدينة المنورة خاصة، وغير ذلك ليثبت بأن الدعوة المحمدية قد قامت لأسباب اقتصادية وجغرافية واجتماعية بالدرجة الأولى، فهو بهذه الصفة يفرغ السيرة النبوية من تفاعلها  الديني العقائدي، ومن عنصر الوحي الإلهي فيها، ومن واقعها الإسلامي الذي أخذ يتشكل يوما بعد يوم في حياة شبه الجزيرة العربية، وبعدما أخذ يستقطب أتباعا جددا بفضل سمو تعاليمه .
 ففي الفصل الأول من الكتاب الذي جعل له عنوانا " مهد الإسلام "  يقدم لنا هنري لامنس نظرة تاريخية عن مختلف الجوانب التاريخية والجغرافية والاقتصادية لمكة المكرمة موطن الإسلام الأول - كما ذكرنا آنفا في عجالة-  مبرزا الأوضاع الدينية  والإثنية  وجوانب عديدة من الحياة العامة عن موطن الإسلام مكة ما قبل البعثة النبوية، باعتبارها كانت قبلة العرب، لأنها تضم الرموز القدسية لهم، وبحكم موقعها التجاري الهام، الذي بفضله سرعان ما تطورت وأضحت الحاضرة العربية الأولى في شبه الجزيرة العربية  وقد ألح لامنس كثيرا على دراسة البيئة التي نشأ فيها الإسلام والتركيز عليها، وعلى الملابسات والظروف التي دعت إلى ظهور الرسول (ص) ،  وهذه المعلومات مأخوذة من كتبه السابقة، لاسيما " مهد الإسلام "،  "فاطمة وبنات محمد "، " مدينة الطائف عشية الهجرة  "،  "مكة عشية الهجرة "، حيث ذهب إلى أن الظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية أثناء ميلاد الرسول (ص) كانت سيئة، فلم تكن شبه الجزيرة العربية في أحسن أوقاتها وأحوالها، وفي ذلك العصر بالتحديد كانت جميع الأطراف الخصبة  والمزهرة  واقعة عمليا تحت  سيطرة القوى الأجنبية البيزنطيين، الفارسيين، الأحباش الذين كانوا يدفعون القبائل العربية أبعد في اتجاه صحاريهم، ولم يكن في وسع هؤلاء العرب الاتصال المباشر وعن قرب مع حضارة هؤلاء الناس الأكثر تطورا بدون تأثير .
 كل ذلك  ليبرهن على أن الإسلام ونبيه قد تأثرا بهذه البيئة، فكانا نتاجا طبيعيا وحتميا لهذه التحولات، بل إن الأب لامنس أفرد دراسات مستفيضة لهذا  المبحث منها " مهد الإسلام "،  "مدينة الطائف عشية الهجرة "، " ومكة عشية الهجرة "، وغيرها من الأعمال ليثبت هذه النظرية  .
 لقد حاول لامنس تفسير السيرة النبوية تفسيرا ماديا، وليس دينيا  لاهوتيا  من خلال تركيزه على الموقع الجغرافي لمكة وتجارتها، وغير ذلك، ليثبت أن الدعوة المحمدية  قامت لأسباب اقتصادية بالدرجة الأولى، وهو في كل ذلك يترسم خطا أساتذته أمثال المستشرق الإيطالي الأمير ليون  كيتاني، وفلهاوزن.

 ولكن لماذا هذا التركيز المبالغ فيه على هذه الجوانب التاريخية والجغرافية والاقتصادية ؟
الجواب هو أن لامنس حاول في هذا الفصل تطبيق قواعد الفكر المادي على حدث النبوة، والرسالة النبوية، وجعلها من نوع الصراع الاجتماعي القائم بين الفقراء والأغنياء الذي يفرز مسارا جديدا كان هو حدث النبوة الإسلامية بالنسبة إلى شبه الجزيرة العربية، وبالتالي فادعاء الوحي والاتصال بالملك والإقرار بقوة غيبية  محاسبة، هي قوة الله سبحانه وتعالى  .

 إنه يريد بذلك إسقاط  الرؤية المادية، والتأثيرات البيئية المعاصرة على الوقائع التاريخية والدينية والإلهية (الوحي)، وهذا يبدو جليا في كتبه جلها، باعتبار أن الرسول(ص) صاحب مذهب، وله أتباع وليس نبيا مثل عيسى عليه السلام، فهذه الرؤية منه تبعد الإسلام عن طبيعته السماوية الإلهية، وعلى هذا النهج – للأسف - يسير في تعميق هذا التصور في أغلب فصول هذا الكتاب .
 فالرسول (ص) يغدو عنده من خلال هذه الرؤية شخصية إنسانية مبدعة قد تأثرت بمحيطها بكل تفاعلاته المادية الطبيعية والنفسية الاجتماعية .
 وللأسف الشديد أن هذه الأفكار تكاد أن تكون قاسما مشتركا  بين جل المستشرقين، فقد سبقه إليها المستشرق جب حينما صور الرسول محمد(ص)  بأنه مصلح اجتماعي عكس واقع البيئة العربية في مكة، وأنه نجح لكونه أحد المكيين، بمعنى أنه عبر عن الحاجيات المحلية، حيث ذهب في كتابه – أي جب – (المذهب المحمدي)  إلى «أن محمد  [(ص)] صنعته بيئته الخاصة بمركزها الثقافي والديني والتجاري، وبحكم مركزها من العالم وصلتها بأرقى شعوبه،... إن محمدا [(ص)] ككل شخصية مبدعة قد تأثر بضرورات الظروف الخارجية المحيطة به من جهة، ثم من جهة أخرى قد شق طريقا جديدا بين الأفكار والعقائد السائدة  في زمانه، والدائرة في المكان الذي نشأ فيه ... وانطباع هذا الدور الممتاز لمكة يمكن أن نقف على أثره واضحا في كل أدوار حياة محمد [(ص)]، وبتعبير إنساني: إن محمدا [(ص)] نجح لأنه كان واحدا من المكيين»(16).
 نشير هنا إلى أن الأساس في مثل هذه الادعاءات الخاطئة والافتراءات الفاسدة كان الهدف من ورائها هو إرجاع النجاح في خطوات دعوة النبي محمد (ص) و رسالته السماوية إلى ذكائه مثلا أو إلى فطنته ليس إلا، وهنا إنكار للوحي الإلهي للنبي محمد .
 لقد أراد لامنس من وراء كل ذلك أن ينفي كل دور للقوى الغيبية الإلهية في تفسير الدين الإسلامي، وفي النجاحات التي حققتها شخصية الرسول الكريم (ص)  بفضل ذلك، وبالتبع محاولته إيجاد عوامل من صلب الواقع التاريخي والبيئي والاجتماعي للديانة الإسلامية.

 إن لامنس لا يرى في الرسالة المحمدية إلا سياقها البشري التاريخي، إن حياة النبي هي مجموعة من الأفكار قابلة للدراسة في إطارها الاجتماعي والتاريخي، وهو يركز في كتابه هذا على الجانب البشري الإنساني في سيرة الرسول (ص) .
 وهذه المعلومات تؤسس معرفة سطحية ومزيفة وبعيدة كل البعد عن حقيقة  حياة الرسول(ص) الذي يتلقى الوحي من ربه سبحانه وتعالى، إن لامنس يتنكر لنبوة الرسول، ويجعله إنسانا عاديا مجردا من أية نبوة أو رسالة سماوية للبشرية جمعاء .

 حتى إنه عَنْوَنَ الفصل الثاني من كتابه هذا "محمد مؤسس الإسلام" الذي يفيد بأن الإسلام من صنع سيدنا محمد (ص)،  ومن ابتكاره وأفكاره، وليس وحيا ربانيا من الله  تعالى .
 كما وصف الإنسان العربي بأنه إنسان غير شجاع، وأنه بناء على ذلك فهو على استعداد للنهب والجري وراء الغنائم، والسلب والنهب.كما أضعف من شأن أكثر مؤرخي الإسلام أمثال الطبري، والبلاذري،  وابن سعد، والأصفهاني، وابن خلدون، وأبي الفداء، وقد ذكر إميل درمنجم  إن كتب لامنس قد  شوهت محاسنها بما بدا  في تضاعيفها من كراهية الإسلام ورسوله، وأنه استعمل طرقا بالغ فيها بالنقد .

 في الفصل الثاني المعنون: "  محمد مؤسس الإسلام " وفي الوقت الذي لا ينكر عدد كبير من المستشرقين الأوروبيين حقائق ومعطيات ثابتة في حياة الرسول (ص) ولا يستطيعون  إلغاءها أو حتى الشك بصحتها وفقا للتاريخ الإسلامي والإنساني عامة، كتاريخ ميلاده (ص)، وتاريخ بعثته وعمره الإجمالي، فإن  لامنس رغم ذلك كله يلجأ إلى تخريج غريب وعجيب من نوعه ... لا يستند على أساس منطقي أو علمي  أو تاريخي، ودون تقديم مبررات أو حقائق مقنعة لذلك .

 يقول لامنس في هذا الصدد: « في هذه الفوضى التي كانت تعيشها شبه الجزيرة  العربية، وفي هذا الوسط المكي الذي تطبعه حياة الترحال والوثنية ولد محمد...، فتاريخ ميلاده لا ينبغي أن يكون في سنة 570 للميلاد، وهو التاريخ الميلادي المتعارف عليه والمسلم به حتى الآن من قبل علماء الإسلام les islamologues، لكن تاريخ ميلاده هو حوالي سنة 580 ميلادية، لأن الأصح هو أنه لم يتجاوز عمره الخمسين سنة» (17) 
 وفي معرض الرد على هذه الاستنتاجات الفارغة الجوفاء، يقول د .محمود زقزوق في كتابه :" الإسلام في تصورات الغرب "  « يريد لامنس أن يخفض مدة حياة محمد وعمره عند الأحداث الحاسمة عقدا من الزمان على الأقل ــ على عكس ما يقول به الأحاديث» ، ثم يضيف في هامش نفس الصفحة قائلا: "  هذه نظرية غريبة لم يقل بها ــ فيما نعلم ــ أحد من المستشرقين، ولا من غيرهم من قبل، ولعلها محاولة من جانب لامنس ليبني عليها ما يريد أن يستنتجه من المزيد من التشكيك » (18) .
وفي هذا ــ  كما هو ظاهرــ تجاهل شديد لأساسيات المنهج العلمي والتاريخي والحديثي، حيث تم تجاهل الثابت يقينيا على مدى قرون عديدة في سبيل إثبات حقائق ومعطيات غريبة رفضها علماء المسلمين والمسيحيين على حد سواء، فمن الثابت تاريخيا أن مولد الرسول (ص) كان في عام الفيل سنة 570 م، « لكن الأب لامنس قد حاول أن يؤخر ذلك عشر سنوات حتى ينقض القول الشرعي الذي يقول إن محمدا بعث على رأس الأربعين من عمره، ويخرج إلى القول ما دام الأنبياء يبعثون على رأس الأربعين، ومحمد قد صدع بالدعوة على رأس الثلاثين فمحمد ليس نبيا » (19) .
 ومن الثابت والمتواتر في المرويات الإسلامية أن الرسول (ص)  «بعث على رأس الأربعين، وهناك آية قرآنية يمكن الاستئناس بها إلى حد ما ــ كما يقول الأستاذ دروزة ــ على أن سن النبي (ص) عند نزول الوحي كانت أربعين سنة: "حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي، وأن أعمل صالحا ترضاه " [الأحقاف 15].  فهذه السن " يعتبر حدا لبلوغ الرجل أشده ونضج عقله وكمال إدراكه» (20).
 ثم إن قراءة لامنس  لحياة الرسول (ص) ولمعطياتها وأحداثها وإنجازاتها الكبرى نادرا ما يلجأ إلى إبراز الخارق  والمعجز فيها، وحتى عندما يقدم شيئا شبيها بذلك فإنه لا يظهر ذلك على أساس من وحي إلهي عظيم يتجاوز حدود الزمان والمكان ونواميس السببية والعلة .
 إذن من الواضح أن هذه القراءة لا تنهض على مسلمات بديهية أثبتت مصداقيتها على مر العصور والأزمنة لأن آلياتها ــ هذه القراءة ــ  تفتقر لقوة التبصر بأسباب الواقع والموضوعية والأمانة العلمية، وهي آليات مرتبطة بنوع من التفكير تَمَّ في ضوء موجهات دينية مسيحية عدائية، غذتها وزكتها أساسا الكنيسة المسيحية ورجالها. يقول جواد علي في الجزء الأول المتعلق بالسيرة النبوية من موسوعته " تاريخ العرب في الإسلام ": « إن معظم المستشرقين النصارى هم من طبقة رجال الدين أو ممن تخرج من كليات اللاهوت، وهم عندما يتطرقون إلى الموضوعات الحساسة من الإسلام يحاولون جهد إمكانهم ردها إلى أصل نصراني، وطائفة من المستشرقين من اليهود يجهدون أنفسهم لرد كل ما هو إسلامي وعربي لأصل يهودي، وكلتا الطائفتين في هذا الباب تبع لسلطان العواطف والأهواء» (21)، لأنه في اعتقادهم أن الإسلام قد عرف تأثيرات مسيحية ويهودية أثناء بناء تعاليمه ونسقه من العبادات والمعاملات والاعتقادات  .

 لقد كانت لتصوراته الكنسية المسيحية أثرها في عدم ظهور نظرة أو قراءة موضوعية عن نبي الإسلام محمد (ص)، كما كان كاثوليكيا متحجرا متعصبا يستقي تصوراته ورؤاه من المصادر والتعاليم الكنسية دون أدنى تمحيص أو تفحص، وإن لم تبدو بارزة للعيان في هذا الكتاب، وإنما بدت سارية مستترة ومستبطنة في توجهاته ومواقفه واستنتاجاته، وهنا يخلط بين معتقداته الدينية وبين أدوات البحث العلمي في قراءة ودراسة مثل هذه المباحث الهامة في تاريخ الشعوب الإنسانية .

 إنه من المتعذر إن لم يكن من المستحيل ــ كما يقول المستشرق الفرنسي ألفونس إيتيان دينيه
( 1861 – 1929) في كتابه " محمد رسول الله " «أن يتجرد المستشرقون من عواطفهم وبيئتهم ونزعتهم المختلفة، وأنه لذلك قد بلغ تحريفهم لسيرة النبي والصحابة مبلغا يغشى على صورتهم الحقيقية من شدة التحريف فيها....إن المستشرقين يقدمون إلينا صورا خيالية هي أبعد ما تكون عن الحقيقة» (22).
 ويعترف كثير من هؤلاء المستشرقين أنفسهم بتأثرهم عن وعي أو عن غير وعي بتلك المواقف والصور التي صاغتها الكنيسة ضد الإسلام ورسوله (ص)، في عصورها الوسطى، وغذتها بالكراهية والحقد، مع صناعة مثل هذه الصور العدائية، وتعهدتها بالرعاية والانتشار، يؤكد هذه الحقيقة كبير المستشرقين الإنجليز وليام مونتغمري وات William Montgomery Watt  مشيرا إلى هذا الإرث الكنسي الخطير قائلا: «جد الباحثون منذ القرن الثاني عشر في تعديل الصورة المشوهة التي تولدت في أوروبا عن الإسلام، وعلى رغم الجهد العلمي الذي بذل في هذا السبيل، فإن آثار هذا الموقف المجافي للحقيقة التي أحدثتها كتابات القرون المتوسطية  في أوروبا لا تزال قائمة، فالبحوث والدراسات الموضوعية لم تقدر بعد على اجتنابها»(23).

 هذه الحقيقة المرة تتراءى عند باحث أوروبي آخر هو الفيلسوف الفرنسي غوستاف لوبون، Gustav le Bon  حيث يشير بدوره إلى هذا الموقف الكنسي المعادي للإسلام، فيقول: «إننا لسنا أحرارا في بعض الموضوعات، والمرء عندنا ذا شخصيتين: الشخصية  العصرية التي كونتها الدراسات الخاصة، والبيئة الخلقية والثقافية، والشخصية اللاشعورية التي استقرت وتبلورت بفعل الماضي الطويل، وتأثير الأجداد والسلف ... وهكذا فإن أوهامنا الموروثة  والمستقرة في اللاوعي عن الإسلام  والمسلمين قد تراكمت عبر قرون كثيرة وصارت  جزءا من  مزاجنا وطبيعة متأصلة فينا» (24) .
ومما يبرر روح العداء لدى لامنس تجاه الرسول (ص) أيضا أنه لا يعتد بكتب السيرة، ولا يقيم  وزنا لمؤلفات الحديث النبوي، ويرى أنها قد وضعت جميعا من أجل غاية واحدة وهي تمجيد حياة النبي ليس إلا. ويزعم بأن الأحاديث النبوية إنما هو من عمل المسلمين منذ القرن الأول للهجرة، وذلك من دون أن يقدم دليلا أو برهانا على ما يقوله، إذ يكاد يعتمد كليا على القرآن الكريم في رسم ملامح الرسول (ص) ولا يأخذ بعين الاعتبار الرواية التقليدية أو السيرة، ويزعم  أن القرآن هو مصدره الوحيد في كل ذلك، وأنه تجنب كتب الحديث، لأنها موضوعة لغايات معينة، وهو يلقي آراءه جزافا ودون دليل مقبول ومنطقي.
نستنتج إذن من موقف لامنس أنه يشكك بالحديث النبوي الشريف وكتب السيرة، وبناء  عليه فهو يشكك أيضا بما جاء في تلك الكتب عن أمانة الرسول (ص) وأنكر المعلومات التي تفيد ذلك .
ومما يثير دهشتنا من هذه المواقف المضادة بإزاء هذه المصادر والكتب الصحاح أنه في الوقت الذي يتنكر لها ويرفض اعتمادها، فإنه يعتمد عدداً من تلك الأحاديث، ويتقبل الروايات التي ترد في الكتب التاريخية مؤيدة لآرائه ووجهات نظره.

 ويعتقد بأنه حتى المعطيات التي اعتبرها موضوعية تقريبا، تستند بشكل رئيسي إلى الروايات المتحيزة، لأن الأجيال التي عملت ـ في نظره ـ على ترجمة حياة النبي (ص) كانت متأخرة عن زمانه كي تملك المعطيات أو المعلومات  الصادقة، بالإضافة إلى ذلك فإنه لم يكن نصب أعينهم هدف معرفة الماضي كما كان، بل بناء صورة للرسول كما ينبغي أن يكون حسب آرائهم، فهو يذهب إلى أن رواة الأحاديث قاموا برسم لوحات لآيات القرآن التي تحتاج إلى شرح، بحيث توافق رغباتهم وتوجهاتهم، فملأوا المساحات الخالية من سيرة الرسول. وحتى بعد التمحيص الدقيق نجد أن أقدم الأحاديث تعود بنا إلى الوراء إلى القرن الأول الهجري، وأغلب هذه الأحاديث ضعيفة، وتلونت بالتحيز التيوقراطي، وهي مختلطة بالمادة الأسطورية، ومحرفة من أجل مصالح أسر محددة وأحزاب سياسية، يقول في السياق نفسه: « مصادرنا في معرفة حياته [ حياة الرسول (ص)] هي القرآن، ومجموعة منتخبة مقدسة من نصوص الحديث، فالسيرة ومنذ نهاية القرن الأول للهجرة بدأ المسلمون في جمع موادها وكتابتها، فعرفت هذه العملية مع مرور الزمن إدخال كم هائل من النصوص التي لاتمثل السيرة في شيء، إلا أنه منذ نصف قرن، ومع جهود المستشرقين في ذلك خضعت هذه النصوص الوافرة إلى نقد وتحليل صارمين للغاية،  وتظل الفترة الأقل وضوحا وغير معروفة بالقدر الكافي، والأكثر إثارة ومدعاة للنقاش هي الفترة المكية. لكن ابتداء من مرحلة الهجرة أضحت المعطيات الأساسية المرتبطة بحياة الرسول أكثر دقة ووضوحاً»(25).
 ومما يؤسف له حقا أن هذا الموقف يكاد يكون هو السائد ليس في كتابه هذا فحسب، ولكن أيضا في معظم كتبه ودراساته، فاعتماده على القرآن الكريم وحده ــ إن صح ذلك ــ  في رسم عناصر سيرة المصطفى (ص) بذريعة قلة المعلومات عن حياة الرسول يبقى عملا غير مكتمل ما لم يأخذ بعين الاعتبار كتب السيرة، فالآيات القرآنية الكريمة المتعلقة بالسيرة النبوية لا تتعدى بضع عشرات من الآيات، وهي في مجملها تتحدث عن المغازي (كبدر، وأحد، وحنين ،والعسرة...)، ونحو ذلك من البيعة ونشأة الرسول (ص) وغير ذلك، وهي مع ذلك تتميز بالإيجاز الشديد، ويعود ذلك إلى الفارق بين الصياغة الأدبية التي امتاز بها القرآن والصياغة التاريخية، بالإضافة إلى ذلك أن القرآن يكتفي بالقدر الذي يحقق العبرة والعظة، من هنا نجد أن سيرة د.محمد أبي شبهة التي عنونها ب" السيرة النبوية من القرآن والسنة "  ليست دقيقة، لأنها لم تختلف كثيرا عن كتب السير المعروفة، وإن كان اعتنى بذكر الآيات ،ولو طبق ما التزمه في العنوان لكانت سيرته أصغر مما هي عليه الآن .
 وهكذا يقدم لامنس لقراء  هذا الكتاب انطباعا بأنه سيعتمد بشكل كبير على القرآن الكريم في بناء مواد حياة الرسول، لكنه كعادته لا يسلك ذلك ويخلف ما وعد به، ولا يلتزم بما أقره في بداية الفصل الثاني، فهو بينما يتنكر لكتب السيرة يعتمد على الأحاديث الضعيفة المشكوك بصحتها، ومن ثم فاعتماده على الأحاديث الضعيفة، والحكايات التاريخية الملفقة، والروايات المتعارضة حول الرسول قد قاده  كل ذلك إلى تقرير نتائج غير صحيحة علميا، وغير مقبولة عقليا، وقد أثبت هذه الحقيقة الأستاذ كرد علي عندما ذهب إلى أن لامنس نشر أخطاءه وأكاذيبه في دائرة المعارف الإسلامية، ومن عمله تحريف آيات القرآن، وحذف ما لا يروقه من كتب المسلمين وخلط الآيات القرآنية بأبيات الشعر، وجعل الأحاديث النبوية من كلام بعضهم، وإيراد الخرافات من كتب الوضاعين والقصاصين مدعيا أنها منقولة من كتب الثقات الأثبات. وحتى الآيات القرآنية الكريمة التي يحيل عليها كانت إحالاته خاطئة  ،وقد لامسنا ذلك في مواضع كثيرة من كتابه هذا .
 يكتب في موضع آخر من هذا الفصل عن حياة الرسول (ص) فيقول: «تؤكد السورة رقم 93  [ سورة الضحى] بأنه أصبح يتيما في سنوات مبكرة من حياته، حيث أمضى طفولته وشبابه في الفقر والفاقة، لذلك فنحن لا نعرف عنه كثيرا على وجه اليقين في سنوات حياته الخمس والعشرين الأولى من حياته، كان محترما في قومه لاستقامته وأمانته، ذا فكر  متبصر اهتم بالمسائل الدينية التي جعلته مختلفا، وغير مبال بما كان سائدا لدى قومه من معتقدات. كان يحب الحديث و المناقشة مع أصحاب الديانات السماوية الأخرى، دائم الانشغال بالبحث عن دين أسمى وأعلى منزلة مما هو موجود في المجتمع المكي. أسفاره ورحلاته إلى خارج مكة وإلى مناطق أخرى من شبه الجزيرة العربية لم تقدم له شيئا يشفي غليله ويوصله إلى المعرف الصادقة، فالقرشيون منشغلون في تجارة القوافل، وقد ذكر القرآن في إشارات متعددة هذه الأسفار، حتى تلك التي ركب فيها البحر ....، فكان خلالها وكما جاء في السيرة يؤسس علاقات مع الرهبان المسيحيين الذين تنبأوا له بمستقبل عظيم» (26) .

 فمن أين استقى لامنس مادة بحثه هذا ؟ فلم يرد ذلك في القرآن ولا في السنة!
 إن هذه المزاعم التي مفادها بأن الرسول (ص) كانت له علاقات و اتصال مع الرهبان المسيحيين وأنه تأثر بهم  كلها مجرد استنتاجات باطلة، لا تستند إلى حقائق تاريخية أو روايات صحيحة أو ضعيفة ، إنها كلها لا تعدو كونها تخمينات و اختراعات وافتراءات على الرسول الكريم (ص) ، وهي سمة بارزة ومشتركة في كتب لامنس حول الرسول (ص)  من دون استثناء.

 وما دمنا معنيين هنا بدراسة تصورات لامنس للسيرة ، وتفكيك آلياتها وتناقضاتها فمن المفيد القول إن التناقض و الافتراء و العدائية لم تقف عند هذا الحد، وإنما اعتبر أن زواج الرسول من سيدتنا خديجة رضي الله عنها كان سببا في تخلصه (ص) من ضائقته المالية و أزمته المادية،
 يقول لامنس:«... وفي سن تناهز 25 سنة من عمره ، تزوج من امرأة أرمل غنية من مكة اسمها خديجة التي تجاوز عمرها الأربعين عاما، وقد مكنته ثروتها من التغلب على هموم حياته المادية» (27) .

 وهذه الأفكار و الآراء التي بثها لامنس في كتابه هذا حول الرسول ستقوده إلى الامتثال لأفكار  أساتذته من المستشرقين. ففي هذا الرأي يترسم خطا أستاذه جولد زيهر الذي يذهب إلى أن الرسول(ص)  ولد يتيما، فقام بتربيته  أقاربه، و كان يكسب رزقه بطريقة قاسية و بسيطة في آن واحد، فقد اشتغل راعيا ثم أصبح تاجرا لحساب سيدة غنية اسمها خديجة عندما بلغ من العمر خمسة وعشرين سنة، وبعد أن تزوج هذه السيدة الأرمل الغنية التي تكبره بخمسة عشر عاما انتهت همومه المادية، وأصبح بدوره تاجرا، إنه خلال رحلاته المتعددة التقى ببعض اليهود والنصارى الزاهدين، وأصبح يفكر شيئا فشيئا في الحياة الخلقية و الدينية السيئة بمكة.
 إنه (ص) لم يكن غرضه المال و لا الجاه و لا السلطان، ولا نعيم الدنيا وبهرجها، وإنما كانت غاياته سامية تتمثل في إعلاء كلمة الله تعالى و نشر الدين الصحيح، وحتى زواجه (ص) من خديجة كان رغبة منها بالأساس، لما لمست فيه من نبل الأخلاق و سمو الإنسانية ، و صدق القول و الفعل و المعشر.

 كان (ص) مثالا للاستقامة و الأمانة و السجايا الحميدة. وقد أجمع مؤرخو السيرة على استقامته، واعتراف بذلك أعداؤه قبل أصدقائه، حتى أن زواج خديجة منه كان سببه استقامته و صدقه و أمانته، وتقواه.  يقول الباحث و المستشرق ألفرد الفائز،  و هو بلجيكي من بلد لامنس و من أبناء جلده، ولكن شتان ما بين الرجلين ،  يقول في كتابه (علم النفس) عن أخلاق الرسول (ص) وأمانته و زواجه من خديجة: «شب محمد حتى بلغ ، فكان أعظم الناس مروءة وحلما  وأمانة،  و أحسنهم جوابا وأصدقهم حديثا،  وأبعدهم عن الفحش، حتى عرف في قومه بالأمين، وبلغت أمانته و أخلاقه المرضية خديجة بنت خويلد القرشية، و كانت ذا مال. فعرضت عليه خروجه إلى الشام في تجارة لها مع غلامها ميسرة، فخرج وربح كثيرا، وعاد إلى مكة وأخبرها ميسرة  بكرامته، فعرضت نفسها عليه وهي أيم، ولها أربعون سنة، فأصدقها عشرين بكرة، وتزوجها وله خمس وعشرون سنة، ثم بقيت معه حتى ماتت» (28) .


 5) خلاصة وتركيب :
 لقد حرصنا على إيراد هذه الأمثلة  المتنوعة، لأنها تكشف عن طبيعة قراءة لامنس لحياة الرسول (ص)  ولوقائعها، فهي قراءة مبتسرة وخاطئة وتقصي أحداثا وقضايا إيجابية وجوهرية في حياته (ص)، وتستبعد معطيات ساطعة واضحة وبارزة تكاد لوضوحها أن تلمس باليد، ولكن هيهات ثم هيهات .
 إن مثل هذه الدراسات  الاستشراقية الكثيرة  للامنس ولغيره  التي عملت على احتواء الشرق الإسلامي بكل قضاياه الدينية والثقافية والاعتقادية  هي التي ساهمت بشكل كبير للأسف في تكوين الوعي الغربي تجاه رسول الإسلام وفق هذه الصورة المشوهة، فكان لها كبير الأثر في تعويق القارئ الغربي دون الوصول إلى الحقيقة وامتلاكها عن الرسول (ص) مثلما نمتلك نحن المسلمين حقيقة سيدنا عيسى عليه السلام، وتفاصيل رسالته السماوية الخالدة، بدون مركبات نقص أو شعور بالدونية...
فكل قراءة لعناصر السيرة النبوية لا تتوفر على شروط موضوعية تجد نفسها في خضم تناقضات مستمرة وصارخة، وهذا ما حدث للامنس بطبيعة الحال .
 وقد كان السبب الرئيسي لذلك هو أنه لم يكن هناك من سبيل إلى معرفة حياة نبي الإسلام إلا عن طريق مرجعيات ورؤى وتصورات كنسية التي كان يهمها بطبيعة الحال أن تعرض سيدنا محمد وتعاليمه في صورة منحطة وفاسدة بقدر الإمكان. ولهذا لا نستغرب من مواقف الأب لامنس الكاثوليكية ولا نتوقع منه حكما موضوعيا وعلميا عادلا تجاه الرسول الكريم وفي حق الإسلام.

*  هوامش البحث *
1 - المستشرقون، نجيب العقيقي، دار المعارف، الطبعة الثالثة، ج 3، ص: 1027.
2 - نفسه،  ج3،  ص: 1028 .
3 - سيرة الرسول في تصورات الغربيين، جوستاف بفانموللر، ترجمة: محمود حمدي زقزوق، مجلة مركز بحوث السنة  والسيرة، جامعة قطر العدد الأول، سنة 1984 م.
4 - المستشرقون، نجيب العقيقي، ج3، ص:1029 .
5 - نفسه، ج3، ص: 1030 .
6 - موسوعة المستشرقين، عبد الرحمان بدوي، دارالعلم للملايين، ص: 13-14.
7 - نفسه، ص: 503
8 - المستشرقون، ج 3، ص: 1067.
9 - نفسه، ج 3 ص: 1072
10 - موسوعة المستشرقين، ص: 503 .
 (**)-  اعتمدنا في بناء مواد هذه المداخلة وصياغتها على الطبعة الثالثة من الكتاب الصادرة
سنة 1943 .
11 - Le berceau de l’Islam, l’Arabie occidentale à la veille de l’Hégire.Ier volume, Le climat, les Bédouins, Roma, 1914, XXIII-371 p.iv
12 - موسوعة المستشرقين، ص: 505 .
13 - L’islam .Croyances et institutions. Imp. Catholique Beyrouth 1943
14- موسوعة المستشرقين، ص: 505.
15 - أوروبا والإسلام، ترجمة  طلال عتريس بيروت: 1980 .
16- المذهب المحمدي، المستشرق  جب .
17 - L’islam .Croyances et institutions .p 32
18- الإسلام في تصورات الغرب،  محمود حمدي زقزوق،  مكتبة وهبة، الطبعة الأولى، سنة 1987 .
19 -  الاستشراق في السيرة النبوية، عبد الله محمد الأمين النعيم، المعهد العالمي للفكر
الإسلامي، الطبعة الأولى سنة 1997 .ص: 58.
20 -  نفسه، ص: 59 .
21 - تاريخ العرب في الإسلام "السيرة النبوية"، الجزء الأول، بغداد، مطبعة الزعيم، سنة 1961.
22 - محمد رسول الله ،  إيتيان دينية ، وسليمان بن إبراهيم ترجمة عبد الحليم محمود،  ومحمد  عبدالحليم، دار المعارف، مصر، 1966. ص: 54
23 –  نفس المصدر.
24 ــ  الاستشراق والتاريخ الإسلامي (القرون الإسلامية الأولى)، فاروق عمر فوزي، ص65.
25 -  L’islam .Croyances et institutions .p32.
26 - L’islam .Croyances et institutions .p 33-34.
26 - L’islam .Croyances et institutions .p 33-34.
27 - L’islam .Croyances et institutions .p 34.
28  ــ علم النفس، ألفرد فائز.

 .
***
(*) أصل هذه المقالة ورقة قدمت في الندوة الدولية بعنوان " السيرة النبوية في الكتابات البلجيكية " المنعقدة بمدينة فاس / المملكة المغربية، يومي 21 و22 دجنبر 2012 .

(**) باحث أكاديمي من المملكة المغربية، مختص بالاستشراق الاسباني.