البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

من دراسات المستشرقين للصوت اللغوي العربي

الباحث :  أ.د. حامد ناصر الظالمي
اسم المجلة :  دراسات استشراقية
العدد :  13
السنة :  السنة الخامسة - شتاء 2018م / 1439هـ
تاريخ إضافة البحث :  February / 27 / 2018
عدد زيارات البحث :  5205
تحميل  ( 214.532 KB )
كثيرةٌ هي دراسات المستشرقين للهجات العربية، بل أنّ أشهر الدراسات عن اللهجات العربية كتبها المستشرقون، ومن ثم تبعهم الباحثون العرب مقلّدين تارةً، ومبدعين تارةً أخرى،  ونستطيع أن نقول إنّ دراسة اللهجات دراسة علمية ميدانية استقصائية قد بدأت قبل أكثر من مئة عام على يد المستشرقين، وكذلك الحال مع الدراسات الصوتية، فهم مَنْ نبّه على أهميتها في التراث العربي، حتى عندما كانت المصادر العربية لم تطبع بعد الطبعات الحديثة المُحققة.

موضوعنا هنا هو عن أربع دراسات استشراقية للصوت اللغوي العربي هي ليست بكتب. فالكتب المتخصصة في الصوت اللغوي العربي التي كتبها المستشرقون عديدة بل وكثيرة ورائدة ومهمة لأنّها كشفت عن جهود عربية مهمة في الدراسات الصوتية قبل ألف سنة ولأنّها درست تلك الجهود دراسة علمية حديثة مفصّلة فيها، وكذلك مقارنةً بين جهود القدماء المتفرّدة في البحث الصوتي، وأهم ما توصّل إليه الباحثون المحدثون في تجاربهم.

موضوعنا هنا الدراسات التي كتبها مستشرقون ينتمون لمدارس استشراقية مختلفة محاولةً منّا في معرفة المشترك بينهم، فوجدنا أنّ أصحاب هذه الدراسات الأربع التي سنستعرضها، كلها يُشيد بالجهد العربي في دراسة الصوت اللغوي هي:

أولاً: محاضرة (علم الأصوات عند سيبويه وعندنا):

  للمستشرق الألماني الدكتور آرتورشاده التي ألقاها في قاعة الجمعية الجغرافية الملكية المصرية عام 1930، وهي ملخص لرسالته للدكتوراه عن علم الأصوات عند سيبويه التي نشرها عام 1911، وقد نُشِرَ نص هذه المحاضرة باللغة العربية في:

في صحيفة الجامعة المصرية في العدد الثاني يناير سنة 1931، ص3-12، والعدد الخامس (مايو) سنة 1931، ص13-26.

نشرها وعَلَّق عليها الدكتور صبيح التميمي في مركز عبادي للدراسات والنشر في اليمن سنة 2000 عندما اعتمد على نصها المنشور في مجلة الاسلام (الصادرة باللغة الألمانية) عدد 31 سنة 1954.

نشرها الدكتور رجب عبدالجواد مع دراسة عنها في مجلة مجمع اللغة العربية في القاهرة عدد 105 لسنة 2005، ص298 – 328.

ثانياً: دراسة الأب الدكتور هنري فليش الموسومة (التفكير الصوتي عند العرب في ضوء سر صناعة الإعراب لابن جني):

ترجمها وحققها الدكتور عبدالصبور شاهين عن الفرنسية ونشرها في مجلة مجمع اللغة العربية في القاهرة جزء 23 سنة 1968، ص53-88.

ثالثاً: دراسة الدكتور ت. م. جونستون الموسومة (تغير الجيم الى ياء في لهجات شبه الجزيرة العربية):

المنشورة في مجلة معهد الدراسات الشرقية والإفريقية التابع لجامعة لندن في العدد الثاني سنة 1965، وقد ترجمها عن الانجليزية سعد مصلوح ونشرها في مجلة مجمع اللغة العربية في القاهرة جزء 26 سنة 1970 ص183-194.

رابعاً: دراسة الباحثة الفرنسية أوديت بتي وعنوانها (بحث في فونولوجيا اللغة العربية):

وقد نُشِرت في مجلة الفكر العربي، بيروت، العدد 8-9 سنة 1979، ص171-192.

هذه الدراسات الأربع تنحصر في المدة ما بين (1930-1979) الأولى لمستشرق ألماني والثانية لفرنسي والثالثة لبريطاني والرابعة دراسة حديثة لباحثة فرنسية، وإن اختلف هؤلاء في اتجاهاتهم الفكرية واللغوية إلاّ أنّهم درسوا موضوعاً واحداً هو الصوت اللغوي العربي، فالمستشرق الألماني الدكتور آرتور شاده ولِدَ في 19/8/1883 بمدينة تورن غرب بروسيا وتعلّم في مدارسها وحصل على شهادة الثانوية فيها ثم واصل دراسته العالية في جامعات ميونخ ولايبزك وبرلين وحاول تعلّم اللغتين الفرنسية والإنجليزية، ثم درس اللغات الشرقية الفارسية والتركية واللغات السامية والعربية خاصة. وفي عام 1905 حصل على الماجستير برسالته (تعليقات السهيلي وأبي ذر الخشني لما قيل عن الشعر في غزوة أُحد في سيرة ابن هشام) وكانت بإشراف المستشرق الألماني الكبير أوغست فيشر، وقد نُشِرت هذه الرسالة فيما بعد في جامعة لايبزك سنة 1902، عُيِّن شادة أُستاذاً في جامعة هامبورغ بعد حصوله على الدكتوراه في (الدراسات الصوتية عند سيبويه) سنة 1911، ثم سافر الى مصر بناءً على طلب الحكومة المصرية ليعمل نائباً لمدير المكتبة الملكية المصرية وكان مسروراً بعمله هذا، ولكن اندلاع الحرب العالمية الأولى (1914-1918) أنهى عمله في مصر بعد تسعة أشهر فقط وعاد الى بلده ملتحقاً بالجيش الألماني ليعمل مترجماً من التركية الى الألمانية، ثم عَمِلَ مرةً أخرى أُستاذاً للغات الشرقية في جامعة هامبورغ وبقيّ فيها حتى تقاعده في خريف سنة 1951، وتوفي سنة 1952، عن عمر 69 سنة. وعمل شادة محاضراً للغات السامية في الجامعة المصرية في بداية الثلاثينيات، وقد عُرف بكتاباته عن الأدباء العرب المعاصرين له. وله مجموعة من الدراسات والترجمات منها:

ترجمة كتاب التنبيه في فقه الشافعية عن ترجمة جوينبرل سنة 1879 بعنوان الشريعة الإسلامية (ليدن، 1910).

الاسلام والكحول (برلين سنة 1913).

هارون الرشيد في التاريخ (برلين سنة 1913).

ابن زيدون (مجلة الاسلام 1923).

انطباعات عن الشعر العراقي المعاصر (مجلة الآداب الشرقية 1926) .

جملة الموصول في اللغتين العربية والسريانية (مجلة اسلاميكا سنة 1927).

العربية واللغات السامية (مجلة الدراسات السامية سنة 1927).

الحركات في الكلمات العربية في اللغة التركية العثمانية (هامبورغ سنة 1927).

الجنس في اللغات السامية (مجلة Zs سنة 1927).

10- رائد الحداثة العربية في مصر محمود تيمور (جريدة هامبورغ سنة 1927).

 أحمد تيمور باشا والنهضة العربية (مجلة الآداب الشرقية 1930).

 رسم لغة أجنبية بالخط العربي (صحيفة الجامعة سنة 1933).

 أصل قصص أبي نواس في ألف ليلة وليلة (المجلة الشرقية الألمانية سنة 1934).

 مرة أخرى عن أبي نواس (جريدة المستشرقين سنة 1936).

 اللغات السامية أعمال في الصوتيات (مجلة صوتيات مقارنة سنة 1937).

 مقالات عديدة لغوية وتاريخية في الموسوعة الإسلامية التي كتبها المستشرقون.

 الدراسات العربية في مؤتمر المستشرقين العشرين سنة 1938.

 الجزء الأول من ديوان أبي نواس أكْمله فاجنر ونشره سنة 1958(1).

أما المستشرق الثاني فهو الأب الدكتور هنري فليش وهو من الرهبان اليسوعيين الفرنسيين ولِدَ في جونفل في فرنسا سنة 1904 وانضم الى الرهبانية سنة 1921، ونال الدكتوراه في الآداب من السوربون وسُمَّي أُستاذاً لفقه اللغات الشرقية ولاسيما العربية في معهد الآداب الشرقية ببيروت وأنتُخِبَ عضواً في عدة جمعيات علمية ثم مراسلاً لمعهد فرنسا سنة 1959 له كُتب وبحوث في اللغة واللهجات، وكَتَبَ في التاريخ القديم ومنها:-

الأفعال الممدودة ضمناً في اللغات السامية وهي رسالته للدكتوراه في 552 صفحة نُشرت سنة 1944.

دراسة عن لفظ الراء وهي تتمة رسالته نُشرت سنة 1946.

دراسات وافرة عن آثار رأس بيروت (جمعية ما قبل التاريخ الفرنسية سنة 1944، 1946، وتقارير مجمع العلوم في باريس سنة 1946).

عظمة تيوفيل الاسكندري في تكريم القديسيين بطرس وبولس متناً وترجمةً (مجلة الشرق المسيحي باريس مجلد3 عدد10 سنة 1946).

نصوص من كليمان الاسكندري محفوظة بالعربية (منوعات جامعة القديس يوسف عدد 27 سنة 1947-1948).

المدخل الى دراسة اللغات السامية (باريس 1947).

قياس الفعل في السامية العالمية (منّوعات جامعة القديس يوسف عدد 27 سنة 1947 – 1948).

اللهجة العربية في زحلة (منوعات جامعة القديس عدد 27 سنة 1947 – 1948).

قياس الفعل في السامية العامية وتطوره في اللغات السامية القديمة (مؤتمر المستشرقين الدولي 21 سنة 1948).

10- دراسات في الصوتيات العربية وفيها تحديد الحروف الصامتة ووصفها والمظاهر الصوتية البارزة لها (منوعات جامعة القديس يوسف مجلد 28 سنة 1949 – 1950).

11- لغة مَعاصرِ بيت الدين (منوعّات جامعة القديس يوسف سنة 1945).

 مقدمة الأب بويج لكتاب تفسير ما بعد الطبيعة لابن رشد (المطبعة الكاثوليكية سنة 1954).

 اسم فعل (منوّعات جامعة القديس يوسف سنة 1955)

نشر الجزأين الرابع والخامس من القاموس العربي الفرنسي الأديان بارتيلمي (باريس سنة 1935).

 العربية الفصحى (سنة 1956) وقد ترجمه الى العربية الدكتور عبدالصبور شاهين.

 النتائج الأولى لتحقيق عن العامية في لبنان (لوفان أوربيس سنة 1959).

 ملامح مفردات العربية الفصحى (روما سنة 1959).

 رسالة في فقه اللغة العربية (سنة 1961)

 الظروف العامة لما قبل التاريخ في لبنان (نشرة جمعية ما قبل التاريخ الفرنسية عدد 27 سنة 1960).

 عربية شحيم (منوّعات جامعة القديس يوسف عدد 38 سنة 1962).

 محطات الجبال ما قبل التاريخ في لبنان (المؤتمر الدولي السادس لما قبل التاريخ (روما) سنة 1963).

 المَنحل اللبناني (مجلة النحّال سنة 1962-1963).

 الشاطئ اللبناني قديماً (كواترناريا عدد 6 سنة 1962).

 الآباء (كوش، بيلو، حوا) مؤلفو المعاجم العربية (مجلة أرابيكا عدد 10 سنة 1963).

 لغة كفر صغاب (المعهد الفرنسي بدمشق نشرة الدراسات الشرقية عدد 18 سنة 1963-1964).

 نصوص بالعربية العامية في جبل لبنان (منوّعات جامعة القديس يوسف مجلد 40 سنة 1964).

 عبارة منسوبة الى الأكادية (منوّعات جامعة القديس يوسف مجلد 42 سنة 1966).

 خواطر عن حال الدراسات اللغوية بالعربية الفصحى (بروكسل مراسلات الشرق مجلد سنة 1971).

 دراسات اللهجات العامية (مباحث السلسلة الجديدة أ – ع سنة 1974).

 عدة مقالات ودراسات في دائرة المعارف الإسلامية في طبعتها الحديثة.

هذا ما جاء في كتاب (المستشرقون لنجيب العقيقي)(2) ولكننا لم نجد بحث (التفكير الصوتي عند العرب في ضوء سر صناعة الإعراب) ونعتقد أنه كتبه بداية الستينيات لأننا وجدنا (هنري فليش) يعتمد سر صناعة الإعراب طبعة سنة 1954 وأنّ الدكتور عبدالصبور شاهين ترجم هذا البحث ونشره في مجلة مجمع اللغة العربية في القاهرة سنة 1968، وبذلك فإنّ تأريخ كتابة البحث سيكون ما بعد سنة 1954 وقبل سنة 1968.

أما المستشرق الثالث فهو ت. م. جونستون أُستاذ اللغة العربية في جامعة لندن، وقد جمع مادة رسالته للدكتوراه في نهايات الخمسينيات من سواحل البحرين والكويت وقطر والمناطق الممتدة من خليج عُمان جنوباً حتى الكويت شمالاً، ثم ناقشها في رسالته التي أكملها عام 1962 وكانت عن (دراسات في لهجات شرقي الجزيرة العربية) وقد طبعت باللغة الإنجليزية عام 1967 وترجمها الى اللغة العربية الدكتور أحمد محمد الضبيب الأستاذ في جامعة الرياض سنة 1975، وبحثه (تغير الجيم الى ياء في لهجات شبه الجزيرة العربية) ليس مُستَلاًّ من تلك الرسالة بل هو خلاصة لفكرة جاءت في مواضع عديدة من الرسالة، نشره سنة 1965 كما مرّ بنا سابقاً، ومن الملاحظات على أصل الرسالة والبحث أن جونستون درس لهجات ساحل الخليج العربي في المناطق المُشار إليها، وقام بتسجيل لهجات وأصوات تلك المنطقة في أهم فترات تاريخها وهي فترة التحوّل الكبير من الحياة الملاحية والغوص والتجارة والصيد الى الحياة الحديثة التي بدأت مع اكتشاف النفط، فجنستون يدرس مرحلة التحول الاجتماعي والاقتصادي هذه وما رافقها من تحولات صوتية في لهجات شرقي الجزيرة العربية التي تقع على ساحل غرب الخليج العربي، ومما يؤخذ على دراساته أنه لم يفد أو يرجع الى الدراسات العربية القديمة لتأصيل اللهجات ما بين القديمة والجديدة وإيجاد الصلة بينهما، إنّ دراسته كانت وصفية ولم يقم بتفسير أو تحليل الظواهر اللغوية تفسيراً صوتياً أو تاريخياً، وأنه أهمل قطاعات واسعة من اللهجات هي الإمتداد الشمالي للكويت وخاصة في مناطق جنوب العراق كالبصرة والزبير والأهوار ومناطق عربستان والأهواز لصلة الوجود العربي والعشائري والقبائلي واللغوي وتشابه البيئة الجغرافية كذلك، مما يشكل امتداداً لغوياً متصلاً، وأعتقدُ أن الدكتور البريطاني بروس إنكام قد شعر بهذا النقص في دراسة جونستون فكتب دراسة مهمة جداً سنة 1973 وهي بعنوان (العوامل الإقليمية والاجتماعية في التوزيع الجغرافي للهجات جنوب العراق وعربستان) ونشر هذه الدراسة في مجلة (كلية الدراسات الإفريقية الشرقية سنة 1976) وقد ترجمها الى اللغة العربية الدكتور عبدالجبار محمد علي الأُستاذ في جامعة البصرة ونشرها بمجلة مركز دراسات الخليج العربي بجامعة البصرة (عدد 2 سنة 1987 ص165-195)، ودراسة جونستون عن (تغير الجيم الى ياء) قد بينّت أن (نتائج التطور الصوتي من الجيم الى الياء ليس مشروطاً بالسياق الصوتي، وأنّ الجيم لا تُنطق ياءً في عددٍ من الكلمات الشائعة، ومن الممكن وقوع العكس على ما هو ظاهر في نطق الجيم تارةً بطريقة اختيارية، وأن هذه تخترق الحدود اللهجية العادية ومن ثم نجدها في بعض اللهجات الشمرية (سردية وسرحان) ولهجات الساحل الشرقي لشبه الجزيرة العربية في بعض لهجات جنوبي الجزيرة العربية)(3). ويؤكد جونستون على سعة هذا الإبدال والتغير بقوله (أهم الظواهر الفونولوجية لكثير من لهجات شبه الجزيرة العربية نطق الجيم ياءً، وهذا التغير الصوتي ليس محصوراً في مجموعة واحدة من اللهجات، كما أنه غير خاضع لظروف موقعية وذلك على العكس من نطق الكاف والقاف نُطقاً مزجياً أي انفجارياً احتكاكياً)(4).

أصالة البحث الصوتي العربي كما رأته هذه الدراسات:

ننطلق هنا من نصٍ للباحثة الفرنسية أوديت بتي مؤلفة الدراسة الرابعة وهي تتحدث عن دراسة الأصوات عند الإغريق والرومان قائلة: (على الرغم من أنّ الإغريق قد صاغوا ملاحظات هامة وخاصة بتمييزهم بين الصوامت والمصوتات، فإنّه ليس من الممكن القول إن الإنجاز الإغريقي الروماني ذو أهمية أولية في تاريخ الفونولوجيا: فقد وضع الإغريق تصنيفهم ووصفهم على وجه الخصوص بمفردات سمعية انطباعية بدلاً من وضعها بمفردات مخارج الحروف، أما الرومان فإنّ أبحاثهم الألسنية تمتاز بالتصوير المجرد الذي أدخلوه في النحو الوصفي للغة اللاتينية)(5) ولذلك فإنّ المستشرق شادة لم يكن مشتطاً عن الحق عندما حدد تاريخ دراسة الأصوات علمياً في الغرب بأنّه لا يتجاوز مئة سنة بقوله: (أما الغربيون فلا يعرفون علم الأصوات معرفةً تستحق الذكر إلاّ من مئة سنة على الأكثر فإنّ ما كان قبل ذلك من هذا العلم لم يكد يتجاوز المبادئ الساذجة التي أرساها اليونان من ألفي سنة أو بالحري كان عملهم يقتصر على بعض التسميات التي قد ضاع معناها لأنّ الأصوات الموجودة في اللغات الأوربية العصرية تخالف أصوات اليونانية القديمة كل المخالفة)(6).

وبما أن اليونان قد أخرجهم شاده من ساحة هذا الدرس العلمي وأنهم لم يبدعوا في مثل هذا المضمار فلم يتبقَ من الشعوب القديمة التي لها جهد في هذا الموضوع، إلاّ الشعب الهندي والعربي إذ يقول: (لم يكن هناك في الشعوب القديمة إلاّ شعبان قد بحثا عن كيفية الأصوات وإنتاجها بحثاً فاق بحث اليونان دقة وعمقاً وهما الهند والعرب، ولأنّ الهنود سبقوا العرب في وصف الأصوات بألف سنة أو أكثر، زَعمَ بعضُ المستشرقين أن العرب اقتبسوا علم الأصوات من الهند ولكن مذهب العرب في دراسة الأصوات يخالف مذهب الهند في نُقطٍ مهمة، فنُرجّح أنّ العرب استحدثوا هذا الفن من المدارك العربية بأنفسهم ولم يقتبسوه من أي شعبٍ غيرهم، وإذا سأل سائلٌ، ما هو الباعث الذي حَثَّ العرب على دراسة أصوات العربية وعلى إنشاء قواعد لنطقها؟  فإنّ العجم الذين أسلموا في القرنين الأولين من قرون الإسلام كان يهمهم للغاية أن يُحسنوا قراءة المصحف الشريف وينطقوا أصواته نُطقاً عربياً خالصاً ولم يروا الى ذلك سبيلاً إلاّ بعد تعميق المطالعة لأصوات اللغة العربية وإحكام إنتاجها، فيظهر أنّ حدوث علم الأصوات عند العرب مقرون بنشوء علم التجويد، كما أنّ الصرف والنحو نشأ مصاحبين لشرح القرآن والشعر)(7).

ونورد هنا تعليقين الأول للدكتور صبيح التميمي الذي كتب مقدمةً لمحاضرة شاده، وهي عن الدراسات الهندية للصوت إذ يقول د. صبيح: (من الاختلاف بين الأصوات العربية والهندية أنّ الأبجدية الهندية تعتمد على نظام المقاطع نحو (با، خا، حا) أما العربية فاعتمادها على الأصوات المفردة مثل (ب، ت، ث) وأنّه يوجد اختلاف في ترتيب الأبجدية اختلافاً كبيراً)(8). وأنّ شادة قد ذكر أنّ منشأ دراسة الصوت عند العرب كان بسببٍ ديني وهو حسن أداء تلاوة القرآن أول ما بدأت، ونعتقد أنّ البحث الصوتي عندما بدأ عند العرب وخاصة عند الخليل كانت فكرته ليست قرآنية تماماً بل هي لإيجاد أولوية الحروف في النطق كي يرتب الخليل معجمة وفقاً لذلك ولهذا بدأ بالعين لاعتقاده أنّه الأول، ولم يكن مقصدة قرآنياً، أما سيبوية فإنّه لم يدرس الأصوات لتحسين الأداء والتجويد القرآني وإنما كانت دراسته للصوت متأخرة أي في نهاية كتابه وفي باب الإدغام وتحليل هذه الظاهرة (الإدغام) صوتياً وصرفياً، وهكذا سار سيبويه عكس الدراسات الحديثة (الأصح أنّ الدراسات الحديثة سارت عكسه) التي تبدأ بالبنية الأصغر وهي الصوت وتتدرج الى الأكبر (النحو) ولكنه لم يكن همّه البنية العامة قدر ما كان تفسير ظاهرة الادغام وتحليلها. أما التعليق الثاني فهو قول هنريي فليش:

(أما النحاة العرب الأقدمون فإنّهم لم يعالجوا في مؤلفاتهم النحوية علم الأصوات لذاته، بل لكي يستطيعوا تفسير الإدغام، فعلم الأصوات هو إذن من أوليات الإدغام وقد عالج سيبويه الإدغام في نهاية مؤلفه، وأنهى الزمخشري كتابه المفصل بباب الإدغام واتبع ابن يعيش شارح نص المفصّل النظام نفسه وينتهي كتاب الجمل للزجاجي بالإدغام كذلك ويُنهي ابن الحاجب كتابه الشافية بباب الادغام وكذلك رضي الدين الاستراباذي شارح الشافية يذكر الإدغام في نهاية شرحه للشافية)(9).

وأمّا ابن جني فهو لم يكن إلاّ طالباً نجيباً لمدرسة البصرة ولسيبويه ولم يخرج عن إطارها العام إذ كان تابعاً لسيبويه(10) الذي كان بارعاً في وصفه للأسنان وتقسيمه للأصوات إذ لم يتجاوزه اللاحقون به كثيراً على الرغم من إمكانياته المعرفية المتواضعة آنذاك إذ (تتجلى براعته في وصفه التفصيلي للأسنان وفي تقسيمه لها مبتدئاً من الوسط الى الثنايا والرباعيات والأنياب والأضراس وتفسيمه أيضاً للسان الى: حافة اللسان ووسطه وطرفه وذلقه، وعلى الرغم من هذا التدقيق والتفصيل لدى سيبويه فإنّه لم يكن يعرف الحنجرة ولا أجزاءها ولا لسان المزمار ولا موقع الأوتار الصوتية من الحنجرة وقد ترتب على ذلك أنه عرّف الأصوات المجهورة تعريفاً ناقصاً فيه كثيرٌ من الإبهام لغياب أهمية الأوتار الصوتية لديه في تحديد الجهر والهمس كما عرّفها المحدثون تبعاً للأوتار الصوتية)(11).

وقد عذَرَهَ شادة في ذلك، فهل نريد من الرجل معرفة ما جاء به العلم بعده بمئات السنين (فالرجل كان يَعرف الأسنان لأنها مكشوفة للرؤية، وأما الحنجرة وأجزاؤها وعملها فتقتضي ملاحظتها الرجوع الى التشريح وما أظن سيبويه إلاّ يجترئ لأن بعض الآلات كمنظار الحنجرة أو الأشعة المجهولة لم تكن بين يديه)(12).

  هناك ملاحظة أخرى مهمة أَشَكلَ شاده فيها على سيبويه وهي في عدد الأصوات التسعة والعشرين التي حددها سيبويه دون أن يضع الحركات القصيرة ضمنها لأنّه لم يكن يهتم بتلك الحركات إذ يقول: (اتفق اللغويون المعاصرون على تقسيم أصوات اللغة الى قسمين الأول ما يُسمى في العربية الأصوات الصامتة وهي الحروف والثاني ما يُشار إليه بالحركات ومجموع الصوامت والحركات في العربية هو أربعة وثلاثون صوتاً، والحركات في العربية نوعان، قصيرة وهي الفتح والضمة والكسرة وطويلة وهي الألف والواو والياء، وقد لاحظ شاده أنّ سيبويه ومن قبله الخليل قد أغفل الحركة ضمن الحروف العربية فسيبويه ومَنْ جاء بعده يرى أنّ الحركة ما هي إلاّ تلوين أو صبغ للحرف الذي يسبقها، ويظهر ذلك جلياً عند سيبويه في موضعين)(13).

  ولكن الأمر يختلف عند الدكتور هنري فليش فهو قد أكدّ في بحثه على أهمية الحركة عند ابن جني بل أن بحثه يكاد يتفّرد بهذا الموضوع، وهو أهمية الحركة عكس ما ذهب إليه شاده بقوله: (لقد أغفل الحركة مَنْ جاء بعد سيبويه).

  وهناك ملاحظة أخرى يحاسب شاده فيها سيبويه حول إغفاله أحد العوامل المؤثرة في إنتاج الصوت، وسيبويه لم يغفلها حقيقةً بل لم يؤكد عليها، وعوامل إنتاج الصوت هي (ثلاثة:

تيار النَفس الخارج من الرئة.

العارض الذي يعرض له، إما في الحنجرة وإما في الفم وإما بين الشفتين أو بين الشفة السفلى والثنايا العليا.

العامل الثالث: هو الرنين الذي يحدث في الفم أو للأنف أو في الصدر... وهذا العامل زهيد الأهمية في دراسة سيبويه وسبب ذلك أنّ سيبويه لم يعرفه)(14).

فسيبويه قد عرف الأول والثاني ولكن العامل الثالث وهو الرنين الذي يحدث في الفم وهو (غير المقصود بالرنين الفيزياوي (الاهتزاز) بل التفخيم الذي يصاحب الصوت بسبب التجويف الأنفي أو الفموي فهو والغُنّة والأوتار عوامل تقوية للصوت وليست عوامل إنتاج له)(15).

ومن الملاحظات التي أشكل شاده فيها على سيبويه مصطلح المخرج الذي لم يوضحّه سيبويه بدقة فقد خلط سيبويه كما يرى شاده بين المخرج والمقصود به مجرى الصوت وبين موضع إنتاج الصوت فقد (استعمل سيبويه كثيراً مصطلح المخرج وجمعه (المخارج) وقَصَدَ به الموضع الذي فيه يُولَد الصوت اللغوي وهو استعمال جانبه التوفيق، لأنّ المخرج هو الطريق الذي يتسّرب منه النَّفَس الى الخارج، أما الموضع فهو مكان اتصال عضوين من أعضاء النطق عند النطق بالصوت فطوراً يكون اتصالهما محكماً بحيث يُحبس النفس لحظة بعدها ينفرجان فجأة ويكون هذا مع الصوت الشديد كالدال والتاء والكاف ونحوها وطوراً يكون اتصال العضوين غير محكم بحيث يُترك بينهما منفذ صغير يسمح بمرور النَّفَس ويكون هذا مع الصوت الرخو كالذال والزاي والسين ونحوها)(16). وقد أيّد الدكتور إبراهيم أنيس ما ذهب إليه شاده أنّ سيبويه قد اضطرب لديه مصطلح المخرج ولكنّه لم يوافق شاده على اقتراحه تغيير معنى مصطلح المخرج الذي استعمله سيبويه لأنّ هذا المصطلح اشتهر بين الدارسين، ولكنّ حّل هذا الإشكال  أن يُطلق مصطلح المجرى والمقصود به طريق النَّفَس من الرئتين حتى الخارج ويبقى مصطلح  المخرج الذي أطلقه سيبويه محصوراً في نقطة معينة هي منطقة خروج الصوت وإنتاجـه في موقع محـدد مــن هــذا المجرى(17).

وإشكال آخر يرد عند الدكتور هنري فليش على دراسة العرب للصوت اللغوي، هو انحصار البحث في دراسة الحرف إنتاجاً فقط(18), ولم يتطور البحث الصوتي العربي عند القدماء الى مرحلة أكبر من مستوى الصوت أي مستوى المقاطع أو التنغيم أو التنوع الموسيقي، وبالرغم من هذا يُعد الدرس الصوتي العربي مفخرة من مفاخر العرب في هذا المجال فقد أشاد بذلك الباحثون الذين تعرضنا لهم.

ولا ننسى أنّ دراسة الكندي للأصوات جاءت في معرض دراسته لِلَّثْغَةِ، ولهذا ألَّفَ رسالةً في اللَّثغةَ كونه فيلسوفاً طبيباً، وكذلك الحال مع ابن سينا الطبيب كذلك الذي كتب (رسالة في أساليب حدوث الحروف) محاولاً تشريح جهاز النطق وفق المنظور الطبي والأمر نفسه في دراسة الفارابي للصوت فقد كانت على هامش دراسته للموسيقى وخاصة في كتابه (الموسيقى الكبير)(19).

*  هوامش البحث  *

(1) يُنظر عن ذلك:

أ ـ المستشرقون نجيب العقيقي، دار المعارف، القاهرة، سنة 1979،  2/448

ب ـ  جهود المستشرقين في التراث العربي بين التحقيق والترجمة للدكتور محمد عوني عبدالرؤف 2/609.

ج- مقدمة الدكتور صبيح التميمي لمحاضرة شادة علم الأصوات عند سيبويه وعندنا، مركز عبادي للدراسات والنشر، صنعاء، اليمن، سنة 2000م.

(2) مجلد 2/307.

(3) تغير الجيم الى ياء في لهجات شبه الجزيرة العربيةـ ترجمة الدكتور سعد مصلوح، مجلة مجمع اللغة العربية في القاهرة، جزء26، سنة 1970م، ص194.

(4) المصدر نفسه، ص183.

(5) بحث في فونولوجيا اللغة العربية، مجلة الفكر العربي، بيروت، العدد8-9، ص173.

(6) علم الأصوات عند سيبويه وعندنا، شاده، مجلة مجمع اللغة العربية في القاهرة، عدد105 سنة 2005، ص298.

(7) المصدر نفسه، ص299.

(8) مقدمة د. صبيح التميمي، ص30.

(9) التفكير الصوتي عند العرب، هنري فليش، مجلة مجمع اللغة العربية في القاهرة، جزء23، سنة 1968، ص53.

(10) ينظر المصدر نفسه، ص55.

(11) الدرس الصوتي للعربية بين سيبويه... ، د. رجب عبدالجواد، مجلة مجمع اللغة العربية في القاهرة، عدد105، سنة 2005، ص286.

(12) علم الأصوات عند سيبويه وعندنا، شاده ص300.

(13) المصدر نفسه ص311.

(14) المصدر نفسه 301.

(15) مقدمة د. صبيح التميمي هامش ص27.

(16) الدرس الصوتي للعربية بين سيبويه... د. رجب عبدالجواد، ص293.

(17) الأصوات اللغوية د. إبراهيم أنيس، مؤسسة النشر في الاسكندرية، سنة 1985، ص113.

(18) يُنظر التفكير الصوتي عند العرب ص88.

(19) يُنظر البحث الصوتي عند الفارابي د. حامد ناصر الظالمي بحث منشور في مجلة أبحاث البصرة، جامعة البصرة، سنة 2000.

***