البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

نقد الخطاب الاستشراقي وجدلية الشرق والغرب ، ادوارد سعيد انموذجاً

الباحث :  أحمد شحيمط
اسم المجلة :  دراسات استشراقية
العدد :  14
السنة :  السنة الخامسة - ربيع 2018م / 1439هـ
تاريخ إضافة البحث :  June / 13 / 2018
عدد زيارات البحث :  5185
تحميل  ( 395.883 KB )
مقدمة

الخطاب الاستشراقي في ميزان النقد والتعرية من قبل المفكر العربي إدوارد سعيد الذي حاول سبر أغوار هذا الخطاب للنفاد إلى الفكر الغربي وتبيان نزعة المركزية الغربية ومضمون الخطاب الموجه للآخر. لذلك انكب المثقّف الغربي في المغامرة الاستكشافية والعلمية في تفاصيل وجزئيات الحياة العامة للعرب والمسلمين، وفي كل مقومات الفكر العربي والواقع الاجتماعي، وأنتج الغرب كمًا من المعطيات عن الشرق، تحولت الدراسات والرحلات إلى مذهبٍ فكريٍ متماسك، ومواقف تغلغلت في السياسة والفكر واستمرت في المخيال الاجتماعي. يتغذى الاستشراق على الأمل في الاستحواذ على الشرق معرفيًا، وتغيير بوصلته بالهيمنة عليه، وتفكيك المجتمع المتماسك وجدانيًا، حيث استوعب الغرب أن سبب تماسك الشرق ما يتضمنه من إشراقٍ وروحانيات، منبع الأديان ومهد الرسالات والنزوع بحدةٍ إلى غزوه واستعماره، هكذا نعثر في كتابات إدوارد سعيد على الربط بين الاستشراق والاستعمار، والإمبريالية والسلطة، والثقافة والمقاومة، فوظيفة المثقف العربي الالتزام بقضايا الأمة، والكشف عن زيف عالم السياسة في المخططات المرئية واللامرئية. وإن كان المفكر إدوارد سعيد التمس من فوكو مفهوم الخطاب ومن غرامشي مفهوم الهيمنة ومن جاك دريدا التفكيك وآلية النقد من تياراتٍ أدبيةٍ وفلسفية، فإن المسألة لا تغدو أن تكون سوى أدواتٍ في الفهم والتحليل ليس إلا، أدواتٍ في النفاد إلى الفكر الغربي الذي رسمته أقلامٌ غربيةٌ لكنها بقيت وفيةً للخطاب الاستشراقي الاستعلائي للغرب، وغير صادقةٍ ونزيهةٍ بقضايا الشرق خصوصًا فلسطين، وهذا يستدعي تساؤلاتٍ ممكنةً عن التناقض في مواقفهم إزاء قضايا معاصرةٍ كالصهيونية وقيام إسرائيل ومسألة فلسطين والعراق وكل المعارك الدائرة في الشرق، يجب أن يكون المثقف في وضعه الطبيعي ملتزمًا بميدان عمله منتجًا المفيد لمجتمعه، ومن يمتلك ملكاتٍ وقدراتٍ في التأثير والإقناع، وكشف زيف الاستعمار المهدد للبناء النفسي والاجتماعي للشعوب، فالاستعمار واحدٌ حسب فرانز فانون، سواء وجد في المارتينيك أو في الجزائر أو العراق، غاية المستشرقين العودة بالفائدة والمعرفة من سبر أغوار الحياة في الشرق ورفع النقاب عن الحياة الشرقية التي ظلت عصية الفهم والاستيعاب بالوسائل الحربية، الاستشراق السافر والاستشراق الكامن واحد. وأكثر ما يلوم إدوارد سعيد المثقف غير الملتزم بقضايا الأمة، المثقف الذي ينبغي أن يمتلك حسًا من المعقول والثبات على المبادئ والقناعات دون الذوبان في سياسة تقويض الثقافة والهوية، أي استقلالية المثقف عن كل أشكال السلطة التي تشرعن للاستعمار والإمبريالية، وتخرس الأفواه عن لعبةٍ تُدار ويتم نسج خيوطها تحت دوافع شتى أشكال الهيمنة السياسية والثقافية والاقتصادية على الشرق بدعوى التفوق ونزعة الأقوى، من هنا تأتي تأملات إدوارد سعيد في نقد الخطاب الاستشراقي وتحليل جدلية العلاقة بين الشرق والغرب، في سياق تفكيك هذا الخطاب المحمّل بالعداء للآخر وخصوصًا الشرق، دون أن تكون دعوته إلى الصراع الحضاري، إنما للكف عن الدسائس والمخططات في تكريس التفوق والتبعية للغرب الاستعماري الذي يعلو خطابه نحو محو الهوية وتدمير الإنسان تحت نزعةٍ مركزيةٍ استعلائية.

ــ أولاً ــ

جدلية الشرق والغرب

تهيمن فكرةٌ مركزيةٌ من قبل المؤرخين والدارسين للثقافات والحضارات هي فكرة التمييز بين الشرق والغرب، من الناحية الجغرافية، الذي يشمل شرق المتوسط وامتداده شمالًا وجنوبًا، الصين والهند وبلاد فارس وروسيا واليابان والشرق العربي، والغرب بالمواصفات الجغرافية أمريكا وأوروبا وأستراليا، بينما يكون الفرق الأقوى من جهة الثقافة والحضارة وكل مظاهر الحياة السياسية والفكرية والاجتماعية، الغرب وريث الحضارة اليونانية واللاتينية، والشرق وريث الثقافات الشرقية القديمة، وجدلية الصراع بين الشرق والغرب ساهمت في التقسيم والنفور بدل التكامل والتجانس، ما في الغرب من تنويرٍ وعقلنة، وما في الشرق من إشراقٍ وروحانية، هكذا يعتبر الغربُ وريث الشرق من حيث الديانة المسيحية، والإنتاجات العلمية والفكرية التي عرفت نموًا في الحضارتين الفينيقية والبابلية، وقربُ الحضارتين من اليونان فتح نقاشًا بين المؤرخين والفلاسفة للقول بالصراع والتلاقح بين الشعوب والثقافات. لكن المشكلة كما يثيرها الكثيرون أن الغرب المسيحي أصيب بعدوى التفوق والهيمنة بدايةً من الاكتشافات الجغرافية الكبرى، والتغيُّر الذي أصاب المجتمعات الغربية من جراء الثورة الصناعية والسياسية، وظهور بوادر المرحلة الرأسمالية، والجديد في عالم التقنية والآلة، الفكر هنا أضحى ماديًا والعقل أداتيًا يسعى في تطويع الطبيعة وعقلنة المجتمعات. فقد أصيب الغرب بالزهو، واعتقاده أنه يمتلك زمام كل شيء، وتكبر على كل من لم يكن من جنسه من الملونين، وجعل التاريخ محوره تاريخ أوروبا قديمًا ومتوسطًا وحديثًا، ويكاد يهمل تاريخ غيره من الصين والهند والفرس والعرب، والعجيب أن كثيرًا من الشرقيين وقعوا في مثل هذا الخطأ، فقدسوا كل ما يأتي من الغرب، واحتقروا كل ما يأتي من بلادهم([1])، فمن الأكيد أن الغرب نفد إلى ثقافة الشعوب الأخرى وعمل على تحويرها وخلخلتها، وأظهر الفكر الغربي المسلح بالعلم الطبيعي والعلوم الإنسانية والفكر الفلسفي أن الذات لا يستقيم وجودها إلا بالآخر المخالف، طبائع البشر وصفاتهم تتحكم في تكوينها العوامل البيئية والمناخية، والعوامل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، يتم قراءة الشرق على ضوء فلسفة الأنوار وعصر النهضة، والطفرة العلمية والصناعية التي بوأت الغرب المكانة والصدارة في القرن السابع عشر، جدلية السيد والعبد في فلسفة التاريخ عند هيجل سرّعت بالنتائج التالية التي انتهت إلى إبراز التفوق للحضارة الغربية الممثلة أكثر في العالم الجرماني، وتبديد الصراع الفكري والوجودي وتذويبه وفق منطق المنفعة المتبادلة بين الطبقات الاجتماعية، لكن الفكر الفلسفي العقلاني ظل وفيًا للقراءة الخطية للتفوق الغربي، من اليونان والرومان وأخيرًا ميلاد الغرب الحديث، فأنتج الغرب العلم والقيم العقلانية وآليات التحليل والفهم للأنا والأنا الآخر، هذا يعني تعميم العقلانية الغربية في السياسة والثقافة والحياة عبر عقلنة الفرد والمجتمع، وإحداث التطابق بين العقل والواقع، في جدلية العلاقة بين الشرق والغرب ينتقل الفيلسوف هيجل في العوالم المختلفة، العالم الشرقي والعالم اليوناني والعالم الجرماني، لذلك يستقي الفيلسوف أفكاره من الرحالة والمستكشفين ومن أقوال الذين زاروا الشرق، ويقيس الثقافة بمقياس العقل الذاتي الغربي واستنادًا على المنهج الجدلي الذي يصف تجليات الروح والوعي من الذاتي إلى الموضوعي، ويذهب هيجل إلى أن الحرية في العالم الشرقي غير موجودة، وكل ما عرفه الشرق هو أن شخصًا واحدًا حر: هو الحاكم، أما المواطنون فهم جميعًا عبيدٌ لهذا الحاكم. غير أن هيجل ينبهنا إلى أن حرية الحاكم لم تكن سوى انسياقه وراء أهوائه وانفعالاته ونزواته([2]). العالم الشرقي الذي اتخذ في فلسفة التاريخ الهيجيلية مسارًا عقليًا، وعيًا ذاتيًا مكتملًا باكتمال الفكر في بعده الذاتي والموضوعي، وتجليًا للروح الموضوعي في وجود المؤسسات والنظم المختلفة والحرية المنقوصة في العالم الشرقي تحققت نسبيًا في العالم اليوناني والروماني، حيث تعيّنت عند البعض، أما التحقق الفعلي للحرية والقيم العقلانية فقد تحققت في الأمم الجرمانية بتأثير من المسيحية، أول الأمم التي تصل إلى الوعي بأن الإنسان بما هو إنسانٌ حرٌ([3]). ومن يمعن في مضمون الفكر الغربي يستخلص نتائج جمةً عن قيمة الخطاب المهيمن في الفكر الغربي الذي ما فتئ يقارن ذاته بالفكر الشرقي، من زاوية امتلاك المعرفة والسلطة، ومن خلال التساؤل عن البدائل في تغيير ثقافة الشرق، سلاح الغرب المنهج التجريبي والدراسات الميدانية لما يدور في القرن العشرين من إرهاصاتٍ فكريةٍ كلاسيكيةٍ محمّلةٍ بالعداء للآخر، ومنسجمةٍ مع الخطاب الاستشراقي الممتد إلى المراحل الأولى من ظهور المستشرقين، طبقات من المستشرقين كتبوا عن الشرق، وصفوا مظاهر الحياة الدينية والاجتماعية، وتسللوا للتراث وأقاموا أبحاثهم على الشك والنقد لكل ما هو متماسك. أكثر الدراسات أقيمت عن الإسلام كعقيدةٍ وسلوكٍ عند المسلمين، صورةٌ نمطيةٌ ترسخت بفعل الدراسة السطحية والإيديولوجية للإسلام والعالم الإسلامي، هواجس ومخاوف في الشعور واللاشعور من جراء الحروب التاريخية ضد المسلمين، صورة الإسلام في الإعلام الغربي، في البرامج والمناهج التعليمية، النمطية السردية في قراءة الإسلام على ضوء الثورة الإيرانية وحروب الخليج، والمستجدات في عالم الحركات الأصولية أو ما يكتب عند مفكرين غربيين متعصبين، منهم المستشرق المعاصر برنارد لويس في كتابه "عودة الإسلام"، الذي يعتبر أن الإسلام لا يتطوّر ويجب أن يوضع المسلمون تحت الرقابة، ونسب كل الصفات السلبية للمسلمين، وتتساوى النظرة القدحية للإسلام في السياسة الأمريكية بين اليسار واليمين، تغذيها الأحداث والصراعات في المنطقة العربية والحادي عشر من سبتمبر، وينزاح الإعلام الغربي إلى إسقاط الوقائع على الإسلام، وإن الغرب مهووسٌ بالقراءة الاختزالية للتاريخ والأحداث من زاوية العداء للإسلام. إن كل كلامٍ عن الإسلام يسعى إلى تحقيق درجةٍ ما من السلطة أو القوة([4])، الكلام من منطق السياسة والاقتصاد، وما تتوفر عليه المجتمعات الإسلامية من طاقاتٍ بشريةٍ وخيراتٍ مادية، واختزال الإسلام في الأحداث التي تقع في الشرق الأوسط من الثورة الإيرانية واحتجاز الرهائن أو حرب الخليج والحركات الأصولية، صور تغذي الإعلام الغربي، وتغذي الفكر الذي يزداد ثباتًا أن الإسلام دين العنف والترهيب وما شابه ذلك، وتتأكد الدراسات الاستشراقية المعززة بالقوة الاستعمارية التسلطية في حاجة الشرق إلى التغيير والتنوير، وأن سبب تخلّفهم وانحطاط عقولهم هو الإسلام لما في الدين من انزياحٍ نحو العنف والقوة وإرغام الآخر لاعتناقه، صورةٌ ليست بالجديدة في العقل الغربي لكنها قديمةٌ طُبعت بفعل الصراعات. والمد الإسلامي نحو أوروبا، وبقي هذا الخوف قائمًا إلى الآن، وبدا للغرب أن الإسلام وحده هو الذي لم يستسلم تمامًا في أي يوم للغرب، وعندما بدا أن العالم الإسلامي يوشك أن يكرر انتصاراته القديمة من جديد في أعقاب الارتفاع الكبير في أسعار النفط في أوائل السبعينات، سرى في جسد الغرب كله ما يشبه رجفة الرعب([5]) تتحول القضية من مجال السياسة والمصالح المشتركة إلى إبداء الرأي في الدين والعقيدة ومحاكمة الإسلام. الدافع للقطيعة الاقتصادية، وتتحرك المنابر الإعلامية والرأي في حملاتٍ دعائيةٍ ممزوجةٍ بالعداء للإسلام والمسلمين، وتنتقل الصورة من الكلام إلى باقي المجالات من السينما والإعلام والتأليف، يعني ببساطةٍ أن الاستشراق تغلغل في مناحي الحياة الاجتماعية والسياسية، ورسم الاستشراق فكرة التعاطي مع الشرق الأوسط بالذات ككيان غير قابلٍ للذوبان أو غير طيّعٍ في تقبُّل الأنوار ونمط الحياة الغربية، والصور المتدفقة عن مجرى الأحداث تنم بالفعل عن التحليل، الذي وصل فيه المفكر والمثقف إلى أن الشرق لا يمجّد الحرية وحقوق المرأة والطفل، ولا يحترم الحريات الفردية والجماعية، أسير للاستبداد والاستعباد، خبرة الغرب بالإسلام محدودة ومناقشة جوهر الإسلام في الثقافة الأمريكية والغربية مبنيةٌ على الآني من صناعة الإعلام للحدث المتعلق بالمسلمين، حرب أفغانستان والعراق والحادي عشر من سبتمبر، والتغطية المكثفة للعرب والمسلمين مردها بالأساس إلى الخيرات الطبيعية الغنية بالنفط والموارد الأخرى، وغنية بالطاقات البشرية والمقاومة الثقافية لكل هيمنةٍ أو سلطةٍ خارجية، محركها ما في القيم الإسلامية من واجبات نحو صد الغريب. والآخر العابر من العالم الآخر نحو فرض هيمنته بالقوة، الشرق يأبى الخضوع والاستلاب، في جينات الإنسان الشرقي الميل نحو الحرية والتحرر من الاستعباد، الثقافة غير منفصلة عن المقاومة حسب إدوارد سعيد، وأشكالها ممكنةٌ وفق استراتيجية الشعوب في رفض الاستعباد والتحرر من نير المستعمر ومقاومة الإمبريالية بالمعرفة. فعندما يكتشف المفكر العربي جدلية الصراع بين الشرق والغرب من جانب واحد. إدوارد سعيد كتابٌ مفتوحٌ على العالم حسب جورج شتاينر، يقلب صفحات التاريخ ويلمس عمق الفكر ويحفر في أعماق الذات الغربية، عن الهيمنة التي ترسّخت في أذهان السياسيين، والمعرفة التي شُيدت وفق منطق المستشرقين، يستعين الأركيولوجيا الفوكوية كآلية للحفر في تاريخ الفكر الغربي، يدل أن منطق التعاطي مع الشرق الإسلامي بالذات يحمل بذور ثقافة تشكلت في بنية العقل الغربي، يسافر المفكر بعيدًا نوعًا ما في التاريخ ويلم بجزئيات وكليات الأحداث، يستعين بالذاكرة والخيال الخصب في رؤية ما وراء السطور، من المنفى يخترق الغرب، ويجول في رحاب النظريات الأدبية والفلسفية واللسانية، وينفتح على السياسة في الثبات على قضية فلسطين، قضية وجودية وإنسانية، محلية وكونية، ويمنح القارئ تأويلاتٍ وقراءاتٍ في واقع السياسة والإيديولوجيا، التي تشوه الشرق الأوسط الذي يُختزل في الإرهاب والعنف والرفض للقيم العقلانية التنويرية، ويضع إسرائيل فوق الجميع، حق الفلسطيني أن يعيش في أرضه، الحق التاريخي والوجودي الذي لا بديل عنه في عودة الإنسان من المنافي والشتات، هنا تتجلى مسؤولية المثقف في الالتزام بالدفاع عن الإنسان، والاغتراب الذي نعانيه والتيه الذي يخترقنا مرده إلى سياسة التسليع ومقايضة الكرامة بالمصالح والمنافع، سياسة ميكيافيلية شعارها "الغاية تبرر الوسيلة". أنا شديد الايمان بوعي الفرد، وهذا هو الأصل في كل الجهد الإنساني، لا يمكن للفهم الإنساني أن يحدث على مستوى جمعي إلا بعد أن يحدث على المستوى الفردي، لكن وعي الفرد في عصرنا قد جرى قصفه([6])، مشاكلنا جمة، سبب النكسات والأزمات. فالاستشراق نفد إلى عقولنا وزعزع ذلك الشك في ثقافتنا وساهم في تبدد الجماعة، أوهمنا بالمحاسن في ثقافتنا، فقط علينا أن نركب تيار التنمية ونقبل بالتحديث والإقلاع، ويكون ذلك بمثابة اللحاق بالركب والإسراع بالتقدم. فالحل في تفكيك البنيات التقليدية واختيار الليبرالية كأسلوبٍ في التدبير والتسيير، في المقابل أنتج الاستعمار نخبًا تقليديةً تابعةً له في الفكر والمنهج، وتبادل الاستعمار الإنجليزي والفرنسي والأمريكي الأدوار والوظائف في لعبة تفتيت الشرق، المشكلة هنا تغدو أكثر من الفرد والجماعة، إنها سياسةٌ راسخةٌ في لعبة الكبار موجهةٌ بالرغبة الجامحة في تدمير الثقافة وعولمتها وخلق شرق بمقياس الغرب الاستعماري والإمبريالي، هذا الشرق الروحاني والوجداني، لا يمل من مقاومة كل نزعةٍ تنويرية، كانت آسيا تمثّل للغرب في يوم من الأيام الابتعاد الصامت والاغتراب، وكان الإسلام يمثّل العداوة المحاربة للمسيحية الأوروبية، وكان التغلب على هذه الثوابت الجبارة يتطلب المعرفة أولًا، معرفة الشرق، ثم غزوه وامتلاكه، ثم إعادة خلقه على أيدي الباحثين والجنود والقضاة الذين نبشوا مكامن ما سقط من الذاكرة من لغاتٍ وتاريخٍ وأجناسٍ وثقافات([7])، جدلية الصراع التي تعني اكتساح الغرب للشرق معرفيًا، والسؤال الذي يطرح ذاته، كيف يمكن أن يواجه الشرق الغرب؟ طرح المفكر المصري حسن حنفي مسألة الاستغراب، العلم المناقض للاستشراق، الذي يستدعي التخصص وإتاحة المجال للبحوث في قلب المدنية الغربية، أو بناء نماذج للعلوم الإنسانية العربية في أطروحات تنطلق من استلهام ابن خلدون، ومن الدراسات الرشدية في قراءة ابن رشد وكل ما يتعلق بالأنسنة في الفكر العربي، وفي عمق الخطاب القومي العربي تتجلى العوائق الصادة في التنمية والتقدم، عوائق ذاتية في الفرد، وصعوبات جمة في الجماعة، مشاكل نفسية وأزمات اجتماعية. نسينا أن مشكلتنا ليست فيما نستحق من رغائب، بل فيما يسودنا من عادات وتقاليد وما يراودنا من أفكار، وفي تصوراتنا الاجتماعية([8])، ولو قُدّر للفرد العيش مدةً من الزمن، سيدرك لا محال النتائج في الفرد والأسرة، تخلّفٌ فكريٌ مزمنٌ تغذيه الأسباب الذاتية والموضوعية، ويزداد الأفول في تغلغل الاستشراق والفكر الآخر إلى اعماق ذواتنا، بفضل سلطة المعرفة والمناهج في الدراسة، وتغيير طرائق الحياة والفكر حتى يستقيم وفق منطق الغرب، مشكلتنا فكرية، نابعة من تقديرهم لذواتنا وثقافتنا، وتقدير سلطة الآخر العلمية والفكرية. يمتلك الغرب العقل الصناعي والسياسي، وكل الثورات الناعمة في مجال الفكر والمجتمع والإنتاج الأدبي والفلسفي، ويُختزل العقل الشرقي في الشاعرية والوجدان والقلب، وكل مظاهر الانحطاط والتبعية. إن مشكلة كل شعبٍ هي في جوهرها مشكلةٌ حضارية، ولا يمكن لشعبٍ أن يفهم أو يحل مشكلته ما لم يرتفع بفكرته إلى الأحداث الإنسانية، وما لم يتعمق في فهم العوامل التي تبني الحضارات أو تهدمها([9])، وقائعنا تُفهم بآليات الآخر واستلهام ما في الفكر الغربي من نماذج حتى ننقسم إلى تياراتٍ فكريةٍ وإيديولوجياتٍ مغلقةٍ تتبنى الفكر في شموليته، ويتم إسقاطه في مناقشة قضايا العرب والمسلمين. فمن الأكيد أن الاستشراق الغربي نفد إلى أعماق ذواتنا بنوعٍ من الحيلة والذكاء، الذي يحيل إلى قوةٍ ما في تراثنا من بطولاتٍ وملاحم، أحكام تركتنا نعيش على الماضي ونرفض كل ما هو دخيل وجديد بدعوى البدع، أو شمولية ما يوجد في ثقافتنا من خصائص متكاملة، رفضنا الفلسفة وسددنا سهام الرفض العنيف بالإحراق للكتب والنبذ للفلاسفة في المجالس العامة أو محاصرة الفكر الفلسفي، والوحدة بين رجل السياسة والفقيه والجمهور، وتركنا العقول فارغةً يعشعش في أعماقها الجهل والتخلف، وهكذا يبقى الضمير الإسلامي في دوامة صراعه الباطن، يسكنه أحيانا ما يكتبه المادحون، ويثيره أحيانا أخرى ما ينتجه الناقدون، وقد استمر هذا الصراع منذ قرن في حلقةٍ مغلقةٍ، مستهلكًا أجدى الطاقات الفكرية في العالم الإسلامي من دون جدوى، من دون أي تأثير حقيقي على تطور العقلية الإسلامية([10])، صورة من الإطراء والتمجيد لما في تراثنا من لمساتٍ يتقرب بها المستشرقون من الشرق، ويكيلون المدح عن هذا الكيان العجائبي والغرائبي والمميز بالسحر والتأثير في أعمال المستشرقين الكبار أمثال ماسينيون وسيديو وغوستاف لوبون وإرنست رينان... دراسة الشرق مبنية على الأحكام القطعية المسبقة، في الفكر الأكاديمي العلمي والفلسفي، تقسيم في سمات العقلانية وما رافقها من إرادةٍ نحو المعرفة والسلطة، وحرية الفعل والاختيار للنماذج الممكنة في عالم السياسة والفكر، فالغرب ساهم في تشكيل نظرية السلطة في الفكر التعاقدي لدى توماس هوبس وجون لوك، وجاء العقد الاجتماعي باعتباره ميثاقًا مبنيًا وفق إرادة الشعب وسيادة الإنسان على ذاته، ووفق خيار الإعلاء من قيمة الفرد وحريته في الالتزام بالبنود والفصول المؤسسة للقواعد الجديدة في ممارسة السلطة، قواعد سائدةٌ في تكريس سلطةٍ واقعيةٍ مستمدةٍ من الينابيع الأولى للثقافة اليونانية في تمجيد الفرد، وتمكين الجماعة من المشاركة السياسية في صناعة القرار، والثبات على الملكية الفردية وحق الإنسان في الإنتاج والانتماء للمجتمع، مواقف متماسكةٌ في أبعادها السياسية والاجتماعية والثقافية، والتي ساهمت في بناء الفكر الغربي وميلاد الدولة الحديثة، من هنا جاءت النزعة المركزية الغربية المبنية على سلطةٍ بقواعد مغايرة، تحولت لاحقًا إلى أداةٍ قمعيةٍ في جلد الثقافات الأخرى، وتقزيم مكانتها الحضارية لأنها ببساطةٍ لا تستجيب للنماذج المطروحة في الفكر الغربي، وللخطاب الذرائعي الذي يتغنى بالتسامح والتعايش وحوار الحضارات بدافع الالتقاء بين الشرق والغرب، وإن التفرقة مردها إلى نعراتٍ عرقيةٍ قوميةٍ أو أسبابٍ دينيةٍ، مدفوعةٍ بالتعصب والغلو أو عدم الفهم العميق للشرق الذي تحول في الدراسات الاستشراقية إلى مراجعات ومناقشات في قراءة الشرق على ضوء مستجدات الأحداث السياسية التي عمل إدوارد سعيد في تشريحها وتبيانها للقارئ العربي، وما ترمي إليه من أهدافٍ وغاياتٍ كتشويه الإسلام والحفاظ على الصورة النمطية التي تكرست في الثقافة والفكر، وتعززت بفعل الإعلام الموجه نحو الشرق الأوسط في متابعة الأخبار الواردة عن الصراعات الطائفية وأخبار الثورة الإيرانية، والحرب العراقية الإيرانية، وحرب الخليج. قوة الإعلام الغربي في رسم صورة جامدة عن الشرق، حملات الغرب وحروبه لم تصب الهدف في إرغام الشرق على تغيير ذاته وثقافته العريقة، فكيف يمكن للعقل الغربي الأداتي أن يغيّر الثقافة التي سبقت الغرب في ظهوره؟ احتكاك الغرب بالشرق في الاندلس ومنذ وجود الدولة العثمانية، حملة نابليون على مصر، والاستعمار للبلدان العربية الإسلامية. فالغرب مدفوعٌ بالمعرفة، والخطاب العلمي وآلية الفهم للشرق قصد الاستعداد لغزوه وبالتالي تغيير معالمه الثقافية حتى يستوعب صدمة التنوير والعقلانية، تحويل التمركز من الذات نحو الآخر، الخروج من الأنا المطلقة في تفرّدها وتميّزها معرفيًا وفكريًا كذاتٍ تأسست على منطق الشك في كل سلطةٍ معرفيةٍ غير بديهيةٍ غير سلطة العقل، والعقلانية كصورة يقينية رفعت من قواعد المعرفة، ورسمت طرائق في البناء للذات وفق معيار العلم الطبيعي والمناهج المتعددة في البحث والتقصي، فلسفة ديكارت العقلانية ونزعة بيكون التجريبية وقوة العقل اللامتناهية في تطابقه والواقع أي الفكر الفلسفي الحديث الذي تأسست عليه عقلانية الغرب في مقابل روحانية الشرق، الذي ظل استاتيكيًا وعاطفيًا منغمسًا في ماضي التقاليد والعادات، فكرة هيجل عن العالم الشرقي من الصين والهند والحضارات الشرقية القديمة. حيث النماذج المصاغة في الغرب لا مثيل لها من صورةٍ راقيةٍ للعقلانية في السياسة والفلسفة والفن والحياة الاجتماعية، انتقلت الصورة العقلانية من الفرد إلى الدولة كأرقى التنظيمات السياسية، الدولة بمثابة الروح الموضوعي، ومن تجليات الوعي العملي الذي تعينت معالمه في صورةٍ ماديةٍ واقعية، هكذا يتجلى الشرق في تمثلات الغرب، وتتحول الصورة إلى رغبةٍ في الاستيعاب معرفيًا والسيطرة بواسطة خطابٍ يتميز بالليونة والعقلنة، ينفد في عمق الممارسة السياسية، ويطور العلم الإنساني نحو التحول لدراسة الشرق والتمهيد لغزوه والسيطرة عليه كسبيلٍ وحيدٍ في خلخلة البنيات التقليدية، ومنها استمد الاستشراق الفكرة القائلة بالسيادة على الشرق معرفيًا وليس بالقوة العسكرية، فكان الغرب هو الذي يتحرك نحو الشرق، لا العكس، والاستشراق هو "اسم الجنس" الذي استعمله في وصف مدخل الغرب إلى الشرق. فالاستشراق هو المبحث الذي استطاع الغرب بفضله (ولا يزال) أن يتناول الشرق بالبحث العلمي بصورةٍ منتظمة([11])، والشرق العربي والإسلامي المقصود من العملية، هناك فرق بين عقلانية الغرب وروحانية الشرق، ما يشد اللحمة والتماسك بين أهل الشرق تلك الثقافة التي تغلغلت في القلوب والعقول والتشبث بالهوية وأصالة الإنسان الشرقي، من الصعوبة أن تقتلع الإنسان من كيانه ووجوده مهما كانت قوة الثقافة الغربية والخطاب الساعي للاقتلاع وبتر الثقافة عن منابعها وأصولها، من بعيد يترك إدوارد سعيد المكان ويعود إليه بقوة حاملًا في قلبه ولعًا وعشقًا للأرض والإنسان والثقافة، حاملًا مشعل الحق وقول الحقيقة في تعرية الاستشراق، وما يملك من خطاباتٍ إيديولوجيةٍ توسعيةٍ وسياسةٍ إمبرياليةٍ في حق الوجود التاريخي للإنسان الفلسطيني في أرضه، ومن يفكك أوصال الاستشراق ويكشف عن الخبايا الكامنة والظاهرة، وإمكانية إنصاف بعض المستشرقين الذين تميزوا بالموضوعية والحياد في دراسة الشرق دون تبجيل للماضي أو دون تهويل وتهوين، وتلك النظرة المستفادة من الدراسات الاستشراقية، ألوانٌ من التعاطي مع الشرق بدافع المعرفة وإذابة ثقافته وانصهارها في الثقافة الغربية، عندما يعبّر فرانسيس فوكوياما عن نهاية التاريخ، فهو بالتأكيد يعني نهاية القوميات والفكر المضاد للفلسفة الليبرالية. ويجزم على القيم الرأسمالية والعقلانية التي تجد أساسها في الفلسفة السياسية عند هيجل وعقلانية توماس هوبس، والنماذج العقلانية الشرعية في سوسيولوجيا ماكس فيبر ضد كل التصورات المناقضة في الفلسفة الماركسية وحتمية الصراع التاريخي في انهيار الرأسمالية، وتلك العدمية التي جعلت فريدريك نيتشه يفند الثقافة الغربية وينذر بسقوطها في كشفه عن الإنتاج العقيم الذي يتخلل الفكر بفعل هيمنة الفكر  المضاد للغريزة والحياة، ويعكس هذا الفكر الأوهام والانحطاط. فالخوف الذي يطبع الثقافة الغربية في الفلسفة السياسية والدراسة الاستراتيجية لدى صامويل هنتغتون في صراع الحضارات وتكرار السؤال عن الهوية والثقافة والآخر (كتاب "من نحن")، إرهاصاتٌ ومخاوف وتحذيرات من الآخر، هواجس لا تنتهي مدفوعةٌ بالخوف اللاشعوري من الآخر، الخطر الأخضر (الإسلام) والخطر الأصفر (الصين)، مخاوف عايشها إدوارد سعيد ونشر كتاب "تغطية الإسلام"، صورة الإسلام في الأخبار، الإعلام الأمريكي وتشويه الحقيقة واللعب على أوتار الحوادث الجزئية وتصوير الإسلام العدو المركزي للثقافة الغربية، وتترسخ الفكرة القائلة إن السلام مستحيل مع الإسلام، ولو تماهى الغرب مع فكرة فرانسيس بيكون بتحطيم الأوهام الأربعة في البحث والمعرفة لوضعت الأقواس عن كل معرفةٍ جاهزةٍ أو نأخذ بالفكرة الديكارتية "مسح الطاولة" ونستلهم من فوكو الأركيولوجيا ومن هوسرل القصدية في النفاذ والتحري عن منطق الحقيقة الصادقة، الإسلام رسالةٌ سماويةٌ في الوحدانية، أما الحروب التي أشعلت تحت دوافع عنصريةٍ ودينيةٍ واستئصاليةٍ فهي حروب انتهت إلى اعتراف الأقلام الصادقة والمحايدة للمزيد من الفهم والتعايش بين الشرق والغرب. فالفكر الاستئصالي لا يخلو من ثقافة تنميه العوامل السياسية، والنزوع نحو سفك الدماء ومحو الآخر من الوجود. أما قولة الشاعر الإنجليزي رودرياد كبلينغ "إن الشرق هو الشرق والغرب هو الغرب ولن يلتقيا أبدًا"، فتلتقي واستحالة بناء جسور علاقةٍ يطبعها الود والاحترام، والاعتراف بالآخر ككيانٍ مستقلٍ بقيمه وثقافته، وإن التلاقح وتبادل المنافع مسألةٌ محمودة، في غاية المصلحة والمنفعة للكل، بدل تقويض العلاقة وتحديدها في الهيمنة والسيطرة على الشرق بالمعرفة والخطاب التحريضي الإيديولوجي المدفوع من نصائح المستشرقين الناقمين على الشرق بدافع التعصب الديني والسياسة الإمبريالية.                                            

ــ ثانيًا ــ

نقد الخطاب الاستشراقي

الاستشراق هو الدراسة الثقافية والمعرفية للحضارات الشرقية في التمهيد للفترة الاستعمارية، القرن الثامن عشر والتاسع عشر ومرحلة الاستشراق المعاصر أو ما بعد المرحلة الكولونيالية، ويحرص الغرب في فهم الشرق بتراثه العريق وحضارته الضاربة في أعماق التاريخ لاستعماره وتغيير جذوره بالمعرفة المحمّلة بالعلم والتقنية، ونشر الأنوار، وإذا كانت المواجهة العسكرية في الحروب التاريخية وحملات الفرس واليونان المتبادلة، والصراعات في الحروب الصليبية، جاءت بالنتائج المحدودة، فإن الغزو الفكري والمعرفي أشد قوةً في الولوج إلى قلب الشرق قصد التأثير فيه معرفيًا وبالتالي السيطرة عليه، فكرةٌ ترسخت في أذهان الباحثين وأصحاب القرارات السياسية، والتطابق بين الموقفين حدا بالآلة العسكرية للتقدم نحو الشرق، مزودة بالخرائط والدراسات، في طبيعتها معرفة وافية بالذهنيات، نفائس من المخطوطات والكتب التي توفرت للمستشرقين، ونماذج من الأبحاث ذات الطبيعة التبشيرية في مغزاها التبشير بالمسيحية التي جاءت أصلا من الشرق ومكون للهوية الشرقية، في طيات التوجه محاولة رد المسلمين عن دينهم وهدم الإسلام ونقل صور سطحية وجاهزة عن حياة الإنسان الشرقي. إن الاستشراق حمل أعباء الأعمال في ميادين المعرفة الأكاديمية واستخدم البحث العلمي في تحقيق أهدافه فلجأ إلى الكتابة والتأليف والمحاضرات والمناقشات العلمية والمؤتمرات المنتظمة، وتأسيس كراسي لدراسة الشرق في جميع مناحي الحياة([12])، كان الاستشراق استجابةً فعليةً مباشرةً للمنظومة الفكرية التي أنتجته، ومن أكثر المناطق عنايةً العالم العربي والإسلامي المنقسم إلى كياناتٍ وطنيةٍ متنافرةٍ بعد بوادر الضعف والتراجع للإمبراطورية العثمانية. لعبت حملة نابليون على مصر دورًا في مد الاستشراق بالمادة الخام عن الشرق، دور الرحلات في وصف الشرق مدفوعةٌ بالرغبة النفعية في اكتشاف الطرق الموصلة إلى الشرق، عصرٌ جديدٌ للبحث عن الموارد وتعميم النموذج الرأسمالي، الذي يضمن الهيمنة والسيطرة على الشرق معرفيًا واقتصاديًا وسياسيًا، اكتمل الاستشراق من خطابٍ علميٍ إلى مؤسسةٍ إمبرياليةٍ، هكذا تشكلت فكرة إدوارد سعيد في نقد الخطاب الاستشراقي من الدراسة التأملية العميقة في مرامي الاستشراق في القرن الثامن عشر والتاسع عشر، وامتداد الخطاب الاستشراقي للسياسة والثقافة، تلون الاستشراق بألوان الإمبريالية والفلسفة الوضعية والطوباوية والتاريخية والداروينية والعنصرية، والفرويدية والماركسية والشبنجلرية([13])، خطاباتٌ ونظرياتٌ شكلت دائمًا بنية الفكر الغربي الميال للنزعة العلمية الوضعية التي جعلت الفرنسي أوغست كونت مثلًا يحدد مراحل التطور البشري في المرحلة اللاهوتية والميتافيزيقية والوضعية، في الداروينية والبقاء للنوع البشري، الصراع والبقاء للأقوى، في الماركسية والصراع بين طبقات اجتماعية شرط وجود نواةٍ للمجتمع الصناعي... فمن الأكيد أن المفكر إدوارد سعيد في انفتاحه على المجال الفلسفي والنقد الأدبي والفكر الاستشراقي، ومدى تأثيره في صياغة وتشكيل الشرق وفق مقياس الثقافة الغربية، أدرك مخاطر الاستشراق. فكرةٌ واحدة عن الشرق بالمواصفات السائدة في الإنتاج الأدبي والفلسفي والتاريخي  والإعلامي، دليلٌ على نظرية التفوق ونزعة الاستقواء. والمواقف الاستشراقية المعادية التي تغمر الصحافة والتفكير الاجتماعي، إذ يُظن أن العرب قومٌ يركبون الجمال، إرهابيون، أنوفهم معقوفة، فاسقون، مرتشون، وأن ثروتهم لا يستحقونها إهانةً للحضارة الحقيقية([14]). فالنبش في بنية الفكر الغربي يمنح الصورة الفعلية عن روح الفكرة المهيمنة على ذهنية الغربي، مفادها الانتقاص من الشرق، كتابات لامارتين وشاتوبريان، إرنست رينان، لورنس وبل، إدوارد لين وماسينيون وبرنارد لويس... فالعرب في الكتب الدراسية الأمريكية تكشف عن أغرب المعطيات والمعلومات الخاطئة، ملاحظات إدوارد سعيد المدونة في كتابه القيم عن الاستشراق ليست عشوائيةً أو سطحيةً لأن المفكر نبش في تاريخ الأفكار وقلب صفحات المستشرقين الإنجليز والفرنسيين، وكتب عن المرحلة الكولونيالية، والتمس طرائق التفكير في التعامل مع الشرق، مضيفًا حقائق جديدةً عن الدراسات الاستشراقية. فالمستشرقون جسد واحد، أهداف مشتركة، نوايا كامنة وظاهرة، اختلاف في الأسلوب والمقاربة العلمية، نوازع أيديولوجيةٌ واضحة، محركها الدوافع الدينية والمعرفية والاقتصادية والسياسية، وصياغة القرارات المناسبة للتوجه صوب الشرق، وتتحول أعمال المستشرقين أنفسهم للمقارنة بين أعمالهم، رحلاتٌ ذاتيةٌ استكشافية زادت في حيرة الباحثين عن سحر الشرق وسر الغرب في الانجذاب إليه بدافع معرفته أو بدافع التمهيد لغزوه، لا تهدأ التعليلات والنوايا إلا بتحويل الشرق إلى كيانٍ غربي، يفكّر بالطرق العقلانية ويتبنى النماذج الغربية في كل مناحي الحياة، تحالفات بين المشروع الاستعماري الغربي والمشروع الصهيوني في زرع إسرائيل في قلب العالم العربي، هنا يرصد سعيد جانبًا ذاتيًا في كتابه "خارج المكان"، سيرة ومسار فلسطينيٍ عانى من المنفى والاغتراب، اقتران حكايته الشخصية بحكاية كونراد، ذاكرة تأبى النسيان، وذات مهووسة بالحب والحنين للوطن، وكيانٌ مدافعٌ بشراسةٍ عن فلسطين الأرض والمكان والإنسان والوجود، مهما تكالبت الأصوات متهمةً إياه بالأوصاف التي تنم عن قدرة الصوت العربي في الدفاع عن عدالة القضية الفلسطينية، وتحويلها من قضيةٍ قوميةٍ إلى قضيةٍ عالميةٍ وتغيير آراء كثير من الفاعلين والمثقفين في الغرب. أدرك سعيد أن المعرفة سلطة، والخطاب الذي يكرس للمعرفة مفعمٌ بالقوة المادية والدراسات التي تؤثر في شريحةٍ واسعةٍ جدًا من الشعوب الغربية، وأن الاستشراق ساهم بتزويد الخبراء وصناع القرار في الحلف الغربي الإسرائيلي بالمادة البحثية المناسبة عن الشرق، هذا الشرق توقف عن النمو والتطور في رأي إرنست رينان صاحب كتاب "ابن رشد والرشدية"، الذي وقف عند مسألة تأثير فلاسفة الإسلام بحكماء اليونان دون تحليل جانب الإبداع، وتأثير ابن رشد في الفكر الفلسفي الغربي، بل كان رينان يعتبر الساميين نموذجًا لتوقف التطور والنمو([15]). فالعرب والمسلمون أبدعوا في الشعر وعلم اللسان وإتقان النثر وليس في الفلسفة والفكر العلمي، والغرب في هيمنته على الشرق ينطلق من فكر المستشرق كمسلماتٍ قطعية. فليس في التراث الشرقي إلا المعاني المرتبطة باللذة الحسية والميل للاستبداد والشخصية العامة للشرقي مجموع القسمات والسمات المميزة التي تضافرت في إطارها العوامل الجغرافية البيئية والتاريخية والثقافية والعوامل الأخلاقية الروحية، عوامل في خدمة السياسة والاقتصاد، وإتاحة المجال للفهم والتعمق في بنية الشرق الفكرية والعقائدية، مجتمعاتٌ انقساميةٌ بالمعنى الأنثروبولوجي، تمكث فيها الطائفية والمذهبية والقبلية، منطقها التغلب والتسلط والعصبية كما في التحليل الخلدوني، ووضوح الرؤيا في المقاربة الفلسفية للمفكر المغربي محمد عابد الجابري، وتحليل الواقع العربي والشخصية العربية في سوسيولوجيا علي الوردي، تناقضات البيئة العربية وتشكيلاتٌ من طبيعتها التعدد والتنوع في المكون العربي والإسلامي، إلا أن التناقضات والانقسامات إذا دخلت السياسة صارت بالفعل قاتمةً وتنذر بالأزمة المزمنة، يكون الإقصاء والاستئصال دوافع سائدةً، وكل طرفٍ يدّعي العصمة والحقيقة، المِلل والنِحل تهدد النسيج الوحدوي العربي ويجد فيها الاستشراق الجديد منبع الفتنة والقلاقل السياسية والمذهبية، وتتحول إلى صورٍ تغذّي الذهنية الغربية لإصدار الأحكام عن الإسلام والمسلمين، وما فتئ المفكر إدوارد سعيد يبرز ذلك في الإعلام والسينما وفي الأدب والفكر، ويربط العلاقة بين القوة والمعرفة ويعود في قراءة الإيديولوجية الغربية المسلطة على الشرق إلى القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، قرون الصدمة العلمية والثورات المعرفية والصناعية في الغرب، التي انتهت بالعلمانية واقتصاد السوق والعولمة، وكل ما في الشرق خضع للدراسة العلمية، من العادات والطقوس والتقاليد والإسلام والمرأة والقبيلة... رحلاتٌ لا تنتهي، استكشافيةٌ وعلمية، وأمام تعدد الآراء وكثرة الدراسات بسبب التضارب، تتيه الحقيقة ويتخبط المستشرقون أمام شرقٍ ينفلت من الدراسة أو على الأقل يستدعي دراساتٍ جديدة، ولا تفسر الدافع نحو الاهتمام بالشرق في غياب الدافع المضاد نحو فهم الغرب (الاستغراب مثلًا). يرغب سعيد في استخدام القيم الإنسانية الغربية ضد الميراث الإمبريالي في الثقافة الغربية، يقتحم النزعة المركزية الغربية في نماذج من المفكرين كتيودور أدورنو وغوته وغرامشي وفيكو وفرانس فانون ودريدا، ويستلهم آليات النقد من تيارات ما بعد الحداثة، ورجاحة الفكر النقدي عند سعيد في إنصاف بعض المستشرقين خصوصًا ماسينيون، وتتجلى رؤيته في التلاقي بين الشرق والغرب في أفضل صورها حين يهاجم الغرب ويحمله المسؤولية الكبرى عن غزو الشرق واستعماره، وعن هجماته الضارية على الإسلام، فلقد كان ماسينيون مدافعًا لا يكل ولا يمل عن الحضارة الإسلامية([16])، الغرابة الشخصية بالشرق موجودة، والنزعة نحو الفهم وتأصيل العلاقة بعيدةٌ عن الأحكام الجاهزة والمطلقة في دراسة الشرق. عُرف ماسينيون بدراسته للتصوف وتاريخ النظم الاجتماعية في الإسلام، لذلك أفرد عبد الرحمن بدوي في كتابه "موسوعة المستشرقين"([17]) مجالًا للكتابة عن ماسينيون وعنايته بأسرار الصوفية والمتصوفة، والفن الإسلامي... إن الاستشراق الحديث لا ينفصل عن السياسة والاستعمار الغربي للشرق، والكتابات الاستشراقية غير المنصفة، التي تدّعي الموضوعية والصرامة العلمية، شوّهت كثيرًا بالنوايا الغربية وأزاحت الستار عن الدوافع الاستعمارية حتى من الذين كانوا يناصرون البروليتاريا (ماركس وأنجلز) ويعتبرون أن سبب أزمة العالم يعود إلى الرأسمالية التي تنتهي باستفحال الإمبريالية واستغلال الشعوب، ولذلك كان منطلق الماركسية مثلًا مناصرة كل القوى المناهضة للرأسمالية وكل أشكال الاستغلال والاستيلاب والدعوة إلى مقاومة ذلك عبر التغيير والثورة، سرعان ما تتحول هذه الأفكار نحو فكرة استعمار الشرق قصد تغييره، وخلق نموذج الصراع الممكن بين البروليتارية والبورجوازية وإمكانية قراءة التغير على ضوء الصراع الطبقي، إدوارد سعيد يفنّد التناقض في الموقف الماركسي ويطرح جملةً من الأسئلة عن النظرية، والخلفية الفكرية، ومدى التطابق بين المادية التاريخية والمادية الجدلية، وهل فكرة خلق الطبقات الاجتماعية وخلخلة بنيات المجتمع الشرقي شرطٌ لقيام الصراع الطبقي؟ في الشرق صراعاتٌ تاريخية، حضاراتٌ قوية، مذاهب كثيرةٌ وكياناتٌ سياسيةٌ متنافرة، لا يمكن بأي حال أن يُختزل الشرق في نظرية ما، إنما يجب أن يُفهم وتُمنح المصداقية للأقلام الحرة في خلق علاقةٍ تواصليةٍ من الاعتراف المتبادل بين الشرق والغرب، لكن الصورة النمطية عن العرب والإسلام باقيةٌ في الثقافة الغربية، يرصدها إدوارد سعيد في مجالاتٍ عدة، فلسفة الاستشراق ما تركت مستوى إلا وأودعت فيه شكوكًا وأفكارًا، من تقزيم دور اللغة العربية، إلى تصغير مكانة الإسلام ومحاولة بث الريبة في نفوس المسلمين، والحط من قيمة الرسالة الإسلامية ومن النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ثم التدرج إلى الفن والأدب والفلسفة والتاريخ، دواليب الحياة الفردية والاجتماعية، والعدو الأكبر عند الاستشراق الغربي الإسلام، يعني التركيز على العالم الإسلامي أكثر من باقي دول الشرق كالصين والهند. فالتصدي للنزعة الاستشراقية كان موجودًا عند المثقف العربي بين الميل للحذر من سموم الدراسات وقوتها المعرفية في نشر الشك والانقسام، وبين الرفض الشديد لكل ما يكتب عن الشرق من محاسن أو مساوئ، كل مفكرٍ عربيٍ متنورٍ ويقظٍ في شد الانتباه إلى لعبة الاستشراق والاستعمار يدرك جيدًا أن الشرق كان موضوعًا للحيازة والإدماج، ومنذ نهاية القرن الثامن عشر، حين اكتشفت أوروبا الشرق في سياق عصره ومسافته وثرائه، تحول تاريخه إلى أمثولة عن القدم والأصالة، وهما الوظيفتان اللتان شدتا مصالح أوروبا في أفعال الاعتراف والإقرار، واللتان ابتعدت عنهما أوروبا حين لاح أن تطورها الخاص الصناعي والاقتصادي والثقافي بعيد وراء ظهرها([18])، كتاباتٌ فلسفيةٌ وتاريخيةٌ وأدبيةٌ وفنيةٌ تعبّر بصراحةٍ عن أن التراث الغربي مبنيٌ منذ البداية على الموروث الثقافي اللاتيني واليوناني واليهودي، لا دخل للشرق في نهضته أو تقدمه، وإن كان المفكرون العرب الميالين إلى القول بأثر العلم والفلسفة في الفكر الغربي فإن الآراء الغربية المتعددة من مؤرخين وإبستيمولوجيين تنحو صوب الجزم بالثورات العلمية والقطائع المعرفية، وبناء معرفة من إسهامات العلم الطبيعي والعقلانية الغربية التي جاءت نتيجة مخاض الفكر في صراعه مع الكنيسة والاستبداد وعوامل مساعدة في الحرية والتحرر، ونقد الاستشراق عند إدوارد سعيد سبر أغوار الفكر الاستشراقي ومراميه الاستعمارية والإمبريالية، مسلحًا بسلطة المعرفة والدراسات الوصفية والتفسيرية للشرق والآخر بصفة عامة، لا نريد أن نكون نُسخًا باهتةً عن الغرب في إرغامنا على التفكير من قلب النظريات المنتجة في فهم ذواتنا، أن نكون ببساطةٍ بنيويين على شاكلة فوكو وستراوس، وتفكيكيين مثل جاك دريدا، وننتمي إلى تيار ما بعد الحداثة على شاكلة ليوتار وجيل دولوز، ووجوديين على مقياس هايدغر وسارتر وسيمون دوبوفوار... يعرف سعيد أن مناصرة قضايا الشرق لا تأتي إلا من أهل الشرق، هؤلاء يفكرون خارج بوتقة الشرق، مواقفهم من فلسطين والاستعمار الغربي للشرق، والحروب الشرسة الدائرة في حلبة الشرق، أحيانًا نتفاجأ بالمثقف العربي الذي يحلل المشهد الثقافي والسياسي في العالم العربي والإسلامي بالأدوات الاستشراقية، سرعة الأحكام والخلفية المنهجية المستقاة من نظريات ما، تشكل الإطار المرجعي للفهم والتفسير، نقاد سعيد يعتبرون النقد طبيعي، فكان أن اتخذ عددٌ كبيرٌ من المتخصصين المتقدمين في هذا الحقل موقفًا دفاعيًا في تعاملهم مع الكاتب، ورأى بعضهم أن إدوارد سعيد ظلم المستشرقين المتعاطفين مع العرب بتعميماته، غير أن الجيل الجديد من الأساتذة  والطلبة في مراكز الدراسات العربية والشرق أوسطية أصرّوا على ضرورة تدريس كتاب الاستشراق في الجامعات الأمريكية([19])، مهما كان النقد للمستشرقين والاستثناء موجودًا (ماسينيون مثلًا) فالدراسة تكشف عن منطقٍ جديدٍ في قراءة الاستشراق بوصفه جهازًا ثقافيًا وقوة سلطةٍ منتجةٍ للخطاب الاستعماري والإمبريالي، شواهد بينة وأفعال مادية من القرن العشرين، مسألة هيمنةٍ وسيطرةٍ لا مسألة صراع الحضارات والثقافات كما توهمنا العلوم السياسية والسوسيولوجيا، كونية المثقف أو علمانية المفكر لا تمر دون الإفصاح عن نوايا النقد للخطاب الاستشراقي بالاستعانة بمفكرين غربيين وعرب، مدين للأرض والوطن، ذو ثقافةٍ عالميةٍ وتكوينٍ غربي، منفتح على الهامشي والمنسي وناقد للنصوص والسياسات، غير قابلٍ للتنميط والقولبة بشتى معانيها، يجسد سلطة المثقف العضوي الرافض للهيمنة، فلا يصح أن يكتفي المثقف بتأكيد أن شعبًا ما قد سُلبت أملاكه أو تعرّض للظلم أو للمذابح، أو لإنكار حقوقه ووجوده السياسي...([20])، القضية تتجاوز منطق الاعتراف والتنديد، لأنها قضيةٌ وجوديةٌ مرتبطةٌ بالمشروع الغربي الاستعماري الاستيطاني، خطاب سلطوي بالقوة الناعمة المهيمنة على العقول والقلوب تشكلت بفعل أدواتٍ غير منصفةٍ مغلفةٍ بتزييف الحقائق، يدرك سعيد كما أدرك نيتشه وفرانس فانون أن الحقائق المزيفة، التي ترسّخت بفعل أدواتٍ وأساليبَ مصيرها التلاشي وانبجاس عصر من الصدق واليقين الذي يغير من الحقيقة المزيفة، الأمر ينطوي على فوكو في نزعته البنيوية وانهمامه بالذات والتاريخ المكتوب، والمنسي في أعمال البعض من الأقلام الصريحة، لم تجد طريقها نحو الظهور، بفعل انزياح المعرفة نحو عالم السلطة والقوة، إرادة مندفعة وجياشة نحو صياغة العالم والثقافة والسياسة، لا يوجد مثال أكثر دلالةً ومعنى من قضية فلسطين، في الماضي كان المستشرقون الأوروبيون المسيحيون هم الذين يزودون الثقافة الأوروبية بالحجج اللازمة لاستعمار وقهر الإسلام ولقهر وتحقير اليهود، أما اليوم فإن الحركة القومية اليهودية هي التي تنتج كبار المسؤولين الاستعماريين، وأطروحاتهم الإيديولوجية عن الذهن الإسلامي أو العربي هي التي تطبق في إدارة العرب الفلسطينين([21])، لا حاجة إلى السؤال، فالأمر يستدعي تبادل الوظائف والثبات على فكرة التحالف التاريخي بين الاستشراق والاستعمار، معالم الاستعمار التقليدي انتهت بالاعتراف الصريح للهيمنة والاستغلال للآخر، جاء العصر الذي يعني تصفية الاستعمار وإزالة ترسباته، جيرار لكيرك في كتابه "الأنثروبولوجيا والاستعمار" أوضح عدم حيادية المدرسة التطورية والوظيفية في دراسة الآخر، وتصوير الشعوب الأخرى بالمتوحشة والبدائية أو مجتمعاتٍ زراعية تعتمد الأنماط التقليدية في الإنتاج والاستهلاك، حيث اختفت فكرة الإنسان البدائي السعيد والطيب وحل محلها الإنسان البدائي المتحجر، أي النظر بعيون أيديولوجيةٍ استعماريةٍ للآخر في الشرق أو في أفريقيا. ليست العلوم الإنسانية بريئةً في أهدافها، دراسات كولونيالية وصفية واستكشافية في قلب المكان حيث يتستر الغربي بالزي المحلي، ويوهم الكل بمغامرة الاكتشاف والبقاء، ونال الكثير من الدارسين في عالمنا العربي صفة أصدقاء العرب (جاك بيرك) والمنصفين للحضارة العربية الإسلامية (غوستاف لوبون ومكسيم رودنسون وماسنيون...)، ما أكثر المواضيع الآنية التي تغذي ثقافة الصورة في الغرب، الرقص الشرقي، المرأة الشرقية، الطائفية، ومسألة التقابل بين الأنوثة والذكورة في عالمٍ شرقيٍ تتجلى فيه هيمنة الرجل، والتقابل بين العرف والشرع، الطقوس الدينة والتقاليد الشعبية، البادية والمدينة، العرب وباقي القوميات، تقابلات لا تنتهي إلا عندما تشتعل الصراعات للتفرقة واللعب على أوتار الصراعات الضيقة، وقودها الطائفية والمذهبية والقبلية، بلقنة الشرق وتفتيته، وتصوير الصراع بين الشرق والغرب في الخطر الإسلامي، ودين الإسلام الذي يعزز الكراهية والتعصب، من الأقلام السوداء برنارد لويس الذي يعتبر من الحالات الجديرة بزيادة الفحص لأنه يتمتع بمكانة في المجال السياسي "للمؤسسة" الأنجلوأمريكية المختصة بالشرق الأوسط([22])، وكتاباته عن عودة الإسلام في الخطر الأصولي الذي يهدد قلاع الحرية، وأكثر الأديان خطرًا على الوجود الغربي عبر أسلمة المجتمعات الغربية، هنا أدرك سعيد أن الاستشراق مستمرٌ في ثقافة الغرب، في تقسيم العالم وفق محاور للشر والخير، يمكن أن يكون جون بودريار صادقًا حينما عبّر عن أسباب الإرهاب في العالم الذي أضحى مخيفًا وعائقًا في بناء عالمٍ مشترك. إننا نعتقد بسذاجةٍ أن تقدم الخير وازدياد قوته في كل المجالات (العلوم، التقنيات، الديمقراطية، حقوق الإنسان) يتطابق وهزيمة الشر، لا أحد يبدو قد فهم أن الخير والشر يزدادان قوةً في ذات الوقت وبنفس الإيقاع، وأن انتصار أحدهما لا يؤدي إلى انمحاء الآخر بل على العكس تمامًا([23])، خوفٌ وتوجسٌ من الآخر، العدو والبغيض والمهدد للسلم والوحدة، مواصفاتٌ متبادلةٌ في عالمٍ لا متكافئ من ناحية القوة والسلطة والتوزيع العادل للخيرات، مسألة فلسطين بالنسبة لإدوارد سعيد نقلةٌ نوعيةٌ في الوعي الفلسطيني ومؤشرٌ في رفع جدار الصمت والتعريف أكثر بالقضية الفلسطينية، من المحلية والقومية إلى العالمية، حكايةٌ تروى من مسافر خارج المكان، وعائدٍ إلى الوطن من جديد، مصمم على المقاومة الفكرية، للتعريف أكثر بالحق الشرعي والتاريخي، يقظة سعيد من تعرية الاستشراق ونقده بآلياتٍ غربيةٍ جديدةٍ في تفكيك الخطاب والحفر في أعماق التاريخ. فالسمة الجوهرية هي علاقة الخطاب بالتاريخ، فالخطاب الصهيوني كان منذ البدء خطابًا كولونياليًا، أي كان جزءًا من مبنى ثقافي-سياسي، أفرزته الحركة الكولونيالية التي أسست الإمبراطوريتين البريطانية والفرنسية، وكان في ذلك محاولةٌ لإيجاد حلٍ للمسألة اليهودية استنادًا إلى هذا الخطاب، وكجزءٍ منه([24])، خطابٌ مرتبطٌ بالمشروع الغربي، الأوروبي-الأمريكي، ويهدف إلى السيادة وتبرير الهيمنة. سياق التفكير الغربي بعيدٌ عن ثقافة الشرق، باستثناء ما يثيره الغرب في توظيف أشياء من الشرق كالزرادشتية واعتقادات الهنود وكونفوشية الصين، تحويل الشرق من كيانٍ حضاريٍ ذي تاريخٍ إلى معطياتٍ وثائقيةٍ وأرشيفٍ يتعرف فيه الغربي على الأنا الآخر، يتوقف إدوارد سعيد عند سيغموند فرويد مؤسس التحليل النفسي وصلته باليهودية ووقوعه أسيرا للنزعة المركزية الغربية، وتوظيفه الأسطورة في المجتمعات البدائية في تحليل الشخصية الفردية، انسلاخٌ عن الهوية الأصلية وتجسيد فكرة الاستعلاء في نظرة فرويد لغير الأوروبيين، الغوص في الأعماق النفسية، تجد استلابًا واضحًا للذات وتوجسًا من العداء الظاهر لليهود من قبل النازية، ولو تأملنا في عمق الكتابات لوجدنا بالفعل الشخصية الفرويدية القابعة في تحليل شخصية الإنسان في التربية والتنشئة الاجتماعية، وبالعودة للمكبوت في اللاشعور، أسبابٌ ذاتيةٌ وموضوعية، اعترف فيها فرويد بالحاجة إلى تربيةٍ غير قمعية، مضمونها العودة إلى ماضي الطفولة، وأسبابٌ واقعيةٌ نتاجًا للخبرة الإكلينيكية، والمعالجة السريرية للحالات المرضية، هنا ينتج فرويد إنسانا خاليًا من العقد الجنسية، ويمنح معنًى آخر في قراءة الشخصية الفردية والمجتمعات غير الأوروبية على ضوء مستجدات التحليل النفسي، خطابٌ جديدٌ مبنيٌ على الاعتراف النابع من ثقافة الإنسان الغربي في الإفصاح عن الأخطاء، ليس أمام الكاهن بل أمام الطبيب النفسي، ولهذا الطب نتائج في ترسيخ السلوك السوي في بناء الشخصية المتوازنة، وإسقاط آليات التحليل النفسي على باقي المجتمعات يولد قناعةً مفادها أن أشكال الأمراض العصابية والذهانية موجودةٌ بالفعل وعميقةٌ في النفس. يعرف إدوارد سعيد مرجعيات الفكر الغربي وخلفياته النفسية والاجتماعية والاقتصادية والفكرية ويقترح الخروج من بوتقة هذا الفكر  ذي النزعة المركزية بنقدٍ ديمقراطيٍ يستمد من الحق ومن كرامة الإنسان مبدأه، وعدالة المطالب الشرعية للشعوب التواقة للحرية والتحرر، لا بديل عن النقد والمقاومة، والمعارضة البناءة وقول الحقيقة مهما كانت نتائجها.                                                                             

ــ ثالثًا ــ

الاستشراق، السلطة، المقاومة

إن القارئ المنفتح على النصوص الأدبية والفلسفية يدرك بالتمام منهجية سعيد في انفتاحه على المقاربات الغربية من بنيويةٍ وتفكيكيةٍ ولسانياتٍ وأنثروبولوجيا، قراءةٌ وافيةٌ للتراث الغربي واطلاعٌ يوازيه ما يكتب لدى المفكرين العرب، من رواد الفكر القومي العربي ودعاة الحداثة، وباعتباره مفكرًا علمانيًا وليبراليًا، خارج المكان وداخله في نفس الوقت، الغائب الحاضر في صلب قضية فلسطين مدافعًا شرسًا وقلمًا ناقدًا، دراسته في نقد الخطاب الاستشراقي تنطوي على الجدة في التناول، والجرأة في الربط بين الاستشراق والمعرفة، وتكريس المؤسسة العلمية الغربية لدراسة الشرق قصد إرغامه في التطابق والتجانس مع ثقافته وسلطته المعرفية، هكذا ظلت الدراسات للشرق وصفيةً، جوهرها الرحلات والخطاب المهيمن على الباحثين من دونية الشعوب الأخرى التي لا زالت بعيدةً عن الأنوار والعقلانية، هذا النوع من الدراسة لا يحمل إلا بذور الشك والقولبة الذهنية للشعوب العربية، استشراقٌ مدججٌ بالمناهج العلمية والعقلنة في تفتيت الشرق إلى كياناتٍ متنافرة، يسهل الاستيلاء عليه وتقسيمه، سايس بيكو ومسألة البلقنة، وتمكين إسرائيل من إقامة دولة في أرض فلسطين وتحويل اليهود إلى أدواتٍ جديدةٍ في رسم خرائط للشرق الأوسط ومتابعة الفكرة القديمة في حلة جديدة، لويس برنارد مهندس سايس بيكو الثاني، مشروع رهيب، مبني إثر وصايا ودراسات للتغلغل في الشرق وإثارة النعرات الطائفية والمذهبية، وما يتكرر في الإعلام من الفوضى الخلاقة وميلاد شرق أوسطٍ جديد، وإنهاء القومية العربية وتعزيز منطق صراع الحضاري والثقافات، وخلق عدوٍ بديلٍ يتجلى في الإسلام، ومساندة الإعلام الفضائي في قلب الأوضاع وإثارة الثورات في العالم العربي وإلصاق تهمة الإرهاب والفساد بالعرب والمسلمين، والتحذير من سعيهم لتدمير النموذج الغربي العقلاني، وبالتالي الحل الوحيد تفتيت الشرق إلى كياناتٍ متصارعةٍ ودفع الشعوب للصراع القاتل لإعادة تشكيل الشرق وفق موازين القوة، تلعب إسرائيل دورًا مركزيًا، يُزال العداء التاريخي ويُحقق الاستقرار الدائم، وغايات أخرى قام بعرضها عادل الجوجري في كتابه "برنارد لويس سياف الشرق الأوسط ومهندس سايكس بيكو2" بالعرض والتحليل للمخططات التي كانت مهيأةً في الحروب الأخيرة على الشرق، السؤال لماذا الشرق بالذات؟ ولماذا يسعى الغرب للتحرك عدائيًا نحو الشرق؟ ببساطة منذ مدةٍ يمثل الشرق العربي والإسلامي بالذات تحديًا لأوروبا من الناحية السياسية والاقتصادية، وازداد الصراع والإقبال في الفورة البترولية التي كانت نعمةً ونقمة، حتى في ظل التبادل للخيرات المادية النفعية بين الشرق العربي والغرب، عقولهم تشكلت من هيمنة الفكر العقلاني ونهاية التاريخ الذي يعني اكتمال العقلانية كصورةٍ في كل المجالات، فلسفة الحداثة عند هيجل ونماذج ماكس فيبر وحكمة الغرب لدى الفيلسوف راسل وكل التيارات الفلسفية والأدبية، والنفسية والاجتماعية والثقافية، التي تحولت من معرفةٍ للبحث والتقصي في الظواهر المتعددة إلى خطابٍ مهيمنٍ في الثقافة الغربية، كل معرفةٍ بذاتها سلطة في الإرغام والامتثال من منطلق القوة وموازين القوى المرئية وغير المرئية، رغبة الغرب الملحة في السيطرة على الشرق معرفيًا وسياسيًا واقتصاديًا، إرادة المعرفة والحقيقة والرغبة في إبراز قدرة الذات على إرغام الآخر في الانصياع، حق القوة بحجم ما يمتلك الغرب من قدراتٍ علميةٍ وأدواتٍ منهجيةٍ في المعرفة والهيمنة، هنا يلتقي إدوارد سعيد مع الفيلسوف ميشيل فوكو بعد تصفية الحساب مع النصوص الاستشراقية، للثبات على فكرة أن الشرق لا يمكن أن يُعرف نصيًّا أو بناءً على رحلات المستشرقين. والموضوعية الزائفة التي تعني في جوهرها خدمة المشروع الاستعماري الإمبريالي، وكل خطاب يخضع للدعاية والانتشار، للرقابة والمنع إذا كان غير متطابقٍ مع السلطة المرجعية التي أصدرته، والحال أن إرادة الحقيقة هذه ترتكز مثلها مثل سائر منظومات الإبعاد، على دعامة مؤسسية: فهي في نفس الوقت مدعمةٌ وموجهةٌ من طرف قدرٍ هائلٍ من الممارسات كعلم التربية طبعًا، ومثل منظومة الكتب، والنشر والطبع والخزانات، ومثل الجمعيات العلمية سابقًا أو المختبرات اليوم، ولكنها موجهةٌ أيضًا، وبشكل أعمق بدون شك، من طرف الكيفية التي استعملت بها المعرفة في مجتمعٍ ما([25])، يعاد توزيع المعرفة وتقييمها، وبالتالي نشرها وفق دعامة القوة المهيمنة على الخطاب تجاه أشكالٍ أخرى من الخطابات، شملها النبذ والحظر، موضوع الرغبة، خطاب معلن وغير معلن، والقلق الذي ينتاب مفكرًا مثل فوكو إزاء الخطاب، لا قلق ذات يقتلها الضجر والسام الفردي، بل قلقٌ منبعثٌ من عمق العقلانية الغربية، قلقٌ يحثه السؤال ويدعمه ما آل إليه الوجود وإحساسنا بالوجود([26])، من المسموع والممنوع إلى موقع الخطاب الصادر من المؤسسات التي تمتلك سلطةً في تقييمه ونشره وتوزيعه، ومسايرة الخطاب للثقافة السائدة المهيمنة على الحقل الاجتماعي والسياسي، خطاب كما أبرز بيير بورديو مركبٌ من الرأسمال المادي والرمزي في ميلٍ نحو إعادة الإنتاج وهيمنة الثقافة السائدة على الثقافة المسودة، حيث لا تتجلى سوى حقيقة واحدة، أحادية الحقيقة صادرةٌ من جهة واحدة موزعة، وبالمقابل نجهل الحقيقة أو بتعبير نيتشه غريزة الحقيقة في الكشف عن زيف الأوهام الناتجة من صنمية العقل والعقلانية ومن قوة الصوت المهيمن في سيادة الخطاب، والكتابات المسمومة، هناك إجراءات للمنع والرقابة وآلياتٌ في المعاقبة والنشر والتعميم، تقنية الخطاب تنطوي على السيادة وإقناع جمهورٍ واسعٍ من الناس في مصداقية الخطاب وقيمته النفعية والعملية وصوابية المنطق الذي يستند عليه، هذا الخطاب يذوب في المؤسسات التي تعمل على صيانته بناءً على السلطة، التي لا تعني ما دأبنا على معرفته في الأدبيات السياسية الكلاسيكية، من التعسف والإخضاع والقوة وأجهزة الدولة العاملة، إنما الاسم الذي نطلقه على وضعيةٍ استراتيجيةٍ معقدةٍ في مجتمع معين([27])، والسلطة بهذا المعنى استراتيجيةٌ مدروسةٌ ومخططٌ لها في الهيمنة والرقابة والتعميم بطرقٍ متشابكةٍ ومعقدة، تستند إلى فاعلين في حقولٍ متباينة، سلطة محايثة في عالم واقعي يزداد تعقيدًا وعسرًا في استيعاب مقاصد الفاعلين والنوايا القصدية والخفية. إن معقولية السلطة هي معقولية التخطيطات التي غالبًا ما تكون صريحةً في المستوى المحدود الذي تتم فيه، وهذه التخطيطات تترابط فيما بينها وتتناشد. وتنتشر واجدةً دعامتها وشروط وجودها خارجًا عنها([28])، سلطةٌ ملازمةٌ للخطاب والمؤسسات، لكن بقدر وجود سلطة توجد مقاومة، والمعرفة سيرورةٌ تاريخيةٌ محددةٌ سلطويًا ومفعمةٌ بالخطاب ومبنيةٌ على تصدعاتٍ وشقوقٍ في المعرفة التاريخية، الانفصال والاتصال في المعرفة والتغير الذي يصيب الإنسان والمجتمع، مما جعل الكثير يضعون فوكو في خانة البنيوية، دون أن تكون للفيلسوف وجهات نظرٍ في الأمور السياسية العالمية، ميزة الفيلسوف حسب إدوارد سعيد في جوانب منهجيةٍ عند زحزحة الحقيقة الراسخة في نزعة الغرب المركزية، السائدة في المعرفة التي شكلت موانع في نبذ الخطاب ومنع المعرفة من التجلي والتحقق، ثلاث منظومات من النبذ تضرب الخطاب: الكلمة المحظورة، تركة الجنون، إرادة الحقيقة([29])، الكلمة المكتوبة تخضع للانتقاء والرقابة، الصدق مقياسٌ في قول الحقيقة التي تمارس ضررًا على الذات المتكلمة، وإرادة الحقيقة في سعيها لنزع الغشاوة والقناع عن صدق الحقيقة، لا بد من العودة إلى الخطاب الذي تشكّل منذ زمنٍ وأصبح يفرض ذاته على الذات العارفة، لا شك أن الأركيولوجيا هي الأداة المناسبة في سبر أغوار الفكر والتاريخ، والكشف عن إرادة الحقيقة الغنية بالامتلاء والمعنى، ضد عالم اللامعنى، أو الكشف كما سماه هايدغر عن اللاحقيقة، الوجه الآخر للأقنعة التي حجبت عنا معرفة الحقيقة، العودة مع هايدغر إلى الاغريق الأوائل، حيث كان التفكير عميقًا وصادقًا في ملامسة الوجود، ومن ثم التأسيس للموجود وأصالة التفكير، ونلمس اهتمام فوكو بالثلاثي فرويد وماركس ونيتشه، كلهم استندوا على آلياتٍ في التأويل والنقد للمجتمع الغربي، ماركس والبعد الاقتصادي وأزمة الرأسمالية، فرويد والجرح الإبستيمولوجي في اكتشاف قارة اللاشعور المعتمة، وتأويل الأفكار ومراجعة السلوكات على ضوء مستجدات التحليل النفسي، ونيتشه في مطرقة النقد للميتافيزيقا الغربية بوصفها فكرًا ثابتًا ينذر بأفول الأصنام كحقائق يقينية بفعل العقل ومنطق الأفلاطونية والمسيحية والعقلانية الغربية من أفلاطون وديكارت وكانط وهيجل، جينيالوجيا في نقد الفلاسفة والعودة بالفكر الغربي إلى الزمن السابق على سقراط، زمن الحكمة والحكماء اليونان، زمن ديونيسوس وأبولون... المفكر العربي إدوارد سعيد دارسًا ومتأملًا في التراث الفلسفي الغربي الأدبي والفلسفي، أدرك قيمة القراءة الفوكوية للتاريخ المعرفي، وتوقف عند دلالة السلطة وغاية الخطاب المهيمن على المعرفة، واستنتج أن السلطة قوةٌ مهيمنةٌ في السياسة والفكر، وموزعةٌ في الحقل الاجتماعي ومستمرةٌ في التاريخ، موازين القوى في نقطها المتعددة، ميالة إلى استيعاب الآخر معرفيًا وتحويله إلى نصٍ مكتوب. والقطائع المعرفية في فلسفة فوكو تميل إلى تنميط العصر وفق ما ينتجه من أشكال السلطة وآليات المراقبة، لكن من منظور الاستشراق يبقى محكومًا بالمرجعية التقليدية. فالمستشرقون يتناولون أعمال بعضهم البعض، يحللون ويبدون آراء ومواقف تفيد في اتخاذ قراراتٍ سياسيةٍ إمبريالية، الشرق مجموعة من الإشارات والإحالات وحزمة من السمات والخصائص، خطاب الغرب تجاه الشرق لا يتغير في المخيال الشعبي والسياسي، وهكذا فإن الاستشراق، وهو نظام المعرفة بالشرق، يصبح مرادفًا للسيطرة الأوروبية على الشرق، وهذه السيطرة تنقض فعليًا غرائب أسلوب "بيرتون" الشخصي نفسها. ولقد أمضى بيرتون في محاولة عرض المعرفة الشخصية والأصيلة والمتعاطفة والإنسانية بالشرق إلى أقصى مدى متاح لها في صراعها مع أرشيف المعرفة الأوروبية الرسمية عن الشرق([30])، أرشيفٌ موزعٌ بين الرغبة الذاتية في اكتشاف سحر الشرق، والرغبة الرسمية في توجيه المعرفة والخطاب نحو أغراضٍ بذاتها، مركزية الإيديولوجية حاضرةٌ دون نكرانها وهذا ما حدا بإدوارد سعيد في كشف البعد الإيديولوجي في كل توجه نحو الشرق للدراسة، كيف يعقل أن ينتج مستشرقٌ معطياتٍ وحقائق بالشرق دون أن تكون موجهةً من قبل مؤسسات؟ النفعية سمات الغرب، والعلوم الإنسانية لا تخلو من أخطار على الشعوب الأخرى، مسلحة بالحياد والموضوعية، ملتمسة مناهج العلوم الطبيعية في دراسة المجتمعات الأخرى وتعميم المعطيات القائلة بضرورة التوجه نحو الآخر قصد تغييره، هذا الآخر في الشرق وإفريقيا الذي امتلك حضارةً ضاربة جذورها في التاريخ، هنا تتجلى مساءلة سعيد في الاستناد على مفهوم الخطاب والسلطة من فوكو، وتتبع الخطاب الغربي الصادر من المؤسسة الرسمية، والكائن في قلب العقول والإعلام عن الشرق، والإسلام، فلسطين وإسرائيل، العراق وإيران. وعن القضايا الجديدة التي استأثرت بالدراسة والمتابعة، من الإرهاب، إلى الثورات العربية والحروب، والدعوة إلى شرق أوسط جديد، تغلغل الفكر الاستشراقي في دواليب السياسة، بل يعتبر موجهًا أمينًا للسياسات الخارجية وفق ما يقدمه من دراساتٍ عن الثقافة الشرقية ونفسية العرب والمسلمين، حبائل وفخاخ تنصب هنا وهناك، يغذيها التحريض الإعلامي وثقافة الصورة، والحرب الاستباقية في عالم اليوم، والإرهاب العابر للقارات، والعنف الذي أصبح يستشري في العالم. طرح إدغار موران سؤالًا : هل نسير إلى الهاوية؟ ما يتعزز في تأملات سعيد الفكرية والسياسية أن سيرورة السلطة موجودة، مادية، تنتجها وتدعمها المصلحة الأحادية، موجهة بالنزعة الميكيافيلية "الغاية تبرر الوسيلة". لقد وجد سعيد من المفيد هنا توظيف مفهوم ميشيل فوكو للخطاب، كما وصفه في حفريات المعرفة وفي المراقبة والمعاقبة لتحديد هوية الاستشراق. إنني أرى أنه دون دراسة واختبار الاستشراق كخطاب، فلن يكون بوسع المرء فهم الانضباط الممنهج بشكلٍ هائل، الذي استطاعت الثقافة الأوروبية من خلاله إدارة – وحتى إنتاج – الشرق سياسيًا، واجتماعيًا، وعسكريًا وإيديولوجيًا وعلميًا...([31])، لكن أن يتحول الخطاب إلى سلطةٍ قهريةٍ وناعمة، يتحول إلى ثقافةٍ مركزةٍ تخترق الأذهان وتصيب الشعوب الأخرى بالشلل الفكري، لأن الاستشراق يظهر محاسن الثقافة ومساوئها من وجهة دراسته، ويوهمنا بالحقيقة أننا كنا أسياد التاريخ في زمن ما، وأن للثقافة الشرقية مزايا براقة يكفي أن تستلهم ما في الثقافة الغربية من تنوير وعقلانية، التلاقح ممدوحٌ والصراع خرافة تهليلٍ من واضعي الاستراتيجيات ورواد الفكر السياسي المعاصر، إلمام إدوارد سعيد بالنقد الثقافي وتعرية الاستشراق السافر والخفي ترك بصمته بالعودة إلى الزمن الذي تشكلت فيه الدراسات الاستشراقية. المد الاستعماري الذي سبق ذلك، القلم قبل السيف، وسيوف الغرب مثقفون في أبراجٍ عاليةٍ اقتاتوا على الفتات من أسفار الرحلات والعابرين من الشرق، حفريات سعيد في عمق الاستشراق تقتضي الاستعانة بأداةٍ حادةٍ وجهدٍ كبيرٍ من قبل الباحث في أغوار الفكر الاستشراقي، القرن الثامن عشر والتاسع عشر ثم البحث في الامتدادات المعاصرة في مجال السياسة والفكر والثقافة، حفرياتٌ مستمدةٌ من فوكو للغوص في الخطاب الغربي وتتبع مسار الأقوال والأبحاث، ناقدًا فكرة الفصل بين الشرق والغرب، وفكرة التبسيط والاختزال، لكن المسألة أعمق، ذلك السخاء والتمويل المادي والتحفيز المعنوي للدراسات الاستشراقية، مراكز البحوث والجامعات والخبراء، لا شيء غير تحويل الشرق إلى مادةٍ للمعرفة ونشرها بصورةٍ منتظمة، عصارة الإنتاج الفكري والدراسات الوصفية للشرق، عددٌ كبيرٌ من الأوصاف للشرق، خطاب يستند على سلطةٍ معرفيةٍ قوامها تراكم المعارف عن الذات وغياب المعرفة بالآخر، أو هيمنة الثقافة الأحادية المبنية على سيادة العقل والعلم الطبيعي، وتقنيات البحث والتقصي، وكل الإنتاج الفلسفي في صيغته العقلانية المحمل بالأنوار والحداثة، لا يكف هذا الخطاب في تقديم ذاته اليوم في شكل نهاياتٍ للتاريخ والنموذج الوحيد للتقدم، في خيار العولمة البديل عن الصراعات والنزاعات والقبول بالمعايير الكونية في حقوق الإنسان التي لا تقبل التقسيم والتمييز، حقوقٌ كونيةٌ وعالمية، ذات مرجعيةٍ علمانيةٍ مصاغة في قوالب من الشمولية للمبادئ، نهايات الإنسان الأخير واكتمال التاريخ وعدم القبول بالنماذج غير العقلانية واللاديمقراطية في السياسة والثقافة والاقتصاد، لكن عندما يتأمل إدوارد سعيد في أشكال الخطاب المهيمن في الغرب يدرك تمامًا النزعة الاستعلائية، ويعلم أن قول الفكر النقيض يجلب أضرارا لصاحبه، ويقوي من مكانة خطاب المقاومة ضد الهيمنة والإمبريالية، وكل مغالطات صوب ثقافة الآخر، تتقدم النظريات العلمية في الفهم والوصف والتفسير وتتشكل التأملات والقراءات المادية والوجودية والفينومينولوجية دون أن تدين الاستعمار والإمبريالية، إنه المسكوت عنه بطريقةٍ قصدية، لا يفهم السر في احتكار المعرفة وتحويلها إلى سلطةٍ في خدمة الشعوب المهيمنة والبحث عن التبرير الذي يشرعن للاستعمار، تتناول الكتابات الاستشراقية أعمال المستشرقين الغربيين قصد التصحيح والتنقيح والزيادة، كذلك تتحول الكتابات الفلسفية والإنسانية للمقارنة والنقد والتجاوز، فوكو يعيد قراءة تاريخ الفكر الغربي على ضوء الحفر في المنسي، السلطة وموانع الخطاب، لا إدانة للفكر في نزعته الاستقوائية، وهايدغر يعيد الفكر الغربي ما قبل سقراط، يكشف عن الحقيقة التي تعني نسيان الوجود والعناية بالموجود، ويؤسس للاختلاف والانفتاح، وهابرماس يفتح مسألة التفكير في الحداثة التي لم تكتمل بعد، في نقد فكرة ما بعد الحداثة، وجاك دريدا يفكك الخطاب الفلسفي الغربي ويعيد بناء منطقٍ جديدٍ يُعنى بالنص، إذ لا يوجد شيء خارج النص. حوارٌ لا ينتهي بين الفلاسفة من جهة وبين المستشرقين الأوائل من جهة أخرى، وأكثر الأخطار حينما يتغلغل الفكر الاستشراقي في نفوسنا وفي بنية المثقف العربي، الأمر الذي تطلب من إدوارد سعيد الانفصال عن فوكو والتماس النقد الموجه للخطاب البنيوي السائد الذي أجهز على الأمل في المقاومة، وإتاحة التأويل للعقل في النفاد إلى خلخلة وتفكيك الخطاب السياسي الذي يهيمن على الحقل الثقافي والاجتماعي. لمح إدوارد سعيد في التفكيكية أنها دخلت في حربٍ صريحةٍ مع المشروع البنيوي، بغية تفكيك البنى المختلفة التي ما زالت تحوي ترسباتٍ ميتافيزيقية([32])، فكرة تقويض النزعة المركزية الغربية وخلخلة ترسبات الميتافيزيقية الغربية، والتفكيكية، استراتيجية في قراءة النصوص، القاعدة الأساسية التوغل في قلب النصوص وتسديد النقد والخلخلة للكشف عن طبيعته، أي البقاء داخل النص المكتوب. لا يقبل سعيد كل مضامين النظريات الفلسفية والأدبية الغربية إنما يستثمر من كل مفكرٍ المفيد، من كل فكرةٍ صائبةٍ تلقي مزيدًا من الإنارة عن الخلفيات الدافعة والمحركة للخطاب، هذا يعني حسب إدوارد سعيد أن الثقافة والتشكيلات الثقافية والمفكرين يوجدون، إلى حدٍ كبير، بفضل شبكةٍ ضيقةٍ جدًا من العلاقات مع قوة الدولة، تلك القوة المطلقة تقريبًا([33])، من اليسار واليمين، بالطبع الاستثناء موجودٌ في أقلامٍ صريحةٍ أو على الأقل تمتلك جرأة ومصداقية في الكشف عن نوايا الخطاب هنا وهناك، شومسكي، فوكو، دريدا، فيكو، فرانس فانون، جوزيف كونراد وسارتر... لكن المفكر مهما بلغت درجة الإبداع والتأمل في أفكاره لا يخلو من نوازع ذاتيةٍ وجماعيةٍ أو تقصيرٍ في إنصاف الآخر ثقافيًا وحضاريًا، لنقُل إن المفكر محكوم بالخلفية الإيديولوجية، ومسألة الموضوعية يمكن إدراجها ضمن الحنين والرغبة في بناء صروحٍ علميةٍ متينةٍ ليس إلا، تراجعت في واقع العلم المعاصر حيت اللاحتمية والذاتية من الأشياء التي لا تنفصل عن البحث العلمي. هكذا يعتبر سعيد قارئًا تفكيكيًا للنصوص الأدبية والفلسفية، وناقدًا للفلسفة البنيوية، وللسياسة في توجهاتها البرغماتية الضيقة. أما قضية فلسطين في بعدها العالمي فهي حاضرةٌ بقوةٍ في انشغالات المفكر وندواته، عودته إلى فلسطين وطرح وجهة النظر في ملف القضية الفلسطينية لا ينسي المفكر الأصول والينابيع الحقيقية للهوية والاقتلاع من الوطن، موجود خارج المكان وفي قلبه، ندوات ومحاضرات ولقاءات صحفية على الهواء ومحاضرات أكاديمية. الموسيقى عشق أبدي. ذوق الفنان العاشق للكلمة ورنين الموسيقى في عذوبة الأصوات ورقّة الألحان يترك الانطباع بالعلو والسمو للبحث عن المشترك بين الإنسانية، في عالمٍ واحدٍ دون استبداد واستعباد، إلا أن عذوبة الألحان تقيِّدها ممارسة الإنسان، ينقلنا مرةً أخرى إدوارد سعيد إلى تفكيك النصوص وتفنيد مزاعم الاستشراق، وطرائق المستشرقين وتغلغل الفكر الاستشراقي في الثقافة الغربية التي شكلت الوحدة بين السلطة الداعمة والخطاب المؤسس الذي جاء بالاستعمار، وتقسيم الأوطان العربية (سايكس بيكو) إلى كياناتٍ متنافرةٍ موزعةٍ بين الاستعمار الفرنسي والبريطاني، وتدخل الولايات المتحدة الامريكية بعد الحرب العالمية الثانية في الشرق العربي والإسلامي، واستمرار الأعمال الاستشراقية في البحث والتنفيذ للمخططات الاستعمارية الاستيطانية، نكبة فلسطين والحروب المتتالية، وشتات أهل فلسطين وكثرة الصراعات الطائفية والمذهبية، واللعب على أوتار التقسيم في إطار "الشرق الأوسط الجديد" خدمةً للمشروع الاستعماري الأمريكي – الإسرائيلي، الذي يستهدف وضع إسرائيل في الريادة والمكانة في قلب الشرق العربي والإسلامي، لا حلول عمليةً فعليةً من قبل شريحةٍ واسعةٍ من المثقفين الغربيين، تيارات تناقش تاريخ الفكر، تدرس البنيات والأنساق، تتشبث بالآليات والأدوات في الفهم والتحليل والتفكيك، ولا ينفي إدوارد سعيد قيمة الأدوات المنهجية في تقريب الفهم، دون أن يكون فوكويًا أو نيتشويًا أو غرامشيًا، أي لا يتماهى إلى درجة التطابق مع أصحاب النظريات الغربية، يعتبر كذلك قارئًا للمفكرين العرب، عبد الله العروي من المغرب، وأنور عبد الملك من مصر، ومالك بن نبي من الجزائر، وعلي الوردي من العراق، وناقدًا صلبًا للمثقفين الغربيين، كتب عن دور المثقف والمقاومة والإمبريالية، حاول توصيل فكرةٍ إلى العالم وهي قول الحقيقة ولو كانت صادمةً وينتج عنها عواقب غير نفعية، وهذا بالطبع دور المثقف، "ليس المثقف شخصيةً حيادية، وليس حبرًا أعظم يقف فوق الكل ليلقي المواعظ، بل إنه منخرط بشكل أو بآخر في ذلك"([34])، الثقافة التي أضحت مجالًا للدراسة الأنثروبولوجية في الغرب، العلم الإنساني الذي تحول إلى سلطةٍ بيد المؤسسة السياسية الرسمية في النفاد للمجتمعات قصد الدراسة، ولا ننسى الأنثروبولوجيا الكولونيالية، التي مهدت للاستعمار الغربي، النظرية الانقسامية والطبيعية والوظيفية... مميزات المثقف في عالم اليوم يقترب نوعًا من تصنيفات الفيلسوف الإيطالي غرامشي صاحب كتاب "دفاتر السجن"، جاءنا بتحليلٍ عن مكامن قوة المثقف وأشكاله، منها المثقف التقليدي الذي ينتمي إلى هيئات ومؤسسات ويزاول عملًا من موقعه الخاص، والمثقف العضوي المرتبط بالطبقات الاجتماعية وبالمجتمع المدني الذي يعمل على إرغام الدولة ككيانٍ ماديٍ يتميز بالقوة والسلطة في الامتثال لسلطته المعيارية دون قيود الإكراه والقهر، وهذا موضوع آخر عن علاقة المجتمع المدني بالدولة، تناقضات في ماركسية غرامشي في مسألة الدفاع عن المجتمع المدني الذي يعتبر نتاجًا للمجتمع البورجوازي المهيمن على الفرد والجماعة، لكن المثقف يبقى قطعةً نادرةً أو نخبةً محدودةً في المجتمعات الإنسانية، أصناف المثقف من محترفين وهواة، من حق المثقف إدانة الظلم والبؤس الذي يسود الحياة، أن يتحلى المثقف بالبعد الإنساني، ريشته بمثابة رصاصةٍ في الدفاع عن الإنسان وعدالته وحقه في الحرية والكرامة، أن يسلك المثقف الملتزم مقاومة السلطة، يلمس الحرية في ذاته وفي المجموع الكلي، وفي سعيه الدائم يزيل المتاريس والعوائق التي تكبل الحرية. إن كل مثقفٍ أو مفكرٍ فردي يولد في ظل لغةٍ معينة، والأغلب أن يقضي حياته في ظل تلك اللغة، وهي الوسيط الرئيسي للنشاط الفكري([35])، في اللغة الخاصة تعبير بالكلمات والجمل، حوارٌ بين الذات وذاتها، مونولوج ممزوجٌ بالمشاعر الفياضة والشعور المتدفق، يتجاوز منهج الاستبطان، يغوص الإنسان في الأعماق باحثًا عن صدق الأشياء، وفي اللغة العامة تقفز الثقافة في الواجهة، كائنٌ حيٌ مستمرٌ باستمرار الجماعة والقيم، لكن لأزمة المثقف أسباب جمة، هيمنة التخصص وسيادة التقني، تغلغل الحزبية وأحيانًا المذهبية في بنية التفكير، وينتج عن ذلك فقدان الثقة لدى شريحةٍ واسعةٍ من الشعب في مصداقية الأطروحات والمواقف، انتهازية المثقف والميل للذرائع والأسباب الواهية، خدمة السلطة. من المفروض أن يتمتع المثقف بنوع من الاستقلالية عن السلطة، تلك كانت رغبة فوكو في تخليص الخطاب من كل الأبعاد السلطوية والإيديولوجية، على المثقف الدفاع عن القيم النبيلة من حرية وعدالة وكرامة، تلك القيم التي خاضت فيها الإنسانية ثورات وصراعات، ولا يفوت إدوارد سعيد الكشف عن قيمة المثقف في تحليل موقف غرامشي من المثقف العضوي، وازدواجية بعض المثقفين الغربيين أمثال دوتوكفيل، الدفاع عن أمريكا في قيمها الديمقراطية من جهة ومسألة استعمار الجزائر والسكوت على جرائمها من جهةٍ أخرى، عارنا في الجزائر كما قال سارتر وكتب. فالمثقف ليس بطبيعة الحال آلةً صماء بسيطة الصنع تقذفه بالقوانين التي صممت رياضيًا هنا وهناك وفي كل مكان([36]). أن يجسّد المثقف الحرية والتنوير أو نعلن كذلك عن نهاية المثقف، ونسقط في خطاب النهايات ويتحول الفعل الإنساني إلى نوعٍ من الجبرية تتحكم في مواقفه وأفعاله البنيات، ويغدو كيانًا مرتبطًا بالزمن والسياق، ليس فاعلًا بل مفعولًا به، سلطة المثقف التي يشخّصها علي حرب في كتابه "أوهام النخبة أو نقد المثقف" في انهيار المشاريع الإيديولوجية للتغيير، في تكرار استماتة الدفاع عن الحرية والعدالة الاجتماعية والمساواة، وندرك بالتمام أن السلطة موازين القوى، لا انفصال بين السلطة والقوة بأشكالها، هنا ينساق علي حرب إلى تفكيك مفهوم المثقف والسلطة معًا، عوائق أساسية تمسك بالمثقفين العرب على وجه الخصوص "الأول هو الوهم الثقافي ويرتبط بمفهوم النخبة، والثاني هو الوهم الإيديولوجي ويرتبط بمفهوم الحرية، والثالث هو الوهم الإناسي ويرتبط بمفهوم الهوية، والرابع هو الوهم الماورائي ويرتبط بمفهوم المطابقة، والخامس هو الوهم الحداثي ويرتبط بمفهوم التنوير"([37])، أوهامٌ تستقر بالعقل، لكن أكثر الأوهام التي جاءت في تاريخ الفلسفة هي الركون والسكون في الكهف والإقرار بالمعرفة التي تسكنها الحواس في فلسفة أفلاطون عن درجة ارتقاء الإنسان في سلم المعرفة، من الحواس إلى عالم المثل والماهيات، وتلك الأوهام التي وضعها فرنسيس بيكون لإفساح المجال للأورغانون الجديد من إنتاج المعرفة والعلم الطبيعي، في السيادة والربط بين المعرفة والسلطة. عند إدوارد سعيد المثقف صورةٌ واقعيةٌ ممكنة، لا يقبل الانصهار والذوبان أو الإذعان والامتثال بالقوة أو التنصل من القضايا القومية والإنسانية، ضميرٌ حيٌ وسط المجموع الكلي، الصوت الذي يكشف ويحلل وينتقد، ويوجه دون أن يرغم الآخر للقبول بقوته، من التاريخ الفكري للشعوب، ظل المثقف كيانًا مزعجًا للسلطة والدولة، هارب أحيانًا من عدالة جائرة، يساوم ويُهدد في جسده وروحه المعنوية، صوته كلمة رنانة في عالم الصمت، لكن ندرة المثقفين في عالم الهيمنة والسلطة والثقافة السائدتين، إذا قرأت محاورات أفلاطون مثلًا عن سبب إعدام المعلم سقراط ستدرك بالفعل أن سبب الإعدام ليس إدانةً من ذوات، شاعر وخطيب وسفسطائي، بل الادعاء كان عامًا، وليس فرديًا، لأن الرجل أراد تغيير عقول الشباب الأثيني في تعليمهم الفضيلة وعد الاقتناء بالتعليم السائد في الثقافة اليونانية، أي تعليم الفضائل العملية وهيمنة التربية السفسطائية التي تمرن الشباب أن يصبح خطيبًا بارعًا في الإقناع والجدال في أمور السياسة، لا شيء غير المناصب السياسية، ومحبة أفلاطون للمعلم سقراط ناتجة من إدراك صواب المفكر في بناء الإنسان والمجتمع وتقعيد الفكر وفق الفضائل الأساسية، وأهمها العدالة التي تعتبر أم الفضائل. ابن رشد فيلسوف قرطبة والرجل الذي يطمح كل مثقفٍ عربي محب للحكمة أن يُبعث فكره من جديدٍ للإجابة عن معضلة العلم والمعرفة في عالمنا، نكبته مستمرةٌ في اغتيال العقل وتحالف الفقيه المتزمت والسياسي غير الحكيم، متاعب المثقف في شق طريقٍ يقيني نحو الحقيقة المرة مليئةٌ بالأشواك والعوائق، أما خيانة أو عدم أمانة المثقفين في إجهاض المشروع التنويري فذلك موجودٌ بالفعل في كل الأوطان، من منطلق تنوّع التعاريف عن المثقف، ومن أساس أن المثقف فردٌ في مجتمعٍ مطالبٍ أن يلتزم بالقضايا الوطنية والقومية، المشكلة التي يثيرها إدوارد سعيد ما يحدث في السياسة، أماكن الصراع بين الشعوب والإمبريالية الأمريكية، كيف يسكت المثقف عن المجازر التي ترتكب تحت يافطة الحرية والديمقراطية والحداثة؟ إنها مغالطات وأكاذيب الخطاب الإعلامي والاستشراقي الذي نفذ إلى العقول والسياسة واستوطن الشعور واللاشعور. إن مسؤولية المثقفين اليوم ودورهم في العالم يشبه الدور الذي كام يلعبه الأئمة وقادة التغيير والتبديل، أي الأنبياء والرسل وأئمة المذاهب في المجتمعات القديمة([38])، يمتلك هؤلاء الدعاة حسًا يتدفق نبلًا وكرامةً بالإنسان، والفضائل الأخلاقية والاجتماعية للعيش المشترك في عالمٍ مبنيٍ على الاختلاف والمنفعة المشتركة. رواد الفكر التعاقدي في الغرب خصوصًا روسو وجون لوك كانوا على يقينٍ من صدق أقوالهم المدافعة عن سيادة الشعوب، والعواطف النبيلة في تأسيس الاجتماع البشري وفق معيار الاتفاق والتعاقد، الذي يشمل الحق والحريات ويمنح السلطة للشعب وليس للحاكم المطلق. أدرك روسو مدى قيمة العودة للطبيعة، للفطرة والسجية، لا حاجة للقوة المادية التي لا تساهم في بناء المجتمعات من الالتزام ببنود العقد الاجتماعي. يعود إدوارد سعيد دائمًا إلى قضية فلسطين وقضايا في العالم الإسلامي، التحدي الوحيد الذي يأبى الخضوع والانهيار أمام الممارسة العملية للفكر الاستشراقي الإمبريالي، صمود ومقاومة لكل أشكال السلطة وطمس معالم الهوية الجماعية للشعوب التواقة للحرية والتحرر. غرامشي حسب سعيد نموذجًا للمثقف الملتزم، صنف من المثقف يوجد خارج نطاق محاكمة جوليان بندا للمثقف الخائن، المثقف الحقيقي حسب جوليان هو الذي يعرّض نفسه للمخاطر، يتكلمون بشجاعة، ومواصفات أخرى نادرة بندرة ذوي المواهب الفائقة والأخلاق الرفيعة الذين يشكلون ضمير البشرية، يدرك إدوارد سعيد أن محاكمة المثقفين بالخيانة راجع إلى أشكال المثقفين الصامتين أو المدافعين عن السلطة والانخراط فيها. إن تحليل غرامشي الاجتماعي للمثقف، كإنسانٍ ينجز مجموعةً معينةً من الوظائف في المجتمع، هو أقرب بكثير إلى الواقع من أي صفات يعطينا إياها بندا وبخاصةٍ في أواخر القرن العشرين، عندما ثبتت رؤية غرامشي ببروز مثل هذا العدد الكبير من المهن الجديدة – المذيعون ومحترفو العمل الأكاديمي، والمحامون المختصون بشؤون الرياضة ووسائل الإعلام، والمستشارون الإداريون، وخبراء السياسة ومستشارو الحكومة، ومؤلفو التقارير التجارية المتخصصة، والعاملون في مجال الصحافة الجماهيرية العصرية بكامله([39])، أي كل من يرتبط بمجالٍ ما وينتج معرفةً حيث تتعمم الثقافة ويسود مفهوم المثقف في كل ميادين الحياة، وتجاوز المثقف الكوني الذي أخلى المكانة للمثقف المهني المتخصص إن صح التعبير، موسوعية المثقف وهيمنته على الخطاب بشكل من الكاريزماتية، في التأثير والتجييش واستلهام الهمم، صورةٌ توارت واحتجبت، صورة الزعيم العسكري، لينين وماوتسي تونغ وجمال عبد الناصر أو غيرهم من رجال الفكر القومي في القرن الماضي. المثقف الذي يهم في النهاية هو ذلك المتمتع بالصفة التمثيلية – إنسانٌ يمثل بوضوح وجهة نظرٍ ذات طبيعة ما، ويعبّر بجلاءٍ لجمهورٍ عن تلك الأفكار التي يمثلها، برغم كل أنواع العوائق. وحجتي هي أن المثقفين أفرادٌ عندهم الاستعداد الفطري لممارسة فن التعبير عما يمثلون، سواء كان ذلك قولًا أو كتابةً أو تعليمًا أو ظهورًا على التلفزيون([40])، وإن كان سارتر وراسل يمثلان نماذج للمثقف الكوني الذي يدعو إلى نزعاتٍ علميةٍ ووجودية، إيمانًا أن الثقافة مبادئ والتزام. لكن المثقف ليس بريئًا وحيادي المواقف والآراء، ما زال مجتمع اليوم يحاصر الكاتب ويحيط به، أحيانًا بالجوائز والمكافئات، وغالبًا عبر الاستخفاف أو الاستهزاء بالعمل الفكري بمجمله، وأكثر من ذلك في الأغلب الأعم عن طريق القول إن المثقف الحقيقي يجب ألا يكون سوى محترف متمهر في مجاله([41])، والصورة العكسية التي جسدها سارتر وآخرون، إن المثقف يجب أن يكون مستقلًا عن كل سلطة الأرغام والقولبة، يقبل أو يرفض بناءً على مبادئ وقناعات أساسها الاختيار الحر، مبادئ وأسس الوجودية التي رفعت الإنسان في بناء شخصيته وكينونته في واقع الصعوبات والإكراهات بوصفه حريةً ومشروعًا مستقبليًا، ومن المواقف الشجاعة التي تميز بها سارتر رفضه لجائزة نوبل للآداب عام 1964، وأثار هذا الرفض جملةً من الأسئلة عن الدواعي والأسباب وجرأة الفيلسوف المدافع عن حق الشعوب في استقلالها وحق الشعوب في المقاومة والرفض لكل ما هو تعسفي واستبدادي عندما شدد في الوجودية على الفكرة المركزية أن الحرية هي جوهر الكائن الإنساني، نماذج  عالميةٌ من المثقفين والناطقين بالحق والإنصاف، الكاشفين عن زيف الممارسات اللاإنسانية، وأصواتٌ من القارات الأخرى التي خبرت اللاإنسانية، وأصواتٌ من القارات الأخرى التي خبرت الصراع بين الرجل الأبيض وسائر الشعوب في أمريكا اللاتينية وأفريقيا. يحكي سعيد الحكاية تلو الحكاية، ينغمس في النصوص الاستشراقية، يفكك النص من داخله ويكشف للعالم أن الشرق ككيانٍ حضاريٍ وثقافيٍ يستلزم دراساتٍ منصفةً دون هيمنةٍ استعماريةٍ إمبريالية.

خاتمة

قدم المفكر العربي إدوارد سعيد دراسةً جديدةً عن الاستشراق الغربي، وقيمة الدراسة في نقد أعمال الأسماء التي نالت الشهرة والمكانة في الفكر الغربي الاستشراقي، هذا الاستشراق الذي دعمته المؤسسة السياسية الغربية، ووضعت إمكانياتٍ ماديةً وطاقاتٍ بشريةً في تحويل الشرق إلى نصٍ مكتوبٍ تعاد قراءته وتدريسه وتعميمه كصورةٍ نهائيةٍ ومكتملة، خوفٌ لا-شعوريٌ تاريخيٌ من الصراعات بين الشرق والغرب، يستمر الآن في شكل سلطةٍ مهيمنةٍ وخطابٍ علميٍ منظّمٍ لإرغام الشرق في الانصياع للغرب معرفيًا. الوحدة بين السلطة والمعرفة تحقّقت بالفعل في شكل خطابٍ مركزيٍ عن قيمة الدراسات الوصفية، رحلات وزيارات وإقامة في الشرق، ومعلوم أن الاستشراق تسلّح بكل الآليات والأساليب العلمية والمنهجية، الملاحظة بالمشاركة والانغماس في قلب المجتمعات، والمقارنة بين الكيانات والثقافات، زيادة على الخلفية الأصلية المحركة للدراسات، وإذا كان إدوارد سعيد حلل مكامن القوة والقصور في أعمال المستشرقين فإن المفكر نوه نوعًا ما بالمستشرق ماسينيون. ليس هناك أصدقاء للعرب بل هناك دارسون ذوو نزعةٍ أكاديميةٍ مدفوعةٍ بالرغبة في الهيمنة والاستعمار، واستبدال ما في الثقافة الشرقية من روحانياتٍ وتراثٍ عميقٍ وأصيلٍ في التاريخ بثقافةٍ ونماذجَ مفروضةٍ بالقسر والليونة، يوهمنا الاستشراق بالمعالم المميزة في التراث الشرقي، الثقافة البوذية، الزرادشتية والفرعونية والبابلية والأشورية والكونفوشوسية. العالم الشرقي الذي لم يتنسم الحرية والعقلانية، كان عالمًا محدودًا في إنتاج المعرفة العلمية وثقافة الأنوار، والعقلانية في صورتها الفردية والجماعية، الروح الموضوعية التي اكتملت في الدولة والقيم العقلانية الديمقراطية التي جاءت بالحرية والإرادة والنزعة الإنسانية... بالتأكيد إن الكلام ينطوي على أشياء من الصواب، إلا أن إدوارد سعيد الذي تمرّس بالفكر الغربي، المادي والمثالي، العقلاني والتجريبي والنقدي، يدرك خلفيات الفكر ونزعة الخطاب السلطوي، وهيمنة النزعة المركزية التعصبية، والدوافع الخفية التي تنم عن حاجة الغرب في دراسة الشرق معرفيًا وليس العكس، الحاجة تشير في وجود البعد الروحي والوجداني للشرق، مهد الديانات السماوية، ومهد الحضارات السابقة ومدى تأثيرها في نبوغ الغرب. فالأجدر أن تكون العلاقة مبنيةً على الاختلاف والاعتراف وتبادل الخيرات المادية والرمزية، صورة لا زالت قاتمةً عن الشرق العربي الإسلامي بالذات، تكرسها ثقافة الصورة المهيمنة في الإعلام الأمريكي والأوروبي عن الإسلام والمسلمين، وتلك الدسائس التي لا زالت تحاك في تفتيت الشرق وخلق الشرق الأوسط الكبير الذي كنا نسمع الغرب يهلّل ويشدّد في قيامه إبان حرب الخليج الثانية في زمن المحافظين الجدد، آراء مستمرة في التحريض والدعاية من قبل المستشرقين الجدد (برنارد لويس – ألبيرت حوراني...) وفي سلطة الإعلام، ونزعة السياسة البرغماتية الضيقة الميالة في استنزاف الشعوب ماديًا ومعنويًا. كتب إدوارد سعيد "الاستشراق"، وما أعقبه من تعقيبات وكتاب "الثقافة والإمبريالية" واللقاءات التي تحولت إلى إبداعات، تركت فكرةً جيدةً عن المثقف العربي، والثقافة التي لا زالت صمام الأمان في وجه الفكر الاستئصالي والسلطوي، ومن أدوات التحليل والنقد، اكتشف إدوارد سعيد في النقد الثقافي واستراتيجية التفكيك وفكرة المقاومة سبلًا للفهم وتوصيل المعرفة إلى الاخر المختلف، والمعتقد في فهم مظاهر الثقافة الشرقية. هناك قراءاتٌ متعددةٌ للاستشراق، ودعواتٌ إلى علم الاستغراب، لكن الخطوة التالية ستمنح لا محالة قيمةً أخرى للاستشراق، وفي رأي سعيد إن المنجزات الحاصلة اليوم في ميدان العلوم الإنسانية كافيةٌ في تزويد الباحث بكل الآليات والمناهج التي تفنّد كل الأبعاد السلطوية والإيديولوجية، والأنماط التي أنشأها الاستشراق الغربي. من تجليات الاستشراق واللذة الإمبريالية عبور البلدان والهيمنة على الآخر بدعوى التنوير والتغيير وتعميم نمط الإنتاج الرأسمالي، لذلك قدم الغرب الاستعماري خدماتٍ لإسرائيل على حساب الشعب الفلسطيني. معاناة التهجير والمنفى وقائع حاضرةٌ في كتابات إدوارد سعيد، مسألة فلسطين الأرض المنهوبة، والوطن المحتل، والإنسان الأسير، والمشرد في المنافي والشتات، تزداد بالنداء إلى فهم أعمق للقضية الفلسطينية في بعدها العالمي، وحق الإنسان العربي الفلسطيني في العيش بكرامةٍ فوق أرضه. حواراتٌ ونقاشاتٌ مفتوحةٌ هنا وهناك في الإعلام حيث ظل إدوارد سعيد يطلع الجمهور الواسع من المتتبعين والقراء بمصداقية الأطروحة والآراء في عالم الثقافة والسياسة، التي تفيد دائمًا أن العلاقة بين المعرفة والسلطة قائمة، وأن السبيل الوحيد للفكر المضاد ليس تحويل الغرب إلى وباءٍ أو شرٍ، إنما إلى أشكالٍ من المقاومة الفكرية والسياسية والاجتماعية، وأن يحس العالم الغربي الاستعماري الذي صنع مشكلةً في الشرق العربي وتنصّل منها من العودة إلى المساهمة في حلها والاعتراف بالأضرار الجسيمة التي لا زالت قائمة. لا بد أن القارئ لإدوارد سعيد يتحسس الصعوبة في الإحاطة بأفكاره ومشروعه الفكري من الاستشراق والثقافة والإمبريالية، والسلطة وصور المثقف ومسألة فلسطين... القارئ مطالَبٌ أن يقرأ سعيد من سيرته الذاتية، وعمله الأكاديمي، واللقاءات الإعلامية والمحاضرات المسجلة، ومواقفه من الاستشراق والسياسة الغربية في الشرق الأوسط، وينتهي إلى فكرة مفادها أن الشرق العربي ملزمٌ بتدريس نقد الخطاب الاستشراقي للأجيال القادمة وتكوين فكرةٍ عن بنية الغرب الذهنية في التعاطي مع قضايا الشرق العربي والإسلامي بالذات، ومهما كانت الانتقادات الموجهة من قبل المستشرقين المعاصرين أو المدافعين عن الحداثة والقطع مع التراث من المثقفين العرب، فإن المثقف العربي يجب أن يكون واقعيًا وحذرًا من كل أشكال الاستلاب والتبعية ومنفتحًا على الثقافات الإنسانية.

* هوامش البحث *

([1]) أحمد أمين، الشرق والغرب، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1955، ص 18-19.

([2]) هيجل، العالم الشرقي، ترجمة إمام عبد الفتاح إمام، دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، الطبعة الثالثة، 2007.

([3]) هيجل، نفس المرجع، ص 13.

([4]) إدوارد سعيد، تغطية الإسلام، ترجمة محمد عناني، الطبعة الأولى، 2005، ص 41.

([5]) إدوارد سعيد، تغطية الإسلام، ص 72.

([6]) إدوارد سعيد، الثقافة والمقاومة، حاوره دافيد بارسميان، ترجمة علاء الدين أبو زينة، دار الآداب، ص 93.

([7]) مالك بن نبي، شروط النهضة، ترجمة عبد الصبور شاهين، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع بدمشق، 1986، ص 34.

([8]) مالك بن نبي، نفس المرجع، ص 34.

([9]) مالك بن نبي، نفس المرجع، ص 20.

([10]) مالك بن نبي، إنتاج المستشرقين، دار الإرشاد للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 1969، ص 24.

([11]) إدوارد سعيد، الاستشراق: المفاهيم الغربية للشرق، ترجمة محمد عناني، الطبعة الأولى، 2006، ص 142.

([12]) سامي سالم الحاج، نقد الخطاب الاستشراقي، الجزء الأول، دار المدار الإسلامي، الطبعة الأولى، 2002، ص 55.

([13]) إدوارد سعيد، الاستشراق: المفاهيم الغربية للشرق، ص 101.

([14]) إدوارد سعيد، نفس المرجع، ص 192.

([15]) إدوارد سعيد، نفس المرجع، ص 365.

([16]) إدوارد سعيد، نفس المرجع، ص 414.

([17]) عبد الرحمن بدوي، موسوعة المستشرقين، دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة الثالثة، 1993، ص 529.

([18]) إدوارد سعيد، تعقيبات على الاستشراق، ترجمة صبحي حديدي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الأولى، 1996، ص 39.

([19]) حليم بركات، غربة الكاتب العربي،  دار الساقي، الطبعة الأولى، 2011، ص 108.

([20]) إدوارد سعيد، المثقف والسلطة، ترجمة محمد عناني، 2006، ص 89.

([21]) إدوار د سعيد، تعقيبات على الاستشراق، ص 47.

([22]) إدوارد سعيد، الاستشراق: المفاهيم الغربية للشرق، ص480.

([23]) جون بودريار، روح الإرهاب، ترجمة بدر الدين عرودكي، 2010، ص 17.

([24]) إلياس خوري، إدوارد سعيد ومسألة فلسطين، مجلة الكرمل، العدد 78، شتاء 2004، ص50.

([25]) ميشيل فوكو، نظام الخطاب، ترجمة محمد سبيلا، محاضرات، 1970، ص 9.

([26]) عبد العزيز العيادي، ميشيل فوكو: المعرفة والسلطة، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 1994، ص 21.

([27]) ميشيل فوكو، جينيالوجيا المعرفة، ترجمة أحمد السطاتي وعبد السلام بنعبد العالي، دار توبقال للنشر، الطبعة الثانية، 2008، ص 106.

([28]) م. فوكو، جينيالوجيا المعرفة، ص 108.

([29]) م. فوكو، جينيالوجيا المعرفة، ص 12.

([30]) إدوارد سعيد، الاستشراق: المفاهيم الغربية للشرق، ص 314.

([31]) وليام د. هارت، إدوارد سعيد والمؤثرات الدينية للثقافة، ترجمة قصي أبو الذبيان، الطبعة الأولى، 2011، ص 97.

([32]) بشير ربوح، إدوارد سعيد والفلسفة، مجلة تبين القطرية، العدد 15، شتاء 2016، ص 32.

([33]) إدوارد سعيد، العالم والنص والناقد، ص 194.

([34]) إدوارد سعيد، السلطة والسياسة والثقافة، ترجمة نائلة قلقيلي حجازي، دار الآداب، بيروت، 2008، ص 209 .

([35]) إدوارد سعيد، المثقف والسلطة، ص65.

([36]) إدوارد سعيد، المثقف والسلطة، ص 164.

([37]) علي حرب، أوهام النخبة أو نقد المثقف، المركز الثقافي العربي، الطبعة الثالثة، 2004، ص 27.

([38]) علي شريعتي، مسؤولية المثقف، ترجمة إبراهيم الدسوقي شتا، دار الأمير، الطبعة الأولى، 2005، ص 125.

([39]) إدوارد سعيد، صور المثقف، ترجمة غسان غصن، 1996، ص 25-26.

([40]) إدوارد سعيد، صور المثقف، ص 29.

([41]) إدوارد سعيد، صور المثقف، ص82.