البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

مقولات الترجمة والصورولوجيا في الكتابة المعاصرة نحو تأصيل لأطروحات الأدب المقارن في التراث

الباحث :  مسالتي محمد عبد البشير
اسم المجلة :  دراسات اسشتراقية
العدد :  24
السنة :  شتاء 2021م / 1442هـ
تاريخ إضافة البحث :  February / 9 / 2021
عدد زيارات البحث :  1793
تحميل  ( 571.545 KB )
ملخص:
تهدف هذه الدّراسة - بواسطة مقولات الدّرس المقارن- لاستنطاق مرجعيّات المقاربة الاستشراقيّة الفرنسيّة والمقاربة المقارنتيّة التي تشكّلت حول النّصّ العربي – وخاصة نصوص الجاحظ -، بحثًا في بعض مسارات التّلقّي الاستشراقي للنّص العربي؛ وذلك من أجل التّحقّق من أنّ القراءات الاستشراقيّة وكذا المقاربات ذات المرجعيّة المقارنة للنّصّ العربي إنّما هي محكومةٌ بأفقها التّاريخي وسياقهـــا الثّقافي، فهي تتحرّك وَفق ما يُتيحه لها أفقها وسياقها من»ممكنات»، وفي المقابل فإنّها ترضخ تحت الإكراهات/الأيديولوجيات التي يمارسها عليها هذا الأفق وهذا السّياق.

الكلمات الدالة: الترجمة_ الاستشراق الفرنسي_الصورولوجيا_ الأيديولوجيا_التراث.



Abstract:
This study aims at Interpreting some of French Orientalist readings which are formed about Arabic texts.That is to chek that the Orientalists reading For the Arabian texts are governed by its historical and cultural context.  Those readings moves according to som available possibilities of the context. In other hand, those readings fall under the domination of compulsive/ideological processes of the historical and cultural contexts.
Keywords: Translation /French Orientalist /imagology /ideological/Heritage.

Résumé:
Cette étude a pour but d’interpréter certaines des lectures orientalistes françaises qui sont formées à partir de textes arabes. Il est intéressant de noter que la lecture des orientalistes pour les textes arabes est régie par son contexte historique et culturel. Ces lectures se déplacent en fonction des possibilités du contexte. En revanche, ces lectures relèvent de la domination des processus compulsifs / idéologiques des contextes historique et culturel.
Mots-clés: traduction / orientaliste français / imagologie / idéologique / patrimoine.

مقدمة: الدرس المقارن بوصفه بديلًا معرفيًّا للقراءة الرّاهنة
«إن قارئ التّراث النّقديّ والبلاغيّ ينبغي أن تكون عينه على الحاضر؛ أي البحث عن انعاكاسات قراءته في واقعه الثّقافي المعاصر»[1].
تتغيّا هذه الدّراسة بواسطة مقولات الدّرس المُقارن استنطاقَ المقاربة الاستشراقيّة والمقاربة المقارنتيّة، التي تشكّلت حول نصوص الجاحظ، وتفجّرت حولها قراءاتٌ متباينةٌ وتفسيراتٌ متعارضةٌ لطبيعتها وسيمتها وقيمتها الجماليّة، ومن ثم فإنّ هذا البحث يُصدر هذا من مبدأ نظريٍّ يرى أنّ تجديد الآليات المعرفيّة والأدوات المنهجيّة في الفحص والقراءة يستتبع بالضرورة تجديدًا في الفهم، بل يستتبع كسرًا للفهومات المألوفة (Ordinaryunderstanding). كما يرى هذا البحث أنّ التّراث العربي (The Classical Rhétorique) -بكلّ أنماطه- غنيٌّ يحتاج إلى تحيين مفرداته بأدواتٍ علميّةٍ جديدةٍ حتى يتسنّى توظيفه في واقعنا الثّقافي المُعاصر بصورةٍ متجدّدةٍ. هذا ولا يَشكُّ أحدٌ من دَارسي البَلاغة العَربيّة في أنَّ الجاحظ من أبرَز عُلماء العربيّة، فقد كان مَحطَّ إعجاب الباحثينَ، قُدامى ومُحدثين، أدهشَتهم سعةُ علمه وبيانه، وأصالةُ فكره. درس الجاحظ اللّغةَ والأدبَ والبلاغـةَ عن أئمّة علمائها، وامتازَ بذوقه الأدبي الَرفيع وطبيعته النَفّاذة المبتكرة.

هذا ولعلّ النّظر في أطروحات التّراث - بوصفها خطاباتٍ كُتبت في مرحلةٍ متقدّمةٍ- يقتضي تحقّق نمطٍ من الوعي القرائيّ النّقديّ (critical   (The Lissante conscience، متّسمٍ بتعدّد واجهاته، وتنوّع استراتيجيّاته حتى يتمكّن من الانتشار في أكثر من اتّجاهٍ معرفيٍّ، ويقدر على مواجهة الأسئلة المخصوصة التي تفرزها مقولات تراثنا القديم: ما هي طبيعة المعالجة التي يمكن أن نرومها؟ وهل نحلّل نصوص التّراث، أم نشرحها، أم نفسّرها، أم نؤوّلها، أم نقاربها؟ أم ينبغي أن ندرسها في علاقتها مع الآخر صورولوجيًا. أم ينبغي -ونحن نقارب نصوص التّراث أن تكون أعيننا على الحاضر؛ أي البحث عن انعاكاسات قراءتنا في واقعنا الثّقافي المعاصر. 

يكفي قارئ تراث الجاحظ أن يُلقي نظرةً على المادّةِ الثَّقافيّةِ الأجْنبيّةِ المستقاة في كتاباته، ممّا يقومُ دليلاً على اتّساعِ الأُفقِ الجاحِظيِّ وفاعليّتهِ، وقُدرتهِ على استيعابِ الآخر، واستدعاءِ ألوانٍ من ثقافتهِ، من غيرِ انغلاقٍ وتقوقعٍ[2].

تصدر هذه المداخلة من مبدأ نظريٍّ يرى أنّ صورة الآخر -خلال مراحل تشكّلها الأولى-  إنّما تمثّل مكان «العلامة الدالة»، والأطروحات التّراثيّة العربيّة- بوصفها نصوصًا متفاعلةً رفضًا أو قبولًا /تبنّيًا أو تعديلًا- إنّما تمثّل مكان «التحقيق الجمالي» لها. أمّا الأطروحات التّراثيّة العربيّة فتتموقع بينهما ما دام المنجز ذاته، هو نتيجة تحقيق التّفاعل بين القطبين، أو الأطروحتين، فلا يمكن اختزاله في واقع صورة الآخر، ولا في ذاتيّة خطاب التّراث العربيّة[3]. ويُمكننا أن نجسّد هذين الركنين في الترسيمة التالية:

لعلّنا لا نُجانب الصّواب إذا قلنا إنّ حضور الجاحظ في مبحث الصورولوجيا أو في درس الأدب المقارن هو أمرٌ بديهيٌّ على اعتبار أنّه:

ـ تحدّث في كتاب «البيان والتبيين» عن بلاغة الفُرس والهند واليونان والرّوم، كما أشار إلى بعض الخصائص المشتركة بينها وبين بلاغة العرب.
ـ قارن بين الشّعر الفارسي والشّعر الإغريقي والشّعر العربي فوجدها تختلف من حيث الإيقاع والقافية، وهذا يعني أنّ الجاحظ كان على درايةٍ بهذه اللّغات.

ـ استحسن بلاغة الأمم الكبرى واستهجانه البعض الآخر.
ـ تحدث عن صورة الفرس في كتاب «البخلاء» الذي يعد من أقدم الكتب التي كان لها رأي في الآخر، أو ما يسمى بالصورة الأدبية أو الصورائية. وتتكون مهمة الأدب المقارن حينئذ  في دراسة صورة الشعوب الأجنبية خاصة الفرس و الأتراك في أدب الجاحظ.

أولاً: الأدب المقارن والمبحث التُرجمي: 
أ ـ مقولات الترجمة عند الجاحظ: الوعي بخصوصيّة النّصّ العربي:  
يتأسّس طرحنا ها هنا من مبدأ نظريٍّ يرى أنّ قول الجاحظ «وفضيلة الشّعر مقصورة على العرب، وعلى من يتكلّم بلسان العرب، والشّعر لا يستطاع أن يترجم، ولا يجوز عليه النّقل، ومتى حُوِّل تقطّع نظمه وبطل وزنه، وذهب حسنه وسقط موضع التّعجب، كالكلام المنثور. والكلام المنثور المبتدأ على ذلك أحسن وأوقع من المنثور الذي تحوّل من موزون الشّعر...وقد نُقلت كتب الهند، وتُرجمت الحكم اليونانيّة، وحُوّلت آداب الفرس؛ فبعضها ازداد حُسنًا، وبعضها ما انتقص شيئًا، ولو حُوِّلت حكمة العرب لبطل ذلك المعجز الذي هو الوزن؛ مع أنّهم لو حوَّلوها لم يجدوا في معانيها شيئًا لم تذكرْه العجم في كتبهم، التي وضعت لمعاشهم وفِطنهم وحكمهم. وقد نُقِلَتْ هذه الكتب من أمّةٍ إلى أمّةٍ، ومن قرنٍ إلى قرنٍ، ومن لسانٍ إلى لسانٍ، حتّى انتهت إلينا، وكنّا آخر مَنْ وَرِثها ونظر فيها، فقد صحَّ أنّ الكتُبَ أبلغُ في تقييد المآثر، من البنيان والشعر»[4].

إنّما يثوي بين طيّاته، الفهم الحديث للترجمة،خاصّة كما هي عند مارتن هايدغر (Heidegger Martin) (1989-1976)، وهانز جورج غادامير (Gadamer)[5]، على أنّ هذا الرّبط بما هو تشبيهٌ صريحٌ (Explicit comparison) بين مقولات الجاحظ وأطروحات هايدغر وغادامير لا ينبع عن خوف من مواجهة الواقع[6]*، بل إنّ هذه القراءة هي معزوة إلى الظّروف التاريخيّة التي يمرّ بها العالم العربي في الوقت الحاضر. وكأنّ تأخّر العرب راهنيًا عن حضارة يقودنا عن وعيٍ أو غير وعيٍ إلى الاحتماء بالتّراث لتحقيق التّوازن النّفسي[7]*.
وفي هذا السياق، ونحن نستحضر مقولات الجاحظ وأطروحات هايدغر وغادامير وجب علينا أن نراعِيَ في هذه النّقطة المعطياتِ التّاريخيّةَ في المقارنة بين نصٍّ ينتمي إلى القرن الهجريّ الثالث ومفهوم الترجمة، خاصّة كما هي عند هايدغر وغادامير اللّذين اهتمّا بها -أي بالترجمة- في سياق اهتمامهما باللّغة البشريّة كونها تمثّل-أي اللّغة البشريّة- شرطًا ضروريًّا يُؤسّس لوجود الفكر بالقوّة وتجسيدًا فعليًّا لهذا الوجود في الوقت نفسه. ولا يُمكن الخوض مبدئيًّا في أية مسألةٍ كانت دون وسيلة التعبير عنها ممثلة في اللّغة.

وهكذا، فكلّ نشاطٍ بشريٍّ ـ من منظور هايدغر وغادامير ـ  يبدو مستحيلًا دونها، إنّها وسيطٌ بين الإنسان والحقيقة. ولم يكن بالإمكان تاريخيًّا أن تتشكّل المعرفة الإنسانيّة وتتطوّر وتنتقل عبر الزّمان والمكان إلّا بواسطتها. فهي حسب تعبير غادامير الكائن الوحيد القابل للفهم، إنّها تمثّل بشكلٍ عامٍ وأساسيٍّ ـ إلى جانب الفهم ـ الخاصيتان الأساسيتان المميّزتان لكلّ علاقةٍ بين الإنسان والعالم[8]. إنّها وسيلةُ التعبير عن كلّ ما له معنًى وما ليس له معنًى.

يَقولُ الجاحظ في سياق تَعليقهِ على خَبرٍ وَرَدَ في النُّسخةِ المُترجمةِ من كِتاب «الحَيَوان» لأرسطو: «ولا أعلمُ هذا من قَولِ صاحبِ المنطقِ.... ولعلّ المُترجمَ قد أساء في الإخْبارِ عنه»[9]. وشخّصَ الجاحِظُ الإشْكالَ الواقعَ فيما نُقل من تُراثِ الأُممِ الأُخرى، فعزا ذلك إلى كَذبِ التّراجمةِ وتزيّدِهم وسُوءِ فَهمهم، مع جَهلِ طائفةٍ منهم بدَقائقِ اللُّغةِ التي يَنقلُون عنها[10]. يُحيلنا هذا النّصّ إلى القول دون تردّدٍ بأنّ الجاحظ كان على وعيٍ بفعل التّرجمة، بيد أنّ فحصنا لأطروحات البلاغة العربيّة سواء في علاقتها بالآخر أم بالمفاهيم المعاصرة تُلزمنا استحضار الجانبَ المعرفيَّ في إنتاج المفاهيم وخلفيّاتها الفكريّة، فمفهوم نصّ الجاحظ -وإن اقترب من مفهوم التّرجمة، خاصة كما هي عند هايدغر وغادامير- فهو يُحيلنا إلى أنّ البنية الإيقاعيّة للشّعر العربي هي سببُ عدم قابليّته للترجمة، ولذلك ظلّ ذلك الإخلاص للكلام الشّفاهيّ على حساب الكتابة عند العرب، بينما نجد بنية الأدب والمعارف لدى العجم والإغريق والهند قد حفظتها الكتابة لنا كما هي، إن لم تزدها التّرجمة إلى العربيّة حسنًا ورونقًا وبريقًا استمدّته من مرونة اللّغة ورشاقتها واتّساع معجمها المعرفيّ في استيعاب آداب الأمم الأُخرى. والكتابة – في ضوء ذلك – أفضل من البنيان والشّعر؛ لأنّها حافظت على الإرث الحضاريّ لهذه الأمم من أدب وعلوم، بينما بقي العرب يؤرّخون بالشّعر فهو ديوانهم الأوّل؛ إذ ظلّت تقاليد الشّعر الشّفاهيّة المتوارثة مهيمنة على الفكر العربيّ في العصر العباسيّ وما بعده. فالنتيجة هي أنّ الجاحظ يُفكّر بثنائيّة الموجود/المفقود ضمن محافظته على التّراث سواء أكان الكلام أم الكتابة هو ما يستحق التّقدير والسّيرورة؟ وما دام الشّعر هو تاريخ العرب الأوّل عند الجاحظ فهو يجسّد ثقافة المسموع على حساب المرئيّ، المتكلم والسّامع وهذا ما يكرّسه الجاحظ في كتابة البيان والتبيين ويهتمّ به اهتمامًا بالغًا. ولذلك فهو مقدّم عنده أوّلًا وآخرًا[11]*.
تحترز هذه المقاربة من  بعض الآراء التي حاولت ردّ الأسباب الَّتي دفعت الجاحظ إلى الإعلاء من شأن الكتاب، وأن تقوم الكتابة بديلًا حضاريًّا عن اللَّفظ والذاكرة؛ فالباحث حمادي صمود ذهب إلى أنّ إطناب الجاحظ في بيان أهميّة الكتاب ووضعه في أرقى منزلة في الوجود البشري، هو نتيجة لانتقال التّراث اليوناني خاصّة[12]؟ ونعتقد أنّ هناك تفسيرًا أكثر عمقًا وأبعد نظرًا، هو ذلك الذي قدّمه الباحث عباس أرحيلة في كتابه المعنون بـ»الكتاب وصناعة التأليف عند الجاحظ» حينما قرن عناية الجاحظ بالكتابة والكتاب بطبيعة الحضارة والفكر العربيين الإسلاميين، من حيث إنّ تلك العناية ما هي إلا نتيجة طبيعيَّة: «ترجع في أصلها إلى انطلاقة أمّة تحمل كتابًا سماويًّا إلى شعوب الأرض قاطبة. وحول ذلك الكتاب، الحامل للوحي تفجّرت قرائح من آمن به في مجالات البحث والفهم والتدبّر والتأليف، فالقادح انفجار ثقافة تنشد لها السيادة في الأرض، وهي ثقافة وجدت نفسها في مواجهة ملل ونحل وثقافاتٍ من أصولٍ مختلفةٍ، وكانت مدعوّةً بحكم الصيرورة الحضاريّة أن تتفاعل مع كلّ الثّقافات السّابقة، على أن يكون الانقداح من داخلها، وما كان هذا يعني انغلاقها على نفسها؛ لأنّها تنشد الحقيقة أنّى كان مصدرها، وشرطها في ذلك أن تكون حقيقة فعلًا»[13].

إنّ هذا التأكيد بخصوص أنّ فضيلة الشّعر مقصورة على العرب يتعارض -كما يرى شارل بيلا- مع جملة ما كتبه الجاحظ في الحيوان؛ حيث لا يتردّد في التصريح بأنّ سكان الهند يمتلكون «كثيرًا من الشِّعر والخُطب الطويلة ومعرفة عميقة بالفلسفة والآداب، ومن عندهم جاء كتاب كليلة ودمنة[14]، وتبدو معرفة الجاحظ للأدب الهندي عمليًّا ضئيلةً –حسب بيلا- باستثناء كليلة ودمنة، وهكذا فـالأفكار الجاحظيّة –حسب شارل بيلا «شهادة تستنتج اهتمامات مؤلّف لا يكتفي بعدم البقاء أعمى وأصم نحو التأثيرات الخارجيّة، بل يفكر في قضايا تطرح نفسها ويحاول حلّها واضعًا نصب عينيه، بثبات، مصلحة العروبة. إنّه، هو نفسه، لن يتردّد في استعارة أفكارٍ من الخارج وموضوعاتٍ ومعلوماتٍ مفيدة سيستثمرها بسرور في بعض مؤلّفاته الأكثر نجاحًا»[15].

تتباين الأساليب حسب الجاحظ بتباين أصحاب الأقلام، وفق خصوصياتٍ معيّنةٍ يقول: «ثُمَّ قال بعض من ينصر الشِّعر ويحوطه ويحتجُّ له: إن التُّرجمان لا يُؤدّي أبدًا ما قال الحكيم على خصائص معانيه، وحقائق مذاهبه، ودقائق اختصاراته، وخفيَّات حدوده، ولا يَقْدِرُ أن يوفيها حقوقها، ويؤدِّي الأمانة فيها، ويقوم بما يلزم الوكيل، ويجب على المجرى، وكيف يقدر على أدائها وتسليم معانيها، والإخبار عنها على حقِّها وصدقها إلاَّ أن يكون في العلم بمعانيها، واستعمال تصاريف ألفاظها، وتأويلات مخارجها مثل مؤلّف الكتاب وواضعه، فمتى كان رحمه الله تعالى ابن البطريق وابن ناعمة، وابن قرَّة، وابن فهريز، وثيفيل، وابن وهيلي، وابن المقفَّع، مثل أرسطاطاليس، ومتى كان خالد مثل أفلاطون»[16].

ولَعلَّ نُقولَ الجاحظ ها هنا عن مشاهيرِ اليُونان كأرسطو وإقليدس وجالينيوس وأبقراط وبطليموس وأفليمون وديمقراط وديسيموس وغيرهم[17] تكون أوضح دليل على قَبول الجاحِظِ بالثَّقافاتِ الأجْنبيّة؛ حيث مضى يبذرُ في نِتاجه العِلميِّ أشتاتًا من المأثُورات المنقُولةِ عن الفلاسفةِ والحُكمـاءِ غير العَرَب، ممّا وجد فيه نَفعًا وفائدةً، وسَبيلاً إلى العِبرةِ والعِظة[18].

ب ـ الترجمة بين أفق الوفاءَ/التشويه بحقِّ الفِكرةِ الأصل:
يميز الجاحِظُ بين صَنيعِ المُؤلفينَ وتشويهِ المُترجمينَ، ممّا أساءَ إلى الأصلِ، وحرّفهُ عن وِجهتهِ المقصُودة. فالتُّرجمانَ -مهما كانت مُكنته في اللُّغةِ الأُخرى- لا يَستطيعُ الوفاءَ بحقِّ الفِكرةِ التي رام صاحبُها التّعبيرَ عنها، يقولُ: «ومتى كان – رحمه اللهُ – ابنُ البطريق وابنُ ناعمة وابنُ قُرّة وابنُ فِهريز وثيفيل وابنُ وهيلي وابنُ المُقفّع مثل أرسطا طاليس؟ ومتى كان خالد مثل أفلاطون؟»[19] ويقولُ في موضعٍ آخر: «ولن تجد مُترجمًا يفي بواحدٍ من هؤلاء العُلماء»[20].

وبناءً على هذا يضع الجاحِظُ شروطًا للتَّرجمة وضوابطَ لا بُدَّ من توافرها فيمن يعزم على الترجمة، والشروط التي وضعها الجاحظ هي عماد الشّروط التي نظلُّ نردّدها اليوم وكلَّ يوم بسبب سوء ما آل إليه حال الترجمة، وما نراه من تطفّل على هذا الميدان، فيقول: «ولا بدَّ للتُّرجمان من أن يكون بيانه في نفس التَّرجمة في وزن علمه في نفس المعرفة، وينبغي أن يكون أعلم الناس باللغة المنقولة والمنقول إليها، حتَّى يكون فيها سواء عليه، وكلَّما كان الباب من العلم أعسر وأضيق، والعلماء به أقلَّ، كان أشدَّ على المترجم، وأجدر أن يخطئ فيه، ولن تجد البتَّةَ مترجمًا يفي بواحدٍ من هؤلاء العلماء، هذا قولنا في كتب الهندسة والتنجيم والحساب واللحون، فكيف لو كانت هذه الكتب كتب دين وإخبار عن الله عزَّ وجلَّ بما يجوز عليه مما لا يجوز عليه...» [21].

وقدّ اتّهم الجاحِظُ فريقًا من التّراجمةِ والنّقلةِ الذين خانُوا هذا التُّراث؛ إذ لم يفهمُوا كُنههُ، ولم يتهيّأ لهم الوقُوف على مراميه الدّقيقة[22] لذا جاءت كُتُب التُّراثَ المنقُولَة إلى العَرَبيّة مُختلفةً منقُوصةً مظلُومةً مُتغيرةً»[23]. ومِن جملة الشروط التي يفرضها الجاحظ على المترجم «أن يكون أعلم الناس باللّغة المنقولة والمنقول إليها حتى يكون فيهما سواء وغاية»[24]. واللّافت في كلامه حسب مي حبيقة الحداد [25]* أمران: أولهما استعماله أفعل التفضيل على الإطلاق. فليس المطلوب أن يكون المترجم عليمًا باللغتين، بل هو أعلم الناس بهما ما يحمّل المترجم عبئًا ثقيلاً قد لا يقدر عليه، أو هو بالأحرى يضعه أمام شرطٍ تعجيزيٍّ لا يقوى على تلبيته. فأيّ إنسان يمكن أن يدّعي أنّه أعلم النّاس بلغة ما؟ أما الأمر الثاني فهو الجزء الأخير من الجملة: حتى يكون فيهما سواء وغاية. لا يكفي إذًا أن يكون المترجم أعلم الناس في اللغتين، بل عليه كذلك ألّا يغلّب لغةً على أخرى. وهنا أيضًا قد يبدو كلام الجاحظ قاسيًا ويُصعّب الأمور على المترجم، وهو يخالف إلى حدّ ما، ما هو معترف به حتى اليوم من أنّ المترجم لا بدّ أن يغلّب لغته الأم التي تكون في الإجمال اللّغة الهدف. ولكن على أيّ حال، فتشديد الجاحظ على مسألة إتقان اللّغتين قد يُعتبر في حدّه الإيجابي تحدّيًا للمترجم وفي حدّه السلبي تشكيكًا في قدرة أيّ مترجم على إيفاء هذا الطلب؛ لا سيّما أنّ الجاحظ يكمل فكرته متطرّقًا ضمنًا إلى قضيّة تداخل اللّغات. فيشرح ظاهرة ثنائيّة اللّغة باعتبارها تؤدّي حتمًا إلى الضّرر باللغتين معًا؛ «لأنّ كلّ واحدةٍ من اللّغتين تجذب الأخرى وتأخذ منها وتعترض عليها» [26].. ولا يمكن في نظره إتقان اللّغتين على قدم المساواة. والسبب يعود إلى القدرة الفرديّة المحدودة التي لا تستطيع أن توزّع كفاءتها (أو قوّتها كما يقول) على أكثر من لغةٍ من غير أن تضعف هذه الكفاءة. يطلب الجاحظ إذًا من المترجم أن يكون لغويًّا مع إقراره وافتراضه المسبق بعدم قدرته على ذلك. ...

ثانيًا: الجاحظ في الدّراسات المقارنة
أ_ الأفق الصورولوجي (imagology)[27] بين أفق الوعي وأفق تغييب النّصّ
إن بروز الأفق الصورولوجي (imagology) في تلقّي آثار الجاحظ، وإن كان استجابةً للأفق البلاغي والفكري الذي شكّلته هذه الآثار وكشفت عنه القراءات المعاصرة لها، إلّا أنّ إعادة الكشف عنه في الوقت الحاضر لم يكن ليتحقّق لولا ترسّخ معيار الأفق المقارن في الثقافة النّقديّة الحديثة، وتشكيله لأفق توقع فئة عريضة من القرّاء تشبّعوا بمفهومات المدرسة الفرنسيّة والأميركيّة في حقل الدّراسات المقارنة. وما نقصده بـ (الصورولوجيا: imagology) هو صورة الآخر في أدبنا القديم  وهو فرعٌ من فروع الأدب المقارن، ويتجلّى هذا الأفق من خلال بحوث اهتمّت ببيان صورة الفُرس في كتابات الجاحظ وخاصّة كتابه البخلاء.

تحيلنا المقاربات الصورولوجيّة إلى القول دون تردّدٍ إلى أنّه ليس هناك من خبرةٍ أكثر أهميّةً من العلاقة مع الآخر؛ إذ يتشكّل الطرفان كذوات، وحين يتم الاعتراف بالآخر (بكونه ذاتا) تندفع الذات إلى المشاركة في جهود الآخر في التحرّر من العراقيل التي تمنعه من الحياة الإنسانيّة الكريمة، وهذه الغاية لا يمكن أن تكون فرديةً فقط؛ لأنّ الذات إذا كانت شخصيّة فإنّ العراقيل التي تمنع الإنسان من الحياة باعتباره ذاتًا هي غالبًا ما تكون اجتماعيّة إداريّة سياسيّة اقتصاديّة …تمارس قهرًا على الذات، وبالتالي تمتنع هذه الذّات عن التفاعل مع الآخر الذي تراه مدمّرًا لكينونتها [28].

هذا، ولعلّنا لا نجانب الصّواب إذا قلنا إنّ البحث عن صورة الفُرس في كتابات الجاحظ لم يتشكّل بصورةٍ مباشرةٍ داخل درس الأدب المقارن، وإنّما كان موجودًا داخل حقول أدبيّة وبلاغيّة كانت مستقلّة عن الأدب المقارن، ومن ثمّ فقد تمّ البحث عن صورة الفُرس في حقولٍ أخرى نذكر مثلا: [29].

1_ مبحث الصورولوجيا في سياق دراسة الفرق بين العقل العربي وعقل الآخر: (الفارسي):
في قراءةٍ طريفةٍ تخالف المقاربات التي رأت أنّ الجاحظ يشيد بالعرب ويردُّ هجمات الشعوبيّة، رأى الجابري أنّ الجاحظ سلب العرب القدرة على (التّعقّل) من حيث لم يتفطّن لذلك، مستنبطًا ذلك من قوله: «إلا أنّ كلّ كلام للفُرس وكلّ معنًى للعجم فإنّما هو عن طول فكرة وعن اجتهادٍ وخلوةٍ ومشاورةٍ ومعاونةٍ وعن طول تفكّر ودراسة الكتب، وحكاية الثاني علم الأوّل وزيادة الثالث في علم الثاني، حتى اجتمعت ثمار تلك الفكرة عند آخرهم. وكلّ شيءٍ عند العرب فإنّما هو بديهة وارتجال وكأنّه إلهام، وليس هناك معاناة ولا مكابدة، ولا إجالة فكر ولا استعانة، وإنّما هو أن يصرف وهمه إلى الكلام وإلى رجز يوم الخصام، أو حين يمتح على رأس بئر، أو يحدو ببعير أو عند المقارعة أو المناقلة أو عند صراع أو في حرب، فما هو إلّا أن يصرف وهمه إلى جملة المذهب وإلى العمود الذي إليه يقصد فتأتيه المعاني إرسالًا وتنثال الألفاظ انثياًلا، ثم لا يقيد على نفسه ولا يدسه أحد... وليس هم كمن حفظ علم غيره واحتذى على كلّ كلام من كان قبله، فلم يحفظوا إلّا ما علق بقلوبهم والتحم بصدورهم واتّصل بعقولهم، من غير تكلّف ولا قصد ولا تحفّظ ولا طلب»[30]. يقول الجابري معلّقًا على نصّ الجاحظ السابق: «إنّ الجاحظ الذي ساق ملاحظاته هذه في إطار الإشادة بالعرب ورد هجمات الشعوبيّة ربّما لم يكن منتبهًا إلى أنّه يسلبهم القدرة على التعقّل بمعنى الاستلال والمحاكمة العقليّة، إنّ العقل العربي حسب الجاحظ قوامه البداهة والارتجال وهو يريد بذلك سرعة الفهم، وعدم التّردّد في إصدار الأحكام، وهذا معناه تحكّم النّظرة المعياريّة التي تؤسّس ردود فعلٍ آنيةٍ، وذلك في مقابل النّظرة الموضوعيّة التي قوامها المعاناة والمكابدة وإجالة النّظر والتي يجعلها الجاحظ من خواص العقل عند العجم من فرس ويونان[31]، غير أنّ الجابري وفي سياق آخر يجمع بين طرح العمري وصمود؛ مبرزًا –في كتابه «بنية العقل العربي»– أنّ الجاحظ/المتكلّم لم يكن معنيًّا بقضيّة «الفهم»، فهم كلام العرب وحسب، بل لقد كان مهتمًّا أيضًا، ولربّما في الدرجة الأولى –كما يقول الجابري–  بقضيّة «الإفهام»، إفهام السامع وإقناعه وقمع المجادل وإفحامه[32].

2  _ مبحث الصورولوجيا في سياق ربط مفاهيم الجاحظ بالمفاهيم المعاصرة: في كتاب «مفاهيم المجاز بين البلاغة والتفكيك»[33]** نلاحظ أنّ المؤلّف طارق النّعمان يُقدّم لنا عبارات صادمة يصعب قبولها من مثل: استشهاده_في سياق مقارناتي_ بقول الجاحظ: «وليس في الأرض أمّة بها طرق أو لها مسكة، ولا جيل لهم قبض وبسط إلّا ولهم خطّ... فكلّ أمة تعتمد في استبقاء مآثرها وتحصين منابتها على ضربٍ من الضّروب وشكلٍ من الأشكال، وذهبت العجم على أنّ تقيّد مآثرها في البنيان... ولذلك لم تكن الفرس تبيح شريف البنيان كما لا تبيح شريف الأسماء إلا لأهل البيوتات... كالعقد على الدّهليز وما أشبه»[34].

للدلالة على أنّ الجاحظ كان على وعيٍ ببعض تقنيّات التّفكيك كـ(الاختلاف) و(الانتشار) و(الإرجاء) و(الكتابة) يقول بعد أن قارب نصًّا جاحظيًّا: «هل نكون مغالين إذا قلنا إنّ الجاحظ هنا في احتياج إلى قراءة دريداويّة بين تصوّره هذا وتصوّر كل من روسو وسوسير وبيرس وشتراوس وياكبسون وهيلمسلف وبارت للعلامة والكتابة؟»[35].
لا شكّ أنّ توظيف الصورولوجيا في هذا السياق ينبع عن خوفٍ من مواجهة الواقع[36]***، بل ونستطيع أن نعزو هذا الالتفات إلى الظروف التاريخيّة التي يمرّ بها العالم العربي في الوقت الحاضر. فالعرب يدركون إدراكًا واضحًا أنّهم متخلّفون عن حضارة العصور لذلك فهم محتاجون إلى الاحتماء بالتّراث لتحقيق التوازن النفسي، فهذا الالتفات يحمل بُعدًا ثقافيًّا نفسيًّا، وكأنّنا نعيد قراءة تراثنا، لا لنكتشف هويّته بنفسه أو تميّزه، وإنّما لنتبيّن شبهه بغيره المتفوّق حضاريًّا لتخفيف كآبة الوعي بالتخلّف[37].

وهكذا، نلاحظ كيف أنّ الباحث  اختار نصوصًا ذات طابعٍ صورولوجيٍّ؛ لـربط مقولات التّفكيك بأطاريح الجاحظ النّقديّة، بيد أنّ هذا الإجراء غيّب التّصور المتكامل للمصطلح أو لنقل تحميل النّص التّراثيّ/الجاحظيّ ما لا يحتمل؛ بمعنى أنّ هناك أفقًا منهجيًّا ألسنيًّا يحاول مصالحة الجاحظ مع جاك دريدا؛ إذ تحضر في قراءة طارق النعمان للمدونة النقديّة الجاحظيّة أو لبعض نصوصه، مصطلحات (الاختلاف)، و(الإرجاء)، و(التّأجيل)، و(الحضور)، و(الغياب) ضمن الميدان التّفكيكيّ، و(المؤلف الضّمنيّ)، و(المروي عليه)، و(القارئ الضمني) ضمن السّردية لخلق تفسير معاصر لنصوص الجاحظ، ومن ثمّ خلق صورة الجاحظ المفكِّك أو الذي يمارس التّفكيك عن دراية به.

3_ مبحث الصورولوجيا في سياق البلاغة الجديدة
حاول محمد النويري في كتابه الموسوم «البلاغة وثقافة الفحولة - دراسة في كتاب العصا للجاحظ» مقاربة «كتاب العصا» بوصفه نصًّا يتداخل فيه الخطاب الحجاجي، والخطاب الجمالي. يتشكّل الخطاب الأوّل من بنياتٍ حجاجيّةٍ توخّت توصيل رسالة إلى المتلقي وإقناعه بمحتواها، وهي أنّ العرب – بخلاف ما يدّعيه الفُرس– قد نبغوا في البلاغة التي اقترنت عندهم بالشّجاعة والفروسيّة. ويشكّل الخطابَ الآخر حقلٌ من الاستعارات والكنايات والصّور البلاغيّة التي جعلت من النّص أفقًا للتأويل[38]*.

لقد أثبتت قراءة النويري لـ«كتاب العصا» أنّه نصٌّ حجاجيٌّ أدبيٌّ، أو أدبيٌّ حجاجيٌّ[39]. وعلى الرّغم من أنّ النّويري يتوخّى في الأساس إبراز القدرة الحجاجيّة التي تجلّت في دفاع الجاحظ عن استخدام العرب للعصا، إلا أنّه واجه «جملة من الصّور والأشكال التعبيريّة التي لا تنحصر وظيفتها في الاحتجاج لأهميّة العصا وارتباطها بالبلاغة، بل تتجاوزها إلى الوظيفة الجماليّة والتأويليّة. وبذلك اضطرّ إلى التّعامل مع الخطاب التخييلي الذي لم يخلُ من وظيفةٍ حجاجيّةٍ في نسيج نصّ «العصا»، على نحو تعامله مع الخطاب الحجاجي الذي لم يخلُ من وظيفةٍ تخييليّة»[40].
ولعلّنا لا نُجافي الصّواب إذا قلنا إنّ الباحث كان مدركًا –بوجهٍ من الوجوه– لهذا الإشكال، عندما أشار إلى أنّ الجاحظ في حجاجه، سلك اتّجاهين مستقلّين ولكنّهما ينتهيان إلى غايةٍ واحدةٍ، وهي الدّفاع عن مكانة العصا في الثّقافة العربيّة الإسلاميّة. الاتّجاه الأوّل رمزيّ؛ أي النّظر إلى العصا باعتبارها «سيما» وعلامة تميّز الأمّة العربيّة عن غيرها من الأمم؛ فوظيفتها لا تتعدّى في هذا التّفسير الدّلالة الرّمزيّة باعتبارها علامةً تسم جسم العربيّ لتعرّف به وتميّزه، أو الدلالة الاستعاريّة التي تنطوي عليها استعمالاتها في الثّقافة العربيّة. ولأجل ذلك سلك الباحث في قراءته لنص العصا، مسلك تأويل جملةٍ من الصّور البلاغيّة والاستعمالات الاستعاريّة التي احتوت لفظ العصا من قبيل: «صلب العصا» و«لين العصا» و«لا ترفع العصا عن أهلك» و«عصا المسلمين» و«عصا الدين» و«شق عصا المسلمين» و«إياك وقتيل العصا»، وصورة «حمل العصا وإلقائها»؛ حيث أفضى به تأملها إلى مجموعة من الدلالات الاستعارية والقيم الدينيّة والاجتماعيّة والحضاريّة والإنسانيّة. إذ تدل هذه الصّور على جملةٍ من القيم كالحذق وجودة السياسة والحزم الرفيق والتلاحم والتكافل والسيادة والفحولة والشهامة والقوة والمكابدة والشوق والذكورة[41].

وفي مقاربةٍ أخرى أجرى الباحث أحمد بن محمد أمبيريك في دراسته الموسومة بـ صورة بخيل الجاحظ الفنّيّة من خلال خصائص الأسلوب في كتاب البخلاء»[42] إحصاء؛ حيث أحصى جميع أسماء الأعلام الواردة في البخلاء، بغضّ النّظر عن قصص البخل، فلاحظ أنّ الأصمعي قد احتلّ «المرتبة الثالثة في نسبة الورود في الكتاب، وذلك بعد النبي وعمر بن الخطاب، كما احتلّ سهل بن هارون الدرجة الرابعة…»[43]، كما لاحظ ورود لفظ الجلالة لديه أكثر من أيّ اسم علم. وهذا دليل كما ترى الباحثة ماجدة حمودة[44] على استغلال الخطاب الدّيني الإسلامي من قبل البخلاء، وبذلك يعلن الجاحظ انتماء بخلائه إلى المجتمع الإسلامي فلا يصمهم بالكفر، حين خرجوا عن عادات المجتمع السائدة وقيمه العليا، مما يدلّ على مدى تفتّح فكر المؤلّف، وقد رأى محمد مشبال أنّ قراءة الباحث أحمد بن محمد أمبيريك «طرقت باب البلاغة دون أن تفلح في  تفسير الوظائف البلاغيّة الجماليّة للنص الجاحظي، ومن ثمّ فقد قدّم الباحث جملةً من الاعتراضات على منهج الباحث نجملها في النقط الآتية [45]:  
كشف منهج الباحث أزمة الأسلوبيّة الشعريّة عندما تتصدّى لتحليل نصوص سرديّة؛ فقد اعتمد في تحليله الصّور الجزئيّة المجتثّة من سياقها النّصّي، وكأنّه قد حصر اهتمامه في تقنين القواعد وصياغة المعايير دونما تفسير للصور أو تواصل مع ما تحتويه النّصوص من إمكانات فنّيّة. تجلّى ذلك على سبيل المثال في تناوله لأسلوب المقابلة[46]*، حيث لم يتجاوز حدود استخلاص الوظائف البلاغيّة الضّيّقة ولم يخرج عن نطاق معايير بلاغة الشّعر.
لا تنتمي النصوص المعتمدة في التحليل إلى نوعٍ أدبيٍّ واحد؛ فمادة التحليل مستقاة تارة من رسائل البخلاء وأقوالهم وتارة أخرى – وإن كانت قليلة – من نوادر الأفعال أو النوادر السرديّة، وهو ما يفيد أنّ الباحث غير معنيٍّ ببلاغة السّرد أو بلاغة النادرة، بل غايته البلاغة العامة، أو بلاغة الخطاب، ولأجل ذلك كانت الرسائل والأقوال المادة الأقرب إلى طبيعة منهج الدراسة.

تدلّ «صورة البخيل الفنّيّة» في نهاية التحليل، على مجموع أفكار البخيل ومبادئه واعتقاداته، إنّها – وفق منظور الباحث – مفهوم عام غير مرتبط بالتكوين الفنّي للنّصّ[47].

وهكذا انتهى محمد مشبال إلى بيان أنّ الباحث محمد أمبيرك لم يتخلّص من سيطرة موضوع البخل على منهج تحليله، بدل الصورة بمفهومها الجمالي والبلاغي، ولأجل ذلك لم يستغرب محمد مشبال تلك الخلاصة التي انتهي إليها البحث، وهي أنّ الصراع بين البخلاء والأسخياء يشكّل لبّ الكتاب وجوهر موضوعه[48]، ألّا تتناقض هذه الخلاصة الموضوعاتيّة مع المنهج المعلن عنه في عنوان الكتاب؟

ب ـ الجاحظ صورولوجيا: قراءة في كتاب الباحثة ماجـــــدة حمـــود: «مقاربات تطبيقية في الأدب المقارن»
يتيح  لنا الأفق المقارني-الصورولوجي الذي اعتمدت عليه الباحثة: ماجـــــدة حمـــود في كتابها مقاربات تطبيقيّة في الأدب المقارن معرفة الشخصيّة الفارسيّة أو بتعبير دوستويفسكي معرفة الإنسان في الإنسان، وهذا أمرٌ بديهيٌّ انطلاقًا من كون الآخر_الفُرس كان شريكًا في بناء الحضارة العربية، هذا وقد رامت الباحثة تحقيق الانفتاح على الآخر (الفرس) أي التوازن في الرؤية بين الناحية الفكريّة والجماليّة عطفًا على مرمى تقديم فهم للحاضر (بتناولها نموذجًا من الماضي) يستند على أسس قويمة للعلاقات العربيّة الإيرانيّة.

تتنزّل دراسة الباحثة في سياق اعتبار سرد البخلاء يحيلنا إلى «ممكنات جديدة كانت خفيّةً في فهم التّاريخ…لأنّ النّصوص لا توجد في فراغٍ مكتفيةً بعزلتها الرّائعة عن السّياقات الاجتماعيّة والتاريخيّة»[49]، وهكذا، تتيح لنا الدّراسات المقارنة حسب الباحثة «معرفة ذواتنا والثقة بأنفسنا؛ إذ نستطيع أن نستجلي عبرها الدّور الذي قامت به حضارتنا الإسلاميّة في بناء الحضارة الإنسانيّة، فنكتشف أنّنا لم نكن عالة على الآخر، بل على النقيض كان هذا الآخر عالةً علينا، لذلك نستطيع اليوم أن نرى أنفسنا بموضوعيّةٍ عبر مرآة الدّراسات الأدبيّة المقارنة، فنرى مدى ما أصاب هذه الصّورة من تشوّه أو جمال» [50].

ب_1 الأفق المقارن ومأزق المماثلة
 هذا، وقد كثرت القراءات والدّراسات حول سرد الجاحظ منذ عهد الروّاد حتى اليوم، وحاولت السعي إلى تأسيس مفهومٍ نظريٍّ وتطبيقيٍّ له، ولعلّ أبرز ما يُؤخذ على حركة النّقد العربي الحديثة أنّها لم تستطع أن تؤصّل نظريّةً نقديّةً عربيّةً شاملةً؛ إذ ما زالت أكثر طرائقها العلميّة فرديّةً، أو قاصرةً، أو ضعيفةً[51]، والنّصّ الأدبي -أيًّا كان زمنه- يبقي يمثّل صورة التجربة الإبداعيّة في مادة الاتصال بين المبدع (المؤلّف الأوّل والقارئ الأوّل) وبين المتلقّي (المؤلّف الثاني والقارئ الثاني). وكلّنا يرغب لسرد الجاحظ في الانطلاق من أسْر القيد إلى فضاء الحريّة وحيويّتها، ومن احتجابه وراء الماضي إلى تنفس أفق الحاضر، والوجود الإنساني؛ وهو يقدّم ذاته للأجيال على أنّه إبداعٌ فنيٌّ أوّلاً، ورسالة تعبّر عن أفكار الجاحظ وتاريخ الثقافة العربية ولا ينفصل عن العصر والمجتمع والطبيعة؛ أي عن الوسط الذي نشأ فيه ذلك السرد ثانيًا. وأتوخّى لقرّاء السّرد الجاحظي ها هنا ألّا يغرقوا في حدود المصطلحات الفنيّة، وضبابيّة الحركة النّقديّة؛ وعموميّة الحدود الزمانيّة والمكانيّة، ومحدوديّة المناهج النّقديّة والأدبيّة التي تنفرد بدراسته...

ولعلّنا لا نجانب الصّواب إذا قلنا إنّ الفحص المقارني بما هو فحصٌ نقديٌّ معقلنٌ لكتاب الجاحظ أعاد إبراز الجميل والمفيد، كما أبرز المسيء لأذواقنا والمشوّه لبناء شخصيتنا[52]، بيد أنّ الباحثة وهي تُعيد قراءة سرد الجاحظ من منظورٍ صورولوجيٌّ وقعت في مأزق المماثلة، وما نقصده بالمماثلة ها هنا هو تلك المقاربات التي تجعل من الأدب القديم يسقط ضحيّة نموذجيّة الأدب الحديث (من منظور صورولوجي)، تارة عندما يجد فيه الباحث ما كان يجب أن يلقاه، وتارة عندما لا يجد فيه ما كان يبتغيه؛ في الحال الأولى-القراءة التي تنظر إلى الأدب القديم بما هو أدب ناشئ في طور النمو- يتمّ إلغاء خصوصيّة الأنواع القديمة ومغايرتها لمصلحة أدب يتعالى على الزّمان والمكان، ولمصلحة قيمٍ كونيّةٍ تبتلع الخصوصيّة الجماليّة التّاريخيّة لآداب الأمم والحضارات، وفي الحال الثّانية-القراءة التي تنظر إلى الأدب باعتبار ما ينبغي أن يكون عليه- يتم إلغاء هذه الأنواع واستبعادها كليّةً لمصلحـة أنـواعٍ أفرزتهـا ثقافاتٌ حديثةٌ وآدابٌ جديدةٌ. إنّ القراءة القائمة على المماثلة هي قراءة «منحازة إلى النّموذج الجماليّ الأدبيّ الحديث، تستخدمه أحيانًا معيارًا تعيد في ضوئه صياغة أنواع أدبيّة قديمة، وتستخدمه أحيانًا معيارًا لمحاكمة هذه الأنواع واستبعادها» [53] تقول:» نجد في كتاب البخلاء ملامح للقصّة القصيرة، لعلّ أهمّها تصوير الشخصيّة بأبعادها الجسديّة والفكريّة (التي لحظناها قبل قليل) كما لاحظنا عناية الجاحظ بتصوير أبعاد الشّخصيّة النّفسيّة تصويرًا دقيقًا»[54].

إذ نلحظ أنّ المقارنات غير المتكافئة بين السّرد الجاحظي/القديم والنثر الحديث، هي خطّة اعتمدت عليها الباحثة صراحةً أو ضمنًا في ثنايا دراستها، وكان النّثر الجاحظي كثيرًا ما يقع ضحيّة هذه الخطّة التي لا تبحث فيه عن خصائصه الذاتيّة بقدر ما تفرض عليه خصائص نموذجٍ جماليٍّ غريبٍ عنه. وتقول أيضًا: يلاحظ المتتبّع لقصص بخلاء الجاحظ التّنوّع في أسلوب تقديمها بين القصّة القصيرة (بالمفهوم المعاصر) والنادرة والفائدة اللغويّة والشّعريّة، كما يلاحظ وجود قصص لا يمكن أن نعدّها قصصًا عن البخل حسب مفاهيم عصرنا الحديث، مما انعكس على السّمات الشّخصيّة لبخلاء الجاحظ وسلوكهم، فتميّزوا أحيانًا بسماتٍ محبّبة، لذا لا نستطيع أن نلحق بهم دلالات مكروهة لهذه الصّفة وفق مفاهيمنا اليوم، نظرًا لتصرّفاتهم التي لا تدلّ على البخل والأنانيّة دائمًا (فالبخيل لدى الجاحظ يقيم الولائم في بيته، وإن كان يشترط شروطًا وكذلك يقدّم هدايا، وهو صاحب أنفةٍ وكبرياء يرفض أن يستعيد ماله إذا حاول أحدهم إهانته ووصفه بالبخل كقصّة أبي سعيد المدائني التي سنتعرّض لها بعد قليل) [55].

إنّ قراءة الباحثة الّتي جعلت الأدب الحديث معيارًا لأدبيّة الأدب القديم من أفٍق صورولوجيٍّ أنتجت نمطًا قرائيًّا تقريظيًّا لكتاب البخلاء بحجّة استيعابه لجملةٍ من معايير الأدب الحديث أو تجسيده بمبدإ المماثلة. وهذا ما جعل المقاربة تتبنّى مبدأ المماثلة، أي البحث عن نظيرٍ تراثيٍّ للأنواع الحديثة.
لقد توخّت الباحثة من قراءتها الوقوف على قصص الجاحظ واستخراج ما فيها من خصائص من حيث الموضوع ومن حيث التّعبير والأسلوب. لقد قرأت الباحثة نوادر البخلاء باعتبارها متوفّرةً على عناصر القصّة كالشّخصيّات والحوار، والأحداث، والمكان، والزّمان، والتّصوير النّفسيّ للشّخصيّات، والحبكة القصصيّة. نذكر على سبيل المثال قولها: إلى جانب السّرد القصصي برز الحوار الذي أضفى حيويّةً على فضاء القصّة، كما منحها بُعدًا واقعيًّا [56] وقولها أيضًا: كما يلاحظ أنّنا نجد في كتاب البخلاء ملامح من الفنّ المسرحي تقف إلى جانب الفنّ القصصي[57].

وهكذا، قامت الباحثة بتحليل مجموعةٍ من نوادر البخلاء الّتي رأت أنّها تتوفّر على مواصفاتٍ كثيرةٍ من فنّ القصّة، كالتّصوير الدّقيق، والشّخصيّات، والحوار، وعنصر التّشويق والمفاجأة، وغيرها من العناصر الفنّيّة. وهكذا لاحظنا أنّها لم تترك مصطلحًا واحدًا من مصطلحات بلاغة القصّة الحديثة لم تذكره؛ وهكذا  فقراءة الباحثة كما وقفنا عليه كشفت عن تصوّرٍ يقيم تطابقًا بين القصّة القصيرة الحديثة وبين القصص القديم على الرّغم من الاختلاف الشّاسع بين هذين الجنسين؛ وهذا التّماثل بين الجنسين – الّذي انطلقت منه الباحثة – كان مسؤولاً عن إسقاطه لمعايير القصّة الحديثة والقصّة القصيرة على قصص الجاحظ، وقد صرفها هذا التّماثل عن التماس وجوه الاختلاف بين الجنسين أو عن أيّ فحصٍ للسّمات المميّزة للقصص القديم.

ب_2 الصورولوجيا إجرائيًا: الاستراتيجيات الصورولوجيّة (استراتيجيا الاسم والصفة):
لبيان استراتيجيات الجاحظ في بيان صورة الآخر-الفُرس ذهبت الباحثة إلى الاعتماد –ابتداء- على المقاربة الإحصائيّة، ومن ثم فقد رأت أنّ الجاحظ أهمل أسماء كثيرةً؛ تفاديًا للإحراج، مستثنيةً ها هنا بعض الأحاديث التي لا بدّ _في رأي الجاحظ _ من ذكر أسماء فيها، فـ»ليس يتوفر حسنها إلّا بأن نعرف أهلها» كما بيّنت الباحثة كذلك أنّ الجاحظ أحيانًا يسمّي اسم صديقه «إذا كان مما يمازح بهذا، ورأيناه يتظرّف ويجعل ذلك الظرف سلمًا إلى منع شينه، قال الجاحظ لرجل يُدعى عبد الله قد رضيت بأن يقال: عبد الله البخيل؟ قال: لا أعدمني الله هذا الاسم! قلت: وكيف؟ قال: لا يقال فلان بخيل إلا وهو ذو مال، فسلّم لي مالي وادعني بما شئت! قلت ولا يقال: فلان سخي إلا وهو ذو مال، فقد جمع الحمد والمال، واسم البخل يجمع المال والذم، فقد أخذت أخسّهما وأوضعهما. قال: وبينهما فرق. قلت: فهذه. قال في قولهم بخيل: تثبيت لإقامة المال في ملكه، وفي قولهم سخي: إخبار عن خروج المال من ملكه، واسم البخيل اسم فيه حفظ وذم، واسم السخي فيه تضييع وحمد»[58]. تعلّق الباحثة على النّص السّابق بقولها: «تحوّلت صفة (البخيل) إلى لقبٍ لعبد الله يفتخر به، ويدافع عنه بحماسة، لنلاحظ الدلالة الموحية لاسم (عبد) فالبخيل لا يأنف أن يكون عبدًا للبخل، كما هو عبد لله تعالى! يخترع نظريّة في البخل ويدافع عنها بإبعاد الدلالات السلبيّة وذكر الدلالات الإيجابيّة، ليجد العزاء فيها والمفخرة، وهو في المقابل يهدم صرح الكرم بتركيزه على الدلالات السلبيّة وإهماله الإيجابيّة، وبذلك يصبح البخيل صاحب مذهبٍ في الحياة وفي الفكر» أيضًا[59].

هذا، وقد لاحظت الباحثة بعد إجراءٍ إحصائيٍّ لأبطال قصص البخلاء أنّ عددهم: بلغ حوالي أربعين بخيلًا من العرب والُفرس، منهم عشرة بخلاء من الفُرس وثلاثون من العرب. كما استنتجت الباحثة موضوعيّة الجاحظ: فالعربي (الأصمعي) قد يذكر لديه في باب البخل أكثر من الفارسي (سهل بن هارون) إذا يمكننا القول بأنّ ذكر الجاحظ لأسماء البخلاء ليس من باب التشهير أو تشويه صورة أمّة دون أخرى، وإنّما رصد لظاهرةٍ اجتماعيّةٍ باتت منتشرةً في عصره، وتقديمها بأسلوبٍ يجمع المتعة والفائدة.
عطفًا على هذا، فقد قادها البحث إلى بيان أنّ الجاحظ قلّما يكون راويًا للقصّة وبطلًا مشاركًا في أحداثها، فهو في أكثر الأحيان يتّخذ صفة الراوي المحايد، الذي ينقل عن الآخرين أحداث قصّته، فنجده يقول: «قال أصحابنا»، «حدثني عمرو بن نهيوي»، «حدثتني امرأة تعرف الأمور»،...إلخ. وبذلك يوحي للمتلقي بحياديّته التامة، فهو يجمع القصص والنوادر من ألسنة الرّواة الآخرين الذين سمعوها أو شهدوها بأنفسهم، أو كانوا أحد أبطالها، فيضفي المصداقيّة الواقعيّة على قصصه[60].

هذا، وقد وقفت الباحثة أمام نصّ للجاحظ يمدح فيه سهل بن هارون: «كان سهل سهلًا في نفسه عتيق (جميل) الوجه، حسن الإشارة، بعيدًا عن الفدامة (العي) تقضي له بالحكمة قبل الخبرة وبرقّة الذّهن قبل المخاطبة وبدقّة المذهب قبل الامتحان وبالنبل قبل التكشّف». وبمنطقٍ صورلوجيٍّ بيّنت أنّ هذا النّصّ يُحيلنا إلى أنّ الجاحظ لم يكن _حين تحدّث عن بخل ابن هارون_ متحاملًا عليه، فقد ذكره إلى جانب العرب الذين اتّصفوا بالبُخل في كتابٍ واحدٍ، كما ذكره إلى جانب العرب الذين اتّصفوا بالبلاغة، فقد امتزج العرب بالأمم الأخرى تحت راية الثقافة العربية الإسلاميّة، واستطاع الجاحظ أن يقدّم لنا صورةً أمينةً لهذا التّمازج الذي لم يكن تمازجًا ظاهريًّا، وإنّما اتّصل بأعماق النّفس الإنسانيّة فتجلّى بأدبٍ جديدٍ ينتمي لروح الإسلام.

لقد انتهت الباحثة إلى بيان وحدة الثّقافة العربيّة الفارسيّة في العصر العباسي، فرسالة سهل بن هارون إلى بني عمّه من آل رهبون (حين ذمّوا مذهبه في البخل، وردّوا عليه بعد أن تتبّعوا كلامه في الكتب) كتبت ببلاغةٍ عربيةٍ، عطفًا على كون صاحبها -سهل بن هارون- يستشهد فيها بأحاديث الرسول (ص)، وبأقوال الخلفاء والتابعين الذين عُرفوا بالتّقشّف والزّهد، وفي المقابل نجد العرب يردّدون أقوال الفُرس وخاصّة سهل بن هارون.

ويُمكننا القول إجمالًا ها هنا: إنّ مقارنات الجاحظ بين آداب الأمم الأربعة الكبرى في عصره، لم تكن مبنيّةً على منهج، بل اعتمدت على أفكارٍ متعدّدةٍ، والثّابت أنّ الجاحظ لم يكن معاديًا للثّقافات الأجنبيّة، ولم نلتمس شيئًا من الاستعلاء في آرائه. ومن ثمّ فهو مثلًا لم يقصد ذمّ العنصر الفارسي، بل ذكر أيضًا محاسنهم، كما تحدّث كذلك عن البُخلاء من العرب في عصره، يقول د. الطاهر مكي: «كان الجاحظ يقاتل الشعوبيّة اتّجاهًا سياسيًّا، لكنّه لم يكن معاديًا للثقافات الأجنبيّة، ولا يستطيع أحد أن يتّهمه بالتّعصّب أو بقصر النّظر أو بضيق الأفق»[61].
فالصورة التي رسمها الجاحظ عن الفُرس والأتراك نبعت من مشكلات الجاحظ مع نفسه، ومشكلات العرب في مواجهة الآخر، لذلك لبّت صورة الفُرس والأتراك في كتاب البخلاء حاجاتٍ نفسيّةً أو فنيّةً أو اجتماعيّةً ....ونتصوّر أنّ الدّراسات التي اهتمّت بمبحث الصورولوجيا في كتاب البخلاء  كان الأحوط بها (قبل أن تبدأ بحثها في صورة الآخر) أن تعيد فحص موقفها الفكري ومنظومة قيمها، أي امتلاك القدرة على النّقد الذّاتي تجاه ممارساتها الثّقافيّة وتأمّلاتها الفكريّة، كي تستطيع دراسة صورة الآخر التي تكوّنت في الماضي من أجل فهم الحاضر والتأسيس لمستقبلٍ أفضل.

ثالثاً: الجاحظ في المقاربة الاستشراقيّة: ( شارل بيلا قارئًا للجاحظ)
الجاحظ هو«الكاتب العربيّ الأكثر استحقاقًا لماهيّة الإنسيّة»[62].
إنّ الذي ينبغي أن نبقى على ذكر منه هو أنّ الاستشراق الفرنسي هو الأكثر فهمًا وقربًا من الشّرق، بحكم الطبيعة التوسّعيّة الاستعماريّة لفرنسا خلال القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، وهو ما مكّنها من التّفوّق على باقي المدارس الاستشراقيّة في معرفة العرب والمسلمين واستيعاب ثقافتهم، رغم أنّ معظم النّشاط الاستشراقي الفرنسي كانت له أبعاد سياسيّة استعماريّة ظالمة.

لعلّنا لا نجانب الصّواب إذا قلنا إنّ اهتمام شارل بيلا بالجاحظ -اهتمام الغرب بالمشرق عمومًا- ينبع من رغبتة في الهروب خياليًا من مجتمعه الصّناعي الذي تسود فيه قوانين العقلانيّة والتقنيّة الآليّة والإدارة الشاملة الفعّالة إلى مجتمعٍ عربيٍّ غير صناعيٍّ متأخّر تقنيًّا، يتخيّل شارل بيلا الأوروبي أنّه وجد فيها قدرًا أكبر من التحرّر من قيود المدينة، في هذه الحالة تكون الصورة التي رسمها شارل بيلا للجاحظ (ولمدينة البصرة وبغداد) إيجابيّة قد تبلغ حدّ التمجيد.

إنّ أيّ قراءةٍ لا تبدأ من فراغٍ، بل هي قراءةٌ تبدأ من طرح أسئلةٍ تبحث لها عن إجاباتٍ، وسواء أكانت الأسئلة التي تتضمّنها عمليّة القراءة صريحة أم مضمرة، فالمحصلة في الحالتين واحدة، وهي أنّ طبيعة الأسئلة تحدّد للقراءة آليّاتها، ويكون الفارق بين السّؤال المُعلن والسّؤال المضمر: أنّ آليّات القراءة في الحالة الأولى، تكون آليّات واعية بذاتها، وقادرة على استنباط أسئلةٍ جديدةٍ تقوم بدورها بإعادة صياغة آليّات القراءة، وبذلك تكون القراءة منتجةً. أما آليّات القراءة في حالة السّؤال المضمر فتكون آليّاتٍ مضمرةً بدورها، تتظاهـر غالبًا بمظهر الموضوعيّة لإخفاء طابعها الأيديولوجيّ النّفعيّ، وتقع من ثمّ في أسر ضيق النّظرة والتّحيّز عن المشروع. وأحيانًا ما تتعقّد القراءة فتطرح بعض الأسئلة وتضمر بعض الأسئلة، وعلى ذلك تزدوج آليّاتها وتتناقض، فتكون قراءةً منتجةً على المستوى الجزئيّ، ومتحيّزةً أيديولوجيًّا على المستوى الكليّ العام. وإذا تحدّدت إشكالات القراءة في بعديّ اكتشاف الدّلالة والوصول إلى المغزى تتحدّد إشكالات التّأويل في طبيعة الأسئلة التي تصوغها القراءة انطلاقًا من الموقف الحاضر وجوديًّا ومعرفيًّا.

أ_ الأفق التاريخي/السياقي وكسر القيم الفنيّة:
القراءة الاستشراقيّة في معظمها تتجاهل الأثر بحثًا عن المؤثّر، فلا نجد في الغالب متابعة للنّصوص الأدبيّة والآثار الفنّيّة من الناحية البنيويّة الجماليّة، ولكنّنا نقف في معظم الأحيان على قراءاتٍ تستخدم النّصّ مطيّةً للبحث عن حقائق (خارج نصيّة)، كسيرة الكاتب أو ثقافة عصره، أو ظروف إنتاج النّصّ وما إلى ذلك من سياقاتٍ، عبر جملةٍ من المناهج، التي تخدم هذا الغرض، كالمنهج التاريخي، والمنهج النفسي، والمنهج الاجتماعي، والمنهج الحفري (الأركيولوجي) وغيرها، وهي مناهج لا تعكس القيمة الفنّيّة والعلميّة لموروثنا الأدبي بقدر ما تحوّله إلى وثيقةٍ تبحث في مؤثّرات هذا الموروث.

والحاصل أنّ شارل بيلا لم يخرج عن هذا النّسق التأليفي، ففي كتابه« الجاحظ في البصرة وبغداد وسامراء» نلمس بوضوحٍ النّقد التّاريخي (اللانسوني)؛ حيث تنطلق قراءة شارل بيلا للجاحظ-بوصفها مقاربةً سياقيّةً- من نقطة الاهتمام بما حول النّصّ الجاحظي، كالحقبة التاريخيّة التي عاش فيها وما لها من أثرٍ فيــه، ومن شأن هذا المنهج دراسة السّياق وما يتعلّق به، ويمكن أن نسم منهج الباحث بـ «التفسير»؛ لأنّه سعى إلى تفسير النّصّ بتفسير سياقه، ومن ثم ركّز الباحث في كتابه الموسوم بـ «الجاحظ في البصرة وبغداد وسامراء» على مجموعة العوامل التي تُؤثّر في اتّجاه نصوص الجاحظ، وفي تشكيلها، وفي ظهورها، «فالسياق العام للأثر الأدبي أو النّصّ هو المجتمع والتاريخ»[63].  
إنّ  الفاحص لقراءة بيلا يلحظ أنّها تُغيّب كلّيًّا القارئ من حيث هو أداة وطرف أساسُ في إنتاج المعنى الذي يحمله النّص، فهي تراهن على المعنى الواحد بدل المعنى المتعدّد والمتنوّع مع الاحتكام إلى السّياق والظّروف المحيطة بمقولات الجاحظ، والتي تعدّ الأصل حسبه في إدراك القصد الجاحظيّ، وسنحاول في هذا السّياق أن نناقش بعض آراء بيلا حول الجاحظ.

لقد كان بوسع الباحث شارل بيلا -كي يكون بحثه وافيًا كاملًا- أن يفحص حياة الجاحظ في مرحلتيها (البصريّة والبغداديّة)، بيد أنّه أحجم أمام طول البحث وتشعّبه، فقصر بحثه على مرحلة البصرة، ومن ثمّ فقد اشتملت دراسته للجاحظ، على كلّ ما له علاقة بمدينة البصرة، منذ القرن الأوّل الهجري حتى زمان الجاحظ من النواحي الاجتماعيّة والأدبيّة والفكريّة والاقتصادية، مع حرصه على إظهار التّفاعلات التي عملت على بناء شخصيّة الجاحظ، وذهنيّته الجبّارة، وينبغي التأكيد على الملاحق التي أضافها مترجم الكتاب (إبراهيم الكيلاني)، وهي:

بحث بعنوان: الجاحظ في بغداد وسامراء، عثر عليه المترجم في مجلة الدراسات الإسلاميّة التي تصدر في روما.

محاضرة بعنوان: أصالة الجاحظ، (وهي عبارة عن محاضرة ألقاها شارل بيلا في المغرب).

أما بالنّسبة لمسرد الكتاب فقد جاء مكوّنًا من تمهيد، ثم ذكر للمصادر التي استقى منها بيلا مادته، وبعدها نجد ستة فصول، هي على النحو الآتي:

الفصل الأوّل بعنوان: البصرة في القرنين الأول والثاني
الفصل الثاني بعنوان: الجاحظ في البصرة
الفصل الثالث بعنوان: الوسط الديني والسني
الفصل الرابع  بعنوان: الوسط الأدبي
الفصل الخامس بعنوان: الوسط السياسي الديني
الفصل السادس بعنوان: الوسط الاجتماعي
يقول الباحث شارل بيلا مبرزًا نهجه السياقي: «إنّنا لا نستطيع دراسة الجاحظ من (الداخل) بل من الجائز دراسته من (الخارج) على اعتبار أنّ أغلب آثاره هي أبعد من أن تكون نتيجة هواية كاتب واعٍ لموهبته، بل هي مشروطة بحوادث ذوات طبائعَ متنوّعةٍ، لذلك يجب التفتيش عن الفرصة والدّوافع في الحالة الفكريّة والاجتماعيّة والدّينيّة والسياسيّة السائدة حينئذ، كما يجب التنقيب في ظروف حياته الخاصّة التي دفعته إلى كتابة رسالة الجد والهزل، والفارق بين العداوة والحسد وعندها يصبح التوقيت الزّمني لآثاره أمرًا لا غنى عنه»[64].

يحيلنا نصّ شارل بيلا دون تردّدٍ إلى مجموعةٍ من القراءات النّقديّة العربيّة التي تأثّرت بمنهج بيلا في فحص الخطاب الجاحظي من منظورٍ سياقيٍّ[65]* لعلّ أبرزها: قراءة جميل جبر «الجاحظ في حياته وأدبه وفكره» [66]*، وأطرف من مثّل هذه القراءات في حدود اطّلاعنا شوقي ضيف من خلال كتابه «البلاغة تطوّر وتاريخ»، الذي يُعدّ مدرسة قائمة الذات/مدرسة التّمهيد في المنظومة العربية.

ولقد كان لملاحظات بيلا حول الجاحظ أثرٌ في الدّراسات العربيّة، فالباحث صالح بن رمضان في مقاربته الموسومة بـ «أدبيّة النّصّ النّثري عند الجاحظ» إنّما يطوّر ملاحظةً وردت في قراءة شارل بيلا في مقاله «النثر الفني ببغداد»، الذي رأى فيه أنّ الجاحظ على الرّغم من بلوغ نثره درجة نافس بها الشعر، إلّا أنّ النّقّاد العرب القُدامى الذين أعجبوا به لم يُبيّنوا أسباب هذا الإعجاب «ذلك أنّ الشّعر وحده (بصرف النّظر عن القرآن طبعًا) جدير بأن يكون في نظره موضوع دراسة أسلوبيّة»[67].

لكن هل مبرّرات بيلا في عدم دراسته للجاحظ من الداخل منطقيّة؟ ثم هل يُمكننا أن نسلم بقوله من كون أغلب آثار الجاحظ هي أبعد من أن تكون نتيجة هواية كاتبٍ واعٍ لموهبته... ونودّ في هذا السّياق أيضًا أن نقدّم احترازًا على منهج الباحث بيلا، حيث ذكر دالين متناقضين؛ وذلك حينما صرّح بأنّ منهجه في المقاربة يعتمد على المرجعيّة السّياقيّة ومرّة أخرى نجده يقول: «إنّه لولا كتب الجاحظ لكان عملنا أكثر هزالًا... » [68].

ب_ الأفـق الجمـالي:
إنّ الجاحظ على الرّغم من بلوغ نثره درجةً نافس بها الشّعر، إلّا أنّ النّقّاد العرب القدامى الذين أعجبوا به لم يُبيّنوا أسباب هذا الإعجاب «ذلك أنّ الشّعر وحده (بصرف النّظر عن القرآن طبعًا) جدير بأن يكون في نظره موضوع دراسة أسلوبيّة».

شارل بيلا: النثر الفني ببغداد
يُؤسّس الباحث شارل بيلا (Charles pellat) فهمًا خاصًّا/ مغايرًا وطريفًا لمقولة الاستطراد عند الجاحظ؛ حيث يتصوّر في هذا السّياق أنّ «التّفكّك» و«التّكرار» هما مصدر «روعة»[69] كتب الجاحظ، ويدعـونا إلى قراءة استطرادات الجاحظ وتذوّقها في سياق المقصديّة الأدبيّة التي تتوخّاها كتاباته؛ فالجاحظ أديب يتغيّا إمتاع القرّاء [70]. وكأنّ المستعرب الفرنسيّ يدعو إلى التّعامل مع مؤلّفات الجاحظ باعتبارها نصوصًا أدبيّةً تُهيمن فيها الوظيفة الجماليّة على الوظيفة المعرفيّة، كما يدعونا إلى قراءة تلك المؤلّفات في سياق الاستراتيجيّات الفكريّة التي تتحكّم في إنتاجها؛ أي باعتبارها نصوصًا تُجيب عن أسئلةٍ كبرى أقلقت الجاحظ. ولا شكّ أنّ القارئ في هذه الحال سيقدّر استطراداته ويفهمها على الوجه الذي أراده لها صاحبها، وليس انطلاقًا من معيارٍ منهجيٍّ معاصرٍ.

إنّ النّظر إلى كتب الجاحظ: »الحيوان«، و«البيان والتبيين« و«البخلاء« باعتبار الغايات التي تتحكّم في بنيتها، يساعدنا من دون شكّ في إعادة تقييم أسلوب الاستطراد عند الجاحظ، ويقدّم تفسيرًا أعمق لطبيعة نصوصه؛ على هذا النّحو يرى شارل بلاّ أنّ كتاب »الحيوان« يؤول إلى «إحصاء ما في الطبيعة من الأدّلة على قدرة الباريّ سبحانه وتعالى، وعلى إتقان صنعه، وعجيب تدبيره، ولطيف حكمته».[71] أمّا الغاية من كتاب «البيان والتبيين» فتتمثّل في الدّفاع عن العرب وإظهار «قريحتهم الخطابيّة وعبقريّتهم الشّعريّة» [72] بعد أن أصبح الوجود الفارسيّ يهدّد الوجود العربيّ في الثّقافة والسّلطة. ولا تختلف الغاية من تأليف كتاب «البخلاء» كثيرًا عن هذه الغاية؛ فقد ألّف الجاحظ هذا الكتاب أيضًا للدّفاع أيضًا عن العرب ضدّ الوجود الفارسيّ وتسلّطه؛ فبعد أن أظهر تفرّقهم في البلاغة، سعى هنا إلى إظهـــار جودهم وسخائهم في مقابل اقتصاد الأعاجم وبخلهم[73].

وهي الفكرة نفسها تقريبًا التي دعا إليها مجموعةٌ من الباحثين العرب؛ فالباحث صالح بن رمضان، يدعو إلى مقاربة أسلوب الاستطراد بالنّظر في كتب الجاحظ وتقييمه في ضوء معيارين أساسيّين؛ الأوّل يؤكّد على ضرورة مراعاة طبيعة النّوع الأدبيّ الذي تنتمي إليه هذه الكتب التي يشيع فيها الاستطراد. أمّا الثّانيّ فيحرص على وجوب الكشف عن أفق انتظارٍ مغايرٍ لتلقيّ هذه الكتب.

وعلى هـذا النّحو رأى البـاحث أنّ المـؤلفـات الأدبيّـة من قبـيـل »الحيوان«، «ليست مجرّد موسوعاتٍ علميّةٍ ولغويّةٍ، وإنّما نوع أدبيّ جامع لأنواع كثيرة، أو قل هي مصّب الأنواع ونقطة تقاطعها»[74]؛ ويتأسّس على هذا المعيار التّجنيسي الذي قال به بيلا وغيره - فيما يقول مشبال ضرورة- «مقاربة هذه المؤلّفات في ضوء معايير أفق انتظار تختلف عن معايير أفق تلقيها القديم التي حدّدت وظيفة الأدب في الجمع بين الإمتاع والإفادة»[75].

إنّ البحث عن أفق انتظار آخر كفيلٌ بتغيير فهمنا لهذه الكتب، وبتغيير نظرتنا وتقديرنا لأسلوب الاستطراد؛ على هذا النّحو أفضى معيار تجنيس هذه الكتب في إطار الأنواع الأدبيّة الجامعة أو الكتابة الموسوعيّة إلى اعتبار الاستطراد سمة من سماتها البلاغيّة. يقول صالح بن رمضان عن الاستطراد في كتاب »الحيوان«: «إنّ التداخل بين الفنون والأشكال في كتاب الحيوان يخدم تصوّر الجاحظ للكتابة، بل لعلّ كافّة أساليب الاستطراد، وهي كثيرة، إنّما هي أركان فنيّة تلائم بنية الخطاب في النّص الموسوعيّ، ومن الخطأ أن نواصل استخدام مصطلح الاستطراد دون أن نميّز بين الاستطراد الشّفويّ، والخروج أثناء الكتابة من موضوع إلى آخر، أي الاستطراد كظاهرة تتميّز بها الكتابة الموسوعيّة»[76]، ويعتبر الباحـث نوري جعفـر في تفسيره النّـفسيّ للاستطراد ومحتوياتـه، الجاحظ «عالم نفس»[77] يراعي المَلل الذي يعتري القارئ فيروّح عنه بالتّغيير في الموضوعات والانتقال بين الجدّ والهزل.

ويعضد الباحث إدريس بلمليح طرح شارل بيلا حينما يقول بـ «النّسق» في خطاب الجاحظ رغم تبعثر أقوالــه وأحكامه، وهو ما عّبر عنه- في نص التّقـديـم- بمحاولة العثور على «منطق» داخليّ لتراث الجاحظ يضمن الجهد البلاغيّ عنده[78]، ثم إنّ النتائج التي توصّل إليها إدريس بلمليح كفيلة بشرح ذلك.
إنّ الذي نحرص على تأكيده في هذا المقام هو متانة قراءة بيلا لمقولة الاستطراد عند الجاحظ؛ حيث دعا إلى إعادة قراءة التّراث الجاحظي بأناة، لاستخلاص النّظريات التي تحكمه وتلمّس عناصر القوّة والأصالة فيه، والبُعد عن التّسرّع في تخطئة الجاحظ خاصّة ما تعلّق بمنهجيّة الكتابة والتأليف عنده.

إنّ فاحص قراءة شارل بيلا يلحظ أنّه حاول التركيز على «إضافة» الجاحظ وجدته داخل دائرة انتمائه الاعتزاليّ، ويمكن أن نردّ ذلك إلى طبيعة اختيار الباحث المنهجيّ، ومن ثم فقراءته اختلفت عن مقارباتٍ أخرى لاحقةٍ لم تركّز على الجانب الفردي بقدر ما ركّزت على النتاج الجماعي؛ فالباحث إدريس بلمليح مثلًا يقول في هذا الصدد: «لا شكّ أنّ محاولة ردّ حركة فكريّة ذات اتجاهاتٍ متعدّدةٍ، ومبادئ متنوّعة، إلى فرد من الأفراد، تبدو محاولة تعسّفيّة إلى حدّ كبير؛ لأنّ تاريخ الفكر الإنسانيّ يعلّمنا أنّ الحركة الفلسفيّة أو الثّقافية أو الأدبيّة، إنّما منشؤها فئة اجتماعيّة، للفرد مكانته بينها، لكنّها تبقى بالرّغم من ذلك جماعة، تؤمن بهذا الاتّجاه أو ذاك في مرحلةٍ زمنيّةٍ معيّنةٍ، فيؤسّسه بعض أفرادها، ويطوّره أو يغنيه أو يدافع عنه أفراد آخرون عبر الزّمن»[79].

وهكذا، لا يمكن تجاهل جانب الفرد أو العبقريّة عند الجاحظ في صياغة رؤيته للعالم، وفي هذا السياق يؤكّد شارل بيلا على «الذّكاء الحاد الفريد من نوعه عند الجاحظ وميله الوراثيّ للتّفكير العقليّ» مع أنّه سعى إلى تحليل وتأكيد تأثير البصرة في فكر الجاحظ، وأنّ عقل الجاحظ صيغ «لا شعوريّا» انطلاقًا من هذا التّأثير»[80].  

وإجمالًا فقد أثبتت هذه المداخلة أنّ خطابات الجاحظ بأنماطها المختلفة تقدّم من الإجابات بقدر ما تتلقّى من أسئلةٍ، وستظلّ تنجلي عن معانٍ وقيمٍ جديدة كلّمـا تواصل معـه القرّاء وتجدّدت آفاق التّلقي وأسئلـة القـراءة وأدوات التّحليـل ومعاييـر التّقييم.

مراجع البحث:
إبراهيم رزان، الاستقبالية العربية للحداثة وما بعدها، دار الكرمل، 2004.
أحمد بن محمد أمبيريك، صورة بخيل الجاحظ الفنية من خلال خصائص الأسلوب في كتاب البخلاء، دار الشؤون الثقافية العامة (آفاق عربية) بغداد والدار التونسية للنشر، سنة 1986.
أحمد رحيم كريم الخفاجي، التّراث النّقدي العربي والتقويل الحداثي المعاصر، (رسالة دكتوراه فلسفة في اللغة العربية/أدب، مخطوط (وقد طُبعت ببيروت)، جامعة بابل، كلية التربية، إشراف قيس حمزة الخفاجي، نوقشت سنة 2009 ).

إدريس بلمليح، الرؤية البيانية عند الجاحظ، دار نوبقال للنشر، المغرب، 1985.
آلان تورين في كتابه «نقد الحداثة» ترجمة: أنور مغيث، المجلس الأعلى للثقافة (المصري) بشراكة مع المشروع القومي للترجمة، 1997.
الجاحظ، البخلاء، تحقيق طه الحاجري، دار المعارف، القاهرة، ط07، 1971.
الجاحظ، الحيوان، ( تحقيق عبد السلام محمد هارون ـ دار الجيل ـ بيروت/ دار الفكر ـ دمشق، 1408 هـ/ 1988م).
الجاحظ، البيان والتبيين، تحقيق: درويش جويدي، المكتبة العصرية، بيروت 2005.
حبيب مونسي، القراءة والحداثة، مقاربة الكائن والممكن في القراءة العربية، منشورات اتحاد الكتاب العرب بدمشق، 2000.

حبيب مونسي، في القراءة والتأويل، مجلة الموقف الأدبي، (أدبية شهرية تصدر عن اتحاد الكتاب العرب بدمشق)، العدد 440، كانون الأول، السنة السابعة والثلاثون 2007).

حبيقة الحداد المترجم: «من أنا؟»
https://hal-confremo.archives-ouvertes
حمادي صمود، التفكير البلاغي عند العرب، أسسه وتطوره إلى القرن السادس، مشروع قراءة، دار الكتاب الجديدة المتحدة، ط03، 2010.
حمادي صمود، التفكير البلاغي عند العرب، أسسه وتطوره إلى القرن السادس، مشروع قراءة، الطبعة الثالثة، دار الكتاب الجديدة المتحدة، 2010.
سمير سعيد حجازي، قاموس مصطلحات النقد الأدبي المعاصر، دار الآفاق العربية، ط1، 2001.
شارل بيكوبيلا: الجاحظ والأدب المقارن، ترجمة: محمد وليد حافظ، مجلة الآداب الأجنبية اتحاد كتاب العرب سوريا، العدد 96، خريف 1998، السنة الرابعة والعشرون.
شارل بيلا، الجاحظ في البصرة وبغداد وسامراء، ترجمة إبراهيم الكيلاني، دار الفكر، دمشق، ط01، 1958.
شكري عياد، الأدب في عالم متغير، دار الكتاب العربي، القاهرة، 1971.
صالح بن رمضان، أدبية النص النثري عند الجاحظ، مؤسسة سعيدان للطباعة والنشر سوسة، الجمهورية التنوسية، سنة 1990.
صلاح فضل، في النقد الأدبي، اتحاد كتاب العرب، دمشق، 2007.
الطاهر مكي، في الأدب المقارن، دراسات نظرية وتطبيقية، دار المعارف، القاهرة، ط3، 1997.
عباس أرحيلة، الكتاب وصناعة التأليف عند الجاحظ، الوراقة الوطنية، مراكش،  .2004
عبد الله الغذامي، المشاكلة والاختلاف، قراءة في النظرية النقدية العربية وبحث في الشبيه المختلف، الطبعة الأولى، المركز الثقافي العربي، بيروت، 1994
عبد الواحد التهامي العلمي، قراءة السرد العربي القديم بين وهم المماثلة ومبدإ المغايرة، مجلّة عالم الفكر، العدد 1، يوليو-سبتمبر 2012، المجلّد 41.
ماجـدة حمـود، مقاربات تطبيقية في الأدب المقارن اتحاد الكتاب العرب، 2000.
محمد النويري، البلاغة وثقافة الفحولة، منشورات كلية الآداب منوبة، تونس، سنة 2003.
محمد النويهي، ثقافة الناقد الأدبي مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1949.
محمد عابد الجابري، تكوين العقل العربي، دار الطليعة، بيروت، ط2، ص32.
محمّد محمُود الدّروبيّ، مَوقفُ الجاحِظِ مِنَ الثَّقافاتِ الأجْنَبيّة، مجلة مجمع اللغة العربية الأردني (علمية محكمة)، العدد 78.
محمد مشبال: بلاغة النادرة، أفريقيا الشرق، الدار البيضاء - المغرب، 2006.
محمد مشبال، البلاغة والسرد، جدل التصوير والحجاج في أخبار الجاحظ، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية جامعة عبد الملك السعدي، تطوان- المغرب، 2010.
مسالتي محمد عبد البشير: الجاحظ في قراءات الدارسين المحدثين، رسالة دكتوراه، جامعة محمد لمين دباغين سطيف2، 2014.
مسالتي محمد عبد البشير، خطاب البلاغة الأنساق المتعارضة وجدل التأويل، المركز الأكاديمي، الأردن، 2019.
نوري جعفر، الجوانب السيكولوجية في أدب الجاحظ، دار الرشيد، بغداد، سنة 1981.
 37Diego Marconi, La Philosophie du Langage au XXe siècle, traduit par Michel Valensi, Edition de  l’Eclat, Paris, 1997, p.12


----------------------------------------------
[1]- مشبال، محمد: مجلة البلاغة وتحليل الخطاب (هي مجلة علمية محكمة يديرها الأستاذ إدريس جبري)، العدد05، ص120.
[2]- الدّروبيّ، محمّد محمُود: مَوقفُ الجاحِظِ مِنَ الثَّقافاتِ الأجْنَبيّة، مجلة مجمع اللغة العربية الأردني (علميّة محكمة)، العدد78، ص50.
[3]- انظر: مونسي، حبيب: في القراءة والتأويل، مجلة الموقف الأدبي (أدبية شهرية تصدر عن اتحاد الكتاب العرب بدمشق)، العدد 440، كانون الأول، السنة السابعة والثلاثون، 2007، ص60؛ انظر: مونسي، حبيب: القراءة والحداثة، مقاربة الكائن والممكن في القراءة العربيّة، منشورات اتحاد الكتاب العرب بدمشق، 2000، ص275.
[4]- الجاحظ: الحيوان، تحقيق: عبد السلام محمد هارون، لا ط، دار الجيل ـ بيروت/ دار الفكر ـ دمشق، 1408 هـ/ 1988م، ج1، ص75.علق المستشرق الفرنسي شارل بيلا(Charles pellat) على النص السابق بقوله:»..إن أي إنسان غير عربي لن يستطيع مزاحمتهم في هذا المجال»؛ شارل بيكوبيلا: الجاحظ والأدب المقارن، ترجمة: محمد وليد حافظ، مجلة الآداب الأجنبية (تصدر عن اتحاد كتاب العرب سوريا)، العدد96، خريف 1998، السنة الرابعة والعشرون، ص155. وسياقُ النص لا يَتضمنُ إنكارَ مَعرفةِ غير العَرَبِ بالشِّعر، بل فحواه أنّ العَرَبَ أقدر من غيرهم على تَعاطِي أسبابِ هذا الفنِّ والإبداعِ فيه؛ كونه أمسّ بحياتهم، وأدنى إلى نُفُوسهم من ألوانِ التّعبيرِ الأُخرى التي شُغفت بها غيرُهُم من الأُمم ومن هُنا مضى الجاحِظُ يُؤكدُ أصالةَ الثَّقافةِ العَرَبيّةِ الإسْلاميّةِ. فالشِّعرَ العَرَبيَّ لو نُقلَ إلى غيرِ العَرَبيّة- مع ما يرى من صُعوبةِ ذلك- لَوَجَدَ العَجَمُ أنّ معانيه تُناظرُ ما هو مُدوّن عندهُم في الكُتُب من معارف من غيرِ تأثّرٍ من الطّرفين؛ كون هذه المعاني المُشتركة تمُثّل - في لُبِّ الأمر- لوناً من التّفكيرِ الإنسانيِّ العام الذي تتوصّل إليه الأُمم من تِلقاءِ نفسها. والجاحِظُ يُوجّه – بذلك- إلى ضَرورة مَعرفةِ ما عندنا من تُراثٍ أصيلٍ حتى لا نعتقد – دومًا - بجدّةِ ما عند الآخر، فنُؤخذ ببريقهِ على غير وعي، ونَنثالُ عليه انْثيالَ الرَّمل.
[5]- أهم ما قدمه غادامير في هذا السياق هو تحليل الطبيعة التاريخيّة لعمليات الفهم الأدبي، ويصف حدث الفهم في واحدة من أشهر استعاراته بأنّه امتزاج الأفق الخاص بالفرد المتلقّي بالأفق التاريخي المستقبل لنص أدبي ما، فعندما نضع وعينا التاريخي نفسه خلال الآفاق التاريخيّة فإنّ هذا حسب غادامير «لا يستطيع العبور على عوالم غريبة لا ترتبط على أي نحو بعالمنا، ولكنّها مجتمعة تكون الأفق الواحد الكبير الذي نتحرّك من داخله والذي يعانق فيما وراء الحاضر الأعماق التاريخيّة لوعينا الذاتي، إنّه أفق واحد في الحقيقة ذلك الذي يعانق كلّ شيءٍ احتواه الوعي التاريخي». صلاح فضل: في النقد الأدبي، (اتحاد كتاب العرب، 2007، دمشق)، ص83. (هانز جورج غادامير: من أهم الفلاسفة الألمان المعاصرين، ولد عام 1900، ودرس في جامعة لايبزغ ثم جامعة فرانكفورت، وفي عام 1949 شغل كرسي الفلسفة في جامعة هايدلبرغ خلفاً لكارل ياسبيروس. وقد شكل مفهوم التأويل Exegesis/ Interpretation نقطة مركزيّة في إسهامه الفلسفي، نتج عنها فيما بعد إسقاطات مهمّة في حقول معرفيّة عديدة من العلوم الإنسانيّة. ازداد غادامير شهرة بعد السجال المهم الذي دار بينه وبين مواطنه الفيلسوف يورغن هابرماس حول الأهميّة المعرفيّة للعلوم الإنسانيّة وحول منهجيتها. ويعتبر كتابه «الحقيقة والمنهج» من أهم المؤلفات الفلسفية الألمانيّة في العصر الحديث).
[6]- لمزيد من الأمثلة المتعلقة بنقاد عرب أعادوا قراءة التراث بعد أن اعترضتهم الحداثة، يمكن الاطلاع على كتاب: إبراهيم رزان، الاستقبالية العربية للحداثة وما بعدها، دار الكرمل، 2004، ص83-88.
[7]- هذا الالتفات يحمل بُعدًا ثقافيًّا نفسيًّا، وكأنّنا نعيد قراءة تراثنا، لا لنكتشف هويّته بنفسه أو تميّزه، وإنّما لنتبيّن شبهه بغيره المتفوّق حضاريًا لتخفيف كآبة الوعي بالتخلف. انظر: شكري عياد: الأدب في عالم متغير، دار الكتاب العربي، القاهرة، 1971، ص22. انظر: كذلك إلى عملنا الموسوم: خطاب البلاغة الأنساق المتعارضة وجدل التأويل، المركز الأكاديمي، الأردن، 2019.
[8]- Diego Marconi, La Philosophie du Langage au XXe siècle, traduit par Michel Valensi, Edition de  l’Eclat, Paris, 1997, p.12
[9]- الجاحض، الحيوان، م.س، ج2، ص52.
[10]- م.ن، ج1، ص77-78.
[11]- ينظر: أحمد رحيم كريم الخفاجي، التراث النقدي العربي والتقويل الحداثي المعاصر، (رسالة دكتوراه فلسفة في اللغة العربية/أدب، مخطوط (وقد طُبعت ببيروت)، جامعة بابل، كلية التربية، إشراف قيس حمزة الخفاجي، نوقشت سنة 2009 ) 231-232. وللوقوف على إشارات أخرى لحضور التفكيك في التراث النقدي العربي. انظر: الغذامي، عبد الله: المشاكلة والاختلاف، قراءة في النّظرية النّقديّة العربيّة وبحث في الشبيه المختلف، ط1، بيروت، المركز الثقافي العربي، 1994، ص52-53.
[12]- انظر: صمود، حمادي: التفكير البلاغي عند العرب، أسسه وتطوّره إلى القرن السادس، مشروع قراءة، ط3، دار الكتاب الجديدة المتحدة، 2010، ص141.
[13]- أرحيلة، عباس: الكتاب وصناعة التأليف عند الجاحظ، لا ط، مراكش، الوراقة الوطنيّة، 2004، ص66 وما بعدها. انظر كذلك عملنا: الجاحظ في قراءات الدارسين المحدثين، رسالة دكتوراه، جامعة محمد لمين دباغين سطيف2، ص284.
[14]- شارل بيكوبيلا: الجاحظ والأدب المقارن، ترجمة: محمد وليد حافظ، مجلة الآداب الأجنبية، العدد96، خريف 1998، السنة الرابعة والعشرون، اتحاد كتاب العرب سوريا، ص155.
[15]- شارل بيكوبيلا، الجاحظ والأدب المقارن، م.س، ص159.
[16]- الجاحظ: الحيوان، م.س، ج1، ص76.
[17]- انظر: م.ن: ج1، ص54، 74، 76، 80، 90، 101- 102، 141، 279، 290، ج3، 146، 269، 284، ج7، ص203، ص371-372 (الفهارس)؛ وديعة طه النجم: منقولات الجاحِظ عن أرسطو في كتاب الحَيَوان، ط1، الكويت، منشورات معهد المخطوطات العربيّة، 1405هـ/1985م؛ أبو الحبّ، جليل: نُقول الجاحِظ من أرسطو في كتاب الحَيَوان، لاط، بغداد، دار الشُّؤون الثّقافيّة العامة، 1421هـ/2001م.
[18]- الدّروبيّ، محمّد محمُود: مَوقفُ الجاحِظِ مِنَ الثَّقافاتِ الأجْنَبيّة، مجلة مجمع اللغة العربية الأردني (علمية محكمة)، العدد 78، ص49.
[19]- الجاحظ: الحيوان، م.س، ج1، ص76.
[20]- م.ن، ج1، ص77.
[21]- م.ن، ج1، ص77.
[22]- م.ن، ص75-78.
[23]- الجاحظ: الحيوان، م.س، ج1، ص80.
[24]- م.ن، ج1، ص76.
[25]- رئيسة مركز الدّراسات والأبحاث في المصطلح العربي، استاذة محاضرة في مدرسة الترجمة بيروت – جامعة القديس يوسف. مقالة بعنوان: المترجم: «من أنا؟» https://hal-confremo.archives-ouvertesd... يحيل نص الجاحظ إلى أنّ المساكنة بين اللغة والترجمة، لا تطرح وحدها الإشكالية الكبرى. فالحقيقة أنّ المساكنة أو التعايش يقع بين أطراف ثلاثة: اللغة والترجمة والمترجم. والمترجم هو الأساس في هذه الثلاثية، لأنّه كثيرًا ما يشعر بحضور الطرفين الآخرين معًا في ذهنه. فهو في المبدأ، يتقن الاثنين، اللغة والترجمة أو هكذا ينظر إليه مَن حوله. أما هو فيرى نفسه على علاقة وثيقة باللغة وبالترجمة في آن. ومهما اختلفت النظرة إلى عملية الترجمة، سواء اعتبُرت عملية لغوية أو تتخطى اللغة، فإنّ المترجم في جميع الأحوال يعي حاجته إلى اللغة. وتصبح العلاقة باللغة علاقة إشكالية متى تساءل المترجم حول دوره لا بل هويته: هل أنا مترجم أم لغوي؟ أم أنا الاثنان معًا؟ ولمَ أحمل الصفتين؟ ألا يؤدي التجاذب بين الدورين إلى ضياع الهويـّة؟
[26]- الجاحظ، الحيوان، ج1، ص77.
[27]- ترجع بدايات هذا الفرع من فروع الأدب المقارن إلى النّصف الأوّل من القرن التاسع عشر، عندما قامت الأديبة الفرنسية المعروفة»مدام دو ستال» بزيارة طويلة لألمانيا، وذلك في وقت تصاعد فيه العداء وسوء الفهم بين الشعبين الفرنسي والألماني، وأثناء الإقامة فوجئت الأديبة بمدى سوء الفهم والجهل الذي يعاني منه الفرنسيون لألمانيا، رغم الجوار الجغرافي، فقد تحقق لها أن الفرنسيين يجهلون أبسط الأمور المتعلقة بالمجتمع والثقافة والأدب والطبيعة في ألمانيا، فرسموا في أذهانهم صورة لشعب فظ غير متحضر، يتكلم لغة غير جميلة، ليس له إنجازات أدبية أو ثقافية تستحق الذكر، إنها باختصار صورة يرسمها شعب لشعب آخر يعدّه عدوا له! لكن مدام دو ستال اكتشفت عبر رحلتها أن الشعب الألماني يتمتع بمناقب جمة (الطيبة والاستقامة والصدق) كما فوجئت بجمال الطبيعة لاسيما نهر الراين والغابة السوداء، وبغنى الأدب الألماني والمستوى الرفيع الذي بلغته الفلسفة الألمانية. وهكذا كانت محصلة الرحلة التي قامت بها مدام دو ستال إلى ألمانيا كتابا وضعت له عنوانا بسيطا هو «ألمانيا» سعت فيه إلى تصحيح ما في أذهان الفرنسيين من صور مشوهة عن الألمان وبلادهم وثقافتهم، لهذا بإمكاننا أن نعدّ هذا الكتاب بداية لما أصبح يعرف بالدراسة الأدبية للآخر (الصورلوجيا)، انظر: حمود، ماجدة: مقاربات تطبيقية في الأدب المقارن، اتحاد الكتاب العرب، 2000، ص107.
[28]- انظر: آلان تورين في كتابه «نقد الحداثة»، ترجمة: أنور مغيث، المجلس الأعلى للثقافة (المصري) بشراكة مع المشروع القومي للترجمة، 1997. هذا الكتاب يمثل مرحلة جديدة أساسية، بعد «سوسيولوچيا الفعل» و«إنتاج المجتمع» في الإنتاج الفكري لآلان تورين. فقد اعتقد الغرب زمنًا طويلًا أن الحداثة هى انتصار العقل، وتحطيم التّراث، والإنتماءات، واستعمار الخبرة المعاشة بحساب المصالح، ولكن اليوم؛ تتمرّد كل الفئات التي كانت قد خضعت للنخبة المُستنيرة، والعمال المُستعمرين والنساء والأطفال، وترفض أن تطلق كلمة حديث على عالم لا يعترف بخبرتهم الخاصة ويواوجهم إلى ما هو كونى، وذلك بشكل جميل مما يتباهون به مع العقل فيبدون من الآن فصاعدًا كحماة لسلطة تعسفية. فهل ينبغي العصف بهذه السيطرة والإقرار بتنوّع غير محدود للخبرات المُعاشة وكافة أشكال التراث؟ ولكن هذه الاختلافيّة المُفرطة تحمل في ثناياها عدم التسامح والعنصريّة وحروب الدين، والهروب إلى ما بعد الحداثة لا يكشف إلا عن نضوب الإيدولوجية التي تُطابق دائمًا الحداثة والترشيد.
[29]- مسالتي محمد عبد البشير: الجاحظ في قراءات الدارسين المحدثين، رسالة دكتوراه، جامعة محمد لمين دباغين سطيف2، ص،204_247_455_394( إلا أننا في الرسالة لم نعتمد التصنيف نفسه).
[30]- الجاحظ: البيان والتبيين، تحقيق: درويش جويدي، لا ط، بيروت، المكتبة العصرية، 2005، ج3، ص49-50.
[31]- الجابري، محمد عابد: تكوين العقل العربي، ط2، بيروت، دار الطليعة، (د. ت)، ص 32.
[32]- انظر: م.ن، ص25.
[33](**)- يعد الباحث كريم الخفاجي قراءة طارق النعمان قراءة تتبّعيّة بوصفها كما يقول «قراءة إشارية تعتمد مجاورة القارئ ما بين نصين قديم وحديث أو إحلاله لمصطلحات نقدية حديثة في خلايا النقد والبلاغة العربية، للدلالة على صحة الاستدلال والنتيجة فإذا دل التابع أبان عن المتبوع ..». انظر: الخفاجي، أحمد رحيم كريم: التراث النقدي العربي والتقويل الحداثي المعاصر، رسالة دكتوراه فلسفة في اللغة العربية/أدب، مخطوط (وقد طُبعت ببيروت)، جامعة بابل، كلية التربية، إشراف قيس حمزة الخفاجي، نوقشت سنة 2009، ص101.
[34]- الجاحظ، الحيوان، م.س، ج1، ص71.
[35]- م.ن، ص212.
[36]- (***)- لمزيد من الأمثلة المتعلقة بنقاد عرب أعادوا قراءة التراث بعد أن اعترضتهم الحداثة، يمكن الاطلاع على كتاب: رزان، إبراهيم: الاستقبالية العربية للحداثة وما بعدها، دار الكرمل، 2004، ص 83-88.
[37]- انظر: عياد، شكري: الأدب في عالم متغير، لا ط، القاهرة، دار الكتاب العربي، 1971، ص 22. 
[38]- (*)-رغم الجهد الجاحظي المتين في الاحتجاج للعصا وتقصي الأخبار والأشعار فإنّ حمادي صمود يرى أن الجاحظ لم يستطع إقناعنا بوجود رابط متين بين صياغة القول والمسك بالعصا، والغالب على الظن في تقدير صمود أنها ممارسة ثقافية احتجب لطول العهد سبب بروزها وغرض الدفاع عند المؤلف حاد به عن محاولة الوقوف على ذلك الدافع فيبقى بحثه في إطار ما حدده المطعن ذاته: البحث عن السبب بين الكلام والعصا. حمادي صمود: التفكير البلاغي عند العرب، أسسه وتطوره إلى القرن السادس، مشروع قراءة، ط3، دار الكتاب الجديدة المتحدة، 2010، ص223.
[39]- انظر: النويري، محمد: البلاغة وثقافة الفحولة، لا ط، منوبة تونس، منشورات كلية الآداب، سنة 2003، ص12.
[40]- مشبال، مشبال: البلاغة والسرد، جدل التصوير والحجاج في أخبار الجاحظ، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية جامعة عبد الملك السعدي، تطوان- المغرب، 2010، ص 142.
[41]- انظر: النويري، محمد، البلاغة وثقافة الفحولة، م.س، ص72-92 وص133-137. إنّ الدلالات التي استبطنها الباحث في هذا السياق إنما هي دلالات تكشف أن «كتاب العصا» يشمل خطابا جماليا يتطلب التواصل معه التأويل وتخطي الدلالات الأولى.
[42]- بن محمد أمبيريك، أحمد: صورة بخيل الجاحظ الفنية من خلال خصائص الأسلوب في كتاب البخلاء، دار الشؤون الثقافية العامة (آفاق عربية) بغداد والدار التونسية للنشر، سنة 1986.
[43]- م.ن، ص66.
[44]- حمود، ماجـدة، مقاربات تطبيقية في الأدب المقارن اتحاد الكتاب العرب، م.س، ص129.
[45]- مشبال، محمد: بلاغة النادرة، لا ط، الدار البيضاء، أفريقيا الشرق، 2006، ص20.
[46]- (*)- المقابلة هي الجمع بين أكثر من ضديـن، أو الجمع بين معنيين متضادين في الكلام.
[47]- انظر: أحمد بن محمد أمبيريك، صورة بخيل الجاحظ الفنية من خلال خصائص الأسلوب في كتاب البخلاء، م.س، ص 97.
[48]- أحمد بن محمد أمبيريك، صورة بخيل الجاحظ الفنية من خلال خصائص الأسلوب في كتاب البخلاء، م.س،، ص117 - 118.
[49]- ماجدة حمود، مقاربات تطبيقية في الأدب المقارن، م.س، ص129.
[50]- م.ن، ص6.
[51]- انظر: النويهي، محمد: ثقافة الناقد الأدبي، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1949، ص4 و6 و32.
[52]- حمود، ماجـدة: مقاربات تطبيقية في الأدب المقارن، م.س، ص6.
[53]- التهامي العلمي، عبد الواحد: قراءة السرد العربي القديم بين وهم المماثلة ومبدإ المغايرة، مجلّة عالم الفكر، العدد 1 يوليو-سبتمبر 2012، المجلّد 41، ص 75. بمعنى أنّ هذا النّمط من القراءة، يتّصف بالمعياريّة والهيمنة والإقصاء؛ فكثير من الأنواع السّرديّة القديمة لم تحظ بالتّقدير بسبب ما كانت تقوم عليه من مكوّنات تتعارض مع التّوجّه الجماليّ لمفهوم الأدب الحديث.. بمعنى أن مثل هذه القراءات لا تراعي الفروق البلاغية النوعية بين القص القديم وفنون القصة الحديثة، ولا تقيم التفاعل المطلوب بين الأفق البلاغي السردي القديم والأفق البلاغي السردي الحديث.
[54]- حمود، ماجـــــدة، مقاربات تطبيقية في الأدب المقارن، م.س، ص142.
[55]- م.ن، ص144.
[56]- حمود، ماجدة، مقاربات تطبيقية في الأدب المقارن، م.س، ص144.
[57]- م.ن، ص149.
[58]- الجاحظ: البخلاء، تحقيق: طه الحاجري، ط7، القاهرة، دار المعارف، 1971، ص 114.
[59]- حمود، ماجــدة حمود، مقاربات تطبيقية في الأدب المقارن، م.س، ص128.
[60]- حمود، ماجــدة حمود، مقاربات تطبيقية في الأدب المقارن، م.س، ص130.
[61]- مكي، الطاهر: في الأدب المقارن، دراسات نظرية وتطبيقية، ط3، القاهرة، دار المعارف، 1997، ص22.
[62]- شارل بيلا: الجاحظ في البصرة وبغداد وسامراء، م.س، ص4-5.
[63]- حجازي، سمير سعيد: قاموس مصطلحات النقد الأدبي المعاصر، ط1، دار الآفاق العربية،2001،  ص41.
[64]- شارل بيلا، الجاحظ في البصرة وبغداد وسامراء، م.س، ص16. 
[65]- (*)- هي التي تنطلق من نقطة الاهتمام بما حول النّصّ كالمؤلّف أو الحقبة التّاريخيّة التي عاش فيها وما لها من أثر فيه، ومن شأن هذه المناهج دراسة السّياق وما يتعلق به، ومن أبرزها المنهج التاريخي، الاجتماعي، النفسي وغيرها وهي جميعًا يمكن أن نسمّيها «تفسيرية»؛ لأنّها تسعى إلى تفسير النّصّ بتفسير سياقه ويعرف الباحث حجازي السياق (Le contexte) بقولـه: «مفهوم يشير إلى مجموعة العوامل التي تؤثّر في اتّجاه النّص، وفي تشكيله، وفي ظهوره، فالسياق العام للأثر الأدبي أو النّصّ هو المجتمع والتاريخ». حجازي، سمير سعيد: قاموس مصطلحات النقد الأدبي المعاصر، م.س، ص41.
[66]- (*)- صادر عن دار الكتاب اللبناني، بيروت، 1968.
[67]- م.ن، ص5.
[68]- شارل بيلا، الجاحظ في البصرة وبغداد وسامراء، ترجمة: إبراهيم الكيلاني، ط1، دمشق، دار الفكر، 1958، ص21. 
[69]- شارل بيلا، الجاحظ في البصرة وبغداد وسامراء، م.س، ص7. 
[70]-  شارل بيلا، الجاحظ في البصرة وبغداد وسامراء، م.س، ص188.
[71]- م.ن، ص385.
[72]- م.ن، ص385-386.
[73]- م.ن، ص.386-387.
[74]- بن رمضان، صالح: أدبية النص النثري عند الجاحظ، لا ط، تونس، مؤسّسة سعيدان للطباعة والنشر سوسة، 1990، ص95-96.
[75]- مشبال، محمد، البلاغة والسرد، م.س، ص 115.
[76]- بن رمضان، صالح، أدبية النص النثري عند الجاحظ، م.س، ص95-96.
[77]- جعفر، نوري: الجوانب السيكولوجية في أدب الجاحظ، لا ط، بغداد، دار الرشيد، 1981، ص52.
[78]- بلمليح، إدريس، الرؤية البيانية عند الجاحظ، لا ط، المغرب، دار نوبقال للنشر، 1985، ص24.
[79]- بلمليح، إدريس، الرؤية البيانية عند الجاحظ، لا ط، المغرب، دار نوبقال للنشر، م.س، ص55.
[80]- شارل بيلا، الجاحظ في البصرة وبغداد وسامراء، م.س، ص362-363. وَفق هذا الطرح فإنّه من بين الانتقادات التي وُجهت إلى البنيويّة التّكوينيّة التي طبقها بلمليح عدم تركيزها على الجهود الفرديّة، وفي مقابل ذلك التّركيز على ما يبدو جوانب موضوعيّة في تحليل الظواهر الأدبيّة والفكريّة، فهي تلغي أو تكاد تتجاهل الجهود الفرديّة ودور العبقريّة الذّاتيّة في صياغة رؤية الفنان أو المفكر أو العالم.