البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

صورة الآخر في الدراسات الاستشراقيّة وخطرها على العقيدة والفكر والتراث الإسلامي

الباحث :  أورنيلا سكر
اسم المجلة :  دراسات استشراقية
العدد :  33
السنة :  شتاء 2023م / 1444هـ
تاريخ إضافة البحث :  March / 20 / 2023
عدد زيارات البحث :  578
تحميل  ( 500.556 KB )
الملخّص
إنَّ الهدف مِن دراسة صورة الآخر في الدراسات الاستشراقيّة، هو إظهار خطرها على العقيدة والفكر والتراث الإسلامي مِن خلال الكشف عن دراسات مابعد الكولونياليّة وأهميّتها في تفكيك الرواية الغربيّة واستقراء العقل الإمبريالي، الذي يقوم على فلسفة الإقصاء والهيمنة بحجّة تحضير الشعوب الأخرى وأنسنتها انطلاقًا مِن الدافع الإنساني والحقوقي.
غير أنَّ الغرب أخطأ مجدّدًا مِن خلال وقائع جديدة ساعدت في إعادة التاريخ الاستعماري ومفاهيمه ومنهجيّاته وأدواته، وولّدت الدعوات إلى التحرّر الوطني والقوميّات لحماية الذات الثقافيّة وخصوصيّتها.
يأتي ذلك مِن خلال تـعـرُّض دراسات مابعد الاستعمار الفرنسي لتـشـوُّهات علميّة وتـاريـخـيـّة، بـاعـتـبـارهـا أبـحـاثـًا فرانكوفونيّة تـسـعـى للاستعراض والانـتـقـام مِن الـمـركـز بعد العجز عن مواكبة سيرورة التقنيّة والحداثة، عبر خطابات تفكيكيّة للخطاب الاستعماري ونظرته المتعالية، في محاولة لتقويض سلطة وهيمنة الـنـصّ الـكـولـونـيـالـي، الذي أظهر عجزًا عـن الـتـخـلـّص والـتـحـرّر مِن فـكـر الإمـبـراطـوريـّات وتمثّلاتها للأنا والآخر ولثقافة الاختلاف.

كلمات مفتاحيّة: دراسات مابعد الاستعمار – الغيريّة – الهامش – المركزيّة – الآنا – الآخر – الاستعمار.

المقدّمة
تُعَدّ الدراسات الاستشراقيّة للشرق وللإسلام حقلًّا معرفيًّا تنبغي إعادة مراجعته وتحليله، فقد نتج عنها مِن التشويهات والأضاليل والمغالطات المعرفيّة على المستويات كافّة، الاجتماعيّة والعقائديّة والأنثروبولوجيّة، ما انعكس سلبًا على العلاقات الغربيّة–المشرقيّة. وقد حمل الخطاب الاستشراقي في طيّاته عوامل وعناصر ساعدت بدايةً في اختراق المجتمعات العربيّة والإسلاميّة، منها تحضير الشعوب المتخلّفة وتقديم العلم والمعرفة إليها، لتفاجأ هذه الشعوب بالاستيلاء عليها والهيمنة على مقدّراتها والتلاعب بتاريخها وعقيدتها.
وإلى جانب الوجه السلبي الآنف الذكر للاستشراق، كان هناك وجه آخر إيجابي تناول الحديث عن المرحلتين العباسيّة والأندلسيّة، وحرصت فيه قلّة مِن المستشرقين الأمناء على نقل الصورة الحقيقيّة لحضارة العرب والمسلمين، سابحين بعكس تيّار الكثرة مِن زملائهم أصحاب الأدوات الخبيثة، العاملين لمصلحة الاستعمار بهدف تدمير العالم العربي-الإسلامي وتقسيمه وشيطنته، بل وأبعد مِن ذلك المسخِّرين علم الأنثروبولوجيا لدراسة تلك المجتمعات وردود فعلها وعقيدتها بهدف محاصرتها ومنعها مِن مواجهة الاستعلاء والاستكبار والهيمنة أو التصدّي لها، فالغرب بعلومه هذه كشف عن خطأ إستراتيجي ومعرفي مدوٍّ.

إنَّ الأزمة أكبر وأخطر مِن وقوع العلوم الأوروبيّة في خطأ معرفي يمسّ علميّتها ومنهجيّتها، وما يهدّد هذه العلوم ليس هذا الخطأ فحسب، بل أيضًا ما يسمّيه هوسرل «الاختزال الوضعاني لفكرة العلم في مجرّد علم بالواقع»، وهو موقف سوف يؤدّي بالضرورة إلى أزمة للعالم فاقدة الدلالة بالنسبة إلى الحياة.
إنّ مقاربة هوسرل لأزمة العلوم الأوروبيّة لا تتمثّل في شكّه بمشروعيّتها، لكنّه يعترض على أزمة الثقافة التي يثيرها دورها الذي يختزلها في الواقع المادّي ويقطع علاقتها بعالم الحياة[2]. فما يميّز فكر هذا الرجل وفاؤه لتقليد التنوير، الذي يقدّم النقد خيارًا للخروج مِن الأزمة وما تعنيه هذه العلوم بالنسبة إلى الكيان الإنساني. وتبدو الحداثة بالنسبة إلى هوسرل ضربًا مِن الفشل الروحي، فشلِ العلم الجديد بعد أنْ نجح في البداية، وهو فشل لم يتمّ توضيح أسبابه بعد؛ بمعناه الحرفي هو فشل في نطاق ماهيّته أو الإفصاح عنها، وبالتالي، لم يهدف خوض تلك الصراعات المريرة إلى فهم ذاتي للعلل الحقيقيّة لهذا الفشل، فالعلوم الأوروبيّة تنكّرت للإنسان الذي أنتجها، وعملت على نشر ثقافة الاستعلاء والهيمنة والسطو على ثروات الشعوب وتصنيفها وتنميطها في قوالب جامدة بعيدة عن الحقيقة والواقع، بهدف إحكام السيطرة والتحكّم والمراقبة والاستغلال والتفوّق العرقي.

إنَّ كل ما أجادته المعرفة الغربيّة هو تأكيد تفوّقها واستعمار شعوب العالم، وقد عبّرت عن ذلك وقائع عدّة متمثّلة في استهداف المسنّين خلال انتشار وباء كورونا في القارة الأوروبيّة، وتنصيب الرأسماليّة الشركات العملاقة مهيمنة على العالم، واستعباد الذات البشريّة وتحويلها إلى أداة منهجيّة للاستهلاك، كما عبّر عنه تاريخ الغرب في مستعمراته، كالهند وأفريقيا والشرق الأوسط وآسيا بحجّة الكشوفات المعرفيّة والعلميّة.
نستنتج ممّا سلف وغيره قيام خطاب الغرب تجاه الآخر على الاستعلاء والشعور بالتفوّق العرقي والنزعة العنصريّة، ووصم الشعوب الأخرى بالدرجة الثانية مِن الإنسانيّة وبالدونيّة والبربريّة والتخلّف وعدم التحضّر، وأنَّ استعمارها ضروري لتحضيرها وإدخالها في الحداثة، وهنا مكمن فشل الخطاب الاستعماري والاستشراقي، الذي سوف نوضحه بشكل متتابع:
فقد ارتبطت فلسفة المستشرقين والاستشراق على دراسات تقوم على أنّه بهدف إرساء التحكّم بالشرق تنبغي معرفته معرفة تامّة، دينيّة وعرقيّة وتاريخيّة وثقافيّة واجتماعيّة، والتعّرف على شخصيّته ومشكلاته وطبيعته ولغته. الخطورة كانت حين استَبدلت هذه الدراسات عبارة «العلوم الإنسانيّة الخاصّة بمناطق العالم الإسلامي» بمصطلح «الاستشراق» في المؤتمر الأوّل للمستشرقين الذي عقد في باريس، كما يقول الدكتور عبد الأمير الأعسم بعد مئة عام مِن تاريخ عقده، أي في عام 1973م. وليس مقصودنا بذكر هذه الواقعة هنا التأريخ للاستشراق بقدر تسليط الضوء على تطوّر هذه الدراسات في الشرق بتفاصيله وأهدافه وجزئيّاته كافّة، وسعيها الدؤوب إلى خلق صراعات لامتناهية في بلادنا، تؤدّي إلى ضعفها وإذلالها وصولًا إلى يأسها واستسلامها وهزيمتها وإيصالها إلى انسداد الآفاق، نفسيًّا وواقعيًّا[3].

المذهب السياسي والعسكري والاقتصادي والثقافي الغربي هذا تمّ دعمه مِن قبل مؤسّسات وأفراد ومراكز أبحاث علميّة ومنظِّري مذاهب فكريّة وأساليب استعماريّة بهدف إضعاف الشعوب الأخرى والهيمنة عليها، ما أثار ردود أفعال كثيرة، تمثّل أحدها -على سبيل المثال- في كتاب إدوارد سعيد «الاستشراق»، الذي كان يستهدف الاستشراق السياسي الغربي للعالم الاسلامي، وقد نجح في تصوير واقع وأهداف الدراسات الاستشراقيّة التي كانت تخفي خلف تصدير معرفتها مشروعًا استعماريًّا هدفه إضعاف العالم الإسلامي والعبث بتناقضاته.كما تجاهل حقيقةَ أنَّ المستشرقين لم يُقْدِموا على نقد الإسلام ورسوله فحسب، وأنَّهم وجّهوا ابتداء مِن القرن الثامِن عشر نقدًا أكبر وأخطر إلى المسيح والمسيحيّة والكنيسة والإنجيل والتوراة، حتّى إنَّ بعضهم انتهى إلى خلاصة، مفادها تفوُّق الهويّة الشرقيّة على الغربيّة، ومنهم رينيه غينون في كتابه «الشرق والغرب».
تجاهل إدوارد سعيد كلّ هذا وذهب أبعد منه، بتصويره الاستشراق حالة مستديمة وجوهرًا ثابتًا يرفض الديالكتيك، فخرج كتابه باكورة المحاولات لفضح الخطر الاستعماري ومواجهته، ومثّل أسلوبه الإيحائي رسالة اجتماعيّة تفتح ثغرة للتفكّر والمراجعة والنقد[4].
ولا ننسى كذلك تأثّر بعض المستشرقين بالرواية العربيّة وترجمتها، أمثال روجر ألان، وآن ماري شيميل، التي أصدرت كتابًا بالألمانيّة بعنوان «الشعر الوجداني العربي المعاصر»، فضلًا عن براند مانويل فايشر، ومِن أشهر المحاضرات والمقالات التي خلّفها «اتجاهات الشعر الوجداني العربي الحديث في الشرق الأوسط»، وبرخت وغوته اللذين تأثّرا بالأدب العربي، فضلًا عن جاك بيرك وأندريه ميكال[5]. يقول الكاتب الإسباني أنطونيو غالا، وهو معروف بتعاطفه مع الثقافة العربيّة والإسلاميّة: «إنَّ سقوط غرناطة حوَّل إسبانيا فقيرة ومنعزلة قرونًا، وأصبحت الدول المسيحيّة التي توالت على حكمها هرمة بعد أنْ أفلت شمس الحضارة السامية العربيّة الإسلاميّة، وانتهى عصر الحكمة والثقافة الرفيعة والذوق والتهذيب».

وكتب بلاثيوس سلسلة مقالات عن مفكّرين مسلمين، أمثال ابن باجه السرقسطي وابن طفيل وابن رشد، وتأثير الأخير في بعض اللاهوتيّين المسيحيّين، وكانت لافتة مداخلته في تكريم المستعرب الإسباني الكبير فرانسيسكو كوديرا عام 1904 بعنوان «الرشديّة اللاهوتيّة عند القديس توماس الإكويني»، إضافة إلى بحثه عن تأثير المتصوّف الأندلسي ابن عبّاد الرندي الشاذلي في القدّيس يوحنا الصليبي، منطلقًا مِن لحظه التّشابه الكبير بين مذهبيهما في التصوّف. وإضافة إلى هذا كلّه، ساهم بلاثيوس في التعريف بالمخطوطات العربيّة الموجودة في الجبل المقدّس في غرناطة، والتي نشرت في مجلّة مركز الدراسات التاريخيّة لإمارة غرناطة عام 1912، إضافة إلى دراسته «التأثيرات الإنجيليّة في الأدب الديني الإسلامي»، التي أثبت فيها تفاعليّة العلاقة بين الثقافتين الإسلاميّة والمسيحيّة، وأنّها لم تكن مِن جانب واحد فقط.

ومِن الكتابات التي كرّسها بلاثيوس لإثبات تأثير الإسبان في الأدب والفكر الإسلاميين روايته «حمام زرياب»، كما كان أبرز ما كشفه في بحثه «المؤثّرات الإسلاميّة في القديس توماس الأكويني وتورميذا وباسكال وسان خوان دي لاكروت» (1941)، هو سرقة الثاني -وكان أسلم في تونس- بعض ما ورد في رسائل إخوان الصفا ونسبته إلى نفسه.
وأهمّ أعمال بلاثيوس كتابه «الأخرويّات الإسلاميّة في الكوميديا الإلهيّة»، الذي وصفه عبد الرحمن بدوي بـ«القنبلة الكبرى»[6]؛ لأنَّه أثبت فيه تأثّر الشاعر الإيطالي الكبير دانتي في ملحمته «الكوميديا الإلهيّة» بالإسلام، وتصويره العالم الآخر، بفردوسه وجحيمه، انطلاقًا ممّا ورد في القرآن عن الإسراء والمعراج، وكذلك تأثّره بما في «رسالة الغفران» لأبي العلاء المعري، التي تصوّر رحلة متخيّلة إلى العالم الآخر في قالب قصصي، وبما في بعض كتب ابن عربي، ولا سيّما «الفتوحات المكّيّة».
لم يكن بلاثيوس في الحقيقة أوّل مَنْ أثار مسألة التّشابه بين كوميديا دانتي والتصويرات الإسلاميّة للدار الآخرة، بل سبقه آخرون غربًا وشرقًا، منهم المستشرق الفرنسي بلوشيه، الذي كتب مقالًا عام 1901 بعنوان «المصادر الشرقيّة للكوميديا الإلهيّة»، ومنهم سليم البستاني في مقدّمة ترجمته «الإلياذة» (1904)، التي أجرى فيها مقاربة بين «رسالة الغفران» و«الكوميديا الإلهيّة»، خلص فيها إلى تأكيد رأي بلوشيه عينه.
فما أحاول قوله هنا، هو أنَّ الاستشراق كان له أوجه عديدة، وأخطره الاستشراق السياسي والعسكري، الذي جسّدته على سبيل المثال سياسة ومستعمرات فرنسا في الجزائر والمغرب مِن خلال إثارة أزمة الأمازيغ والقبائل المغربيّة، فضلًا عن الامتيازات التي أعطتها إلى الأقليّات المارونيّة وغيرها[7].

وإذا ذهبنا أبعد مِن ذلك، نحو الحديث عن الكلبيّة[8] التي تعتري ثقافة الغرب في نقد الآخر، نجد أنَّ ذلك السعي الدائم نحو التجدّد والتجديد لم يأت مِن عبث، أوّلًا لارتباط الغرب بالثقافة الإغريقيّة، الذي كان الدافع الأساسي نحو هذا الإبداع في التمنطق والعقلانيّة والمعرفة، وثانيًا لأنَّ ثقافة الاستعلاء والتفوّق تأتي لارتباط الإرث الغربي بالتراث اليهودي-المسيحي، الذي شكّل الدافع الأساسي لهذا التوجّه الاستعلائي والعنصريّة والتفوّق العرقي، ونصوص التوراة خير دليل على صحّة هذه المزاعم[9].
إلّا أنَّ للغرب ميزة وخصوصيّة مهمّتين، في أنَّه فتح مجالًا للنقد والتفكيك، بدليل أنَّ تيّارات «المابعديّات»؛ أي «مابعد الحداثة»، و«مابعد الاستعمار»، و«مابعد الاستشراق»، عبّرت عن أيديولوجيا غربيّة ولدت مع بداية عصر النهضة، وحلّت محلّ أيديولوجيا القرون الوسطى.
لقد ساهمت النظريّات والاكتشافات العلميّة العديدة التي عرفها القرنان الخامس عشر والسادس عشر في تغيّر كامل في النظرة الغربيّة إلى العالم، وبالتالي، لم تعد الكنيسة الكاثوليكيّة بعقائدها الخاطئة علميًّا تقود الفكر والفعل الإنسانيين، ولم يعد الفعل وحده يكفي لتقدّم حضارة الإنسانيّة.
الغرب يعيش أزمة العدميّة التي حذّر منها فريدريك نيتشه، وها هو الإنسان الغربي يعاني أزمة الحضارة الغربيّة وانحلالها، ويسود لديه شعور بالاغتراب وعدم الثقة بالمستقبل لسطوة ثقافة «الإنسان الأخير» عليه، وكذلك «نهاية التاريخ»... وغيرها مِن الفلسفات الخاطئة في مقارباتها، ومِن هنا نجد أنَّ مرحلة مابعد الاستعمار كانت ردّ فعل طبيعيًّا على الاستعمار، عبّرت عنه تيّارات الحداثة بمختلف أشكالها، ويسعى «الغرب الحداثي» اليوم (إذا صحّ التعبير) إلى تحقيق خلاص المجتمعات وإنقاذ البشريّة مِن ظلمتها.

غير أنّ السياسة الاستعماريّة التي بنت كلّ هذا التقدّم والحداثة والإنسان الجديد مِن خلال سياسة الرأسماليّة والصناعة والتكنولوجيا الرقميّة، أثبتت أنَّ الطروحات الإنسانيّة والأيديولوجيّات الاجتماعيّة لم تكن سوى غطاء للغرب أخفى خلفه مشروعه الإمبريالي، وبرهنت عن مسّ حقيقي لكرامة الإنسان الأسود والعربي والمسلم والحجاب والمرأة العربيّة، وجرّدت الغرب مِن جوهره على المستويات الثقافيّة والاقتصاديّة والإنسانيّة[10].
لقد دخلت الحداثة التاريخ بوصفها قوّة تقدّميّة واعدة لتحرير البشريّة مِن الجهل واللاعقلانيّة، ولكنَّ المرء بات اليوم يتساءل بسهولة عمّا إذا كان هذا الوعد قد تمّ الوفاء به، فنحن نجد في سجل الحداثة الحربين العالميّتين، وصعود النازيّة، ومعسكرات الاعتقال والإبادة الجماعيّة، والاكتئاب، والانتحار في جميع أنحاء العالم، فضلًا عن الحروب التي تُعتبر فواجع على المستوى الإنساني، وأخصّ بالذكر هنا: هيروشيما، فيتنام،كمبوديا، لبنان، أوغندا، رواندا... وغيرها، وكذلك اتّساع الفجوة الفاحش بين الأغنياء والفقراء. إنّ كل ما سلف يجعل أيّ إيمان بفكرة التقدّم أو الإيمان بالمستقبل مزعزعًا، الأمر الذي يؤدّي إلى القطيعة المعرفيّة، بحسب تعبير غوستاف باشلار.
إنَّ المطلوب اليوم ابتكار أفكار جديدة، فالأفكار هي التي تحكم العالم، فهل بقي للغرب جرأة لابتكار أفكار وأيديولوجيّات جديدة قابلة للتطبيق على البشريّة؟

الجواب الحتمي هو لا. لقد اكتفى الغرب، بحسب الكاتب المنظِّر في شؤون الحداثة جان فرانسوا ليوتار، بعد أنْ خاب أمل مجتمعاته في الحداثة بإنتاج تيّار فكري يمارس منطق الإدانة والرفض للأسس المعرفيّة للحداثة،كما اكتفى بجني نتائج إخفاق تلك الحداثة.
يجب أنْ نولي اهتمامًا خاصًّا بكلّ الجماعات، فلكلّ جماعة خصوصيّة ثقافيّة، وأنْ نبتعد قدر الإمكان مِن الارتكاز على المسلّمات الغربيّة القديمة في التّعامل مع هذه الثقافات، كما تنبغي المطالبة بالحوار بين الثقافات إذا أردنا التوصّل إلى التعايش السلمي بين الشعوب والحضارات والأديان والأعراق، بالتشديد على خطاب التسامح والتعدديّة والتّلاقي بين تلك الثقافات بهدف تأكيد حضارة العالم، وليس الحضارة العالميّة ذات التوجّه الأوروبي المركزي الإمبريالي ذي الوجه السلطوي؛ لأنَّ هويّة الإنسان ليست معطى ساكنًا، بل متحرّك[11].

فالحداثة هي أيديولوجيا الاستعمار الجديد التي تعزّز مِن خلالها رقّ الرأسماليّة وأهدافها، غير أنَّ دراسات مابعد الاستعمار استطاعت درس واقع مستعمراتها، وتعرية الأيديولوجيّات الغربيّة وفضحها، وتقويض مقولاتها المركزيّة، ونسف أسسها الميتافيزيقيّة والبنيويّة، مِن خلال طرح إشكاليّات مهمّة، تتناول علاقة الأنا بالآخر، أو علاقة الشرق بالغرب، أو علاقة الهامش بالمركز، أو علاقة المستعمِر بالشعوب المستعمَرة الضعيفة، وتطرح السؤال عن علاقة التعليم الاستعماري والعلم والتكنولوجيا الاستعماريّة بمجتمعات مابعد الاستعمار، وكيف أثّرت لغة المستعمر في ثقافة الشعوب المستعمَرة؟ وما أشكال الهويّة مابعد الاستعماريّة التي ظهرت بعد رحيل المستعمِر؟ وإلى أيّ مدى وصل هذا التأثير؟ هل ترك أثرًا بعيدَ المدى في المستعمَرين أم تركّز على تهجينهم أكثر منه على تبديل واقع مجتمعاتهم؟

عندما فشل الخطاب الحداثوي في الهيمنة على الثقافات الأخرى وطمْسِها بسبب أزماته وأخطائه المنهجيّة -كما أسلفنا- انتقلت تلك الثقافات إلى المقاومة، منتِجةً حركات تحرّر وطني، ألقت بمشروع التحديث والتحضير الغربي في أزمة أخرى جديدة، جعلته يعيد مراجعة تيّاراته الفكريّة ومنهجيّاته البحثيّة، وفتحت النوافذ لتفكير جديد ينظر إلى العوامل الوطنيّة الذاتيّة بجديّة، ويدحض القول بأنَّ نظريّات ميشال فوكو (Michel Foucault) كانت نتاج المرجعيّة الثقافيّة والسياسيّة والاجتماعيّة الفرنسيّة وحدها، ويُثبت في رؤيتها النور عوامل أخرى مهمّة، مثل التجربة السياسيّة الفكريّة لفوكو مدرّسًا للفلسفة في الجامعة التونسيّة، واحتكاكه بالثورة التحرّرية الجزائريّة، ومعاينته مِن قُربٍ معاناةَ المغتربين الأجانب في فرنسا، ومحاولته العودة إلى مسألة الذات بالبحث، فالفهم بالنسبة إليه هو دراسة أنماط التذويت للكائن البشري في الثقافة الغربيّة، مِن خلال تحوّل الفرد إلى كائن لديه حقوق مجتمع معيّن. بمعنى آخر: إنَّ فلسفة ميشال فوكو هي الذات المرتبطة بمجموع الآليّات السلطويّة المختلفة داخل الحضارة الغربيّة، وهي لا تبقى حبيسة المجال العلمي للأركيولوجيا، بل تتجاوز ذلك لتصبح فلسفةَ المقاومة وحافزًا لفهم العلاقات السلطويّة وتوضيحها[12]. تقول فريال غزّول إنَّ تخريب الاستعمار الثقافات التي يهيمن عليها وتشويهها دفع مثقّفي الدول المستعمَرة إلى إحياء ثقافتهم وتمجيدها كردّ فعل وكنهج مقاومة.

وقد تعدّدت أشكال التوجّهات إلى نهضة ثقافيّة وردّ الاعتبار إلى حضارات غير أوروبيّة عبر محاولات تعرية الخطاب الاستعماري وحمولته الثقافيّة والمعرفيّة. جاء في بحث أباراجينا ساغار «دراسات مابعد الكولونياليّة» (التي تتعلّق باللغة) في قاموس النظريّة الثقافيّة والنقديّة عام 1996: «مسألة اللغة وثنائيّة المستعمرين اللغويّة، جعلت أديبًا مثل الكيني نغوغي واثيونغو الذي أبدع في كتابة روايات عديدة باللغة الإنجليزيّة، يقرّر هجرها للتعبير الإبداعي بلغته الأفريقيّة، مع أنَّه يدرك أنَّ الكتابة الإبداعيّة الأفريقيّة باللغة الإنجليزيّة قد حوّلت اللغة الإنكليزيّة وأفرقَتْها، إلّا أنَّه يرى ضرورة أنْ يستمرّ الأديب مبدعًا في لغته حتّى لا تضرّ أو تنقرض»[13].

كان الهدف مِن الدراسات الاستشراقيّة الجديدة المتمثّلة في دراسات البَعديات؛ أي مابعد الاستعمار، خلْقَ تمفصل بين الخطاب القديم للاستشراق والخطاب الجديد مِن خلال مجالات معرفيّة عديدة، منها الإنسانيّات واللسانيّات والإثنولوجيا والسوسيولوجيا، فقد أحدثت الفرنكوفونيّة على سبيل المثال تأثيرًا مهمًّا لدى المجتمعات الغربيّة، فلا يمكن تبرئة الدراسات الأنثروبولوجيّة مِن الارتباط بالاستشراق الجديد وبالسلطة الداعمة للبحوث، ومِن تبنّيها الغايات نفسها، القائمة على معرفة الآخر لأجل حكمه والهيمنة على مقدّراته، لهذا تجد رجال الاستشراق الجدد يحتلّون مكانة مهمّة في الخطاب الغربي مِن خلال رسمهم الإستراتيجيّات، وكذلك في المؤسّسات الغربيّة السياسيّة والعلميّة، ودراسة إرنست غيلنر (Ernest Geliner) خير شاهد على هذه الدراسات والتوجّهات الخاصّة بالعلوم الأنثروبولوجيّة، علم دراسة الإنسان طبيعيًّا واجتماعيًّا؛ أي دراسة سلوك تلك الجماعات البشريّة وحضارتها ونتائجها.

وقد أسّس عالم الاجتماع الفرنسي إميل دوركهايم (Émile Durkheim) (1858-1917) مفهوم الانقساميّة في ميدان علم الاجتماع، وبيَّنَ أنّ المجتمعات الإنسانيّة تنتقل بالتدريج خلال صيرورتها التاريخيّة مِن أشكال التضامن الميكانيكي إلى أشكال التضامن العضوي.
هذه البحوث تحمل في طيّاتها خلفيّة سياسيّة، الهدف منها تعبيد طريق سيطرة الدول الغربيّة على تلك الشعوب، ولا ننسى في هذا المقام تجربة الأنثروبولوجيا الأنجلوسكسونيّة، وتحديدًا البريطانيّة في الهند ومجتمعات حوض البحر الأبيض المتوسّط وأفريقيا بعد الحرب العالميّة الثانية، إذ ركّزت على ظاهرة السلطة داخل هذه المجتمعات.

أمّا مفهوم الانقساميّة، فقد فسّره بول باسكون (Paul-Pascon) (1923-1985) بعامل انشطار حين يصبح الجيل الواحد مصدرًا لأجزاء جديدة تتفرّع عنها وحدة سلالات جديدة، الأمر الذي يصبح معه كلّ جيل مِن الأجداد يجسّد مستوى مِن الانقسام والتداخل. والسؤال المطروح هنا هو: كيف تعمل آليّتا الانشطار والانصهار؟ وكيف تؤثّر في بنية الحياة الاجتماعيّة والسياسيّة وأشكالها داخل هذا المجتمع الانقسامي؟ لقد كان هدف البريطانيّين دراسة الأنظمة السياسيّة المحلّيّة بهدف إحكام المزيد مِن السيطرة عليها مِن خلال نموذج الدراسات الأنثروبولوجيّة التي تقدّم تحليلًا جديدًا للمجتمعات البرّيّة.

تذهب هذه الدراسات إلى تفسير استقرار المجتمعات المفتقرة إلى بنية الدولة بأنّه منوط بحلّ القبليّة، التي تقوم على الصراعات بين مكوّناتها، في وقت نجد أنَّ المغرب مجتمع قبليّ، إلّا أنَّه دولة بمواصفات خاصّة. كانت تلك الإستراتيجيّة تهدف إلى دمج المغرب، على غرار باقي بلدان المنطقة، في منظومة السوق الرأسماليّة–الإمبرياليّة[14].

وقد أخطأت دراسات غيلنر في توصيف خصوصيّة المجتمعات العربيّة والعصبيّة الإسلاميّة التي تحاكيها، إذ إنَّها لاتنبع مِن أيديولوجيّات كبرى، بل تأتي في سياق ظروف تلك المجتمعات وسياقاتها التاريخيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة، وتفاعلها معها في ظرفيّة معيّنة للدفاع عن النفس. لذلك، فإنَّ المطلوب هنا هو تغيير الخطاب الموجّه إلى العالم الإسلامي، وليس تشويه مسار تلك المجتمعات واستئصال هويّتها وتجريدها[15].
لقد عجزت العلوم التجريبيّة بسبب أزمة مابعد الحداثة عن تفسير مبادئها تفسيرًا علميًّا، وباتت تتغذّى على أصول غير علميّة، وفي هذا المسار أدّت مزاعم العالم التجريبي إلى اختلاط العلم بغير العلم، ولم يعد العلم معرفة خاصّة، بل امتزج بقضايا أخرى ومعارف مختلفة تعود لحقول غير علميّة.

ولا يمكن أنْ تتحقّق للعلم المبني على أفكار مابعد الحداثة هويّة مستقلّة عن تاريخه وثقافته، إذ لا يتلخّص أثر الثقافة ومعارفها الداخليّة بطريقة استعمال المعرفة العلميّة، ولهذه الأسباب لم يعد العلم في مرحلة مابعد الحداثة يزعم اكتشاف الواقع، ولم تعد قضيّة التّطابق مع الواقع ذات أهميّة لديه، بل بات يركّز على الجدوى العلميّة، والائتلاف الداخلي للمعرفة، وهو لم ينفصل بهذا التعريف عن تاريخ العالم وجغرافيّته، بل حصر نفسه في الجغرافيا والثقافة والتاريخ بدلًا مِن تحوّله إلى ثقافة عالميّة تهدف إلى اكتشاف العالم[16].

تعتمد الدراسة في عرضها أطروحات الفلاسفة التفكيكيّين، أمثال جاك دريدا وميشال فوكو ولاكان، النهجَ التفكيكيَّ والتأويلَ والكشفَ عن مضمارات في الرؤية الفرنسيّة لخطاب ما بعد الكولونياليّة.

وكأنَّ الإشكاليّة المركزيّة تمثّلت في شرعيّة استيراد هذه الدراسات إلى فرنسا وكيفيّته.
رفضت فرنسا، وماتزال، تبنّي هذه الدراسات التي تكشف عن تاريخها في مستعمراتها،كي لا تضطر إلى الاعتذار عن الاستعمار والإساءة والتشويه التي ألحقتها بتلك الدول. يقول صاحب كتاب الآداب الفرنكوفونيّة ونظريّة مابعد الكولونياليّة جان مارك مورا (Jean Marc Moura)، إنّ تلك الدراسات متطوّرة جدًّا في الدول الأنجلوسكسونيّة، ومتجاهَلة في دول الفرنكوفونيّة.

إنَّ تنكّر فرنسا للدراسات مابعد الكولونياليّة ونشرها الذرائع لرفضها بعد الانتشار الواسع لهذه الدراسات وشيوعها في الفضاءات العلميّة، وإعداد الهيئات الأكاديميّة المتخصّصة وتحميلها مهمّة الردّ عليها وتسفيهها وتمييع حقائقها والتشكيك في مصداقيّتها، يوحي بالسعي المستميت لإبقاء المسكوت عنه طيّ الكتمان وبمسائل مخيفة للمركزيّة الفرنسيّة تتجاوز حدود النشأة والوسيلة اللغويّة؛ فـ«ما تزال نظريّة مابعد الكولونياليّة تثير الجدل الكبير في الفضاء الأكاديمي الفرنسي، مع أنَّها منهج حيويّ في حقل العلوم الاجتماعيّة في العالم كلّه، حيث البحوث في ديناميكيّة وتطوّر في العديد مِن الدول؛ الولايات المتحدة الأمريكيّة، وبريطانيا، والبرازيل، والهند، ومِن ألمانيا إلى دول الشمال، وفي الجامعات الأفريقيّة، وجامعات أميركا الجنوبيّة».
وعلى الرغم مِن أهميّة تلك الدراسات، وتمثيلها قضيّة نقاش فكري حول الموقف مِن المستعمرات، بخاصّة في ميادين الأكاديميّات ومعاهد العلوم الإنسانيّة وجامعاتها، بقيت تلك الدراسات مهمّشة في فرنسا، وغير خاضعة للموضوعيّة العلميّة العالميّة في حقل العلوم الاجتماعيّة الميداني، واستمرّت المركزيّة الثقافيّة الفرنسيّة تحاول تحصين ذاتها بتكوين رأي عام فرنسي أوّلًا، وفرنكوفوني ثانيًا، مناهضَين لهذه الدراسات، اعتقادًا مِن الدولة الفرنسيّة بعدميّة مفعولها وضعف نتائجها وارتباطها بحركات خارجيّة تهدّد الوحدة الوطنيّة الفرنسيّة بمحاولة مراجعة الفعل الاستعماري الفرنسي في أفريقيا وآسيا، لما يصاحب ذلك مِن انعكاسات على الهويّة الفرنسيّة للشباب المتحدّر مِن بلدان الهجرة، مع أنَّ هناك أكاديميّين فرنسيّين أقرّوا بأحقيّة هذه الدراسات ومشروعيّتها، وانتشارها الكبير في الحقول المعرفيّة والدوائر العلميّة الفرنسيّة.

لقد أصبح تجاهل هذه الدراسات في المجتمع الفرنسي اليوم صعبًا، على الرغم ممّا تحمله في طيّاتها مِن توتّرات قويّة للغاية، وباتت فرنسا عاجزة عن منع فتح ملفّات ماضيها الاستعماري؛ لما تخشاه مِن إمكان فتح باب المحاكمات وحفاظًا منها على امتيازاتها الحاليّة في مستعمراتها القديمة، وخصوصًا امتداداتها الثقافيّة واللغويّة بعد اكتساح اللغة الإنكليزيّة فضاءات العولمة الثقافيّة، وتعميم النموذج الثقافي الأنكلوسكسوني والأميركي. وفي حين ترفض فرنسا قراءات دراسات مابعد الكولونياليّة ومقارباتها، تُدرَّس هذه الدراسات في مناهج التعليم والأكاديميّات وكليّات العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة الأميركيّة، مدعومة مِن تيّارات فكريّة تعنى بدراسات الإثنيّات والعرقيّات والأنواع البشريّة والتاريخ السياسي في أفريقيا أو آسيا[17].

تشكّل فرنسا استثناءً أوروبيًّا بعدم اعترافها بجرائمها الاستعماريّة أو الاعتذار، ولم يجد المؤرّخون ودارسو فترة مابعد الكولونياليّة أسبابًا علميّة وموضوعيّة لهذا الموقف سوى سببين: أوّلهما نفسي، ويرتبط بنرجسيّة فرنسيّة ترى في عنصرها تفوّقًا، وفي الإقرار بأخطائها ضعفًا معنويًّا يقلّل مِن هيبتها ومِن تاريخها الثوري والتنويري. والثاني براغماتي نفعي، تحتفظ مِن خلاله فرنسا، بعدما أعادت التموضع، باستثماراتها في مستعمراتها السابقة عبر صياغة سياسيّة تبعيّة، تصبح فيها فرنسا إمبراطوريّة غير معلنة، ودولُ الهامش تابعةً، وإنْ باستقلال صوري، ونموذجًا مسخًا لفرنسا في السياسة والتربية والاجتماع، بفضل إستراتيجيّات وسياسات دقيقة تؤسّس للاستمراريّة الكولونياليّة تحت أقنعة التعاون والمساعدة، فقد أنشأت فرنسا في كلّ البلدان المستعمَرة علاقة تأتي في سياق التاريخ والإمبراطوريّة لتجاوز ازدواجيّة الرؤية بين فكر مناهضة الاستعمار ومنطق المقدّسات.

وتتحوّل هذه المركزيّة الفرنسيّة الشديدة خطابًا ممأسسًا على الانغلاق الذاتي، وإمعانًا في تكريس مفهوم فرنسا الخاصّ بالاختلاف والآخر منهجًا وعقيدةً ولغة مِن خلال تصوير مقاربات دراسات مابعد الاستعمار وسيلة وأداة ومؤامرة ضدّ الثقافة الأم. نجد هذا الواقع متجسّدًا في كتابات ألفرد دو فيني(Alfred de Vigny) (1797-1863) على سبيل المثال لا الحصر، حين تحدّث عن الهنود المتوحّشين، وحمّل الحضارة الغربيّة مسؤوليّة تعليمهم الحضارة. كانت معظم كتابات تلك المرحلة في فرنسا تبرّر الاستعمار لتعويض خسائر الحرب الفرنسيّة–الروسيّة (1870-1871)، وتدعو الكتّاب الفرنسيين إلى مدح الاستعمار والترويج له في أفريقيا والهند وجزر الأنتيل.

تلك النصوص الفرنسيّة كانت مصنّفات فكريّة وتاريخيّة، شكّل ما فيها مِن تمييز وعنصريّة صورًا نمطيّة في الوعي الجمعي، جعلت الآخر صنْوَ التوحّش والتخلّف، وما يصاحبهما مِن أصداء وآثار، وربطت الاختلاف باللاعقلانيّة واللاإنسانيّة، وهنا يقفز إلى الذاكرة الاستشراق العسكري الفرنسي المتمثّل في لويس دو بوديكور (Louis de Baudicour) ولويس ماسينيون (Louis Massignon) وليفي بروفنسال (Lévi Provençal)، وأهدافهم الخبيثة في الجزائر والمغرب، ودعواتهم إلى التلاعب بورقة الأقليّات، وتركهم عند الاستقلال الصوري لتلك البلدان عناصر التفرقة والانقسام بين الشعب، مِن خلال دعم الاستعمار الكاثوليكي المسيحي لأفريقيا، وتوطين الموارنة في الجزائر بهدف إشاعة الموالاة والتأييد الشعبي للاستعمار الفرنسي، كما هو الحال في لبنان أيضًا، وإثارة قضيّة الأقليّات المسيحيّة والاضطهاد الإسلامي، فضلًا عن بعث الإرساليّات اليسوعيّة المدعومة مِن الاستشراق الفرنسي للتأثير في مناهج التعليم في لبنان وفي المغرب العربي كذلك، والمساعدة في تنميط تلك المجتمعات وتقسيمها وفقًا لمعايير غير موضوعيّة، نتج عنها نزاعات قبائليّة في المغرب، وطائفيّة في لبنان[18].

الكتابة بصفتها فعلًا مقاومًا
وكردّ فعل على الاستعمار، اتّخذ بعض الأدباء الأفارقة الكتابةَ وسيلةً للمقاومة وإثبات الذات وتفكيك ثقافة الاستعمار وأسطورته الوهميّة، ذلك الاستعمار المهموم بتحضير الآخر وإخراجه مِن غياهب التوحّش والجهل وبراثن التخلّف، كما يشيع، فكانت الكلمةُ بمنزلة السلاح الذي يفضح الصور الزائفة التي رسمها الاستعمار الفرنسي لنفسه عبر البروباغندا التي وظّفها عملاؤه بالوكالة، الخائنون أوطانهم ورسالاتهم، والمتنكّرون لتضحيات آبائهم وأجدادهم، فجاءت تلك الكتابات خطاباتٍ تفكيكيّةً لمنظومة الكولونياليّة، التي رسمت لنفسها ولعملائها المتحيّزين صورًا إنسانيّة طوباويّة. إنَّ التابع المهمَّش يكتب التاريخ بدافع إثبات الذات والتعبير عن الكينونة في مقابل الغيريّة الكولونياليّة؛ لوضع حدّ لخطب الاستعمار الثقافي، وصناعة صورة الآخر بموضوعيّة تستند إلى المواصفات العلميّة.

إذاً، ارتكزت إستراتيجيّة الكتابة مابعد الكولونياليّة في فضاء ثقافي مقترن بقيم التسامح والتعاون والتجاوز نحو المشترك الإنساني، وعلى نقد أسس العقل المركزي المنتج للثقافة التبريريّة والتسويغيّة للفعل الكولونيالي، باستغلال وظيفة النصّ باعتباره «جهازًا عبر لغوي» بتعبير جوليا كريستيفا (Julia Kristeva)، فالنصّ الكولونيالي احترف التلاعب بالذاكرة الجماعيّة للمجتمعات المستعمَرة وتزييف الحقائق وصناعة مصطلحات ومفاهيم غير موضوعيّة مِن أجل تسويق أفكار مدلِّسة وكاذبة تتلاعب بعقول الناس ومعتقداتهم، والحجّة تطوير تلك المجتمعات وتحضيرها، فيما المقصود الحقيقي الخطير مِن وراء هذه النصوص مخفي، هدفه إمبريالي واستعماري ويسعى إلى الهيمنة وتعميم النموذج الأوروبي، والفرنسي خصوصًا.

ونذكر مِن الكتّاب الأفارقة الذين قاوموا الاستعمار الفرنسي لأفريقيا: إيمي سيزير (Aimé Césaire) (1913-2008)، كاتب وشاعر سياسي مِن مستعمرة المارتينيك الفرنسيّة، يُعتبر مؤسّس الحركة الأدبيّة والسياسيّة الزنوجيّة، مِن أشهر مؤلّفاته كرّاس العودة إلى أرض الوطن، الذي أشارت قصائده إلى اللامساواة بين السود والبيض، وخطاب حول الاستعمار، الذي شرح وكشف مناورات الاستعمار تحت شعارات الحضارة والقيم الإنسانيّة.
ولا ننسى الشاعر ليون غونتران داماس (Léon-Gontran Damas) (1912-1978)، والشاعر ليوبولد سيدار سنغور (Léopold Sédar Senghor) (1906-2001)، أوّل رئيس لدولة السنغال (1960-1980)، وأوّل أفريقي يحظى بمقعد في الأكاديميّة الفرنسيّة، يُعدّ مِن كبار مناضلي الحركة الفرنكوفونيّة[19]، وهو عضو مؤسّس للمجلس الأعلى للفرنكوفونيّة، أسّس مع سيزير وداماس مجلّة الطالب الأسمر سنة 1934 للتعبير عن الثقافة الزنجيّة ومقاومة العبوديّة والعنصريّة. له مؤلّفات عديدة في الدعوة إلى المساواة، ودواوين شعريّة تتغنّى بتضحيات أصحاب البشرة السمراء في حقل العدالة والحريّة[20].

وهنا تجدر الإشارة إلى أنَّ الفلسفة الغربيّة عمومًا، بروّادها ومفكّريها، لم تكن بريئة مِن وضع التقسيمات العنصريّة، إذ صنّفت البشر بحسب اللون والعرق، وخصّت الجنس الأبيض بالأفضليّة والنقاء والتطوّر والقابليّة للتحضّر[21]، فكانت هذه الأفكار سببًا في تبرير الاستعمار، وإثارة النعرات الطائفيّة والعرقيّة، وتكفي في هذا المقام مراجعة الآثار الكلاسيكيّة لكلّ مِن إيمانويل كانط (Imanuel Kant) (1724-1804)، وديفيد هيوم (David Hume) (1711-1776)، وآرثر دو غوبينو (Arthur de Gobineau) (1816-1882)، ورينيه ديكارت (René Descartes) (1596-1650)، وجان جاك روسّو (Jean-Jacques Rousseau) (1712-1778)[22].
كانت الدول الأفريقيّة الأكثر معاناة مِن المؤسّسات الاستعماريّة بفعل خطاب العنصريّة، فقد مورست في حقّها الاغتيالات والاستغلال والاستبداد والتجنيد والنخاسة في أسواق تباع فيها الزنجيّات وتشرى كالمتاع، ليُستخدمن في البغاء والرقّ وغير ذلك، فضلًا عن الوصاية وتدمير ثقافة المجتمعات ووصمها بالتخلّف... إلخ.

وقد نشرت مجلّة هيرودوت الجزائريّة عددًا خاصًّا بالمسألة الاستعماريّة، لم يحظ موضوع مابعد الكولونياليّة فيه بأيّ تحليل، ولم تناقَش ظاهرة الاستعمار في عمقها وأبعادها، بل اكتفى العدد بمناقشة أصول منهج الدراسات الكولونياليّة وفهمها، والتطرّق إلى قضايا سطحيّة وهامشيّة، مثل قضايا: الخلط بين الاستعمار القديم والحديث، العلاقة الكولونياليّة باللغات، انفجارات لندن... أمّا مايتّصل بأدبيّات تطوّر دراسات مابعد الكولونياليّة، فكان التطرّق إليه خجولًا وشبه معدوم، على الرغم مِن خطورته وجوهريّته[23].

وبناءً عليه، فإنَّ الأسباب التي سلف ذكرها تحول دون مناقشة الغرب الأوروبي، وخصوصًا فرنسا، تلك الدراسات مناقشةً موضوعيّة، بفعل تعنّتها وعنصريّتها ومركزيّتها المغالية، وهي عوامل باتت تُفرز توتّرات غير عاديّة في المجتمع الفرنسي بين الفرنسيّين مِن ذوي العرق اللاتيني، وأجيال مِن المواطنين أحفاد المهاجرين إلى فرنسا مِن أهالي المستعمَرات الفرنسيّة، وما يثيره وجود هؤلاء مِن قضايا متّصلة بتلك المستعمرات وانعكاسها على العلمانيّة وثقافة التنوير، الأمر الذي أحدث فجوة ثقافيّة حادّة في المجتمعات الغربيّة عمومًا، والفرنسي خصوصًا، وصدامات حادّة على الأرض نتيجة التهميش والاستكبار الذي كانت فرنسا تمارسه مِن خلال علمانيّتها الراديكاليّة في بعض الضواحي الفرنسيّة، ونزعة التهميش تجاه الشباب الفرنسيّين مِن الجيل الثالث والرابع في مناهج التعليم والمؤسّسات والإعلام، والتعصّب ضدّ حجاب المرأة، والبوركيني وغيرها مِن القضايا، ما أنتج في الطرف اللاتيني المقابل خطاب الإسلاموفوبيا، والتطرّف الإسلامي، والراديكاليّة، والكراهيّة، والإرهاب...[24].

إنَّ الرفض الذي عبّرت عنه فرنسا -وما تزال- تجاه هذه الدراسات يُظهر تطرّفًا لامتناهيًا يدعو إلى التّشكيك في منهج استنطاق التاريخ لديها، كما يُظهر عدم تمييز بين فعلها الكولونيالي وخطابه، إضافة إلى استعانتها بمناهج مختلفة لتحليل الظاهرة الاستعماريّة، وتوظيفها لغة موازية للفرنسيّة، تفرز أنظمة فكريّة خياليّة تشبه العنف المعرفي الذي كان الاستعمار يستخدمه. ولقد دفعت هذه الاتّهامات والادّعاءات الباحثة لاتيتيا زيكيني (Laetitia Zecchini) في «المركز الوطني للبحث العلمي» (Centre national de la recherche scientifique – CNRS) إلى طرح الاستفهام الآتي: «هل دراسات مابعد الكولونياليّة تستعمر العلوم الاجتماعيّة؟».

تعتقد المركزيّة الفرنسيّة أنَّ منهج دراسات مابعد الكولونياليّة يغزو الدراسات الإنسانيّة ويأسرها بسبب اقترانها المطلق بالتاريخ والماضي، ويمنعها مِن التطوّر والانفتاح والاستفادة مِن فتوحات العولمة ومناهجها النقديّة الحداثيّة. وقد شكّلت المستعمرات القديمة ودراسات مابعد الكولونياليّة مِنعطفًا مهمًّا في نقد الاستعمار، ودفعت بتيّارات مابعد الحداثة الفكريّة إلى الظهور كردّ فعل، شكّل في مضامينه نافذة نقديّة وسرديّة تفكيكيّة إبستيمولوجيّة ذات فكر حالم بشكل جديد مِن الإنسانيّة، إنسانيّة ناقدة تهدف إلى تأسيس مشترك جامع لكلّ اختلاف[25].
وتستعين المنظومات المتعصّبة، التي تعيش نوستالجيا المستعمرات لدعم ما تدعو إليه مِن نظريّات، إلى استغلال ضعف المردود التعليمي لأبناء المهاجرين المتحدّرين مِن المستعمرات القديمة لادّعاء عدم قابليّتهم للحضارة ولفكر الأنوار، فيما تثبت الدراسات الميدانيّة الديالتيكيّة وتحليل النتائج المدرسيّة التي تُظهر ارتفاع نسبة الرسوب والفشل الدراسي عند التلاميذ المهاجرين[26]، أنَّ الأسباب الموضوعيّة لهذا تعود إلى اللاتوازن في المناهج التعليميّة وبيداغوجيا التدريس ومراعاة الفروق الفرديّة، ما انعكس سلبًا على التحصيل العلمي بفعل التمييز العنصري والتفاوت الاجتماعي الذي يعاني منه المهاجرون.

وترى دراسات مابعد الكولونياليّة إمكانًا حقيقيًّا وواقعيًّا لفرض رؤية جديدة تتماشى وبناء مجتمعات عصريّة بقيم الحداثة وحقوق الإنسان، فالمراجعات الكرونولوجيّة للتاريخ في ظلّ تاريخ استعماري قديم وطويل ودموي تختلف عن قراءة جديدة لمفهوم الآخر، تتطلّب بناء إستراتيجيّات جديدة ومتنوّعة تؤهّل المجتمع للتغيير والتطوّر لإثبات الذات والوجود ونفي ثقافة التبعيّة والوصاية[27]، فتفكيك النمط الكولونيالي وأدبيّاته ومنظومته اللوجستيّة، وتمكين الأنا مِن التخلّص مِن كلّ أشكال السيطرة، واستعادة الثقة بالذات، ورفض نموذج الهيمنة والوصاية والاستعمار... كلّها أمور تساعد في نقد التأثيرات الاجتماعيّة والثقافيّة والسياسيّة والثقافيّة والسياسيّة والاقتصاديّة، والعمل على تغييرها[28].

وعن تأثير العلاقة بين التنمية والتخلّف في استمرار الوضعيّة الاقتصاديّة المزرية، وحماية الأنظمة الاستبداديّة حفاظًا على امتيازاتها في فراديسها، نشر الباحث ديمتري ديلّا فايي (Dimitri Della Faille) جملة مِن المقترحات للتنمية في المستعمرات، بالاعتماد على أدبيّات ونتائج دراسات مابعد الكولونياليّة. وأهمّ التدابير المقترحة لتسهيل عمليّات التعاون والتنمية بين المستعمِر والمُستعمَر في اعتقاده هي:

- فهم معنى التخلّف والتنمية لإيجاد إستراتيجيّات للقضاء عليه.
- تجاوز نقد دراسات التنمية والتخلّف لدراسات مابعد الكولونياليّة واتّهامها بالاعتماد على المراجعات التاريخيّة، وتجاهل المستقبل والاستشراف، وغياب الرؤية النهضويّة.
- عدم تغليب الرؤى النظريّة على تبنّي المشاريع التطبيقيّة والميدانيّة، واستنساخ التجارب الفاشلة مِن خلال غياب سياسات وطنيّة لمحاربة الفساد.

كما أنَّ استخدام بعض الألفاظ والمصطلحات في اعتقاد الكاتب تثير العنف وتستفزّ المشاعر، وتدفع نحو القطيعة بين المستعمِر والمُستعمَر، باعتبار أنَّ كلّ حقل معجمي هو ذو معرفة خاصّة ومعجم لغوي ولسانيّة متميّزة.
كما أنَّ على المقاومة في تلك المستعمرات الاعتماد على اللغة الأم تعبيرًا عن القوميّة الوطنيّة، وحمايةً للغة الوطنيّة، والنأي مِن استخدام لغة الفرنكوفونيّة الفرنسيّة لبعث رسالة واضحة تعبّر عن الموقف المناهض للنزعة الاستعماريّة، وبهدف تأكيد الهويّة الوطنيّة وتثبيتها[29].

تهدف هذه الإستراتيجيّات إلى عقلنة الحوار وتوجيهه نحو مسارات إيجابيّة مِن التفاعل والتلاقي والنقد والتّسامح والاعتراف بخصوصيّة الآخر وثقافته وهويّته، بعيدًا عن الاستعلاء والهيمنة والاستكبار والتهميش وفرض التباعد والاستبعاد الاجتماعيّين الإقصائيّين القائمين على مبدأ الانقساميّة، التي عبّر عنها دوركهايم في فلسفته الاجتماعيّة لتلك المستعمرات الفرنسيّة في المغرب وأفريقيا وغيرها مِن المجتمعات، والتي تسوّغ الاحتلال والعدوان والغزو الثقافي والهيمنة على ثروات تلك الشعوب تحت أقنعة الرسالة الحضاريّة والدافع الاستكشافي المعرفي، وأنَّ دراسات مابعد الاستعمار لا تتحمّل فشل السياسات الاجتماعيّة، وعنصريّة الإدارة، وصعود اليمين المتطرّف، وانتشار التطرّف الديني والمذهبي، والنزعة العرقيّة والعنصريّة بفعل التراكمات الاجتماعيّة، وغياب سياسة عادلة للاندماج الاجتماعي، وسيادة قوانين التمييز والتفرقة... التي كانت في عمومها سببًا مباشرًا في الانتفاضات الاجتماعيّة والثقافيّة والدينيّة.

وجاء الاعتراف الأكاديمي بعد مقاومة ونضال نخبوي قدّم فيه روّاد مابعد الكولونياليّة دراسات موضوعيّة فرضوا بها الإقرار العلمي بتلك الدراسات، وبحقيقة أنّها ردّ فعل فتح مساحات للنقد، بدأت مع كتاب إدوارد سعيد في الاستشراق (1978)، ومقولاته في تفكيك خطاب الغرب عن صناعة الشرق المتخيَّل، إضافة إلى رواية فرانز فانون (Frantz Fanon) (1925-1961) المعذّبون في الأرض، والعمل على تأسيس إنسانيّة جديدة مع انقراض الوجود الاستعماري الذي مثّل الوجه البشع للإنسانيّة، وما نتج عنه مِن تفرقة عرقيّة ومركزيّة غربيّة في التّعامل مع فكرتَي العالميّة والإنسانيّة، وذلك لإعلاء صوت المستضعفين ونضالهم المرتبط بحركات التحرّر الوطني.
كان للتيّارات النخبويّة الجديدة لما بعد الحداثة، المتمثّلة بـ: إيمانويل ليفيناس (Emmanuel Levinas) وميشال فوكو وجاك لاكان (Jacques Lacan) وجاك دريدا (Jacques Derrida) وموريس ميرلوبونتي (Maurice Merleau-Ponty)، وقع خاص ومميّز على دراسات مابعد الاستعمار، وتسبّبت في عزلة فرنسا الاستعلاء والنرجسيّة النخبويّة والتعامل السلبي مع ثقافة الاختلاف، وحرمانها خوضَ ميادين جديدة للفكر العالمي بسبب ما يعتريها مِن تناقضات عميقة مع ثقافتها الأصليّة وتاريخها التنويري والنهضوي اللّذين دعت إليهما الثورة الفرنسيّة.
لقد ظلّت الذاتيّة والتمركز يتحكّمان في فرنسا بعمليّات التواصل مع الآخر، فأعاقا الوصول إلى فهم أفضل للعلاقات بين القوى الإمبرياليّة والإمبراطوريّة، وبين المستعمرات في ظلّ الماضي وتاريخانيّته وتفويض النصّ سلطة المعالجة، كما فعل جان فرانسوا بايار [30](Jean–François Bayart) في كتابه دراسات مابعد الكولونياليّة، الذي حقّق الصدمة المطلوبة عبر بلاغة السخرية في إثارة واختزال وتهميش دافع عدم إقرار المنظومة الفكريّة الفرنسيّة بإيجابيّات الدراسات مابعد الكولونياليّة، وأهميّتها بوصفها خطابًا يسعى إلى التحرّر مِن الوصاية، وتأكيد الهويّة المطموسة بفعل الاستعمار، والتعبير عن الذات والحضور والوجود الإنساني والاختلاف، وحوار الثقافات والحضارات[31].

خاتمة
تسعى التيّارات الفكريّة لما بعد الاستعمار إلى إعادة نقد الموروث الغربي، وتفكيك الرواية تجاه الآخر، والمركزيّة التي تحاكي كلّ أوجه العنصريّة القوميّة القائمة على التعصّب وإبادة شخصيّة الآخر بحجّة نشر الديمقراطيّة والتحضّر وحقوق الإنسان، في حين أنّها تحمل كلّ عناوين الإقصاء والتجزئة وطمس الهويّة بحجّة المعرفة، الأمر الذي أفضى إلى مفاهيم لا تعدو كونَها وجهًا آخر مِن الهيمنة والاستعمار والاستعلاء، سواء لجهة التمثّل بثقافة الاستهلاك والإرهاب والتطرّف وتفكيك الأسرة والنوع العرقي والجنسي...وكلّها خدمةً لفلسفة الانقسامات وتفوّق العرق الأبيض.
ومِن هنا، تنبغي مراجعة كلّ هذه المفاهيم والمدلولات والدراسات الاستشراقيّة ومابعد الاستشراقيّة ومابعد الاستعماريّة، وهي مسؤوليّة تقع على الطرف الشرقي والغربي معًا، مِن خلال نشر ثقافة التّسامح والحوار على قاعدة الاختلاف ومبدأ التنوّع والتعدّديّة، بعيدًا عن صدام الحضارات والتمزّق والاغتراب والاستلاب بين الثقافات، والحدّ مِن الجاهليةّ العصبيّة والفساد الأخلاقي والإنساني والنزاعات والحروب، وصولًا إلى عالم جديد يسوده السلام والتلاقي حول المؤتلف الإنساني والحضاري بين الأديان والثقافات المتنوّعة.
لذلك ينبغي في هذا السياق تأكيد أنَّ جميع المعاهدات التي بنى عليها الغرب تاريخه، مِن ويستفاليا (1648) وصولًا إلى الثورة الفرنسيّة (1789-1899) والثورات الصناعيّة الأخرى وغيرها، لم تكن تهدف إلى صراع القوميّات عبر التاريخ أو نتيجةَ مشكلة عدم التجانس الثقافي والاجتماعي، بل كانت إحدى أدوات الحرب التي تعتمدها الدولة بهدف تطوير الحداثة السياسيّة.

وقد وُظِّف ابتكار مفهوم الدولة الثوريّة، التي أنتجت دولة القانون بموجب العقد الاجتماعي وتحت تسميات مختلفة، في الصراعات القوميّة بهدف تطوير مفهوم الدولة الحديثة ومراكمة رأس المال، وهذا ما عبَّر عنه الإصلاح الديني في أوروبا بهدف شرعنة المعاملات التجاريّة والرأسماليّة، ومِن أجل كسب الشرعيّة لإحداث تحوّل في السلطة المطلقة، والانتقال بها نحو الحداثويّة، وفي هذا تكمن أبعاد نقد الدراسات الكولونياليّة[32].

لائحة المصادر والمراجع
المراجع العربيّة
الاستشراق المفاهيم الغربيّة للشرق، إدوارد سعيد، ترجمة: د. محمّد عناني، رؤية للنشر والتوزيع، ط1، القاهرة، 2006م.
الخطاب والتأويل، د. نصر حامد أبو زيد، المركز الثقافي العربي، ط3، الدار البيضاء، المغرب، 2008م.
أندريه ميكال، الفنّ الروائي عند نجيب محفوظ، ترجمة: أحمد درويش في كتاب الأدب العربي والاستشراق الفرنسي، الهيئة المصريّة العامّة للكتاب القاهرة، 1977.
جولد تسيهر (1850/ 1921م): تخرّج باللغات الساميّة في بودابست، وزار سوريا وفلسطين ومصر، واشتهر بتحقيقه في تاريخ الإسلام وعلوم المسلمين وفرقهم وحركاتهم الفكريّة، له كتاب (العقيدة والشريعة في الإسلام).
أورنيلا سكّر، الاستشراق الاسباني مقدّمة لفهم الحضارة العربيّة الإسلاميّة في الاندلس، صحيفة الحياة، صفحة التراث، 2013.
الدكتورة مديحة عتيق، مجلّة دراسات وأبحاث الجزائريّة الصادرة بجامعة جلفا: مابعد الكولونياليّة: مفهومها، أعلامها، أطروحاتها.
فريال جبّوري غزّول، مابعد الكولونياليّة وماوراء المسميات، قضايا فكريّة العدد 19-20، القاهرة 1999.
أرنست غيلنر، العقل والدين ومابعد الحداثة، دار المدى للطباعة والنشر، ط1، بيروت.
محمّد م. الأرناؤوط: عرض لكتاب مجتمع مسلم لأرنست غيلنر، ترجمة: أبو بكر أحمد باقادر، 2005م، موقع ارنتروبوس.
لارنس كهون، مِن الحداثة إلى مابعد الحداثة، ترجمة: عبد الكريم رشيديان، ط7، طهران منشورات ني، 1388هـ.ش.
راجع مجلّة الرعيّة الجديدة للآباء اللعازاريين، العدد 178، رومية-لبنان أيار/ مايو 1982م، بعنوان التبشير وآثره في جبل لبنان، كتاب رسالة الجهاد، رقم 9، مالطا، الطبعة الأولى، ك1، 1986.
«الحضارة باعتبارها أيديولوجيّة أوروبيّة»، بروس مازليش، الحضارة للمركزيّة الغربيّة منظور خاصّ للحضارة، ومضامينها، ترجمة: عبد النور خراقي، سلسلة عالم المعرفة 42، الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، 2014.
باسكال بلانشارد، سندريلا لومير، نيقولاس بانسيل، دومينيك توماس، الشرخ الاستعماري: المجتمع الفرنسي مِن منظور الموروث الكولونيالي، جامعة أنديانا برس، الولايات المتّحدة، 2013.
أونيلا سكّر، التجانس الاجتماعي لم يكن سبب النزاعات القوميّة في أوروبا، موقع أجيال القرن الـ21 بيروت، 2021.

المراجع الأجنبيّة
E. Husserl, krisis der euroaischen wissenschaften und die transzendentale phanomenologie. Husserliana Band IV (Haag: Martinus Nijhoff, 1976).
Peter sloterdijk, kritik der zynischen vernunft (suhrkamp verlag Frankfurt am main, 1983).
Allard-Poesi, F. et Perret v. (1998). ‘le postmodernisme nous propose t il un projet de connaissance?” in cahier, numero 263, Mai.
Nunes, A. (2017). ‘Le postmodernisme ne casse pas des briques” in negative, bulletin irregulier-juillet, numero 24.
Agacinski, sylviane. racism: La responsabilite philosophique. lignes. vol. 4, no. 12 (1990).
Sylviane Agacinski, “Racisme: La responsabilité philosophique”, Lignes, vol. 4, no. 12 (1990), (15) Pascal Melka, Victor Hugo: Un combat pour les opprimés: Etudes sur l’évolution politique (Paris: la Compagnie Littéraire, 2008).
Akinwande, Pierre. Negritude et francophnie: paradoxes culturels et politiques. Collection: Etudes africaines- Afrique subsaharienne. Paris: L’harmattan, 2011.
Ali–benali, zineb, martin megevand et francoise Simasotchi –brones. L’impossible fondement des theories postcoloniales: le commerce du genie dans une societeen devenir. Literature. Vol. 2, no.154 (2009).
Bancel, Nicolas. “Que faire despostcolonial studies? Vertus et deraisons de l’accueil critique des postcolonial studies enfrance”.Vigntieme siècle. Revue d’histoire. Vol.3, no. 72 (2017).
Dominique Combe, “Le texte postcolonial n’existe pas’, Théorie postcoloniale, études “francophones et critique génétique”, Genesis, vol. 33 (2011).
Yves Lacoste, “La question postcoloniale”, Hérodote, vol. 1, no. 120 (2006).
Bessone, Magali & Daniel Sabbagh. Race, Racisme, Discriminations: Anthologie de textes fondamentaux. Paris: Hermann, 2015. Blanchard, Pascal, Nicolas Bancel& Sandrine Lemaire (dir.). La fracture coloniale: La sociétéfrançaise au prisme de l’héritage colonial. Paris: La Découverte, 2005. Boehmer, Elleke. “Écriture postcoloniale et terreur.” Littérature. vol. 2, no. 154, (2009). Capucine, Boidin. “Etudes décoloniales et postcoloniales dans les débats Français”. Cahiers des Amériques Latines. vol. 3, no. 62 (Janvier 2009).
Programme International pour le Suivi des Acquis des élèves (PISA), “France: PISA 2012: Faits marquants”, OCDE (2012),accessed on 4/1/2022, at: https://bit.ly/3tSsPRA
Johannes Angermuller, “Qu’est–ce que le post structuralisme français? A propos de la notion de discours d’un pays àl’autre,” Langage et société, vol. 2, no. 120 (2007).
Grégoire Leménager, “Des études (post) coloniales à la française”, Labyrinthe, vol. 24, no. 2 (2006).
Johannes Angermuller, “Qu’est–ce que le post structuralisme français? A propos de la notion de discours d’un pays àl’autre”, Langage et société, vol. 2, no. 120 (2007).
Bayart Jean–François & Bertrand Romain, “De quel ‘legs colonial’ parle–t–on?” Esprit (Decembre 2006), accessed on 6/ 1/ 2022, at: https://bit.ly/3yZdVwm
www.futureconcepts-lb.com/?p=2651

--------------------------------
[1][*]- باحثة من لبنان.
[2]- E. Husserl, krisis der euroaischen wissenschaften und die transzendentale phanomenologie. Husserliana Band IV (Haag: Martinus Nijhoff, 1976).
[3]- الاستشراق المفاهيم الغربيّة للشرق، إدوارد سعيد، ترجمة: د. محمّد عناني، رؤية للتشر والتوزيع، ط1، القاهرة، 2006م.
[4]- الخطاب والتأويل، د. نصر حامد أبو زيد، المركز الثقافي العربي، ط3، الدار البيضاء، المغرب، 2008م.
[5]- أندريه ميكال، الفنّ الروائي عند نجيب محفوظ، ترجمة: أحمد درويش في كتاب الأدب العربي والاستشراق الفرنسي، الهيئة المصريّة العامّة للكتاب القاهرة، 1977، ص147.
[6]- جولد تسيهر 1850/ 1921م: تخرّج في اللغات الساميّة في بودابست، وزار سوريا وفلسطين ومصر، واشتهر بتحقيقه تاريخ الإسلام وعلوم المسلمين وفرقهم وحركاتهم الفكريّة، له كتاب (العقيدة والشريعة في الإسلام)، العقيقي: المرجع السابق، ج3، ص 40-41.
[7]- أورنيلا سكّر، الاستشراق الإسباني، مقدّمة لفهم الحضارة الغربيّة الإسلاميّة في الأندلس، صحيفة الحياة، صفحة التراث، 2013، ص11.
[8]- تمثّل الكلبيّة هي المغارية والقرنائيّة ما يُطلق عليها المدارس السقراطية الصغرى في الفلسفة في بلاد اليونان، وقد أولت الاهتمام للأخلاق.
[9]- Peter sloterdijk, kritik der zynischen vernunft (suhrkamp verlag Frankfurt am main, 1983), S. 729.
[10]- Allard-Poesi, F. et Perret v. (1998). ‘le postmodernisme nous propose t il un projet de connaissance?” in cahier, numero 263, Mai.
[11]- Nunes, A. (2017). 'Le postmodernisme ne casse pas des briques" in negative, bulletin irregulier-juillet, numero 24.
[12]- الدكتورة مديحة عتيق، مجلّة دراسات وأبحاث الجزائريّة الصادرة بجامعة جلفا، «مابعد الكولونياليّة - مفهومها، أعلامها، أطروحاتها».
[13]- فريال جبّوري غزّول، «مابعد الكولونياليّة وماوراء المسمّيات»، قضايا فكريّة، العدد 19-20، القاهرة 1999، ص384.
[14]- إرنست غيلنر، العقل والدين ومابعد الحداثة، دار المدى للطباعة والنشر، ط1، بيروت.
[15]- محمّد م. الأرناؤوط، عرض لكتاب مجتمع مسلم لإرنست غيلنر، ترجمة: أبو بكر أحمد باقادر، 2005م، موقع أرنتروبوس.
[16]- لارنس كهون، مِن الحداثة إلى مابعد الحداثة، ترجمة: عبد الكريم رشيديان، ط السابعة، طهران، منشورات ني، 1388هـ.ش، ص14-16.
[17]- Agacinski, sylviane. racism: La responsabilite philosophique. lignes, vol. 4, no. 12 (1990).
[18]- راجع: مجلّة الرعية الجديدة للآباء اللعازاريين. العدد 178. رومية - لبنان أيار/ مايو 1982، ص28-29، بعنوان «التبشير وأثره في جبل لبنان». كتاب رسالة الجهاد، رقم 9، مالطا، الطبعة الأولى، ك1، 1986، ص15-17.
[19]- Sylviane Agacinski, «Racisme: La responsabilité philosophique», Lignes, vol. 4, no. 12 (1990), pp. 139–155. (15) Pascal Melka, Victor Hugo: Un combat pour les opprimés: Etudes sur l’évolution politique (Paris: la Compagnie Littéraire, 2008), p. 385.
[20]- Akinwande, Pierre. Negritude et francophnie: paradoxes culturels et politiques. Collection: Etudes africaines- Afrique subsaharienne. Paris: L’harmattan, 2011.
Ali–benali, zineb, martin megevand et francoise Simasotchi–brones. L’impossible fondement des theories postcoloniales: le commerce du genie dans une societe en devenir. Literature. Vol. 2, no.154 (2009).
Bancel, Nicolas. “Que faire des postcolonial studies? Vertus et deraisons de l’accueil critique des postcolonial studies enfrance”.Vigntieme siècle. Revue d’histoire. Vol.3, no. 72 (2017).
[21]- "الحضارة باعتبارها أيديولوجيّة أوروبيّة"، في: الحضارة ومضامينها، تأليف: بروس مازليش، ترجمة: عبد النور خراقي، سلسلة عالم المعرفة 42 (الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، 2014)، ص61.
[22]- Dominique Combe, Le texte postcolonial n’existe pas, Théorie postcoloniale, études francophones et critique génétique, Genesis, vol. 33 (2011).
[23]- Dominique Combe, Le texte postcolonial n’existe pas.
[24]- Yves Lacoste, «La question postcoloniale», Hérodote, vol. 1, no. 120 (2006), p. 15.
[25]- Bessone, Magali & Daniel Sabbagh. Race, Racisme, Discriminations: Anthologie de textes fondamentaux. Paris: Hermann, 2015. Blanchard, Pascal, Nicolas Bancel & Sandrine Lemaire (dir.). La fracture coloniale: La société française au prisme de l’héritage colonial. Paris: La Découverte, 2005. Boehmer, Elleke. «Écriture postcoloniale et terreur».Littérature. vol. 2, no. 154, (2009). Capucine, Boidin. «Etudes décoloniales et postcoloniales dans les débats Français.» Cahiers des Amériques Latines. vol. 3, no. 62 (Janvier 2009).
[26]- Programme International pour le Suivi des Acquis des élèves (PISA), «France: PISA 2012: Faits marquants», OCDE (2012), p. 13, accessed on 4/ 1/ 2022, at: https://bit.ly/3tSsPRA
[27]- صدر كتاب الشرخ الاستعماري: المجتمع الفرنسي مِن مِنظور الموروث الكولونيالي سنة 2005، وهو عمل جماعي يقع في 322 صفحة مِن الحجم المتوسّط تتوزّع على مقدّمة مشتركة بعنوان «الشرخ الاستعماري أزمة فرنسيّة»، أوضحوا فيها سبب تأليف الكتاب، الذي يعود إلى المِناخ الفرنسي العام؛ إذ «لم تتوقّف في السنوات الأخيرة المناقشات حول الماضي الاستعماري لفرنسا في الفضاء العمومي، وجاء هذا الانبثاق مِن أماكن متعدّدة وجمعيّات متنوّعة، منها المتّصل بالتاريخ الاستعماري، مثل المرحلين والحركي وقدماء محاربي ثورة الجزائر، ومنها ما يتصل بالدولة حين تشرع في التصويت على نصوص بناء الذاكرة الرسميّة، م.س، ص9؛ أنظر أيضًا: الأكاديميّون الجامعيّون الذين ينشرون بحوثًا تتعلّق بالفترة الاستعماريّة بطريقة مباشرة أو غير مباشرة. ثم تليها أربعة وعشرون بحثًا وملحقان في منهجيّة دراسة الذاكرات، الثالث، الكولونياليّة، الهجرة والحضريّة. وتناولت المقالات جميعها علاقة الاستعمار الفرنسي بمستعمراته المستقلّة، وانعكاس الوعي الوطني على الجمهوريّة مع ظهور الإسلام السياسي، إضافة إلى إشكاليّات الهجرة مِن حيث الاندماج والانقسام بين أرض الاستقبال وأرض الأجداد والأصول.
[28]- Johannes Angermuller, «Qu’est–ce que le post structuralisme français? A propos de la notion de discours d’un pays à l’autre», Langage et société, vol. 2, no. 120 (2007), p. 17.
[29]- Grégoire Leménager, «Des études (post) coloniales à la française», Labyrinthe, vol. 24, no. 2 (2006), p. 86
[30]- Johannes Angermuller, «Qu’est–ce que le post structuralisme français? A propos de la notion de discours d’un pays à l’autre», Langage et société, vol. 2, no. 120 (2007), p. 17.
[31] Bayart Jean–François & Bertrand Romain, «De quel ‹legs colonial› parle–t–on?» Esprit (Decembre 2006), accessed on 6/ 1/ 2022, at: https://bit.ly/3yZdVwm
[32]- التجانس الاجتماعي لم يكن سبب النزاعات القوميّة في أوروبا، موقع أجيال القرن الـ21، بيروت، 2021 أورنيلا سكّر.
www.futureconcepts-lb.com/?p=2651