البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

المدن العربيّة في المتخيّل الجغرافي الأوروبي قديمًا (سبأ وملكتها أنموذجًا)

الباحث :  د. محمود أحمد هدية
اسم المجلة :  دراسات استشراقية
العدد :  33
السنة :  شتاء 2023م / 1444هـ
تاريخ إضافة البحث :  March / 20 / 2023
عدد زيارات البحث :  428
تحميل  ( 1.331 MB )
الملخّص
أشارت العديد مِن الخرائط الأوروبيّة القديمة إلى تمثيلات بسيطة للمدن العربيّة، تمخّضت مِن متخيّل أصابه البعد عن الحقيقة، وحفّته الخرافات والأساطير النابعة مِن الكتابات التاريخيّة والجغرافيّة القديمة؛ لما أبداه قدماء المؤرّخين والجغرافيّين وغيرهم مِن اهتمام بالعالم العربي وموقعه الجغرافي، وحرص الكثير منهم على إعطاء حيّز في مؤلّفاتهم للكتابة عنه بالاستعانة بما استطاعوا الوصول إليه مِن معلومات تتعلّق به. ولإبراز كيف يمكن أنْ تكون الخرائط الجغرافيّة وسيلة لفهم ومعرفة نظرة الغرب الأوروبي للعالم العربي وموقعه قبل الإسلام وبعده، وجب علينا تتبّع رسم الخرائط لقرون طويلة مِن القرن الثاني عشر الميلادي حتّى القرن الخامس عشر، والتي يرجع البعض أنَّ معظم خرائط العالم إبّان تلك الفترة، عادَّة ما تكون تخطيطيّة في الشكل، وتقع في عدّة فئات فرعيّة اعتمادًا على أصلها التاريخي وهيكلها التصميمي، متجذّرة في التقاليد القديمة، تبنّاها القادة والعلماء الأوائل للكنيسة المسيحيّة، ومرتبطة ارتباطًا وثيقًا برسّامي الخرائط الكتالونيّين في ميورقة وبرشلونة، والإيطاليّين في جنوة والبندقيّة. ومِن بين تلك المدن سبأ، وهي مِن أهمّ وأشهر مدن جنوب الجزيرة العربيّة، وكذلك ملكة سبأ، والتي ذكرت في الكتابات القديمة، فكانت مصدرًا لرسّامي الخرائط خلال تلك الفترة، والتي تُشكل مرتكزًا أساسيًّا لتلك الصورة القائمة على أساطير جغرافيّة ودينيّة، احتوى بعضها على عناصر جغرافيّة انتشرت في الغرب، ما توجّب علينا توضيح أصل هذه الصورة، والتي تعود لقرون سبقت العصور الوسطى، والتي شكّلت النواة لمجموعة مِن القصص والخرافات لبلدان ومدن بعيدة، ومِن بينها المدن العربيّة.

كلمات مفتاحيّة

خريطة – متخيّل – سبأ – خريطة أنجلينو – خريطة بيزيجانو – الأطلس الكتالوني – خريطة ميسيا – خريطة فالسيكا – خريطة العالم الدائريّة – خريطة لوكساس.

المقدّمة
تستند الجغرافيا التاريخيّة لأيّ منطقة مِن مناطق العالم إلى الأماكن والمعالم التي تُشكّل صورها العامّة، وتكشف عن أحوال المِنطقة وجذورها التاريخيّة، والتي عادة ما تساهم في قيام حضاراتها. ومِن تلك النقطة كان للواقع الجغرافي القائم في أقصى الجنوب الغربيّ مِن قارّة آسيا، الدور الرئيس في التفاعل مع البيئات الحضاريّة مِن العالم القديم، والتي لم يكن في مقدورها أنْ تعيش في عزلة، فكانت على اتّصالٍ وثيقٍ بجيرانها المتاخمين لها داخل الجزيرة العربيّة وخارجها.

واعتبرت الخرائط الأوروبيّة في العصور الوسطى رافدًا مهمًّا لتوثيق وتدوين المعالم العربيّة والإسلاميّة في العصور القديمة، فهي إضافة لكونها وثائق تاريخيّة مهمّة نقلت الإرث والتاريخ عن تلك المِنطقة مِن وجهة نظر غربيّة، إلّا أنَّ ما نقلته هو صورة مبسّطة للواقع الجغرافي بما تشمله مِن صور وأيقونات ورسوم ونصوص توضيحيّة، فضلًا عن البقاع المقدّسة وأهميّتها الدينيّة والسياسيّة، بالإضافة للتقسيمات الجغرافيّة للعالم الإسلامي والعربي وحدوده الممتدّة شرقًا وغربًا، لذا ظهرت تمثيلات مختلفة ومتباينة للمدن الإسلاميّة والعربيّة، والتي اختلفت مِن حيث الشكل والتمثيل والألوان والمسمّيات، وذلك يرجع لاختلاف مدارس تصميم ورسم الخرائط، فضلًا عن المصادر التي نقلوا عنها أخبارهم ومعلوماتهم وبياناتهم.
وبطبيعة الحال، احتوت تلك الخرائط على معلومات عن المدن العربيّة -بعضها صحيح- وإنْ اختلف عن المألوف أو المتداول في الوقت الحاضر، كما أنّ بعضها -أي المعلومات- تعرّض للتّصحيف أو التّعديل أو الاجتهاد خلال نقل المعلومة مِن مصادرها الأولى حتّى وصلت لمراكز صنع الخرائط في أوروبا. فبالمقارنة بين خرائط الدراسة، والتي تعود للعصور الوسطى والمصمّمة في فترة زمِنيّة واحدة، يظهر نوع مِن التباين في المعلومات المقدّمة عن بعض المدن في تلك الخرائط. لذلك، فإنَّ الأمر يتطلّب الحذر والبحث والتحليل بقدرٍ كبيرٍ عند عرض تلك المعلومات، خصوصًا حول المناطق التي كانت قريبة مِن آذان صانعي الخرائط، وبعيدة عن أعينهم.

غير أنَّ هذا لم يمنع مِن مواجهة الخرائطيّين الأوروبيّين لمشكلات كثيرة عبر قرون عدّة في رسم وتصميم الخرائط للأراضي العربيّة بشكلٍ دقيقٍ؛ نظرًا للموقع البعيد والمنفصل بشكل جغرافي عن أقاليم آسيا الواسعة، ولكثرة الصحارى الموجودة بها، والتي كانت حائلًا لهم. ومِن بين تلك المناطق، الجزيرة العربيّة التي ظلّت ولمدّة طويلة منطقة مجهولة وصعبة المنال، ولم يكن في متناول يد المسافرين إِلَّا معلومات محدودة ومقصورة على المناطق المحلّيّة، ومعظم الخرائط مبنيّة على الفكر التخيّلي لها. أمَّا في العصر الحديث، فقد أصبحت منطقة الجزيرة العربيّة ضمن مدارات اهتمام الأوروبيّين التجاريّة والبحريّة والجغرافيّة، فكانت الخرائط التمثيليّة تجسيدًا لهذا السعي المتكرّر لاستكشاف المنطقة الواقعة بين مدار ثلاث حضارات كبرى؛ الفارسيّة والتركيّة والهنديّة.
ومِن هذا المنطلق أوجد رسّامو الخرائط قديمًا للمدن العربيّة -عن عمد أو بدون عمد- هُويّة مصطنعة لها في كثير مِن الأحيان، بأنّها منطقة رعويّة فقيرة صحراويّة، القصد مِن ذلك، التقليل وعدم الاهتمام بها وبمقدّراتها، وهو ما أثّر بشكلٍ كبيرٍ في تلك الصورة القاتمة للجزيرة العربيّة، والتي استمرّت وظهرت في خرائط العصر الحديث بنفي واقعها الجغرافي وهُويّتها الحضاريّة الضاربة في جذور التاريخ، بالرغم مِن مقدرة هذه المنطقة على امتصاص الثقافات الأخرى، وجعلها منتجة لخصوصيّة جغرافيّة وحضاريّة، هي خليط مِن ثقافة المنطقة الجغرافيّة الأصليّة والثقافات الوافدة عليها.
لهذا مثّلت عمليّة النقل والنسخ للمعلومات الجغرافيّة للعديد مِن الأماكن، وخاصّة في خرائط العصور الوسطى عن تلك الفترة، لمدن ومواقع وأماكن الجزيرة العربيّة دون تحليل أو فحص، فجاءت تمثيلات تلك المواقع والمدن متشابهة بقدر كبير مِن حيث المسمّى والوصف والشكل الأيقوني لها.
تبلورت الهُويّة الحضاريّة للجزيرة العربيّة في خرائط العصور الوسطى مِن تلك الكتابات الكلاسيكيّة القديمة، والتي ساعدت في تكوين صورة ذهنيّة في مخيّلات الكُتّاب والمؤرّخين، والتي اعتمدت في تصوّراتها على الكتاب المقدّس، وأكثر مناطق الجزيرة العربيّة ارتباطًا بهذا المخيال، هو الجزء الجنوبي مِن الجزيرة العربيّة، حيث يُعدّ هذا القسم أكثر أقسام الجزيرة العربيّة اتّساعًا، كما اتّصف بوفرة موارده، تلك الموارد التي تجمع ثنائيّة واضحة، حيث الموارد الزراعيّة في الجزء الجنوبي الغربي حسب تقسيم بطليموس، والموارد المستمدّة مِن عائد نقل التجارة على الطرق التي تخترق هذا القسم وتصله بباقي مناطق شبه الجزيرة.

واستحوذت بلاد اليمِن على محلّ أنظار العالم مِن الشرق أو الغرب، وقصدها الرحّالة والمغامرون مِن جميع بقاع العالم للتعرّف على مكنونات هذا البلد، والتعرّف على حضارته وعاداته وتقاليده وتاريخه العريق، تنقّلوا بين مناطق مختلفة مِن عدن إلى حضرموت، ومِن المخا إلى صنعاء ومأرب، وخرجوا برؤى ودراسات أنثروبولوجيّة وتاريخيّة، وكتبوا عن هذا البلد في مجالات عدّة، وقد ساعدت تلك الموارد في الركن الجنوبي الغربي مِن الجزيرة العربيّة على نشأة حضارة عربيّة قديمة، لفتت إليها أنظار العالم القديم، بهرت هذه الحضارة المؤرّخين الكلاسيكيّين -الرومان واليونان- وحظيت باهتمامهم، وتحدّثوا عنها في مؤلّفاتهم، ورسمها العديد مِنهم في خرائطهم، وأطلقوا عليها العربيّة السعيدة (Arabiafelix) كناية عن تقدمها وازدهارها، وهي بلاد اليمِن، وسمّيت أيضًا الأرض الخضراء، وهو ما جاء في خريطة لـ(فرا ماورو 1448-1449م)، وخريطة العالم الدائريّة لعام 1457م.

وتربّعت على باقي الممالك الأخرى؛ لما توافر لها مِن شهرة واسعة بين المؤرّخين القدماء والمحدثين لـم تتوافر لما عداها مِن بقيّة مِناطق الجزيرة العربيّة، وهي مملكة سبأ، وترجع عوامل هذه الشهرة لعدّة أسباب، أهمّها: ذكرها في أكثر مِن موضع في العهد القديم، وفي أكثر مِن آية مِن آيات القرآن الكريم، مع ذكر أسماء بعض حكّامها صراحةً في النصوص المسماريّة العراقيّة منذ القرن الثامن قبل الميلاد، واستمرار كيانها السياسي المتطوّر إلى ماقبل ظهور الإسلام بقليل، فضلًا عن ارتباطها بعدّة حوادث دينيّة وسياسيّة، تأثّر بها العرب الشماليّون والجنوبيّون قبيل ظهور الإسلام بقليل أيضًا. كما مرّت سبأ عبر تاريخها بأربع مراحل سياسيّة؛ المرحلة الأولى «المكريّون»، حكموا قرنين ونصف القرن، وكانت عاصمتهم آنذاك صرواح؛ والمرحلة الثانية عهد ملوك سبأ، وكانت عاصمتهم في هذه المرحلة مأرب؛ والمرحلة الثالثة ضمّت مملكة سبأ منطقة ذو ريدان إليها، فأصبحت تسمّى مملكة سبأ وذو ريدان؛ والمرحلة الرابعة شملت المرحلتين الثانية والثالثة مدّة مملكة سبأ وجزءًا مِن مملكة سبأ وذو ريدان، وأهمّ مرحلة هي مملكة سبأ وذو ريدان مِن ناحية الازدهار والتوسّع، والتي انعكست بقوّة في المصادر اليونانيّة والرومانيّة، وجعلت شهرتها تطبق آفاق العالم القديم، ويُطلق مِن أجل ذلك صفة سبئي على جميع اليمنيّين، وهي المدّة التي تطوّرت فيها الملاحة ونشاط التجارة.
واقترن تاريخ الدولة السبئيّة برموز تاريخيّة يمنيّة قديمة، ومنها ملكة سبأ أو الملكة بلقيس المذكورة في الكتب السماويّة، والتي شاعت شهرتها الآفاق منذ القدم، فذكرتها المصادر العبرانيّة، وأشار إليها القرآن الكريم، وروِيت هذه القصة بتفاصيل أكثر في كتب التفسير وقصص الأنبياء وكتب التاريخ، فضلًا عن الروايات الحبشيّة، والتي غلب عليها الطابع الأسطوري الخرافي.

وأقدم إشارة لملكة سبأ تعود للقرن العاشر قبل الميلاد (نحو 950ق.م) في العهد القديم في سفر الملوك، وكذلك في سفر أخبار الأيام، تلك الإشارة التي وردت في موضعين، وما ورد في (أخبار الأيام) متعلّقًا بسليمان (عليه السلام) وملكة سبأ، إنّما هو إعادة لما جاء في سفر الملوك مع فروق طفيفة في بعض الكلمات والتعابير، ولذلك يُعدّ ما جاء في سفر الملوك أَوْلى بالدراسة؛ لكونه أقدم مِن سفر أخبار الأيام، وما جاء في الإنجيل (إنجيل متّى، إصحاح 12، فقرة 42، وإنجيل لوقا، إصحاح 11، فقرة [44-31]) وفي القرآن الكريم في سورة النمل.

وملكة سبأ لـم يرِد اسمها صراحة، إنَّما ورد في الأساطير وأقوال المؤرّخين بأنَّها بلقيس، أمَّا الكتب المنزلة، فلا تعطيها اسمًا، ففي الفصل العاشر مِن سفر الملوك الثالث في التوراة «وسمعت ملكة سبأ بخبر سليمان واسم الرب»، وتكتفي التوراة بذكر اسم ملكة سبأ، وكذلك القرآن الكريم لـم يشِر لاسم الملكة، الأمر الذي دعا الكثير مِن المفسّرين والمؤرّخين العرب القدامى بأنْ يدلوا بدلوهم تجاه ذلك الأمر، فصدّروا أقوالًا وآراءً كثيرة في شأنها، فقيل هي بلقيس بنت هداد بن شراحيل، والدها ملك لفترة سبعين سنة، ثمّ ملكت بعده لفترة عشرين سنة، وقيل عشرين ومائة سنة، وقيل في اسمها أنَّها يلقمه أو بلقمه بنت اليشرح بن الحرث بن قيس بن صيفي ابن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، بل قيل كذلك أنَّ اسمها تلقمة، ويقال لها بلقيس، ويؤكّد على ذلك أنَّ خرائط العصور القديمة والعصور الوسطى، لـم تذكر اسم بلقيس صراحة عند الإشارة لمدينة سبأ، وإنَّما ذكرتها ملكة سبأ فقط.
وسجَّل القرآنُ الكريم رحلتَها مع قومها مِن الكفر والضلالِ إلى الإيمان والهدى، وورد ذِكرها في سورة النمل في قوله تعالى على لسان الهدهد: ﴿إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ﴾. وما يلاحظ الاختلاف الكبير عن خبر الكتاب المقدّس وعمّا جاء في القرآن عن سليمان(عليه السلام) وملكة سبأ، بل لعلّ الالتقاء بين الخبرين لا يمكن إِلَّا في ورود ملكة سبأ الغنيّة (وأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ) على ملك بني إسرائيل سليمان الحكيم(عليه السلام) (ولَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وسُلَيْمَانَ عِلْمًا؛ وأُوتِينَا العِلْمَ مِن قَبْلِهَا)، أمَّا فيما عدا ذلك، فأغراض النصّ القرآني لا علاقة لها مِن أيّ وجه بأغراض النصّ الكتابي، والأحداث التي يقصّها القرآن لا تشبه الأحداث الواردة في سفر الملوك لا مِن قريب ولا مِن بعيد، فملكة سبأ لا تأتي مِن تلقاء نفسها للاستفادة مِن حكمة سليمان (عليه السلام)، فليست القصّة القرآنيّة حتّى صدى للقصّة اليهوديّة أو إعادة تركيب لعناصرها، هي مِن كلّ النواحي قصّة أخرى، ورغم ذلك، فقد استعان العلماء المسلمون في تفسيرها بالتراث اليهودي الشفوي الذي نشأ على هامش الكتاب المقدّس.

ومِن خلال الاستعراض لمحتوى القصص القرآني الخاصّ بلقاء سليمان (عليه السلام) وملكة سبأ، يبدو جليًّا أنَّه عديم الصلة بخبر هذا اللقاء في العهد القديم، بل يندرج في سياق مختلف عن السياق الذي ورد فيه ذلك الخبر، ولكنَّه في الآن نفسه موازٍ له، فكلاهما يدور حول نفس الشخصيّتين، سليمان وملكة سبأ. تركّز الخبر الكتابي على حكمة سليمان (عليه السلام)، وتمحورت القصّة القرآنيّة حول قدرته، والذي خضع له الجنّ والإنس والطير، وينتهي اللقاء في الخبر باعتراف الملكة بإله سليمان، كما ينتهي في القصّة القرآنيّة بإسلامها (مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ)، إِلَّا أنَّ هذا الإسلام أتى بعد الدعوة التي أبلغها إياّها الهدهد (أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وأْتُونِي مُسْلِمِينَ) وبعد مماطلة (وإنِّي مُرْسِلَةٌ إلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ المُرْسَلُونَ) فتهديد (لَنَأْتِيَنَّهُم بِجُنُودٍ لاَّ قِبَلَ لَهَم بِهَا ولَنُخْرِجَنَّهُم مِنهَا أَذِلَّةً وهُمْ صَاغِرُونَ)، ونتيجة لاختبار أوّل حين نكر لها عرشها، ورغم ذلك (صَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ اللَّهِ)، ولاختبار ثان كان حاسمًا، وتمثّل في الصرح الذي حسبته لجّة، بينما هو (صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِن قَوَارِيرَ).

واستند رسّامو الخرائط إلى النصوص التوراتيّة التي تذكر رحلة ملكة سبأ لسليمان الحكيم (عليه السلام)، فأشير لملكة سبأ بصيغ أيقونيّة مشابهة لتلك المستخدمة في صور الملكات المعاصرة آنذاك -وقت رسم الخرائط- أو مِن الماضي القريب عن تلك الفترة، فأُرفقت صفات القوّة بإضافة الأشكال والأيقونات، والتي هي علامة فارقة في تصميم الموقع الجغرافي للأماكن والشخصيّات الممثّلة على الخريطة، فنلاحظ في بعض الحالات تبدو شخصيّات بعض الملوك والحكّام محميّة بالخيمة أو بإطار معماري يمثّل في الواقع مرحلة مِن مراحل القوّة، كما في خريطة العالم الدائريّة لعام 1450م
(شكل رقم [1]).


تلك السلطة والهيئة النابعة مِن الموقع الاستراتيجي المميّز لمملكة سبأ سمح لها بإثراء نفسها مِن خلال التجارة في منتجات مثل الذهب والأحجار الكريمة والبخور والتوابل عبر تجارة الصحراء خلال شبكة منظّمة مِن القوافل، وهو ما ورد ذكره في العديد مِن النصوص الآشوريّة واليونانيّة والرومانيّة، وكذلك العهد القديم، خاصّة زيارة ملكة سبأ إلى أورشليم لسليمان الحكيم (عليه السلام) ، وما سجّله النصّ التوراتي والنصّ القرآني، والذي عكس الكثافة التجاريّة لتلك المنطقة، وخلّد ذكرى الملكة، والتي أصبحت جزءًا مِن الأيقونات النسائيّة الملكيّة الأسطوريّة، والتي وجدناها في الأعمال الفنيّة المختلفة، فعاشت في ديار سبأ تلك الجنّة مِن الأرض التي وصفها سبحانه وتعالى بقوله : ﴿لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ﴾. ولبست بلقيس التاج، واعتلت على العرش، وقدّموا لها الولاء والطاعة، وأصبحت ملكة سبأ، وصاحبة الأمر والنهي...وأعطتهم بدورها العهود والمواثيق على أنْ تسير بهم بسيرة آبائها مِن ملوك حمير الصالحين.

وعن ظهور ملكة سبأ في الخرائط القديمة (شكل رقم [2]) بذلك الطابع الفريد، حيث جاءت دائمًا جالسة على العرش في وضع مهيب، يجاورها وعاء مِن الذهب، به بخور أو مرّ، ممسكة جسمًا كرويًّا، وهو رمزيّة لملكها وسلطانها، لذا أضحت -ملكة سبأ- بالنسبة لرسّامي الخرائط أيقونة رغبوا في تمثيلها وتجسيد تاريخها على خرائطهم، فربطوا شخصيّتها بشكل مباشر بالجزيرة العربيّة على الرغم مِن القرون التي مرّت على حكمها، إِلَّا أنها ظلّت في مخيّلتهم وأساطيرهم، فتمّ تصويرها بأسلوب أوروبا الغربيّة، وخاصّة فيما يتعلّق بثيابها، حيث نجد العديد مِن الملوك الأفارقة والآسيويّين يظهرون بالملابس التقليديّة، إِلَّا أنَّ ملكة سبأ تناسقت ثيابها مع عصر رسّامي الخرائط، والذي اختلف باختلاف زمن الخريطة مِن حيث الألوان والتصميم، طويلة الأكمام تغطي كامل الجسد، كما في الأطلس الكتالوني 1375م، فجاءت مرتدية رداء أزرق اللون بدرجة زاهية، يعلوها رداء آخر باللون الأزرق الداكن، بينما عند أنجلينو 1339م، فقد ارتدت رداءً أخضر طويلًا، تكرّر في خريطة العالم الدائريّة 1450م، وخريطة لوكساس1500م.
ومِن السمات الأخرى لملكة سبأ على خرائط العصور الوسطى، هو الصولجان والسيف (شكل رقم [3])، فصوّرت الملكة وفي يدها الصولجان، في دلالة على القوّة والعظمة، وهو ما ظهر على خريطة أنجلينو [أ] وخريطة بيزيجانو
[ب]، وفي خريطة ميسيا [ج]، بينما ظهرت واقفة بسيف مشهور -مسحوب- ما يعكس عظمة وقيمة الملكة،كما في خريطة لوكساس [د]، بينما ظهر السيف في غمده على ساق الملكة في خريطة عام 1440م [هـ]، بينما في الأطلس الكتالوني نراها تمسك بكرة الحياة في دلالة رمزيّة على عظمة سلطانها وقوّتها [و].

وجاءت ملكة سبأ في سبعة مشاهد جالسة بشكل مريح على وسادة أو كرسي العرش، ذلك العرش الذي حدّثنا عنه القرآن الكريم، وقدّم له وصفًا بأنَّه عظيم بقوله:(وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيم)، عظمة ذلك العرش تنبع مِن مكوّناته، فهو عبارة عن «سرير عظيم.. ووصفه بالعظيم؛ لأنّه كما قيل مِن ذهب، طوله ثمانون ذراعاً، وعرضه أربعون ذراعًا، وارتفاعه في السماء ثلاثون ذراعًا مكلّلًا بالدرّ والياقوت الأحمر والزبرجد الأخضر». وقدّم البعض تفسيرًا آخر بأنَّ له مقدّمة مِن ذهب مرصّعة بالياقوت الأحمر والزمرّد الأخضر، ومؤخّرة مِن الفضّة مكلّلة بألوان الجواهر، وذكروا في أمر عرشها ما يناسب كثرة جيشها. ولم يكتف المفسّرون والمؤرّخون بوصف عرشها المبالغ فيه، بل بالغوا في تعظيم ملكها، وفي كثرة جنودها، فقيل إذا جلست قام على رأسها مائة ألف قَيل، تحت كلّ قَيل مائة ألف مقاتل،كما يشير إلى أنَّها كانت مِن بيت مملكة، وكانوا أولي مشورتها؛ أي بمثابة مجلس الشورى، وعددهم ثلاثمائة واثنا عشر رجلًا، وهو ما أشار إليه القرآن الكريم في سورة النمل:﴿نَحْنُ أُوْلُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ﴾.

غير أنَّ خرائط العصور الوسطى مثّلت ذلك العرش بالخيمة الفخمة، يحوطها نوع مِن الهيبة، بإضافة بعض التفاصيل التي تضفي تلك العظمة للناظر إلى الخريطة، وهي سمة غالبة على معظم الملوك آنذاك في خرائطهم، بينما في خريطة لوكساس 1500م، نراها واقفة مشهرة سيفها دون الإشارة إلى عرشها.

ومِن السمات الأخرى لملكة سبأ في الخرائط، هو ذلك التاج (شكل رقم [4]) الذي ارتبط بشكل خاصّ بهيئة الملوك والأباطرة في فترة العصور الوسطى، ممّا صاحب وصولهم إلى العرش مراسم طويلة، وأحيانًا وراثيّة، لذا مثّل التاج شعارًا بارزًا للملوك، وهو ما انطبق على ملكة سبأ، فلبست التاج واعتلت على العرش، وقدّم لها الولاء والطاعة، فهي صاحبة الأمر والنهي، وإصدار العهود والمواثيق، فيقدّم الأطلس الكتالوني ملكة سبأ جالسة على عرشها ترتدي تاجها، وبيدها كرة ذهبيّة، وهي إشارة لعظم سلطانها وقوّتها، إضافة لوجود تعليق يبرز كثرة المنتجات والبضائع والسلع الصادرة والواردة لتلك المنطقة مِن بخور وذهب وفضّة وأحجار كريمة «سبأ العربيّة المقاطعة التابعة لملكة سبأ، الآن هي ملك العرب المسلمين، بها روائح طيّبة جدًّا بالإضافة إلى اللبان، وهي وفيرة الذهب والفضّة والأحجار الكريمة، هناك طائر يسمّى فينيكس». وتكمن أهميّتها في تحكّمها في حركة التجارة في جنوب الجزيرة العربيّة، ويبدو أنَّ تصميم ملكة سبأ أخذ مِن محكمة أوروبيّة غربيّة، حيث جاءت بعرش مبسّط وأكمام مدبّبة وطويلة ومفتوحة تعكس نمطًا نسائيًّا معيّنًا في العصور الوسطى؛ كونها ترتدي ملابس نسائيّة معاصرة لزمن الخرائط. بينما في خريطة فرا ماورو (1448-1449م)، جاء نصّ توضيحي يشير لأهميّة منطقة سبأ، يذكر أنَّ «العربيّة السبع أرقى الأماكن التي ينمو فيها المرّ والقرفة والبخور، ويوجد فيها الأحجار الكريمة والمعادن، يقال إنَّه مِن هنا جاءت أجمل ملكة لسبأ إلى القدس في زمِن سليمان». ولم يشر لها بأيّ صورة كباقي الخرائط سوى نصّ يذكر أنَّ «الملكة سبأ أتت مِن هذه الجزيرة العربيّة». بينما جاء في خريطة زيتز لعام 1470م
تمثيل لسبأ ونصّ توضيحي يشير إلى تلك المنطقة، فيذكر «العربيّة السعيدة فيها ثروات الذهب والفضّة وأشياء أخرى».
وبالعودة للتاج، فيظهر في خريطة أنجلينو [1] بالشكل الثلاثي في مقدّمة الرأس باللون الذهبي، ونراه يتكرّر في الخرائط اللاحقة كما في خريطة بيزيجانو 1367م [2]، وفي الأطلس الكتالوني 1375م [3]، وفي خريطة ميسيا 1413م [4]، وخريطة فالسيكا 1437م [5]، وخريطة العالم الدائريّة 1450م [6]، وأخيرًا في خريطة لوكساس 1500م [7]، بينما تظهر رأس الملكة، وشعرها نراه أصفر، كما في أنجلينو والأطلس، وكذلك عند فالسيكا، بينما في خريطة العالم الدائريّة نراه أحمر، وهو ما يعكس تأثّر رسّامي الخرائط آنذاك بالبيئة الأوروبيّة المحيطة بهم، وتأثيرها على خرائطهم.

خاتمة
إنَّ الهويّة الحضاريّة والدينيّة للمدن العربيّة في الخرائط القديمة تشكّلت مِن تاريخها المتعاقب وإرثها المتجدّد، رغم النظرة الأحاديّة مِن جانب رسّامي الخرائط في أوروبا المستمدّة مِن الروايات المغلوطة والأساطير الكاذبة في كثير مِن الأحيان.
شكّلت الأساطير نصًّا بارزًا ومهمًّا في الخرائط القديمة على نطاق واسع لشرح تفاصيل سطح الخريطة، وفي بعض الأحيان تمّ توسيعها لتشمل البيانات التاريخيّة وغيرها مِن النقاط المهمّة مِن خلال مجموعة كبيرة ومتنوّعة مِن الموضوعات.
أظهرت الخرائط القديمة تمثيلات مختلفة ومتباينة لمدن الجزيرة العربيّة، اختلفت مِن حيث الشكل والتمثيل والألوان والمسمّيات، وذلك يرجع لاختلاف مدارس تصميم ورسم الخرائط، فضلًا عن المصادر ممّن نقلوا عنها أخبارهم ومعلوماتهم وبياناتهم.
اتّسمت المدن العربيّة بالتمثيل الأيقوني للمدينة العربيّة، وتُظهر في كثير مِن الأوقات سعي رسّامي الخرائط الغربيّين في أواخر العصور الوسطى لتجسيد الجغرافيا، وخاصّة الدينيّة، على تمثيلاتهم للعالم بصفة عامّة، وللعالم الإسلامي بصفة خاصّة، لتمييز المناطق الواقعة تحت الحكم المسيحي في بقيّة المواضع.
استند رسّامو الخرائط على النصوص التوراتيّة في تناول بعض الأحداث، ومِنها تاريخ ملكة سبأ، فتمّ تمثيل هيئتها بتطبيق صيغ أيقونيّة مشابهة لتلك المستخدمة في صور الملكات المعاصرة آنذاك -وقت رسم الخرائط- أو مِن الماضي القريب عن تلك الفترة.

لائحة المصادر والمراجع
أوّلًا- المراجع العربيّة
القرآن الكريم.
إسماعيل مظهر: المرأة في عصر الديمقراطيّة، مؤسّسة هنداوي للنشر والترجمة، 2012م.
أو. إيه كراسنيكوفا: شبه الجزيرة العربيّة في الخرائط المحفوظة بالأكاديميّة الروسيّة، مجلّة الوثيقة، مركز عيسى الثقافي - مركز الوثائق التاريخيّة، مج 22، ع (44)، 2003م.
عبد الحسين الشبستري: إرشاد الأذهان إلى أعلام القرآن، دار التعارف للمطبوعات، ج1.
عبد العزيز صالح: تاريخ شبه الجزيرة العربيّة في عصورها القديمة، مكتبة الأنجلو المصريّة، (د.ت).
عبدالواحد المختار المكني: تمثيل الفرنسيّين لمنطقة الخليج العربي في القرن السابع عشر الميلادي مِن خلال الخرائط التاريخيّة، مجلّة الدارة، دارة الملك عبدالعزيز، مج 44، ع(3)، 2018م.
كرم البستاني: أساطير شرقيّة، دار القلم للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان،2020م.
محمّد بيّومي مهران: دراسات في تاريخ العرب القديم، دار المعرفة الجامعيّة، (د.ت).
محمّد عبد الله بن هاوي باوزير: العربيّة السعيدة وفلسطين – حوالي القرن العاشر قبل الميلاد معطيات حول التواصل الحضاري بين مملكة سبأ والقدس (أورشليم العصور القديمة) (رؤية حضاريّة في ضوء الكتب السماويّة والتاريخ)، دراسات في آثار الوطن العربي، المجلّد 12، ع12، 2009م.
محمّد عبد الله بن هاوي باوزير: العربيّة السعيدة وفلسطين – حوالي القرن العاشر قبل الميلاد معطيات حول التواصل الحضاري بين مملكة سبأ والقدس، أورشليم العصور القديمة رؤية حضاريّة في ضوء الكتب السماويّة والتاريخ، دراسات في آثار الوطن العربي، المجلّد 12، ع(12)، 2009م.
محمّد همّام فكري: بطليموس وخريطة الجزيرة العربيّة، مجلّة القافلة، عدد يونيو-يوليو 1999م.
هتون بنت أجواد الفاسي: الجزيرة العربيّة بين استرابو وبليني قراءة في المصادر الكلاسيكيّة، مجلّة الخليج للتاريخ والآثار تصدر عن جمعيّة التاريخ والآثار بدول مجلس التعاون لدول الخليج العربيّة، ع (8)، إبريل 2013م.

ثانيًا- المراجع الأجنبيّة
Heinrich Winter: A Circular Map in a Ptolemaic MS, Imago Mundi, 1953, Vol. 10 (1953).
JosepLluís Cebrián i Molina: La reina de Sabàielpreste Joan en les cartesportolanes medieval, Cuadernos de geografía, ISSN 0210-086X, Nº 86, 2009.
M. Jomard: Les Monuments de la GéographieouRecueil d ‘AnciennesCartesEuropéennes et Orientales, París, M. Duprat, 1862.

ثالثًا: المواقع والعناوين الإلكترونيّة للخرائط المعتمدة عليها الدراسة

مكتبة جامعة ييل الأمريكيّة على الرابط الآتي:
https://brbldl.library.yale.edu/vufind/Record/352121

موقع مكتبة الكونجرس الأمريكي على الرابط الآتي:
https://tile.loc.gov/imageservices/iiif/service:gmd:gmd3:g3200:g3200:ct002087/full/pct:25/0/default.jpg

موقع المكتبة الوطنيّة الفرنسيّة بأكثر مِن صيغة:
https://gallica.bnf.fr/services/engine/search/sru?operation=searchRetrieve&version=1.2&query=%28dc.title%20all%20%22Atlas%20catalan%22%29&keywords=Atlas%20catalan&suggest=1

مكتبة الكونجرس الأمريكي على الرابط الآتي:
https://www.loc.gov/item/2020587733/

موقع المكتبة الوطنيّة الفرنسيّة على الرابط الآتي:
https://gallica.bnf.fr/ark:/12148/btv1b55007074s/f1.item.r=Mecia%20de%20Viladestes

موقع مكتبة ناسيونالي مارسيانا، ومتاحة على الموقع الآتي نقلًا عن المكتبة:
https://engineeringhistoricalmemory.com/FraMauro.php?vis=sat&hid=590&cid=&dis=2


-----------------------
[1][*]- مدير مركز كِمِت لبحوث ودراسات التراث والفنون – مصر.