البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

إعادة بناء أفق توقّعات المستشرقين عند التلقّي الجمالي للقرآن الكريم أنجيليكا نويفرت أنموذجًا

الباحث :  زهراء دلاور ابربكوه | كبرا روشنفكر
اسم المجلة :  دراسات استشراقية
العدد :  34
السنة :  ربيع 2023م / 1444هـ
تاريخ إضافة البحث :  May / 21 / 2023
عدد زيارات البحث :  493
تحميل  ( 709.858 KB )
الملخّص
إنّ تلقّي القرآن مِن المنظور الجمالي والأدبي، له جذور عميقة في التراث، وعند أبناء اللغة العربيّة. وعند كثير مِن العلماء المسلمين. إنَّ الجانب الجمالي والبياني للقرآن الكريم هو أعظم معجزة النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)، بل مِن جملة البراهين التي تدلّ على صدقه وسماويّة وحيه. وبما أنّ بواعث التأثير الجمالي مختلفة، ومعايير الإنتاج والتقييم الجمالي للنصوص الأدبيّة متغيّرة من مجتمع إلى آخر، ولكلّ مجتمع جماليّته الخاصّة وطريقته المختلفة في تذوّق الجمال، نقوم في هذه الدراسة بإعادة بناء أفق توقّعات أنجليكا نويورث باعتبارها المتلقّية للقرآن الكريم، التي يختلف فهمها عن الأدب والجمال عن فهم المتلقّين العرب، وتشکّل ردود أفعالها تلقیًّا مهمًّا، بوصفه التلقّي الذي دار حول القرآن في غیر مناخ اللغة العربیّة، وفي السیاق الثقافي المختلف.

إنَّ هذا البحث يمكّن مِن فهم كيفيّة تأثير القرآن في بيئة لغويّة أجنبيّة وعند جمهور معيّن، ونوعيّة تأثيره، ويطمح إلى معرفة العوائق التي تمنع المستشرقين مِن إدراك جماليّة القرآن. ولذلك نعتمد على المنهج الوصفي التحليلي بالاستعانة بمعطيات نظريّة جماليّة التلقّي لـ«هانز روبرت ياوس». ويبدو أنَّ قيمة القرآن الجماليّة عند نويورث تابعة للوظائف العمليّة التي تبحث عنها في دراساتها الأدبيّة والبنيويّة للقرآن الكريم.

الكلمات المفتاحيّة: القرآن الكريم، التلقّي الجمالي، أفق التوقّعات، أنجليكا نويورث.

المقدّمة
لقد اجتهد العلماء المسلمون منذ العصور الأولى لنزول القرآن اجتهادًا عظيمًا لكي يوضّحوا وجوه إعجاز القرآن. وقد ارتكزوا على الجانب الأدبي والبياني لتوضيح كيف أنَّ القرآن لا يمكن أنْ يؤلّفه بشر، وكيف أنَّه بالنظر إلى كماله اللغوي والأسلوبي نصّ سماوي. فللقرآن عندهم قيمة جماليّة إيجابيّة، بينما لا تُلاحَظ هذه القيمة الجماليّة في دراسات المسشترقين؛ لأنّ الدراسات الإسلاميّة في الغرب «قد تجاهلت نظرة المسلمين الجماليّة للقرآن، ورفضت أسطورة تفوّقه الأسلوبي باعتبارها هزليّة مضحكة» كما يرّوجون[2]. ويبدو أنّ هذا الاختلاف في تقييم النصّ الواحد، يرجع أساسًا إلى آفاق التلقّي وإلى المعايير السائدة في اللحظة التاريخيّة للتلقّي ومكانه الخاصّ، فكل جيل يتلقّى النصّ في أفق خاصّ، وطبقًا لمقاصده وظروفه، إلّا أنَّ هذه الآفاق ليست بثابتة بل تتغيّر. وتغيّر أفق التلقّي، يؤدّي إلى تغيير المعايير الأدبيّة والجماليّة ومقاييس تقييم العمل، وبالتالي إلى تغيير وتعديل القيمة الجماليّة التي أصدرها المتلقّون لعمل ما. فإنَّ التغيّرات المستمرّة في نظام القيم الجماليّة تتضمّن تغيّرات في تقييم النصوص الأدبيّة المختلفة، وما تكون له قيمة سلبيّة في فترة معيّنة، يُعتبر في فترة أخرى رفيعًا ويكتسب قيمة إيجابيّة. بهذا التصوّر المحدّد، سنتطرّق في هذه الدراسة إلى قضيّة تلقّي القرآن الكريم عند أنجليكا نويورث (1943-) بوصفه التلقّي الذي دار حول القرآن في غیر مناخ اللغة العربیّة، وفي السیاق الثقافي المختلف عن سياق الدراسات الغربيّة السابقة. فيجب تحليل ردود أفعالها وتلقّياتها عن القرآن الكريم؛ لنعرف العوامل المؤثّرة في استقبالها، وبالتالي لنكشف كيف تنظر إلى القرآن، وكيف ينبغي أنْ تنظر.

إنّ نويورث كانت تعمل أستاذة زائرة في بعض الجامعات العربيّة، وحضورها هذا في البلدان الإسلاميّة ومعرفتها بحياة المسلمين والتقاليد الإسلاميّة، يعتبر مِن أهمّ عوامل التركيز عليها في هذا البحث. فلها معرفة تامّة بأهميّة القرآن في حياة المسلمين. إضافة إلى ذلك، إنها مِن خلال مشروع كوربوس كورانيوم، كانت تعمل مع الطلاب المسلمين مِن البلدان المختلفة، وقد اكتسبت عن هذا الطريق، معلومات دقيقة عن الفكر الإسلامي عند المثقّفين المسلمين، وفي دراساتها تحاول أنْ تحترم المسلمين وكتابهم المقدّس. وفي هذا السياق، يمكن القول إنَّ تمايزها الرئيس عن المستشرقين السابقين، يقع في إظهار الربط بين إعجاز القرآن والبلاغة والبيان؛ فهي في مقالتها «الوجهان للقرآن: القرآن والمصحف» (2010)، تبدأ حديثها بقول الجاحظ الشهير في تناسب معجزات الأنبياء بميّزات أقوامهم وفنونهم التي برعوا فيها، وتعتقد أنَّ ربط النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) والقرآن بالبلاغة والبيان، هو بالتأكيد ذات صلة وفي محلّه؛ إذ إنَّ مهمّة النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) هي البلاغ، وإنَّ ارتباط القرآن بالبلاغة بشكل وثيق يدل ّعلى أنّه يخاطب قومًا برعوا في اللغة، وتقول إنَّ «القرآن نزل في عصر لم تكن الأفعال الخارقة للعادة فيها مثيرة للدهشة، ولكن في عصر كان ينجح الخطيب في تحدّي الآخرين ويُعجزهم، وهو ما اصطلح عليه فيما بعد بـ«الإعجاز»، ويُقصد به إعجاز الآخر مِن الناحية البلاغيّة. لم يكن ذلك العصر عصر السحر ولا العلم، بل عصر التأويل. وبناء على ذلك، قدّم القرآن نفسه كوثيقة بلاغيّة»[3].

وفي الإطار نفسه، تنقد نويورث تجاهل الغربيّين منزلة البيان في القرآن الكريم، وتتحدث عن القراءة الغربيّة التقليديّة للقرآن، التي تعتبر القرآن «الشكل المصغَّر» للكتاب المقدّس، وبالتالي «أحفورة أدبيّة»[4]. وترى ذلك عائقًا في سبيل إدراك القرآن الجمالي، وتعتقد أنّه يجب التخلّص مِن هذا العائق «إذا أراد المرء أنْ يدرك ويفهم قوّة التأثير الجمالي للقرآن الذي لا يمكن إنكاره، والذي كان ولم يزل ذات القوّة البالغة طوال القرون»[5]. وعلى ضوء هذا، هي تدعو إلى قراءة جديدة للقرآن بالكشف عن التركيب التاريخي للنصّ، وكذلك معرفة التركيب البلاغي لبنية القرآن بوصفها جزءًا أساسيًّا للرسالة الدينيّة[6]. وتؤكِّد على أنَّ التحليل الأدبي للقرآن يكون الطريق الأفضل لدراسته، وأنَّ الدراسات التاريخيّة واللغويّة بمفردها التي تبدأ مِن خارج النصّ، وبالتالي تؤدّي إلى تفسيرات غير دقيقة، لا تصلح لدراسة القرآن، وترى أنَّ مفتاح فهم القرآن، لا يمكن الحصول عليها بإسناد التاريخ الحقيقي إلى ما بعده، أو إعادة كتابته وفق النماذج المسيحيّة، كما يطالب به اللسانيّون أو المؤرّخون بالتكرار، بل عبر تحليله الأدبي وحده[7].

وعلى هذا الأساس، يتصدّى هذا البحث لاستنطاق ردود فعل نويورث لنصّ بلغ درجة الإعجاز عند العرب والمسلمين، ويحاول الإجابة عن هذين السؤالين:

ما مدى قيمة القرآن الجماليّة عند أنجليكا نويورث؟
وما التوقّعات التي أثّرت على تقييمها الجمالي للقرآن الكريم؟

ومِن أجل الإجابة عن تلك الأسئلة، نعتمد على نظريّة جماليّة التلقّي لـ«هانز روبرت ياوس» (1921-1997) منهجًا للبحث، واختيار هذه النظريّة يرجع إلى انطلاق هذه النظريّة مِن إشكاليّة متعلّقة بالعمل الأدبي، وموقف المتلقّي مِن العمل، وصلته به، والمبادئ التي تنظّم هذه الصلة، وبعدها الجمالي الذي يقتضي أنْ نتبع تأثير القرآن الجمالي على المتلقّين بدراسة ردود الأفعال الصادرة عنهم. وبناء على هذا، نسعى إلى تحليل القيمة الجماليّة للقرآن الكريم عند نويورث بتحديد نوعيّة آثاره عليها، التي يمكن استنباطها مِن ردود أفعالها مِن خلال دراساتها القرآنيّة، ثمّ نقوم بإعادة تشكيل أفق توقعاتها، انطلاقًا مِن ثلاثة عناصر في كل نصّ، كما يقول ياوس «هي معايير جماليّة علنيّة أي «شعريّة» جنسه الخاصّة، ثمّ العلائق الضمنيّة التي تربط هذا النصّ بنصوص أخرى معروفة تندرج في سياقه التاريخي، وأخيرًا التعارض بين الخيال والواقع، بين الوظيفة الشعريّة للّغة ووظيفتها العمليّة»[8]. وفيما يتعلّق بالعنصر الثاني، فإنَّ لقضيّة التناص بين القرآن والنصوص الدينيّة الموجودة آنذاك، أهميّة خاصّة في دراسات نويورث. فالدراسة التناصيّة التي تدرس العلاقات بين النصّ القرآني والكتب الدينيّة السابقة، تتّضح مِن خلال كثير مِن مؤلّفاتها. وقد تمّت معالجة دراسات نويورث مِن هذا المنظور مِن جانب سائر الباحثين، إلّا أنّنا سنتعرّض إليها مِن خلال العنصر الأوّل، ونتطرّق إلى الموضوع مِن منظور قضيّة التواصل ونقد استجابة القارئ.

ترى إيمانوئيلا ستيفاندز[9] في مقالتها (2008) أنّ نويورث تحتفي بإرث نولدكه، إلّا أنَّ دعوة نويورث لتبنّي قراءة ديناميكيّة للقرآن عبر عمليّة التواصل التاريخي المستمر، تمثّل تحوّلًا ملحوظًا. وترى أنّ نويورث تأثّرت بنولدكه في تعامله مع السورة كوحدة وتقسيمه الثلاثي للفترة المكّيّة، حسب زعم نويورث نفسها. تذهب ريشل فريدمان[10] في مقالتها (2012) إلى أنّه يمكن اعتبار رؤية نويورث في ترتيب زمني للقرآن كامتداد لنولدكه، حيث يرى كلّ منهما أنّ الأسلوب القرآني يتطوّر تدريجيًّا، بينما لا تعتقد نويورث بالتراجع الأسلوبي للقرآن على عكس نولدكه. وترى الباحثة أنّ الغياب للخطوط الفاصلة الواضحة بين المراحل الزمنيّة، يجعل نظريّة نويورث غامضة ومعقّدة. يتطرّق أندرو ريبين في مقالته (2013) إلى المقارَبات الحديثة لدراسة القرآن، ويرى أنّ اتجاه نويورث التي تعتقد بترابط السور وتجمعها تحت بيّنة كامنة فيها، هو أشهر اليوم مِن سائر المقاربات. ويرى أنّ هذه الملاحظات حول وحدة المقاطع الطويلة التي أبدتها نويورث وسائر الباحثين، ليست مقنعة دائمًا، وفي كثير مِن الأحيان تلك البنى التي تمّ اقتراحها تختلف عند القارئ الآخر للنصّ نفسه. يذهب عامر عبد زيد الوائلي في مقالته (2019) إلى أنّ نويورث لا تعترف بالمصدر الإلهي للقرآن، وتبني نظريّتها التأويليّة على بشريّة القرآن. وأمّا بالنسبة إلى الدراسات داخل إيران، فقد تستنتج الكاتبة فاطمة سروي في رسالتها (1395-2017)، أنَّ فهم المستشرقين لقضيّة التناص هو أشبه إلى اتجاه التأثير والتأثّر لـ«هارولد بلوم»، ولا يرتبط بآراء «جوليا كريستوفا». ويرى سيّد علي زاده موسوي في رسالته (1397-2019) أنّ معظم آراء نويورث تشير إلى انعكاس روايات الكتاب المقدّس في القرآن، وقلّما يتّخذ صبغة التأثّر والاقتباس. كما يُلاحَظ أنّ الدراسات التي تمّت كتابتها حول نويورث، تدور عادة حول آرائها في التناص القرآني ومنهجها البنيويّ وتأثّرها بنولدكه، ولم نجد دراسة أو كتابًا أو مقالة تطرّقت إلى تلقّيها الجمالي، وآفاق توقّعاتها للنصّ القرآني.

ردود فعل أنجليكا نويورث تجاه القرآن الكريم
على ضوء ما تقدّم مِن رأي نويورث في علاقة إعجاز القرآن بالبيان والبلاغة، يبدو أنّها عارفة بمنزلة البلاغة في القرآن، وبالتالي التأثير الجمالي لهذا النصّ، وتنظر إلى القرآن كنصّ أدبي جميل. وقد أعلنت ذلك في لقائها في طهران، حين أعربت عن رغبتها في قراءة القرآن كنصّ عظيم، وقالت: «إنَّ ديوان حافظ وأشعار مولوي رومي أيضًا جميلة للغاية، إلّا أنّ للقرآن جاذبيّة خاصّة، وإنّ ترتيل القرآن وتجويده أيضًا يتمتّعان بالجاذبيّة عندي، ومع ذلك، إنَّ جميع النصوص المقدّسة تجذبني، وترجيح بعضها على البعض أمر صعب»[11]. إنَّ إشارة نويورث إلى الترتيل والتجويد إشارة مهمّة، فيمكن القول إنَّ لصوت القرآن وموسيقاه وسماعه وكلّ ما يتعلّق بذلك، موقع مهمّ في دراسات نويورث. ولعلّ ذلك يعود إلى نظريّتها حول ثنائيّة القرآن الشفويّة والمكتوبة. وفي السياق نفسه[12]. فيتّضح أنّها تستحسن القرآن بشكل عامّ، وتستخدم الألفاظ الدالّة على الجمال في هذا السياق، وخاصّة نشعر بهذا الاستحسان عندما تتحدّث عن جمال الصوت والموسيقا في القرآن.

وفيما يتعلّق بالخيبة وعدم الرضا، يمكن القول إنّ نويورث تقرأ بشكل سلبي قضيّة كيفيّة ترتيب السور في القرآن، حيث تتناول هذا الموضوع في إحدى مقالتها، وترى أنّ الترتيب الحالي لسور القرآن، لا يتبع أيّ سبب منطقي كرونولوجي أو لاهوتي، إذ «حصلت مجموعة مِن النصوص غير المرتبطة والمتنوّعة للغاية مِن حيث البناء، والتي لا يمكن وضعها في نوع أدبي خاصّ»[13]. فالنتيجة، في رأيها، تبدو سلبيّة، وتدلّ على التسرّع وعدم الدقّة في جمع المصحف. وهي تؤكّد الفكرة نفسها في كتابها عندما تتحدّث عن القرآن الحالي الذي يشتمل على 114 سورة، وترى أنّ هذا الترتيب للسور لا يتبع أيّ نظام تاريخي أو سردي، ولا ينعكس أيّ مفهوم عِقَديّ، بل يبدو أنّ ترتيبها تمّ على أساس ميكانيكي ملحوظ، وهو طول السورة[14]. والمشكلة الكبرى لهذا الترتيب -في رأي نويورث- هي محو مناخ النزول الذي كان يحتوي على السياق الطقسي والسياق التواصلي، وكذلك تدوين السور المدنيّة الطويلة ذات الأبنية المعقّدة التي تشتمل على المضامين المتعدّدة بجانب تلك السور القصيرة أو المتوسّطة التي تمّ تركبيها بالمهارة والأناقة، وذلك أدّى إلى تشكيل مجموعة غير متجانسة مِن النصوص.

ونلاحظ أنَّ السور المدنيّة قد خيّبت نويورث، فالمشكلة الكبرى تتعلّق بوحدة السورة؛ إذ كانت سورًا تحتوي مقاطع، و«هذه المقاطع لم تشكّل بنية أدبيّة متماسكة، وبالتالي نقضت دعوى الانسجام في سائر السور التي تمّ تركيبها بالدقّة»[15]. وهي ترى أنَّ تلك السور المنسجمة، التي تمثّل وحدة أدبيّة تامّة وتنقل رسالة خاصّة، وكانت تعكس مشروعها التواصلي، أصبحت مِن حيث القيمة متساوية مع سائر السور. وترى في موضع آخر أنّ النظام المدني لا يشير إلى أيّ تكوين منسَّق، ولا يشارك في الوحدات المكوّنة بالدقّة، ويبدو أنّه فيما بعد أُدخل في النصوص[16]. وقد أعربت نويورث عن خيبتها بالنسبة إلى هذه السور، وتعتقد أنَّ نظامها التركيبي يعرض أناقة أقلّ، حيث لا ينتهي بتركيب منسَّق بالدقّة والظرافة، ويبدو أنّه نتيجة عمليّة التدوين. فنستطيع القول بأنَّ نويورث قد أعجبت بالسور المكّيّة، باعتبارها وحدة منسجمة، بينما خيّبتها السور المدنيّة بافتقارها للانسجام. ولتحليل هذا الظن، والكشف عن العوامل المؤثّرة على تلقّي نويورث للقرآن الكريم، فمِن الضروري إعادة بناء أفق توقّعاتها.

إعادة بناء أفق توقعات نويورث؛ شعريّة القرآن والنوع الأدبي
إنّ العمل الأدبي عند نظريّة جماليّة التلقّي، حتّى في لحظة صدوره، ليس ذا جدّة مطلقة، حيث إنّه بالنظر إلى شكله الفني، يخلق عند القارئ منذ البداية توقّعًا ما، وهذا التوقّع يمكن، كلّما تقدّمت القراءة، أنْ يمتدّ أو يُعدَّل بحسب «قواعد عملٍ كرّستها شعريّة الأجناس والأساليب، الصريحة أو الضمنيّة»[17]. فإنَّ خصائص العمل الفنيّة عند القراءة، لها أثرها في نوع توقّع القارئ. فبالنظر إلى هذه الخصائص، ينظر القارئ إلى النصّ بوصفه شعرًا أو نثرًا، وبناء على ذلك، يقارن العمل بالمعايير المترسّخة في ذهنه عن كلٍّ مِن النظم أو النثر. وفي هذا الإطار، يمكن القول إنَّ الفاصلة القرآنيّة ذات أهميّة بالغة في منهج نويورث، حيث ترى أنَّ «البنية الشعريّة في القرآن تتجلّى بالفواصل في نهاية الآيات»[18]. وفي رأيها، دراسة هذه الفواصل شرط ضروري ومسبق لتحليل كيفيّة تركيب السور، وتعتقد أنَّ التغيّرات التي حلَّت بالقوافي، كانت وظيفيّة مِن الناحية الأدبيّة. بعبارة أخرى، لا تكون تغيّرات الفاصلة عشوائيّة، بل نتاج لقصد أدبي. وفي السياق نفسه، تذهب نويورث إلى أنَّ «الدراسة الموجزة لهذه الفواصل، تسمح بنا بأنْ نفكّك توالي الفواصل، وأنْ نفحص علاقة هذه الفواصل بالتماسك المعنوي لمجموعة مِن الآيات»[19].

إنَّ إشارة نويورث إلى دور الفاصلة في الحصول على التماسك المعنوي، إشارة مهمّة جدًّا. وتدل على أنّها تنظر إلى الفاصلة كشيفرة في النصّ، إذ جاءت بهذا الشكل لتحقّق دورًا في انسجام النصّ، وعلى القارئ أنْ يكشف الشيفرة ودورها. وذلك لأنّ نويورث في دراستها للقرآن، كما صرّح بذلك ديفن استوارت[20] (1962-)، تعتمد على السورة كوحدة أساسيّة أكثر مِن الجملة أو الآية أو المقطع. وترى أنّ القصد كان مِن البداية أنْ تكون السورة وحدة للإبلاغ والتلقّي، فلا ينبغي الاستشهاد بالآية مِن دون النظر إلى سياقها الذي يحيط بها. وفي رأيها، التركيز على السورة ككلّ، أكثر مِن التركيز على وحدات أقصر منتزعة مِن السياق العام للنصّ، هو شرط أساسي لدراسة القرآن دراسة أدبيّة جادّة[21].
وقد أكّدت نويورث في دراساتها على تلقّي السور القرآنيّة كالوحدة الأدبيّة، وتعتقد أنَّها على الرغم مِن التطوّرات التي أصابت السور، يجب النظر إلى السور كالوحدات الأدبيّة المقصودة، وتقول إنَّ «السور المكّيّة في تركيبها النهائي، تكوّن الوحدة الهادفة التي تنعكس تطوّرًا طبيعيًّا ولا تركيبًا عشوائيًّا مِن العناصر المختلفة»[22]. وترى أنّ تلقّي السور كالوحدة الهادفة التي تتبع النماذج التركيبيّة المتنوعة، أمر مهمّ لفهم كيفيّة تطوّر الأبنية. وبالتأكيد فكرة تناول السورة كوحدة متكاملة ليست جديدة تمامًا، حيث يرى «مستنصر مير»[23] (1949) أنَّ أهمّ تمايز القرن العشرين في الدراسات التفسيريّة للقرآن، يكمن في اعتبار السورة كوحدة، ويذكر الباحثين البارزين في هذا المجال، ويحلّل ظاهرة الاهتمام بوحدة السور عند هؤلاء، ويذهب إلى أنّ الفكرة قد ظهرت كردّة فعل على اتهامات غربيّة قديمة حول الطابع غير المترابط للنصّ القرآني. وقد كان الهدف مِن كلّ هذه الجهود، هو رفض ما يُفهَم مِن مزاعم المستشرقين، في أنَّ القرآن تكوّن مِن النصوص ذات فاصلة متكلّفة، تمّ تركيبها بدون أيِّ تصوّر كلّي، وجمعت تلك النصوص، على مدى فترة زمنيّة طويلة، مِن قبل أشخاص قاموا بتحريرها[24].

وفي هذا المجال، جدير بالملاحظة أنَّ دراسة السورة كوحدة عند نويورث، مردّها إلى النظريّات الحديثة. وقد أشار إلى ذلك أندرو ريبين (1950-2016) في إحدى مقالاته، ويرى أنَّ هذه الفكرة تنشأ مِن النظريّات المعاصرة؛ كالبنيويّة التي تتناول وحدة البنية الأدبيّة في النصّ، ويشير إلى استخدام هذا النهج مِن جانب نويورث، ويرى أنّ السور في هذا المنهج «تربطها وتجمعها بنية كامنة فيها، تتّخذ تلك البُنى الكامنة عديدًا مِن الصيغ، ومنها الصيغ الوعظيّة والطقوسيّة، كما تمّ الحديث عنها خصوصًا في أعمال أنجليكا نويورث»[25].
إنّ هذه النظريّات المتأثّرة بالمنهج البنيويّ، تسعى إلى تفسير المنطق الداخلي للمعنى القرآني بالاستفادة مِن مجموعة مِن المبادئ اللغويّة والأدبيّة، وتحاول سبر معاني التراكيب البنيويّة المعقّدة في القرآن، كما ترى ريشل فريدمان (1981-)، بـتقسيم الوحدات الأكبر؛ كالسورة أو مقاطع السورة بالوحدات الأصغر التي تمّ تحديدها بشكل جيّد، سعيًا إلى ارتباط الأجزاء بالكلّ[26]. فبمجرّد تقسيم النصّ إلى أجزائه البنيويّة، يستطيع المرء الاقتراب مِن جماله المطلق كميًّا وعلى أساس علمي. وبناء على ذلك، تحلّل نويورث بنية السورة بوصفها وحدة، وتستخدم ذلك المنهج لتربط كلّ سورة بفترة مِن تاريخ النزول. وهي تحدّد أربع فترات لذلك، هي المكّيّة الأولى والوسطى والمتأخّرة، والمدنيّة. وتربط نويورث العناصر الأسلوبيّة لكلّ سورة بالتطوّر التاريخي، وترى أنّ ثمّة اختلافًا مهمًّا بين تلك الفترات مِن حيث الأسلوب.

وفي هذا السياق، يمكن القول إنَّ فكرة التعامل مع السورة كوحدة أدبيّة، وبالتالي التوقّعات الناشئة مِن هذه الفكرة، لم تطرحها نويورث لأوّل مرة، وإنَّها كانت بارزة عند ثيودور نولدكه (1836-1930)، وكذلك قد جرى رصدها وملاحظتها ضمن النهج التفسيري للمسلمين. إلّا أنَّ هناك فرقًا بين هؤلاء ونويورث؛ إذ إنَّ فكرة الوحدة والانسجام عند نويورث تتحقّق عبر الفجوات في النصّ، وذلك بمشاركة قويّة مِن جانب القارئ. فالشعور بالوحدة يكمن في ذهن القارئ، ويتطلّب منه أنْ يكون واعيًا مِن قبل، ليقرأ النصّ بوصفه وحدة كاملة.

وعلى ذلك، نجد عند نويورث التأثّر بنظريّة استجابة القارئ، وقد تأكّدت هي على استخدامها هذه النظريّة في دراستها للقرآن، وترى أنَّ دراسة القرآن مِن منظور استجابة القارئ، هي مِن اقتراحات ريبين المغرية، وأنَّها تستخدمها مدخلة إليها بعض التعديلات، وتقول إنّنا لا نريد أنْ «نُعيد صياغة استجابة القارئ ما بعد القرآنيّة عن طريق الأدب التفسيري. بل على الأرجح، الشيء الذي يجب علينا أنْ نقوم بتحليله في السور المفردة، هو عمليّة التواصل القرآني التي تجري بين المتكلم والمستمع. استجابة القارئ، عندئذ، تتبدّل إلى استجابة المستمع»[27]. ونعرف أنَّ قضيّة التواصل بين النصّ والقارئ، وكذلك مفهوم الفجوات، هما مِن المصطلحات الرئيسة عند نظريّة استجابة القارئ،كما نلاحظ عند المنظّر الألماني ولفغانغ أيزر[28] (1926-2007). ويبدو أنّ نويورث تأثّرت بهذه المفاهيم في دراستها الأدبيّة للقرآن الكريم.

ولتوضيح القضيّة فيما يأتي مِن الدراسة، سيكون الاهتمام منصبًّا على القضيّتين المهمّتين: أوّلًا، مسألة الفجوات في النصّ بوصفها أهمّ ميزة لشعريّة النص، ودور القارئ في تحقّق وحدة السورة. وثانيًا: قضيّة التواصل القرآني بين المتكلّم والمستمع التي أشارت إليها نويورث.

الفجوات والقارئ
نجد عند نويورث اهتمامًا بالغًا بالفجوات في القرآن، إنْ صحّ استخدام هذا المصطلح بالنسبة إلى القرآن الكريم. وفي هذا الشأن، هي تتناول السورة كوحدة أدبيّة متكاملة، وتبحث عن علاقة الأجزاء بالوحدة، وتحاول ربط بعضها ببعض. ولتوضيح رؤية نويورث بهذا الخصوص، نتناول إحدى مقالاتها التي أعادت نشرها في كتابها أيضًا. إنَّ نويورث في هذه المقالة تتطرّق إلى مقدّمة السور القرآنيّة التي تحتفل بالأقسام[29]، وترى أنَّ «الأهمّية الخاصّة للأجزاء التمهيديّة للسور القرآنيّة في علاقتها بالصيغة الكليّة، حتّى الآن، لم تُدرس بشكل منهجي»[30]. نستنبط مِن هذه العبارة ترسّخ فكرة «الصيغة الكلية الكامنة» في النصّ وعلاقة الأجزاء بتلك الصيغة في وعيها.

إنّ نويورث في دراستها ترتكز على قِسم خاصّ مِن الأقسام القرآنيّة. هي لا تفحص الأقسام المستخدمة في السياق التشريعي، بل تتطرّق إلى تلك الأقسام الأدبيّة التي تميّزت بالخصائص الفنيّة، حيث تحتوي على عدد مِن التعقيدات والغموض؛ إذ لا تشير بمصاديقها بشكل صريح، وفي الوقت نفسه، تستخدم اللغة الاستعاريّة. إلّا أنَّ الإبهام الخاصّ في هذه الأقسام وما يميّزها، ليس بسبب الغموض النحوي واللفظي، إنَّما بسبب إبهام أساسي أكبر؛ ذلك لأنَّ البعد التصويري الخاصّ لهذه الأقسام بوضوح، لا ينسجم مع الصيغة الكليّة للسور؛ باعتبارها شهادات عن الخطاب الديني[31]. فيبدو أنَّ هذه الأقسام، في رأي نويورث، لها الصبغة الأرضيّة، وإنَّ استخدامها لإثبات الخطاب الديني يشكّل فجوة، فيجب الكشف عن ارتباط هذه الأقسام بصيغة كليّة للسورة.
إنّ الطريقة التي تستخدم نويورث لدراسة ارتباط هذه الأقسام بوصفها إحدى أجزاء النصّ، بتلك الصيغة الكلّيّة، تدلّ على اعتمادها على نقد استجابة القارئ لدراسة السور؛ إذ تعرض إلى وصف تصويري للسورة، ثمّ تحدّد الفجوات بين أجزاء التصوير، وفي النهاية تسعى إلى ربط هذه الأجزاء بعضها ببعض لإثبات الصيغة الكليّة في السورة.

وبناءً على ذلك، عندما تدرس نويورث سورة العاديات، ترى أنّ الآيات الخمس الأولى مِن هذه السورة التي تشتمل على الأقسام تعرض لوحة. هذه اللوحة التي تشتمل موضوعًا واحدًا تصف حركة مجموعة مِن الخيول مع راكبيها نحو الحرب، وبالوصول إلى معسكر العدو يبدأ توقّف مفاجئ. أمّا الآية السادسة، فهي تشير إلى أفكار مختلفة حول جحود الإنسان. وتلاحظ نويورث فجوة بين الآيات الخمس الأولى والآية السادسة وما تليها، حيث تقول «يجب علينا أنْ نجد دليلًا آخر مِن أجل الحصول على الانسجام البنائي الذي يربط الأجزاء المختلفة في السورة. فبالتدقيق على مجموعة الأقسام، نجد أنَّ اللوحة المعروضة تُركت غير مكتملة...فالتوصيف انقطع في النقطة التي كانت مِن المتوقّع أنْ يبدأ الهجوم على معسكر العدو»[32].
وترى نويورث أنّ السرعة والحركة التي كانت تُعرَضان في الآيات الأولى، وبالتالي التوقّف المفاجئ، تتركان تأثيرًا عظيمًا على المستمعين. وأمّا القسم الأخير مِن السورة، في رأيها، فهو يُعطي فكرة لفهم تلك اللوحة التمهيديّة عن الغارة، بسؤال خطابي حول معرفة الإنسان عن مصيره الأخروي. عندئذ، يفاجأ المستمعون، حيث يجدون أنَّ التصوير المنقطع في تلك اللوحة التمهيديّة عن الغارة، قد استمرّ.

إنّ الصيغة الكليّة لهذه السورة، في رأي نويورث، هي عرض سيناريو عن العالم الآخر ويوم القيامة. وعلى هذا الأساس، ترى أنَّ اللوحة عن المهاجمين البدويّين الذين يفاجئون أعداءهم، هي في الواقع تصوير عن كارثة القيامة. وتوصيف القيامة جاء بهذا الشكل مستخدمًا تجارب المستمعين الاجتماعيّة، لكي يقدروا على إدراك القيامة وأحداثها. وتستمرّ نويورث قائلة إنَّ «عرض التصاوير عن المعلومات التجريبيّة للسياق الاجتماعي، إذن يفيد كنموذج بدائي للأحداث المنتهية إلى يوم الحساب التي لم تُجرَّب»[33].
وجدير بالملاحظة أنَّ نويورث في المرحلة الأولى مِن دراسة السورة، تتّبع تواليًا زمنيًّا، وتبحث عن الارتباط بين الآية اللاحقة والسابقة، فعندما ينقطع الارتباط ويبرز موضع الفجوة، تدعو إلى كشف رباط بينهما. وبعد هذه المرحلة، يبدو أنَّها تتّبع اتجاهًا سانكرونيًّا؛ إذ تعتمد على الصيغة الكليّة للسورة، وتربط أجزاء السورة بعضها ببعض، وتُعطي لأيّ جزء دلالة خاصّة متعلّقة بيوم القيامة بشكل ما. وبالتالي، تملأ الفجوة بتفسير تلك الأقسام التمهيديّة متّسقًا مع الصيغة الكليّة للسورة، التي تعتقد نويورث أنّها سيناريو يوم القيامة.

إنّ نويورث تتبع المنهج نفسه عند دراسة سورة المرسلات، فهي تفسّر الآيات
(1-4) مِن هذه السورة التي تشتمل على الأقسام، بالأحداث التي مِن المقرّر أنْ تتحقّق في يوم القيامة. وعندما تبحث عن ارتباط هذه المقدّمة بسائر أجزاء السورة، وبالتالي بالصيغة الكليّة، تعتقد أنَّ ثمة فجوة، حيث أنَّ اللوحة التي كانت عن العاصفة قريبة الوقوع، والتي تمّ خلقها في الأقسام التمهيديّة، تُركت غير مكتملة. وترى أنَّه في لحظة كان يتوقّع المستمعون استمرار تصاوير يوم القيامة، تأخذ الآيات صبغة عباديّة بظهور تعابير عن لفظ «الذكر». وإنّها تربط تلك الآيات الأربعة الأولى بالآيات (8-13)، وتقول إنَّ «التوتّر الذي أثارت اللوحة التمهيديّة في المستمعين الذين كانوا يتوقّعون أنْ تظهر فكرة العذاب، أزال بالفور بظهور سيناريو الآخرة»[34]. فالواضح أنَّها تربط تلك الأربع الأولى بهذه الخمس، وبالتالي تُعطي للآيات التمهيديّة دلالة عن أحداث يوم القيامة، وتصف هذه الآيات بـاللوحة عن النموذج البدائي الذي يلمّح إلى أبعاد خاصّة مِن الأحداث التي مِن المتوقّع أنْ تتحقّق، كاستمرارها (الآية الأولى)، ووصولها العنيف (الآية الثانية)[35].

وعلى ضوء هذا كلّه، يمكننا أنْ نلاحظ تقدّمًا واضحًا عند نويورث، فلا ريب أنَّ محاولاتها هذه، تدلّ على تغيير منهجي عندها، بالنسبة إلى سائر المستشرقين. وفي الوقت الذي كان يُعرب المستشرقون السابقون كـنولدكه عن خيبتهم بالنسبة إلى أسلوب القرآن بوصفه نصًا ينقص التسلسل في طريقة الإخبار وسير السورة، وكذلك مِن الانقطاع في القصص وكثرة الانتقالات في الخطابات القرآنية[36]، كانت نويورث لا تخيّب مِن الثغرات حسب دعواهم، بل تتعامل معها كقارئ مقتدر، وتحاول أنْ تملأها، بدلًا مِن أنْ تشكو منها.
والواقع أنَّ هذه الفجوات، مِن منظور نقد استجابة القارئ، تدلّ على أنّ المؤلّف يكون حاذقًا، حيث يقول أيزر «ما مِن مؤلّف جدير بالتقدير سوف يحاول، في أيّما وقت، أنْ يضع الصورة الكاملة أمام عين القارئ. وإذا ما فعل ذلك، فسوف يفقد قارئه سريعًا؛ لأنّه، فقط عن طريق تنشيط خيال القارئ، يمكن للمؤلّف أنْ يأمل في تورّط قارئه، وفي جعله مدركًا لمقاصد نصّه»[37]. ويرى أيرز أنَّ المؤلّفين في النصوص الأدبيّة الحديثة، يتعمّدون إلى جعل هذه الفجوات في النصّ؛ ليجعلوا القارئ مشاركًا في النصّ.

ويمكن القول، إنَّ توقّعات نويورث في دراسة شعريّة القرآن، تشير إلى تغيّر ملحوظ بالنسبة إلى نولدكه، فهي لا تبحث عن كون القرآن شعرًا أو نثرًا وفق نظريّة الأنواع الأدبيّة، ولا تبحث في القرآن عن الوحدة العضويّة الشعريّة التي تتمثّل في اتّحاد الوزن والقافية، بل توقّعاتها تنبع عمّا تعرف عن نقد استجابة القارئ، الذي ينظر إلى النصّ الأدبي مِن منظور الفلسفة الظاهراتيّة، ولاسيّما فلسفة الاستعلاء التي تُعلي مِن شأن القارئ وتعتمد على القارئ في تشكيل معنى النصّ وتكوين أدبيّة النص وإدراك جماليّته. فقضيّة الانسجام والتماسك في النصّ الأدبي، والفراغات والفجوات، كلّها يعتمد على القارئ لتحقّقه.
وفي الإطار نفسه، إنَّ المنزلق الخطير الذي سيرتّب على دراسة الفجوات في النصّ، يرتبط بكيفيّة ربط الفجوات وملئها مِن جانب القارئ. إنَّ النص لا يعطي تلك الصيغة الكليّة أو البنية المتماسكة، إنَّما هي تنشأ مِن اللقاء بين النصّ المكتوب وذهن القارئ الفرد بتجربته الخاصّة ووعيه الخاصّ. وإنَّ هذه «الصيغة الكليّة، ليست المعنى الحقيقي للنصّ، إنَّما هي، في أحسن الأحوال، معنى تشكيلي»[38]. ولذلك، إنَّ إدراك التماسك لا ينفصل عن توقّعات القارئ، وبالتالي عن الوهم. فالوهم شرط حيويّ لإدراك الانسجام في النصّ الأدبي، فكما يقول أيرز «كلّما تعرض قراءة متّسقة نفسها... يسود الوهم»[39]. فلا يمكن الاستغناء عن الوهم تمامًا، إذ يربط القارئ بأيّ طريقة وتحت أيّ ظروف تلك الأجزاء للحصول على الانسجام، ولذلك يمكن أنْ يحمّل على النصّ شيئًا لم يكن فيه، وأنْ يستكمل الفجوات حسب مزاجه الخاصّ وتجربته المفردة.

وعلى هذا الأساس، إذا عدنا إلى نويورث، نجد أنَّها عندما تدرس سورة النازعات، تعتقد أنَّ الأقسام التمهيديّة في هذه السورة، تشير إلى خيل الراكبين، تطابقًا مع مقدّمة سورة العاديات. وترى ذلك أكثر معقولًا مِن سائر التفاسير، وتعتقد لو يتمّ تفسير تلك المجموعة مِن الأقسام بالخيول والراكبين، سيكون ثمّة «تناسب قويّ بين اللوحة التي تمّ عرضها بالأقسام وتصوير الآخرة»[40].

لا نريد أنْ نناقش صحّة هذا التفسير، بل نعتقد أنّ القارئ، في قراءته وفي بحثه عن الاتساق، يضطرّ باستمرار إلى اتّخاذ قرارات انتقائيّة، وربّما تكون هذه القرارات غير ملائمة لطبيعة النصّ. فلا يمكن أخذ كلّ هذه القرارات المحتملة بعين الاعتبار. ومِن جهة أخرى، إنّ الانسجام، كما أشرنا، ليس المعنى الحقيقي للنصّ، بل إنّه المعنى التشكيلي. ولذلك، بعض الأحيان، يسعى القارئ كلّ سعيه ليربط أجزاء النصّ بأيّ طريقة ممكنة ليحصل على الانسجام، وإذا لم ينجح بذلك، فسيشعر بالخيبة وعدم الرضا. وهذا ما لاحظناه عند نويورث، فهي عندما تدرس السور المدنيّة، ترى أنّها سور تحتوي مقاطع، وإنَّ هذه المقاطع لم تشكّل بنية أدبيّة متماسكة، وتنقض دعوى الانسجام في سائر السور التي تمّ تركيبها بالدقّة. وتزداد المشكلة عندما لا تستطيع أنْ تشكّل تلك الصيغة الكليّة عن السورة، ولذلك تحكم على تركيب السورة بأنَّه نتيجة عمليّة التدوين.

قضيّة التواصل
إنّ التواصل بين النصّ الأدبي والقارئ هو القضيّة الرئيسة عند استجابة القارئ. يستخلص أيزر أنَّ للعمل الأدبي قطبین؛ یمکن أنْ نطلق علی أحدهما القطب الفني، والآخر الجمالي؛ إنَّ القطب الفني يشير «إلى النصّ الذي أبدعه المؤلّف، ويشير القطب الجمالي إلى الإدراك الذي ينجزه القارئ. وينتج عن هذه القطبيّة الثنائيّة أنَّ العمل الأدبي لا يمكن أنْ يتطابق مع النصّ تمامًا أو مع إدراك النصّ، إنَّما هو يشغل في الحقيقة منزلةً وسطًا بين القطبين»[41]. وفي ضوء هذا التقاطب، يتّضح أنَّ العمل الأدبي ذاته لا بدّ أنْ يكون واقعًا في مكان بين النصّ والقارئ. فمِن الواضح أنّ تحقيقه هو نتيجة للتفاعل بين الاثنين. وفي الواقع، ما يجلب العمل الأدبي إلى الوجود، ليس هو إلّا الحوار بين النصّ والقارئ. وبالتالي، يعتقد أيزر أنّ معنى العمل الأدبي هو نتاج تفاعل بين النصّ والقارئ. بهذه المقدّمة، نريد أنْ نلقي الضوء على كيفيّة تحقّق التواصل بين القرآن والقارئ، وبعبارة أدقّ بين القرآن والمستمع، مِن منظور أنجليكا نويورث، حيث قد تأكّدت هي نفسها أنَّ الشيء الذي «يجب علينا أنْ نقوم بتحليله في السور المفردة، هو عمليّة التواصل القرآني التي تجري بين المتكلّم والمستمع. استجابة القارئ، عندئذ، تتبدّل إلى استجابة المستمع»[42].

أوّل ما يجب الالتفات به، هو أنَّ نويورث تميّز بين القرآن الحالي الذي تمّ جمعه وتدوينه بعد وفاة النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) بعقود، والقرآن الشفوي الذي تعود نشأته إلى فترة حياة النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم). وقد أشار استيوارت إلى هذا التمايز في نظريّة نويورث بقوله: «إنَّ القرآن أصبح ثابتًا مِن خلال عمليّة التوثيق، وعلى أساس منهج النقد التوثيقي لـ«بريوارد تشايلدز»[43]، تفرِّق نويورث بين النص الموثَّق والمدوَّن للقرآن الذي توقّف عن التطوّر وتمّ تفسيره في التقليد الإسلامي فيما بعد بالطرق المحدّدة، وبين النصّ ما قبل التوثيق للقرآن الذي تطوّر عبر مراحل»[44]. وإنَّ هذا الأخير هو مدار البحث عند نويورث.

كما رأينا، إنَّ نويورث لا تُعجب بترتيب النص الحالي للقرآن، وصبّت اهتمامًا بالغًا على مرحلة ما قبل التوثيق؛ أي القرآن الشفوي. وترى أنَّ القرآن قبل أنْ يكتسب صفة النصّ المغلَق، كان تواصلًا شفويًّا وخطابًا موجّهًا إلى طبقة مِن المتلقّين. وبناء على ذلك، في مقالتها «وجهان مِن القرآن»[45] تركّز على «القرآن، لا باعتباره السِفر الثابت الذي أصبح «المصحف» بعد وفاة النبيّ، بل باعتباره سلسلة مِن التواصل الشفوي الذي توجّه إلى المجتمع المكّي والمدني بتوقّعاته وخلفيّته الدينيّة التي انعكست في النصّ القرآني»[46]. وتعتقد نويورث أنَّ صفة «الشفويّة» للتواصل طيلة حياة النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)، تعود إلى الاعتقاد الذي ساد آنذاك، وهو أنّه لا يمكن الوصول إلى كلمة الربّ إلّا عن طريق التواصل الشفوي.

وفي السياق نفسه، ترى نويورث أنَّ القرآن بوصفه مجموعة مِن التواصلات، تشير إلى شواهد مِن التناص الخارجي، وإلى التناصات غير الملفوظة التي تعود إلى الخطابات التي كانت تُناقَش في دوائر المستمعين للقرآن. وجدير بالملاحظة، أنَّ نويورث في دراساتها تجتنب أنْ تستخدم مصطلح الاقتباس أو التأثّر فيما يتعلّق بالمشابهات الموجودة بين القرآن والكتاب المقدّس، بل تستخدم مصطلح «التناص». وفي هذا الشأن، تقول في لقائها الصحفي إنَّ الناس في عصر النزول، كانت لديهم معلومات دينيّة (اليهوديّة والمسيحيّة)، وكانوا يتحدّثون عنها، والروايات التي ظهرت فيما بعد في النصّ القرآني تشير إلى شواهد الحوار والتواصل بين الأمّة ورسالة إلهيّة حديثة آنذاك، و«هذا لا يعني أخذًا أو اقتباسًا، ولو كان هناك اقتباس، لقد قام به الأمّة، فقد كانت الأمّة تطرح أسئلتها على النبيّ، إذ حصلت على نموذج جديد؛ أي السؤال والجواب، فلا نستطيع أنْ نستخدم مصطلح «التأثّر»[47][48].
ومهما يكن مِن الأمر، ترى أنَّ هذه التناصات قد نشأت عن التواصل والحوار بين النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) والمستمعين، حيث أنَّ القرآن، في رأيها، يخاطب أناسًا لديهم معرفة ودراية بالعقائد والمعارف التوراتيّة والإنجيليّة وما بعدها، وبالتالي فإنّ كتابهم المقدّس لا بدّ أنْ يقدّم إجابات للأسئلة التي أثارتها التفاسير التوراتيّة والإنجيليّة، فهو كتاب جاء على عقب عدد كبير مِن الموروثات الدينيّة القديمة. لذلك، لا ريب أنَّ «المخاوف الاجتماعيّة والقضايا الدينيّة التي كانت تثير في أذهان السامعين، انعكست بصورة كبيرة في النصّ القرآني الذي جاء على لسان النبيّ»[49]. وبناء على هذا، هي تفترض عدّة مراحل لتطوّر التواصل بين النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) والمستمعين، وذلك يعود إلى الجمهور المتغيّر المتنامي الذي يخاطبهم النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم).

وعلى هذا، فالمرحلة الأولى مِن التواصل تجري بين النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل مكّة، ونتائج هذا الحوار قد انعكست في السور المكّيّة في الفترة الأولى. وموضوع الحوار يتراوح حول حرم الكعبة وأشكال العبادة ووضع العرب وعاداتهم، وهي ترى أنَّ استخدام «السجع مع بنياته القصيرة، على أساس تكرار العناصر الشكليّة نفسها في الموضع نفسه. والسور التي تعتمد على التكرار بشكل مساوٍ، مِن الممكن أنْ تُفهم بوصفها ترجمة عن الإجراء الطقسي في التعبير اللغوي»[50]. إذًا، ترى أنّ هذه السور تعكس أشكال العبادة في مكّة في أوقات محدّدة مِن اليوم، وتعتقد أنّ هذه السور لا تقدّم قصص الأنبياء التي أصبحت مركزيّة فيما بعد.
وأمّا في الفترة المكّيّة المتأخّرة، فتدور السور حول روايات الكتاب المقدّس، وخاصّة قصص الأنبياء، وقد تمّ إدراج هذه القصص في السور الأطول التي تشكّل أساس الصلاة الطقسيّة، وبالتالي تتشابه مع الطقوس اليهوديّة والمسيحيّة. وفي الختام، تعكس السور المدنيّة تحوّلًا في طبيعة العبادات الجماعيّة وانخفاضًا لأهميّة القصص التوراتيّة. وأطول السور المدنيّة في القرآن، تعكس مرحلة افتراق الطرق بين السورة وطقوس العبادة، حيث كانت السور أطول مِن أنْ تشكّل جزءًا مِن طقوس العبادة[51].

وكلّ ما نستطيع ملاحظته مِن مراحل نويورث هو أنّها تعتقد أنَّ أسلوب السور القرآني وموضوع كلّ سورة، كانا متأثّرين بالقضايا المطروحة في الحوار بين النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) وجماعات المستمعين. وترى أنَّ إمعان النظر في الجمهور المتغيّر المتنامي الذي يخاطبه النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)، وإلى المستمعين الذين ينتمون لبيئات مختلفة، تدلّ على أنَّ «كثيرًا منهم بلا ريب كان مدركًا، بل مشاركًا في النقاش الديني بين أتباع الديانات المختلفة مِن يهود ومسيحيّين وغيرهم إبّان القرن السابع»[52]. إذًا، إنَّ انعكاس هذه القضايا في سور القرآن في المراحل المختلفة، تدلّ على أنَّ المستمعين كانوا مشاركين في الحوار.

وعلى هذا الأساس، تستنتج نويورث أنَّ القرآن «نصّ ينبغي أنْ يُراعى في قراءته الأسلوب المتَّبع في تناول الدراما متعدّدة الأبطال»[53]. فالقرآن يشبه رواية ذات أبطال متعدّدة، وبعبارة أدقّ: إنَّ القرآن كرواية لم يتم تنظيمها حسب المونولوج الذي يعني خطابًا يقدّمه الشخص الوحيد، وهو الربّ، وبالتالي النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)، بل هو يتّبع أسلوب الحوار[54] في الرواية أو المسرحيّة. وفي ذلك يقول استيوارت: إنَّ القرآن في رأي نويورث «ليس نصًّا ذا مؤلّف وحيد، بل له أبعاد مِن عمل جماعي. وهذه الرؤية قد اقترحها أيضًا كلود جيليو[55]. فالقرآن يحتوي على سجلّ لمحادثات معقّدة بين المبشِّر وجمهوره، بما فيها مِن حجج واتهامات واعتراضات وردود، ويُظهر الإصلاحات وتطوّر الآراء طوال الزمن»[56]. وفي رأي نويورث، هذه النقاشات «قد هدأت بعد أنْ تحوّل التواصل الدرامي متعدّد الأصوات إلى رواية ذات راوٍ واحد إلهي»[57]. فمهمّة المستمعين، عند نويورث، لا تقف عند سماع الآيات والتلذّذ بجماليّتها، بل إنّهم يؤدّون دورًا مهمًّا في تكوين القرآن، فإنّهم يشاركون في الحوار مع النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)، وإنَّ نتائج هذا الحوار تنعكس في النصّ القرآني.

وعلى هذا، تأتي نويورث بمثال دقيق لإيضاح فكرتها، وتقارن القرآن الشفهي بـ«محادثة هاتفيّة لا تَسمع منها إلّا صوت طرف واحد، لكنَّ كلام الطرف الآخر غير مسموع، ويمكن استنتاجه مِن كلام الطرف المسموع»[58]. ولذلك، فالمخاوف الاجتماعيّة والقضايا الدينيّة في أذهان السامعين، تتجلّى بصورة كبيرة على لسان النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم). إذاً، إنَّ القرآن، في رأيها، هو محصول التواصل بين النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) ومجموعات مختلفة مِن المستمعين، وهم كممثّلين في الدراما الذين «يؤدّون المشاهد التمثيليّة؛ فالمتحدّث محمّد، ومستمعوه يتواصلون بالحوار. كما يستلزم هذا السيناريو مراعاة عدد مِن الإشارات الدلاليّة الإضافيّة مثل البلاغة والتركيب»[59].
وماذا عن الدور الإلهي في هذا التواصل؟ تقول نويورث «يؤدّي الصوت الإلهي دور بطل إضافي للرواية يخاطب النبيّ باستمرار، ونادرًا ما يتوجّه بالخطاب إلى السامعين، لكنَّ هذا الصوت يشارك باستمرار في السيناريوهات المختلفة للتفاعل بين النبيّ والسامعين عبر الحديث عن هؤلاء المستمعين»[60]. يمكن أن نلخّص ما ذكرت نويورث عن استجابة السامع والتواصل بينه وبين النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) في رسمة كما يلي. ومِن الجدير في هذا السياق، أنْ نأتي برسمة أخرى قبلها، لنقارن رؤية نويورث بفكرة التواصل كما جاءت في نقد استجابة القارئ:

فالواضح أنَّ التواصل مِن منظور استجابة القارئ، يعتمد على نصّ ثابت، وهو نصّ المؤلف. إلّا أنَّ معنى هذا النصّ، يُنتَج بمشاركة القارئ، ومِن خلال الحوار بينه وبين النصّ يحصل العمل الأدبي. فالألفاظ وشكل النصّ والموضوعات كلّها ثابتة، عند أيزر، وإنَّما تتغيّر التحقّقات. بينما في التواصل مِن منظور نويورث، لا يوجد نصّ ثابت منذ البداية، فكلّ شيء مِن الألفاظ وشكل الآيات والسور، وحتّى الموضوعات المطروحة في السور، في معرض التغيير. فالنصُّ القرآني بشكله الحالي، هو نتيجة التواصل بين النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) والمستمعين، ويبدو أنَّ فكرته هذه، لا تنسجم مع التقليد الإسلامي. وفي هذا الشأن، ترى هي أنَّ هناك بعض إشارات في آيات القرآن إلى كتاب سماوي أو لوح محفوظ هو الأصل، ولكنَّها تعتقد أنَّ هذا الكتاب أوّلًا يبقى بعيدًا عن متناول البشر، إلّا بعض مِن المقتطفات الشفهيّة التي نزلت على النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)، وإنَّه قابل للتغيير؛ إذ تقول إنَّ «هذه المقتطفات المأخوذة مِن الكتاب لا يتلقّاها النبيّ كما هي بلا تغيير، وإنَّما في إطار عمليّة النقل يتمّ تطويعها بما يتواءم مع حاجات الناس»[61].
وبناء على ذلك، إنَّ اللوح المحفوظ أو الكتاب في رؤية نويورث لا يتمتّع بثبوت، إنَّما هو قابل للتغيّر نتيجة الحوارات الجارية بين النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) والمستمعين، حيث تؤكّد ذلك بقولها «وإذا كان الكتاب السماوي قد جُمع ودُوّن في صورة تلاوة عربيّة، فلا يقتضي ذلك أنْ يكون موجودًا منذ الأزل باللغة العربيّة. ومعنى هذا، أنّه حتّى القصص التوراتيّة المنسوبة للكتاب لا تقتضي بالضرورة وجود اقتباسات حرفيّة مِن المصدر السماوي، وإنَّما في حقيقة الحال تمثّل نوعًا مِن الصياغة التي تمّ تفصيلها لتناسب مقام السامعين»[62]. إذاً، هي تستنتج أنّ الكتاب السماوي «في ظلّ الحاجة لمواكبة هذه الآيات لجمهور معيّن مِن المستمعين؛ فإنّ الكتاب في حدّ ذاته ليس تحت تصرّف أحد، ولا حتّى في صورة مقتطفات حرفيّة. وفي هذه المرحلة، شفويّة القرآن تكتسب بُعدًا (Theologoumenon)»[63]. هذا المصطلح يونانيٌ، ويعني بيانًا لاهوتيًّا غير مستمدّ مِن الوحي الإلهي.

عندئذ، لا يبقى شيء إلّا القرآن الشفوي غير الثابت الذي يتطوّر نتاج تلك الحوارات بين النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) والمستمعين. وبعد إتمام التطوّر بوفاة النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)، يظهر «المصحف» الذي فيه «الصوت الإلهي ينضمّ إلى الصوت النبويّ ليصبح الراوي، بينما يختفي الجمهور المتفاعل مِن المسرح تمامًا ليصبح مجرّد موضوعات يتناولها المتحدّث الأوحد»[64]. وبناء على هذا، تُلقي نويورث الضوء على الميّزات الشفويّة في القرآن، وتؤكّد على تحوّل أسلوب السور في المراحل المختلفة، وترى أنَّه، نظرًا للسياق الطقسي في الفترة الأولى مِن مكّة وضرورة استخدام وسيلة معيّنة لسهولة تذكّر القرآن وحفظه بدون كتابة، ينبغي أنْ تكون السور مصبوغة بالصبغة الشعريّة. وفي هذا الإطار، هي صبّت اهتمامًا بالغًا بالفواصل، وترى أنّها في نهاية الفترة المكيّة، كانت تفيد لتغيير مسار الخطاب السردي للسور الطويلة إلى صيغة وعظيّة، وذلك حسب المقتضيات.

ويبدو أنَّ عناية نويورث بالفاصلة، وبشكل خاصّ للسور المكّيّة والمدنيّة، ودراسة الفجوات وكيفيّة ملئها، وتعريف القرآن بوصفه عملًا أدبيًّا شفويًّا مُنتَجًا عن التواصل والحوار بين النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) والمستمعين، كلّها تنشأ مِن الوظيفة التي تفرضها نويورث لهذه الأداة، وهذه الوظيفة هي موضوع دراستنا في القسم الآتي مِن البحث.

وظيفة اللغة
تذهب نويورث في دراساتها إلى أنَّ القرآن هو نتاج أدبي، وتقول إنَّ القرآن يكون «نصًّا شعريًّا إلى حدّ بعيد، يحتفي باللغة الرفيعة بطريقة غير مسبوقة، وبالتالي يرتقي بالتراث العربي إلى مستوى جديد مِن الرفعة»[65]. إلّا أنّها تميّز القرآن عن سائر النصوص الأدبيّة بكونه رسالة إلى المجتمع، وهذه الرسالة تسعى إلى تصحيح رؤية العالم الدنيويّة، قائلة إنَّ القرآن هو «تصحيح للنظرة الدنيويّة بمحوريّة الإنسان في البيئة العربيّة للقرآن، والتي تنعكس في الشعر»[66].

وفي السياق نفسه، تمايز القرآن الرئيس عن سائر النصوص، في رأي نويورث، يتمثّل في أنَّه ملكيّة أمّة، وله العلاقة الوثيقة بتلك الأمّة. ولذلك، تدعو نويورث إلى قراءة القرآن «قراءة سياقيّة»، باعتباره سجلًّا لظهور الجماعة التي تتطوّر هويّتها الدينيّة الخاصّة بها شيئًا فشيئًا. وترى أنّ انفصال القرآن مِن الجماعة، والتخلّي عن السياق المكّي والمدني الذي كان مجال عمل النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) والجماعة، هو التخلّي عن أكثر الأدلّة إقناعًا لتطوّر النصّ وديانة الجماعة بالتزامن، وتقول «بدلًا مِن تخيّل ظهور القرآن بمعزل عن تأسيس الجماعة، يجب علينا أنْ نفترض التزامن، بمعنى ميلاد الكتاب والجماعة الدينيّة معًا»[67]. وعلى هذا الأساس، فالواضح أنَّ الوظيفة العمليّة للقرآن كنصّ أدبي، باعتقاد نويورث، تتجلّى في تأسيس جماعة دينيّة وتكوين هويّتها.

وممّا يلفت في هذا السياق، هو أنّ نويورث تعتمد في دراساتها على تقسيم نولدكه الكرونولوجي للسور القرآنيّة. وفي هذا الشأن، ترى أنّه «بالرغم مِن قبول الغربيّين تقسيم نولدكه للسور القرآنيّة إلى الفترات المكّيّة الثلاثة والفترة المدنيّة على أساس أسلوب السور، واعتبار الميزة الشعريّة للسور الأولى وفي المقابل، الصبغة أكثر نثريّة للسور المتأخرة، إنَّ العلماء الغربيّين المهتمّين بالدراسات القرآنيّة، لم ينجحوا في إبداع منهجيّة خاصّة لدراسة النصّ القرآن على أساس الطريقة الدقيقة»[68]. ومع ذلك، فهي تعتقد أنَّ تقسيم نولدكه لم يزل يُعتبر مفيدًا، وبوصفه فرضيّة فعّالة، جديرٌة بالاهتمام. وهي تؤكّد في دراساتها على اعتمادها بهذا التقسيم في دراسة السور.
إنَّ أهمية هذا التقسيم الكرونولوجي للسور القرآنيّة، تنشأ مِن اعتقاد نويورث بالقراءة الدياكرونيّة لسور القرآن، حيث أنّها ترى أنَّ القرآن «سجلّ عن التواصل المعقّد بين المبلِّغ وأمّته. الجماعة تتغيّر على مدى الزمان، وكذلك النصّ»[69]. وانطلاقًا مِن ذلك، تدعو نويورث إلى القراءة الدياكرونيّة لنصوص القرآن لفهم أعمق للترتيب التاريخي، بغرض «تتابع آثار التطوّرات المعرفيّة التي أدّت في النهاية إلى حصول الجماعة على هويّة دينيّة جديدة»[70].

ويبدو أنَّ نويورث في آرائها حول تأسيس الجماعة ومراحل تكوين الهويّة الدينيّة للجماعة، قد تأثّرت بنظريّة «الذاكرة الحضاريّة» لـ«يان أسمان»[71] (1938-)، وهي قد أشارت إلى ملاحقة تجاه أسمان قائلة «باتّباع نهج أسمان الذي أبدع مصطلح «الذاكرة الحضاريّة» كاختصار عن التواصل المعقَّد للهويّة الحضاريّة واستحضار الماضي»[72]. إنَّ أسمان في نظريّته المسمّاة بـ«الذاكرة الحضاريّة» قد تناول مراحل تكوين الهويّة الجماعيّة، وإنّه يأتي بالدراسات التطبيقيّة عن كيفيّة تكوين الهويّة الجماعيّة لحضارات مصر وإسرائيل ويونان. ويمكن القول إنَّ نويورث حاولت أنْ تطبّق هذه النظريّة على حضارة الإسلام، ولذلك جعلت جلّ اهتمامها للبحث عن مراحل تكوين الهويّة الإسلاميّة، وإنَّها في ذلك متأثّرة بالمراحل التي يذكرها أسمان لتأسيس هويّة الجماعة.

يرى أسمان أنَّه عند عدم وجود إمكانيّة التخزين الكتابي للمعلومات الحضاريّة، لابدّ مِن توافر ثلاثة إمكانات لكي يتسنّى حفظ المعرفة الضامنة لهويّة الجماعة، حتّى يمكِّن لهذه المعرفة الضامنة للهويّة أنْ تحقّق الغاية المرجوة، وهذه الغاية هي وحدة المجموعة والموجّهة لسلوك أفرادها. وهذه الثلاثة «هي: الصورة الشعريّة، والإخراج الطقوسي الديني، والمشاركة الجماعيّة. وأمّا كون الصياغة الشعريّة تهدف أساسًا إلى سكب المعرفة الضامنة لهويّة الجماعة في قوالب وأشكال ممسوكة ومتينة، وهو هدف خاصّ قبل كلّ شيء بتقوية الذاكرة»[73]. فالنصّ اللغوي هو واحد مِن تلك الأشكال، وهو الوسيلة التعبيريّة التي تعبّر عن المعرفة الضامنة لهويّة الجماعة، وبصياغته الشعريّة تساعد على حفظ المعلومات في ذاكرة أفراد الجماعة.

ومِن هذا المنطلق، نرى أنَّ نويورث تميّز بين القرآن الشفوي والقرآن المدوّن، وتصبّ اهتمامًا بالغًا على القرآن الشفوي وسماته الصوتيّة. وإنّها تنتقد المستشرقين الذين ركّزوا في دراساتهم على القرآن المكتوب. ولذلك ترفض دعوى ريتشارد بل (1876-1952) حول تقسيم السور القرآنيّة، وتقول «لا يمكن الدفاع عن هذه الدعوى، إنَّ إدراك بل القرآن -خلافًا لنولدكه وسائر العلماء بعده- يعتمد بشدّة على تصوّر القرآن المكتوب، ويتجاهل بشكل كامل السمات الشفويّة لمعظم السور المكّيّة»[74]. وفي هذا الشأن، تلقي نويورث الضوء على الصياغة الشعريّة للسور القرآنيّة التي تساعد الذاكرة وتسهّل التذكّر كما أسلفنا.

وفيما يتعلّق بالطقوس، تأتي أهميّتها مِن أنّه في الحضارات الشفويّة، لا يمكن مشاركة الأفراد في «الذاكرة الحضاريّة» إلّا بالحضور الفردي، وتكون الطقوس مِن أسباب التقاء أفراد المجموعة. والواضح أنَّ موضوع مشاركة الأفراد في تكوين هويّة الجماعة، هو مِن أهمّ الشروط عند أسمان. وما يعنينا هنا هو التركيز على هذا الشرط مِن منظور نويورث. إنّها لتوضيح كيفيّة مشاركة الأفراد في تكوين هويّة جماعة المسلمين، تتمسّك بنظريّة أسمان حول «الشريعة مِن الأعلى» و«الشريعة مِن الأدنى»، وقد أشارت هي نفسها إلى هذا الاستخدام لدراسة قضيّة التوثيق القرآني، وترى أنَّ «السور القديمة»، على ما يبدو، انعكاس لتطوّر ما، وهذا التطوّر في سماته الأساسيّة ينعكس «توثيقًا مِن الأدنى» كما ميّزته «أسمان»[75]. وعلى هذا الأساس، هي تدعو إلى قراءة القرآن كنوع أدبي، وبالتالي دراسته كإحدى مراحل العمليّات التواصليّة. وتقول في هذه الحالة فـ«لا يُنظر إلى السور كرسالة مِن المتكلّم التي تتحرّك خطيًّا في اتجاه المرسل إليه، بل يُنظر إليه كتواصل بين عدد كبير مِن الشخصيّات ذات الطابع المسرحي الذين شاركوا عمليّة تكوين الجماعة»[76].

وعلى هذا، تعتبر نويورث أنَّ القرآن قبل أنْ يكتسب صفة النصّ المؤسِّس الحضاري للإسلام، كان، لأكثر مِن عقدين، تواصلًا شفويًّا. ولم تكن رسالته آنذاك خطابًا موجّهًا إلى المسلمين، بل بالأحرى إلى طبقة مِن المتلقّين لم يسلموا بعد، والذين يمكن وصفهم بمثقّفي العصور القديمة المتأخّرة، لهذا تقول إنَّ القرآن «يجب أنْ يُنظر إليه أوّلًا وقبل كلّ شيء، باعتباره تفسيرًا؛ أي يصطبغ صبغة جدليّة-حجاجيّة، وبالتالي يتمتّع بأسلوب بلاغي راقٍ. إنَّ القرآن يتواصل مع المستمعين المطّلعين على معارف التوراة والإنجيل وما بعده، وبالتالي يجب أنْ يقدّم كتابهم المقدّس إجابات عن الأسئلة التي أثارها التفسير التوراتي»[77]. وبناء على هذا، تعتقد نويورث أنّ القرآن يعكس فهم المستمعين الأوائل، ويعكس حالة مِن الجدل الفلسفي اللاهوتي بين شتّى الطوائف، فإنّه ليس كتابًا محدّد الشكل سلفًا، بل يتطوّر مِن حيث الشكل والمضمون خلال أكثر مِن عشرين سنة.
ومِن هذا المنطلق، ترى نويورث أنَّ القرآن في السور المبكّرة يشكّل حوارًا مع المزامير، ليس مِن حيث الشكل الشعري فحسب، بل أيضًا فيما يتعلّق بالصورة الشعريّة والموقف التعبّدي للمخاطِب. وإنّها تعكس بوضوح لغة المزامير، وتقول «يشهد القرآن المبكّر على الأعمال التعبديّة التي تتضمّن نصوصًا تشبه إلى حدّ كبير مزامير الكتاب المقدّس»[78]. وتأتي بمثال لذلك سورة المزمل. وأمّا بالنسبة إلى المدينة، في رأيها، فقد ظهر علماء اليهود والنصارى -الذين تسمّيهم نويورث الورثة الحقيقيّين للتقليد الكتابي- على الساحة بدعوى احتكار تفسيره، وتقول «فالمناظرات التي جرت بشأن بعض الأسئلة الخاصّة، تركت آثارًا في القرآن»[79]. وبناءً على هذا، ترى نويورث أنَّ القرآن الشفوي كان «كتابًا مِن الأدنى»، وقد استقلّ في المرحلة النصّيّة، وتمّ توثيقه كـ«كتاب مِن الأعلى». إنَّ الرسمة التالية تعرض تلك المراحل عند نويورث:

وكما نلاحظ في الرسمة، يبدو أنَّ القرآن الذي وصلت إليه نويورث بالاستعانة بالنظريّات الحديثة كنقد استجابة القارئ، وكذلك نظريّة أسمان وغيرها مِن النظريّات، في النتيجة لا يختلف عن القرآن الذي كان المستشرقون السابقون قد ارتكزوا في دراساتهم على العناصر المشابهة بينه وبين الكتب الدينيّة السابقة؛ إذ يزعمون أنَّ النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) كان في ذلك متأثرًا بتلك الكتب. وكذلك يبدو أنَّ دعوة نويورث إلى ا لدراسة الأدبيّة للقرآن وخصائصه الشكليّة، ليست مِن أجل الإدراك الجمالي له، بل لديها فكرة عن الوظيفة الاجتماعيّة والحضاريّة للأدب القرآني وبيانه، وهي تسعى لإيضاح تطوّر الأسلوب القرآني مِن أجل إثبات نظريّتها حول فترات تشكيل تدريجي للقرآن، وتبعيّة أسلوب القرآن وموضوعاته للبحوث الجدليّة التي دارت في الفضاء المعرفي الموجود آنذاك وفي ذلك السياق التاريخي، وتحاول أنْ تأتي بتحليل جديد للعناصر المسيحيّة واليهوديّة الموجودة في القرآن.

الخاتمة
ـ لاحظنا مِن ردود أفعال نويورث أنَّها لا تعجب بالسور المدنيّة؛ لعدم تشكيل بنية أدبيّة متماسكة. فيمكن القول إنَّ توقّعات نويورث تنشأ عن منهجها البنيويّ واتجاهها الدياكروني والسانكروني في دراسة السور، حيث أنَّها تتابع الآيات بشكل خطّي وتشير إلى الانقطاعات بين الآيات، ثمّ تتبع المنهج السانكروني لإيجاد الربط بين الآيات على أساس مبدأ انسجام الكلّ. وبما أنّ السور المدنيّة هي أطول مِن أنْ تشكّل وحدة منسجمة، وبالتالي حين لا تستطيع نويورث أنْ تحصل على التماسك فيها، تشعر بالخيبة وعدم الرضا، وتستنتج أنَّ شكل السور الطوال هو نتيجة عمليّة التدوين.
ـ يمكن القول إنّ القيمة الجماليّة التي تعطيها نويورث إلى السور القرآنيّة، تختلف بالنسبة إلى السور المكّيّة والسور المدنيّة. وكذلك، يبدو أنَّ الفرق بينها وبين نولدكه في تقييم القرآن ليس كبيرًا. فإذا كان نولدكه وجيل المستشرقين معه، حكموا على القرآن بالقيمة السلبيّة، وقلّلوا مِن قيمة القرآن الجماليّة بسبب الانقطاعات وكثرة الالتفات والغموض في النصّ القرآني، فكان مِن المتوقّع أنْ نلاحظ اختلافًا شاسعًا في تقييم نويورث الجمالي للقرآن مِن نولدكه، بالنظر إلى مبدأ التطوّر الأدبي، ورواج معايير ما بعد الحداثة، ونقد استجابة القارئ الذي كان يرحّب بالانزياحات، ويستحسن الغموض والفجوات في النصّ، وتبديل تلك الخصائص السلبيّة إلى إيجابيّات النصّ القرآني، ولا سيّما بالنظر إلى أنَّ نولدكه كان باحثًا فيلولوجيًّا، بينما نويورث كانت تؤكّد في دراساتها على أدبيّة القرآن وضرورة معالجة القرآن بمعايير النقد الأدبي.
ـ إنَّ محاولات نويورث، تعتبر تجربة أدبيّة، ولكنّها غير جماليّة أو خارجة عن النطاق الجمالي. فصحيح أنَّها تتلقّى القرآن كنصّ أدبي، وتركِّز على الجانب الأدبي والأسلوبي، إلّا أنَّ دراساتها تمثّل تجربة باحث يقرأ ملحمة الفردوسي ليكشف عادات الفرس القدامى. وبناءً على هذا، فنويورث عندما تدرس القرآن، تحاول مِن دراساتها الأدبيّة أنْ تثبت نظريّتها حول تكوين القرآن في مشروع تواصلي بين النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) وأمّة المستمعين. وما يؤكّد ذلك، هو اعتماد نويورث على نظريّة نولدكه في ترتيب تاريخي للسور القرآنيّة.
ـ إنَّ اعتماد نويورث على هذا الترتيب، يحتاج إلى النقاش. فهي عندما تتحدّث عن القرآن، تجعله في مرتبة الأعمال الأدبيّة العبقريّة؛ كديوان حافظ أو أشعار مولوي. وفي السياق نفسه، تعتبر كلّ سورة وحدة في ذاتها، فلماذا عندما تقرأ ديوان حافظ، لا تبحث عن ترتيب تاريخي للغزليّات، ولا تشكو مِن عدم ترتيب الغزليّات حسب منطق كرونولوجي؟! ذلك لأنَّ أدبيّة القرآن وشكله وأسلوبه، كلّها أداة لنويورث لإثبات نظريّتها حول اعتبار القرآن نصًّا مِن نصوص العصور المتأخّرة. فيمكن القول إنَّ قيمة القرآن الجماليّة عندها، تابعة للوظائف العمليّة التي تبحث عنها في دراستها للقرآن.

ـ وقع الاختلاف بين الباحثين في علوم القرآن في مسألة ترتيب السوَر وجمعها بين دفّتين، ويمكن حصر أقوالهم في هذه المسألة ضمن اتّجاهين رئيسين، الأوَّل: أنَّ القرآن كان مجموعًا بين دفّتين في حياة النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم). والثاني: أنَّ القرآن لم يجمع بين دفّتين إلاَّ بعد رحيل النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم). وقد استدلَّ أصحاب الاتجاه الأوّل بأنَّ المصحف الذي بين أيدينا بنظمه وترتيب سوره، مطابق للمصحف المجموع في حياة النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)، واعتبروا أنَّ القرآن كان يُدَرَّس ويُحفظ جميعه مِن قِبَل مجموعة مِن الصحابة في حياة النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، منهم: عبد الله بن مسعود، وأُبيّ بن كعب، وغيرهما، ممّا يدلّ على أنّ القرآن كان مجموعًا مرتّبًا[80].

ـ بينما ذهب أصحاب الاتجاه الثاني أنَّ القرآن جمع في عصر الخلافة، واستدلّوا على أنَّ القرآن كان مؤلّفًا ضمن سور متفرّقة في عهد رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، وغير مجموع في موضع واحد ولا مرتَّب السوَر، حيث رحل النبيّ والقرآن منثور على العُسُب، واللِّخاف، والرقاع، والأديم[81]، وعِظام الأكتاف والأضلاع، والحرير والقراطيس، وفي صدور الرجال. ومع أنَّ السوَر كانت مكتملة على عهده (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، مرتَّبة آياتها وأسماؤها، غير أنَّ جمعها بين دفَّتين لم يكن حاصلًا بعد؛ نظراً لترقّب نزول قرآن في حياة النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم). ولهذا، لم يُقدِم النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) على جمع القرآن ضمن دفّتين[82]. واستدلّوا بالشواهد التاريخيَّة، منها: ما قاله زيد بن ثابت: قُبض النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) ولم يكن القرآن جُمِعَ في شيء[83]. وتدرّج نزول القرآن واستمرار حالة ترقّب نزول الوحي في حياة النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)، وهو ما حال دون أنْ يجمعه النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) بنفسه[84].

ـ جمعُ الإمام عليّ(عليه السلام) للمصحف:كان الإمام عليّ(عليه السلام) أوَّل مَنْ تصدّى لجمْع القرآن بعد رحيل النبيّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم مباشرة وبوصيّةٍ منه. روي عن الإمام الصادق(عليه السلام): «قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) لعليّ(عليه السلام): يا عليّ، القرآن خلف فِراشي في الصحُف والحرير والقراطيس، فخُذوه واجمَعوه ولا تضيِّعوه، كما ضيّعت اليهود التوراة، فانطلق عليّ(عليه السلام)، فجمعه في ثوب أصفر، ثمّ ختم عليه في بيته، وقال: لا أرتدي حتّى أجمعه، فإنّه كان الرجل ليأتيه فيخرج إليه بغير رداء، حتّى جمعه. قال: وقال رسول الله: لو أنَّ الناس قرأوا القرآن كما أنزل الله ما اختلف اثنان»[85].

لائحة المصادر والمراجع
أسمان، يان، الذاكرة الحضاريّة؛ الكتابة والذكرى والهويّة السياسيّة في الحضارات الكبرى الأولى، تر: عبد الحليم عبد الغني رجب، الطبعة الأولى، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2003.
أيزر، ولفغانغ، عملیّة القراءة: مقترب ظاهراتي، ضمن کتاب «نقد استجابة القارئ مِن الشکلانیّة إلی مابعد البنیویّة»، جین. ب. تومبکنز، تر: حسن ناظم وعلي حاکم، مراجعة وتقدیم: محمّد جواد حسن الموسوس، المشروع القومي للترجمة الذي یشرف علیه المجلس الأعلی للثقافة، 1999.
نویورت، آنگلیکا، قرآن پژوهی در غرب درگ فتگو باخانمآن گلیکان ویورث، هفتآسمان، 34، 1386.
ياكوبسن، رومان، قضايا الشعريّة، تر: محمّد الولي ومبارك حنون، دار التوبقال للنشر، الطبعة الأولى، المغرب، 1988.
ياوس، هانز روبرت، جماليّة التلقّي مِن أجل تأويل جديد للنصّ الأدبي، تر: رشيد بنحدو، الطبعة الأولى، المشروع القومي للترجمة، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2004.

لائحة المصادر الأجنبيّة
Kermani, Navid, God id Beautiful: The Aesthetic Experience of the Quran, Translated by Tony Crawford, Polity Press, Cambridge, 2014.
Neuwirth, Angelika, From and Structure of the Quran, Encyclopedia of the Quran, Vol. 2, 2002.
Neuwirth, Angelika, Two faces of Quran: Quran and Mushaf, Oral Tradition, 25/ 1, 2010.
Neuwirth, Angelika, Scripture, Poetry, And the making of a Community, reading the Quran as a literary text, Oxford University press, London, 2014.
Neuwirth, Angelika, The Quran and late Antiquity, Translated by Samuel Wilder, Oxford University press, 2019.
Noldeke, Theodor, Sketches from Eastern History, translated John Sutherland Black, London, Adam and Charles Black, 1982.
Rachel Friedman, Interrogating Structural Interpretation of the Quran, Der Islam, Bd 87, 2012.
Rippin, Andrew, Contemporary Scholarly Understanding of Quranic Coherence, Al-Bayan, V 11, Nu 2, December, 2013.
Stewart, Devin, Book Review of Scripture, Poetry and the Making of a Community, By Angelika Neuwirth, Journal of Quranic Studies, 18: 3, 2016.

----------------------------------
[1][*]- دكتوراه في جامعة تربية المدرس فی فرع اللغة العربیّة وآدابها.
[**]- أستاذة، جامعة تربية المدرس فی فرع اللغة العربیّة وآدابها.
[2]- Kermani, God id Beautiful, 8.
[3]- Neuwirth, Two faces of Quran: Quran and Mushaf, Oral Tradition, 141- 142.
[4]- A literary fossil.
[5]- Neuwirth, The Quran and late Antiquity, 18.
[6]- Neuwirth, The Quran and late Antiquity, 18.
[7]- Neuwirth, Scripture, Poetry, And the making of a Community, reading the Quran as a literary text, 21.
[8]- ياوس، جماليّة التلقّي مِن أجل تأويل جديد للنصّ الأدبي، 46.
[9]- Emmanuelle Stefanidies.
[10]- Rachel Friedman.
[11]- نويورت، قرآن پژوهی در غرب در گفتگو با خانم آنگلیکا نویورث، 31.
[12]- Neuwirth, The Quran and late Antiquity, IX.
[13]- Neuwirth, From and Structure of the Quran, 247.
[14]- Neuwirth, Scripture, Poetry, And the making of a Community, reading the Quran as a literary text, 22.
[15]- Neuwirth, From and Structure of the Quran, 248.
[16]- Neuwirth, From and Structure of the Quran, 262.
[17]- ياوس، جماليّة التلقّي مِن أجل تأويل جديد للنصّ الأدبي، 45.
[18]- Neuwirth, From and Structure of the Quran, 251.
[19]- Ibid, 251.
[20]- Devin J. Stewart.
[21]- Stewart, Book Review of Scripture, Poetry and the Making of a Community, 138.
[22]- Neuwirth, From and Structure of the Quran, 255.
[23]- Mustansir Mir.
[24]- إنّ هؤلاء الباحثين هم اشرف على تهانوي، وحميد الدين فراهي، وامين احسان اصلاحي، وعزت دروازه، وسيد قطب وكذلك محمد حسين طباطبايي. انظر مير، 1396، 99.
[25]- Rippin, Contemporary Scholarly Understanding of Quranic Coherence, 7.
[26]- Friedman, Interrogating Structural Interpretation of the Quran, Der Islam, 133.
[27]- Ibid, Friedman, Interrogating Structural Interpretation of the Quran, 249.
[28]- Wolfgang Iser.
[29]- Oath.
[30]- Neuwirth, Scripture, Poetry, And the making of a Community, reading the Quran as a literary text, 102.
[31]- Neuwirth, Scripture, Poetry, And the making of a Community, reading the Quran as a literary text, 104.
[32]- Ibid, Neuwirth, Scripture, Poetry, 105
[33]- Ibid, 106.
[34]- Ibid, Neuwirth, Scripture, Poetry, 109.
[35]- راجع: Neuwirth, Scripture, Poetry, And the making of a Community, reading the Quran as a literary text, 108- 109.
[36]- انظر: Nöldeke, Sketches from Eastern History, 35.
[37]- أيرز، عملیّة القراءة: مقترب ظاهراتی، ضمن کتاب «نقد استجابة القارئ مِن الشکلانیّة إلی مابعد البنیویّة»، 123.
[38]- م.ن، 126.
[39]- م.ن.
[40]- Neuwirth, Scripture, Poetry, And the making of a Community, reading the Quran as a literary text, 107.
[41]- أيزر، عملیة القراءة: مقترب ظاهراتي، ضمن کتاب «نقد استجابة القارئ مِن الشکلانیّة إلی ما بعد البنیویّة»، 113.
[42]- Neuwirth, From and Structure of the Quran, 249.
[43]- Brevard Childs.
[44]- Stewart, Book Review of Scripture, Poetry and the Making of a Community, 139.
[45]- Two Faces of Quran.
[46]- Neuwirth, Two faces of Quran: Quran and Mushaf, Oral Tradition, 143.
[47]- Influence.
[48]- نويورت، قرآن پژوهی در غرب در گفتگو با خانم آنگلیکا نویورث، 30.
[49]- Neuwirth, Two faces of Quran: Quran and Mushaf, Oral Tradition, 144.
[50]- Neuwirth, Scripture, Poetry, And the making of a Community, reading the Quran as a literary text, 148.
[51]- Ibid, 149- 155.
[52]- Neuwirth, Two faces of Quran: Quran and Mushaf, Oral Tradition, 144.
[53]- Ibid, Neuwirth, Two faces of Quran: Quran and Mushaf, 142.
[54]- Dialogue.
[55]- Claude Gilliot.
[56]- Stewart, Book Review of Scripture, Poetry and the Making of a Community, 139.
[57]- Neuwirth, Two faces of Quran: Quran and Mushaf, Oral Tradition, 144.
[58]- Ibid.
[59]- Ibid, Neuwirth, Two faces of Quran: Quran and Mushaf.
[60]- Ibid.
[61]- Ibid, Neuwirth, Two faces of Quran: Quran and Mushaf, 148.
[62]- Ibid, 149.
[63]- Ibid, Neuwirth, Two faces of Quran: Quran and Mushaf.
[64]- Ibid, Neuwirth, Two faces of Quran: Quran and Mushaf, 144.
[65]- Neuwirth, Scripture, Poetry, And the making of a Community, reading the Quran as a literary text, 3.
[66]- Ibid, Neuwirth, Scripture, Poetry, And the making of a Community, 1.
[67]- Ibid, Neuwirth, Scripture, Poetry, And the making of a Community, 2.
[68]- Neuwirth, From and Structure of the Quran, 232.
[69]- Stewart, Book Review of Scripture, Poetry and the Making of a Community, 138.
[70]- Neuwirth, Scripture, Poetry, And the making of a Community, reading the Quran as a literary text, 2.
[71]- Jan Assemann.
[72]- Ibid, 102.
[73]- أسمان، الذاكرة الحضاريّة، الكتابة والذكرى والهويّة السياسيّة في الحضارات الكبرى الأولى، 96.
[74]- Neuwirth, From and Structure of the Quran, 252.
[75]- Neuwirth Scripture, Poetry, And the making of a Community, reading the Quran as a literary text, 18.
[76]- Ibid, Neuwirth Scripture, Poetry, And the making of a Community, 188.
[77]- Neuwirth, Two faces of Quran: Quran and Mushaf, Oral Tradition, 142.
[78]- Neuwirth, Scripture, Poetry, And the making of a Community, reading the Quran as a literary text, 5.
[79]- Neuwirth, The Quran and late Antiquity, 9.
[80]- مجمع البيان في تفسير القرآن، ج1، ص43.
[81]- العُسُب: جمع عسيب. وهو جريد النخل، حيث كانوا يكشفون الخوص ويكتبون في الطرف العريض. واللخاف: جمع لخف. وهي الحجارة الرقيقة (صفائح الحجارة). والرقاع: جمع رقعة. وهي مِن الجلد أو الورق أو غيرهما. والأديم: الجلد المدبوغ. انظر: مناهل العرفان في علوم القرآن، ج1، ص202.
[82]- انظر: الإتقان في علوم القرآن، ج1، ص170-172. مناهل العرفان في علوم القرآن، ج1، ص203-204. الميزان في تفسير القرآن، ج12، ص120. التمهيد في علوم القرآن، ج1، ص285.
[83]- انظر: الإتقان في علوم القرآن، ج1، ص160.
[84]- انظر: مناهل العرفان في علوم القرآن، ج1، ص204.التمهيد في علوم القرآن، ج1، ص285.
[85]- القمي، تفسير القمي، ج2، تفسير سورة الناس، ص451.