البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

نقد رؤية تشلكوفسكي بشأن مآتم الشيعة

الباحث :  السيد رضا قائمي ، علي راد
اسم المجلة :  دراسات استشراقية
العدد :  42
السنة :  ربيع 2025م / 1446هـ
تاريخ إضافة البحث :  April / 15 / 2025
عدد زيارات البحث :  29
تحميل  ( 660.953 KB )


السيد رضا قائمي[*]

علي راد [**]

الملخّص [1] [2]

لقد عمد المستشرقون إلى دراسة التراث الإسلامي والعربي، وتوسّعت دراساتهم وتحقيقاتهم لتشمل قضايا دينيّة جزئيّة ومورديّة، أو مذهبيّة داخليّة، ومنها ما كتبه بيتر تشلكوفسكي في موضوع المآتم والعزاء عند الشيعة، تحت عنوان: «طقوس الحداد الشعبيّة عند الشيعة»، وهو موضوع دقيق وحساس ويحتاج في دراسته إلى المشاهدة والحضور المباشر ليتمكّن من فهمها وإدراك دلالالتها الرمزيّة.

وقد استفاد بعضهم في تحليل هذه المفاهيم من الأساليب الجديدة والمتنوّعة، من قبيل: معرفة المفاهيم، ومعرفة الدلالات، ومعرفة النماذج، وقد ارتكب المستشرقون بعض الأخطاء في تحليلاتهم، وقد تراوحت هذه الأخطاء بين أن تكون ناشئة عن نوع رؤيتهم، أو سوء فهمهم، أو بسبب انحيازهم المغرض وعدم حياديتهم.

لقد كان لبيتر تشلكوفسكي -بوصفه مسيحيًّا- رؤية انتقائيّة لواقعة كربلاء، ومن هنا فقد بحث الكثير من المفاهيم وأنماط العزاء على أساس العقائد المسيحيّة، من قبيل: الارتياض، والتضحية والفداء، والعشاء الأخير. ومن هنا كانت تحليلاته لهذه المراسم خاطئة وانتقائيّة. وفي الختام، يمكن القول إنَّ مقالة السيِّد تشلكوفسكي جيّدة، وتعدّ جديدة في أسلوبها، ولو اهتمّ بالأبعاد الأخرى من المسألة، لأمكنه قطعًا أن يقلّل الكثير من النواقص ونقاط الضعف في هذه المقالة.

وحيث إنَّ نقد كل أثر لا يعني بالضرورة رفضه وإبطاله، بل يعنى تقويمه وبحثه، فإننا سوف نسعى في هذه الدراسة إلى بحث نواقص هذه المقالة ونقاط ضعفها أوّلًا، ثمّ ننتقل بعد ذلك إلى التذكير بمزاياها ونقاط قوّتها.

وفي هذه الدراسة سوف نعمل على بحث ونقد آراء بيتر تشلكوفسكي في موضوع المأتم والعزاء عند الشيعة.

كلمات مفتاحيّة: بيتر تشلكوفسكي، المآتم، العزاء، الشيعة، كربلاء، المسيحيّة، التطبير، اللطم، التضحيّة والفداء.

تشلكوفسكي والمآتم الشيعيّة

البروفسور بيتر ج. تشلكوفسكي[3] هو كاتب مقالة «طقوس الحداد الشعبيّة عند الشيعة»[4] في موضوع مآتم الشيعة، وهو مفكّر أمريكي من أصول بولنديّة من الباحثين في حقل الاستشراق، ولا سيّما الثقافة الإيرانيّة، ويشغل حاليًا منصب أستاذ الدراسات الشرق أوسطيّة والإسلاميّة في مجموعة دراسات الإسلام والشرق الأوسط في جامعة نيويورك. تتلخّص مسيرته الدراسيّة والتعليميّة في حصوله على شهادة البكالوريوس سنة 1958م في حقل اللغات الشرقيّة من جامعة جغيلونيان[5] في مدينة كراكوف في بولندا، والدراسة في مدرسة درام في المدينة نفسها في حقل الفنون المسرحيّة، والحصول على شهادة في مستوى البكالوريوس سنة 1962م في حقل تاريخ الشرق الأوسط من مدرسة الدراسات الشرقيّة والأفريقيّة[6] في لندن، والدراسة في مرحلة الدكتوراه في الأدب الفارسي في جامعة طهران؛ بسبب شغفه بالمآتم سنة 1968م (1347هـ.ش). ويمكن الإشارة من بين أعماله إلى: «المأتم»، و«المناجاة والمسرح في إيران»، و«عرض الثورة على خشبة المسرح»...[7]، وفي هذه الدراسة سوف نعمل على بحث ونقد آراء بيتر تشلكوفسكي في موضوع المأتم والعزاء عند الشيعة.

منهج النقد

يقوم نموذج النقد في هذه الدراسة على أساس معرفة فرضيات الكاتب، وارتباطها بآرائه، والالتفات كذلك إلى المصادر المعتمدة من قبله في هذه المقالة أيضًا. من الواضح أن الفرضيات تشكّل الجزء غير المكتوب من المقالة. ومن هنا لا بدّ من التعرّف على هذه الفرضيّات ولوازمها، وفيما لو كان الكاتب قد أخطأ في اتخاذها نعمل على نقدها والتذكير بالمنهج والأسلوب الصحيح بشأنها. يُضاف إلى ذلك أن كل كاتب يتبع في كتابته أسلوبًا، وقد تمّ الالتفات في هذا النقد بأسلوبه على نحو جادّ أيضًا. وقد استفدنا في نقد آراء بيتر تشلكوفسكي من ثلاثة توجهات، وهي عبارة عن: نقد مضمون المقالة، ونقد أسلوبه في بيان بعض المسائل، ونقد بنيّة المقال.

أوّلًا: النقد المضموني

1- عدم الاهتمام بالمصادر الروائيّة والتراث الشفهي في حقل العزاء: لقد اكتفى تشلكوفسكي في تحقيقاته في باب شعائر المآتم والعزاء عند الشيعة بمشاهداته وتجاربه الشخصيّة، ولم يستند إلى أيّ مصدر أصيل في باب عقائد الشيعة تقريبًا. ولم يذكر من بين المصادر سوى «روضة الشهداء»، وقد أحال إليه في موضع واحد فقط، وهو إلى ذلك -بطبيعة الحال- ليس مصدرًا أصيلًا، ولا يُعدّ من المصادر الأوليّة. هذا في حين أن الأدبيات الشيعيّة زاخرة بالآثار العريقة في مختلف عقائد التشيّع. ونشاهد هذه الكثرة في الآثار فيما يتعلق باستشهاد الإمام الحسينA بشكل ملحوظ، يُضاف إلى ذلك أنه لم يستفد حتى من التراث الشفهي وثقافة الناس العاديّين أيضًا. وكان بمقدوره بالنظر إلى هذا الجانب المهم أن يعمل على تحليل مظاهر المآتم والتعازي بشكل أدق.

ومن هنا فإنَّ الاكتفاء بمصدر واحد في هذا الشأن، وعدم الخوض في ثقافة العامّة فيما يتعلّق بحقل العزاء، يؤدّي إلى الحصول على الإدراك الناقص وحتى المغلوط في بعض الموارد بالنسبة إلى ثقافة عاشوراء ومفاهيمها؛ على ما سيأتي بيانه لاحقًا.

2- الرؤية الانتقائيّة إلى واقعة كربلاء: إنَّ المشكلة الأخرى التي يعاني منها بيتر تشلكوفسكي تكمن في نوع نظرته إلى العزاء على الإمام الحسينA وحادثة كربلاء، فحيث يعتنق تشلكوفسكي المسيحيّة الكاثوليكيّة؛ فإنه ينظر إلى هذه الواقعة من زاويّة التعاليم المسيحيّة الكاثوليكيّة؛ فهو بوعي أو عن غير وعي منه يسعى إلى إقامة الصلة بين استشهاد الإمام الحسينA وبين رفع السيِّد المسيح عيسى بن مريمA فوق الصليب. نشير فيما يلي إلى نماذج من هذه الصلة في تطبيقاته ومقارناته:

أ. منها: يستعمل بيتر تشلكوفسكي لبيان مراسم العزاء -من قبيل: ضرب الظهور بالسلاسل، واللطم على الصدور- المصطلح الإنجليزي (Suffering)- بمعنى الألم والتعذيب والارتياض الشخصي- على نطاق واسع، ومن ذلك قوله: «يبدو أنّ الأجزاء الأساسيّة واحدة، بيد أن أساليب جلد الذات (الارتياض) تختلف؛ فهناك طائفة تضرب على صدورها بأكفّها (اللطم)، وطائفة ثانيّة تضرب ظهرها بالسلاسل، وطائفة ثالثة تضرب هاماتها بالسيوف أو المدى (التطبير)؛ بحيث تسيل الدماء على الوجوه والرقاب والصدور»[8]. إن هذا النوع من الأفعال والممارسات شائع بين الكاثوليكيّين، فإنهم في الأسبوع المقدّس وذكرى مقتل السيِّد المسيح، يضربون بالسوط -وما يشبه السلاسل في مراسم عزاء الشيعة- على ظهورهم، ويمارسون شعائر العزاء. وبطبيعة الحال فإن ضرب الظهر بالسوط يمثل نوعًا من المساهمة والمشاركة في العذاب الذي قاساه السيِّد المسيح قسرًا ليفتدي بذلك ذنوب الناس، وليس ذلك منهم حزنًا على مقتل السيِّد المسيح[9]. وأمّا في المقابل فإنَّ الشيعة إنما يقومون بهذه الممارسات لمجرّد إظهار العزاء، وهذه الأمور تمثّل أشكالًا مختلفة للعزاء الذي كان موجودًا منذ القدم، ولا يمكن وضع تشبيه لها. من ذلك -على سبيل المثال- أنّ ضرب الظهور بالسلاسل يمثّل شكلًا من أشكال العزاء الذي تسلّل إلى إيران من شبه القارّة الهنديّة وباكستان، مع فارق أنّ الضرب بالسلاسل في إيران يتمّ بشكل طبيعي ومن دون إراقة للدماء، في حين أنّ الهنود والباكستانيين يدقون الأخشاب بالمسامير ويضيفون شفرات حادّة إلى السلاسل ممّا يؤدّي إلى إدماء الجسد عند ضربه بها[10]. ولا يزال المرتاضون الهنود يمارسون الارتياض ويعملون على ترويض أجسادهم بهذه الطريقة. وهناك من يعتقد بطبيعة الحال أن هذا النوع من العزاء مأخوذ من المسيحيّين الكاثوليك، ولكن بالنظر إلى حجم الارتباط الثقافي بين المسيحيّين والإيرانيّين، وكذلك طريقة دخول هذا النوع من العزاء إلى إيران[11]، يبدو هذا الاحتمال مستبعدًا.

يُضاف إلى ذلك أنه قد تمّت الإشارة -في الكتب المطبوعة في شرح المآتم والتعازي التقليديّة لدى الشيعة في مختلف أنحاء العالم- إلى هذا الموضوع، وهو أنّ العزاء التقليدي للناس الذين يعيشون في هذه المناطق عبارة عن: الضرب بالسلاسل، واللطم على الصدور، والتطبير، والتي كانت شائعة في تلك المناطق منذ القدم[12]؛ في حين لم يرد ذكر هذا النوع من أساليب العزاء -في مورد سائر المناطق الأخرى التي يقطنها الشيعة- بوصفه تراثًا وتقليدًا شائعًا في تلك المناطق[13]. وفي الوقت نفسه حتى لو افترضنا تسلّل هذا الأسلوب في العزاء من المسيحيّة، لا يمكن القبول بوجود التشابه بين الأمرين فيما يتعلّق بالخلفيّات الاعتقاديّة بينهما.

ب. ومنها: التضحيّة والفداء: فإن استعمال بيتر تشلكوفسكي لمفردة (passion)[14] في الإشارة إلى استشهاد الإمام الحسينA، بدلًا من استعمال مفردة (Martyrdom) يدعو إلى التأمّل أيضًا؛ وذلك لأن هذه المفردة إنما تُستعمل في الأساس لبيان مصائب واستشهاد السيِّد المسيحA وصلبه بحسب عقيدة المسيحيّين بطبيعة الحال. وفي الحقيقة فإنَّ استعمال عبارة (passion of Christ) بين المسيحيّين شائعة جدًّا، بحيث يمكن الادّعاء أنها صارت علمًا للسيِّد المسيح بينهم. فقد ذهب المسيحيّون إلى الاعتقاد بأنّ السيِّد المسيح عيسى بن مريمA قد صُلب وتعذّب من أجل إنقاذ جميع الناس من الخطيئة الأولى. وقد عمد بيتر تشلكوفسكي إلى دراسة الإمام الحسينA واستشهاده من هذه الزاوية أيضًا، وقد تحدّث عن استشهاده بوصفه أعظم حادثة للنجاة والخلاص والفوز من وجهة نظر الشيعة[15]، وأكّد في عدّة مواطن على فوز الشيعة في ظل هذه الواقعة والشعائر الخاصّة بها[16].

إنَّ هذه الرؤية بالتحديد تأتي بتأثير من الرؤية المسيحيّة القائلة بمفهوم «التضحيّة والفداء». إنَّ الشيعة في مشاركتهم في المآتم وإقامة العزاء على سيِّد الشهداءA وإن كانوا يرجون بذلك شفاعته يوم القيامة، إلّا أنّ هذا الأمر يختلف عن الرؤية المسيحيّة فيما يتعلّق بعذاب السيِّد المسيح وصلبه.

وللمزيد من التوضيح نقول إنَّ من بين العقائد الأساسيّة في المسيحيّة مفهوم «الفداء» بمعنى إنقاذ البشريّة بواسطة موت السيِّد المسيح عيسىA[17]. وبذلك فهو ينظر إلى استشهاد الإمام الحسينA على أنّه من سنخ تضحيّة السيِّد المسيح، وأنّه جاء من أجل إنقاذ المسلمين من المعاصي، هذا في حين أن ثمّة فرقًا واضحًا بين هاتين المسألتين.

ج. مفهوما التضحيّة والفداء الشفاعة: إنَّ الاختلاف الجوهري بين مفهوم «التضحيّة والفداء» وبين مفهوم «الشفاعة» يكمن في أنّ المسيحيّين يذهبون إلى الاعتقاد بأنّ السيِّد المسيحA قد حقّق التكفير عن ذنب الإنسان مرّة واحدة وإلى الأبد، وحطّم -من خلال تسليمه الكامل لإرادة الله- ذلك الجدار الحاجز الذي أحدثه ذلك الذنب بين الله المطلق وبين الإنسان العاصي والمتمرّد[18]. ومن هنا فإنَّ الله سبحانه وتعالى قد كفّر عن جميع الذين آمنوا بعيسىA. إنَّ موت السيِّد المسيح على الصليب أدّى إلى غفران ذنوب البشر، كما استوجب كامل مرضاة الله عزّ وجل وتصالحه مع البشريّة[19].

وفي المقابل فإنَّ لمفهوم الشفاعة في ثقافة الشيعة معنى آخر يختلف عن المفهوم السائد في المسيحيّة. لقد تمّ التأكيد كثيرًا على مفهوم الشفاعة بوصفها واحدة من أسباب نجاة الإنسان من عذاب الجحيم، على ما ورد في القرآن الكريم والروايات المأثورة عن المعصومينb. وقد ذكر العلّامة الطباطبائي أنّ الأخبار الدالّة على تحقّق الشفاعة تدلّ بأجمعها على هذه المسألة، وهي أنّ المذنبين من المؤمنين تنالهم الشفاعة؛ بمعنى أنهم إمّا ينجون من دخول النار، أو أنهم يخرجون منها بعد دخولهم فيها[20]. يُستفاد من مجموع آيات الشفاعة أن الذين ستشملهم الشفاعة في يوم القيامة هم المذنبون المتدينون بدين الحقّ، أو المذنبون الذين ارتضى الله دينهم[21]. وكذلك فإن الشفاعة إنما تأتي في الموقف الأخير من مواقف يوم القيامة، حيث يكون المذنب مشمولًا للعفو والمغفرة[22].

والنتيجة هي أنّ المسيحيّة تذهب إلى الاعتقاد بأنّ الله سبحانه وتعالى قد أنجز هذه المهمّة -حتى قبل أن يريد الإنسان أو يقدر على ذلك-، وذلك بواسطة تضحيّة المسيح عيسىA ورفعه على الصليب وموته؛ وبذلك فإنَّ جميع أتباع السيِّد المسيح قد نجوا وتخلّصوا من قيود الذنب والموت. في حين أنه من وجهة نظر الإسلام يجب على كل شخص من خلال التمسّك بالقرآن الكريم وأهل بيت النبّي الأكرمs، ومن خلال سعيه ومجهوده والقيام بصالح الأعمال واكتساب الفضائل الأخلاقيّة وتهذيب النفس وتجنّب الذنوب طوال حياته في الدنيا ليحصل على السعادة. وعلى هذا الأساس فإنَّ «النجاة» من وجهة نظر الديانة المسيحيّة حاصلة منذ هذه اللحظة لأتباع السيِّد المسيح عيسىA، وأمّا في الإسلام فإنَّ «النجاة» رهن بالإيمان الحقيقي بالأصول المحوريّة للدين الحق والقيام بالأعمال الصالحة التي سيرى الإنسان ثمارها ونتائجها في عالم ما بعد الموت والنشور[23].

د. العشاء الرباني: إنَّ المورد الآخر الذي تعرّض له بيتر تشلكوفسكي في ضوء الخلفيّة الفكريّة المسيحيّة التي يعتقد بها، هو الاتحاد مع الإمام ومشاركته في مصائبة من طريق القيام ببعض الأمور، من قبيل: اللطم على الصدور، وضرب الظهر بالسلاسل، ومن ذلك قوله: «هناك طائفة تضرب على صدورها بأكفّها (اللطم)، وطائفة ثانية تضرب ظهرها بالسلاسل، وطائفة ثالثة تضرب هاماتها بالسيوف أو المدى (التطبير)؛ بحيث تسيل الدماء على الوجوه والرقاب والصدور... تأتي جميع هذه الأفعال والممارسات للتعبير عن الحزن على الجراح والدماء التي سالت من أجساد شهداء كربلاء. إن جلد هؤلاء المعزّين لذواتهم إنما يأتي من أجل اتحادهم مع آلام الإمام الحسينA، وكأنّ كربلاء يمكن أن تتجدّد في الوقت الراهن، ويمكن لهؤلاء أن يكون لهم سهم في المشاركة في واقعة كربلاء، والاستشهاد مع الحسينA»[24].

أو كما ذكرنا في المورد السابق، إنهم من خلال رؤية أنفسهم في المرايا المنصوبة على جذوع النخيل، يمكن لهم إيجاد هذا الشعور في وجدانهم: «يمكن للناس رؤية صورهم المنعكسة على المرايا التي يُكسى بها العرش السائر للإمام الحسينA (النخيل)، وبذلك يمكنهم مشاهدة أنفسهم وهم يسيرون في ركاب الحسين»[25].

وقال في مورد قرّاء المراثي: «إنهم يعملون على إيجاد الشعور بالاتحاد التامّ لدى المستمعين؛ بحيث إنهم يتّحدون مع آلام الشهداء (وهم الذين يمكن الاستعانة بكل واحد منهم بوصفه واسطة وشفيعًا في يوم القيامة)»[26].

ويبدو أنّ رؤيته هذه قد نشأت من مفهوم «العشاء الأخير» في المسيحيّة. إنَّ مفهوم «العشاء الربّاني الأخير» موضوع يؤمن به جميع المسيحيين في العالم ويعملون به دون استثناء. يذهب المسيحيّون إلى الاعتقاد بأنّ السيِّد المسيح في ليلته الأخيرة مع الحواريّين، عمل على جمعهم على مائدة وأطعمهم الخبز والشراب، وقال لهم: إنَّ هذا الخبز مصنوع من أجزاء لحمي لتأكلوه، وإن الشراب متّخذ من دمي لتشربوه. وفي الحقيقة فإنَّ المسيحيّين يؤمنون بأنّ الحواريّين بواسطة أكلهم لذلك الخبز وشربهم لذلك العصير قد أصبحوا جزءًا من السيِّد المسيح، أو صاروا في الحقيقة هم المسيح عيسى، وإنَّ هذا الأمر يعدّ واحدًا من واجبات جميع الفِرَق المسيحيّة، وهم يتمسّكون بهذه العقائد على نحو شديد! وبعبارة أخرى: إنَّ المسيحيّين يعتقدون أنهم من خلال تناول ذلك الخبز والشراب في العشاء الأخير قد اتحدوا مع السيِّد المسيح، بل وصاروا هم المسيح في الحقيقة والواقع[27].

بيد أنّ هذا الأمر لا يكون صادقًا في مورد الشيعة؛ فقد ذكرنا أنّ الشيعة إنما يقومون ببعض الأمور من قبيل: اللّطم على الصدور، والضرب بالسلاسل على الظهور، والضرب على الرؤوس بالسيوف والتطبير، وذلك تعبيرًا عن العزاء والمواساة، وإحياءً لذكر الإمام سيد الشهداءA، وليس من أجل الشعور بالاتحاد مع شهداء كربلاء أو التماهي مع الإمام على ما هو موجود في المسيحيّة. كما أنهم يتخذون بعض الأطعمة والثياب الخاصة بهذه المناسبة والمراسم لمجرّد البركة، ولا يُراد منها الوصول إلى مفهوم الاتحاد مع الإمام الحسينA. إنهم إنما يتبركون بتلك الآثار تعبيرًا عن احترامهم وتقديسهم لأئمّة الدين، وتعبيرًا عن محبتهم ومودتهم الصادقة والخالصة لأئمّتهم. وحيث إن القبور والأضرحة المقدّسة للنبّي الأكرمs وأهل بيتهb تنتسب إليهم، فقد أصبح التعلّق بأعتابهم المقدّسة والتبرك بها جزءًا من التراث الديني، ويتمّ التعبير عن ذلك سواء بلمسها أو تقبيلها أو تناول الطعام والشراب المعدّ من أجل التقرّب إلى الله بواسطتهم.

3- الرؤية الفنيّة المطلقة إلى العزاء

إنَّ لبيتر تشلكوفسكي نظرة فنيّة بحتة تجاه التعزية، وينظر إليها بوصفها مشهديّة مسرحيّة. ومن هنا فإنَّه إنما يؤكّد على البُعد الفنّي لهذه المراسم، وفي شرحه وبيانه للتعزية بالمقارنة إلى المسرحيّة الغربيّة والتعزية، إنما يتعرّض للعناصر المؤثّرة في كمال أو نقص المسرحيّة، من قبيل شكل الديكور والمسرح وأزياء الممثّلين وأدوات المشهد والكومبارس في الهوامش والخلفيّات[28].

كما أنّه قد تعرّض للخطأ حتى في شكل نظرته إلى هذه المراسم أيضًا. إنَّ التعزية جزء من مراسم العزاء والمأتم الذي يقيمه الشيعة، والشخص الشيعي لا ينظر إلى العزاء بنظرة فنيّة؛ سواء في ذلك الشخص الذي يلعب دورًا فيها أو ذلك الشخص الذي يتفرّج على الأداء، إنما يقوم بهذا الأمر رجاء تحصيل الثواب الذي يرصده الله لمن يشارك في إقامة العزاء على سيِّد الشهداءA، وليس مجرّد مشاهدة عمل مسرحي تراجيدي والاهتمام به من الناحية الفنيّة. وبعبارة أخرى: إنَّ التعزية ليس لها منشأ ظهور فنّي كي يتمّ العمل على تقويمها بالمعايير المسرحيّة الغربيّة، واعتبار مسارها التاريخي نظيرًا للمسار التاريخيّة بالنسبة إلى التراجيديّات الإغريقيّة[29]؛ بل إنَّ مبنى تبلور هذا النوع من المراسم يعود إلى عقائد عامّة الناس وسعيهم من أجل إحياء ذكر أولياء الدين من طريق إقامة العزاء والمآتم حزنًا على مظلوميّتهم واستشهادهم. وإنَّ التقريرات التاريخيّة عن إقامة أوّل مصاديق المآتم والتعازي بعد الإسلام، إنما تشير إلى هذه الحقيقة أيضًا. وقد تحدّث ابن الأثير في بيان وقائع عام 363 للهجرة عن «فتنة عظيمة» وقعت بين أهل السنة والشيعة في بغداد، قائلاً: «حمل أهل «[سوق] الطعام» -وهم من السنّة- امرأة على جمل وسمّوها عائشة، وسمّى بعضهم نفسه طلحة، وبعضهم الزبير، وقاتلوا الفرقة الأخرى، وجعلوا يقولون: نقاتل أصحاب علي بن أبي طالب»[30]. ولا يبعد أن يكون هذا السلوك منهم معارضة لما يقوم به أهل الكرخ -من الشيعة- حيث كانوا يقيمون مراسم «تشبيه واقعة كربلاء»[31]. من الواضح أنّ كلا الطرفين كان يقوم بمراسم التشابيه للتعبير عن معتقده، وكذلك من أجل القيام بواجب العزاء، ولم يكن لهذه المراسم صبغة تمثيليّة وفنيّة أبدًا.

إنَّ هذه المسألة لها ظهور في التعزية والأشعار التي تُنشد فيها أيضًا، من ذلك على سبيل المثال أن الذي يلعب دور شمر بن ذي الجوشن، يدخل في بداية الأمر وهو يخطو في الساحة خطوات واسعة، ويقول بصوت مرتفع: «ألا أيّها الأصحاب! لست بشمر، ولا هذا الذي بيدي سيف، إنما مرادنا هو إحياء هذا المجلس بالبكاء والنحيب».

4- خطأ تأريخي في جعل التوّابين أسوة في إقامة العزاء

لقد ذهب تشلكوفسكي في موضع من مقالته إلى الاعتقاد بأن أسوة العزاء وزيارة قبر الإمام الحسينA هو ما قام به التوابون؛ وقال في هذا الشأن: «هناك تقريرات تتحدّث عن زيارة هؤلاء الأشخاص، وكان ذلك منهم بعد أربعة أعوام من استشهاده. لقد كان الزائرون مقاتلون، وقد طالبوا بالثأر لدم الحسين، وقد أطلقوا على أنفسهم عنوان «التوّابين». وقد ثاروا ضدّ عبيد الله بن زياد... وفي أثناء هذه الثورة والمواجهة المسلّحة الانتقاميّة، توقف هؤلاء المقاتلون [في كربلاء] وعاهدوا الشهداء بالثأر، وأخذوا بالبكاء والعويل، وظلّوا على ذلك يومًا كاملًا، وأعادوا خلال الليل تجسيد واقعة كربلاء والقتل الذريع الذي لحق بأصحابهم في يوم عاشوراء، وأكثروا من البكاء وذرف الدموع، حتى بُلّت رمال الصحراء من عبراتهم. ولم يكن هذا الأداء سوى نموذج مصغر عن المراسم التي سنشهدها لاحقًا، ولا سيّما فيما سوف يطلق عليه عنوان إقامة مجالس العزاء»[32].

كما يتّضح من عبارة بيتر تشلكوفسكي، فإنَّه ينسب بداية ظهور مجالس العزاء الحسيني إلى مرحلة التوّابين، ويجعلها أسوة ونموذجًا لمجالس العزاء لدى الشيعة عبر التاريخ. وبعبارة أخرى: إنه يرى أن نموذج العزاء الشائع بين الشيعة -ونعني بذلك قراءة المراثي والبكاء على سيِّد الشهداء- تعود بجذورها إلى ما قام به التوابون، وإن هذا الأمر يرتبط بمرحلتهم. هذا في حين أن الذي نجده في النصوص التاريخية يثبت أنّ مراسم العزاء على الإمام الحسينA تعود إلى زمن أبعد من ذلك بكثير، وكانت تقام بأجمعها على طريقة ونمط مراسم التوّابين. وقد تمّت إقامة هذه المراسم في أماكن مختلفة ومن قبل أشخاص مختلفين، ومن ذلك على سبيل المثال:

أ. العزاء على أهل البيتb في كربلاء: في ضوء ما ورد في المصادر التاريخيّة، فإنَّ أوّل مراسم للعزاء على شهداء كربلاء، كانت في اليوم الحادي عشر من المحرّم -[بعد مقتل الإمام الحسينA بيوم واحد فقط]- من قِبَل من تبقّى من أهل بيت الإمامA في كربلاء، ففي ذلك اليوم عندما مرّوا بموكب الأسارى من أهل البيتb على الأجساد الطاهرة للشهداء، أخذت النساء بالبكاء والنحيب والضرب على خدودهن. وفي هذا المأتم أخذت زينب الكبرى سلام الله عليها تخاطب جدّها رسول اللهs وترثي أخاها، حتى أبكت العدو قبل الصديق[33].

ب. عزاء نساء بني هاشم في المدينة المنوّرة: بعد وصول خبر استشهاد أبي عبد اللهA إلى أهل المدينة، تجمّعت نساء بني هاشم وأخذن يندبن ويولولن ويلطمن وجوههن، ونشرت بنت عقيل بن أبي طالب شعرها، وأخذت تنشد أبياتًا في رثاء شهداء كربلاء وذمّ آل أميّة[34].

ت. أم سلمة وعزاؤها على الإمام الحسينA: روى اليعقوبي في تاريخه: «كان أوّل صارخة في المدينة أمّ سلمة -زوج رسول اللهs- كان [رسول الله] دفع إليها قارورة فيها تربة، وقال لها: إنَّ جبرائيل أعلمني أن أمّتي تقتل الحسين، وأعطاني هذه التربة، وقال لي: إذا صارت دمًا عبيطًا، فاعلمي أنّ الحسين قد قتل. وكانت [القارورة] عندها، فلما حضر ذلك الوقت جعلت تنظر إلى القارورة في كل ساعة، فلما رأتها قد صارت دمًا صاحت: واحسيناه وابن رسول الله! وتصارخت النساء من كل ناحية، حتى ارتفعت المدينة بالرجّة التي ما سُمع بمثلها قطّ»[35].

ث. زينب الكبرىh ومجالس العزاء في المدينة: كما ورد تقرير هذا النوع من إقامة المأتم والعزاء عند عودة موكب الأسارى إلى المدينة المنوّرة، على ما روي في كتاب الملهوف لابن طاووس عن بشر بن حذلم، قال: «لما قربنا من المدينة قال لي علي بن الحسينA: ادخل المدينة وانع أبا عبد الله الحسينA. قال بشر: فركبت فرسي وركضت حتى دخلت المدينة... ورفعت صوتي بالبكاء... ثمّ قلت: هذا علي بن الحسين مع عمّاته وأخواته قد حلّوا بساحتكم ونزلوا بفنائكم، وأنا رسوله إليكم ... فما بقيت في المدينة مخدّرة ولا محجّبة إلّا برزن من خدورهن، مكشوفة شعورهن، مخمّشة وجوههن، ضاربات خدودهن، يدعوَن بالويل والثبور؛ فلم أرَ باكيًا ولا بكيّة أكثر من ذلك اليوم، ولا يومًا أمرّ على المسلمين منه بعد وفاة رسول اللهs»[36]. وطبقًا لبعض الروايات كانت مجالس العزاء تقام في منازل أهل البيتb ولا سيّما في بيت السيِّدة زينب الكبرىh لفترة طويلة[37].

ج. أوّل زائر للإمام في كربلاء ورثائه الحسينA: يُروى أنّ عبد الله بن الحرّ الجعفي قد ذهب من الكوفة إلى واقعة كربلاء مع جمع من أصحابه وأتباعه، وكان ذلك بعد أيام من مقتل الإمام الحسينA، ووقف عند قبره وأنشد أبياته المعروفة في رثاء الإمام الحسين، والتي يقول فيها:

فيا لك حسرة ما دمت حيًا .. تردّد بين صدري والتراقِ

حسين حين يطلب بذل نصري .. على أهل الغواية والشقاقِ

ولو أني أواسيه بنفسي .. لنلت كرامة يوم التلاقِ

فلو فلق التلهّف قلب حيّ .. لهمّ اليوم قلبي بانفلاقِ

وقد ورد في الكثير من المصادر التاريخيّة أنه كان أوّل شخص يزور الحسينA بعد مقتله في كربلاء[38].

ح. مجلس العزاء الحسيني في الشام: يروي الطبري أنّ قافلة الأسارى بعد وصولها إلى الشام، وإلقاء الإمام علي بن الحسين زين العابدينA خطابه على الناس، سمح يزيد لأهل بيت الإمام الحسينA بإقامة العزاء؛ فأقوا العزاء في الشام على مدى ثلاثة أيام[39].

كما يتبيّن من الموارد المتقدّمة بوضوح؛ فإنَّ منشأ العزاء يعود في شكله ومضمونه إلى طريقة عزاء أهل البيتb؛ فإنهم في الحقيقة هم أوّل من أقام مجالس العزاء على الإمام الحسينA. وعلى هذا الأساس لا بدّ من الإقرار بأن القول باقتداء المعزّين الشيعة في نمط عزائهم بالتوابين قول خاطئ قد نشأ من قلّة اطّلاع تشلكوفسكي على المصادر التاريخيّة، وعدم رجوعه إلى المصادر الخاصّة بعزاء الشيعة. بيد أنّه كان بمقدوره أن يتدارك هذا الخطأ بشيء من التدقيق والمزيد من البحث في الكتب التاريخيّة.

ثانيًا: النقد المنهجي

1. الإفراط في الرمزيّة

لدى بيتر تشلكوفسكي نظرة رمزيّة إلى مراسم العزاء في أيام محرّم وصفر، وإن كانت الأمثلة التي يذكرها على الرمزيّة في بعض الموارد مقبولة من وجهة نظر الشخص الشيعي؛ ولكنه -في الوقت نفسه- يبالغ في الرمزيّة في عدد من الموارد إلى حدّ الإفراط. وبشكل عامّ فإنَّ مهمّة المخاطب في المواجهة مع النص أو المثال الذي يشتمل على كلا المعنيين يمكن أن يكون على نحوين، وهما:

النحو الأوّل: اكتشاف المعنى والمفهوم؛ والنحو الثاني: اختراع المعنى والمفهوم.

ويبدو أنّ القواعد اللغويّة ترى أن مهمّة المخاطب تتلخّص في اكتشاف المعنى وليس اختراعه؛ إذ في الحالة الثانية لا تتحقق الغاية والهدف من توظيف اللغة واستعمالها، ولا يتحقّق انتقال الخطاب بشكل صحيح؛ إذ يكون المتكلّم قد قصد معنى، بينما يكون السامع قد اختلق معنى آخر ونسبه إلى المتكلم. وفي هذه الحالة لا يقوم الارتباط الداخلي بين المتكلّم والسامع. يُضاف إلى ذلك أنه إنما يمكن نسبة المعنى إلى الكلمات فيما لو سمحت بذلك القواعد، والقواعد إنما تسمح بنسبة المعاني العامّة دون المعاني الخاصّة. وعلى هذا الأساس لا يمكن القول إن بمقدور المخاطب أن يعمل على اختلاق معنى ونسبته إلى المتكلم؛ وذلك لأنّه في مثل هذه الحالة يكون قد عمل على خصخصة المعنى[40].

في النظرة إلى الرموز وبحثها وتحليلها يجب الالتفات إلى هذه المسألة، وهي أنّه يجب بحث الدلالات والرموز بالنظر إلى صاحب الدلالة، ويبدو أنّ تشلكوفسكي يرى أنّ الرموز في حدّ ذاتها تفتقر إلى المعاني، ويجب إلقاء المعاني عليها أو اختراع المفاهيم لها (الرأي الثاني). وبعبارة أوضح: إنَّه في التعاطي مع الدلالات يعمل على اختلاق المعاني، ولا يعمل على العثور على المعاني. وللأسف الشديد! فإنَّه يذهب إلى هذا المبنى في التعاطي مع الرموز، ويرى تأثيرًا لهذا المبنى وهذه الرؤية في أحكامه وتحليلاته.

من ذلك على سبيل المثال أنّه يرى في تعليق المرايا على النخيل (وهو التقليد الشائع في محافظة يزد في مشاهد العزاء) صورة رمزيّة، ويقول: من خلال هذه الرمزيّة يمكن للناظر الخارجي أن يرى نفسه سائرًا في ركاب الإمام الحسينA[41]. ولكن لا وجود لمثل هذا التفسير في أنظار الناس من وراء القيام بهذا الفعل؛ ولا يمتلكون فلسفة خاصّة لقيامهم بهذا الفعل، وحينما نسألهم عن مغزى ذلك، يقولون إنهم يقومون بذلك لإضفاء المزيد من الجاذبيّة والجمال منه إلى خلق مثل هذا الشعور والإحساس.

بينما يرى تشلكوفسكي أنّ شكل النخل مقتبس من دموع النادبين والمعزّين للإمام الحسينA، ويقول في ذلك: «وفي هذا الشأن نجد للنخيل على مدى القرون شبهًا بالعرش السائر الأصلي المفقود، وقد تحوّل إلى منحوتة على أشكال وأحجام مختلفة تتراوح ما بين الصغير إلى الكبير جدًّا؛ وهو شيء يشبه الشبكة الخشبيّة المشبّكة على شكل قطرة دمع تعيد لنا ذكرى دموع المؤمنين وهم يذرفون العبرات حزنًا على الإمام الحسين»[42].

وقد ذكروا تفاسير مختلفة لشكل هذه المنحوتة، ولكن لا يوجد أيّ سند لأيّ واحد منها، فتبقى هذه التفاسير بأجمعها في حدود الاحتمال[43]، ومن بينها هناك ثلاثة احتمالات جديرة بالتأمّل:

أ. حيث تضاف لهذه المنحوتة بعض الزينة تصبح شبيهة بالنخلة، فإنهم يطلقون عليها تسميّة النخلة[44].

ب. يُستفاد من هذا التابوت على مقاس أصغر لتشييع بعض الأشخاص المميزين في بعض مناطق إيران، ولا سيّما في محافظة يزد[45]. ويحتمل أنهم بسبب عظمة الإمام الحسينA يصنعون له تابوتًا أكبر من ذلك بكثير. ولكن يحتمل أيضًا أن يصنعوا تابوتًا أصغر كنموذج عن التابوت الأكبر مع تطعيمه بالمرايا، وليس هناك من دليل يثبت صحّة الاحتمال الأوّل.

ت. إنَّ لصنع تماثيل الشهداء وتوابيتهم التشبيهيّة، ومراسم حملها في مجاميع العزاء، سابقة عريقة في الثقافة الإيرانيّة. والنموذج البارز والمعتبر لهذا التقليد يعود إلى المراسم المأتميّة السنويّة التي تقام بمناسبة موت سياوش[46]، وحمل تابوته والطواف به. بناء على الروايات التاريخيّة فإنَّ سكان فرارود كانوا حتى القرون الأولى من ظهور الإسلام يقيمون هذه المراسم في كلّ عام، تخليدًا لذكرى موت البطل الأسطوري الإيراني سياوش، الذي سُفك دمه الطاهر ظلمًا؛ فيصنعون له شبيهًا، ويضعونه في محمل أو هودج ويطوفون به في سكك المدينة، وهم يضربون على رؤوسهم وصدورهم وينوحون وينتحبون[47].

هناك شواهد تثبت أن الطواف بالنخيل إنما هو استمرار لتراث سياوش الضارب في القدم. وفي بحث مراسم سياوش نرى على جدار في قصر «بنجكنت»[48] بعض المعزّين وهم يحملون هودجًا يحتوي على جثمان سياوش وثلاثة من المعزّين، ويحتوي الهودج على شبابيك يمكن للناظر أن يرى جثمان سياوش من خلالها. إنَّ الشكل المشبّك للنخل واحتوائه على الكثير من النوافذ الصغيرة يمثّل تداعيًا لمفهوم ذلك الهودج[49]. إنَّ النخلة تشبه في استقامتها شجرة السرو كثيرًا. ومن هنا فإنَّ شجرة السرو تُعدّ في الثقافة العامة رمزًا للخلود والبطولة والحياة الأخرويّة والحريّة، وكلّها تمثل تداعيًا لأبرز صفات الإمام الحسينA وخصائصه[50].

الملفت أنّه في التفاسير الخاصّة بشكل هذه المنحوتة لم يرد أيّ ذكر لشباهتها بالدموع أبدًا، ومن هنا يبدو أنّ تفسير تشلكوفسكي لهذا الأمر، يُعدّ من أضعف الاحتمالات في هذا الشأن؛ وذلك لأنّه أوّلًا: لم يرد هذا الكلام في أيّ كتاب أو مصدر معتبر ومدوّن، ولا حتى في أيّ نقل شفوي. وثانيًا: هناك احتمالات أخرى يمكن ذكرها لشكل المنحوتة، حيث تبدو أكثر معقوليّة، من قبيل أن نعتبرها مقتبسة من العمارة الإسلاميّة الخاصة، أو أنها استنساخ لشكل القبّة.

الاحتمال الآخر الذي يذكره تشلكوفسكي عبارة عن اتخاذ سقف السقايّة شكل القبّة؛ إذ يقول: «إنَّ هذا العمل يمثّل بيانًا رمزيًّا لتأثير العطش في كربلاء [على الأشخاص]، وكذلك يمثّل رمزًا للدفن [والزيارة]؛ حتّى أنهم يضعون فوق مخزن الماء قبّة تعبّر عن ضريح الشهيد المقدّس»[51].

وفي هذا المورد يمكن القول أيضًا: إنَّ هذا النمط الخاص إنما يعود إلى الأسلوب المعماري الإيراني الخاصّ، حيث يبنون السقف مقوّسًا على شكل قبة لغرض تبريد الفضاء الداخلي، ولا يبعد في هذا المورد بالتحديد أن يكون الغرض هو تبريد الماء. وبعبارة أخرى: ليس هناك من دليل أو تفسير لبناء بعض السقايات على هذا الشكل، وليس من الواضح ما هو منشأ هذا الشكل بالتحديد.

إن بيتر تشلكوفسكي لا يقدّم دليلًا على رمزيّته، وعلى هذا الأساس كما يمكنه أن يصوّر رمزًا لشعوره وإحساسه الخاص، ويرمز له في ضوء ذوقه الخاص، كذلك يمكن لكل واحد منّا أن يقوم بمثل ذلك أيضًا. بمعنى أنّه كما أن التفسير الذوقي لشخص ما في هذه المراسم لا يكون معتبرًا، فإن الرمزيّة التي ينفرد تشلكوفسكي بها لا تكون معتبرة أيضًا.

إن سبب هذا التحليل الخاطئ يعود -على احتمال كبير- إلى عدم استفادته من المعلومات الشفهيّة للناس العاديين؛ وهذا الأمر ينشأ من مبناه الخاطئ نفسه. وبعبارة أخرى: إن بيتر تشلكوفسكي قد عمد -من خلال مشاهداته الشخصيّة ونزعته الفنيّة- إلى بلورة رمزيّته الخاصة اعتمادًا على رؤيته لهذه المراسم وشعوره الشخصي تجاهها، ولم يعتمد كثيرًا على معلومات المعزّين من الشيعة أنفسهم.

2. تجاهل الرموز المحوريّة

إنَّ من بين الأمور التي تمّ تجاهلها في مقالة تشلكوفسكي، ولم يتعرّض إليها الكاتب بالشكل المناسب إلا ضمن بعض المسائل الأخرى، مسألة ذرف الدموع من قبل المعزّين في رثاء الإمام الحسينA. في بحث الرموز يجب التعرّض إلى جميع الرموز بالمقدار الكافي، وفي هذا الشأن تمّ تجاهل الدموع والعبرات بوصفها واحدة من العناصر البالغة التأثير في مراسم العزاء. في ضوء الأحاديث والتعاليم الشيعيّة، لا بدّ من الإقرار بأنَّ الدمعة تمثّل نقطة مركزيّة ومحوريّة في شكل العزاء، وقد ورد التأكيد في الروايات على البكاء وذرف الدموع على مصائب أهل البيتb[52]. وبعبارة أخرى: إنََّ الرموز ومختلف أنواع شعائر العزاء إنما ترد لاستدرار الدمعة، وهكذا يتبلور شكل العزاء على أهل البيتb. إنََّ هذا التأكيد والاهتمام بلغ حدًّا عُدّ فيه ذرف الدمع على سيِّد الشهداءA سببًا في غفران الذنوب والسعادة والفلاح في يوم القيامة، وقد ورد التأكيد على ذلك في كلمات الأئمّة الأطهارb [53]. والأشعار والمراثي -التي تُقرأ وتُنشد في التعازي، وهي مقتبسة من مفاهيم التشيّع الأصيل- تدلّ على هذا المطلب أيضًا. من قبيل قول دعبل الخزاعي:

أفاطم لو خلت الحسين مجدّلًا .. وقد مات عطشانًا بشط فراتِ

إذن للطمت الخدّ فاطم عنده .. وأجريت دمعت العين في الوجنات

أو قول الشيخ محمّد علي الأعسم:

تبكيك عيني لا لأجل مثوبة .. لكنما عيني لأجلك باكيّة

تبتلّ منكم كربلا بدم ولا .. تبتلّ مني بالدموع الجاريّة

ولكن للأسف الشديد! فقد تمّ تجاهل هذا الرمز المحوري في هذه الدراسة، ولم تحظ بالاهتمام المناسب؛ في حين كان بمقدور تشلكوفسكي أن يستفيد من هذا المفهوم من أجل بيان التعاليم والرموز الشيعيّة كثيرًا.

وقد تمّ بيان محوريّة الدمعة بالنسبة إلى سائر رموز العزاء لدى الشيعة ضمن النموذج أدناه:


وبالإضافة إلى الدمعة، توجد ثلاثة رموز أخرى لدى الشيعة، حيث ترتبط بها ارتباطًا وثيقًا، ومع ذلك لم ترد الإشارة إليها في هذه المقالة من قبل بيتر تشلكوفسكي، وهذه الرموز الثلاثة عبارة عن: الماء، والدم، والكفّ. وإنه لممّا يدعو إلى العجب كيف غفل الكاتب -على الرغم من امتلاكه لنظرة فنيّة- عن ملاحظة هذه الرموز رغم حضورها الكبير في ثورة عاشوراء ومواكب العزاء التي يقيمها الناس زاخرة بها، ومع ذلك فإنه لم يُشر إليها أبدًا.

ثالثًا: المزايا

1. التناسب في الشكل والبنية

تقدّم المقالة توضيحًا مقتضبًا حول الإمام الحسينA وحادث استشهاده. وقد عرّف كاتبها بحادثة كربلاء بوصفها من أكبر الحقائق إيلامًا، وأنها تستوجب السعادة والخلاص عند الشيعة.

ثمَّ تحدّث عن خصائص هذه الواقعة العابرة للتاريخ، وعمد إلى التعريف بالمراسم المرتبطة بهذه الواقعة الأليمة بوصفها النواة الأصليّة للإيمان الشيعي، وأنها تشكّل مصدر قوّة للشيعة في جميع أنحاء العالم. كما أنّه يؤكّد على التأثير العميق والمتجذّر لهذه الواقعة في التفكير والوجدان الشيعي، معتبرًا هذه الحادثة سببًا في ثورات الشيعة ضد الظلم والجور والطغيان على طول التاريخ.

تحظى المقالة بتناسب بنيوي جيّد، وتتعرّض إلى المراسم الشائعة في كل بلد على نحو مستقل. فقد تحدّث الكاتب -في فصول مستقلّة تشمل إيران والعراق وسائر البلدان الأخرى في العالم العربي، والشعوب الناطقة باللغة التركيّة، والهند وباكستان والمناطق الكاريبيّة- عن التقاليد الشائعة في إقامة العزاء لدى أبناء كل منطقة من تلك المناطق، وأشار إلى الأماكن التي تمّ تأسيسها في كل واحد من تلك البلدان للقيام بتلك المراسم.

وقد قام بيتر تشلكوفسكي في عدد من الفصول بإجراء مقارنة حول شكل مراسم العزاء في مختلف المناطق والأصقاع، وقال في ذلك: «في العراق الذي يضمّ الكثير من البقاع المقدّسة مثل كربلاء والنجف، لا تختلف المواكب عن مثيلاتها الإيرانيّة كثيرًا. من ذلك على سبيل المثال أنَّ مواكب الضرب بالسلاسل في إيران تنقسم إلى صفّين متوازيين على جانبين ويشكلون طابورين متساويين، والكلّ متّشح بالسواد مع قطع في القسم الأعلى من الثوب ممّا يلي الكتف حيث الموقع المباشر للضرب بالسلاسل على الجسد. والذي يُسمّى في إيران بـ«المجموعة»، يُصطلح عليه في العراق بـ«الموكب». وكذلك فإن الكثير من المواكب يتمّ تنظيمها من قبل مختلف الأصناف وأصحاب الحِرَف، وكذلك المدن والحارات أيضًا»[54].

2. النظرة الحياديّة

لقد تحدّث الكاتب -ببيان توصيفي وحيادي إلى حدّ كبير- حول شرح وتوضيح مراسم العزاء عند مختلف المجتمعات الشيعيّة، كما أن أسلوبه في الاستفادة من الألفاظ والمفردات مناسب جدًّا ولا ينطوي على أيّ انحياز سلبي، وهو حتى في مورد من قبيل وصف التطبير؛ حيث كان بمقدوره أن يلجأ إلى الألفاظ السلبيّة، بيد أنه تجنّب ذلك، واكتفى بمجرّد بيان توضيح عادي لهذه الممارسة، وقال: «كما تقوم مجموعة أخرى بضرب رؤوسها بالسيوف والقامات أو المُدى (التطبير)، بحيث تسيل الدماء على الوجوه والرقاب والصدور»[55].

3. النثر الموزون والتوصيف المناسب

لقد استفاد بيتر تشلكوفسكي في هذه المقالة من نثر سلس ومبسّط، وتجنّب الحشو والزوائد، وقد سعى إلى بيان شكل مراسم عزاء الشيعة للقارئ الغربي على أفضل وجه، وقد تحدّث عن مراسم العزاء ومصاديقها، ثم قام بشرح كل واحد منها بشكل منفصل وعلى نحو مسهب، ذاكرًا جميع جزئيّاتها وتفاصيلها. ومن ذلك يمكن التدقيق -على سبيل المثال- في وصفه للسقاية (السبيل): «هناك في منعطفات الطرق والأزقّة في المدن التراثيّة في إيران أو في الأسواق التجاريّة تجد تجويفًا في الجدران على شكل رفّ له باب مشبّك كبير من النحاس وفيه صنبور للماء، وكذلك يحتوي هذا الموضع على عدد من الأقداح والكؤوس النحاسيّة المثبّتة في الموضع الأصلي ببعض السلاسل ... وقد تمّ تزيين هذا التجويف أو الرف بنقوش من الموزائيك المشتمل على مشهد يمثّل جانبًا من واقعة كربلاء أو الخصائص الرمزيّة للتشيّع، وفيه نافذة مشبّكة قليلة الارتفاع أيضًا، حيث يتمكّن الناس من الوصول إلى الماء من فوقها»[56].

4. الحضور الميداني للكاتب في مراسم العزاء

إنَّ النقطة الإيجابيّة الأخرى التي يجب أن تُسجّل لكاتب هذه المقالة، عبارة عن حضوره وتواجده الميداني في جميع هذه المراسم. وبعبارة أخرى: إنه لم يكتب هذه المقالة اعتمادًا منه على كلمات أو كتابات الآخرين، وإنما شارك بنفسه في مراسم العزاء وأجرى دراسة وتحقيقًا حولها من خلال حضوره الميداني المباشر.

وجاء في بيان السيرة الذاتيّة لبيتر تشلكوفسكي، أنّه قد قام بالكثير من الدراسات حول التعزية والمأتم، وكانت له أسفار ورحلات كثيرة في هذا الشأن، وقد تحدّث عن ذلك بنفسه قائلًا: «لقد قرأت الكثير حول التعزية، وقد شدَدت الرحال إلى الفاتيكان لكي أطلع على أكبر مكتبة مختصة بالتعزية في العالم. وكان السفير الإيطالي في إيران، ما بين عامَيْ (1950-1955م)، بدوره شغوفًا بالتعازي، وقد جمع هذه الكتب والمصادر ثمّ أودعها في مكتبة الفاتيكان. حيث تضمّ هذه المكتبة 1055 مصدرًا من مصادر التعزية في الفاتيكان، وهي تخصّ إيران فقط، وقد سافرت من إيران وصولًا إلى سواحل البحر الكاريبي؛ لأقف على مساحة انتشار التعزية في العالم»[57].

وهكذا نلاحظ أنه فيما يتعلّق بباب العزاء والمآتم عند الشيعة، لم يقتصر على قراءاته ومسموعاته فقط، بل وقد شاهد جلّ ما كتبه بعينه من خلال حضوره ومشاركته الشخصيّة والمباشرة في جميع أنحاء العالم ابتداءً من إيران، وصولًا إلى البحر الكاريبي؛ حيث جزر ترينيداد وتوباغو.

5. توظيف الرموز في التعرّف على المعتقدات

يعمد تشلكوفسكي -في تحليل مراسم العزاء والرموز المرتبطة بها- إلى الاستفادة من علم الدلالات[58]. وحيث إنَّ كل واحدة من هذه الرموز تمثّل مفهومًا ومعنى فيما وراء الظاهر على نحو القطع واليقين، فإنَّ هذا الأمر يعدّ نشاطًا جديدًا وبديعًا من قبل الكاتب. وقد عمد إلى بحث وتحليل بعض الرموز، كما قام بتحليل ودراسة المحكي عنها من وجهة نظره بطبيعة الحال.

والنقطة المهمّة في هذه المسألة هي أنّه في ضوء المبنى الخاص الذي تبنّاه في علم الدلالات والرموز قد أخطأ السبيل في بعض الموارد؛ على ما تقدم بيانه في قسم نقاط الضعف والنواقص، ولكن هذا الأمر لا ينقص شيئًا من قيمة هذا الأسلوب الجديد، بل يتعيّن على الباحث أن يجتنّب تكرار هذه الأخطاء في مساره العلمي.






الخاتمة

لقد تمّ تدوين مقالة «مراسم التعزية الشائعة لدى الشيعة» بشكل جيّد وطريقة حياديّة. وقد كان للكاتب حضور ميداني في مراسم العزاء، وكان ينظر إلى هذه المراسم بوصفه مراقبًا وناظرًا خارجيًّا. يُضاف إلى ذلك أنّه في تحليله لمراسم العزاء عند الشيعة قد استفاد من علم الرموز والدلالات، وهذا يُعدّ اتجاهًا جديدًا في هذا المجال، حيث يمكن للباحثين في هذا الحقل أن يكتشفوا مفاهيم جديدة من خلال العمل على توظيف هذا المنهج.

بيد أنّ الكاتب قد بالغ وأفرط -للأسف الشديد!- في نظرته الرمزيّة، الأمر الذي أدّى تبعًا لذلك إلى وقوعه في شراك التحليلات الخاطئة لهذه الرموز، وكانت أخطاؤه تعود إلى عدم رجوعه إلى المصادر الشيعيّة وإلى كتب المقاتل، وكذلك عدم التفاته إلى الثقافة العامّة فيما يتعلق بمراسم العزاء أيضًا. في حين كان بمقدوره أن يقلل أخطاءه في هذا الشأن -من خلال تعديل مبناه الخاص في علم المعنى القائم على أساس اختراع المفهوم- إلى حدّ كبير.

لقد كان لبيتر تشلكوفسكي -بوصفه مسيحيًّا- رؤية انتقائيّة إلى واقعة كربلاء. ومن هنا فقد بحث الكثير من المفاهيم وأنماط العزاء على أساس العقائد المسيحيّة، من قبيل: الارتياض، والتضحيّة والفداء، والعشاء الأخير؛ ومن هنا كانت تحليلاته لهذه المراسم خاطئة وانتقائيّة.

ومن بين المشاكل والآفات التي عانى منها تشلكوفسكي في حقل الكتابة حول التشيّع، عدم التطابق الكامل بين الكلمات والمصطلحات الإنجليزيّة وبين ما عليه واقع الأمر في الثقافة واللغة الإسلاميّة. فإنه على الرغم من الجهد الكبير الذي بذله في وضع المصطلحات ومقارنة اللغات في الثقافة الشيعيّة، إلّا أنّه لم يحقّق نجاحًا كبيرًا في هذا الشأن. وبعبارة أخرى: ربما بدلًا من الإشكال على الكاتب، كان يتعيّن علينا أن نجد حلًّا لهذه المشكلة منذ البداية. وفي الحقيقة والواقع، حيث إننا لم نقم بأيّ إصلاح في حقل مسائلنا الدينيّة والمذهبيّة بأنفسنا، كيف نتوقع من كاتب غربي أجنبي عن ثقافة وعقائد الشيعة أن يعمل على توظيف الكلمات الصحيحة التي تعبّر عن المضمون الكامل والصحيح لمعتقداتنا ومفاهيمنا الشيعيّة؟! ومن هنا يبدو أن على ثقافة العلوم أن تتولى بالدرجة الأولى هذه المهمّة الخطيرة، وأن تعمل على وضع المصلحات المتناسبة مع اللغات الأجنبيّة في حقل العلوم الدينيّة.

وفي الدرجة الثانيّة تقع على علماء الدين مهمّة تأليف الكتب الدينيّة باللغات الأجنبيّة، ولا سيّما في حقل المقاتل وتاريخ الأئمّة الأطهارb لتمهيد الطريق أمام التحقيق والتأليف الصحيح في هذا المجال.

وعلاوة على ذلك فإن تشلكوفسكي لم يعمل في باب الاهتمام بالرموز إلى ذكر بعض الرموز المحوريّة في التعزية، وهو أمر يدعو إلى التعجّب. وإنَّ من بين أهمّ هذه الرموز: «الدمعة»، والتي ورد التأكيد عليها في الروايات وفي الأشعار والمراثي كثيرًا، حتّى يمكن القول إنَّ جميع الرموز والمظاهر الأخرى إنما تعود إلى هذا الرمز المحوري. وفي الوقت نفسه فقد تمّت الإشارة إلى هذه المسألة بشكل باهت جدًّا.

وفي الختام، يمكن القول إنَّ مقالة السيِّد تشلكوفسكي جيّدة، وتعدّ في أسلوبها جديدة وبديعة. ولو أنّه كان قد اهتمّ بالأبعاد الأخرى من المسألة، لأمكنه قطعًا أن يقلل الكثير من النواقص ونقاط الضعف في هذه المقالة.







لائحة المصادر والمراجع

1. ابن الأثير، عز الدين أبو الحسن علي بن أبي الكرم، كامل تاريخ بزرگ اسلام و ايران، ترجمه إلى اللغة الفارسيّة: أبو القاسم حالت وعباس خليلي، مؤسسه مطبوعاتي علمي، طهران، 1371هـ.ش.

2. بلوكباشي، علي، «نخل گرداني»، مجموعه از ايران چه مي دانيم، دفتر پژوهش‌هاي فرهنگي، طهران، 1380هـ.ش.

3. تاورنيه، جان باتيست، سفرنامه تاورنيه، ترجمه إلى اللغة الفارسيّة: أبو تراب نوري، انتشارات كتابخانه سنائي و كتابفروشي تأييد، طهران وإصفهان.

4. حصوري، علي، سياوشان، نشر چشمه، طهران، 1384هـ.ش.

5. حوار مع المستشرق الأمريكي بيتر تشلكوفسكي، تحت عنوان: «عاشق إيران وتعزيه هستم»، المنشور في العدد 3574 من صحيفة إيران، بتاريخ: 29/ بهمن/ 1385هـ.ش.

6. الخليلي، جعفر، موسوعة العتبات المقدّسة، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، ط2، بيروت، 1407هـ/ 1987م.

7. دلاواله، بيترو، سفرنامه بيترو دلاواله، ترجمه إلى اللغة الفارسيّة: شجاع الدين شفاء، شركت انتشارات علمي و فرهنگي، طهران، 1370هـ.ش.

8. دهخدا، علي أكبر، لغت نامه، انتشارات بهمن، طهران، 1341هـ.ش.

9. السيِّد بن طاووس، رضي الدين علي بن موسى، الملهوف على قتلى الطفوف، تحقيق الشيخ فارس الحسون، دار الأسوة، طهران، 1414هـ.

10. شمس الدين، محمد مهدي، ثورة الحسين في الواقع التاريخي والوجدات الشعبي، مطبعة الآداب، النجف، 1390هـ.

11. صادقي، هادي، درآمدي بر كلام جديد، نشر طه و معارف، قم، 1382هـ.ش.

12. طالبي، «نجات شناسي از ديدگاه اسلام و مسيحيت»، مجلة طلوع، العدد 10-11، صيف وخريف عام 1373هـ.ش.

13. الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الطبري، ترجمه إلى اللغة الفارسيّة: أبو القاسم پاينده، انتشارات أساطير، ط5، طهران، 1375هـ.ش.

14. العلّامة الطباطبائي، السيِّد محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن، ترجمه إلى اللغة الفارسيّة: السيِّد محمد باقر الموسوي الهمداني، دفتر انتشارات اسلامي، ط1، قم، 1363هـ.ش.

15. العلامة المجلسي، بحار الأنوار، مؤسسة الوفاء، بيروت، 1404هـ.

16. غيلن، ويليام وهنري مارتن، الكتاب المقدس (إنجيل يوحنا)، الباب 19، الفقرة 1، انتشارات أساطير، طهران، 1383هـ.ش.

17. فقيهي، علي أصغر، تاريخ آل بويه، انتشارات سازمان مطالعه و تدوين كتب علوم انساني دانشگاه ها (سمت)، طهران، 1378هـ.ش.

18. كارري، جيوفاني فرانتشسكو، سفرنامه كارري، ترجمه إلى الفارسيّة: عباس نخجواني وعبد العلي كاررنگ، إداره كل فرهنگ و هنر استان آذربايجان شرقي، تبريز، 1348هـ.ش.

19. گلي زواره، «تحقيقي درباره نخل ماتم»، صحيفة اطلاعات، بتاريخ 7/ 6/ 1370هـ.ش.

20. ماليه، ألبير، تاريخ ملل شرق و يونان، ترجمه إلى اللغة الفارسيّة: عبد الحسين هژير، انتشارات سمير، طهران، 1383هـ.ش.

21. محمدي ري شهري، محمد، دانشنامه امام حسينg، ترجمه إلى اللغة الفارسيّة: عبد الهادي مسعودي، دار الحديث، قم، 1388هـ.ش.

22. معتمدي كاشاني، سيد حسين، عزاداري سنتي شيعيان، الناشر: المؤلف، كاشان، 1383هـ.ش.

23. اليعقوبي، أحمد بن أبي يعقوب بن واضح، تاريخ اليعقوبي، ترجمه إلى اللغة الفارسيّة: محمد إبراهيم آيتي، انتشارات علمي و فرهنگي، ط6، طهران، 1371هـ.ش.

24. Chlkowski, “Popular Shiʿi Mourning Rituals” in Shi’ism, V. III, New York, Routnedge, 2008.



[1](*)- المصدر: نُشرت هذه المقالة باللغة الفارسيّة تحت عنوان «انگاره چلکوفسکی در عزاداری شیعه؛ نقد دیدگاه چلکوفسکی در مجموعه (SHI’ISM)» في مجلّة «تاریخ فرهنگ و تمدن اسلامی» الفصليّة التي تصدر في جمهوريّة إيران الإسلاميّة، السنة الرابعة، العدد 67، سنة الإصدار2013م، ص57-76.

*- باحث في كليّة كلام أهل البيتb.

[2]**- أستاذ مساعد من جامعة طهران.


[3]- Peter J. Chlkowski.


[4]- Popular Shi’i mourning rituals.


[5]- Jagiellonian.


[6]- Soas.


[7]- و«فن الإيمان في الثورة الإسلاميّة الإيرانيّة»، و«من الصحراء اللاهبة وصولًا إلى شواطئ ترينيداد»، و«سفر (إشاعة) المأتم من آسيا إلى منطقة الكاريبي»، و«الفنّ والفنّانون في إيران إبّان الحقبة القاجاريّة». وفي خضم ذلك كان مركز اهتمام يصبّ في حقل «المأتم»/ حوار مع المستشرق الأمريكي بيتر تشلكوفسكي، تحت عنوان: «عاشق إيران وتعزيه هستم»، المنشور في العدد 3574 من صحيفة إيران، ص18، بتاريخ 29/ بهمن/ 1385هـ.ش. (مصدر فارسي).


[8]- See: Chlkowski, “Popular Shiíi Morning Rituals” in Shi’ism, V. III, New York, Routnedge, 2008. P.157.


[9]- غيلن، ويليام وهنري مارتن، الكتاب المقدس (إنجيل يوحنا)، الباب 19، الفقرة 1.


[10]- الخليلي، جعفر، موسوعة العتبات المقدّسة، ج8، (قسم كربلاء)، ص372.


[11]- هناك الكثير من كتب الرحلات التي كتبها الأوروبيّون في الحقبة الصفويّة والزنديّة، والتي اشتملت على الكثير من التوضيحات حول آداب وتقاليد الإيرانيّين، ومن بينها طرق العزاء في شهر محرم، ومع ذلك فإنها بأجمعها تخلو من أيّ أثر للضرب بالسلاسل كأسلوب لإظهار العزاء. (تاورنيه، جان باتيست، سفرنامه تاورنيه، ج2، ص412-417، انتشارات كتابخانه سنائي و كتابفروشي تأييد، طهران وإصفهان؛ كارري، جيوفاني فرانتشسكو، سفرنامه كارري، ص125؛ دلاواله، بيترو، سفرنامه بيترو دلاواله، ج2، ص123-124؛ و...). وعليه فبالنظر إلى عدم رؤيّة هذا الأسلوب من العزاء أو حتى الارتياض حتى في عصر القاجاريّة، وكذلك مع ملاحظة المستوى المنخفض للارتباط بين شيعة إيران والمسيحيّين في هذه المرحلة، يبدو من المستبعد أخذ هذه الطريقة في التعبير عن العزاء من المسيحيّين.


[12]- معتمدي كاشاني، سيد حسين، عزاداري سنتي شيعيان، ج3، ص274 فما بعد. (مصدر فارسي).


[13]- م.ن، ج3، ص1.


[14]- See: Chlkowski, “Popular Shiíi Morning Rituals” in Shi’ism, V. III, P.157.


[15]- See: Ibid.


[16]- See: Ibid, P.155-63.


[17]- غيلن، ويليام وهنري مارتن، الكتاب المقدس (إنجيل مرقس)، الباب 3، الفقرة 16-19.


[18]- طالبي، «نجات شناسي از ديدگاه اسلام و مسيحيت»، مجلة طلوع، العدد 10-11، ص107. (مصدر فارسي).


[19]- م.ن.


[20]- الطباطبائي، السيِّد محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن، ج1، ص277.


[21]- م.ن، ص259.


[22]- م.ن، ص264.


[23]- طالبي، «نجات شناسي از ديدگاه اسلام و مسيحيت»، مجلة طلوع، العدد 10-11، ص107. (مصدر فارسي).


[24]- See: Chlkowski, “Popular Shiíi Morning Rituals” in Shi’ism, V. III, P.157.


[25]- See: Ibid, P.175.


[26]- See: Ibid, P.163.


[27]- غيلن، ويليام وهنري مارتن، الكتاب المقدس (إنجيل مرقس)، الباب 14، الفقرة 21-25.


[28]- See: Chlkowski, “Popular Shiíi Morning Rituals” in Shi’ism, V. III, P.167-168.


[29]- ماليه، ألبير، تاريخ ملل شرق و يونان، ج1-3، ص255.


[30]- ابن الأثير، عز الدين أبو الحسن علي بن أبي الكرم، الكامل في التاريخ، ج7، ص72-73.


[31]- فقيهي، علي أصغر، تاريخ آل بويه، ص31. (مصدر فارسي).


[32][1]- See: Chlkowski, “Popular Shiíi Morning Rituals” in Shi’ism, V. III, P.156-167.


[33]- ابن الأثير، عز الدين أبو الحسن علي بن أبي الكرم، كامل تاريخ بزرگ اسلام و ايران، ج11، ص194؛ الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الطبري، ج7، ص3065.


[34]- ابن الأثير، عز الدين أبو الحسن علي بن أبي الكرم، كامل تاريخ بزرگ اسلام و ايران، ج11، ص204.


[35]- اليعقوبي، أحمد بن أبي يعقوب بن واضح، تاريخ اليعقوبي، ج2، ص182.


[36]- السيِّد بن طاووس، رضي الدين علي بن موسى، الملهوف على قتلى الطفوف، ص226 فما بعد.


[37]- شمس الدين، محمد مهدي، ثورة الحسين في الواقع التاريخي والوجدات الشعبي، ص265.


[38]- ابن الأثير، عز الدين أبو الحسن علي بن أبي الكرم، كامل تاريخ بزرگ اسلام و ايران، ج12، ص169؛ الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الطبري، ج7، ص3085.


[39]- الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الطبري، ج7، ص3074.


[40]- صادقي، هادي، درآمدي بر كلام جديد، ص88. (مصدر فارسي).


[41][1]- See: Chlkowski, “Popular Shiíi Morning Rituals” in Shi’ism, V. III, P.175.


[42][2]- See: Ibid, P.157.


[43]- گلي زواره، «تحقيقي درباره نخل ماتم»، صحيفة اطلاعات، بتاريخ: 7/ 6/ 1370هـ.ش. (مصدر فارسي).


[44]- دهخدا، علي أكبر، لغت نامه، ج47، ص397. (مصدر فارسي).


[45]- م.ن.


[46]- سياوش بن كيكاووس: ورد في الأساطير الإيرانيّة -على ما هو موجود في الشاهنامة- أنه قد حصل خلاف بينه وبين أبيه، فخرج من بلدته وآثر الاغتراب في بلاد أخرى، حيث تعرّض هناك إلى اغتيال غادر وقتل مظلومًا، وعمّ البلاد حزن شديد على قتله وأخذ الناس يحيون ذكرى مقتله في كل عام، وتذكر الكتب التاريخيّة أن مراسم العزاء السنوي عليه قد امتدت لقرن كامل من الزمن. (المعرّب).


[47]- بلوكباشي، علي، «نخل گرداني»، مجموعه از ايران چه مي دانيم، ص13. (مصدر فارسي).


[48]- بنجكنت أو بنجكند: مدينة إيرانيّة كان لها حضور كبير في الأدب الفارسي، وهي تقع الآن ضمن الحدود الجغرافيّة لجمهوريّة طاجيكستان. (المعرّب).


[49]- حصوري، علي، سياوشان، ص106. (مصدر فارسي).


[50]- م.ن.


[51][4]- See: Chlkowski, “Popular Shiíi Morning Rituals” in Shi’ism, V. III, P.158.


[52]- العلّامة المجلسي، بحار الأنوار، ج10، ص103، وج44، ص289-290، وغير ذلك من المواضع الأخرى.


[53]- بحار الأنوار، م.س، ج44، ص278، و283، و292 ومواضع أخرى.


[54] [1]- See: Chlkowski, “Popular Shiíi Morning Rituals” in Shi’ism, V. III, P.169.


[55][2]- See: Ibid, P.157.


[56]- See: Chlkowski, “Popular Shiíi Morning Rituals” in Shi’ism, V. III, P.158.


[57]- حوار مع المستشرق الأمريكي بيتر تشلكوفسكي، تحت عنوان: «عاشق إيران وتعزيه هستم»، المنشور في العدد 3574 من صحيفة إيران، ص18. (مصدر فارسي).


[58]- علم الدلالات أو علم الرموز (semiology): دراسة الدلالات والرموز. وقد بدأ هذا الحقل بخطب اللغوي السويسري الشهير (فرديناند دو سوسير في جامعة جنيف. فإنه من خلال رفض الاعتقاد القائل بوجود علاقة حقيقيّة بين اللفظ والشيء، أشار للمرّة الأولى إلى التوافقيّة في هذا الشأن. وقال بخطأ القول بوجود أيّ علاقة أو ارتباط ذاتي بين اللفظ والشيء وكذلك بين اللفظ والمفهوم، وقال بأن هذه العلاقة إنما هي وليدة التواطؤ والتوافق الاجتماعي. وقال في «درس اللغة العامّة» في توضيح علم الدلالات: يمكن لنا تصوّر علم يبحث في قراءة حياة الدلالات في مجتمع ما. إنَّ هذا العلم جزء من علم النفس الاجتماعي، وبالتالي سوف يكون جزءًا من علم النفس العام. إنَّ علم الدلالات يعمل على بيان العناصر المكوّنة لهذه الدلالات، وما هي القوانين التي تحكمها.