البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

توشيهيكو إيزوتسو ونقده للمقاربات الاستشراقيّة في أبعادها اللغويّة والفكريّة

الباحث :  د. محمد حسن بدر الدين
اسم المجلة :  دراسات استشراقية
العدد :  42
السنة :  ربيع 2025م / 1446هـ
تاريخ إضافة البحث :  April / 15 / 2025
عدد زيارات البحث :  82
تحميل  ( 541.768 KB )


د. محمد حسن بدر الدين [1][*]

الملخّص

لقد ساهم العالم الياباني توشيهيكو إيزوتسو المتخصّص في الدّراسات الإسلاميّة، والفلسفة وعلم اللّغة، والدّراسات القرآنيّة في تقديم الإسلام من منظور مختلف في الأوساط الغربيّة، حيث بيّن لهم كيف يمكن للفكر الإسلامي أن يُقارب القضايا الإنسانيّة والفلسفيّة المعاصرة. وكانت تطبيقاته لعلوم الدّلالة والسّيميائيّات على النّصوص الإسلاميّة سببًا في اهتمام الباحثين المسلمين بحياته وأفكاره. وأسهمت دراساته في تهيئة الطّريق أمام الباحثين المسلمين والغربيّين لاستكشاف القرآن باعتباره منظومة فكريّة متكاملة، وهذا الأمر كان من أسباب اعتبار كتبه مراجع أساسيّة. ولقد برز في نقده للاستشراق لناحية ضعفهم العامّ في اللّغة العربيّة تارةً، وتعصّبهم وتعاليهم في موضوع البحث، وهيمنة الأغراض الشخصيّة، وغياب الموضوعيّة والنّزاهة؛ ولهذا تجد المستشرقين الغربيّين يقولون ما يشاؤون عن الأديان ولا سيّما الإسلام دون تهيّب من التعقّب والمتابعة، وذلك استنادًا على أنّ الجمهور الغربي لا يعرف شيئًا عن الإسلام والمسلمين، فيقول المستشرق ما يشاء دون تهيّب من التعقّب والمتابعة.

وقد حاول إيزوتسو نقد هذه النّقاط وبيان تهافتها من خلال مجموعة من المسائل، حصرناها في أربعة عشر وجهًا. ورغم أنّه لم يذكر المستشرقين بصورة مباشرة، فإنّه انتقد مقارباتهم، وصحّح مناهجهم، وخاطب المثقّفين الغربيّين بأساليب فيها الكثير من عبارات المخالفة والتّجاوز. ولم يقتصر في ذلك على كتاب واحد، وإنّما برزت مخالفته لمدرسة الاستشراق، في كتبه وأبحاثه المتعدّدة.

كلمات مفتاحية: توشيهيكو إيزوتسو، المستشرقون، الدّراسات القرآنيّة، منهجيّة التّحليل اللّغوي.

مقدّمة

توشيهيكو إيزوتسو (Toshihiko Izutsu) (1914-1993م) هو عالم ياباني بارز. تخصّص في الدّراسات الإسلاميّة، والفلسفة وعلم اللّغة، وأثّر تأثيرًا مُعتبرًا في الدّراسات القرآنيّة الحديثة. وكانت تطبيقاته لعلوم الدّلالة والسّيميائيّات على النّصوص الإسلاميّة سببًا في اهتمام الباحثين المسلمين بحياته وأفكاره.

وأهمّ الفوائد التي تقدّمها لنا أعمال إيزوتسو، باعتباره عالمًا من ذوي الخبرة:

أوّلًا: التّعريف بالفلسفات الغربيّة والشرقيّة، باعتماد مقاربات عديدة وثريّة.

ثانيًا: الباع الطّويل في دراسة فلاسفة اللّغة العربيّة والفارسيّة، والتّعريف بهم في الأوساط الأكاديميّة.

ثالثًا: الحرص على تقديم أعماله وأفكاره، وفق نظام من المفاهيم اللغويّة، والهياكل الفكريّة، طبّقها بجرأة على القرآن الكريم، والفلسفة الاسلاميّة، والتصوّف الإسلامي، عبر أصناف من التّحليل الدّلالي الصّبور للمصطلحات الأساسيّة للأنماط المختلفة من ألوان التّعبير الواردة في النّصوص الدينيّة والفلسفيّة.

وسنقدّم في بداية هذا البحث، نبذة عن حياته وأهمّ أعماله. ثمّ نركّز على ردوده على الاستشراق الغربي، ومدى تأثّره بالمفكّرين المسلمين الإيرانيين، في تكوّن تلك الرّدود، وبلوغها درجة الوعي العميق في فهم الفكر الإسلامي والغربي معًا.

النّشأة والتّكوين وتوسيع الاهتمامات

وُلد توشيهيكو إيزوتسو في 4 مايو 1914م في طوكيو اليابان، في عائلة مثقّفة ومهتمّة بالفكر والأدب. أبدَى اهتمامًا كبيرًا بتعلّم اللّغات والثّقافات غير اليابانيّة في مرحلة مبكّرة من حياته. وقد بدأ يدرس اللّغات الأجنبيّة بنفسه، حيث كان إتقان اللّغات أداة رئيسيّة لمساعدته في الدّخول إلى أعماق الثّقافات المختلفة، ممّا مهّد له السُّبُلَ لفهم الفلسفات والدّيانات بطريقة مباشرة.

وقد ذكر المؤرّخون لسيرته أنّ عائلته حفّزته مبكّرًا لدراسة اللّغات والآداب والفلسفات[2].

كانت دراسته العليا في جامعة كيو (keio universiy) في طوكيو، حيث تخصّص في الفلسفة واللّغات، وبرزت قدرته الفائقة في تعلّم لغات متعّددة، إلى درجة الإتقان مثل: الصينيّة، والعربيّة، والفارسيّة، والإنجليزيّة، والفرنسيّة، والألمانيّة، وهذه القدرة منحته إمكانات استثنائيّة ليتعمّق في قراءة المصادر الأصليّة لتلك اللّغات، وهذا ما ساعده أيضًا على قراءة الآداب العالميّة والأبحاث الفكريّة، في لغاتها الأصليّة دون الاعتماد على التّرجمات[3].

واتّجه في الوقت نفسه إلى دراسة الفلسفة والأدب الشّرقي والغربي.،كما تعرّف على مفاهيم علميّة وفلسفيّة متنوّعة حول الإسلام والفكر الإسلامي، حدّدت على ما يبدو، ميوله واتّجاهه نحو الدّراسات الإسلاميّة، فتعمّق في العربيّة، وأظهر موهبة عظيمة في التّعاطي مع تراكيبها وأصولها.

وساعده هذا المدخل على دراسة القرآن والآداب الإسلاميّة من النّصوص الأصليّة، ورغم أنّ معظم كتاباته كانت باللّغة الإنجليزيّة، فقد انتقل إلى الكتابة باللّغة اليابانيّة حتّى وفاته عام 1993م، في كاماكورا مسقط رأسه.

الاتّجاه نحو الدّراسات القرآنيّة

بدأ اهتمامه بالدّراسات الإسلاميّة بصفة عامّة من خلال دراسة القرآن وعلومه، وقد استخدم علم الدّلالة وسيلة لتحليل مفردات القرآن، تحليلًا دقيقًا ومتكاملًا، حيث قام بربط معاني الكلمات والتّركيز على استعمالاتها في سياقاتها المتعدّدة.

وقد مكّنه هذا المنهج من إبراز المعاني العميقة للكلمات القرآنيّة، بالاستناد أيضًا على دواوين الشّعر الجاهلي، في المصادر القديمة، والمراجع الحديثة؛ وبذلك استطاع أن يترجم القرآن الكريم إلى اللّغة اليابانيّة، وقد ذكر بعض الباحثين المختصّين في هذا الميدان، أنّ ترجمته تُعتبر من أفضل التّرجمات التي حافظت على المعاني الأصليّة، وقرّبت المفاهيم القرآنيّة للمختصّ وللقارئ العادي[4].

أكّد ايزوتسو أنّه كان يأمل أن تكون دراساته القرآنيّة إسهامًا جديدًا، من أجل فهم أفضل لرسالة القرآن في العصر الحديث، ومن أجل أن نتعرّف على نظامه المفهومي ورؤيته للعالم، وفهم الرّسالة التي يحملها للبشريّة[5].

التّدريس في جامعة طهران والانفتاح على آفاق جديدة

في عام 1969 تقاعد إيزوتسو من جامعة كيو، وأصبح أستاذًا متفرّغًا في معهد الدّراسات الإسلاميّة في جامعة ماكجيل (McGill University) في مونتريال، وكان له التّأثير العميق على الطلاّب. وقد تعرّف في هذه الجامعة على مفكّرَيْن مسلمَيْن من الطّراز الرّفيع، هما: فضل الرّحمن مالك الباكستاني (1988-1919م) وسيّد حسين نصر الإيراني(1933م-). وتحت تأثير سيّد حسين نصر، ومع افتتاح فرع طهران لمعهد ماكجيل للدّراسات الإسلاميّة، انتقل إيزوتسو إلى العاصمة الإيرانيّة.

وفي مرحلة التّدريس، تعمّق في دراسة الفلسفة الإسلاميّة، في أبعادها ومصادرها الشيعيّة. وظلّ أستاذًا في المعهد الملكي الإيراني لدراسة الفلسفة، حتّى عاد إلى اليابان في أعقاب الثّورة الإيرانيّة عام 1979م.

كانت إيران من بين أهمّ المحطّات التي أثّرت في مسيرته العلميّة ومنهجه الفكري، فقد استغلّ فترة إقامته فيها، ليتعمّق في الفلسفة الإسلاميّة والفكر الشّيعي، وخاصّة الفلسفة الصّوفيّة وفكر ابن عربي.

وكان حريصًا على تعريف اليابان، والعالم بشكل أوسع، بفلسفة الإسلام وجوانبها الرّوحية والفكريّة العميقة، وقد اعتَبر مهمّته بمثابة جسر يربط بين الإسلام والعالم[6].

مرّ بتجارب ثقافيّة ثريّة في إيران، وتعرّف على الإسلام في حياة النّاس، وانخرط في المجتمع الإيراني، ممّا أثّر على نظرته للإسلام، ليس فقط باعتباره دينًا، بل باعتباره تجربة حياتيّة وثقافة متكاملة. وقام بالتّواصل مع علماء مسلمين من عدّة تيّارات فكريّة، وتأثّر بفلاسفة إيرانيين وعلماء دين، وكان لهذا التّأثير دوره في تعميق فهمه للقرآن، باعتباره نصًّا حيًّا مُوجِّهًا ومرشِدًا للحياة الدينيّة والأخلاقيّة للمسلمين.

احتكّ بعدد من العلماء والمفكّرين الإيرانيّين، الذين أثْرَوْا مسيرته الفكريّة، خاصّة خلال فترة إقامته في طهران. كان لهؤلاء العلماء الأثر الكبير في تعميق فهمه للفلسفة الإسلاميّة والتصوّف وعلوم القرآن. من بين هؤلاء: العلاّمة محمّد حسين الطّباطبائي (1903-1981م) أحد أبرز الفلاسفة والمفسّرين الشّيعة في القرن العشرين.

وهو التّأثير الأوّل والأبرز، حيث التقى بالعلاّمة الطباطبائي، وشارك معه في عدّة نقاشات فلسفيّة عميقة. خاصّة ما تعلّق بتفسير الميزان، والذي يُعدّ تفسيرًا فلسفيًّا وتأويليًّا للقرآن الكريم اعتمد فيه على القراءة الدائريّة لكلّ محتويات القرآن، بحيث وزّع آيات القرآن على مقاطع، ينتظمها سياق واحد، وقدّم غرض السّورة في مفتتح تفسيرها، ونبّه إلى ما تعالجه هذه المقاطع من أغراض في بداية تفسيره لكلّ مقطع[7].

تأثّر إيزوتسو بفكر الطباطبائي العميق في مجال التّفسير، وتأويل النّصوص الدينيّة، وخاصّة ما يتعلّق بمسائل الفلسفة الوجوديّة والرّوحانيّة.

والتّأثير الثّاني: كان على يدي المفكّر الإسلامي مرتضى مطهّري (1919-1979م) وهو عالم دين وفيلسوف بارز، أسهم في تطوير الفكر الإسلامي الحديث في إيران. وقد التقى إيزوتسو بمطهّري عدّة مرّات، وشارك معه في مناقشات حول الفلسفة الإسلاميّة والتصوّف، وأثرها على الحياة الأخلاقيّة والدينيّة. وقد كان مطهّري مهتمًّا بمفاهيم العدل، والتّوحيد، والمعرفة الإسلاميّة، والتي كانت موضوعات أساسيّة في أعمال إيزوتسو أيضًا.

تأثّر إيزوتسو بمنهج مطهّري العقلاني وروحانيّته، وكانا يتشاركان وجهات نظر حول العلاقة بين الفلسفة الغربيّة والإسلاميّة. ومن المرجّح أنّه قرأ بعض أعمال الشّهيد المطهّري، مثل: معرفة القرآن، والله في حياة الإنسان، وسلوك وأخلاق القرآن، والرّوح والنّور في القرآن، والإسلام ومتطلّبات العصر.

والتّأثير الثّالث: كان عن طريق السيّد جلال الدّين الآشتياني (1925-2005م)، وهو فيلسوف وصوفي إيراني، متخصّص في فلسفة الإشراق وفكر ابن عربي، وكان الآشتياني مؤرّخًا للفلسفة الإسلاميّة، ومفكّرًا مهتمًّا بفلسفة الإشراق وفكر الصّوفية، حيث تخصّص في أعمال السّهروردي وابن عربي.

تأثّر إيزوتسو بفلسفة الإشراق، وتعمّق في دراستها بفضل الآشتياني، الذي زوّده بمعرفة موسّعة عن هذه المدرسة الفكريّة. وأسهم تأثّره بفلسفة الإشراق في فهمه الرّوحي للقرآن، وتبنّيه لرؤية عميقة للعلاقة بين اللّه والإنسان.

كان الآشتياني يعرض في أعماله مقارنات بين الفلاسفة الإشراقيين والفلاسفة المشّائين (الذّين تأثّروا بالفلسفة اليونانيّة، مثل الفارابي وابن سينا)، وكان هدفه إظهار الرّوابط الفكريّة والاختلافات بينهم، ممّا أثار اهتمام إيزوتسو، وخاصّة فيما يتعلّق بمحيي الدّين بن عربي (1165-1240م) الذي أثّرت فلسفته على الفلاسفة الإيرانيين، مثل الآشتياني والطباطبائي، وقد نقلوا روح فكره إلى إيزوتسو، الذي أُعجب برؤية ابن عربي لوحدة الوجود، والتي تعزّزت عبر تفسير الفلاسفة الإيرانيين لأعماله، مّما جعله يسعَى لفهم القرآن من منظور صوفي عميق.

وقد عمّقت هذه اللّقاءات والنّقاشات مع العلماء الإيرانيين، فهم إيزوتسو للفكر الإسلامي، وجعلته يعتمد نهجًا دلاليًّا وروحانيًّا مميّزًا، في تحليل القرآن ودراسة المفاهيم الإسلاميّة.

أبرز أعمال توشيهيكو إيزوتسو

- الله والإنسان في القرآن: ويعدّ من أشهر كتبه، حيث استخدم فيه منهجًا دلاليًّا لدراسة المفاهيم الأساسيّة في القرآن، من قَبيل البحث في العلاقة بين اللّه والإنسان، وتحليل المفاهيم القرآنيّة مثل: العدل، والتّوحيد، والإيمان والنبوّة، باعتماد الطّرح الفلسفي والتعمّق اللّغوي.

- مفهوم الإيمان في الإسلام: تناول في هذا الكتاب معنى الإيمان من منظور قرآني، وحلّل الاختلاف بين الإيمان في الإسلام، وبين مفاهيمه في الدّيانات الأخرى.

- التّحليل الدّلالي للمفاهيم القرآنيّة: اهتمّ في هذا الكتاب بدراسة المفاهيم الإسلاميّة الأساسيّة، وبحث في تغيّراتها الدلاليّة واستعمالاتها عبر الزّمن.

- الصّوفيّة والفلسفة الإسلاميّة: اهتمّ إيزوتسو بدراسة الفلسفة الصوفيّة، وتأثّر بكتابات ابن عربي. وقام بتحليل فلسفي لنظريّة وحدة الوجود، وكيفيّة تأثيرها على الفكر الإسلامي.

وقد خوّلت هذه الكتب لإيزوتسو، بأن يكون من أوائل من أدخلوا علم الدّلالة إلى الدّراسات الإسلاميّة والقرآنيّة ونشرها في الأوساط العلميّة الغربيّة.

منهجه وأسلوبه العلمي

اعتمد إيزوتسو على دراسة معاني الكلمات في سياقها القرآني، لفهم رؤية الإسلام للعالم، ولم يكتفِ بدراسة النّصوص الإسلاميّة فحسب، بل قارن بين الفكر الإسلامي وفلسفات الشّرق والغرب، ممّا جعله أحد أبرز المفكّرين في الدّراسات المقارنة، كما أسهم بشكل عميق في الدّراسات الإسلاميّة والفكر الفلسفي، وأثّر في العديد من الباحثين حول العالم، فقد قدّم منهجُه المقارن والدّلالي فهمًا جديدًا عن العالم الإسلامي، في الأوساط الأكاديميّة الغربيّة. وترك بصمة واضحة في الدّراسات القرآنيّة والدلاليّة، حيث ألهم مجموعة من العلماء مثل: فضل الرّحمن مالك الباكستاني، ومحمّد عبد الله دراز المصري (1894-1958م) كما أثّر في طريقة تناول القرآن بمنهجيّات حديثة.

ركّز إيزوتسو في عمله على التّحليل الدّلالي وعلم المعاني، حيث لم يكتف بدرس النصّ القرآني فقط، بل بحث في كيفيّة استخدام المفردات في القرآن، ضمن سياقها التّاريخي والاجتماعي، واهتمّ بكيفيّة تطوّر هذه المفاهيم. وكان يميل إلى ربط الأفكار الفلسفيّة بين الشّرق والغرب، ممّا أتاح له تقديم رؤية متكاملة حول الإسلام، باعتباره حضارة غنيّة بالأبعاد الإنسانيّة والفكريّة.

وقد ذكر في سياقات عديدة من كتاباته أنّ أهميّة الإضافات التي قدّمها الإسلام، لا تكمن فقط في المصطلحات التي ابتكرها، ولكن في قدرته على التحوّل بالمعاني من حقل دلالي معيّن إلى حقل دلالي آخر؛ ولذلك كان من الممكن الكشف عن بنية الخطاب الجاهلي والخطاب القرآني، وبيان قدرة الإسلام على القيام بتحويل ناجح لمدلولات المصطلحات الجاهليّة، وتسليحها بمعانٍ إضافيّة جديدة جسّدت بالفعل قدرة الإسلام على الهضم والاستيعاب ضمن منهجه الحكيم الذي يقوم على مبدأ الاندماج والاحتفاظ، الذي لا يخرج عن دائرة المباح والحلال، ومبدأ التّجاوز الذي يركّز على الإصلاح والتّقويم.

تأثّر إيزوتسو بفكر ابن عربي والفلسفة الصوفيّة، وخاصّة نظريّة وحدة الوجود. وكانت لديه نظرة عميقة للتصّوف الإسلامي، ممّا زاد من فهمه للبعد الرّوحي في الإسلام، وجعله يقدّم مقاربة تحليليّة تتضمّن رؤى صوفيّة تجاوزت التّحليل الأكاديمي المجرّد، فقد كان يمزج بين العلم والفلسفة والتّجربة الروحيّة، وهذا ما جعل بعض الباحثين ينظرون إليه باعتباره من علماء الإسلام المعاصرين الذين قدّموا فهمًا يجمع بين التّقاليد والمعرفة الحديثة[8].

تأثير اللّغويّات على فكره

من خلال تعلّمه عدّة لغات، بدأ إيزوتسو يرى أنّ اللّغة هي المفتاح لفهم الثّقافة والنّصوص الدينيّة. لقد كان لهذا الاهتمام الأثر المباشر على تطوير منهجه الدّلالي، حيث انطلق من مبدأ أنّ اللّغة لا تعكس المعاني فقط، بل تُشَكّلها ضمن السّياقات الاجتماعيّة والدينيّة، فبدأ بدراسة اللّغة الصينيّة، واهتمّ بالفكر الصّيني الكلاسيكي، قبل أن يتحوّل نحو دراسة اللّغة العربيّة والفلسفة الإسلاميّة، ممّا أعطاه أساسًا قويًّا في التّحليل المقارن للّغات والفلسفات.

مراحل تطوّر أفكاره حول القرآن والإسلام

بدأت أبحاثه المبكّرة بالتّركيز على المفاهيم الأساسيّة في الإسلام كالعدل والتّوحيد والتّقوى والجهاد، وتوسّعت لاحقًا إلى دراسة تفصيليّة لعلاقة الإنسان باللّه من منظور قرآني، وقد كان هدفه تقديم تفسير لهذه العلاقة بحيث يمكن فهمه من قبل المسلمين وغير المسلمين على حدّ سواء، وقاده هذا التّفكير إلى طرح تفسير قرآني ليس من ناحية دينيّة فقط، بل من خلال تحليل لغوي فلسفي عميق هدفه استخراج الأبعاد الإنسانيّة والعالميّة من النصّ القرآني، وإظهار أنّ القرآن يمكن أن يقدّم حلولًا فلسفيّة للعديد من القضايا الوجوديّة، بل يمكن أن يصحّح كثيرًا من أخطاء الفلاسفة حول الوجود والعدل، وقيم الإنسان، وموازين الحقّ والعدل.

رؤيته للفكر الإسلامي والتّأثير على الدّارسين الغربيّين

قدّم إيزوتسو الإسلام من منظور مختلف في الأوساط الغربيّة، حيث بيّن لهم كيف يمكن للفكر الإسلامي أن يُقارب القضايا الإنسانيّة والفلسفيّة المعاصرة؛ لذلك كانت كتبه تُعدّ مصادر أكاديميّة مهمّة لطلّاب الدّراسات الإسلاميّة حول العالم، وأسهمت دراساته في تهيئة الطّريق أمام الباحثين المسلمين والغربيين لاستكشاف القرآن باعتباره منظومة فكريّة متكاملة، وهذا الأمر كان من أسباب اعتبار كتبه مراجع أساسيّة.

كان توشيهكو إيزوتسو مهتمًّا بالثّقافة الإسلاميّة ودارسًا لها قبل وصوله إلى إيران، لكنّ إقامته فيها عمّقت من فهمه لها، وأثّرت على نظرته للإسلام باعتباره منظومة ثقافيّة وروحيّة حيّة. وكان قد بدأ بدراسة اللّغة العربيّة والنّصوص الإسلاميّة في اليابان، وركّز على التّحليل اللّغوي والدّلالي في أعماله المبكّرة، خاصّة في كتابه الله والإنسان في القرآن، حيث تناول موضوعات التّوحيد والعدل والمفاهيم الأساسيّة في الإسلام باستخدام أدواته اللغويّة والفلسفيّة.

ومع ذلك، حين وصل إلى إيران، أُتيحت له الفرصة ليعيش في مجتمع إسلامي عن كثب، ويتفاعل مع علماء ومفكّرين مسلمين مبدعين، ممّا سمح له بتطوير فهم أعمق وأكثر شمولًا لثقافة الإسلام ومعانيه الرّوحية؛ لذا يمكن القول إنّ اهتمامه بالثّقافة الإسلاميّة كان موجودًا مسبقًا، لكنّه اكتسب أبعادًا جديدة بفضل التّجربة الشخصيّة والتّفاعل الثّقافي المباشر في إيران، والتي أسهمت في توسيع رؤيته.

يحسن الآن أن نعرف علاقة التثاقف والتأثّر بين توشيهكو إيزوتسو وفضل الرّحمن مالك باعتبارهما شخصيّتين بارزتين في الدّراسات الإسلاميّة الحديثة، وقد أسهم كلاهما في تقديم رؤى جديدة لفهم النّصوص الإسلاميّة. على الرّغم من اختلاف خلفيّاتهما الأكاديميّة والثقافيّة، إلاّ أنّ علاقتهما الفكريّة أثّرت في طرق تفكيرهما حول الإسلام والقرآن.

العلاقة العلميّة بين فضل الرّحمن وإيزوتسو

التقى فضل الرّحمن مالك وتوشيهكو إيزوتسو في عدّة مناسبات أكاديميّة، وخاصّة في جامعة ماكجيل بكندا، وتبادلاَ الأفكارَ حول اللّغة والمعنى والقرآن والتّاريخ. وقد اهتمّ إيزوتسو بأفكار فضل الرّحمن حول التّفسير والتّاريخيّة في النّصوص القرآنيّة، حيث كان فضل الرّحمن ينظر إلى القرآن من منظور تاريخي يسعى لفهم كيفيّة نزول النصّ في سياق معيّن، وبالتّالي كيف يمكن قراءته بما يلائم العصور اللاّحقة، من جهة مُقابلة.

تأثّر فضل الرّحمن بمقاربات إيزوتسو التحليليّة واللغويّة، إذ ركّز إيزوتسو على دراسة المفاهيم القرآنيّة من خلال مقاربات لغويّة وفلسفيّة، خصوصًا فيما يتعّلق بمفاهيم الخير والشرّ والتّقوى والقدر والإحسان، والقيم الأخلاقيّة في الإسلام.

وقد استفاد إيزوتسو من بعض أفكار فضل الرّحمن حول التّأويل التّاريخي للقرآن، وخاصّة فهم معاني النّصوص ضمن سياقها التّاريخي واللّغوي الأصلي، وقد تبنّى هذه الفكرة في تحليلات؛. وبذلك يكون فضل الرّحمن قد قدّم لإيزوتسو منظورًا متقدّمًا حول التّفسير السياقي، ممّا شجّع إيزوتسو على التّفكير في القرآن باعتباره نصًّا حيًّا يحمل معاني تتجاوز المعنى الحرفي، كما تأثّر فضل الرّحمن بمناهج إيزوتسو في تحليل المفاهيم، والتي تعتمد على فكّ رموز الكلمات من خلال أبعادها المتداخلة، وفهم الرّوابط بين الكلمات القرآنيّة. حيث قدّم إيزوتسو لفضل الرّحمن منظورًا لغويًّا فلسفيًّا متجدّدًا حول النّصوص الدينيّة، ممّا أثّر في أسلوبه في تحليل المفردات القرآنيّة.

ورغم اختلافهما في المنهج والأسلوب، إلاّ أنّ تبادلهما الفكري ساعد كلًّا منهما على توسيع زاوية النّظر. فإيزوتسو طوّر فكرًا فلسفيًّا حول المفاهيم القرآنيّة، بفضل توجّهات فضل الرّحمن النقديّة، بينما أخذ فضل الرّحمن من إيزوتسو تقنيّات التّحليل العميق للّغة، ففي كتابه: الإسلام والحداثة (Islam and Modernity) سعَى فضل الرّحمن إلى تقديم الإسلام كنظام قيم أخلاقي واجتماعي مرن، وقابل للتّجديد، عبر فهم النّصوص القرآنيّة في سياقها التّاريخي. وقد وضّح في هذا الكتاب رؤيته حول ما سمّاه بـالحركة المزدوجة للتّفسير، والتي تقوم على قراءة النصّ بشكل نقدي لفهم مقاصده الأصليّة، ثمّ إعادة تفسيرها بطريقة تلائم ظروف العصور المتلاحقة.

وفي كتابه: المسائل الكبرى في القرآن (Major Themes of the Qur’an) ركّز على تحليل المفاهيم القرآنيّة الرّئيسة، حيث سعَى لشرح القيم التّوجيهيّة الكبرى، مثل التّوحيد والعدل والرّحمة. مع طرح مسألة كيفيّة تفسير النّصوص، بحيث تعطي أهميّة أكبر للقيم الأخلاقيّة التي تعتبر أساسيّة في السيّاق القرآني، وركّز على سؤال جوهري هو: كيف يمكن لهذه القيم أن تشكّل الأسس العامّة للمجتمع الإسلامي الحديث.

القراءة المزدوجة وبراعة التّلفيق

من إسهامات فضل الرّحمن وضع قواعد لفهم النّص في ضوء الشّروط التاريخيّة التي نزل فيها، مع إعادة تأويله بما ينسجم مع تطوّر الفكر الإسلامي. وهو يقترب كثيرًا من الشّهيد محمّد باقر الصّدر (1935-1980م) في تقصّياته الفلسفيّة والفكريّة في فهم القرآن والدّين. ولكنّ الشّهيد الصّدر لم يعوّل كثيرًا على المقاربات الحديثة في فهم القرآن، وخاصّة علوم الدّلالة والـتأويليّات المعاصرة؛ لأنّه فهم أنّ فيها الكثير من التحذلق وبراعة التّحليل؛ ولذلك تغلّب بجديّة وثقة على هذه النّزعة، التي غلبت على المستشرقين وأتباعهم، فطبعت آثاره روح التّأصيل والتّأسيس والإبداع[9].

لم يفلت إيزوتسو نفسه من براعة التّلفيق، أو الخضوع لمقرّرات علم الدّلالة، وقد تفطّن فضل الرّحمن إلى هذه النّزعة، حيث قال في تقديمه لكتاب إيزوتسو: «والسّؤال الرّئيسيّ هو: إذا كانت البنية الأساسيّة للرّؤية القرآنيّة للعالم، كما وصفها الدّكتور إيزوتسو، متّفقة حقًّا وبشكل تامّ مع التّعاليم القرآنيّة. لا يملك المرء إلاّ أن يفكّر في أنّ المؤلّف قد كيّف بعناية وموضوعيّة بالغة، هذه البنية الأساسيّة، لتطابق ما قرّره هو نفسه أن يكون مفاهيم مفتاحيّة للقرآن. وهو ربّما كشف بذلك على نحو شبه واعٍ عن نظائر لرؤيته الدّينيّة الشخصيّة للعالم في القرآن، وإلّا، كيف نفسّر حقيقة أنّ العنصر الأخلاقيّ في هذه الصّورة الكلّيّة غائب تمامًا؟»[10].

وقد ذكر إيزوتسو في مقدّمة كتاب اللّه والإنسان، أنّ عمله هو: «نتائج سنوات عديدة من العمل على كلّ من مشكلات المنهجيّة الدّلاليّة ومشكلات الرؤية القرآنيّة للعالم، منظورًا إليها من وجهة نظر علم الدّلالة ... وكان الأمل يحدوني في أن يكون بإمكاني الإسهام بشيء جديد من أجل فهم أفضل لرسالة القرآن لعصره ولنا، على الرّغم من أنّ كثيرًا من العلماء المتمكّنين قد درسوا القرآن من زوايا عديدة مختلفة»[11].

إنَّ علم الدّلالة هو اصطلاح وضعه اللّغويّ الفرنسي ميشيل بريال (Michel Bréal) سنة 1897م، في كتابه: مقالات في علم الدّلالة (Essai de sémantique). فهو في واقع الأمر نظريّة لدراسة النّصوص وتحليلها. وككلّ نظريّة، فإنّ لعلم الدّلالة المُعجبين به والرّافضين له والمحايدين. وهذا العلم يدرس المعنى، ويبحث في العلاقات اللّغوية والمعاني. والإشكال يكمن في اختيار المعنى الأنسب للكلمة في سياق وروده في النّصّ[12].

والسّؤال المهمّ: كيف حدّد إيزوتسو ذلك المعنى الدّلاليّ في النصّ القرآنيّ؟

أسهب إيزوتسو في الفصل الأوّل، وعنوانه: علم الدّلالة والقرآن، في الحديث عن علم الدّلالة واعتبره أفضل المناهج لدراسة النّصوص وتحليلها، وقد أسف لأنّ علم الدّلالة في زمانه مُعقّد جدًّا، ويصعب تمامًا على غير المختصّ، إن لم يكن ذلك مستحيلًا أن يأخذ ولو فكرة عامّة عن ماهيّته؛ لأنَّ علم الدّلالة يُعنى بظاهر المعنى بأوسع معاني الكلمة، وهو واسع في الحقيقة، إلى درجة أنّ كلّ شيء تقريبًا ممّا يمكن اعتباره ذا معنى، سيكون مؤهّلًا تمامًا؛ لأن يُصبح موضوعًا لعلم الدّلالة[13].

لم يذكر إيزوتسو صعوبات التّطبيق لعلم الدّلالة، ونتائج الأخطاء النّاتجة في مفاهيم النّص. وبالنّسبة للقرآن رأى إيزوتسو أنّه: «سيكون من السّهل الآن أن ندرك أنّ كلمة القرآن في عبارتنا علم دلالة القرآن، ينبغي أن تُفهم بمعنى الرؤية القرآنيّة للعالم. أي النّظرة القرآنيّة للكون. ولا بدّ لعلم دلالة القرآن أن يبحث بشكل رئيسيّ كيفيّة تَبَنْيُن علم الوجود في منظور هذا الكتاب الكريم، وما هي مكوّنات هذا العالم، وكيف تتعالق فيما بينها. وبهذا الفهم، فإنّ علم دلالة القرآن سيكون نوعًا من مبحث الوجود (Ontologie)»[14].

يبدو أنّ إيزوتسو جعل علم دلالة القرآن علمًا خاصًّا ضمن علم الدّلالة، ولا نرى لذلك سببًا؛ إذ هي المنهجيّة نفسها لجميع النّصوص، وما نلاحظه هو أنّ إيزوتسو حدّد معنى دلاليًّا خاصًّا للقرآن لا نوافقه عليه لسببين:

الأوّل: ليس النصّ مجرّد نظرة للكون في مكوّناته، ولا هو مبحث الوجود.

والثّاني: أخبرنا اللّه تعالى أنّ القرآن في أساسه كتاب هداية إلى الصّراط المستقيم.

والثّالث: أنّ الخبر القرآنيّ كلّه يعرّف بالذّات الإلهيّة، ويوضّح كيف يُمكن للإنسان أن يهتدي إلى الحقّ، فهل أهمل إيزوتسو مقاصد القرآن؟

مفهوم الإيمان والكفر في القرآن

تناول إيزوتسو مفهوم الإيمان وفق منهجه القائم على التّحليل الدّلالي، حيث يصف محتوى المفهوم من خلال الكلمات المفاتيح التي اعتُمدت عند المسلمين، وخاصّة عند علماء العقيدة أو علم الكلام وفي مختلف مراحل تكوّنها وازدهارها مع التركيز على التقابل والأضداد. فعندما يدرس مفهوم الإيمان يقابله بمفهوم الكفر، وفي الغالب يقارنها أيضًا بمثيلاتها في المعنى، مثل: الهدى والتقوى والخشوع والتسليم. وهذا التجميع للمفردات والمفاهيم والبحث في علائقها مع غيرها، انسجامًا أو تقابلًا، يوفّر لديه كثيرًا من الأفكار والآراء التي يجسّمها في صور وجداول متنوّعة. وهذا يكوّن لديه براعة في إيجاد حقول دلاليّة كثيرة، ثمّ يربطها أو يعالجها وفق مقاربات تاريخيّة أو اجتماعيّة متشاركة في تحقيق أو تخريج الدلالات لا محالة. ولكنه يؤّدي الى ضروب من التحذلق والتكلّف، أو حتى التزييف والانخداع بالنتائج التي لا يعرضها على النّقد غالبًا.

وعلى سبيل المثال، فإنّ استخدام التقابل في شرح وتحليل مفهوم الإيمان أفقده مصداقيّته عندما تناوله مقارنًا مع مفاهيم أخرى متباعدة وليست متقاربة، مثل الكافر والمنافق والفاسق. واعتباره أنّ استيعاب مفهومي الإيمان والكفر، يستدعي دراسة الكلمات ضمن علاقاتها مع كلمات أخرى متقاربة، هي نظرة إلى الإيمان والكفر كمفاهيم متشابكة مع مفاهيم الخير والشرّ، والأخلاق، والجزاء، ولكنّ هذا لا يساعد على فهمٍ أعمق للقيم القرآنيّة.

فقد تفتح له هذه الطريقة امتدادات شاسعة من الرؤى والأنظار، ولكنها تجعل النتائج ضبابيّة والمفاهيم النهائية ليست متوافقة فعليًّا مع مقاصد القرآن وروحه العامّة[15].

والذي شجّعه على طريقة الجمع والتفكيك هو رؤيته أنّ القرآن الكريم يتضمّن نظامًا شديد التّعقيد والثّراء في الدّلالات المتداخلة والمتجانسة، حيث إنّ الكلمات القرآنيّة لا تُفهم بمعزل عن الكلمات الأخرى التي ترتبط بها في نصوص معيّنة. فلا بدّ من قراءة القرآن قراءة لولبيّة أو دائريّة، من خلال ثلاثة جوانب على الأقلّ:

الأوّل: القراءة الدائريّة التي لا تكتفي بالقراءة الخطيّة التي تقوم على تفسير الآيات آية بعد آية في المصحف الشّريف كاملًا. والتي أبدع فيها الشّهيد الصّدر في مقدّماته حول التّفسير الموضوعي للقرآن. حيث طبّق في الجزء الأوّل اتّجاه الموضوعيّة في حقل التّاريخ، ثمّ تعمّق في التّفسير التّوحيدي أو الموضوعي في كتاب: مقدّمات في التّفسير الموضوعي للقرآن[16].

الثّاني: تحليل الحقول الدلاليّة، وقد اعتمدها ايزوتسو في فهم طبيعة العلاقات بين المفاهيم، مثل العلاقة بين التّقوى والشّكر، أو بين العدل والرّحمة.

الثّالث: دراسة نقاط التّأثير المتبادل بين المفاهيم القرآنيّة، وهذا بحر لا ينضب، وجهد لا يتعب. والكمال لله وحده.

نقد إيزوتسو للمقاربات الاستشراقيّة اللغويّة والفلسفيّة

من المعلوم أنّ نقاط الضّعف الأساسيّة في عمل المستشرقين يمكن تلخيصها في أربع نقاط على الأقلّ:

- الضّعف العام في اللّغة العربيّة.

- التعصّب والتّعالي على موضوع البحث.

- الأغراض الشخصيّة وغياب الموضوعيّة والنّزاهة.

- الانطلاق من مبدأ أنّ الجمهور الغربي لا يعرف شيئًا عن الإسلام والمسلمين، فيقول المستشرق ما يشاء دون تهيّب من التعقّب والمتابعة.

وقد حاول إيزوتسو نقد تلك النّقاط، وبيان تهافتها من خلال مجموعة من المسائل، حصرناها في أربعة عشر وجهًا. ورغم أنّه لم يذكر المستشرقين بصورة مباشرة، فإنّه انتقد مقارباتهم، وصحّح مناهجهم، وخاطب المثقّفين الغربيين بأساليب فيها الكثير من عبارات المخالفة والتّجاوز. ولم يقتصر في ذلك على كتاب واحد، وإنّما برزت مخالفته لمدرسة الاستشراق في كتبه وأبحاثه المتعدّدة.


1- نقد منهجيّة التّحليل اللّغوي المحدود

ركّز إيزوتسو على تحليل المستشرقين للنّصوص القرآنيّة من منظور لغوي تقليدي يعتمد فقط على المعنى الحرفي للكلمات، دون التعمّق في الحقل الدّلالي للعلاقات بين المفاهيم القرآنيّة. ربّما بسبب جهلهم الحقيقي بتلك المفاهيم، ورأى إيزوتسو أنّ هذا التّحليل السّطحي يتجاهل العمق الفلسفي للمفاهيم القرآنيّة، مثل الإيمان والكفر والتّقوى، والتي يجب فهمها ضمن شبكة المفاهيم التي تعطيها معناها الكامل. وعلى سبيل المثال، رأى أنّ فهم كلمة الإيمان يتطلّب فهم المفاهيم المتداخلة معها، مثل التّقوى والعدل والقسط، وهي منهجيّة غائبة لدى كثير من المستشرقين.

2- رفض التّفسير النّفسي والاجتماعي للنبوّة

عارض إيزوتسو الأسلوب الذي اتّبعه بعض المستشرقين في تفسير تجربة الوحي بطريقة نفسيّة، مثل الادّعاء بأنّ تجربة الوحي كانت حالة نفسيّة يمكن تفسيرها من خلال علم النّفس الحديث. اعتبر إيزوتسو أنّ هذا النّوع من التّفسير النّفسي فيه تعسّف وإخلال؛ لأنّه يتجاهل البعد الرّوحي والتّجربة الوجوديّة التي تمثّل جوهر النبوّة، ويبتعد كثيرًا عن مفهوم الهداية الإلهيّة. وعلى سبيل المثال انتقد إيزوتسو في كتابه: اللّه والإنسان في القرآن بعض المستشرقين الذين فسّروا علاقة الله بالإنسان في القرآن بشكل آلي أو ميكانيكي، حيث يصفون الله كملك مطلق يحكم من دون أيّ ارتباط أخلاقي[17].

ولذلك عرض إيزوتسو فكرته حول الحقل الدلالي لكلمات مثل الرّحمة والعدل، وأعلى من شأن العلاقة الإنسانيّة العميقة التي سعَى القرآن لتكوينها بين اللّه والإنسان، على أساس الإيمان والرّحمة والهداية.

3- إعادة التّأكيد على استقلاليّة الإسلام الفكريّة

أكّد إيزوتسو أنّ الإسلام ليس مجرّد امتداد أو تقليد للدّيانات السّابقة، بل قام على منظومة فكريّة وأخلاقيّة مستقلّة. ويجب على المستشرقين أن يدرسوا الإسلام من داخله، بالنّظر إلى قيمه ومراميه الأصليّة، بعيدًا عن الإسقاط، واستعادة الرّوح المسيحيّة، زمن الحروب الصليبيّة بثوب جديد.

قال الدّكتور هلال محمّد الجهاد مترجم كتاب اللّه والإنسان في القرآن: «إنّ ميزة هذه الدّراسة -على الرّغم ممّا قد نأخذه عليها- أنّها تجعلنا نكتشف القرآن، وكأنّنا نراه للمرّة الأولى، وتعلّمنا قرّاء ومسلمين، أن ننفصل قليلًا عنه، لنراه ونعرفه من جديد معرفة علميّة بالمعنى الدقيق لهذا الوصف. وهذا ممكن دائمًا، إذا عوّدْنا أنفسنا على تغيير زوايا نظرنا إلى القرآن، وتنويعها واعتماد مناهج علميّة متنوّعة، والقرآن نفسه يتيح لنا ذلك، من حيث إنّه نصّ لا يمكن استنفاد ماهيته، نصّ يمتاز بتعدّد مستويات المعنى وتشابك علاقاته»[18].

4- الدّعوة للتّفكير في القرآن باعتباره نصًّا متعدّد الأبعاد

عارض إيزوتسو القراءة الاستشراقيّة التي تركّز على الأبعاد التاريخيّة والاجتماعيّة فقط، ورأى أنّ دراسة النصّ القرآني تكون بالنّظر إليه باعتباره نصّا حيًّا وشاملًا، يحمل في طيّاته معاني عميقة تحتاج إلى استكشاف الحقول الدلاليّة فيه، وتحليل القيم الأخلاقيّة المتكاملة الواردة في ثناياه. كما دعا إلى إعادة صياغة فهم النّصوص القرآنيّة في الدّراسات الإسلاميّة، وفتح آفاقٍ جديدة أمام الباحثين لمعالجة النّصوص القرآنيّة، بعيدًا عن التّأثيرات الاستشراقيّة السّطحية. والتّركيز على التّحليل الأخلاقي والدّلالي العميق لمفاهيم القرآن وكلماته.

ركّز المستشرقون، في سعيهم لفهم النّصوص القرآنيّة، على السّياقات التّاريخيّة والاجتماعيّة، وقلّلوا من عمقها الرّوحي وأبعادها الأخلاقيةّ. وبالنسبة لإزوتسو، فإنّ قراءة النصّ القرآني من منظور التّأثيرات التّاريخيّة فقط، يحجب تأثيره الحقيقي باعتباره رسالة تتجاوز الحدود الزمنيّة والمكانيّة. وفي كتابه عن المفاهيم الأخلاقيّة في القرآن (Ethico Religious Concepts In The Quran) بيّن أنّ القرآن يجب أن يُفهم من منظور القيم الأساسيّة التي سعَى لترسيخها في النّفوس وواقع العباد، كالتّوحيد، والإحسان، والعدل. وقرّر أنّ مفردات لغة معيّنة لا تعكس حقائق موضوعيّة، ذات صلاحيّة عالميّة، ولكنّ المفاهيم التي تشكّلها المواضيع والكلمات، خاضعة لشروط ماديّة وروحيّة للجماعة المتحدّثة بهذه اللّغة[19].

5- رفض التّفسيرات الاستشراقيّة الاختزاليّة للشّريعة

صوّر الاستشراق الشّريعة الإسلاميّة كنظام قانوني محض، وتعامل معها وكأنّها مجرّد مجموعة من الأحكام الثّابتة التي لا تتلاءم مع العصر، مع أنّ الشّريعة يجب أن تُفهم على أنّها نظام يهدف لتحقيق العدالة الاجتماعيّة ومراعاة مصالح النّاس، ولا بدّ من اعتماد منهج التّفسير الدّائري، الذي يقرأ القرآن قراءة كاملة وجامعة، ويدعو لفهم النّصوص ضمن سياقها التّاريخي والمستقبلي، ثمّ إحياء روح هذه القراءة الموضوعيّة، وتطبيقها في الحاضر، بما يتلاءم مع التحديّات والمستجدّات.

6- نقد الاستشراق في مسألة الوحي وتاريخيّة النبوّة

اختزل المستشرقون الوحي والنبوّة في تجربة نفسيّة واجتماعيّة بحتة، متجاهلين البعد الإلهي للتّجربة. وهذا التوجّه يخلّ بتوازن الرّسالة النبويّة، التي تهدف إلى توجيه البشريّة نحو القيم العليا، فالرّسولs لم يكن مصلحًا اجتماعيًّا فقط، بل قائدًا روحيًّا أيضًا. وفي هذا السّياق، يجب على من يدرس الإسلام بنزاهة، أن يتناول دور الوحي في تعزيز المبادئ الأخلاقيّة العالميّة. وواضح أنّ هذا النّقد متأثّر بأفكار فضل الرّحمن مالك، وربّما بأفكار الأئمّة: الطباطبائي ومنتظري وباقر الصّدر.

7- نقد الاستشراق من منظور فلسفي ولغوي دلالي

رفض إيزوتسو القراءة السطحيّة للمفاهيم القرآنيّة، وانتقد التّفسيرات الاستشراقيّة التي تتناول المفاهيم القرآنيّة، مثل الإيمان والكفر والجهاد، بطرق سطحيّة أو حرفيّة، ودون اعتبار لترابطاتها الدلاليّة مع مفاهيم أخرى. وأكّد أنّ المستشرقين تعاملوا مع القرآن باعتباره نصًّا صامتًا، متجاهلين التّرابطات اللغويّة، والمعاني العميقة التي تنبثق من الحقول الدلاليّة، فالإيمان على سبيل المثال ليس مجرّد فعل عقائدي، بل هو مجموعة علاقات بين اللّه والإنسان والمجتمع، تتشابك فيه القيم والأخلاق والأعمال الصّالحة. قال في هذا السيّاق: «إنّ كلّ ما نسمّيه ظواهر طبيعيّة، مثل المطر والرّيح وبناء السّماء والأرض، وتعاقب اللّيل والنّهار، وتحوّلات الرّيح، إلى آخره، كلّ ذلك لا ينبغي أن يُفهم كظواهر طبيعيّة مجرّدة، بل بوصفه علامات أو رموزًا كثيرة، تدلّ على التدخّل الإلهي في شؤون البشر، وأدلّة على العناية الإلهيّة، والرّعاية والحكمة الممنوحة من اللّه لصالح البشر، على الأرض»[20].

8- تحليل العلاقة بين اللّه والإنسان، كمثال على غياب النّزاهة لدى المستشرقين

انتقد إيزوتسو في كتابه: اللّه والإنسان في القرآن، التصوّر الاستشراقي الذي يرى الله سبحانه وتعالى كحاكم قاسٍ يقف فوق الإنسان، دون أيّ علاقة أخلاقيّة أو دلاليّة بينهما. وفي مقابل ذلك، حاول أن يُبرز مفهوم الرّحمة باعتبارها جزءًا أساسيًّا من العلاقة بين اللّه والإنسان، ممّا يدلّ على أنّ الله، سبحانه وتعالى، ليس مصدرًا للأوامر والنّواهي فقط، بل يمثّل الرّحمة اللاّمحدودة التي توجّه الإنسان نحو الخير. هذا التحليل الدلالي يُعتبر مساهمة جيّدة في ردّه على المستشرقين، حيثُ يُبرز القرآن باعتباره نصًّا أخلاقيًّا ديناميكيًّا في المقام الأوّل[21].

9- الردّ على التّفسيرات الاستشراقيّة للتّوحيد

اعتبر إيزوتسو أنّ التّوحيد في التّفسيرات الاستشراقيّة قد اختُزل إلى عقيدة جافّة، دون أن يُفسّر كمنظومة قيميّة وأخلاقيّة، فالمستشرقون يرون التّوحيد فقط كعقيدة تؤكّد على الإله الواحد، في حين أنّ للتوحيد أبعاد أخلاقيّة وروحيّة عميقة، تَظهر في توجيه سلوك المسلم، حيث يخلق التوحيد وعيًا بأنّ الله هو مصدر جميع القيم الأخلاقيّة، ممّا ينعكس في السّعي لتحقيق العدل والرّحمة والإحسان في الذّوات والمجتمعات.

10- نقد مفهوم الكفر عند المستشرقين

رأى إيزوتسو أنّ المستشرقين غالبًا ما يختزلون الكفر في عداوة مباشرة ضدّ الله، سبحانه وتعالى، وقد وضّح في كتابه: اللّه والإنسان في القرآن، أنّ الكفر يحمل دلالات معقّدة، تشمل التمرّد على القيم الأخلاقيّة التي يدعو إليها القرآن، وبالتّالي يجب فهم الكفر في سياق أوسع من مجرّد عدم الإيمان، ليشمل الأفعال التي تتعارض مع قيم العدالة والرّحمة وتجنّب الظّلم. وبذلك يكون إيزوتسو قد أعاد صياغة كيفيّة تعامل الباحثين مع النّصوص القرآنيّة. وبيّن للعديد من المستشرقين والأكاديميين المهتمّين بالفكر الإسلامي، أنّ الإسلام لا يمكن دراسته فقط من الخارج كموضوع ثقافي أو اجتماعي، بل يجب فهمه كمنظومة قيميّة وروحيّة متكاملة تجمع بين الدّين والدّنيا، والفكر والعمل.

11- النبوّة باعتبارها شبكة دلاليّة مركّبة

اهتمّ إيزوتسو بالترابطات اللغويّة والفلسفيّة التي تعطي للنبوّة بُعدًا دلاليًّا أخلاقيًّا أوسع. وعلى سبيل المثال، رأى أنّ مفهوم الهُدى مرتبطٌ دلاليًّا بمفاهيم مثل العدل والتّقوى، وأنّ هذه الرّوابط تعكس عمق النبوّة، باعتبارها مجالًا شاملًا يربط البُعد الرّوحي بالسّلوك الأخلاقي. ويستعرض ذلك في كتابه: اللّه والإنسان في القرآن، حيث يرفض الفصل بين البُعد الشّخصي للنبيّ ورسالة الوحي ذات الأبعاد العالميّة، التي تتجاوز السّياقات الثقافيّة الضيّقة، التي تحدّث عنها المستشرقون[22].

12- الردّ على التّفسيرات الاختزاليّة الاستشراقيّة حول مفهوم الجهاد

قدّم إزوتسو الجهاد كوسيلة لتحقيق الإصلاح الاجتماعي، وكآلية تُستخدم لتحقيق العدالة والحريّة، بعيدًا عن صفة العنف التي ركّز عليه المستشرقون. ورأى أنّ مفهوم الجهاد الحقيقي يتمثّل في تحقيق أهداف أخلاقيّة شاملة، فالنبيّs قاوم الظّلم والقهر، لتحرير الفرد والمجتمع من القيود، فالجهاد ليس هدفه الغزو أو السّيطرة، بل هو تحرُّك مقاوم نحو العدالة، سواء من خلال الصّراع الدّاخلي لتحقيق تزكيّة النّفس، أو من خلال الدّفاع عن القيم المجتمعيّة النّبيلة. فالجهاد يتجاوز مجرّد القتال أو التحدّي العسكري، ويرتبط بشكلٍ وثيق بمفاهيم أخلاقيّة سامية، مثل الصّبر والإخلاص والتّضحية. ويمتدّ ليشمل أنواعًا من التحدّي النّفسي والفكري، ويعطي معنى أوسع، باعتباره مفهومًا مركزيًّا لبناء الذّات والمجتمع. ويظهر في تحليله للمفردات القرآنيّة المتعلّقة بالجهاد، أنّ المفهوم لا يُعنَى بالقوّة الماديّة، بقدر ما هو موجّه لتحقيق السّلام والعدل والتّوازن الاجتماعي.

13- التّوحيد والعدالة: نقد الاختزال الاستشراقي للدّين إلى مجرّد نظام قانوني

رأى إيزوتسو ضمن مبحث العدالة، وتحليل الحقل الدّلالي للتّوحيد، أنّ العدالة في القرآن هي جزء لا يتجزّأ من التّوحيد، حيث يتجلّى مفهوم اللّه، في التّرابط مع العدالة كقيمة أخلاقيّة؛ لأنّها نتيجة طبيعيّة للتّوحيد، لأنّ الله، سبحانه، بوصفه الواحد، هو معيار العدل. وتركيز المستشرقين على الجانب التّشريعي فقط يجعلهم يُغفلون معالم النصّ القرآني، ككلّ متكامل، يحوي عدالة إنسانيّة ترتبط بتوجيهات التّوحيد. ففي مجال الحقل الدّلالي، تجتمع العدالة والتّوحيد ليكونا قاعدةً لبناء مجتمع قيمي.

14- الرّسالة الأخلاقيّة للقرآن ونقد القراءة الاستشراقيّة الاجتماعيّة البحتة

رأى إيزوتسو أنّ القرآن ليس مجرّد نصّ يُحافظ على الوضع الاجتماعي، بل هو نظام دلالي معقّد يهدف إلى بناء قيم جديدة تُؤسّس لمجتمع عادل ومتوازن، ففي كتاباته القرآنيّة يبيّن أن مفاهيم الإحسان والرحمة والتّقوى تنبثق من مفهوم التّوحيد وأسماء الله الحسنى التي توزّعت في آيات متنوّعة من أجل تشكيل القيم الاجتماعيّة المنشودة. وقراءة القرآن ضمن هذا النّسق الدّلالي، والفهم التكاملي، يجب اعتباره وثيقة أخلاقيّة ثوريّة، تقاوم البغي والفساد، ولا تنحصر في جوانب آحاديّة. وهذا يعني أنّ الدّراسات الإسلاميّة، والقرآنيّة بالخصوص، ينبغي أن تنظّر لفهم القرآن والإسلام بشكل أكثر شموليّة يتجاوز الاختزال الاستشراقي للمفاهيم. ويتعامل مع النّصوص الإسلاميّة كخطاب ديني أخلاقي ودلالي فسيح، قادر على التّفاعل مع القيم الإنسانيّة، ومتجاوز للحدود الثقافيّة والتاريخيّة.

الخاتمة

أثّر إيزوتسو على توجّهات الدّراسات الإسلاميّة الحديثة، حيث دفع علماء الإسلاميّات إلى دراسة القرآن بتأمّل أكبر، في الجوانب الأخلاقيّة والدّلاليّة، وإلى تجاوز التّفسيرات المحدودة. وقد ظهر هذا التّأثير في التوجّهات الأكاديميّة الحديثة، التي بدأت تفسّر الإسلام باعتباره نظامًا أخلاقيًّا شاملًا، يأمر بالعدل، ويهتمّ ببناء القيم الإنسانيّة.

بهذا الطّرح، يتبيّن كيف استطاع إيزوتسو تقديم صورة متكاملة للدّين الإسلامي تتجاوز التّفسيرات الاستشراقيّة، ممّا شكّل نقلة نوعيّة في الدّراسات القرآنيّة.

لقد أظهرت جهود إيزوتسو أنّ فهم القرآن يتطلّب تجاوز التّفسيرات التقليديّة والجوانب القانونيّة، إلى فهم القيم الأخلاقيّة والدّلالية التي ينطوي عليها النصّ القرآني، وقد أثّرت هذه الرّؤية على الدّراسات الإسلاميّة الحديثة، حيث ظهرت مدارس فكريّة جديدة، تُفسّر النّصوص القرآنيّة على أنّها وثائق أخلاقيّة عالميّة، ممّا يدعو إلى قراءة أعمق وأكثر شموليّة تتناول القيم والأخلاق الإسلاميّة في أضواء القيم الاسلاميّة، مثل: التّوحيد والعدالة والحريّة والتدبّر.

ونرى أنّ إيزوتسو باعتباره كاتبا محايدًا، أثّر على الدّراسات الأكاديميّة في جوانب عديدة. منها: تشجيع القراءة النقديّة والموضوعيّة، وتحفيز الباحثين الجدد على تقديم قراءات أكثر تعمّقًا في النّصوص الإسلامّية، وتجاوز السّرد الاستشراقي الضيّق، ودراسة الآيات القرآنيّة في سياقها الثّقافي والأخلاقي، وبالتّالي الإسهام في تطوير دراسات علميّة، تؤكّد على القيم الإنسانيّة التي احتوتها النّصوص الإسلاميّ،. وهو توجّه يعزّز، لا محالة، من آفاق الحوار بين الثّقافات، وتقوية أسس التّثاقف الحكيم، والحوار السّليم.



لائحة المصادر والمراجع

1. الرّفاعي، عبد الجبّار، منهج الشّهيد محمّد باقر الصّدر، في تجديد الفكر الإسلامي، إصدار مؤسّسة المثّقف العربي، سيدني أستراليا، وتوزيع المعارف للمطبوعات، ط1، بيروت، أبريل 2012.

2. العاكوب، عيسى، درس إيزوتسو القرآني في مرآة عربيّة، مجلّة مجمع اللّغة العربيّة بدمشق، مجلد 87.

3. إيزوتسو، توشيهيكو، اللّه والإنسان في القرآن، ترجمة: هلال محمّد الجهاد، المنظّمة العربيّة للتّرجمة، ط1، بيروت، آذار-مارس، 2007.

4. إيزوتسو، توشيهيكو، المفاهيم الأخلاقيّة في القرآن (Ethico Religious Concepts In The Quran) ترجمة: الدّكتور عيسى علي العاكوب، دار الملتقى بحلب، 2008.

5. إيزوتسو، توشيهيكو، مفهوم الإيمان في علم الكلام الإسلامي، تحليل دلالي للإيمان والإسلام، ترجمة: عيسى علي العاكوب، 1431هـ، 2010م.

6. حللي، عبد الرّحمن، استخدام علم الدّلالة في فهم القرآن: قراءة في تجربة الباحث الياباني توشيهيكو إيزوتسو، بحث مشارك في المؤتمر العلمي الدولي: حول التّعامل مع النّصوص الشرعيّة (القرآن والحديث) عند المعاصرين، الذي نظمته كليّة الشّريعة بالجامعة الأردنيّة، خلال الفترة من 6-8 ذو القعدة 1429هـ الموافق 4–6/ 11/ 2008م.

7. عبيد، حسين عبد الرّحمن، القرآن والمفاهيم الأساسيّة، مجمع البحوث الإسلاميّة، باكستان، 2013، عدد 13.

8. نقرة، التّهامي، مناهج المستشرقين في الدّراسات العربيّة الاسلاميّة، المنظّمة العربيّة للتّربية والثّقافة، تونس، 1985.

لائحة المصادر الأجنبيّة

1. Partin, Harry B, Semantics of the Qurʾān: A consideration of Izutsu’s studies, in History of Religions 9.4 (1970).

2. Thoshihiko Izutsu, unicité de l’existence et création perpétuelle en mystique musulmane, Paris, les deux océans, 1980.

3. Toshihiko izutsu, the concept of belief in islamic theology, a semantic analyse of iman and islam, Tokyo, 1965.

4. Daniel A. Madigan, Writing and Authority in Islam’s Scripture, Princeton University Press, U.S.A .2001.

5. Eisuke Wakamatsu, toshihiko and the philosophy of word, international house of Japan, tokyo, 2014.

6. Michel breal, Essai de sémantique, librairie hachette, paris,1897.

7. Toshihiko Izutsu, Ethico-Religious Concepts in the Qur’an, Montreal, McGill, University, Institute of Islamic Studies, McGill University Press, 1966.

8. Toshiko Izutsu, the structure of ethical termes in the koran, keio university, tokyo, 1959, chap 7.


[1](*)- باحث وكاتب تونسي، مهتمّ بالأدب والفكر الإسلامي المعاصر، حاصل على الأستاذيّة في الآداب والدكتوراه في العلوم الإسلاميّة ومقارنة الأديان.


[2]- Eisuke wakamatsu, toshihiko and the philosophy of word, international house of japan, tokyo, 2014, P.155.


[3]- توشيهيكو، إيزوتسو، مفهوم الإيمان في علم الكلام الإسلامي، تحليل دلالي للإيمان والإسلام، ص8.


[4]- العاكوب، عيسى، درس إيزوتسو القرآني في مرآة عربيّة، ج1، ص12.


[5]- إيزوتسو، توشيهيكو، اللّه والإنسان في القرآن، ص12.


[6]- Daniel A. Madigan, Writing and Authority in Islam’s Scripture, Princeton University Press, U.S.A 2001.


[7]- الطّباطبائي، محمّد حسين، الميزان في تفسير القرآن، ص12.


[8]- عبيد، حسين عبد الرّحمن، القرآن والمفاهيم الأساسيّة، ص4.


[9]- الرّفاعي، عبد الجبّار، منهج الشّهيد محمّد باقر الصّدر في تجديد الفكر الإسلامي، ص6.


[10]- اللّه والإنسان في القرآن، م.س، ص21.


[11]- م.ن، ص27.


[12]- Michel Breal, Essai de sémantique, librairie hachette, paris, 1897.


[13]- الله والإنسان، م.س، ص31.


[14]- م.ن، ص32.


[15]- Toshihiko izutsu, the concept of belief in islamic theology, a semantic analyse of iman -and islam, tokyo, 1965, P.250.


[16]- الصّدر، محمّد باقر، مقدّمات في التّفسير الموضوعي للقرآن.


[17]- نقرة، التّهامي، مناهج المستشرقين في الدّراسات العربيّة الاسلاميّة، ص19.


[18]- الله والإنسان في القرآن، م.س، ص12.


[19]- Toshihiko Izutsu, Ethico-Religious Concepts in the Qur’an, Montreal, McGill University, Institute of Islamic Studies, McGill University Press, 1966, P.36.


[20]- اللّه والإنسان، م.س، ص24.


[21]- Partin, Harry B, Semantics of the Qurʾān: A consideration of Izutsu’s studies, in History of Religions 9.4 (1970), P.358.


[22]- Toshiko Izutsu, the structure of ethical termes in the koran; keio university, tokyo; 1959; chap 7.