البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

دور الدراسات الاستشراقيّة؛ وتأثيرها على الفهم الغربي للتّسامح الديني

الباحث :  أورنيلا سكر
اسم المجلة :  دراسات استشراقية
العدد :  43
السنة :  صيف 2025م / 1446هـ
تاريخ إضافة البحث :  June / 18 / 2025
عدد زيارات البحث :  109
تحميل  ( 507.289 KB )
الملخّص
تعدّ الدراسات الاستشراقيّة من أبرز المجالات التي ساهمت في تشكيل صورة الغرب عن الشرق، حيث قدّمت رؤية معرفيّة وتاريخيّة للأديان والثقافات العربيّة والإسلاميّة. ومنذ بداية القرن التاسع عشر ارتبطت هذه الدراسات بعلاقات معقّدة بين المعرفة والسلطة، إذ غالبًا ما كانت مرهونة بالمصالح الاستعماريّة والهيمنة الغربيّة على العالم العربي والإسلامي. في هذا السياق، يبرز دور الاستشراق في تشكيل الفهم الغربي لمفاهيم أساسيّة، مثل التّسامح الديني الذي يعتبر من الركائز الأساسيّة للفكر الغربي الحديث، والذي تتبنّاه أوروبا، خاصّة بعد فترات من الصراعات الدينيّة العميقة.
يهدف هذا البحث إلى دراسة تأثير الدراسات الاستشراقيّة على تصوّرات الغرب عن التّسامح الديني في الشرق، مع التركيز على كيفيّة تأثير هذه الدراسات في تشكيل نظرة الغرب إلى الدين، وذلك بالإجابة على سؤالين رئيسين؛ الأوّل: إلى أيّ مدى ساهمت الدراسات الاستشراقيّة في بناء أو تشويه الفهم الغربي لمفهوم التّسامح الديني في المجتمعات الإسلاميّة؟ والثاني: هل كانت هذه الدراسات أداة لفهم الثقافة الإسلاميّة في سياقاتها الاجتماعيّة والدينيّة، أم أنها أداة لفرض تصوّرات مغلوطة، مستندة إلى أيديولوجيّات استعماريّة؟
كما يتناول البحث النقد المعاصر لهذه الدراسات وطرح الأسئلة حول ما إذا كانت قد نجحت في تقديم صورة دقيقة وموضوعيّة أم أنّ غالبيّة الأعمال الاستشراقيّة ظلّت أسيرة التوجّهات الاستعماريّة والتحيّزات الثقافيّة.

كلمات مفتاحيّة: الدراسات الاستشراقيّة، الثقافة الإسلاميّة، التّسامح الديني، الاستعمار، الغرب، الشرق، الإيديولوجيّات.

مقدّمة
تكمن أهميّة هذا البحث في إعادة تقويم التصوّرات الغربيّة في الدراسات الاستشراقيّة ونقدها بمنهجيّة علميّة، وهي تهدف إلى مراجعة تاريخيّة وفكريّة ودينيّة لهذه التصوّرات، وذلك لتنقية المفاهيم والذاكرة التاريخيّة من الإسقاطات والتصوّرات الموروثة. هذه التصوّرات ما زالت تحمل طابعًا عنصريًّا واستعلائيًّا، ممّا أسهم في خلق صورة مشوّهة وغير دقيقة للشرق والإسلام، حيث جرى تصويرهما كـ«كائنات متخلّفة ودونيّة» مقارنة بتفوّق الغرب الذي صوّر نفسه بوصفه استثناءً تاريخيًّا. ومع ذلك، تكمن الحقيقة في أنّ الغرب بنى مجده على أسس من العنف والاستبداد بمختلف أشكاله، مستخدمًا «الآخر» كأداة لتبرير هيمنته من خلال تفكيك ودراسة هذه المجتمعات بما يخدم مشروعه الاستعماري، الذي كان يروّج لفكرة التفوّق الغربي استنادًا إلى تقسيمات عرقيّة غير علميّة تهدف إلى تبرير السيطرة والتحكّم تحت حجّة نشر التقدّم والتحضّر.

الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو قال: «المعرفة قوّة وسلطة»، ومن خلال هذا البحث نتبيّن كيف أنّ الغرب بنى مخيّلته المعرفيّة على علم منحاز ومؤدلج، يستند إلى عقدة التفوّق العرقي. وفقًا لهذه النظريّات، كان يُعتبر العلم الغربي هو الطريق الوحيد لبناء شعوب «متحضّرة»، في حين جرى تجاهل دور الحضارة الإسلاميّة في نقل المعرفة وتطويرها، فقد كان الفضل الكبير في تطوّر أوروبا في العديد من المجالات يعود إلى تأثيرات الحضارة الإسلاميّة، لا سيّما من خلال الترجمات العربيّة للمعارف اليونانيّة والهلينيّة. كما أنّ الإصلاحات الدينيّة في أوروبا كانت عاملًا أساسيًّا في إيقاظ الفكر الغربي وتغيير مسار التفاعل الثقافي والعلمي، ممّا أثّر بشكل جوهري على فهم التّسامح الديني في الغرب[2].
تسهم هذه الدراسة في تفكيك الأساطير التاريخيّة المرتبطة بالصورة النمطيّة للشرق والإسلام. فكلّما تمكّنا من فهم كيف تشكّلت هذه التصوّرات عبر العصور المختلفة، أصبح بإمكاننا وضع أسس لتقويض هذه الصور المضللة. إنّ إعادة النظر في الاستشراق والفكر الاستعماري ليست مجرد عمليّة أكاديميّة بحتة، بل هي مسعى لمعالجة الإشكاليّات التي خلّفها الغرب الاستعماري عبر بناء حدود مصطنعة وكيانات ضعيفة وغير قادرة على مواجهة تحدّياتها. وقد تسلّلت هذه الدراسات الموجّهة إلى كافّة جوانب الحياة الاجتماعيّة والفكريّة والسياسيّة والعسكريّة والاقتصاديّة، وحتى الإعلاميّة، مما رسّخ صورة مشوّهة للشرق بعيدًا عن التفاعل الإنساني والثقافي المشترك، وذلك على أساس أنّ الاستشراق لا يُعتبر مجرّد فكر أكاديمي، بل هو إطار معرفي تاريخي له دور طويل في تشكيل التصوّرات الغربيّة عن الإسلام والشرق. ومن خلال هذا البحث، يُعاد تسليط الضوء على الدور المنهجي والتاريخي الذي لعبته هذه الدراسات في ترسيخ هذه التصوّرات، وفي كيفيّة بناء سرديات الغرب حول التفوق الحضاري. إنّ مراجعة هذه الدراسات ونقدها بات ضرورة ملحّة، ليس لتحقيق الاعتراف والتّسامح الديني فقط، بل لتعزيز التعدّدية الثقافية في سياق ما بعد الاستشراق أيضًا، فغالبيّة هذه الدراسات ما تزال محكومة بثنائيّة متوتّرة بين التراث اليهودي-المسيحي وإرث الغرب الاستبدادي الكنسي، إرث لم ينجح في التوفيق بين الدين والسلطة رغم فصلهما رسميًا في النظام السياسي الغربي.

الدراسات الاستشراقيّة وتشكّل تصوّر الغرب عن التّسامح الديني
يبدو أنّه لا يغيب عن الباحث في قضايا الاستشراق التأثيرات والمساهمات الكثيرة والمتنوّعة للمستشرقين في الفكر الغربي، فقد ساهمت الدراسات الاستشراقيّة في تشكيل تصوّر الغرب عن الكثير من القضايا الدينيّة والتراثيّة في الشرق، ومن جملة المفاهيم التي رسمها المستشرقون في العقل الغربي مفهوم التّسامح الديني في الإسلام وما يترتّب عليه. وهنا تتولّد الكثير من الأسئلة المشروعة التي تحتاج إلى بحث ودراسة. منها، هل كانت هذه الدراسات قادرة على تقديم فهم دقيق وموضوعي لمفهوم التعدّديّة الدينيّة والتّسامح الديني، أم أنها عزّزت الصور النمطيّة التي أثّرت على العلاقات الثقافيّة والحضاريّة بين الشرق والغرب؟ ما هي الأطر النظريّة التي استندوا إليها في تحليلهم؟ كيف أثّرت هذه التصوّرات على سياسات الغرب تجاه العالم الإسلامي؟ ما هو تأثير هذه الدراسات على النظرة الحديثة للإسلام والمسلمين في المجتمعات الغربيّة؟

وهذا ما سنجيب عنه في سياق هذا البحث.

أوّلًا: كيف تناول المستشرقون مفهوم التّسامح الديني في الإسلام؟
نظرة المستشرقين إلى التّسامح الديني
لقد تناول المستشرقون مفهوم التّسامح الديني في الإسلام بطرق متفاوتة، غالبًا ما كانت مشوّهة أو متحيّزة بناءً على السياقات السياسيّة والاستعماريّة التي نشأت فيها دراساتهم. كما أنّ هذه الدراسات كانت تحمل في طيّاتها العديد من التحيّزات التي لم تعكس بدقّة واقع التسامح الديني في الإسلام؛ لذلك من المهم تقديم تحليل نقدي لما تم تناوله في هذا المجال مع التوازن بين التصوّرات الغربيّة الموروثة والواقع التاريخي للإسلام.

ففي معظم الأعمال الاستشراقيّة، خصوصًا في القرنين التاسع عشر والعشرين، صُوّر الإسلام كدين يتّسم بالتّعصب، وتُرِك انطباع لدى الغرب بأنّ التسامح الديني في الإسلام محدود أو غير موجود، بل حاول المستشرقون تصوير الإسلام كمجتمع شمولي قمعي يعامل غير المسلمين (من أهل الكتاب أو غيرهم) بعنف، مشيرين إلى جوانب مثل:
الجزية: كانت تُعتبر ضريبة مفروضة على غير المسلمين، مما جعلهم يرونها كعلامة على القهر والتمييز الديني[3]. وقد قدّموا الجزية بشكل مبالغ فيه فاعتبروها أداة لقمع غير المسلمين دون النظر في السياق الاجتماعي والسياسي الذي كانت تتبع فيه، مثل محاولة الحفاظ على النظام الاجتماعي والاقتصادي[4].

الردة: تمّ تصوير الإسلام على أنّه دين يفرض القتل على المرتد، وهو ما اعتُبر علامة على قسوة في التعامل مع حرية العقيدة[5].
التحريمات الدينيّة: من بينها قمع حرية الدين والعقيدة، وتُرِك انطباع بأنّ الإسلام يفتقر إلى أيّ نوع من التّسامح الديني.
هذا التصوّر غالبًا ما كان يتجاهل فترات التعايش السلمي بين الأديان في الدول الإسلاميّة، ويقتصر على تصوير بعض الأحداث السلبيّة.
وقد عمد المستشرقون على الاستدلال ببعض الأحداث التاريخيّة مثل الصراعات الدينيّة التي وقعت في بعض فترات الخلافة الإسلاميّة، خصوصًا في أوقات الخلافات السلطويّة، وهو ما تداخل إلى حد بعيد مع صراعات تتعلق بالسلطة والسياسة أكثر من المعتقدات الدينيّة[6]. هذه الدراسات كثيرًا ما اختزلت الإسلام في هذه الأمثلة السلبيّة، بينما تمّ تجاهل أبعاد أخرى كان الإسلام يعزّز فيها التّسامح والعدالة.

نظرة الإسلام والمسلمين إلى التّسامح الديني
يقدّم الواقع التاريخي صورة مغايرة عن التّسامح الديني في الإسلام عن تلك التي قدّمها المستشرقون، فتثبت الوقائع أنّه كان يعيش في ظلّ الحكم الإسلامي مجموعات دينيّة متنوّعة من اليهود والمسيحيّين والصابئة، وكان يُسمح لهم بممارسة شعائرهم. كما عُرفت الأندلس بـ«تعايش الأديان الثلاثة»، حيث تعايش المسلمون مع اليهود والمسيحيّين في فترة من الزمن، حيث كان هناك تفاعل فكري وديني مثمر رغم اختلافاتهم.

وكانت بلاد الإسلام تحتضن مناهج نقديّة ومنفتحة، وكان العلماء المسلمون ينتجون أعمالًا علميّة كبيرة في مجالات الترجمة والعلوم، ويطوّرونها بأسس مدنية أكثر تقدّمًا من أوروبا التي كانت تعتمد في تلك الفترة على أحكام قاسية ومعاقبة السارق والكاذب من خلال وسائل بدائية مثل الغمر في الماء المغلي. أمّا القوانين الإسلامية فقد قدمت حلولًا أكثر تقدّمًا ورحيمية، واستمدّ منها الغرب العديد من التشريعات، خصوصًا في مجالات المعاملات التجاريّة.
هذا على مستوى التاريخ والوقائع، وكذ الحال عندما ننظر إلى نصوص القرآن والسنّة سنجد نصوصًا واضحة تؤكّد على التّسامح الديني، قال تعالى: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) (آل عمران: 64).

بالإضافة إلى الأحاديث النبويّة التي تحثّ على الرحمة والمساواة بين البشر بغضّ النظر عن دينهم، مثل حديث النبي محمّد حيث قالs: «من لا يرحم الناس لا يرحمه الله»[7] وقالs: «إنما يرحم الله من عباده الرحماء»[8].
وجاء في كتاب الإمام عليA لمالك الأشتر: «وأشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبّة لهم واللطف بهم. ولا تكونّن عليهم سبعًا ضاريًا تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان إمّا أخ لك في الدين وإمّا نظير لك في الخلق يفرط منهم الزلل»[9].
ولهذا كان هناك تطبيق فعلي للتّسامح الديني في العديد من الحقبات التاريخيّة، ففي فترة الخلافة الفاطميّة كان يتمّ احترام حقوق المسيحيّين واليهود في مصر، وكان لهم دور كبير في الإدارة.

السبب وراء التناول المغلوط لمفهوم التسامح الديني في الدراسات الاستشراقيّة
الاستعمار ورؤيته للشرق: نشأت الدراسات الاستشراقيّة في فترة كان فيها الغرب في حالة صراع مع الشرق[10] على العديد من الأصعدة، وكان من المهمّ بالنسبة للمستعمرين تصوير الإسلام كدين غير متسامح لتبرير هيمنتهم. من هنا جاءت التصوّرات المغلوطة التي تحاول تصوير الإسلام كدين متشدّد، ممّا يساعد في مواقف الهيمنة الثقافيّة والاستعماريّة.

اختزال الفكر الإسلامي في بعض المواقف التاريخيّة: في بعض الحالات، كانت الدراسات الاستشراقيّة تقتصر على فترات تاريخيّة تشهد توتّرات دينيّة أو صراعات سلطويّة، مثل الحروب الصليبيّة أو الفتوحات الإسلاميّة، وبالتالي لم تُعطِ صورة دقيقة عن التسامح الديني في الإسلام الذي كان يتمتّع بدرجة من المرونة والتّسامح، في أوقات أخرى.
نقص الفهم العميق لثقافة الشرق: كانت نظرة المستشرقين أحادية الجانب غالبًا، حيث نظروا إلى الثقافة الإسلاميّة من خلال عدسة غربيّة، فغالبًا ما كان هناك فهم ضحل لأسس التّسامح في الإسلام؛ وهذا بسبب القيود اللغويّة والمصادر المحدودة التي كانت متوفرة لدى بعض المستشرقين، ممّا جعلهم يقفون عند السطح دون التعمّق في التراث الفكري الإسلامي المتنوّع.

مثلًا كان المستشرق أرنست رينان من الذين اعتبروا أنّ العقل الإسلامي غير قادر على تطوير العلم والفكر الفلسفي دون تأثير أوروبي، مستندًا إلى رؤى عنصرية حول تفوّق العقليّة الأوروبيّة، معتبرًا أنّ الشرق عاطفي وليس عقلانيًا؛ بسبب تأثير أفكاره بالاستعمار الفرنسي في الجزائر؛ حيث رأت فرنسا أنّ دورها هو تمدين المسلمين. كارل بيكر - المسيحيّة والإسلام (1907م)، حيث يضع الإسلام في مقارنة سلبيّة مع المسيحيّة حيث يصوّر الإسلام كدين يعيق التقدّم بسبب نظرته إلى القدريّة والاستبداد، معتبرًا أنّ نشر التعليم الغربي وأضعاف البنية الدينيّة التقليديّة في المستعمرات يسهم في تقليصها. أمّا لويس ماسينيون، فعلى الرغم من أنّه كان أقلّ عنصرية من رينان، إلّا أنّ تحليله للحلاج ضمن الإطار الصوفي جعله يقدّم الإسلام من منظور مسيحي غربي، ولم يخرج انتمائه المسيحي، مثله مثل حال كثير من المستشرقين الغربيّين الذين ناقشوا الإسلام انطلاقًا من مفهومهم المسيحي، وليس المفهوم الإسلامي، وذلك لأنّنا باعتقادهم، مجرّد تجارب بشريّة الهدف منها تحقيق التفوّق والتمركز الغربي والهيمنة على كافة مصادر الثروات والمعرفة في العالم من أجل تأبيد الاستكبار الغربي واستعلاء العرق الأبيض وتسيّده على باقي الشعوب، وهذه مشكلة ينبغي معالجتها عقائديًّا أكثر منه سياسيًّا؛ لأن عدم استقرار منطقة الشرق الأوسط بشكل خاصّ هو بفعل هذا الصراع الديني -القبلي- العرقي الذي يجد مسوّغاته وفق نصوص دينيّة تبرّر أعماله وأفكاره العنصريّة.

ثانيًا: ما هي الأطر النظريّة التي استند إليها المستشرقون؟
إنّ تحليل المستشرقين لمفهوم التّسامح الديني في الإسلام ارتكز على عدّة أطر نظريّة ساعدتهم في صياغة أفكارهم ومواقفهم. هذه الأطر كانت تشكل سياقات فكريّة متنوّعة انعكست على كيفيّة فهمهم للعلاقة بين الدين والسياسة والثقافة في المجتمعات الإسلاميّة. فيما يلي عرض للأطر النظريّة الرئيسيّة التي اعتمد عليها المستشرقون في دراستهم لهذا الموضوع:

الإطار التاريخي الاستعماري (Colonial Framework)
نشأت الدراسات الاستشراقية في سياق الهيمنة الاستعماريّة الغربيّة على الشرق، ممّا أثّر بشكل كبير في كيفيّة تناول المستشرقين للإسلام وثقافته. كان الاستعمار يشير إلى التفاوت الكبير بين الغرب المتقدّم من جهة والشرق المتخلّف من جهة أخرى. ففي هذا الإطار، اعتُبر الإسلام (والثقافات الشرقيّة بشكل عامّ) كـ«حضارة متخلّفة» مقارنةً بالغرب المسيحي الذي يُعتبر نموذجًا للتحضّر والتقدّم. وقد استخدم المستشرقون هذا الإطار لمقارنة الغرب بالشرق، حيث تمّ تصوير الإسلام كدين مغلق ومتخلّف، مع تسليط الضوء على مواقف متطرّفة، مثل الجزية، الحروب الدينيّة، أو تعاملات قمعيّة مع غير المسلمين. وقد أشار إدوارد سعيد في كتابه «الاستشراق» إلى أنّ الاستشراق لم يكن مجرّد دراسة علميّة لثقافات الشرق، بل كان أداة لدعم الهيمنة الغربيّة. واعتبر أنّ الاستشراق ساهم في تقديم صورة الشرق كعالم يحتاج إلى «الإصلاح» أو «الإنقاذ» من الغرب.

الإطار الاجتماعي-السياسي (Social and Political Framework)
رأى برنارد لويس في دراساته عن الإسلام والسياسة أنّ التسامح الديني في الإسلام كان محدودًا في ظلّ الأنظمة السياسيّة الاستبداديّة، وهو ما تقاطعت فيه الأديان والسياسة بشكل يتناقض مع الأنظمة الديمقراطيّة الحديثة التي تسمح بحرية الدين والتعدّديّة.
بينما رأى بعض المستشرقين أنّ الأنظمة السياسيّة الإسلاميّة تميل إلى تقييد حرية الدين تحت ستار الشريعة، خصوصًا في فترات وجود أنظمة سلطويّة أو استبداديّ،. حيث يعتبر أن الإسلام كان دينًا وشريعة وقانونًا في وقت واحد، ممّا أدّى إلى تحليلات تدور حول تقليص حرية المعتقدات الدينيّة ووجود نظام سياسي مستبد.

الإطار العقلاني/ الأنوار الغربيّة (Enlightenment and Rationalist Framework)
يستند هذا الإطار إلى التفكير العقلاني الذي ساد في أوروبا خلال عصر التنوير، والذي ركّز على الحرّيّة الفرديّة وفصل الدين عن الدولة. كان يُنظر إلى قيم التنوير كدليل على التقدّم والتحضر في الغرب. ووفقًا لهذا الإطار، كان يُنظر إلى الإسلام باعتباره دينًا ضدّ العقلانيّة ويحدّ من الحرّيّة الدينيّة وحقوق الفرد، وبالتالي كان يتمّ تقديمه كدين يفتقر إلى التسامح مقارنة بالتقاليد الغربيّة الحديثة[11]. وقد تمّ استخدام هذا الإطار لتصوير الإسلام كدين مغلق يحدّ من حقوق الفرد ويقمع التعدّديّة الدينيّة، وهو ما يقابل في الغرب قيم التنوير من حرية الاعتقاد والمساواة.
فهذا توماس كارليل في كتابه «أبطال العبادة» كان يرى أنّ الإسلام، من منظور التنوير الغربي، لم يكن متسامحًا بشكل كافٍ، وكان يتناقض مع القيم التي يعزّزها عصر التنوير مثل الحرية الفرديّة.

الإطار الديني المسيحي (Christian Theological Framework)
تمّ التركيز في هذا الإطار على المقارنة بين الإسلام والمسيحيّة كدينين توأمين، وكان يُنظر إلى التسامح الديني المسيحي باعتباره نابعًا من المغفرة والمحبة التي تمثّل القيم الأساسيّة في المسيحيّة. وكان يعتبر الإسلام دينًا أكثر تشدّدًا فيما يخصّ حرّيّة المعتقد مقارنة بالمسيحيّة التي تُصوّر على أنها أكثر تسامحًا. وقد تمّ استخدام هذا الإطار لتحليل الفروقات بين الدينين، بحيث اعتُبر الإسلام في بعض الأحيان دينًا يعتمد على القوّة والتفوّق على الأديان الأخرى، بينما المسيحية يُنظر إليها كدين يدعو إلى المغفرة والـ تسامح. فقد أشار جون إسبوزيتو في دراساته إلى أنّ المسيحيّة تقدّم نموذجًا مثاليًّا للتّسامح الديني، في حين أنّ الإسلام في بعض الأحيان يُنظر إليه كدين لا يعترف بالتعدّديّة الدينيّة بنفس الدرجة.
وجون إسبوزيتو هو أحد أبرز الباحثين الغربيّين في شؤون الإسلام والعالم الإسلامي. يتميّز بطرحه الذي يسعى إلى تقديم صورة أكثر توازنًا عن الإسلام مقارنة بالتصوّرات الاستشراقيةّ التقليديّة، التي غالبًا ما صوّرت الإسلام على أنّه دين عنف أو متخلّف. أبرز طروحاته: «الإسلام والتعدّديّة»، الإسلام السياسي وحركات الإسلام المعاصر، «الإسلام والغرب هل هناك صراع حضارات؟». من أبرز مؤلّفاته التي ردّ فيها على المزاعم الغربيّة بشأن الإسلام كتاب «التهديد الإسلامي: خرافة أم واقع؟»، من يتحدّث باسم الإسلام؟، يستند إلى دراسات ميدانيّة واستطلاعات رأي واسعة النطاق في العالم الإسلامي، حيث يكشف فيها أنّ غالبيّة المسلمين يرفضون الإرهاب ويدعمون الديمقراطيّة، لكنّهم يعارضون السياسات الغربيّة الظالمة. وكتاب: «الإسلام: الماضي، الحاضر، المستقبل»، يقدّم فيها نظرة تاريخيّة شاملة على تطوّر الإسلام من زمن النبيّ محمّدs إلى الحركات الإسلاميّة المعاصرة.

الإطار الاجتماعي-الثقافي (Cultural-Social Framework)
يتعامل هذا الإطار مع الإسلام كجزء من المجتمع والثقافة المحلّيّة، ممّا يعني أنّ الإسلام يُدرس في سياقه الاجتماعي ويُحلّل من خلال العلاقات الثقافيّة بين الأديان داخل المجتمع. وفي بعض الحالات، تمّ التركيز على الصراعات الاجتماعيّة بين المسلمين وغير المسلمين وكيفيّة تأثير هذه العلاقات على مستوى التسامح الديني.

واستخدم المستشرقون هذا الإطار لتحليل كيفية تأثّر المجتمعات الإسلاميّة بتنوّع الأديان، ولكنّهم في بعض الأحيان تجاهلوا السياقات التاريخيّة الاجتماعيّة التي كانت تُسهم في هذه التفاعلات.
وفي هذا السياق أشار هنري لاكوست في دراساته عن التعدّديّة الدينيّة في المجتمعات الإسلاميّة، مثل الدولة العثمانيّة والأندلس، إلى كيفيّة تفاعل الأديان المختلفة رغم الصراعات والاختلافات الثقافيّة.

ثالثًا: هل كان طرحهم مبنيًّا على مصادر إسلاميّة دقيقة أم على تصوّرات غربيّة مسبقة؟
من الواضح أن ما طرحه المستشرقون حول التسامح الديني في الإسلام غالبًا ما كان مبنيًّا على تصوّرات مسبقة، وعلى تشوّهات تفتقر إلى الدقّة في استخدام المصادر الإسلاميّة أحيانًا. في حين حاول المستشرقون تحليل الإسلام من خلال المصادر الأصليّة، فإنّ كثيرًا منهم اعتمدوا على رؤى غربيّة مسبقة، في سياق الهيمنة الاستعمارية والصراع الثقافي مع العالم الإسلامي، خاصّة وأنّ معظم المستشرقين في القرون السابقة (وخاصة في القرنين الـ18 والـ19) لم يكن لديهم إلمام دقيق أو فهم عميق للمصادر الإسلاميّة الأصليّة. وفي كثير من الأحيان، كانت ترجمات القرآن أو الكتب الفقهيّة التي استندوا إليها غير مكتملة أو مشوّهة. بالإضافة إلى ذلك، غالبًا ما كانوا يفتقرون إلى السياق التاريخي والثقافي الذي يحيط بهذه النصوص. فعلى سبيل المثال، الحديث الشريف والفقه الإسلامي كان يتمّ تحليله بناءً على الفهم الغربي للأديان، حيث كانت معظم التفسيرات تقتصر على الأجزاء التي تدعم أفكارهم المسبقة عن الإسلام كدين متعصّب وقمعي.

واعتمد الكثير من المستشرقين على كتابات غير إسلاميّة أو شهادات تاريخيّة مغلوطة تركّز على الحروب الدينيّة أو الفتوحات الإسلاميّة التي كانت تُصوّر الإسلام كدين لا يتسامح مع الأديان الأخرى.
أشار أرنولد توينبي في كتاباته إلى أنّ الإسلام كان دينًا يتّسم بالقوّة العسكريّة، ويتّسم بضعف التّسامح الديني، دون أن يفسّر أنّ الحروب الدينيّة التي حدثت في العصور الإسلاميّة كان لها أسباب سياسيّة واجتماعيّة إلى جانب الأسباب الدينيّة.
وعندما ظهرت الدراسات الاستشراقيّة في ظلّ الهيمنة الاستعماريّة الغربيّة، كان الهدف الأساسي لبعض المستشرقين هو تقديم الإسلام كدين متخلّف ولا يتماشى مع قيم التنوير الغربي من حيث التّسامح الديني، الحّريّة، والتعدّديّة. وبالتالي كان هذا الطرح مشبعًا بـ التحيّزات التي كانت سائدة في الأوساط الاستعماريّة الغربيّة.
وكانت الفكرة السائدة في ذلك الوقت هي أنّ الغرب، الذي كان منتصرًا في حقبة الاستعمار، كان يحمل الحقّ في تصحيح مجتمعات الشرق، بما في ذلك النقد المستمر للإسلام واعتباره سببًا رئيسيًّا وراء التخلّف السياسي والاجتماعي.
هذه التصوّرات كانت مبنيّة على صور نمطيّة لم يتمّ التحقق منها من خلال مراجعة نقديّة للمصادر الإسلاميّة نفسها. على سبيل المثال، تمّ تصوير الجزية كدليل على التمييز الديني ضدّ غير المسلمين، رغم أنّ هذا النظام كان جزءًا من الفتوحات الإسلاميّة في سياق تاريخي كان يتطلّب نظامًا ضريبيًّا خاصًّا، وكان هناك فيه الكثير من الامتيازات لغير المسلمين مقارنة بالممارسات التي كانت تحدث في الدول المسيحيّة في ذلك الوقت.

رابعًا: كيف أثّرت هذه التصورات على سياسات الغرب تجاه العالم الإسلامي؟
تأثّرت سياسات الغرب تجاه العالم الإسلامي بالتصوّرات الاستشراقيّة التي سادت في القرون الماضية بشكل كبير، وخاصّة تلك التي صوّرت «الإسلام» كدين «متشدّد وغير متسامح»، هذه التصوّرات كانت بمثابة «أداة فكريّة» لدعم السياسة الاستعماريّة، وتوجيه الرؤى الغربيّة عن الشرق والعالم الإسلامي بشكل عامّ. سنناقش هنا كيفيّة تأثير هذه التصوّرات على «السياسات الغربيّة» تجاه العالم الإسلامي في مجالات متعدّدة، مثل «الصور النمطيّة» التي رسمها المستشرقون عن الإسلام، وتقديم العالم الإسلامي كـ«تهديد حضاري» يحتاج إلى «التغيير والتوجيه» من قبل الغرب. كان الإسلام يُنظر إليه على أنّه دين غير قادر على التحديث أو التحضّر، وبالتالي كان من الضروري أن يتدخّل الغرب لحماية الأقليات و«نشر القيم الغربية» مثل «الحرّيّة» و«الديمقراطيّة» و«حقوق الإنسان».

واستخدم المستعمرون الأوروبيّون هذه التصوّرات لتبرير التوسع الاستعماري في بلاد الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وآسيا. من خلال التأكيد على التخلّف الديني في هذه المجتمعات، اعتقدت القوى الاستعمارية أن مهمّتها هي مهمّة «تحضيريّة» لإحداث تغيير ثقافي وديني في هذه المناطق.
وكانت الحروب الصليبيّة أولى الأمثلة التاريخيّة التي ربطت التصوّرات الدينيّة السلبيّة للإسلام مع الطموحات السياسيّة والاقتصاديّة للغرب. وتمّ تصوير هذه الحروب كـ حروب دينيّة ضدّ «التهديدات» الإسلاميّة.
وقد عمد الغرب إلى فرض القيم الغربية كمقابل للتسامح الديني، ففي ظلّ هذه التصوّرات الاستشراقيّة، كان يروّج لفكرة أنّ القيم الغربيّة التي تتضمّن الحرية الدينيّة والتعدّديّة، تمثّل النموذج الحضاري المتقدّم. .. وخير مثال على ذلك هو الاستعمار الفرنسي في الجزائر، حيث تمّ تصوير الإسلام كدين متخلّف وقمعي يحتاج إلى إصلاح، بينما كانت الثقافة الفرنسيّة المسيحيّة تُعتبر أكثر تقدّمًا في مجالات مثل الحرّيّة الشخصيّة والتّسامح الديني.
ومن خلال الترويج لفكرة أنّ الإسلام يشكّل تهديدًا ثقافيًّا ودينيًّا للغرب، ساهم المستشرقون في تعزيز الهوة الثقافية بين الشرق والغرب. فالتصوّرات التي روّجوا لها عن الإسلام كدين قمعي وغير متسامح جعلت الغرب ينظر إلى الشرق باعتباره مجتمعًا مختلفًا وغير قادر على التكيّف مع القيم الحديثة.
وقد أسهم هذا التصوّر في خلق هوّة معرفيّة بين العالمين، حيث كان يُنظر إلى العالم الإسلامي كمنطقة تتطلّب السيطرة والتوجيه، بينما كانت القيم الغربيّة تعتبر مثالية ويمكن أن تُحسّن حياة الشعوب «المتخلّفة» في الشرق. فالغرب كان ينظر إلى نفسه باعتباره الحضارة العليا التي يجب أن تتولّى تعليم الشرق كيفيّة العيش في سلام ديني في ظل التعددية، رغم أنّ هذه القيم نفسها كانت تتجاهل التنوّع الديني العميق داخل المجتمعات الإسلاميّة.

ومن جملة ثأثير هذه التصوّرات على سياسات الغرب تجاه العالم الإسلامي، يبرز:
تعزيز سياسات التدخّل العسكري: في الكثير من الحالات، كانت التصوّرات الاستشراقيّة تساهم في تبرير التدخلات العسكريّة في العالم الإسلامي، خصوصًا عندما كان يُعتبر أنّ التعصّب الديني وغياب التّسامح هما الأسباب الرئيسة وراء أيّ نزاعات في هذه البلدان. هذه السياسات كانت تُصور العالم الإسلامي كمنطقة غير قادرة على حكم نفسها وأنها بحاجة إلى الوصاية الغربيّة. وذلك كالتدخّل العسكري في أفغانستان في 2001م، حيث تمّ تبرير الحرب ضدّ طالبان على أساس أنّ الإسلام المتطرّف في هذه الدولة يمثّل تهديدًا للغرب، وأن التدخّل العسكري هو بمثابة مهمّة تحرير.
دعم الأنظمة العلمانيّة: بناءً على التصوّرات الغربيّة عن الإسلام، تمّ دعم الأنظمة العلمانيّة في بعض دول العالم الإسلامي، حيث كان يُعتقد أنّ الفصل بين الدين والدولة هو الطريقة الوحيدة لضمان التّسامح الديني والاستقرار السياسي.
فدعمت الولايات المتّحدة الأنظمة العلمانيّة مثل نظام الشاه الإيراني ونظام الرئيس المصري جمال عبد الناصر، على الرغم من القمع الذي كانت تمارسه هذه الأنظمة ضدّ الحركات الإسلاميّ، وقد كان يُنظر إلى هذه الأنظمة على أنها أكثر توافقًا مع القيم الغربيّة من الأنظمة التي قد تديرها حركات إسلاميّة.

خامسًا: ما هو تأثير هذه الدراسات على النظرة الحديثة للإسلام والمسلمين في المجتمعات الغربيّة؟
تأثّرت النظرة الحديثة للإسلام والمسلمين في المجتمعات الغربيّة بشكل كبير بالتصوّرات والاستنتاجات التي ظهرت في الدراسات الاستشراقيّة. هذه الدراسات التي ساهمت في تشكيل العديد من الأفكار النمطيّة حول الإسلام طوال القرون الماضية، ولا تزال تؤثّر على الوعي العام في الغرب، ممّا ينعكس في السياسات الإعلامية والثقافيّة والاجتماعيّة تجاه المسلمين. في هذا السياق، سنناقش بعض التأثيرات الرئيسيّة التي أحدثتها الدراسات الاستشراقيّة على النظرة الحديثة للإسلام والمسلمين في المجتمعات الغربيّة:

التصوّرات السلبيّة المستمرّة عن الإسلام
من أبرز تأثيرات الدراسات الاستشراقيّة أنّ الصور النمطيّة السلبيّة التي تمّ ترويجها عن الإسلام لا تزال حاضرة بقوة في الوعي الغربي. هذه الصور تُظهر الإسلام كدين متعصّب، غير متسامح، ويؤيّد العنف، ممّا يعزّز الخوف والتحفّظ تجاه المسلمين في العديد من الدول الغربيّة. وركّز على تصوير الإسلام بشكل مفرط على أنّه دين يروج لـ العنف والتشدّد، خاصّة في سياق الحروب الصليبيّة والفتوحات الإسلاميّة، وكذلك فيما يخصّ بعض الفتاوى والأحداث التاريخيّة التي قد تفسّر بمفهوم القتال دفاعًا عن الدين.

التركيز على التشدّد الديني
كثيرًا ما ركّزت الدراسات الاستشراقيّة على الظواهر المتطرّفة مثل القتل على أساس الردة وقمع المرأة، دون أن تُظهر الجوانب الأخرى من الإسلام، مثل: التسامح والتعايش الديني. هذا التفسير الانتقائي للأحداث أدّى إلى تأكيد الصور السلبيّة في وسائل الإعلام الغربيّة، ممّا أضرّ بصورة الإسلام في نظر الكثيرين.

التعميمات المغلوطة حول المسلمين
ركّزت دراسات الاستشراق على الصورة السلبيّة والمجتزأة للإسلام، وقد ساهم ذلك في خلق تعميمات مغلوطة عن المسلمين في المجتمعات الغربية. من أبرز هذه التعميمات: الجهاد المقدّس - زواج القاصرات - الحجاب[12] - تعدّديّة الزواج - أهل الذمّة - الرِّدة والجزية-.

العنف والتطرّف الإسلامي
نتيجة لتصوير الإسلام كدين يعتمد على القتال والإرهاب، تمّ ترويج فكرة أنّ جميع المسلمين يميلون إلى التطرف. هذا أدّى إلى ربط المسلمين في الغرب بالتهديدات الأمنيّة، ويُترجم في سياسة التمييز ضدّهم.
مثلًا، في أعقاب أحداث 11 سبتمبر 2001م، جرت عمليّة وصم جماعي لجميع المسلمين بالعنف، ونتج عن ذلك استهداف للمجتمعات المسلمة في الغرب سواء في الولايات المتحدة أو أوروبا، حيث تمّ تطبيق إجراءات تفتيش صارمة على المسلمين في المطارات وأماكن أخرى.

العلاقة المتوتّرة بين الإسلام والحداثة
تأثّرت النظرة الغربيّة عن الإسلام بالتصوّر الاستشراقي الذي كان يصوّر الإسلام كدين مناهض للتحديث والحداثة. هذا التصوّر كان له تأثير كبير في رسم صورة المسلمين كأناس متخلّفين ولا يستطيعون التكيّف مع مفاهيم مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان وحرّيّة التعبير؛ نتيجة لذلك يُنظر إلى بعض المجتمعات المسلمة في الغرب على أنها معارضة للقيم الديمقراطية، وبالتالي تمّ فرض تحدّيات هوياتيّة على المسلمين في تلك البلدان.

الهيمنة الثقافيّة وتأثيرها على المسلمين في الغرب
من خلال الدراسات الاستشراقيّة، تمّ تقديم النموذج الغربي بوصفه أحد أكثر النماذج تقدّمًا وحضارة مقارنة بـ الشرق الذي كان يُنظر إليه كمنطقة تتّسم بالرجعيّة والتخلّف. هذه الهيمنة الثقافية كان لها تأثير مزدوج على المسلمين في الغرب:

الضغط على المسلمين للتخلّي عن هويّتهم الثقافيّة
من خلال هذه النظرة الاستشراقيّة، تعرض المسلمون في الغرب إلى ضغوط كبيرة للتخلي عن هويّتهم الثقافيّة والدينيّة من أجل الاندماج في المجتمع الغربي. تمّ تصوير الهوية الإسلاميّة على أنها عائق أمام التكيّف مع القيم الغربيّة، مثل الحرّيّة والتعدّديّة والحقوق المدنيّة.
على سبيل المثال، كانت النقاشات حول الحجاب في أوروبا يُستخدم لتصوير الإسلام كدين يقيّد حرية النساء[13]، دون الأخذ بعين الاعتبار أنّ العديد من المسلمات يلبسن الحجاب كجزء من إرادتهن الحرة، وليس بدافع من الضغط الديني.

تعزيز التمييز العنصري والإسلاموفوبيا
لعب الاستشراق دورًا في تقوية الصور النمطيّة السلبيّة عن المسلمين، ممّا أسهم في نشر الإسلاموفوبيا في المجتمعات الغربيّة. هذه المخاوف من الإسلام كانت مبنيّة على الجهل والتصوّرات المسبقة التي تمّ تكريسها عبر قرون من البحث الاستشراق؛. ولذا برزت في السنوات الأخيرة حملات إعلاميّة غربيّة في مواجهة الإسلاموفوبيا، لكنّها لا تزال غير كافية لكسر الصور النمطيّة المتجذرة في الفكر الغربي.

الإعلام وتأثيره في تعزيز التصوّرات السلبيّة
في الإعلام الغربي، يعاد إنتاج هذه التصوّرات عن الإسلام من خلال التغطية الإعلاميّة التي تركّز على الأحداث السلبيّة غالبًا، مثل الهجمات الإرهابيّة أو المظاهرات المتطرّفة، بينما يتمّ إغفال الجهود الإيجابيّة التي يقوم بها المسلمون في تعزيز التسامح الديني والتعايش والتطوّر العلمي. هذه الصور الإعلامية تعزّز من التمييز ضدّ المسلمين وتساهم في تعزيز الإسلاموفوبيا.
وكذا التمثيلات السلبيّة للإسلام في الإعلام، مثل تلك التي تظهر في أفلام هوليوود أو في تقارير الأخبار[14]، التي تُجسّد الإسلام كتهديد من خلال الصور النمطية التي تعكس الخوف من الآخر غير الغربي.

دور الدراسات ما بعد الاستعمار في التصحيح والتحسين
بالمقابل، مع ظهور الدراسات ما بعد الاستعمار والنقد المعاصر، بدأت بعض الحركات الأكاديميّة والسياسيّة في الغرب تحاول تصحيح هذه الصور وتحسين الفهم الغربي للإسلام[15].

دعوات للتركيز على التّسامح الديني في الإسلام
هناك جهود أكاديميّة كبيرة بدأت تروّج لفهم أكثر دقّة وتراعي التعدّديّة في الإسلام، بعيدًا عن التصوّرات السطحيّة والاستشراقيّة. أعمال مثل إدوارد سعيد وعبد الله العروي وحسن حنفي تناولت الاستشراق بشكل نقدي وركّزت على كيفيّة التأثير السلبي لهذه الدراسات على الفهم الغربي للإسلام.

محاربة الإسلاموفوبيا وتعزيز الحوار الثقافي
في السنوات الأخيرة، ظهرت العديد من المبادرات في الغرب التي تسعى إلى تعزيز الحوار بين الأديان والتفاهم الثقافي، وتقديم صورة أكثر دقّة عن الإسلام والمسلمين في العالم المعاصر[16].

الخاتمة
تنقسم الدراسة إلى وجهتين نظر: الأولى ترى أنّ الدراسات الاستشراقيّة لعبت دورًا مهمًّا في إحياء التراث العربي الإسلامي وتحديثه وفقًا للمعايير الغربيّة، ممّا أسهم في تطوير المجتمعات العربيّة والإسلاميّة وظهور دول قوميّة حديثة مثل لبنان وسوريا والعراق والجزائر. كما ساعدت هذه الدراسات في ظهور حركات إسلاميّة سياسيّة مثل جماعة الإخوان المسلمين في عام 1928م، كردّ فعل على الاستعمار وضعف السلطنة العثمانيّة، بالإضافة إلى ظهور طموحات انفصاليّة وسياديّة ذات كيانات جغرافيّة.
أمّا الوجهة الأخرى، فهي ترى أنّ الدراسات الاستشراقيّة كان لها دور سلبيّ جدًّا على العالم العربي والإسلامي. لم تؤدِ هذه الدراسات دورها المنوط بالتفاهم والتّسامح الديني والتعدّديّة الدينيّة، بل كرّست مناهج تعليميّة تهدف إلى التأكيد على التفوّق العرقي الأبيض، وترسيخ الاتّجاهات التغريبيّة على حساب الثقافات المحلّيّة. هذا الأمر دفع العديد من الجامعات الغربيّة والمؤسّسات الأكاديميّة في الغرب إلى مراجعة هذه الدراسات الاستشراقيّة بهدف تحقيق «مصالحة تاريخيّة» بين الدول المستعمرة ومستعمراتها، على أساس الإنسانيّة، النقد الذاتي، والاعتذار عن جرائم الحرب والإبادة.
لكن الواقع يوضح أنّ دراسات ما بعد الاستشراق لم تكن إلّا محاولة لتطوير واستمرار منهجيّات الغرب في العنف والإجرام والإبادة بحقّ الآخر بشكل أكثر تطوّرًا ومرونة. إذ تمثّل هذه المنهجيّات في تجزئة المجزأ، وصناعة الدماء والحدود، وتغيير الوجود. هذا ما ظهر بوضوح في عصر الإصلاحات والتنظيمات خلال عهد الدولة العثمانيّة، وكذلك في تجربة الأندلس وفتوحات الغرب الكاثوليكي، مقارنة بالفتوحات الإسلاميّة التي شهدت تدخلات سلطويّة وخارجيّة، وتقاطعت مع مراحل تاريخيّة كان فيها التّسامح الديني سمة بارزة، على عكس تجربة الغرب التي كانت تتميّز بالاضطهاد والاستعلاء والتفوّق العرقي والإبادة الجماعيّة، وهو الوضع الذي ما زال موجودًا إلى يومنا هذا.
ذلك أنّ الغرب لم يشهد إصلاحًا دينيًّا حقيقيًّا بينه وبين الآخر، بل كان ما شهده من تحوّلات هو تحوّلات ثقافيّة، سياسيّة، واقتصاديّة، فرضت عليه التّسامح نتيجة الحروب الدينيّة، وتفاعلاته مع الجوار الإسلامي والتنوّع الديني في الأندلس.


لائحة المصادر والمراجع
المراجع العربيّة
القرآن الكريم.
آقا حسين الطباطبائي، السيد البروجردي، جامع أحاديث الشيعة، مطبعة المهر، قم، 1409ه‍.ق.
البدوي، عبد الرحمن، موسوعة المستشرقين، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط4.
توينبي، أرنولد، التحديات الكبرى في الحياة والدين والدولة، ترجمة: نحماد الهشمي، وزارة الثقافة، دمشق، 1999م.
الجهيني، أحمد؛ مصطفى، محمد، الإسلام والآخر، الهيئة المصرية العامة للكتاب مكتبة الأسرة، القاهرة، 2007م.
الحمادي، يوسف، الإسلام وروح التسامح والرفق، مكتبة مصر، القاهرة، 1995م.
حيدر، محمود، لاهوت الغلبة: التأسيس الديني للفلسفة السياسية الأمريكية، دار الفرابي، بيروت، 2008م.
الخنصوري، أمل، عمان في كتابات الرحالة الأوروبيين، رسالة ماجستير، كلية الآداب والعلوم الاجتماعية، جامعة السلطان قابوس، مسقط، 2009م.
خويدي، فهم، الإسلام والديمقراطية، مركز الأهرام للترجمة والنشر، القاهرة، ط1993م.
الريشهري، محمد، ميزان الحكمة، ط1، التحقيق: دار الحديث، الناشر: دار الحديث، المطبعة، دار الحديث، 1416هـ.
زيدان، يوسف، اللاهوت العربي وأصول العنف الديني، دار الشروق، 2010م.
السالمي، عبد الله بن حميد، العقد الثمين نماذج من فتاوى نور الدين فخر المتأخرين، تحقيق: سالم بن حمد بن سلمان الحارثي، القاهرة: دار الشعب.
سحاب، فكتور، من يحمي المسيحيين العرب؟. دار الوحدة، ط1، 1981م.
سعد، أنطوان، بقاء المسيحيين في الشرق خيار إسلامي، دار سائر المشرق، ط2.
سعيد، إدوارد، الاستشراق، المفاهيم الغربية للشرق، ترجمة: محمد عناني، القاهرة: رؤية للنشر والتوزيع، 2006م.
السيد، رضوان، الجماعة والمجتمع والدولة، سلطة الإيديولوجي في المجال السياسي والإسلامي، ط1، دار الكتاب العربي، بيروت، 1997م.
السيد، رضوان، المعرفي والإيديولوجي في الدراسات العربيّة للاستشراق، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2010م.
طقوش، محمد سهيل، تاريخ المسلمين في الأندلس، ط3، بيروت، دار النفائس.
عبد الرحمن، محمود، التنصير والاستغلال السياسي. دار النفائس، 2009م.
عتريسي، طلال، البعثات اليسوعية ومهمة إعداد النخبة السياسية في لبنان، الوالة العالمية للتوزيع، بيروت، 1987م.
العقيقي، نجيب، المستشرقون، ط3، دار المعارف، مصر، 1963م.
غارودي، روجيه، الأصوليات الدينيّة، ترجمة: كمال خليل، دار الشروق، 1997م.
الغريب، الدكتور فنسنت، عن الفردوس والجحيم حول الجبروت، الفردوس ما بعد الحداثي، الجهاد الإسلامي والسطوة العالمية، منشورات الجمل، دار الساقي.
فضل، د. صلاح، تأثير الثقافة الإسلامية في الكوميديا الإلهية لدانتي، ط2، دار الآفاق الجديدة، بيروت، 1405هـ/ 1985م.
فوكو، ميشال، نظام الخطاب، ترجمة: محمد سبيلا، بيروت: التنوير، 1982م.
الفيومي، الدكتور محمد إبراهيم، الاستشراق في ميزان الفكر الإسلامي، القاهرة، 1414هـ/ 1994م، سلسلة قضايا إسلامية، يصدرها المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية.
كوثراني، وجيه، المسيحيون: نظام الملل إلى الدولة الحديثة، مؤسسة الأبحاث العربية، ط1، 1981م.
المنذري، منذر بن عوض، الدور السياسي والعلمي للوكلاء السياسيين البريطانيين في عمان 1871-1913، مسقط، بيت الغشام، 2016م.
مؤنس، حسين، فجر الأندلس: دراسة في تاريخ الأندلس من الفتح الإسلامي إلى قيام الدولة الأموية، ط4، القاهرة، دار الرشاد.
النعيم، دكتور عبد الله محمد الأمين، الاستشراق في السيرة النبوية (دراسة لآراء وات-بروكلمان-فلهاوزن)، سلسلة الرسائل الجامعية، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، عدد 21، 2005م.
هانس، بيتر مارتن، هارالد شومان، فخ العولمة: الاعتداء على الديمقراطية والرفاهية.

المراجع الأجنبيّة
Neuwirth, Angelika. (2007), “Orientalism in Oriental Studies? Quranic as a Case in Point”, Journal of Quranic Studies.
Esposito, J.L. (1992), The Islamic Threat: Myth or Reality? Oxford University Press.
Esposito, J.L. What Everyone Needs to Know About Islam, Oxford University Press.
Wansbrough, J. (1977), The Quran and the Origins of Islam. Oxford University Press.
William G. Naphy, La Revoluzione Protestante, Rafaello Cortina Editore, Milano 2010.
Paolo Ricca, La Riforma Protestante (1517-1580), in Storia delle Religioni, 2-Ebraismo e Cristianesimo, editori Laterza, Roma-Bari 1995.
Geoffrey Nash, Kathleen Kerr-Koch, and Sarah E. Hackett, Postcolonialism and Islam. Routledge, 2014, Third Avenue, New York.
Anna Ball and Karim Mattar, The Edinburgh Companion to the Postcolonial Middle East. Edinburgh University Press, 2003.
Justin McCarthy, The Ottoman Turks: An Introduction to 1923. Longman, 1999.
Le Choc Colonial et l’Islam, sous la direction de Pierre Jean Luizard, Editions La Decouverte, Paris, 2006.
Dominique Chevallier, La Société du Mont Liban à l’Époque de la Révolution Industrielle en Europe, Paris, 1971.
Gontaut-Biron, Comment la France s’est Installée en Syrie, 1918-1919, Paris, 1922.
Paolo Ricca, La Riforma Protestante (1517-1580), in Storia delle Religioni, 2-Ebraismo e Cristianesimo, Laterza, Roma-Bari, 1995.
Hannah Arendt, Du Mensonge à la Violence, Pocket Calman Levey, 1972.
Kraemer, H. (1938), The Christian Message in a Non-Christian World. London: Harpers.


-----------------------------------------
[1](*)- صحفيّة وباحثة لبنانيّة متخصّصة في العلاقات الدوليّة والدراسات الاستشراقيّة.
[2]- Paolo Ricca, La Riforma Protestante (1517-1580), in Storia delle Religioni, 2-Ebraismo e Cristianesimo, Laterza, Roma-Bari, 1995, p.370.
[3]- الجزية نظام ضرائبي بالمفهوم المعاصر وهو مستفاد بالأساس من النظام الروماني، وكان نظامًا عادلًا ورحومًا أكثر منه في باقي الأنظمة وشهد حالات استرحام، بالمقارنة مع الأنظمة الرومانيّة أو الفرعونيّة، كانت الضرائب تعسّفية وأحيانًا تُفرض دون مراعاة للقدرة المالية أو الوضع الاجتماعي، وكان الفقراء يواجهون بسببها ظلمًا شديدًا.
[4]- د. عبد الوهاب، الجزية في الفقه الإسلامي مقارنة بالنظام الروماني، فقه السياسة الشرعيّة للمؤلفين مثل الشيخ محمد الصادق عرجون، والذي قد يناقش الجزية في سياق الأحكام المالية والضرائب في الإسلام، المرجع: الفقه الإسلامي وأدلته للدكتور وهبة الزحيلي-: يتناول فيه جملة من الأحكام الفقهية مثل الجزية ضمن أبواب أحكام الجهاد والضرائب، 1989، مجلة الشريعة والدراسات الإسلامية، الكيوت، 2017.
[5]- الأردبيلي، السيد عبد الكريم الموسوي، أحكام الارتداد دراسة مستأنفة على ضوء القرآن والسنة، مجلة الدراسات القرآنيّة، ص148. انظر: الشيخ الطوسي، الاستبصار، ج4، ص331. فضلًا إلى أنّ الدراسة تشرح الجوانب كافة سنة-وشيعة. انظر: المستشرق برنارد لويس في كتابه: الإسلام في التاريخ/ 1973، الذي يرى أنّ حكم الردة يعكس عدم تسامح الإسلام مع التعدّديّة الدينية وأنّه جزء من عقليّة توسعيّة تفرض الالتزام الديني بالقوّة، مشيرًا إلى أنّ الردة مرتبطة بالخيانة السياسيّة لا بمجرّد تغيير المعتقد، في ظل صراعات بين الدولة الإسلامية وأعدائها. كذلك انظر: كروان، باتريسيا، الحكم في الإسلام المبكر: الردة كانت أداة سياسية لتعزيز سلطة الخلفاء الأوائل وليست جزءًا من العقيدة، متجاهلة الكيفيّة التي تعاملت فيه المجتمعات القديمة مع تغيير الولاء الديني على أنّه تهديد للدولة كما كان الحال في أوروبا والشرق الأقصى. انظر: المستشرق جوزيف شاخت 1950، أصول الفقه الإسلامي، الذي اعتبر أنّ الإسلام لم يطبق الردة دائمًا كعقوبة، وكان هناك خلاف بين العلماء حول كيفيّة التعامل معها.
[6]- William G. Naphy. La Revoluzione Protestante. Raffaello Cortina Editore, Milano, 2010, p.189.
[7]- السيد البروجردي، جامع أحاديث الشيعة، ج15، ص529.
[8]- الريشهري، محمد، ميزان الحكمة، ج2، ص1044.
[9]- نهج البلاغة، خطب الإمام عليA ج3، ص84.
[10]- في إطار الاستشراق خلال فترات الاستعمار والصراعات الثقافيّة، قدّم العديد من المستشرقين صورة مشوّهة عن الإسلام، مركّزين على العنف والتعصب ومغفلين الجوانب الإنسانية والتسامحية في الدين. من أبرز هؤلاء: إرنست رينانم (1823-1892م) الذي اعتبر الإسلام دينًا جامدًا ومعاديًا للعقل والتقدم، غوستاف فون غرونباوم (1909-1972م) الذي ربط بين الثقافة الإسلاميّة والتخلّف، واعتبر الإسلام دينًا لا يسمح بالإبداع، وبرنارد لويس (1916-2018م) الذي صوّر الإسلام كدين عنيف وغير قادر على التكيّف مع الحداثة. كذلك، هنري لامنس (1862-1937م) الذي صوّر الإسلام كدين توسّعي عنيف، وديفيد صموئيل مارغليوت (1858-1940م) الذي ربط انتشار الإسلام بالقوّة العسكريّة، وولفرد كانتويل سميث (1916-2000م) الذي اعتبر أنّ الإسلام لا يستطيع التفاعل مع التعدّديّة الدينيّة الحديثة. أمّا باتريسيا كرون (1945-2015م) فقد شكّكت في أصول الإسلام وسيرته النبويّة، معتبرة إيّاه نظامًا اجتماعيًّا سياسيًّا أكثر منه دينًا روحيًّا.
علاوة على ذلك، كانت بعثات التنقيب الاستعماريّة في العراق والشام والمغرب العربي تهدف إلى تعزيز الرواية الغربيّة التي تصوّر الإسلام كدين هدم الحضارات السابقة، حيث كانت بعثات مثل “لورنس العرب (1916-1917م) قد «صوّرت الإسلام كديانة قبلية غير قادرة على التحديث، رغم أنّ الإسلام كان نظامًا حضاريًّا وحّد بين شعوب مختلفة وأسّس إمبراطوريات مزدهرة. كما سعت بعثات التنقيب الفرنسيّة في الجزائر والمغرب إلى تشويه صورة الفتح الإسلامي باعتباره مدمّرًا للحضارات السابقة، رغم أنّ الإسلام دمج بين العناصر الأمازيغيّة والرومانيّة في ثقافة مزدهرة. في الأندلس، حاول المستشرقون الأوروبيّون إظهار الأوروبيّين واليهود كالعوامل الأساسيّة في التقدّم العلمي، متجاهلين دور العلماء المسلمين مثل ابن رشد وابن حزم. وابتكر بعض القساوسة والمبشّرين حملات دعائية لإشعال الفتن بين المسلمين من خلال نشر الإشاعات ضد الإسلام، وذلك بهدف زعزعة استقرار المجتمعات الإسلاميّة، بينما كان الإسلام في الواقع يشهد على التعايش والازدهار في ظلّ حكمه.
[11]- يعد برنارد لوس من المستشرقين الذين هندسوا لسياسة صدام الحضارات بين الغرب والشرق، مستندًا على طروحات منحازة، وقد كان لهؤلاء تأثير في تشكيل الرؤية الغربيّة للعالم الإسلامي، خاصّة في دوائر صنع القرار الأمريكيّة. اعتمد على أطروحات تاريخيّة وسياسيّة عزّزت التصوّرات الاستشراقيّة التقليديّة حول الإسلام وربطها بالصراعات المعاصرة، ممّا جعله مرجعًا فكريًّا في السياسات الغربيّة تجاه الشرق الأوسط. من طروحاته: «الإسلام والغرب، معتبرًا أنّ الإسلام بطبيعته دين عدائي تجاه الغرب بسبب عدم قدرته على تقبّل الحداثة والديمقراطيّة. في كتابه ما الخطأ الذي حدث، -2002، يجادل بأنّ تخلّف العالم الإسلامي سببه عدم قدرته على تبنّي الحداثة الغربية، وأنّ المسلمين يعيشون أزمة ناتجة عن إخفاقاتهم الداخليّة وليس بسبب الاستعمار، ويرى أنّ العرب والمسلمين يميلون إلى فكر المؤمرة ووضع اللوم على الغرب بدلًا من إصلاح أنفسهم وأنظمتهم. ويدعي أن المسلمين يكرهون الغرب بسبب نجاحه وليس بسبب سياساته الاستعماريّة، مشدّدًا على الإحباط الحضاري للشرق وليس للهيمنة الغربيّة او الاستعمار. ومن المهم الإشارة أنه من الأوائل الذين استخدموا الإسلامويّين باعتبار أنّهم يسعون إلى استعادة الخلافة عبر العنف، وهو ما استخدم لاحقًا لتبرير الحرب على الارهاب، وهو من انتقد السلطة العثمانيّة واعتبر أنّ الاستعمار البريطاني والفرنسي كان مهمًا؛ لأنه ساعد في تحديث الدول العربيّة. إنّ هذه الطروحات ساعدت السياسة الأمريكيّة في الغزو العراقي عام 2003م، وتقديم مبرّرات فكريّة للحرب على الإرهاب، وخاصّة في تحليل دوافع القاعدة وهمجمات 11 أيلول، فضلًا عن توظيف تاريخ الحشّاشين في الصراع السني الشيعي وصناعة داعش، وكان المرجع الرئيسي للصحافة الغربيّة في تفسير القضايا الإسلاميّة وتقديم الإسلام في صورة معادِ للحداثة وتمكين مفهوم الخطر الإسلامي أو ما يعرف بالإسلاموفوبيا حيث أثّرت أعماله على اليمين المتطرّف في أوروبا وأمريكا، حيث دعمت نظرياته سياسات العداء تجاه المهاجرين المسلمين. وترسيخ الهيمنة الغربيّة على العالم الإسلامي وتقويض حقوق العرب والفلسطنيين وتشويه صورة التاريخ الإسلامي.
[12]- راجع: كتاب برنارد لويس: الإسلام وأزمة الحداثة» (1988م)، حيث يناقش إشكاليّة الحجاب في الإسلام، متجاهلًا السياق التاريخي. يُظهر لويس الحجاب كظاهرة دينيّة إسلاميّة دون النظر إلى أنّ الحجاب كان موجودًا أيضًا في المجتمعات المسيحيّة الأوروبيّة المحافظة، التي مرّت بثورات طويلة حتى تمكّنت النساء من الحصول على حقوقهن وحرّيّتهن، من خلال الثورات الجنسيّة التي بدأت في منتصف القرن العشرين، مثل ثورة الستينات وسبعينات القرن الماضي، والتي شكّلت تحوّلًا في العلاقات الاجتماعيّة والجنس والحرّيّة الشخصيّة، وأسفرت عن تحرّر النساء من القمع الاجتماعي الذي فرضته المجتمعات التقليديّة. فضلًا عن ذلك، يُغفل أن الحجاب ليس خاصًّا بالإسلام فقط، بل هو موجود في الديانات الأخرى مثل اليهوديّة والمسيحيّة. على سبيل المثال، البرقع اليهودي الذي يُشبه البرقع الأفغاني كان موجودًا في بعض التقاليد اليهوديّة القديمة، ممّا يجعل إشارته إلى الحجاب في الإسلام دون مقارنة مع هذه الديانات ناقصة وغير دقيقة.
[13]- الناجي، محمد، «جند خدم وسراري-الرق في المغرب»؛ انظر: العماري، لبنى، تعليم الفتيات الغربيات خلال فترة الحماية الفرنسية (1919-1956م)؛ انظر: حركة الدفاع عن حقوق الانساني للنساء المغربيات، مقاربة تاريخية وثائقية، الترجمة الفرنسية الأصلية، تنسيق آسيا بنعدادة؛ انظر: النساء المغاربيات زمن الاستعمار (1962-1980م)، الموروثات والمتغيّرات، سعاد زبيطة. فاطمة المرنيسي، حريم السلاطين، ونوال السعداوي، الرباط، منشورات المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير، 2020. انظر: أثر تدخل الأجنبي على المرأة والزواج في القرن 19، المغرب، منشورات الجمل، ودراسة سوسيولوجية مقارنة بين نساء المغربيات المسلمات واليهوديات في المغرب نقلًا عن مجلة المغرب جامعة محمد الخامس، الرباط وجامعة الملك السعدي، نقلًا عن مجلة القديس يوسف - الكسليك، جونية، بعنوان: مقارنة بين النظرة الغربية والإسلامية للمرأة المحاربة في المقاومة المسلحة مثل: الشخصيّات التاريخيّة كفاطمة نسوملر في الجزائر وزينب النفزاوية في المغرب مقارنة مع نساء يهوديات لعبن أدوارًا عسكريّة مثل حانا سينش خلال الحرب العالميّة الثانية أو المجنّدات في الجيش الإسرائيلي، وكيف لعبت النظرة الاستشراقيّة دورًا سلبيًّا ومنحازًا في تصوّرات معيّنة عن الحجاب وربطه بالتخلف والقمع مع العلم أنّه مثّل رمزًا طبقيًّا، وشكّل تحوّلًا ثقافيًا في أوروبا والعالم الإسلامي. انظر إلى ثقافة الحجاب في أوروبا القرون الوسطى قبل الثورة الصناعيّة والجنسيّة. وسياسة أوروبا تجاه الحجاب والبرقع مقابل موقفها من الأزياء الدينيّة اليهوديّة: كجلة لوبز الفرنسية نشرت تقرير للمستشرق الفرنسي جيل كبيل بعنوان مسابح نيس والراديكالية الإسلامية بشأن البوركيني الإسلام السياسي، ص12.
[14]- باغتشي، اميا كومار، العبور الخطر، ص191 شرح: هذا الكتاب يشرح كيف تقوم الأبحاث الجينوم واستغلال العلم لمصحلة الثقافة الغربيّة والتسويق للاستعلاء الغربي من خلال نظريّة العلوم الكاذبة والمبالغ فيها مثل الجينوم وعلم الوراثة لتبرير المثليّة والتمييز بين مجتمعات وأخرى على أسس وتصنيفات إيدلولوجيّة عنصريّة تقوم على التحضّر مقابل تخلّف شعوب أخرى مثلًا: الحركات النسويّة في الغرب تسوق لثقافة التحرّر الجنسي والمساواة بين الجنسين مثال دو بوفوار التي تدعو إلى حقّ اعتناق الجنسي وتزعم أن الغرب والنساء الأوروبيات هنّ من يكافحن التحرّش الجنسي والاغتصاب من خلال إحصائيّات مراكز أبحاث نشرت في مجلة أمركان جورنال من خلال تقرير يفيد أنهنّ يكافحن الأفلام الإباحية بعكس المجتمعات العربيّة التي يرتفع فيها منسوب مشاهدة الأفلام الإباحية.
[15]- دراسات ما بعد الاستعمار كانت بمثابة تحول كبير بالنسبة للغرب بهدف تصحيح مسارها وتطوير منهجياتها وتحسين نظرتها تجاه الآخر وهي من أهم الأعمال التي عبرت عن هذه النظرة، مثل مراجعة الحروب الصليبية. انظر: هيلين نكلسون وجان فينيل الذين صحّحوا تاريخ الحروب الصليبيّة باعتبارها أداة للهيمنة الاستعمارية. انظر: اتري تشاكرافورتي سبيفاك، شرح: من كتاب «هل يمكن للمنبوذين أن يتكلموا»؟، طورت سبيفاك مفهوم الصوت المهمش، حيث ناقشت كيف أن الناس المهمشين في المستعمرات السابقة لم يكونوا قادرين على التعبير عن أنفسهم في السرديات الاستعمارية. ودعت إلى ضرورة إعطاء أهمية للأصوات المهمّشة والمحلية، بعيدًا عن صوت المستعمر كذلك. انظر: ايميه سيزال والأدب الفرنكوفوني والثقافة الأفريقية المحلية. انظر: هوما خوجا، الثقافات الهجينية وتوسيع مفهوم التعددية الثقافية وتطوير دراسة الهويات (1994). انظر: فرانز فانون، 1961، تأثير الاستعمار على النفسيات، مشيرًا إلى أن الاستعمار يؤدي إلى التشوه النفسي والعاطفي للفئات المستعمَرة. كما قدم تحليلًا نفسيًا للمستعمر والمستعمَر وناقش كيف أنّ الاستعمار يخلق أعطابًا نفسية على المستعمرين والمستعمَرين على حدّ سواء في إطار مناهضة الاستعمار في سياق الثورات الإفريقية. انظر: انيشكا هابرمان، 1998، ركزت على دور الاستعمار في تشكيل الطبقات الاجتماعية، وناقشت العلاقة بين الاستعمار وبين الطبقات الاجتماعية، العرق، والجنس. إنّ دراسات ما بعد الاستعمار مهمّة لمراعاة تاريخ الغرب الاستعمار وتحقيق العدالة التاريخية والتعددية الدينية والتسامح الديني، وهذا ما حاولت فعله عديد من المراكز والجامعات الغربية، وتحديدًا على مستوى الهولوكوست والنازية الألمانية وعلاقة الغرب الأوروبي مع المظلومية اليهودية من خلال دراسات الذاكرة والمصالحة، انظر: متاحف ومؤسسات الهولوكوست في واشنطن 1993م ومؤسسة ياد فاشيم في إسرائيل وتدريس المحرقة اليهودية في مناهج الغرب التعليمية في إطار الواجب الأخلاقي بعد أوشفيتيز أي ثقافة الذكرى. غير أنّ هذه المحاولات بقيت أسيرة النهج الاستعلائي والعنصري والاستعماري لمهاجمة بعض السياسات المعادية للسامية يقابلها: دراسات بعنوان احتكار المعاناة التي شهدت تحولًا من خلال ظهور أصوات أخرى تتحدث عن محرقة الآخرين مثل مذابح الأرمن والفلسطينيين. راجع: طروحات بيير نورا أماكن الذاكرة - يان اسمن الذاكرة الثقافية - طوني جوت - ما بعد الهولوكوست والتأكيد على ثقافة الشعور بالذنب الجماعي؛ ما أدّى إلى دعم واسع لإسرائيل وتحقيق مكاسب سياسيّة. والأهم كتاب زيجفريد كراكاور - التاريخ والذاكرة الذي يناقش فيه كيف أن وسائل الإعلام ساعمت في بناء صورة معينة عن المحرقة كحدث استثنائي بينما تم تجاهل جرائم الإبادة الأخرى.
[16]- برادفورد هول، 2005، درس كيفيّة تطوّر الفكر السياسي الإسلامي، ويظهر كيف كانت الدراسات الاستشراقيّة تهمش النظريّات السياسيّة الإسلاميّة، معتمدًا على نظريّات شاملة ومراجعات بشأن الحكم والسياسة في الإسلام تتجاوز النظرة التقليديّة كدين يضطهد الآخر. نظريّات الفكر الإسلامي. انظر: باتريسيا كراون في دراستها حول إسلام المبكر بناءً على مراجعة تاريخيّة لمحمّد ومكّة.