بين يَدَي الكتاب
لم يقتصر المستشرقون في دراستهم للإسلام -انطلاقًا من دوافعهم الاستعماريَّة والتبشيريَّة- على القرآن الكريم، فما إن أدركوا أنَّ الحديث يمثِّل المصدر الثاني للتشريع في الدين الإسلاميّ بعد القرآن الكريم من حيث الوثاقة والاعتبار، وأدركوا أهمِّيَّة هذا المصدر ومكانته وتأثيره على ثقافة المسلمين، وأنَّ كثيرًا من العلوم الإسلاميَّة قد تبلورت واتَّسع نطاقها في أحضان الحديث، وأنَّ كثيرًا من كتب المسلمين ومصادرهم قد انتظم عقدها وتبلورت من خلال صلتها بالأحاديث والروايات المأثورة، حتَّى دخل الحديث في أفق النشاط الفكريّ لكثيرٍ من هؤلاء المستشرقين، فصبُّوا جهودهم على دراسته.
يهدف مرتضى مداحي، معدّ هذا الكتاب، إلى تقديم تقريرٍ عن دراسات المستشرقين بشأن الحديث؛ وذلك من خلال مقالات عشر عرضت أبرز آراء المستشرقين في مجال الحديث، وعملت على مناقشة جانب من هذه الآراء ونقدها من قبل محقِّقين في هذا الحقل.
وفيما يأتي بيان ما اشتملت عليه هذه المقالات العشر:
1. المقالة الأولى: بعنوان «الدراسات الغربيَّة حول الحديث»، لمؤلِّفها «دانييل و. براون»
يستعرض دانييل براون في هذه المقالة تطوُّر الدراسات الغربيَّة حول الحديث منذ القرن التاسع عشر، ويتتبَّع أهمّ الأسماء والاتِّجاهات التي أثَّرت في هذا الحقل، ومن أبرزها:
أ. ألويس شبرنجر: يعدُّ من أوائل من درسوا الحديث تاريخيًّا، حيث قدَّم نقدًا لفكرة التدوين المتأخِّر، واعتبر الأحاديث مليئةً بالتحريف، لكنَّه رأى أنَّه بالإمكان التعامل معها عبر النقد البنَّاء.
ب. ويليام ميور: ركَّز على السيرة النبويَّة، وكان موقفه مشكّكًا في الأحاديث، معتبرًا القرآن المصدر الوحيد الموثوق، لكنَّه أقرَّ أحيانًا بموثوقيَّة بعض الأحاديث التي توافق نظره.
ت. إجناتس جولدتسيهر: مثَّل مرحلةً مفصليَّةً في نقد الحديث، وادَّعى أنَّ الأحاديث ما هي إلَّا انعكاسات للتطوُّرات السياسيَّة والعقديَّة في القرنين الأوَّل والثاني الهجريّ، وأنَّها وُجدت لتبرير تلك التوجُّهات.
ث. جوزيف شاخت: ذهب إلى أنَّ الأحاديث الفقهيَّة صيغت لاحقًا، وجرى ربطها بسند مصطنعٍ يعود للنبيّ، واستخدم نظريَّة «الحلقة المشتركة» لتأريخ الحديث وتحديد منشئه.
ج. هارالد موتسكي: انتقد تعميمات جولدتسيهر وشاخت، وأثبت عبر منهج السند والمحتوى إمكانيَّة إرجاع تأريخ بعض الأحاديث إلى القرن الأوَّل الهجريّ.
ح. مايكل كوك وغريغور شولر وغوركي: أعادوا اختبار مناهج التأريخ بناءً على نقد الأسانيد وقدَّموا رؤًى أكثر توازنًا، على الرغم من أنَّ بعضهم خلص إلى محدوديَّة إمكان الثقة بالأحاديث المبكرة.
خ. غوتييه جوينبول: عمل على تصنيف الروابط المشتركة بين الأحاديث، وطوَّر تحليلاتٍ دقيقةً لتمييز الروابط الحقيقيَّة من المزيَّفة، لكنَّه لم يجزم بتزوير الأحاديث كلّها.
2. المقالة الثانية «رواية الحديث في الدراسات الغربيَّة»
يدرس مجموعة من الباحثين في هذه المقالة تطوُّر المقاربات الغربيَّة لرواية الحديث النبويّ؛ وذلك من خلال التركيز على كيفيَّة تعاطي المستشرقين مع عمليَّة جمع الحديث، وتصنيفه، وتوثيقه في الدراسات الغربيَّة.
تشير المقالة إلى فكرة سادت لدى أغلب المستشرقين الدارسين للحديث النبويّ مفادها أنَّ التصنيف والتنظيم الذي قام به المحدِّثون المسلمون في القرن الثاني الهجريّ كان ظاهرةً متأخِّرة وغير أصيلة، وبالتالي فإنَّ الحديث النبويّ -بنظرهم- هو نتاج جهود بشريَّة لاحقة وليست نقلًا حرفيًّا عن النبيّ محمَّدs.
تتناول المقالة كذلك الجهود التي بذلها بعض المستشرقين في دراسة توثيق الرواة، مع الإشارة إلى تشكيك عددٍ منهم في مصداقيَّة المصادر الإسلاميَّة المتأخِّرة التي اعتمدت على السلسلة الإسناديَّة للروايات. تنتقد المقالة -أيضًا- الدراسات التي أُجريت حول إشكاليَّة «صحَّة الحديث»؛ إذ يرى المستشرقون أنَّ الأحاديث التي تتضمَّن مضامين دينيَّة وسياسيَّة مشبوهة قد أُضيفت لاحقًا إلى تراث الحديث لتخدم أغراضًا سياسيَّة أو اجتماعيَّة. كما تشير إلى أنَّ من بين أبرز المستشرقين الذين ساهموا في هذه الرؤى «جولدتسيهر» و«شاخت» اللذين كان لهما الدور الرئيس في التشكيك في أصالة عددٍ من الأحاديث، معتمدين على نظريَّاتٍ نقديَّةٍ تستند إلى السياق الزمنيّ والسياسيّ للإسلام في القرون المتأخِّرة.
تستعرض المقالة -أيضًا- تطوُّر هذه الدراسات في القرن العشرين، وتكشف عن ظهور مواقف أكثر توازنًا لبعض المستشرقين الذين حاولوا تقديم قراءات أقلّ تشدُّدًا حول صحَّة الأحاديث، ولكنَّهم ظلُّوا ملتزمين بمنهجيَّاتهم الغربيَّة التي تبتعد عن الفهم الشامل للنظام العلميّ الذي وضعه المحدِّثون المسلمون. وفي هذا السياق، تناقش المقالة الفروقات الجوهريَّة بين أساليب البحث الغربيّ ومناهج التصنيف الحديثيّ الإسلاميّ، مؤكِّدةً على أهمِّيَّة النظر إلى عمليَّة رواية الحديث بوصفها عمليَّة ثقافيَّة ودينيَّة عميقة الجذور في السياق الإسلاميّ لا يمكن اختصارها في تقنيَّاتٍ نقديَّةٍ غربيَّةٍ محضة.
3. المقالة الثالثة: «تأرخة الروايات الإسلاميَّة: دراسة نقديَّة لمنهجيَّة جوينبول” لمؤلِّفها «سيِّد عليّ آقائي»
تمثِّل هذه المقالة دراسةً نقديَّةً منهجيَّةً للرؤية الاستشراقيَّة التي طرحها المستشرق الهولنديّ «غوتييه جوينبول» في تعاملاته مع الروايات الإسلاميَّة. يبدأ آقائي بتوضيح منهج جوينبول في تأريخ الروايات الإسلاميَّة، الذي يعتمد بشكل أساس على التشكيك في صحَّة الروايات وتحليلها في سياقها التاريخيّ والسياسيّ، بناءً على مواقف واختلافاتٍ كانت سائدةً في القرون الأولى من تاريخ الإسلام. يشير آقائي إلى أنّ جوينبول كان يعتقد أنَّ الروايات التي توصَّل إليها علماء الحديث لم تكن في كثيرٍ من الأحيان تعكس حقيقة الأحاديث، بل هي في الأغلب نتيجة لتطوُّرات تاريخيَّة تتعلَّق بالصراعات السياسيَّة والدينيَّة بين الفرق الإسلاميَّة.
يستعرض آقائي الجوانب الرئيسة لمنهجيَّة جوينبول التي تقوم على فحص الروايات من خلال تحليل الإطار الزمنيّ الذي نشأت فيه؛ وذلك من خلال عرض تفصيليّ لتحليل جوينبول لروايتين، وبيان أهمّ الركائز التي تقوم عليها منهجيَّته التحليليَّة، من قبيل: «الحلقة المشتركة»، «الطريق المفرد»، «شبكة الإسناد»، «طريق الطفرة»، و«الشبكة العنكبوتيَّة».
على الرغم من إشادة آقائي بمنهجيَّة جوينبول، فإنَّه يصفها بأَّنها لا تزال محاطةً بكثيرٍ من الغموض وعلامات الاستفهام، وأنَّ بعض ركائزها النظريَّة عُرضة للنقد وبحاجة إلى تنقيح؛ وذلك بعد أن عرض جملةً من الإشكالات والملاحظات التي سجَّلها الباحثون الغربيُّون أنفسهم على منهجيَّة جوينبول.
4. المقالة الرابعة: «تأرخة الأحاديث الإسلاميَّة: الأساليب والطرق» لـ«هارالد موتسكي»
يركِّز المستشرق «هارالد موتسكي» في مقالته هذه على مسألة تأرخة الحديث النبويّ، وهي من القضايا الجوهريَّة التي دار حولها الجدل في الأوساط الاستشراقيَّة والإسلاميَّة المعاصرة.
يبني موتسكي طرحه على مراجعة النقد الجذريّ الذي وجَّهه المستشرقون (خاصَّة جوزيف شاخت) للحديث النبويّ، حيث رأوا أنَّ أغلب الأحاديث قد نُسجت في القرنين الثاني والثالث الهجريَّين لخدمة أغراضٍ فقهيَّة وسياسيَّة.
استعرض موتسكي أبرز النظريَّات الاستشراقيَّة التقليديَّة في تأرخة الأحاديث، مركِّزًا على ما تعانيه من خطأ في التعميم وضعف الدقَّة المنهجيَّة، مرجعًا ذلك إلى تجاهلها تحليل المتون واعتمادها على تفكيك الأسانيد فقط.
يقدِّم موتسكي منهجًا بديلًا يقوم على تحليل السند والمتن معًا، ويعتبره أداةً تأريخيَّة أكثر موضوعيَّة، ثمّ يختبره بتطبيقه على نماذج من مصنَّف عبد الرزَّاق الصنعاني؛ ليُظهر بذلك إمكان تتبُّع التطوُّر النصِّيّ للأحاديث وتحديد طبقات الرواة وفقًا لما يُستفاد من ثبات المتن أو تحوُّله.
يستفيد موتسكي من الأدوات النصِّيَّة واللغويَّة في تتبُّع البنى الأدبيَّة للأحاديث ومقارنتها داخل المتن نفسه أو عبر متونٍ أخرى، معتبرًا أنَّ الحديث الذي يظهر في رواياتٍ متقاربة النصّ ومتسلسلة الإسناد هو أكثر موثوقيَّة، وبالتالي يمكن تأريخه بوجهٍ أدقّ.
5. المقالة الخامسة: «مدخل إلى أساليب رواية الحديث في الإسلام -منشأ إسناد الحديث في التأريخ الإسلاميّ ومدى اعتباره-» لمؤلِّفتها «فروغ بارسا»
هدفت فروغ بارسا في مقالتها هذه إلى إثبات أنَّ نظام إسناد الحديث الذي ابتكره المسلمون لم يكن متأخِّرًا عن زمن رواية الأحاديث، خلافًا لما ذهب إليه بعض المستشرقين أمثال: إجناتس جولدتسيهر، وجوزيف شاخت، وغيرهم من الذين انتقدوا الأحاديث المرويَّة في المصادر الإسلاميَّة وحاولوا التشكيك بمصداقيَّتها من خلال نقدهم لأسانيدها، واعتبارهم أنَّ كلَّ فرقةٍ قد صنعت لنفسها أسانيد حديثيَّة بهدف إثبات أفكارها وعقائدها.
تنقل بارسا عددًا من الأدلَّة التي استدلَّ بها بعض المستشرقين وبعض علماء المسلمين والتي أثبتوا من خلالها مصداقيَّة إسناد الحديث في المصادر الإسلاميَّة على الرغم من وجود بعض الأحاديث الموضوعة، وأنَّ أسلوب الإسناد هذا يعتبر من الأمور اللازمة لتمييز الأحاديث الصحيحة من غيرها، وأنَّه كان متعارفًا منذ عهد صحابة رسول اللهs، وشاع عرفًا ثابتًا في منتصف القرن الأوَّل للهجرة، وكان في البداية مختلفًا من مدينة إسلاميَّة إلى أخرى، لكنَّه تكامل تدريجيًّا حتَّى صار في أواخر القرن الثاني للهجرة ظاهرةً عامَّةً في المدن كافَّة، بحيث استوجبت رواية كلّ حديثٍ ذِكرَ سنده.
6. المقالة السادسة لـ«فروغ بارسا» أيضًا، بعنوان: «تقاليد رواية الحديث -دراسة مقارنة لآراء المستشرقين-»
تعرض بارسا في مقالتها هذه الآراء المختلفة للمستشرقين في تاريخ بدء كتابة الحديث، فبينما أرجع التيَّار التاريخيّ (ويل، ميور، ودوزي) هذه البداية إلى القرن الثاني الهجريّ، وأرجعها تيَّار التشكيك إلى القرن الثالث الهجريّ، يُعتبر ما ذهب إليه موتسكي من وجود شواهد على كتابة الحديث في القرن الأوَّل خطوةً متقدِّمة إلى الأمام مقارنةً بسائر المستشرقين، لكنَّها لا تزال بعيدةً كثيرًا عن التاريخ الذي يعتبره علماء المسلمين تاريخًا أكيدًا لكتابة الحديث وهو زمن حياة رسول اللهs.
يستند المستشرقون في إثباتهم لتأخُّر كتابة الحديث إلى بعض الأحاديث المنسوبة إلى الرسولs نفسه التي تمنع كتابة الأحاديث، على الرغم ممَّا قدَّمه بعض علماء المسلمين من أدلَّةٍ وشواهد كثيرة تثبت التاريخ المبكر لبدء كتابة الحديث في زمن رسول اللهs، ووجود روايات يمكن الوثوق بها مفادها أنَّ الرسولs أمر شخصيًّا بتدوين حديثه وشجَّع عليه، مضافًا إلى ما يعتقد به علماء الإماميَّة من أنَّ روايات منع تدوين الحديث لا أصالة لها بمعنى أنَّها لم تصدر عن النبيّs بل هي من ترويج بعض الخلفاء.
إنَّ إصرار المستشرقين على التمسُّك بروايات المنع هذه وبناء نظريَّتهم على أساسها وترك الشواهد والأدلَّة المقابلة كلّها لم تجد بارسا سببًا له سوى عصبيَّة هؤلاء في الاستهانة بتراث الثقافة الإسلاميَّة.
7. المقالة السابعة: «القواعد المشتركة بين العلماء المسلمين والمستشرقين -دراسة تحليليَّة في أسلوب نقد الأحاديث الإسلاميَّة وأرخنتها-» للكاتبتين: «مرجان شيري محمَّد آبادي» و«نصرت نيل ساز»
توصَّلت الكاتبتان في دراستهما هذه إلى جملة من القواعد المشتركة بين علماء المسلمين والمستشرقين في مجال تقويم الحديث، هي:
أ. اعتبار الأخطاء التاريخيَّة التي قد تعتري الحديث -من قبيل احتوائه على ألفاظ وعبارات لم تكن موجودة في زمان قائله، أو الإشارة إلى حادثة لا يتناسب تاريخ وقوعها مع تاريخ حياته- دليلًا على أنَّ الحديث قد وُضع في حقبةٍ زمنيَّةٍ متأخِّرةٍ عن زمان الشخص الذي يُنسب إليه.
ب. إنَّ رواية رواةٍ عدَّة عن راوٍ مشترك توجد طمأنينة لدى الباحث بالحقبة الزمنيَّة التي صدر فيها الحديث.
ت. إنَّ تعدُّد أسانيد حديثٍ واحدٍ لا يعني بالضرورة كون أحد الأسانيد أو كلّها مختلقًا؛ لذا لا بدّ من تحليل هذه الأسانيد كافَّة بدقَّة وبيان أحوال رواتها بالتفصيل، ثمّ البتّ بصحَّة الحديث أو بطلانه.
ث. إنَّ رواية مختلف التيَّارات الفكريَّة والعقديَّة -لا سيَّما المتنافسة- لحديثٍ واحدٍ تعتبر دليلًا على صحَّته واعتباره.
ج. إنَّ أسلوب تحليل السند والنصّ الذي اعتمده العلماء المسلمون يعدّ أدقّ الأساليب المتَّبعة في تقويم الأحاديث ونقدها وأرخنتها، وذلك بعد أن لاحظ المستشرقون الخلل والنقص في أسلوب التحليل النصِّيّ البحت وأسلوب التحليل السنديّ البحت.
8. المقالة الثامنة: «جوزيف شاخت والتشريع الإسلاميّ» لمؤلِّفها «أمين ترمس»
يفنِّد ترمس في هذه المقالة مزاعم شاخت وينقدها واحدةً تلو الأخرى، فشاخت يعمد إلى الطعن في السنَّة والتشريع الإسلاميّ برمّته، ويجعل من الظنّ والتخمين أدوات منهجيَّة لتحليل النصوص الإسلاميَّة ويعتمد على نظريَّة «المدار» في إسقاط الحديث النبويّ، لكن ترمس يصف تعميماته هذه بأنَّها مبنيَّة على روايات شاذَّة دون أيّ تمييز أو دقَّة علميَّة. ويصف مصادره التي تخلو تمامًا من أيِّ إشارةٍ إلى كتب الشيعة وأعلامهم بالمحدوديَّة. ويصف ما أطلقه على فقههم (فقه الشيعة) من أحكام -رغم محدوديَّة مصادره وانحصارها بالمصادر السنيَّة- ابتعادًا عن الموضوعيَّة والمنهج العلميّ. أمَّا قرنه بين الشيعة والخوارج وتعامله مع التشيُّع على أنَّه مذهب سياسيّ، فيصنِّفه ترمس في خانة الجهل بحقيقة التشيُّع المتجذِّر في الإسلام النبويّ من خلال ارتباطه بأهل البيتb، وجهلهم بأنَّ الفقه الشيعيّ هو امتدادٌ لوحي النبيّ وليس ظاهرةً سياسيَّةً أو اجتماعيَّة، ولكن أنَّى لشاخت أن يدرك ذلك إذا كان يطعن في أصل الشريعة ولا يرى التشريع الإسلاميّ وحيًا إلهيًّا نقيًّا بل حصيلة تطوُّرٍ اجتماعيٍّ متأثِّرٍ بالعادات والتقاليد الجاهليَّة والديانات المحيطة كالزرادشتيَّة واليهوديَّة والمسيحيَّة؟!!!
هذه المزاعم وغيرها ممَّا تضمَّنته هذه المقالة كانت بحسب ترمس نتائج منهجٍ هشٍّ اعتمده شاخت لا يرقى إلى مستوى البحث الأكاديميّ الجادّ.
9. المقالة التاسعة: «منشأ إسناد أحاديث المسلمين برؤية استشراقيَّة -دراسة تحليليَّة نقديَّة-»
يخصِّص مرتضى مدّاحي معدّ هذا الكتاب المقالة التاسعة له، يقدِّم فيها نقدًا علميًّا لأبرز الآراء الاستشراقيَّة التي تناولت أصل نظام الإسناد في الحديث النبويّ.
تركِّز المقالة على دحض الفرضيّة المتداولة في الدراسات الاستشراقيّة التي تزعم أنَّ الإسناد لم يكن معروفًا في القرن الأوَّل الهجريّ، بل ظهر في أواسط أو أواخر القرن الثاني أو حتَّى في القرن الثالث؛ استجابةً للضغوط المذهبيَّة والتدوين، ما يفقد الحديث قدسيَّته ومصداقيّته التاريخيَّة. قد فنّد مداحي هذه الدعوى ببيان أنَّ كثيرًا من الصحابة والتابعين كانوا معروفين بنقل الحديث بأسانيد واضحة منذ عصر النبيّs، وأنَّ الشواهد من المرويَّات الإسلاميَّة، وكتب الرجال، والطبقات، تثبت وجود الإسناد بوصفه نظامًا متداولًا من القرن الأوَّل.
كما تنقد المقالة الادِّعاء بأنَّ المسلمين اقتبسوا نظام الإسناد من التقاليد الشفهيَّة اليهوديَّة (التلموديَّة)، خاصَّةً ما ورد في آراء جوزيف هوروفتس. يُبيّن مداحي في مقام نقده لهذه الفكرة أنَّ أوجه التشابه التي يدّعيها المستشرقون بين النظامَين لا تقوم على أساسٍ علميٍّ صلب؛ إذ لا توجد في التقاليد اليهوديَّة سلسلة سند دقيقة ومتكاملة كالتي عرفها علم الحديث الإسلاميّ. كما يؤكِّد أنَّ ظهور الإسناد كان تطورًا داخليًّا أصيلًا في الثقافة الإسلاميَّة؛ نابعًا من حاجاتٍ دينيَّةٍ ومعرفيَّةٍ توثيقيَّة مرتبطة بضبط الرواية عن النبيّs وليس تقليدًا لنموذجٍ مسبوق. ويفنّد الكاتب بالأدلة النقليَّة والتاريخيَّة تلك الفرضيَّات التي تُسقِط على التراث الإسلاميّ أنظمةً معرفيَّةً مستوردة، مؤكِّدًا أنَّ المستشرقين لم يقدّموا شواهد نصِّيَّة أو وثائقيَّة تُثبت دعاواهم.
10. المقالة العاشرة: «ببليوغرافيا الدراسات الغربيَّة في الحديث»
يتَّخذ هذا الفصل طابعًا توثيقيًّا صرفًا، ويعدّ من نوع «الببليوغرافيا الموضوعيَّة»؛ إذ يرصد فيه الكاتبان مرتضى مدّاحي وحمزة شيخ تبار النتاج المعرفيّ الاستشراقيّ الغربيّ في حقل الحديث النبويّ (كتب، مجلَّات، مقالات، رسائل جامعيَّة، فصول،...) مرتَّبة أبجديًّا حسب أسماء المؤلِّفين، مع ذكر بيانات النشر كاملة (عنوان الكتاب أو المقال أو الرسالة، مكان النشر، جهة النشر، سنة النشر، الصفحات) ممَّا يُسهِّل العودة إليها.
تمنح هذه الببليوغرافيا القارئ تصوُّرًا عامًّا عن مدى اهتمام الغرب بعلوم الحديث واتِّساع رقعة الموضوعات بل وتعدُّد الاتِّجاهات.
وتُمثِّل مساهمةً ضروريَّةً في توطين المعرفة الاستشراقيَّة في سياقها الإسلاميّ، ويمكن عدّها خاتمةً عمليَّةً للكتاب، تُكمل البعد النظريّ والنقديّ الذي سبقته به الفصول السابقة، وتؤلِّف مرجعًا تأسيسيًّا لكلّ من يريد استكمال العمل العلميّ النقديّ للاستشراق الحديثيّ بمصادر موثَّقة ومعروفة.
قراءة تقويميّة عامَّة للكتاب
يمثِّل هذا الكتاب جهدًا علميًّا جماعيًّا مهمًّا في رصد مواقف المستشرقين من الحديث النبويّ الشريف وتحليلها ونقدها، وقد امتاز بشموليَّته وتنوُّع زواياه، حيث شارك فيه عدد من الباحثين ذوي الخلفيَّات المختلفة، ما مكَّن من تغطية موضوعاتٍ دقيقةٍ ومتداخلةٍ في حقل الدراسات الحديثيَّة الاستشراقيَّة.
لذلك تبرز في الكتاب نقاط قوَّة عدةَّ، أهمّها:
التنظيم الموضوعيّ والتدرُّج المنهجيّ: بدءًا من الدراسات العامَّة وانتهاءً ببليوغرافيا مرجعيَّة؛ ما يمنح القارئ تصوُّرًا تراكميًّا ناضجًا.
التوازن بين العرض والنقد: إذ لم يقع في التبسيط أو التحامل، بل سعى إلى فهم منطلقات المستشرقين وبيان أوجه القصور أو التحيُّز في منهجيَّاتهم.
الاعتماد على مصادر أوَّليَّة واستشراقيَّة موثّقة، ما يمنح الكتاب مصداقيَّة علميَّة في تتبُّع الآراء والنظريَّات المختلفة.
التركيز على الجانب المنهجيّ: لا سيَّما في الفصول التي تعرَّضت لدراسة مناهج شخصيَّات استشراقيَّة، أمثال: شاخت، وموتسكي، وجوينبول، ما يُظهر قدرة الباحثين على نقد الأدوات وليس النتائج فقط.
مع ذلك لا يخلو الكتاب من بعض الملاحظات التي يمكن التوقُّف عندها:
تفاوت المستوى بين المقالات: فبعض المقالات جاءت غنيَّة وعميقة، فيما اتَّسمت أخرى بالسرد والوصف دون تقديم تحليلٍ معمَّقٍ أو نقدٍ متين.
غياب التحليل الحديثيّ الإماميّ الموسّع: على الرغم من انتماء بعض الكتَّاب إلى الدائرة الإماميَّة، فإنَّ الردود النقديَّة ظلَّت في الغالب عامَّة أو سنيَّة الطابع، دون إبراز خصوصيَّات منهج الإماميَّة في التعامل مع الإسناد والرواية. ولكن مع ذلك لا بدّ من الإشارة إلى أنّ بعض المقالات -مثل مقالة مداحي حول منشأ الإسناد، وأمين ترمس عن جوزيف شاخت- قد نجحت في تفكيك الفرضيَّات الاستشراقيَّة من زاوية نظر إماميَّة.
قلَّة التركيز على البعد الأيديولوجيّ في الاستشراق: إذ إنَّ بعض المواقف الغربيَّة من الحديث تتجاوز البعد المعرفيّ إلى خلفيَّاتٍ دينيَّةٍ أو استعماريَّة، وهو جانب لم يُسلَّط الضوء عليه كفاية.
كان من الأفضل لو احتوى الكتاب في نهايته على خلاصةٍ تركيبيَّةٍ تعالج المشترك بين هذه المقالات وتقدِّم بديلًا منهجيًّا واضحًا.
الرغم من أهمِّيَّة الببليوغرافيا في المقالة العاشرة من الكتاب، لكن كان بالإمكان أن تكون أكثر أهمِّيَّة وفائدة فيما لو جرى تقسيمها بحسب موضوعات البحث (نقد الإسناد، نقد النصّ، طرق الرواية، الشفاهيَّة، التأريخ،...) وترتيب الدراسات والأبحاث داخل كلّ قسم ترتيبًا زمنيًّا بدلًا من الترتيب الأبجديّ لأسماء المؤلِّفين.
-------------------------
[1](*)- أستاذ في جامعة المصطفى، لبنان.