الملخّص
نحاول من خلال هذا العمل البحثيّ قراءة، وتحليل خطاب الاستشراق، تنظيرًا، وتطبيقًا، كونه خطابًا مليئًا بالمفاهيم التّحليليّة، والآليّات النّقديّة، فمن خلال هذه الدّراسة سيظهر جليًّا أنّ الخطاب الاستشراقيّ تحكمه روح الهيمنة، والتّملّك، فهما فعلان مبرّران بأنّ موازين القوى ترجع إلى المجتمعات الغربيّة، لكونها متشكّلة من أفراد متفوّقين، وقادرين على تمثيل أنفسهم، ومعرفة الأشياء من حولهم، وهناك مجتمعات أخرى أقلّ تنظيمًا، وتحضّرًا يسودها الانحطاط، والجهل بالتّاريخ، والثّقافة، والحضارة...؛ حيث سنتطرّق إلى مجموعة من المفاهيم الّتي تحكم خطاب الاستشراق، بداية بالدّور الرّيادي الّذي لعبه النّاقد إدوارد سعيد في تفكيك، وبناء خطاب الاستشراق، محاولين بسط ما استند إليه النّاقد من مرجعيّات، وتمثّلات في فهم، ودراسة، ونقد الخطاب الاستشراقيّ، إضافة إلى تطرّقنا للبعد التّطبيقيّ للاستشراق من خلال رصد خطابين مهمّين لكلّ من بلفور، وكرومر، الشّخصيّتين البارزتين في السّياسة البريطانيّة، حيث سنستعرض أهمّ الأسس الّتي قاما عليها هاذان الخطابان، بالإضافة إلى توضيح نظرتهما للمشرقيّ. إنّ خطاب الاستشراق يلخّص الصّورة الّتي كونها الغربيّ عن الآخر المشرقيّ، فهي تجسيد لموقف غربيّ خالص يرى في المشرقيّ نظرة مختلفة.
الكلمات المفاتيح: الخطاب - الاستشراق - النّقد - الخطاب الاستشراقيّ - إدوارد سعيد - بلفور، وكرومر.
تمهيد
لقد اشتغل المثقّفون الغربيّون لفترات متعاقبة ممتدّة في تاريخ طويل على دراسة ثقافات الشّعوب الأخرى غير الغربيّة (الإفريقيّة، والأسيويّة، واللّاتينيّة)، فتنوّعت أشكال هذه الدّراسة بين ترجمة الكتب، والبحث في سير الأشخاص، والقيام ببحوث ميدانيّة تشمل عادات الأطعمة، وأساليب العيش، والعمل، وأنواع المناسبات، والتّقاليد، والعلاقات بين أفراد الأسر، والقبائل... ولو أنّ الاهتمام الغربيّ بثقافات الآخرين متجذّر في التّاريخ إلّا أنّ ازدهاره، وانتشاره جاء مع مطلع القرن السّابع عشر، الفترة الّتي بدأ فيها الاستشراق يأخذ طابعًا أكاديميًّا. وذلك بإدراجه ضمن المواد الّتي تدرس في العديد من الجامعات الأوروبيّة، ليتّجه الاستشراق في هذا المنحى حتّى أصبح على ما هو عليه في عصرنا الرّاهن.
وتجدر الإشارة إلى أنّ الممارسة الاستشراقيّة تحمل في طيّاتها خطابًا ممنهجًا له آليّاته، وقواعده الّتي تجعل منه خطابًا بالمعنى المتداول لهذه الكلمة. ونختار أن نصطلح عليه بخطاب الاستشراق، كما أنّ فهم هذا الخطاب يستدعي منّا معرفة أسسه، ومواصفاته، ومن يقف وراءه، أو بتعبير آخر من ينتجه، ومن المستهدف منه. فلكلّ خطاب مصدر يأتي منه، أو مختبر يخضع فيه إلى التّجربة، والفحص، والتّنقيح قبل أن يتمّ إنتاجه. لذا فإنّ اختيارنا لهذا الموضوع يراد منه تحقيق هذا المبتغى، وهو فهم الخطاب الاستشراقي، والحيثيّات المتعلّقة به، وذلك من خلال الإجابة على مجموعة من الأسئلة الّتي نجملها في ما يلي:
ما المقصود بالخطاب والاستشراق؟
ما هي مواصفاته؟
ما هي أسسه وقواعده؟
من الّذي ينتجه؟ ومن المستهدف منه؟
هل للمثقّف الغربي غاية من دراسة ثقافة الآخر؟ أين تتمثّل هذه الغاية؟
ما الصّورة الّتي يصوغها المستشرق عن الآخر الّذي يشكّل موضوعًا له؟ وكيف يقوم بذلك؟
ما هي أساليبه؟ وهل تمثّل هذه الصّورة الحقيقة أم أنّها تخضع لتوجّهات إيديولوجيّات محدّدة؟
كيف يبرّر الغربيّون تفوّقهم عن الآخرين؟ وما أشكال هذا التّفوّق المزعوم؟
1. في مفهومي الخطاب والاستشراق
1-1- مفهوم الخطاب
لقد ورد مصطلح «الخطاب» في القرآن الكريم في عدّة مواضع، ولأنّ الهدف الأسمى من وضع المعاجم العربيّة القديمة كان الحفاظ على لغّة القرآن، والعناية بها، فإنّ المعجميّين العرب القدامى حاولوا وضع تعريف للخطاب. ومن بين هؤلاء ابن منظور في كتابه لسان العرب، حيث نجد فيه «الخطاب، والمخاطبة مراجعة الكلام، وقد خاطبه بالكلام مخاطبة، وخطابًا، وهما يتخاطبان، والمخاطبة صيغة مبالغة تفيد الاشتراك، والمشاركة في فعل ذي شأن. قال اللّيث: إنّ الخطبة مصدر الخطيب، لا يجوز إلّا على وجه واحد، هو أنّ الخطبة اسم الكلام الّذي يتكلّم به الخطيب، فيوضع موضع المصدر»[3]، ومن تعاريف الخطاب عند الأصوليّين: «أحد مصدريّ فعل خاطب يخاطب خطابًا، ومخاطبة، وهو يدلّ على توجيه الكلام لمن يفهم، نقل من الدّلالة على الحدث، والرّدّ عن الزّمن إلى الدّلالة على الإسميّة فأصبح في عرف الأصوليّين يدلّ على ما خوطِب به، وهو الكلام»[4].
ونجد في القرآن الكريم آيات كثيرة ورد فيها مصطلح «الخطاب» كقوله تعالى: في سورة النّبأ: (رَّبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَٰنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا)[5]، كما ورد في سورة الفرقان بصيغة أخرى في قوله(عزّ وجلّ): (وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا)[6]، وفي سورة هود، الآية 37: (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ)[7].
يتبيّن من خلال ما أوردناه سابقًا أنّ تحقّق الخطاب يقتضي توفّر عنصرين، أو طرفين، هم المخاطِب، والمخاطب. وقد أشار الباحث عبد السّلام حيمر إلى هذه المسألة في قوله: «رأينا كيف أنّ الخطاب في أبسط معنى اشتقاقيّ له إنّما يشير إلى تبادل الكلام بين طرفين: مخاطِب متكلّم، ومتلقٍّ مخاطَب؛ بالإضافة إلى أنّ هذا الكلام يتكوّن من الجملة الواحدة فما فوق. وإذا كان الخطاب يفترض بالضّرورة حضور متكلّم واع بكونه الذّات المنتجة للخطاب، فإنّه يفترض أيضًا وجودًا قبليًّا للمخاطب من حيث إنّ المتكلّم، وهو ينتج كلامه إنّما ينتجه وفق تصوّر استراتيجيّ يكون له عن مخاطبه»[8].
أمّا في نظر النّقّاد الغربيّين فإنّ تودوروف يصنّف الخطاب إلى: نقديّ، وأدبيّ بحيث الخطاب النّقديّ هو «الممارسة الّتي يكون فيها النّاقد كالمنجز لا يستطيع أن يتحدّث إلّا خطابًا مثقوبًا، أمّا الخطاب الأدبيّ فيهدف إلى التّعبير، ويغلب عليه الطّابع الفنّيّ، ويخضع لانتظام داخليّ، أمّا من النّاحية الخارجيّة، فالخطاب الأدبيّ يتحرّك بحرّيّة، وبطريقة مستقلّة، وفي داخله يكون منظّمًا، وخاضعًا للانتظام»[9]، عمومًا فإنّ تدوروف انتهى إلى أنّ الخطاب يختلف عن النّصّ؛ إذ يمثّل جسمًا له ذاته، وحركته، وزمنه، ويتحرّك بحرّيّة مستقلّة.
نستنتج من خلال التّعاريف السّابقة أنّ مفهوم الخطاب يختلف من دارس لآخر، أو من اتّجاه لآخر، ومردّ التّباين هذا إلى اختلاف المذاهب، والتّوجّهات، والحقول المعرفيّة. فكلّ يعرف الخطاب بحسب ما يمليه عليه مجال اشتغاله، بحيث يركّز اللّسانيّ على الجانب اللّغويّ كما نجد عند سوسير، وباقي اللّسانيّين الّذين جاؤوا بعده، ويؤكّد عالم التّداوليّات على عنصر السّياق، وما له من أهمّيّة في تحقيق التّبالغ، أو التّخاطب، أمّا عالم الاجتماع، فيحاول ربط مفهوم الخطاب بالمحدّدات السّوسيولوجيّة، ويحاول دائمًا استثماره في تحليل، ودراسة القضايا، والظّواهر الاجتماعيّة، كما يصوغه علماء النّفس وفقًا لمجال عملهم المتمثّل في سبر أغوار النّفوس البشريّة، وتصنيفها، وتفسير ردود أفعال الأشخاص تفسيرًا سيكولوجيًّا.
1-2- مفهوم الاستشراق
ورد في المعجم الوسيط: «(الاستشراق) مشتقّة من مادّة (شرق) يقال: شرقت الشّمس شرقًا، وشروقًا إذا طلعت»[10]. وقد تحدّث الدّكتور أحمد سمايلوفتش في كتابه «فلسفة الاستشراق، وأثرها في الأدب العربيّ المعاصر»[11] عن ما سمّاه بالمفهوم اللّغويّ، والعلميّ للاستشراق مضيفًا أنّ كلمة «الاستشراق» لم ترد في المعاجم العربيّة القديمة. ولعلّ ما يهمّنا أكثر هو الدّلالة الاصطلاحيّة للاستشراق، لذا سنحاول أن نقف على المفاهيم الّتي أوردها بعض الباحثين. هذا بارت يقول: «الاستشراق علم يختصّ بفقه اللّغّة خاصّة، ولا بدّ لنا إذًا من أن نفكّر في المعنى الّذي أطلقت عليه كلمة (استشراق) المشتقّة من كلمة (شرق)، وكلمة شرق تعني مشرق الشّمس، وعلى هذا يكون الاستشراق هو علم الشّرق، أو علم العالم الشّرقي»[12]. ويذهب يوسف أسعد داغر إلى أنّ الاستشراق هو «حركة علميّة عنيت، وما تزال تعنى بالمدنيّات الشّرقيّة، ما غبر منها، وما حضر، وما طمس ذكره منها، وما استقرّ، وبما خلّفته تلك الحضارات من قوى روحيّة، وآثار فكريّة وأدبيّة، وفنيّة، ودينيّة، وبما يتّصل بهذه الحضارات، وبما فيها من شعوب، وأجناس، ومذاهب، ومدارس، وما إلى ذلك كلّه من أثر ظاهر ناطق شاهد على الحياة البشريّة الحضريّة، وهو خليق بأن نحييه نشرًا، وطباعة»[13].
وعند البحث عن دلالة هذا المصطلح لدى إدوارد سعيد في كتابه: «الاستشراق» وجدنا تعريفًا مختصرًا أورده الكاتب في عبارة إنّه «مبحث أكاديميّ»، حينها حاول إدوارد سعيد أن يربط بين مفهوم «الاستشراق»، والخصائص الّتي يتميّز بها المستشرق، أي الّتي تجعله يحمل ذلك الاسم، وتتمثّل في أنّه «يعمل بالتّدريس، أو الكتابة، أو إجراء بحوث في موضوعات بخاصّة بالشّرق، سواء كان ذلك في الأنثربولوجيا، أو علم الاجتماع، أو التّاريخ، أو فقه اللّغّة، وسواء كان ذلك يتّصل بجوانب الشّرق العامّة، أو الخاصّة»[14]، فحينما نتلفّظ بـ«الاستشراق» فإنّنا نصف بشكل مختصر العمليّة الّتي يقوم بها المستشرق، وهي الّتي وصفها الكاتب كونها مبحثًا أكاديميًّا. ويعود إيدوارد سعيد للإقرار بأنّ استعمال مصطلح «الاستشراق» تراجع عند الباحثين المعاصرين، فيحلّ مكانه إمّا «الدّراسات الشّرقيّة»، أو «دراسات المناطق» ومرد ذلك حسب إيدوارد إلى سببين هما:
2. أنّه (أي مصطلح الاستشراق) يتّسم بقدر أكبر من الغموض والتّعميم.
3. أن من ظلال معانيه الإيحاء بالاستعلاء الّذي كان المديرون الأجانب يتّسمون به في عهد الاستعمار الأوروبّي في القرن التّاسع عشر، ومطلع القرن العشرين[15].
ويذهب إيدوارد سعيد إلى أنّ الاستشراق كتب له الاستمرار، وربّما بل الاحتمال كبير جدًّا في أنّ هذا الاستمرار سيبقى؛ لأنّ العمليّة الاستشراقيّة تحوّلت من اقتصارها على المجهودات الفرديّة الّتي يقوم بها بعض المستشرقين قديمًا إلى معرفة أكاديميّة تأخذ المؤسّسات الجامعيّة الغربيّة على عاتقها العناية بها، وتطويرها، والمساعدة على تلقين أسسها، وأدواتها، ونشرها، وجعلها بذلك حقلًا معرفيًّا قارًا له قواعده، وضوابطه. ويعبّر صاحبنا عن ذلك بقوله: «ومعنى هذا أنّ الاستشراق حتّى ولو لم يكتب له البقاء بالصّورة القديمة، لا يزال حيًّا في الحياة الأكاديميّة من خلال ما أرساه من مذاهب، وقضايا فكريّة بشأن «الشّرق» و«الشّرقيّ»»[16].
لقد اختار إدوارد سعيد أن يقدّم هذه الشّذرات الّتي تعطينا تصوّرًا مبسّطًا عن الاستشراق، قبل أن يصوغ في الأخير مفهومًا متكاملًا خاصًّا به يحدّد فيه بعمق دلالة هذا المصطلح، ويربطها بالعديد من الكتابات الّتي يمكن تصنيفها ضمن الكتابات الحاملة للفكر الاستشراقيّ. فالاستشراق أسلوب تفكير يقوم على التّمييز الوجوديّ، والمعرفيّ بين ما يسمّى «الشّرق»، وبين ما يسمّى في معظم الأحيان «الغرب»، وهكذا فإنّ عددًا بالغ الكثرة من الكتّاب من بينهم شعراء، وروائيّون، وفلاسفة، وأصحاب -نظريّات سياسيّة، واقتصاديّون، ومديرون إمبرياليّون قد قبلوا التّمييز الأساس بين الشّرق، والغرب- بعده نقطة انطلاق لوضع نظريّات مفصّلة، وإنشاء ملاحم، وكتابة روايات، وأوصاف اجتماعيّة، ودراسات سياسيّة عن الشّرق، وعن أهله، وعاداته، وعن «عقله»، ومصيره، وهلّم جرًّا، وهذا اللّون من الاستشراق قد يضمّ أيسخولوس، مثلًا، وفيكتور هيغو، ودانتي، وكارل ماركس[17].
لم يتردّد إيدوارد سعيد في عدّ الاستشراق مؤسّسة جماعيّة تتعامل مع الشّرق بوصفها موضوعًا ومعطىً للدّراسة، وما جعله يؤكّد على ذلك ما يظهر الآن من حركة نشيطة للمؤسّسات الجامعيّة، والمعاهد العليا، وسعيها لتأطير بحوث الأكاديمّيين الّذين يشكّلون في أحيان كثيرة مجموعات عمل. يتقاسمون الأدوار فيما بينهم، ويكثّفون جهودهم، وخبراتهم المعرفيّة، وقدراتهم التّحليليّة لاستكشاف كلّ ما يتعلّق بالآخر؛ بما في ذلك ثقافته، وتقاليده، وأفكاره... فالمؤسّسات الأكاديميّة توفّر ظروفًا مادّيّة ملائمة للبحث، والباحثون يقومون بمهمّة البحث، والعودة بنتائج تصاغ على شكل كتب، ومقالات تقدّم للطّلبة في قاعات المحاضرات. وكلّ هذا بحسب رأي إيدوارد سعيد بدافع الهيمنة، والتّسلّط على الآخر، والسّيطرة عليه. وهذا ما عبّر عنه بقوله: «الاستشراق أسلوب غربيّ للهيمنة على الشّرق، وإعادة بنائه، والتّسلّط عليه»[18].
نعتقد أنّ ما أوردناه لإدوارد سعيد حول مفهوم الاستشراق كفيل بأن يعطينا تصوّرًا شاملًا، وواضحًا إلى حدّ كبير عن دلالة هذا المصطلح؛ وذلك لكون صاحبه يتوخّى فيه المنهج العلميّ الصّريح، وعدم الانحياز، أو الخضوع للانطباع. كما أنّ الكاتب مشهود له بالدّقّة، والتّعمّق في تناول مثل هذه القضايا، كما أنّه يتميّز بذكاء علميّ نادر، وفطنة معرفيّة شديدة لا يتوفران إلّا عند قلّة قليلة من الباحثين، وإيدوارد سعيد إذ يبحث في الاستشراق، فإنّ له من التّكوين الأكاديميّ ما يمنحه القدرة، ويؤهّله للخوض في قضايا هذا الموضوع الشّاسع.
2- تمثّل الخطاب الاستشراقيّ عند إدوارد سعيد ومرجعيّاته
لقد مارس النّاقد الفلسطيني إدوارد سعيد على الخطاب الاستشراقيّ دراسة نقديّة متميّزة في جميع أعمال، ومشروعه النّقديّ حول «الاستشراق»، وقد اعتمد في هذه الدّراسة على مجموعة من النّظريّات النّقديّة، والمناهج الفكريّة الحديثة، وظّفها توظيفًا، وصفيًّا، وتفاعليًّا مع خطاب الاستشراق، خاصّة فيما يتعلّق بالخطاب الاستشراقي البريطانيّ الّذي سنعرض بعضًا منه في ما يلي من هذه الدّراسة، وقد ركّز إدوارد سعيد في ممارسته النّقديّة على العديد من المفاهيم الّتي يروّجها الغرب في خطابهم كثنائيّة الغرب والشّرق التّمييزيّة، والهيمنة، والدّونيّة، والدّنيويّة، والتّقليد، وعدم التّمثيل...، هذه المفاهيم الّتي تشكّل اللّبنة الأساس للعديد من خطابات المستشرقين.
إنّ مساهمة إدوارد سعيد في نقد الخطاب الاستشراقيّ، والكشف عن خباياه، وتمحيصه من خلال مقاربته بالمجال السّياسيّ، والثّقافيّ، والحضاريّ...، مبنيّة على ما راكمه من خلال ازدواجيّة الحياة، والتّكوين، والثّقافة لديه، حيث إنّه تلقّى أسس الثّقافة المشرقيّة بكلّ مكوّناتها في فلسطين، ثمّ عاصر أيضا المكوّن الغربّي بخاصّة الأمريكيّ؛ فتشرّب بعضًا ممّا وظّفه في ممارسته النّقديّة، وذلك ما سنحاول كشفه من خلال الخوص في المرجعيّات، والمبادئ الّتي تؤطّر ممارسة إدوارد سعيد للخطاب الاستشراقيّ.
يمنح إدوارد سعيد في ممارسته لنقد الخطاب الاستشراقيّ العديد من المرجعيّات النّقديّة، والفلسفيّة، والفكريّة، مكانةً خاصة، ومن خلال تتبّعنا لمدوّناته النّقديّة بخاصّة «الثّقافة والإمبرياليّة (1993)»، ثمّ «صورة المثقّف (1994)»...، بالإضافة إلى كتب أخرى، يظهر جليًّا تأثّره بفكر ما بعد الحداثة، وتمثّل فلسفة ميشيل فوكو واحدة من مرجعيّات إدوارد سعيد، حيث عمل بتمثّلات فوكو مفهوم الخطاب، وأخذ منه ماهيّته، وأساسه، فالخطاب عند فوكو كما عند إدوارد «مجموعة من الملّفوظات الّتي تمتلك ترابطًا، وتماسكًا يحقّق التّنظيم لإنتاج النّصوص، وتحقيق المعرفة»[19]، كما نهل إدوارد تصوّر فوكو حول السّلطة، والمعرفة باعتبارهما أساس التّنظيم، والاستقرار، وسايره في أنّ السّلطة، والمعرفة هي أساس مؤسّسات الحكم الّتي اعتبرها المستشرقون مكوّنًا من مكوّنات الأنظمة في الشّرق.
إضافة إلى فلسفة فوكو، نجد أيضًا العديد من المفاهيم النّقديّة الاستشراقيّة الّتي وظّفها إدوارد المأخوذة من التّنظير الّذي قدّمه (أنطونيو غرامشي) في نقد الواقع، بخاصّة مفهوم الهيمنة، وهو المفهوم الّذي ارتبط بالنّقد التّاريخيّ، والاجتماعيّ، فالهمينة عند غرامشي تنبني على تفعيل السّلطة، وجعلها الآليّة الاجتماعيّة الضّبطيّة، سواء بالإقناع، أو التّعاون، أو تبجيل مؤسّسات الحكم، وهي مفاهيم توظف في الدّولة الضّعيفة، الّتي تنقص فيها الحرّيّة، والدّيمقراطية...، لقد حاول إدوارد سعيد توظيف مفهوم الهيمنة في كتابه «الاستشراق»، وذلك لتمييز الحياة المدنيّة مع الحياة السّياسيّة للجماعات، وهذا الأمر هو ما أكسب المستشرقين قوّة أسموها بـ«المثقّف العضويّ»، أي المثقّف الّذي يملك سلطة للتّدخّل، والتّصحيح، والتّعديل.
إنّ هذه المرجعيّات السّابقة الّتي استند إليها إدوارد سعيد في تمثّل خطاب الاستشراق، وبنائه، ونقده، وتفكيكه، ليس سوى جزء بسيط ممّا استلهمه إدوارد في ممارسته الفكريّة الاستشراقيّة، بل توجد العديد من الأسس الأخرى، والّتي يمكن أن نستشفّها من خلال الآليّات، والمفاهيم الّتي يستعملها النّاقد بشكل عامّ، إلى جانب ذلك، فالنّاقد الاستشراقيّ إدوارد سعيد بنى رؤية منهجيّة مضبوطة حدّد من خلالها مفاهيم الشّرق، والآخر، وجعل ممارسته النّقديّة متّكئة على تلك الأسس المفاهيميّة بشكل خاصّ، ففكّك الخطاب الاستشراقيّ، وأبرز في العديد من أعماله الخاصّيّة الموظّفة في كلّ نموذج استشراقيّ تمّت دراسته.
3- قراءة في خطاب المستشرقين «بلفور وكرومر»
«إنّهم عاجزون عن تمثيل أنفسهم ؛ يجب أن يمثّلوا «كارل ماركس».
إنّ مثل هذه المقولات أصبحت تردّد مع بداية العصر الحديث في أرجاء كثيرة من بلاد الغرب على أفواه العديد من المثقّفين، والسّياسيّين بل والعّامة أيضًا، وليس هذا غريبًا فقد انتشرت ثقافة الاستشراق داخل المجتمعات الغربيّة، وانتشرت إلى حدّ يمكن معه أن تلقى جوابًا «استشراقيًّا» عند كلّ أوروبّي تسأله عن الشّرق، أو الشّرقيّين، فقد نجحت الدّراسات الاستشراقيّة الّتي تعاقب عليها أكاديميّون متخصّصون لعقود طويلة إلى حدّ كبير في تكريس نظرة، أو تصوّر محدّد حول الشّرق، وأهله، إنّه خطاب -آمن به- أصحابه أشدّ الإيمان، وأرادوا له أن يستقرّ في أذهان العموم بما في ذلك الإنسان الغربيّ، وغير الغربيّ، إنّه الخطاب الّذي تبرّر به البلدان المستعمِرة استعمارها للبلدان الأخرى (المشرقيّة؛ الإفريقيّة، أو الأسيويّة، أو اللّاتينيّة)، ويرتكز بالذّات على مبدأي التّفوّق والدونيّة؛ ويقصد بهما أنَّ الذّات الأوروبيّة متفوّقة في كلّ الجوانب على نظيرتها المشرقيّة، ويستوجب ذلك أن تخضع الأخيرة للأولى، ومعنى الخضوع: أن تقبل المجتمعات المشرقيّة (والّتي لا تستطيع تقرير مصيرها، وفهم كينونتها، أو تاريخها، وحضارتها) بكلّ ما يصدر عن المجتمعات الغربيّة، أو بالأحرى عن الّذين يقودونها.
إنّه خطاب إيديولوجي يحمل شهوة إمبرياليّة للسّيطرة على الآخر، والتّحكّم فيه، والتّسلّط، والهيمنة عليه، وهو ما يمثّل الشّيء الإيجابيّ للشّعوب المشرقيّة، أو هكذا يتصوّرها الغربيّ الّذي أصبح مقتنعًا بأنّ الآخر غير قادر على تمثيل نفسه، والتّعرف إلى كيانه، وهو ضعف يجب تعويضه بتفويض أمر تحقيق المصير إلى «النّحن» أي: الذّات الغربيّة الّتي تمتلك حنكة التّعامل مع الأشياء، وفهمها، واستطاعت أن تفهم تاريخ الآخر، وحضارته أكثر من فهمه هو لهما. إنّ هذه الأفكار، والنّظرة للمشرقيّ هي الّتي يحملها الآخر الغربيّ، بل ويزكيها ذلك العديد من النّصوص، والأحداث الّتي تتجاذب فيها النّظرتان المشرقيّة، والغربيّة، إضافة إلى ذلك هي نظرة لا نجمع على كون الكلّ ينظرها، بل تبقى حكرًا على الّذين لديهم قراءة خاصّة وفق نصوص فهموها بناء على مرجعيّاتهم، أو ما يوافق رغبتهم.
3-1 خطاب بلفور
لقد أسقط إدوارد سعيد آليّات التّحليل الاستشراقي مباشرة على خطاب بلفور الوزير البريطانيّ الّذي ذاع سيطه، وشهرته في بلدان كثيرة من العالم، بسبب مكانته السّياسيّة، ومناصبه الحكوميّة، والمهمّات الخارجيّة الّتي كلّف بتنفيذها، فهو أرثر جيمس بلفور (Arthur James Balfour) سياسيّ بريطاني (25 يوليو 1848م - 19 مارس 1930م)، تولّى رئاسة الوزارة في بريطانيا من 11 يوليو 1902 إلى 05 ديسمبر 1905م، عرف برؤيته الاستعماريّة اتّجاه دول المشرق (نقصد بالمشرق، أفريقيا، وآسيا، وأمريكا اللّاتينيّة)، وكان أيضًا من الّذين دافعوا بشدة عن احتلال بريطانيا لمصر منتقدًا كل من أبدى اعتراضه لفكرة الاحتلال، اشتهر بإعطاء وعد بلفور الذي نصّ على دعم بريطانيا لإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، وهذه النزعة التي اتصف بها بلفور جعلت من إدوارد سعيد يوضح النزعة الإمبريالية لدى بلفور والتي تبدو واضحة في خطاباته التي يمكن أن نقول عنها إنها تمثل جوهر الاستشراق بامتياز كبير، فقد جاء في خطاب بلفور أمام مجلس الوزراء: «إننا نعرف حضارة مصر خيرا مما نعرف حضارة أي بلد آخر، ونعرف تاريخها السحيق، بل نحيط بها إحاطة أوثق وأشمل، إنها تتجاوز النطاق المحدود لتاريخ الجنس الذي ننتمي إليه، فهو يضيع في فترة ما قبل التاريخ في الوقت الذي كانت الحضارة المصرية قد تخطت عهد الشباب، أنظروا إلى جميع البلدان الشرقية، لا تتحدثوا عن تفوق أو عن دونية...»[20].
إن بلفور هنا يذهب بالخطاب الاستشراقي إلى أبعد مدى، وذلك حينما صرح بأن الحديث عن التفوق والدونية يجب تجاوزه لأن مسألة تفوق الجنس البريطاني على الشعب والمجتمع المصري يعد من المسلمات، ومن التفاهة الرجوع إليها، ولا غرابة في أن يكون خطاب بلفور حادًّا إلى هذا المستوى؛ لأنه جاء ردًّا على طعن بعض أعضاء البرلمان البريطاني في ضرورة الوجود البريطاني في مصر، وكان لا بد لإقناعهم بنقيض ما كانوا يقرون به أن يلجأ إلى مثل هذا النوع من الأساليب في خطابه.
وقد تنبّه إدوارد سعيد في هذا الخطاب إلى مسألة أخرى تتعلّق بتصوّر بلفور للمعرفة والسلطة، حيث إنه يربط الغزو البريطاني لمصر وممارسة السلطة على الشعب المصري بمعرفة بريطانيا للتاريخ الحضاري لمصر، وبمعنى آخر أن هذه المعرفة والتي لم يستطع المصريون الوصول إليها هي التي تحتم على بريطانيا احتلال مصر، وقد سبق أن أشرنا في ما سبق أن النظرة الاستشراقية لكل من المعرفة والسلطة تتحدد ضمن هذه العلاقة التي أشار إليها بلفور في خطابه، وفي هذا الصدد يأتي قول إيدوارد: «والمعرفة تعني لبلفور استقصاء مسار حضارة ما من نشأتها إلى ازدهارها إلى ذبولها، وتعني أيضًا بطبيعة الحال قدرتنا على ذلك. والمعرفة تعني الارتفاع على اللّحظة الحاضرة، وتجاوز الذّات إلى الأجنبيّ، والبعيد، وموضوع هذه المعرفة، أي الشّرق، معرض للفحص الدّقيق لضعف في طبيعته، وهذا الموضوع يعدّ حقيقة ثابتة، وحتّى لو تطوّر، أو تغير، أو حول نفسه بنفسه على نحو ما تفعل الحضارات في أحيان كثيرة، فلا بدّ من أن يظلّ على ثباته الجوهريّ بل والوجوديّ، وامتلاك مثل هذه المعرفة بمثل هذا الشّيء معناه السّيطرة عليه وتملكه...»[21].
لا نشكّ إذًا في إصرار بلفور في خطابه الّذي نعدّه دائما نموذجًا للخطاب الاستشراقيّ على الهيمنة البريطانيّة على مصر فيها خير للمصريّين، متمثّل في إنقاذهم من استبداد الحكم المطلق الّذي فرض عليهم من قبل حكومتهم، وبالتّالي فالحكم البريطانيّ يمكنهم من استرجاع حقوقهم، والخروج من براثن التّخلّف.
وقد انتقد إيدوارد سعيد هذه الفكرة؛ لأنّها في رأيه لا تمثّل الحقيقة، ولا تستند لما هو موجود في -الواقع-، فبلفور لا يقدّم أيّ أدلّة على أنّ المصريّين (والأجناس الّتي نتعامل معها) تقدّر، أو حتّى تفهم الخير الّذي يعود عليها من الاحتلال الاستعماريّ، لكنّه لا يخطر على بال بلفور أن يطلب من المصريّ أن يتحدّث بنفسه، ربّما لأنّ المصريّ الّذي سيتكلّم سيكون على الأرجح ذلك المشاغب الّذي يثير -الصّعوبات-، لا المواطن الصّالح الّذي يتجاهل صعوبات السّيطرة الأجنبيّة[22].
لا ينكر بلفور أنّ مصر عرفت في القديم حضارة مزدهرة، لكن حاضرها يعرف انحطاطًا لن تخرج منه إلّا حين تكون مستعمرة بريطانيّة، وتتسلّم الحكومة البريطانيّة تسيير شؤون المصريّين، وما يوحي عليه خطاب بلفور من تبرير الهيمنة، والتّسلّط يمثّل الخاصّيّة الجوهريّة المميّزة للخطاب الاستشراقيّ ككلّ، حيث لا خلاص للآخر إلّا في وقوعه تحت سلطة «الأنا» الأوروبّي المخلص، والمنجي...، ويتمّ تمرير هذا الخطاب بالاستعانة بمجموعة من المفاهيم، وفي الغالب يقوم المستشرق بإعادة إنتاجها وفقًا للإيديولوجية الاستشراقيّة، وهي من قبيل: التّحضّر، المعرفة، الذّات الغربيّة، الآخر المشرقيّ، التّاريخ، الماضي، الحاضر، الثّقافة، الهوّيّة، الحضارة، الشّرق، الغرب، الهيمنة، السّلطة...، فماضي المشرق عظيم حقًّا، لكنّ المشرقيّ لا يدرك ذلك، ولا يملك معرفة عنه على عكس الغربيّ الّذي يدرك كلّ حيثيّاته، ما يضمن له التّفوّق، أمّا الحاضر فهو حاضر غربيّ مزدهر، وحاضر مشرقيّ -منحطّ- لأنّ المجتمعات المشرقيّة غير قادرة على تمثّل ذواتها، وتحضّر الشّعوب الشّرقيّة في نظر بلفور يتحقّق من خلال الهيمنة الغربيّة عليها، والخضوع لسلطتها.
2-2 خطاب كرومر
لننتقل إلى الخطاب الاستشراقي عند شخصيّة أخرى لا تقلّ شأنًا عن شخصيّة بلفور، وتتمثّل في إيفلين بارينج كرومر (Evelyn Baring Cromer)، وهو الّذي شغل منصب القنصل العام البريطانيّ في الهند، وبعدها في مصر لخمس وعشرين سنة، فخطاب كرومر لا يختلف كثيرًا عن خطاب بلفور؛ أي أنّ النّزعة الغربيّة، وتأييد الهيمنة على الشّرق قاسم مشترك بين الخطابين، مع بعض الاختلاف الشّكليّة فقط، ومن بين مظاهره استعمال كرومر لبعض المفاهيم، أو التّسميات الّتي لا تختلف مضامينها، أو معانيها عن مضامين مقابلاتها لدى بلفور، وذلك من قبيل «الجنس المحكوم» الّذي يقابله «الشّرقيّون» عند بلفور، ذلك أنّ المصطلح الأوّل يقصد به كرومر الشّعوب الّتي وقعت تحت حكمه، أو الّتي كلّف بإدارة شؤونها، ولا يخفي في خطابه أنّ معرفته الجيّدة بثقافتها، وتاريخها، ونظام عيشها...، وهي الّتي مكّنته من السّيطرة عليها، وفرض حكمه عن أفرادها، وهذا نابع من إيمان كرومر بأنّ المعرفة تأتي بالسّلطة، وأنّ الزّيادة في المعرفة تعني التّمكّن من زيادة التّحكّم، والتّسلّط، إذًا فتصوّر كرومر للعلاقة بين معرفة الأجناس المحكومة، والهيمنة عليهم هو نفسه تصوّر بلفور لها؛ أي أنّ الهيمنة على تلك المجتمعات تتطلّب معرفتها جيّدًا.
ويرى كرومر أنّ الذّكاء الفطريّ الّذي يمتلكه الإنسان الغربيّ هو الّذي يمكنه من معرفة تاريخ الشّرقيّين، وثقافتهم، ومفهوم «الذّكاء الفطريّ، أو المنطقي» هذا يقابل مفهوم التّفوّق عند بلفور، ويبقى دائمًا المعنى واحدًا لا يتغيّر رغم تغيّر التّسمية، وهو أنّ الغربيّين يمتلكون القدرة على قراءة التّاريخ، وإيجاد الأجوبة الّتي تمكّنهم من تمثّل ذواتهم، والآخرين، أمّا التمثّل فهو ما يعتقدان (بلفور وكلومر) أنّه غائب عند الأجناس المحكومة، أو الشّرقيّين الّتي يجب عليها إدراك هذا القصور، وأن ترضى بأن تقع تحت سلطة الغربيّين ؛ لأنّ ذلك بمنزلة خلاص لها من انحطاطها، بل أن تعبّر عن امتنانها للغرب «المنقذ» لأنّ لو لا هو لبقيت هذه الشّعوب منغمسة في انحطاطها. «فربّما استطعنا، ولو عجزنا عن تحقيق روح وطنيّة شبيهة بالرّوح القائمة على علاقة أبناء الجنس الواحد، واللّغّة المشتركة، أن نرى لونًا من الولاء للمواطنة العالميّة يقوم على الاحترام الّذي نضفيه عادة على المواهب المتفوّقة، وعلى سلوك من يؤثّر غيره على نفسه، وعلى الامتنان الّذي نلقاه مقابل ما أسدينا، وما سنسدي من معروف، وسنرى عندها، على أيّ حال، بعض بوارق الأمل في أن يبدي المصري تردّدًا قبل أن يراهن بمستقبله مع أيّ أحمد عرابيّ آخر في المستقبل...، بل إنّ (الشّخص) من سكّان أواسط إفريقيا قد ينتهي به الأمر إلى أن يتعلّم إنشاد ترنيمة تكريمًا لربّة العدالة الّتي عادت، ممثّلة في المسؤول البريطانيّ الّذي قد ينكر عليه شرب الخمر، ولكنّه يقدّم له العدل»[23].
ويرى إدوارد سعيد أنّ كرومر يؤكّد في خطاباته مرارًا فكرة الذّكاء الغربيّ في التّعامل مع الأشياء، وتدقيقها، وأن ذلك هو ما مكّنه من فرض سيطرته، أو هيمنته على الأجناس المحكومة، وما فتئ يؤكّد أيضًا غباء الشّعوب الشّرقيّة الّذي أدّى بهم إلى الانحطاط، وذلك ما يبيّنه هذا النّصّ المأخوذ من كتاب: «مصر الحديثة» لكلومر: «فالأوروبّي يحكم الاستدلال الدّقيق، وذكره للحقائق لا يشوبه أيّ غموض، فهو منطقي بالفطرة، حتّى ولو لم يكن درس المنطق، وهو بطبيعته شكّاك، ويطلب البرهان قبل أن يقبل صدق أيّ قول، وذكاؤه المدرب يعمل عمل الآلة المنضبطة، أمّا عقل الشّرقيّ فهو يشبه شوارعه الخلّابة المظهر، أي يفتقر إلى أيّ تناسق، والاستدلال لديه أبعد ما يكون عن الإتقان».
الخلاصة والنّتائج
أوّلًا: يظهر جليًّا أنّ الخطاب الاستشراقيّ تحكمه روح الهيمنة، والتّسلّط، فهما فعلان مبرران بأنّ موازين القوى ترجع إلى المجتمعات الغربيّة، لكونها متشكّلة من أفراد متفوّقين، وقادرين على تمثيل أنفسهم، ومعرفة الأشياء من حولهم، وهناك مجتمعات أخرى أقلّ تنظيمًا، وتحضّرًا يسودها الانحطاط، والجهل بالتّاريخ، والثّقافة، والحضارة؛ لذلك وجبت السّيطرة عليها، واستعمارها لأنّ في ذلك خلاصًا لها.
ثانيًا: إنّ خطاب الاستشراق يلخّص الصّورة الّتي كوّنها الغربيّ عن الآخر المشرقيّ، فهي تجسيد لموقف غربيّ خالص يرى في المشرقيّ ذلك الإنسان المتخلّف، المنحط، والجاهل، والمتوحّش، وما يجسّد ذلك المقولة التّالية: («موروس بيروس»، مقولة إسبانيّة تعني المغاربة عدائيّون)، وأنّ أيّ ردّ فعل مضادّ للاستعمار، والهيمنة كما -يزعم هذا الخطاب- ناتج من عدم وعي هذه الشّعوب بمصلحتها العليا.
ثالثًا: نستنتج كذلك أنّ خطاب الاستشراق تمّ إنتاجه باعتماد مجموعة من المفاهيم الّتي أعيد إنتاجها، بحيث أصبحت تخدم المصلحة العنصريّة، والإمبرياليّة المتوخّاة من هذا الخطاب، وهي من قبيل: «الهيمنة، التّحضّر، الشّرق، الغرب، المصلحة، السّلطة، المعرفة، الجهل، الانحطاط، التّقدّم، التّاريخ، الثّقافة، الهوّيّة».
لائحة المصادر والمراجع
القرآن الكريم.
سعيد، إدوارد، الاستشراق المفاهيم الغربية للشرق، ترجمة: محمد عناني، دار رؤية للنشر والتوزيع، ط1، 2006م.
حمادي، إدريس، الخطاب الشرعي وطرائق استثماره، المركز الثقافي العربي بيروت، ط1، 1994م.
داغر، يوسف أسعد، مصادر الدراسة الأدبية، المطبعة المحلصية بيروت، ط2، 1961م.
مجمع اللغة العربية، المعجم الوسيط، طبعة 1960م.
ابن منظور، لسان العرب، دار صادر بيروت، ط1، 1955م.
حيمر، عبد السلام، في سوسيولوجيا الخطاب من سوسيولوجيا التمثلات إلى سوسيولوجيا الفعل، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، الطبعة الأولى، 2008م.
بوحوش، رابح، الأسلوبيات وتحليل الخطاب، مديرية النشر جامعة باجي مختار، عنابة الجزائر – 2004م.
بارت، رودي، الدراسات العربية والإسلامية في الجامعات الألمانية، ترجمة: مصطفى ماهر، دار الكاتب العربي للطباعة والنشر بالقاهرة، طبعة 1967 م.
--------------------------------
[1](*)- أستاذ التعليم الثانوي التأهيلي باحث بسلك الدكتوراه: كلية اللغات والآداب والفنون ابن طفيل – المغرب.
(**)- أستاذ التعليم العالي بكلية اللغات والآداب والفنون ابن طفيل – المغرب.
[3]- ابن منظور، لسان العرب، ج1، مادة خ طب.
[4]- إدريس حمادي، الخطاب الشرعي وطرائق استثماره، ص21.
[5]- القرآن الكريم برواية ورش لقراءة الإمام نافع وبهامشه، ص497.
[6]- الربع الثالث، ص296.
[7]- الربع الثاني، ص176.
[8]- حيمر، عبد السلام، في سوسيولوجيا الخطاب من سوسيولوجيا التمثلات إلى سوسيولوجيا الفعل، ص20.
[9]- بوحوش، رابح، الأسلوبيات وتحليل الخطاب، ص89.
[10]- مجمع اللغة العربية، المعجم الوسيط، ج1، ص482.
[11]- سمايلوفتش، أحمد، أستاذ العقيدة والفلسفة الإسلامية بكلية الدراسات الإسلامية في سراييفو يوغوسلافيا ورئيس المشيخة الإسلامية لجمهوريات البوسنة والهرسك وكرواتيا وسلوفينيا ويوغوسلافيا.
[12]- بارت، الدراسات العربية والإسلامية في الجامعات الألمانية، ص11.
[13]- داغر، يوسف أسعد، مصادر الدراسة الأدبيّة، ج2، ص771.
[14]- سعيد، إدوارد، الاستشراق المفاهيم الغربية للشرق، ص44.
[15]- الاستشراق المفاهيم الغربية للشرق، م.س، ص44.
[16]- م.ن، ص44.
[17]- الاستشراق المفاهيم الغربية للشرق، م.س، ص45، بتصرف.
[18]- م.ن، ص46.
[19]- واليا شيلي، 2007، ص33.
[20]- سعيد، إدوارد، «الاستشراق المفاهيم الغربية للشرق»، ص85، بتصرف.
[21]- «الاستشراق المفاهيم الغربية للشرق»، م.س، ص86، بتصرف.
[22]- «الاستشراق المفاهيم الغربية للشرق»، م.س، ص87، بتصرف.
[23]- مقتطف من مقال لكرومر نشره في مجلة إدنبره ريفيو في يناير – 1908م، نقلًا عن «الاستشراق» لإدوارد سعيد، ص92-93.