البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

الإمام الحسن(عليه السلام)في كتاب (الشّيعة)للمستشرق المعاصر هاينس هالم دراسة نقدية

الباحث :  أ.م.د أركان التّميمي
اسم المجلة :  دراسات استشراقية
العدد :  44
السنة :  خريف 2025م / 1447هـ
تاريخ إضافة البحث :  October / 11 / 2025
عدد زيارات البحث :  115
تحميل  ( 464.092 KB )
الملخّص
ربّما يمكن القول إنّ ما تعرّض له الإمام الحسن(عليه السلام) من مفتريات، وأكاذيب على يد المستشرقين أضعاف ما تعرّض له من أعدائه، فلا يوجد مستشرقٍ -إن لم يكن كلّهم فجلّهم- كتب عن الإمام الحسن(عليه السلام) إلّا ونال منه، وافترى، وقد يكون ما كتب مع إساءة، وتجاوز، وسوء أدب، وتوالت الكتابات السّيّئة، والمشوِّهة في سيرة الإمام الحسن الزّكيّ(عليه السلام) على يد المستشرقين، وكأنّهم يتوارثونها من مستشرق إلى مستشرق، ومن أهمّ أسباب الصّورة المشوّهة للإمام الحسن(عليه السلام) في كتابات المستشرقين اعتمادهم على كتب غير الشّيعة، وما كتبه المستشرقون الأوائل، فجاءت كتاباتهم مجانبة للحقيقة، سادرة في الكذب، والافتراء، وزادوا على ما جاء من أخبار أُمويّة، وعبّاسيّة مسيئة لسيرة الإمام المجتبى(عليه السلام).
ومن هؤلاء المستشرقين هاينس هالم، وهو مستشرق ألماني معاصر، تعرّض لسيرة الإمام الحسن(عليه السلام) بما يقرب من صفحة كاملة في كتابه: (الشّيعة)، وهو وإن كان يعدّ على الخطّ المعتدل من الاستشراق، لكن هذه الصّفحة عبّأها بمفتريات، ومزاعم، ورثها من أسلافه، وحاكى بها ما كتبوه، وما اعتمدوا فيه على المصادر غير الشّيعيّة، فكان من اللّازم الوقوف عند هذا الكتاب، ودراسة ما كتبه دراسةً نقديّة أمينة.
نظّمت البحث بمبحثين بعد المقدّمة، خصّصت المبحث الأوّل للتّعريف بالكاتب، والكتاب، والمبحث الثّاني لعرض ما كتبه هاينس هالم عن الإمام الحسن(عليه السلام)، ودراسته دراسة نقديّة.

الكلمات المفتاحيّة: الإمام الحسن(عليه السلام)، الاستشراق، المستشرق، هاينس هالم، كتاب (الشّيعة).

المقدّمة
هناك علاقة وثيقة بين المعنى اللّغويّ للاستشراق، وبين معناه الاصطلاحي، فالاستشراق لغّة من الشّرق، أي جهّة الشّرق، وهي الّتي يكون منها شروق الشّمس، واصطلاحًا عرّفوا الاستشراق بأنّه: «دراسة يقوم بها الغربيّون لقضايا الشّرق لغرض التّعرّف على العالَم الشّرقيّ من خلال الدّراسات اللّغويّة، والدّينيّة، والتّاريخيّة، والاجتماعيّة، والسّياسيّة، والتّقاليد»[2]. فالاستشراق عبارة عن اتّجاه فكريّ غربيّ يقوم بدراسة حضارة الشّرق من جوانبها الثّقافيّة، والفكريّة، والدّينيّة، والاقتصاديّة، والسّياسيّة كافّة.

وعرّفه إدوارد سعيد في كتابه (الاستشراق) تعريفًا ذا دلالة مهمّة، فقال عن الاستشراق: «أسلوب غربيّ للهيمنة على الشّرق، وإعادة بنائه، وممارسة السّلطة عليه»[3].
إذًا، الاستشراق في إطاره العامّ، والشّكليّ ممارسةٌ علميّة تحقيقيّة عن حضارة الشّرق عمومًا، والإسلام خصوصًا، وفي عمقه، ومراميه هو التّأثير في الشّرق، والمجتمعات الإسلاميّة، وإعادة صياغته، أو صياغة فكره، أو التّأثير في أفكاره، ومعتقداته، وزلزلتها، وبناء أخرى مكانها بمواصفات غربيّة، أو ما يرضيها، سالبة لكلّ هذه الأفكار، والمعتقدات عناصرَ قوّتها، وإشراقها. فكأنّ المستشرق يبحث عن مواضع الإشراق فيحاول سلبها، وسحبها إلى الغرب، إلى الظّلام. وربّما المؤيّد الأكبر لهذا أنّ الاستشراق نشأ، وولد مع الحملات الاستعماريّة للشّرق، أو انتعش، وعاش عصره الذّهبيّ في ظلّ الاستعمار، وقدّم للاستعمار ما يحتاج إليه من دراسات، وإحصائيّات عن ثقافة البلدان الشّرقيّة الّتي يحتلّها، ودينها، وتقاليدها، وجغرافيّتها، وتاريخها، وثرواتها، وغير ذلك الكثير.

نحن لا نصادر جهود المستشرقين العلميّة، ولا ننكر قيمة أعمالهم، فنتاجاتهم العلميّة كبيرة، وذات أثر بالغ، ولكن لا يمكن لأحدٍ أن يُنكر الحقد الّذي رافق كثير من هذه النّتاجات على الإسلام، ونبيّه، والقرآن، ولا أحد ينكر الأخطاء الّتي وقعوا فيها لمفارقتهم الموضوعيّة، والحياديّة، أو عدم قدرتهم على فهم اللّغّة، والنّصوص، أو اعتمادهم على مصادر هي بالأساس مصدر للزّيف، والكذب، أو عدم التّحقيق الجادّ، وأخذ المعلومات وراثةً مستشرقٍ عن مستشرق، بما في هذا الإرث من حقد، وزيف، وسوء فهم، وسوء أدب.
في كتاب (الشّيعة) للمستشرق الألمانيّ المعاصر هاينس هالم وقفنا على ترجمته لسيرة الإمام الحسن(عليه السلام) الّتي عنونها بتنازل الحسن، ورأينا أنّه نقل ما ردّده أسلافه المستشرقون الأوائل، الّذين بدورهم أخذوا المزيّف من التّأريخ، واعتمدوا عليه، بخبث طويّةٍ، أو سذاجة تحقيق، وسطّر هالم في صفحة واحدة تقريبًا ما استطاع جمعه من كتابات أسلافه المستشرقين، ومزاعم المؤرّخين المأجورين، في تشويه صورة الإمام الحسن(عليه السلام)، وإن كان لم يتكلّم بسوء أدب كما تكلّم بعض أسلافه من المستشرقين الّذين كتبوا عن الإمام الحسن الزّكيّ(عليه السلام)، فلقد استبطنت كلماته، وجمله ذلك، أو كان مؤدّاها ذلك. ولما كان (هاينس هالم) اسمًا لامعًا، وباحثًا معاصرًا، وكتابه (الشّيعة) متداولًا، وربّما مرجعًا علميًّا، رأينا عقد دراسة نقديّة لما جاء في كتابه (الشّيعة) عن الإمام الحسن(عليه السلام). ومن الله تعالى التّوفيق، والسّداد.

المبحث الأوّل: تعريف بالكاتب (المستشرق هاينس هالم) والكتاب (الشّيعة)
قبل الخوض بما كتبه المستشرق المعاصر هاينس هالم عن الإمام الحسن المجتبى(عليه السلام) في كتابه (الشّيعة) نتوقّف عند التّعريف بشخصيّة هاينس هالم، وبكتابه (الشّيعة)، ثمّ نعقد العزم على تناول الصّورة الّتي أظهر بها إمامنا الحسن(عليه السلام)، فنستعرض النّصّ مع نقده، وتقييمه.

المطلب الأوّل: تعريف بالمستشرق هاينس هالم
هاينس هالم، مستشرق ألماني معاصر، ولد في مدينة اندرناخ إحدى المدن الألمانيّة في 21 شباط (فبراير) عام 1942م.
درس في جامعة بون على يد أشهر المستشرقين الألمان مثل فيشر، وازخاو وفلايشر، وبدأ بدارسة العلوم الإسلاميّة في جامعة توبنجن ثمّ تقدّم إلى الدّارسة في جامعة بون ليحصل على شهادة الدّكتوراه. كما درس اللّغّات السّاميّة فيها، وكانت (آنا ماري شيمل) أستاذته في جامعة بون، وحصل على دكتوراه في فلسفة التّاريخ.

وفي عام ١٩٨٠م أصبح أستاذًا للدّارسات الإسلاميّة في جامعة إبرهارد كارلس في توبنغن (أستاذ أسلامكوند)، بل وأصبح هالم من كبار أساتذة التّاريخ الإسلاميّ، والفرق الإسلاميّة في جامعة (أبرهارد كارلس)، وبقى في منصبه إلى سنة ٢٠٠٧م، وقد درس في هذه الجامعة الدّارسات الدّينيّة العامّة، والمقارنة، والعلوم التّاريخيّة، المؤرّخون، وعلماء الآثار.

وكان في عام ١٩٨٧م قد أصبح أستاذًا مشاركًا في جامعة السّوربون في باريس لفترة من الزّمن ثمّ عاد إلى ألمانيا، وعمل كأستاذ زائر في جامعة ليدن في هولندا ١٩٩٣م. وشغل منصب عميد كلّيّة العلوم الثقافية ١٩٩٤م في كلّيّة ستوديندا.
وأشرف على طلّابه الّذين اهتمّوا بتاريخ الطّائفة الإسماعيليّة، ومنهم المستشرقة الألمانيّة (فيرينا كلين) أستاذة في معهد الدّراسات العربيّة في جامعة لايبزغ في المانيا. تتلمذت على يد المستشرق هاينس هالم، وحصلت على شهادة الدّكتوراه في الدّراسات الإسلاميّة من جامعة توبنغن بألمانيا.

أمّا اهتماماته البحثيّة هي تاريخ الشّرق الأوسط الإسلاميّ، وبخاصّة مصر، وشمال أفريقيا، وسوريا، والإسماعيليّة، والإماميّة (الاثني عشريّة)، وغيرها من الفرق الشّيعيّة.

برز في التّاريخ الفاطميّ بعد أطروحته أمبراطوريّة المهدي، واهتمّ بدراسة، وتحقيق بعض عقائد الإسماعيليّة، فأصدر بحثًا في عام ١٩٧٨م عن علم الخلاص لدى الإسماعيليّين الأوائل، كما تناول بالتّحليل الصّلة بين الفاطميّين، والاعتقاد بالمهدي في تصوير خاصّ به أسماه بـ(إمبراطوريّة المهدي، وصعود الفاطميّين)، الّذي نُشر عام ١٩٩١م .وكذلك ركّز على الفكر الصّوفيّ في كتابه (الغنوصيّة في الإسلام) الّذي نُشر عام ١٩٨٢م.

كما كانت له اهتمامات بالدّراسات الأدبيّة، وعلماء الأدب.
أمّا نتاجه العلميّ فلا نتعرّض إلى كلّ نتاجه العلميّ، ونختصر على أشهر مؤلّفاته الّتي تمّ ترجمتها إلى اللّغّة العربيّة:
1. إمبراطوريّة المهدي، ترجمة: محمود كبيب، دار الوارق للنشر، ١٩٩١م.
2. الغنوصية في الإسلام، ترجمة ارئد باشا .
3. الشّيعة (والدّراسة معقودة حوله)
4. تقاليدهم في التّعليم، ترجمة: سيف الدين قيصر، مراجعة: مجيد الراضي، ١٩٩٩م.

أمّا أشهر المقالات الّتي نشرها (هالم)، فهي:
1. الخلفاء والقتلة: الطبعة الثالثة، ٢٠٢١م منشورات ميونخ.
2. من مكّة إلى فيينا، ٢٠٢٠م.
3. الاختلافات والدّيناميكيّات في الإسلام، ٢٠١٢م، فورنسبورغ ٢٠٠٨م، ميونخ.
4. فهم الشّيعة التّقليديّن، والإمام الخميني، ط١.
5. الجنسانيّة في الإسلام، ٢٠٠٣ م، مارد، ميونيخ .
6. خطاب في وداع هاينز هالم، توبنغن في ١٦ فبراير، الجامعة فريبورغ، ٢٠١٦م.
7. إسلام، المكتبة الوطنيّة الألمانيّة لايبزيغ، ٢٠١٩م[4].

المطلب الثّاني: تعريف بكتاب (الشّيعة) لهاينس هالم
كتاب (الشّيعة) للمستشرق الألمانيّ هاينس هالم حمل في نسخته الألمانيّة عنوان: (DIESCHITEN) ، ويبدو أنّه الكتاب نفسه الّذي ترجم إلى اللّغّة الإنجليزيّة بعنوان: (SHICISM)، والّذي نُشر من قبل جامعة أدنبره في المملكة المتّحدة عام ٢٠٠١م وقد ترجمه إلى اللّغّة العربيّة مؤخّرًا محمود كبيو، ونُشر من قبل شركة الوراق للنّشر.

قسّم هاينس هالم كتابه إلى خمسة فصول:
الفصل الأوّل: الأئمة الاثنا عشر
وتضمّن لمحة موجزة عن الأئمّة الاثني عشر للشّيعة،
الفصل الثّاني: مواكب العزاء والمآتم
الفصل الثّالث: إسلام الملالي
الفصل الرّابع: الشّيعة الثّوريّة
الفصل الخامس: الشّيعة خارج إيران
يبين هاينس هالم في المقدّمة أنّ في سنة 2005م حيث صدر الكتاب، لم يمض سوى 25 سنة على دخول الشّيعة إلى وعي قطاع عريض من أوساط الرّأي العام العالميّ، وذلك عندما أسقط الثّوريّون الشّيعة سنة 1979م شاه إيران، وأسّسوا جمهوريّة إيران الإسلاميّة، ودخلوا في الوقت نفسه في صراع مع الغرب، ومع هذا الحدث بدأت الأنظار تتوجّه إلى المذهب الشّيعيّ، وإلى عقيدتهم. ويقول هاينس هالم إنّ كتابه يتناول المذهب الشّيعيّ، وليس الثّورة الإيرانيّة، أو السّياسة في الشّرق الأوسط، ولكن الأحداث السّياسيّة تدعوه مرّة بعد أخرى إلى وضعها في مركز البحث، من هنا جعل من الفصل الثّالث بعنوان إسلام الملالي، وهو التّعبير الغربيّ عن الثّورة الإسلاميّة في إيران، والفصل الرّابع بعنوان الشّيعة الثّوريّة، وتحدث في الفصل الخامس عن الشّيعة خارج إيران، ممّا يعني أنّ الكاتب اتّخذ من الشّيعة في إيران، والأحداث الّتي حدثت معهم، وهي الثّورة على الشّاه، وما تبعها من أحداث، اتّخذ ذلك محورًا لكتابه.

ومن المهمّ أن نشير إلى ما كتبه هاينس هالم عن تاريخ الشّيعة، حيث قال: «نشأ المذهب الشّيعيّ في العراق الّذي لم يزل حتّى اليوم أحد البلدان الأساس للإسلام الشّيعيّ، ففي العراق وقعت الأحداث الحاسمة في تاريخ الألم الشّيعيّ، وفيه توجد الأضرحة المقدّسة لستّة من الأئمة الأثني عشر، وهنا تطورت علوم الدّين الشّيعيّة في العصر الوسيط»[5].

وإذا كان هالم يقصد من «نشأ المذهب الشّيعيّ في العراق»، بتوسّعه بعد استقرار أمير المؤمنين علي(عليه السلام) في الكوفة، وبعد شهادة الإمام الحسين(عليه السلام)، فهذا صحيح، وإذا كان ينظر إلى أنّ المذهب الشّيعيّ في العراق أقدم منه في إيران، فهذا شيء لا يُنكر، بل التّشيّع انتشر من العراق في إيران، وغيرها.
أما إذا كان يقصد من نشأة التّشيع الأولى، والأصليّة، فنشأته الأولى في المدينة المنوّرة على يد رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) عندما رعى الخطّ الّذي يقوده الإمام علي(عليه السلام)، وربّما قصد هاينس هالم ذلك عندما قال: «والشّيعة قديمة قِدم الإسلام، لكنّها كانت على الدّوام أقلّيّة، وغالبًا في المعارضة».

وبعد أن تحدّث هالم عن قِدم التّشيّع، وأنّه وجد مع وجود الإسلام، تحدّث عن أمر آخر مهمّ، وهو عروبة التّشيّع، فقال هالم: «الشّيعة هي إذًا في الأصل ظاهرةٌ عربيةٌ كالإسلام نفسه، والجزء الأكبر من مراجعها مكتوبٌ باللّغّة العربيّة، ومن مؤلّفين إيرانيّين أيضًا، لم تزل اللّغّة العربيّة حتّى اليوم اللّغّة المعتمدة لدى علماء الدّين الشّيعة في جميع أرجاء العالم، أكثر من نصف العراقيّين شيعة...»[6].

وبهذا يدحض هاينس هالم قضيّتين طالما كانتا، وما زالتا، معزوفة مشروخة يردّدها بعضهم بدراية، أو بجهل، وتلوكها ألسنتهم، بوعي، أو بغير وعي، فيحدوهم الجهل، والحقد، والبغضاء، والقضيّتان هما: قِدم التّشيّع بقدم الإسلام، وليس أنّه مذهب طارئ، والقضيّة الثّانية: عروبة التّشيّع، وهي الحقيقة الّتي قلبها، وزيّفها أعداء التّشيّع، فقالوا عنه صنيعة فارسيّة، وما زالوا يقنعون أنفسهم، وأجيالهم بذلك، وهم بذلك كمن يغطّي الشّمس بغربال.

المبحث الثّاني: سيرة الإمام الحسن(عليه السلام) في كتاب (الشّيعة) عرض ونقد
تطرّق هاينس هالم في كتابه (الشّيعة) لسيرة الإمام الحسن(عليه السلام) تحت عنوان (تنازل الحسن)، وأورد سيرة مختصرة له في الصّفحة (27) من هذا الكتاب، ولا شكّ أنّ هاينس هالم لم يزد على ما سطّره سلفه من المستشرقين من تأريخ مشوّه للإمام الحسن(عليه السلام) مستندين في أكثر كتاباتهم على المصادر السّنّيّة، وعدم الرّجوع لمصادر الشّيعة رغم توفّرها، وتابعهم هالم في ذلك، فقد اعتمد في ما أورده في كتابه الشّيعة على الرّواية غير الشّيعيّة، وما كتبه سابقوه من المستشرقين.

نعم، في آخر حديثه عن الإمام الحسن(عليه السلام) أورد ما يفسّر به الشّيعةُ صلح الإمام(عليه السلام) مع معاوية، وسنقف عند هذا بإذنه تعالى.
ونستعرض الآن ما طرحه هالم عن الإمام الحسن(عليه السلام) بتفكيك النّصّ إلى نقاط، ونقدها، وهي:

أوّلًا: مؤهّلاته(عليه السلام) للخلافة
نظر هاينس هالم إلى مبايعة النّاس للإمام الحسن(عليه السلام)، إنما هو الاعتماد على تأييد أنصار أبيه الكوفيين، فقال: «كان الأكبر سنًّا، الحسن، في السّادسة والثّلاثين، أو في السّابعة والثّلاثين عند وفاة أبيه. وكان في وسعه لو طالب بحقّه في الخلافة الاعتماد على تأييد أنصار أبيه الكوفيين، أي على تأييد الشّيعة، وبالفعل فقد أُعلن خليفةً»[7].

وما يفهم من كلام هاينس هالم أنّ الإمام الحسن(عليه السلام) لم يكن يملك من الكفاءة، والمؤهّلات شيئًا يؤهّله إلى منصب الخليفة الإسلاميّ، وكلّ ما يمكنه الاعتماد عليه هو تأييد أنصار أبيه أمير المؤمنين(عليه السلام).

وفي الحقيقة أن تفنيد هذا الرّأي بنوعين من الأدلّة:
النّوع الأوّل: هي الأدلّة الّتي لا يفهمها هالم، أو لا يؤمن بها، ولا يلتزم بها، منها:

1. أنّ الإمام الحسن(عليه السلام) خليفة شرعيّ، وإن لم يبايعه النّاس، لأنّه(عليه السلام) من ضمن الخلفاء الاثنيّ عشر الّذين نصّ عليهم رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، ومصادر هذا الحديث لا يقتصر على الشّيعة.
2. أقوال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) عنه، وعن أخيه الحسين، مثل: «أنتما الإمامان، ولأُمّكما الشّفاعة»[8]، «الحسن، والحسين إمامان قاما، أو قعدا»[9].
3. وصيّة أمير المؤمنين علي(عليه السلام) إليه عند وفاته قائلًا: «يا بنيّ أمرني رسول اللّه أن أوصي إليك، وأن أدفع إليك كتبي، وسلاحي، كما أوصى إليّ رسول اللّه، ودفع إليّ كتبه، وسلاحه. وأمرني أن آمرك، إذا حضرك الموت أن تدفعها إلى أخيك الحسين»، ثمّ أقبل على الحسين فقال: «وأمرك رسول اللّه أن تدفعها إلى ابنك هذا». ثمّ أخذ بيد علي بن الحسين، وقال: «وأمرك رسول اللّه أن تدفعها إلى ابنك محمّد فأقرِئه من رسول اللّه ومنّي السّلام»[10].

النّوع الثّاني: الأدلّة الّتي يفهمها هاينس هالم، ولو وقف عندها بموضوعيّة لأذعن للقول إنّ البيعة للإمام الحسن(عليه السلام) لم تكن مجاملة، ومحاباة من شيعة أبيه، بل كانت القناعة بشخصه، ومزاياه، من هذه الأدلّة:
1. خطبته بالنّاس بعد أبيه، وكان لها الصّدى، والأثر، وتجلّت فيها شخصيّة الإمام الحسن(عليه السلام)، وقد أبّن أباه تأبينًا غير تقليدي، فقال: «لقد قبض في هذه اللّيلة رجل لم يسبقه الأوّلون، ولا يدركه الآخرون. لقد كان يجاهد مع رسول اللّه فيقيه بنفسه. ولقد كان يوجّهه برايته، فيكتنفه جبرئيل عن يمينه، وميكائيل عن يساره، فلا يرجع حتّى يفتح اللّه عليه. ولقد تُوفّي في اللّيلة الّتي قبض فيها موسى بن عمران. ورفع بها عيسى بن مريم، وأنزل القرآن. وما خلّف صفراء، ولا بيضاء إلّا سبعمائة درهم من عطائه، أراد أن يبتاع بها خادمًا لأهله».
ثمّ خنقته العبرة فبكى، وبكى النّاس معه ثمّ قال: «أيّها النّاس من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا الحسن بن محمّد رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، أنا ابن البشير، أنا ابن النّذير، أنا ابن الدّاعي إلى الله بإذنه، والسّراج المنير أنا من أهل البيت الّذين أذهب الله عنهم الرّجس، وطهّرهم تطهيرًا، والّذين افترض الله مودّتهم في كتابه إذ يقول وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْنًا، فاقتراف الحسنة مودّتنا أهل البيت»[11].

ووقع خطبة الإمام الحسن(عليه السلام) في الجموع المحتشدة في المسجد الجامع، وتفاعلهم معه، يحكي عن شخصيّة لها النّافذة في النّفوس، والمكانة، والمحبّة في قلوبهم، وإلّا لو كان الإمام الحسن(عليه السلام) على الصّورة الّتي طرحها هاينس هالم لمّا كان لكلامه هذا الصّدى، ولخطبته هذا الوقع، والأثر.
2. عبارة النّاس المبايِعة عندما خاطبهم عبيد الله بن العباس قائلًا: «معاشر النّاس هذا ابن نبيّكم، ووصيّ إمامكم فبايعوه» «يهدي به اللّه من اتّبع رضوانه سبل السّلام، ويخرجهم من الظّلمات إلى النّور بإذنه، ويهديهم إلى صراط مستقيم». فقالوا: «ما أحبّه الينا، وأوجب حقّه علينا، وأحقه بالخلافة». وبادروا إلى بيعته راغبين.
3. البيعة الجماهيريّة الّتي كانت خاتمة عهد الخلافة الّتي تأتي عن بيعةٍ، فبعد بيعته، وبيعة أبيه انتقلت الخلافةُ إلى مُلكٍ عضوض متوارث. وقد بايعته الكوفة، ثمّ تتابعت بيعة الأمصار، ولم يشذ عن هذه البيعة إلّا معاوية، وشامُه.

وكان ذلك يوم الواحد والعشرين من شهر رمضان، يوم وفاة أبيه(عليه السلام)، سنة أربعين للهجرة.
4. ما تلا البيعة من موقفٍ حازم من الإمام الحسن(عليه السلام) اتّجاه معاوية، يقول ابن أبي الحديد المعتزلي: «قال أبو الفرج: فلمّا انتهى إلى هذا الموضع من الخطبة قام عبد الله بن العباس بين يديه، فدعا النّاس إلى بيعته فاستجابوا، وقالوا ما أحبّه إلينا، وأحقّه بالخلافة، فبايعوه ثمّ نزل من المنبر».

قال أبو الفرج: ودس معاوية رجلًا من حمير إلى الكوفة، ورجلًا من بني القين إلى البصرة يكتبان إليه بالأخبار، فدلّ على الحميريّ، وعلى القينيّ، فأخذا وقتلا. وكتب الحسن(عليه السلام) إلى معاوية، أمّا بعد فإنّك دسست إليّ الرّجال كأنّك تحبّ اللّقاء، لا أشكّ في ذلك، فتوقّعه إن شاء الله، وبلغني أنّك شمت بما لم يشمت به ذو الحجى، وإنّما مثلك في ذلك كما قال الأوّل:

فإنّا ومن قد مات منا لك الّذي يروح فيمسي في المبيت ليغتدي
فقل للّذي يبغي خلاف الّذي مضى تجهّز لأخرى مثلها فكأنْ قدِ[12]

فبيعة الإمام الحسن(عليه السلام) لم تكن بدافع المجاملة، أو إكرامًا لأبيه من قبل النّاس المبايعة، ولو تصورنا هذا في عدد من المبايعين، فهل يمكن أن نتصوّره بحقّ كلّ المبايعين، بمختلف الشّخصيّات، والحواضر الإسلاميّة!
ولا يسع المقام لذكر تفاصيل جماهيريّة البيعة، وسعتها، ولكن مراجعة سريعة لكتب التّاريخ ستكشف لهاينس هالم، وغيره ذلك بوضوح، الشّيء الّذي لم يفعله هالم، ولم يتعب نفسه في قراءة ما يرتبط بالبيعة للإمام الحسن(عليه السلام)، وما اكتنفها من ظروف، وما كشفت عنه ودلّت، لكنّه توارث الرّأي عند المستشرقين.
علمًا أنّ ما قدّمه هاينس هالم من صورة لبيعة الإمام الحسن(عليه السلام) ليست بجديدة، فكم من مستشرق قد صاغ هذه الفكرة، ودسّ هذه الفكرة في كتابته عن الإمام الحسن(عليه السلام)، فالمستشرق (ناتنج) -على سبيل المثال لا الحصر- وصف مبايعة أهل الكوفة للإمام الحسن(عليه السلام) كانت قد صدرت من باب الاحترام لذكرى والده الإمام علي(عليه السلام)، وإنّ الحسن كان يؤثر العافية، ويحب السّلم[13].

ثانيًا: التّردّد وعدم التّصميم
تحدّث هاينس هالم عن الإمام الحسن المجتبى(عليه السلام) واصفًا إيّاه بالتّردّد، وعدم التّصميم، فقال: «عندما وصل معاوية على رأس الجيش السّوري إلى العراق أبدى كثيرًا من التردّد، وعدم التّصميم».
وأفضل الظّنّ به أنّه نظر إلى الأمر بسطحيّة عالية، وفسّر الموقف الّذي اختاره الإمام الحسن(عليه السلام) أنّه ناتج من التّردّد، وعدم الحزم، والتّصميم، وإذا كانت القراءة للمشهد سطحيّة، ومستعجلة، وعدم الاطّلاع على حياة الإمام الحسن(عليه السلام)، ومواقفه في الحروب، واختصار زاوية النّظر بصلحٍ عُقد مع مَنْ نازعه على الخلافة، بعد أشهر من المبايعة له، فلا غرابة أن تكون النّتيجة هكذا عند هاينس هالم.
لو أتعب هاينس هالم نفسه قليلًا، وقرأ، وتمعّن في كلمات الإمام الحسن(عليه السلام) الأولى بعد البيعة، لتغيّر رأيه إذا حكّم الموضوعيّة، والعلميّة على قراءته، وكتابته، ولذهب إلى أنّ الحسن(عليه السلام) حسم أمره من أوّل الأمر على قتال معاوية، واستئصال شأفته. وقد مرّ علينا قول أبو الفرج: ودسّ معاوية رجلًا من حمير إلى الكوفة، ورجلًا من بني القين إلى البصرة، يكتبان إليه بالأخبار، فدلّ على الحميريّ، وعلى القينيّ فأخذا وقتلا. وكتب الحسن (عليه السلام) إلى معاوية: «أمّا بعد فإنّك دسست إليّ الرجال كأنّك تحبّ اللّقاء لا أشكّ في ذلك، فتوقّعه إن شاء الله...».

وهكذا نرى أنّ الإمام الحسن(عليه السلام) قد أعدّ نفسه لملاقاة معاوية، غير خائف، ولا متردّد.
ولو قرأ رسالة الإمام الحسن(عليه السلام) إلى معاوية، فمن المفترض أن تُملي عليه موضوعيّته ألّا يصف الإمام(عليه السلام) بالمتردّد، كيف وهو يقرأ استعداد الإمام(عليه السلام) لمناجزة معاوية، فقال من ضمن ما قال: «ولقد كنّا تعجّبنا لتوثّب المتوثّبين علينا في حقّنا، وسلطان نبيّنا، وإن كانوا ذوي فضيلة، وسابقة في الإسلام، وأمسكنا عن منازعتهم مخافة على الدّين أن يجد المنافقون، والأحزاب في ذلك مغمزًا، يثلمونه به، أو يكون لهم بذلك سبب إلى ما أرادوا من إفساده، فاليوم فليتعجّب المتعجّب من توثّبك يا معاوية على أمر لست من أهله، لا بفضل في الدّين معروف، ولا أثر في الإسلام محمود، وأنت ابن حزب من الأحزاب، وابن أعدى قريش لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ولكتابه، والله حسيبك، فسترد فتعلم لمن عقبى الدار، وبالله لتلقين عن قليل ربّك، ثمّ ليجزينّك بما قدّمت يداك، وما الله بظلّام للعبيد».

... فدع التّمادي في الباطل، وادخل فيما دخل فيه النّاس من بيعتي، فإنّك تعلم أنّي أحقّ بهذا الأمر منك عند الله، وعند كلّ أوّاب حفيظ، ومن له قلب منيب، واتّق الله، ودع البغي، واحقن دماء المسلمين، فوالله ما لك خير في أن تلقى الله من دمائهم بأكثر ممّا أنت لاقيه به، وادخل في السّلم، والطّاعة، ولا تنازع الأمر أهله، ومن هو أحقّ به منك، ليطفئ الله النّائرة بذلك، ويجمع الكلمة، ويصلح ذات البين، وإن أنت أبيت إلّا التّمادي في غيك سرتُ إليك بالمسلمين فحاكمتك، حتّى يحكم الله بيننا، وهو خير الحاكمين»[14].

وهكذا بمراجعة كلمات الإمام الحسن(عليه السلام)، وما اتّخذه من تدابير لحرب معاوية، كلّها تشير إلى أنّه لم يكن متردّدًا في أمره، بل حزم رأيه، وسار لا يلويه شيء، ولكن خذلان جيشه، وعدم نهوض الأمّة معه، جعل الصّلح مع معاوية خيرًا من حربٍ لا تحقّق أهدافها.
كما أنّ سيرة الإمام الحسن(عليه السلام) في حياة أبيه طافحة بمواقف الحزم، والشّجاعة، والإقدام، بمشاركته في الحروب المختلفة.

ولك المواقفُ، والمشاهدُ واحدٌ يروي، وآخَــــــرُ بـالبطولة يَشهدُ
فـبـإصبهانَ ويـومَ قُـسْطنطينةٍ مـاضي شَـــباكَ لـه حديثٌ مُسنَدُ
والـنهروانُ وأرضُ صِـفّينٍ بـها أصـداءُ ســـــيفكَ مـا تزال تُعرَبِدُ
وأبـوك حـيدرُ، والـحَيادرُ نسلُها مِن سِنخِها... وابنُ الحسامِ مُهَنَّدُ[15]

ثالثًا: عقد الصّلح نتيجة للتّردّد
بعد أن جعل هاينس هالم التّردّد، وعدم التّصميم في اتّخاذ القرارات الحاسمة من صفات الإمام الحسن(عليه السلام)، جعل هذا سببًا رئيسًا لعقد الإمام الحسن(عليه السلام) الصّلح مع معاوية، فقال هالم: «ولذلك جرت مفاوضات في المدائن الواقعة على نهر دجلة انتهت بتنازل الحسن عن الخلافة».
وبهذا يتبيّن أنّ هالم لم يتطرّق إلى تفتّت الجيش الكوفيّ على يد معاوية، وتخاذله عن الإمام الحسن(عليه السلام)، وألقى باللّائمة على الإمام الحسن(عليه السلام)، وكأنّه أدار وجهه عن الأسباب المذكورة للصّلح، واختصرها بسبب واحد ارتأى أن يعلّق الصّلح عليه، وهو التّردّد المزعوم عند الإمام(عليه السلام)، وبهذا تظهر عدم موضوعيّة هالم، ومفارقته للعلميّة، واختياره السّير في طريق معبّد من قبل أسلافه المستشرقين.

قال الشّيخ المفيد عن أسباب الصّلح: «لم يكن هناك بُدّ للإمام الحسن(عليه السلام) من القبول بالصّلح، وترك القتال؛ بعد أن علم بخذلان القوم له، وفساد المحكّمة فيه بما أظهروه له من السّبّ، والتّكفير، واستحلال دمه، ونهب أمواله، ولم يبق معه من يأمن غوائله سوى القليل من خاصّة أصحابه، وهم من القلّة بحيث لا تقوم لأجناد الشّام، بل وهناك من أفراد عسكره من استحلّ دمه، وأراد الفتك به، وتسليمه إلى معاوية...».

ووصل الخذلان، والوقوع في شرك معاوية، وإغراءاته إلى الدّائرة الضّيّقة المحيطة بالإمام الحسن(عليه السلام)، يقول الشّيخ المفيد: «كما أنّ معاوية أرسل إلى ابن عمّ الإمام الحسن عبيدِ الله بن العباس يُرغبه في المصير إليه، وضمن ألف ألف درهم، فانسلّ عبيد الله بن العباس في اللّيل إلى معسكر معاوية...»[16].
فالإمام الحسن (عليه السلام) لم يعقد الصّلح مع معاوية لأنّه كان متردّدًا خائفًا يطلب العافية، بل لأنّ الأسباب الموضوعيّة، والقراءة الواقعيّة دعت إلى هذا الاختيار، يكفي في تخاذل جيشه أنّهم راسلوا معاوية إن شئت أرسلنا لك الحسن أسيرًا، وفي جواب لأصحابه قال الإمام الحسن(عليه السلام): «والله لئن أسالمه، وأنا عزيز خير من أن يقتلني وأنا أسير، أو يمن عليَّ، فيكون سبة على بني هاشم إلى آخر الدّهر، ومعاوية ما يزال يمنّ بها، وعقبه على الحيّ منّا والميت»[17].
ولا أدري كيف يغض هالم الطّرفَ عن كلّ هذه التّفاصيل، ولا يأتي لها بذكر، ويجعل تردّد الإمام الحسن(عليه السلام)، وخوفه هو الّذي قاد إلى الصّلح، ولا أدري أساسًا هل أعرض هالم عن هذه التّفاصيل بعد اطّلاع عليها، فيكون فارق الموضوعيّة فيما كتب، لسبب، أو لآخر، أو أنّه لم يطّلع، وسار على ما سار عليه أسلافه؟!

رابعًا: الحصول على الأموال الطّائلة سببٌ آخر للصّلح
جعل هاينس هالم الأموال الّتي نصّت بنود الصلح أن يسلمها معاوية للإمام الحسن(عليه السلام) سببًا آخرً لموافقة الإمام الحسن(عليه السلام) على عقد الصّلح.
قال هاينس هالم: «وممّا سهّل على حفيد النّبي اتّخاذ هذا القرار منحه مبالغ كبيرة من المال، بالإضافة إلى عائدات الخراج لمنطقة إيرانيّة كاملة».

وهذا القول ليس جديدًا عند المستشرقين، بل يردّده الكثير منهم، ومنهم من ذهب بإساءته بعيدًا، قال هنري لمنس المعروف بحقده الدّفين على الإسلام، حقد أفقده الأمانة العلميّة، حيث عرف عنه عدم الأمانة العلميّة، قال عن الإمام الحسن إنّه لم يكتف بالمطالبة بألف ألف درهم كمصارف لأخيه الحسين(عليه السلام) فقط، وإنّما طلب لنفسه خمسة ملايين درهم آخر، والذّهاب للإقامة في حيّ من أحياء بلاد فارس[18].
ومن قرأ قليلًا عن الإمام الحسن المجتبى(عليه السلام) يرى أنّ ما يزعمه المستشرقون لا يناسب ما هو معروف متسالم عليه في حياة الإمام الحسن(عليه السلام)، لأُمور كثيرة:

1. تحدّث المؤرخون في حياة الإمام الحسن(عليه السلام) عن زهده في الأموال، وأنّه خرج من أمواله مرّتين، وقاسم الله تعالى أمواله، ومن كانت الأموال عنده بهذه الحال هل يعقل أن يرضى بمبالغ كبيرة من المال ليتنازل عن الخلافة، وإدارة الدّولة لمعاوية، ويقنع بخراج أبجرد في بلاد فارس؟!
2. كان للإمام الحسن(عليه السلام) أمواله الخاصّة، وكان قائمًا على ممتلكات ورثها من أبيه أمير المؤمنين علي(عليه السلام)، وأمّه فاطمة(عليها السلام)، ففي وصيّة أبيه الإمام عليّ (عليه السلام):

«بسم الله الرّحمن الرّحيم، هذا ما أوصى به وقضى به في ماله عبدُ الله عليٌّ ابتغاءَ وجه الله ... أنّ ما كان لي من مال بينبُع يُعرف لي فيها، وما حولها صدقة، ورقيقها...، ومع ذلك ما كان لي بوادي القرى كلّه من مال لبني فاطمة (ثلثها وقف)، ورقيقها صدقة، وما كان لي بديمة، وأهلها صدقة ... وما كان لي بأذينة، وأهلها صدقة، والفقيرين كما قد علمتم صدقة في سبيل الله، وإنّ الّذي كتبت من أموالي هذه صدقة واجبة بتلة (وقف)... فإنّه يقوم على ذلك الحسنُ بن علي يأكل منه بالمعروف، وينفقه حيث يراه الله (عزّ وجل) في حلّ محلّل لا حرج عليه فيه، فإن أراد أن يبيع نصيبًا من المال فيقضي به الدّين، فليفعل إن شاء، ولا حرج عليه فيه، وإن شاء جعله سرى الملك، وإن ولد علي، ومواليهم، وأموالهم إلى الحسن بن علي...»[19].

وجاء في وصيّة السّيّدة الزّهراء(عليها السلام) ما نصّه:
«بسم الله الرّحمن الرّحيم، هذا ما أوصت به فاطمة بنت محمّد رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أوصت بحوائطها السّبعة: العواف، والدّلال، والبرقة، والميثب، والحسنى، والصّافية، وما لأم إبراهيم، إلى علي بن أبي طالب(عليه السلام) فإن مضى علي فإلى الحسن، فإن مضى الحسن فإلى الحسين، فإن مضى الحسين فإلى الأكبر من ولدي»[20].

3. البند المتعلّق بالأموال في وثيقة الصّلح ينصّ على أن تصرف الأموال في أُمور الشّيعة، وأكّد على عوائل الشّهداء في حرب الجمل، وصفّين، فجاءت الفقرة كالآتي: «بايع الحسن بن علي صلوات الله عليه معاوية على ألّا يسميه أمير المؤمنين، ولا يُقيم عنده شهادة، وعلى ألّا يتعقّب على شيعة علي(عليه السلام) شيئًا، وعلى أن يفرّق في أولاد من قتل مع أبيه يوم الجمل، وأولاد من قتل مع أبيه بصفين ألف ألف درهم، وأن يجعل ذلك من خراج دار أبجرد...»[21].

إذًا، فالأموال المذكورة في البند مخصّصة لعوائل الشّهداء، وليس للإمام الحسن(عليه السلام)، بل قال بعض المستشرقين إنّ معاوية اقترح على الإمام الحسن(عليه السلام) أن يدفع له ما مقداره خمسة ملايين درهم من بيت مال الكوفة مرّة واحدة، وتخصيص راتب مستمرًّا له من خراج بلدة من بلاد فارس، ولكن الإمام الحسن(عليه السلام) رفض هذا الاقتراح»[22].
وهذا المقدار من المال، وإن كان مستبعدًا أن يتوفّر في خزانة الكوفة، لأنّ أمير المؤمنين علي(عليه السلام) كان معروفًا بسرعة توزيع الأموال، وعدم تركها في بيت المال، ومستبعد أن تتكاثر الأموال في بيت المال بهذا المقدار الكبير في فترة أشهر فقط، ولكن اقتراح معاوية بمال خاصّ للإمام الحسن(عليه السلام) ليس مستبعدًا، بل هذا ألصق به.

وعلى كلّ حال، ما ذكره هالم، ومن قبله المستشرقون، بمزاعم مختلفة، تجتمع كلّها عند كون الأموال الّتي أعطيت للإمام الحسن(عليه السلام) سببًا رئيسًا من أسباب موافقة الإمام(عليه السلام) على الصّلح، لا يمكن تصوّر هذا بحقّ الإمام الحسن الزّكي(عليه السلام)، ولكن هالم سار على طريق أسلافه، فسطّر ما ورثه عنهم، وربّما كان عنده مصدر لذلك، وكان عندهم، فمصادر المسلمين غير مؤتمنة، ومن ذلك ما رواه الطّبري: أنّ الصّلح تمّ بين الإمام الحسن ومعاوية بعد أن اشترط الحسن لنفسه على معاوية أن يبقي عنده الأموال الّتي أصابها[23].

وبهذا يتّضح لنا أنّ ما طرحه هاينس هالم لا يتوافق مع وضع الإمام الحسن(عليه السلام) الرّوحيّ، والاقتصاديّ، ولا يتناسب مع الواقع الّذي نجده في بنود وثيقة الصّلح، ولكن المستشرقين لهم في ذلك مآرب، ومطالب، ومن نُحسن به الظّن نحمله على عدم التّتبّع العلميّ الجيّد، والاكتفاء بما في المصادر السّنّيّة، أو ما طرحه المستشرقون السّابقون عليه، ولا يخلو حال هالم من هذه الاحتمالات.

خامسًا: عيشة الثّراء في المدينة وعدم التّدخّل في الحياة السّياسيّة
وصف هاينس هالم الإمامَ الحسن(عليه السلام) أنّه عاش بعد الصّلح عيشة الثّراء، واعتزل الحياة السياسيّة، ولم يتدخّل في شؤونها، فقال ما نصّه: «بعد ذلك عاد الحسن إلى المدينة، وعاش هناك حتّى وفاته كرجل ثريّ محترم، من دون أن يتدخّل إطلاقًا في الشّؤون السّياسيّة».
وممّا تقدّم عرفنا أنّ الإمام الحسن(عليه السلام) لم يكن فقيرًا فأثرى بفضل الصّلح مع معاوية، بل كان رغم زهده غنيًّا، ومع أمواله الخاصّة كان متواضعًا كريمًا نبيلًا.

سادسًا: كثير الزّواج وكثير الذّرّيّة
ولم يغادر هاينس هالم حديثه عن الإمام الحسن(عليه السلام) بدون الإشارة إلى الشّبهة المكرورة، وهي أنّه(عليه السلام) كان كثير الزّواج، فقال: «والشّيء الوحيد الجدير بالملاحظة الّذي ترويه عنه المصادر التّاريخيّة أنّه كان كثير الزّواج، وأنّه خلّف عددًا كبيرًا من الأولاد».

ويبدو أنّ عبارته «والشّيء الوحيد الجدير بالملاحظة ...» ليس عبارة عفويّة، بل هي عبارة أراد بها هالم أن يذمّ الإمام الحسن(عليه السلام)، فبيّن أنّ كثرة الزّواج هي المائز الواضح لحياته(عليه السلام)، ولا يخفى ما في هذه العبارة من سخافة، وما يرافقها من جهلٍ، أو حقد، فالمصادر التّاريخيّة تكتظّ بفضائل الإمام الحسن(عليه السلام)، ومناقبه، وجميل سجاياه، وسموّ نفسه، وكرم طباعه، ويكفي أنّه بنصّ جدّه رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه سيّد شباب أهل الجنّة، وهل يكون سيّد شباب أهل الجنّة مَن لا يُعرف عنه ما يميزه إلّا كثرة الزّواج، ولكن أنّى لهاينس هالم وغيره أن يفهم ذلك؟!

ثمَّ -ولا نريد أن نقف عند أدلّة نفي هذه الشّبهة، فلقد كثرت المقالات، والبحوث في ذلك، وأشبعت هذه الشّبهة تفنيدًا- إنّ كثرة الزّواج يستتبعه كثرة الزّوجات، ومثل الحسن(عليه السلام) لا يمكن ألّا يحتفظ التّاريخ بأسماء الكثير من زوجاته، فأين أسماؤهن، ومع كثرة الزّواج يكون كثرة الأولاد، فمن هم أولاد الإمام الحسن(عليه السلام)، هل يذكر المؤرّخون عددًا هائلًا من الوِلد للإمام الحسن(عليه السلام)؟

بقول مختصر، من يقل بكثرة الزّواج عليه أن يأتي بالأسماء، أسماء الزّوجات، وأسماء الأولاد، ونقبل من المدّعي ربع عدد الزّوجات المزعومات.
لكن المؤرّخين لا يذكرون من أسماء الزّوجات للإمام الحسن(عليه السلام) إلّا خمس زوجات، ومن الأولاد إلّا ستة عشر ولدًا، في أكثر الرّوايات[24].

في حين يصل بعضهم بعدد زوجاته(عليه السلام) إلى تسعين زوجة، كما هو الحال عند المدائنيّ، وبعضهم أكثر من ذلك، كأبي طالب المكّيّ في كتابه قوت القلوب، فذكر زواجه من مئتين وخمسين، أو ثلاثمئة امرأة، مع ذلك لا يُذكر له(عليه السلام) من هذه الزّوجات إلّا خمس نساء، هن:

1. أم بشير بنت أبي مسعود الأنصار، وهي أم زيد بن الحسن.
2. جعدة بنت الأشعث.
3. أم إسحاق بنت طلحة بن عبيد اللّه، وهي أم طلحة، والحسين الأثرم.
4. امرأة من بني ثقيف، وهي أم عمرو بن الإمام الحسن.
5. خولة بنت منظور الفزارية، وهي أم الحسن المثنى.

ورملة وهي أم ولد، وولداها القاسم وعبد الله الشّهيدان في كربلاء.
المفارقة أنّ هذه الفرية لم ترد على لسان معاوية مع احتياجه لما يشوّه به صفحة غريمه، فلماذا لم ينعته بهذا الوصف؟!

يُرصد أوّل إطلاقٍ لهذه الفرية يقول إنّها طفت على السّطح في ظلّ ثورات العلويّين على السّلطة العبّاسيّة، وولدت على لسان المنصور الدوانيقي العباسي، يقول المؤرّخ المسعوديّ:

«ولما أخذ المنصور عبد الله بن الحسن، وإخوته، والنّفر الّذين كانوا معه من أهل بيته صعد المنبر بالهاشمية، فحمد الله، وأثنى عليه، وصلّى على محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم)، ثمّ قال: يا أهل خراسان، أنتم شيعتنا، وأنصارنا، وأهل دعوتنا، ولو بايعتم غيرنا، لم تبايعوا خيرًا منا، إنّ ولد ابن أبي طالب تركناهم، والّذي لا إله إلّا هو، والخلافة فلم نعرض لهم لا بقليل، ولا بكثير. فقام فيها علي بن أبي طالب(عليه السلام) فما أفلح، وحكم الحكمين، فاختلفت عليه الأمّة، وافترقت الكلمة، ثمّ وثب عليه شيعته، وأنصاره، وثقاته فقتلوه، ثمّ قام بعده الحسن بن علي رضي الله عنه فوالله ما كان برجل، عُرِضت عليه الأموال فقبلها، ودسَّ إليه معاوية إنّي أجعلك وليّ عهدي، فخلعه، وانسلخ له ممّا كان فيه، وسلمه إليه، وأقبل على النّساء يتزوج اليوم واحدة، ويطلق غدًا أخرى، فلم يزل كذلك حتّى مات على فراشه...»[25].

ولا ندري هل قرأ هاينس هالم هذه النّصوص، وغيرها، أم لم يقرأها، ولو كان قد قرأها، أو سمع بها فكيف خلص إلى هذه النّتيجة: «والشّيء الوحيد الجدير بالملاحظة الّذي ترويه عنه المصادر التّاريخية أنّه كان كثير الزّواج، وأنّه خلّف عددًا كبيرًا من الأولاد»!!!.

سابعًا: تأريخ وفاته المجهول
قال هالم: «وحتّى سنة وفاته غير معروفة، ويعتقد أنّه توفّي بين سنة 670م وسنة 680م، ودفن في مقبرة البقيع في المدينة».
وهكذا ساق هاينس هالم تاريخ وفاة الإمام الحسن(عليه السلام) بطريقة غريبة كأنّه يوحي من خلالها أنّ الإمام(عليه السلام) كان مغمورًا في مجتمعه، فلم تعرف سنة وفاته على وجه التّحديد، وكأنّ كلّ من اختُلف في سنة وفاته كان على هامش المجتمع، لا يُعبأ به.
وربّما لا يعرف هاينس هالم أنّ الاختلاف في تواريخ الوفاة أمرٌ طبيعي، ولا دلالة فيه على كون المتوفّى مغمورًا في مجتمعه، ولم يكن ذا أهمية تُذكر، فنبيّ الإسلام محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) مختلف في تعيين يوم وفاته على وجه التّحديد.

ثامنًا: سرد الرّؤية والرّواية الشّيعيّة
قال هالم في آخر حديثه عن الإمام الحسن(عليه السلام): «بالنّسبة للشيعة يعدّ الحسن الخليفة الشّرعي لأبيه عليّ، والإمام الثّاني حتّى وفاته. أمّا أن يكون قد اضطرّ للرّضوخ لمعاوية فهو أمر يفسّره الشّيعة بأنّ الإمام أراد، نظرًا لتفوّق السّوريّين عسكريًّا، تفادى الدّخول في معركة خاسرة سلفًا، وبالتّالي حقن دماء المسلمين. فهو تحاشى العنف دون أن يتخلّى عن حقوقه. ومثل جميع الأئمة الآخرين يعتبر الحسن أيضًا شهيدًا عند الشّيعة، إذ يقال إن إحدى زوجاته قتلته بالسّمِّ بناءً على دسيسة من معاوية».

أراد هالم أن يكون هنا موضوعيًّا مُحايدًا بنقل الرّأي الشّيعيّ، ولكنّه كان واضحًا أنه لم يَعْبَأ بهذه الرّؤية الشّيعيّة، فأوردها بدون نقاش، أو بدون أن يمنحها نصيبًا من المقبوليّة، أو الاحتماليّة، في الوقت الّذي كان عدم تكافؤ المعسكرين سببًا وجيهًا لاختيار الصّلح.
ويتبيّن من قول هاينس هالم: «بالنّسبة للشّيعة...» أنّ ما تقدّم من كلامه لم تكن مصادره شيعيّة، ولم تتولّد فكرتُه بالرّجوع إلى مصادرهم، بل هي آراء غير الشّيعة، سنّيّة كانت المصادر، أو استشراقيّة.
وفي كلّ ما تقدّم لم يظهر لنا هاينس هالم بمظهر الباحث الموضوعي الجادّ المحايد، بل ردّد ما قاله أسلافه من المستشرقين، نعم قد تكون لغّته مخفّفة عن لغّة سابقيّه، فلم تكن بمستوى كثير من المستشرقين السّابقين في الجرأة، وسوء الأدب، رغم أنّها لم تكن لغّة محترمة في بعض مواضعها، لأنّه لم يستطع التّخلّص من نتاج المستشرقين السّابقين بكلّ أحقادهم على الإسلام، ورموزه، ولم يأت بقراءة جديد مختلفة عن أسلافه، فكلّ ما دوّنه عن الإمام الحسن(عليه السلام) نجده عن المستشرقين الأوائل.

الخاتمة
في هذه الخاتمة نذكر أهمّ النّتائج المتحصّلة من البحث، مع التّوصيات، وربّما وجدت طريقها للتّحقّق.

أوّلًا: النّتائج
أهمّ نتائج البحث:
2. تحدّث المستشرق الألمانيّ المعاصر هاينس هالم عن إمامنا الحسن المجتبى(عليه السلام) في كتابه (الشّيعة) معنونًا حديثه بـ(تنازل الحسن)، ولم يأتِ بشيء جديد، وقد ردّد الافتراءات المعروفة الّتي حاول بها خصوم الإمام الحسن(عليه السلام) الأمويّيون، والعبّاسيّون تشويه صورته من خلالها، وتلقّفها المستشرقون الأوائل، فأخذوا المزيّف من التّأريخ، واعتمدوا عليه، بخبث طويةٍ، أو سذاجة تحقيق، وهالم وإن لم يكن قد تكلّم بسوء أدب كما تكلّم بعض أسلافه من المستشرقين الّذين كتبوا عن الإمام الحسن الزّكي(عليه السلام)، لكن كلماته، وجمله استبطنت ذلك.

2. تطرّق هاينس هالم لعدّة أمور عن الإمام الحسن(عليه السلام) جعلناها على شكل نقاط، وهي:
أ. مؤهّلات الإمام الحسن(عليه السلام) للخلافة، ويفهم من كلام هاينس هالم أنّ الإمام الحسن(عليه السلام) لم يكن يملك من الكفاءة، والمؤهّلات شيئًا يؤهّله إلى منصب الخليفة الإسلاميّ، وكلّ ما يمكنه الاعتماد عليه هو تأييد أنصار أبيه أمير المؤمنين(عليه السلام).
ويبدو أنّ هالم أعرض -بقصد أو بدونه- عن البيعة الجماهيريّة للإمام الحسن(عليه السلام) الّتي لا يتصوّر أن تجتمع الأمصار عليها لو لم يكن كفؤًا للقيادة، والخلافة، كما أنّه أعرض عن شخصيّة الإمام الحسن(عليه السلام) الّتي ظهرت بعد شهادة أبيه(عليه السلام) في خطبته، ومواقفه القياديّة، ومواجهته معاوية، وسيرته المباركة.
ب. ذكر هالم أنّ التّردّد، وعدم التّصميم من صفات الإمام الحسن(عليه السلام) غافلًا، أو متغافلًا عن مواقفه، وشجاعته في عهد أبيه(عليه السلام)، وخوضه الحروب معه، واستنفاره للنّاس للقتال، ثمّ موقفه الحازم مع معاوية، قبل أن يتفّشى الخذلان في جيشه.
ت. عدّ هالم هذا التّردّد أبرز أسباب الصّلح مع معاوية، ضاربًا بذلك الموضوعيّة عرض الجدار، فلم يتعرّض إلى ملابسات الخيانة، والخذلان الّتي واجهها الإمام الحسن(عليه السلام) في جيشه، وتخاذل النّاس عن النّصرة، والتّضحية.
ث. وعد هالم أيضًا الأموال الّتي قدّمها معاوية للإمام الحسن(عليه السلام) سببًا مغريًا لعقد الصّلح، وتسليم السّلطة لمعاوية، وناقشنا ذلك، ورأينا أنّ هالم لم يتطرّق إلى تفاصيل الأموال، ولمن خُصّصت في بنود الصّلح.
ج. وصف هالم الإمام الحسن(عليه السلام) أنّه تفرّغ في المدينة يعيش عيشة الثّراء، وكأنّه لا يعرف أنّ الإمام الحسن(عليه السلام) لم يكن فقيرًا، فأثرى بفضل الصّلح مع معاوية، بل كان رغم زهده غنيًّا، ومع أمواله الخاصّة كان متواضعًا كريمًا نبيلًا.
ح. كثرة الزّواج والطّلاق، وهي الفرية القديمة الجديدة، لاكها هالم كما سبقه أسلافه من المستشرقين، ومن قبلهم المأجورون من المؤرّخين، وتوقّفنا مفنّدين لهذه الفرية الّتي قد أُشبعت ردًّا، وتفنيدًا من قبل الكتّاب، والباحثين.
خ. غمز هاينس هالم عند تعرّضه لتاريخ وفاة الإمام الحسن(عليه السلام) بأنّ مجهوليّة التّاريخ يشي بأنّه(عليه السلام) كان مغمورًا هامشيًّا في الحياة الإسلاميّة، وما درى أنّ الاختلاف في ضبط تواريخ الوفيات أمر شائع، بل حتّى تاريخ وفاة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) اختلف في تحديده.
د. أراد هالم في آخر حديثه أن يكون موضوعيًّا مُحايدًا بنقل الرّأي الشّيعيّ في صلح الإمام الحسن(عليه السلام)، ووفاته، ولكنّه كان واضحًا أنّه لم يَعْبَأ بهذه الرّؤية الشّيعيّة، فأوردها بدون نقاش، أو بدون أن يمنحها نصيبًا من المقبوليّة، أو الاحتماليّة.
ذ. كان يفترض بباحث بمستوى هاينس هالم أن يكون موضوعيًّا، وأن يحتكم للعلميّة، والبحث الجادّ، لا أن يسلّم قلمَه لترديد كلمات أسلافه، وافتراءاتهم، الّتي أخذوها من التّأريخ المزيّف في مصادر المسلمين.

ثانيًا: التّوصيات
نرى من الأهمّيّة بمكان كتابة دائرة معارف إسلاميّة شيعيّة تشتمل على كلّ ما كتبه المستشرقون عن أهل البيت(عليهم السلام)، وردّ كلّ الشّبهات، والآراء الخاطئة، وترصين الآراء الصّحيحة، وتترجم دائرة المعارف هذه إلى اللّغّات المختلفة، لتكون مرجعًا رئيسًا للدّوائر، والمؤسّسات الأجنبيّة المعتنية بهذا الشّأن.

لائحة المصادر والمراجع
ابن شهر آشوب، محمد بن علي، مناقب آل أبي طالب، ط1، مؤسسة علّام - قم المقدسة.
أحمد، الوائلي، ديوان الشيخ أحمد الوائلي.
إدوارد، سعيد، الاستشراق المفاهيم الغربية للشرق، ترجمة: محمد عناني، رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة.
الأربلي، علي بن أبي الفتح، كشف الغمة في معرفة الأئمة، دار الأضواء، بيروت.
حتّي، فيليب، تاريخ العرب، دار الكشاف، 2009م.
خزعل، سندس بدر، رؤية المستشرقين الألمان في دراسة ونشر تاريخ الدولة الفاطمية، هاينس هالم أنموذجًا، (رسالة دكتوراة)، كلية التربية للبنات - جامعة البصرة، سنة 2023م.
الصدوق، محمد بن علي بن بابويه، علل الشرائع، منشورات المكتبة الحيدرية، النجف الأشرف، ١٣٨٥هـ/ ١٩٦٦م.
الطبرسي، أبو منصور أحمد بن علي بن أبي طالب، الاحتجاج، منشورات دار النعمان، النجف الأشرف، 1386ه‍/ 1966م.
الطبرسي، الفضل بن الحسن، إعلام الورى بأعلام الهدى.
الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الأمم والملوك، مؤسسة الأعلمي، بيروت.
عبد النور، جبور، المعجم الأدبي، ط1، دار العلم للملايين، بيروت، 1979م.
الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي، دار الكتب الإسلامية – طهران، ١٣٦٣ش.
المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، مؤسسة الوفاء، بيروت.
مجموعة من المستشرقين، دائرة المعارف الإسلامية.
المعتزلي، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار إحياء الكتب العربية، بيروت.
المفيد، محمد بن محمد، الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد، تحقيق مؤسسة آل البيت(عليهم السلام) لتحقيق التراث، الناشر: دار المفيد، بيروت، 1414هـ/ 1993م.
ناتنج، أنطوني، العرب انتصاراتهم وأمجاد الإسلام، ترجمة: راشد البراوي، طبعة مكتبة الانجلو.
هالم، هاينس، الشيعة، ط1، دار الرواق، 2011م.

---------------------------------------
[1](*)- باحث عراقي، كلية الإمام الكاظم(عليه السلام) للعلوم الإسلامية الجامعة.
[2]- عبد النور، جبور، المعجم الأدبي، ص17.
[3]- إدوارد، سعيد، الاستشراق المفاهيم الغربية للشرق، ص45-46.
[4]- اعتمدتُ في هذه التّرجمة على ما ورد في: ترجمة هاينس هالم في كتاب (الشّيعة)، بترجمة محمود كبيبو، طبعة الوراق للنّشر، الطّبعة الأولى، سنة 2011م، رؤية المستشرقين الألمان في دراسة ونشر تاريخ الدّولة الفاطميّةـ هاينس هالم أنموذجًا، سندس بندر خزعل، (رسالة دكتوراة)، كلّيّة التّربية للبنات - جامعة البصرة، سنة 2023م.
[5]- هالم، هاينس، الشيعة، ص15.
[6]- الشيعة، م.س، ص15-16.
[7]- الشيعة، م.س، ص27
[8]- الأربلي، علي بن أبي الفتح، كشف الغمة في معرفة الأئمة، ج2، ص129.
[9]- الصدوق، محمد بن علي بن بابويه، علل الشرائع، ج1، ص211؛ ابن شهر آشوب، محمد بن علي، مناقب آل أبي طالب، ج3 ص394، وغيرها الكثير.
[10]- الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي، ج1، ص297.
[11]- المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج43، ص361.
[12]- المعتزلي، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج16، ص31.
[13]- ناتنج، انطوني، العرب انتصاراتهم وأمجاد الإسلام.
وأنطوني ناتنج، ولد سنة 1915م، وزير انشق على إيدن لاعتدائه على مصر، من آثاره: إلى أين يتجه الشرق الأوسط، وتاريخ العرب من قبل النبي حتى اليوم. (المستشرقون، ج2، ص141).
[14]- المعتزلي، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج16، ص34.
[15]- أحمد، الوائلي، ديوان الشيخ أحمد الوائلي.
[16]- المفيد، محمد بن محمد، الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد، ج2، ص13
[17]- الطبرسي، أبو منصور أحمد بن علي بن أبي طالب، الاحتجاج، ج2، ص10.
[18]- مجموعة من المستشرقين، دائرة المعارف الإسلامية، ج7، ص402.
[19]- الكليني، أبو جعفر محمد بن يعقوب، الكافي، ج7، ص49.
[20]- الكافي، م.س.
[21]- المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج44، ص2-3.
[22]- حتّي، فيليب، تاريخ العرب، ص246.
[23]- انظر: الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الأمم والملوك، ج4، ص125.
[24]- الطبرسي، الفضل بن الحسن، إعلام الورى بأعلام الهدى، ج1، ص416.
[25]- الطبري، تاريخ الملوك، ج6، ص334.