الباحث : التحرير
اسم المجلة : دراسات استشراقية
العدد : 44
السنة : خريف 2025م / 1447هـ
تاريخ إضافة البحث : October / 11 / 2025
عدد زيارات البحث : 106
ضمن سلسلة القرآن في الدّراسات الغربيّة، المتخصّصة بدراسة ما أثاره المستشرقون على مدار عقود من الزّمن من شبهات، وإشكاليّات حول كلّ ما يرتبط بالقرآن الكريم؛ لناحية نزوله، وتدوينه، وجمعه، وتفسيره، وعلومه، ولغّته...، وتحليله، ونقده، وبيان الرّؤية الأصيلة فيه، أصدر المركز الإسلاميّ للدّراسات الاستراتيجيّة كتابه الجديد في طبعته الأولى لعام 2025م، تحت عنوان: مصدريّة القرآن عند المستشرق سانت كلير تيسدال؛ قراءة نقديّة في المنهج والفكر، من تأليف الباحث المصري المتخصّص بالدّراسات الاستشراقيّة الدّكتور محمود كيشانه.
المحتوى الإجمالي للكتاب
لقد قسّم الباحث الكتاب إلى أربعة أبواب؛ وخصّص الباب الأوّل لدراسة الأسس الفكريّة، والمنهجيّة عند تيسدال، وموقفه من نزول القرآن، وجمعه، وتدوينه، وعالج في الباب الثّاني دعوى نسبة مصدرّية القرآن إلى الجاهليّة، والصّابئيّة، فدرس، ونقد عدّة دعاوى في المقام؛ مثل دعوى تأثّر القرآن بالمعتقدات العربيّة القديمة، ودعوى اقتباسه من العادات العربيّة القديمة، ودعوى اقتباس القرآن من الشّعر الجاهليّ، ودعوى تأثّره بالصّابئيّة.
بينما بحث في الباب الثّالث دعوى اقتباس القرآن من الرّوايات اليهوديّة الرّسميّة، فعالج بالبحث، والنّقد عدّة دعاوى، وهي: دعوى المداهنة، واقتباس شعائر الحجّ، دعاوى تيسدال حول قصّة قابيل، وهابيل، وحول قصّة نجاة النّبيّ إبراهيم(عليه السلام)، دعوى اقتباس قصّة سليمان مع ملكة سبأ، ودعوى اقتباس قصّة هاروت، وماروت.
وفي الباب الرّابع، والأخير ناقش دعوى اقتباس القرآن من الأساطير اليهوديّة، فاستعرض، وحلّل دعوى اقتباس ملامح من حياة بني إسرائيل، ومجموعة دعاوى حول بعض العقائد الإسلاميّة، وبعض الشّعائر، والطّقوس، ودعاوى حول ألفاظ القرآن، وأمّيّة الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم).
منهج للكتاب
يُناقش هذا الكتاب أطروحة سانت كلير تيسدال في العديد من القضايا الخاصّة بالقرآن الكريم، ولا سيّما ما يتعلّق بمصدريّة القرآن، وقد أجاد الباحث في استقصاء أفكاره، وعرضها، ومناقشتها، وتفنيدها، بالاستناد على منهجيّة علميّة مركّزة، ودقيقة.
خاصة وأنّ المستشرق سان كلير تيسدال من المستشرقين الّذين اتّخذوا منهجيّة، عمدت إلى محاولة نفي المصدريّة الإلهيّة للقرآن، والادّعاء ببشريّة مصدره. وهي الفريّة الّتي وجب علينا أن نقف عندها، والرّدّ عليها وفق أسس علميّة، وعقليّة، ودينيّة؛ لأنّها تحاول أن تنسف الأساس الّذي قام عليها الإسلام، وهو القرآن.
بناءً على ذلك فإنَّ المنهج المتَّبع في الدّراسة - كما يذكر المؤلّف- هو المنهج التّحليليّ النّقديّ، الّذي يقوم على تحليل الشّبه الّتي سيقت بهذا الصّدد في إطار استقصائيّ، ثمّ نردفها بالردِّ في إطار من المنهج النّقديّ الّذي لا يُعنى بغلبة الخصم، وإنِّما يُعنى بالإقناع، والعمل على الوصول إلى الحقيقة الّتي تستند إلى بعدين رئيسين: معرفيّ، ودينيّ.
الأهمّيّة والهدف المرجو من الدّراسة
تهدف هذه الدّراسة إلى بيان موقف المستشرق سان كلير تيسدال من قضيّة أصالة القرآن من ناحية نزوله، وجمعه، وتدوينه، وموقفه من صحّة وقائع النّزول، والجمع، والتّدوين، وقضيّة الأجواء المحيطة بالنّصّ القرآنيّ. طبعًا إلى جانب قضيّة ادّعاء سان كلير تيسدال ببشريّة النّصّ القرآني، فهذه الدّراسة ترى من واجبها الرّدّ على ما ذهب إليه هذا المستشرق من القول بتأثيرات المعتقدات، والشّعائر العربيّة القديمة في القرآن الكريم، أو القول بتأثير الأفكار، والممارسات الصّابئيّة، واليهوديّة فيه.
ولا نشكّ في أنّ موقف تيسدال هنا هو موقف العدد الأكبر من المستشرقين من دراسي القرآن الكريم، والمهتّمّين به، وهي نظرة تعصبيّة بالأساس ذات أبعاد عقديّة في التّحليل الأخير، وهذه النّظرة تقوم على الشّكّ في القرآن لمجرد الشّكّ، ثمّ محاولة تقديم أدلّة واهية على شكّهم هذا، وهي في الحقيقة مجرّد خواطر لا تستقيم أمام النّقد العلميّ، والمنهجيّ لها، بل إنّها تحوي أدلّة تهافتها داخل ثناياها.
كما تبرز أهمّيّة دراسة ما طرحه تيسدال في كونه يلقي الضّوء على واحدة من القراءات الّتي تفتقر إلى الإنصاف في تعاملها مع القرآن الكريم، والّتي تتبنّى قاعدة الهجوم من أجل محاولة الادّعاء ببشريّة القرآن. وفي محاولة الكشف عن الأسس الفكريّة، والمنهجيّة الّتي يتمثّلها سان كلير تيسدال في قراءاته للقرآن، ومواقفه منه، مع الوقوف على مدى موضوعيّة هذا الأسس من عدمها. حيث يُعالج المستشرقون النّصّ القرآني وفقًا لمعايير علوم الدّيانات العامّة، ووفقًا لعلوم التّاريخ، فنصّ القرآن في رأي المستشرقين ليس إلّا وثيقة تاريخيّة ثمينة، باعتباره مبدًا أساسًا في إيمان المسلمين، وعقيدتهم، وهذا ما ينبغي على الباحثين المسلمين مراعاته عند القراءة في دراسات المستشرقين، أو مناقشتهم حتّى لا يحصل الخلل في الفهم، والنّتائج.
من هو سان كلير تيسدال؟
كان ويليام سانت كلير تيسدال (1859-1928م) كاهنًا بريطانيًّا أنجليكانيًّا، ولغويًّا، ومؤرّخًا، وعالمًا لغويًّا، شغل منصب سكرتير الجمعيّة التّبشيريّة لكنيسة إنجلترا في أصفهان. ويجيد العديد من لغات الشّرق الأوسط، بما في ذلك العربيّة، وقضى الكثير من الوقت في البحث عن مصادر الإسلام، والقرآن باللّغّات الأصليّة. كما كتب قواعد النّحو للفارسيّة، والهندوستانيّة، والبنجابيّة، والغوجاراتيّة. ومن المعلوم أنّ كتبه الاستشراقيّة كتابان: الأوّل: المصادر الأصليّة للقرآن. والثّاني: يا نبيّ الإسلام. والكتابان صادران في عام 1900م كما ذكر هو في المقدّمة، والّتي أشار فيها إلى أنّ الكتاب الثّاني قام بترجمته السير وليم موير.
مناقشات في المنهج
يتعرّض المؤلّف للكثير من المغالطات الّتي أوردها تيسدال بدعوى أنّها تستند إلى أسس، وقواعد منهجيّة، ولكن يتّضح للمتأمّل أنّ اللّاموضوعيّة العلميّة واضحة في الأسس المنهجيّة فضلاً عن النّتائج المترتّبة عليها.
فلماذا يخلط أفكاره البحثيّة بأهداف عقديّة، ولماذا يطوّع، ويخضع الجنبة المنهجيّة، ويؤوّلها ليحقّق النّتيجة المنسجمة مع خلفيّاته الفكريّة، والعقديّة. فإنّ القراءات العلميّة تعمد عادة إلى تقديم، ووصف موضوع البحث، وهو هنا القرآن الكريم بمنهجيّة محايدة، وهذا ما لا نراه عند تيسدال الّذي يعمد إلى تشويه صورة القرآن خاصّة، والإسلام عامّة في مخيّلة القارئ، والقارئ الغربيّ تحديدًا.
أضف إلى أنّنا نلاحظ أنّه يسعى في كلّ ما قدّمه حول القرآن في كتابه المصادر الأصليّة للقرآن، إلى نزع القدسيّة، والإلهيّة عن القرآن، وأنّه من وضع البشر، وقد اقتبس عن منتجات الحضارات القديمة التّراثيّة، والمعرفيّة كالزّاردشتيّة، والصّابئة، والمصادر اليهوديّة، والعربيّة القديمة، فضلًا عن مصادر مسيحيّة، نافيًا عن القرآن المصدريّة الإلهيّة.
ولهذا لا نكون غير علميّين عندما نصنّف مقولات تيسدال بأنّها قراءة غير علميّة؛ كونها تقدّم مادّة معرفيّة قوامها التّعصّب للدّيانة، أو لأفكار مسبقة يعمد إلى إنجاحها قصرًا، وهي قراءة متحرّرة من كلّ قواعد البحث العلميّ، حيث سار بها صاحبها في خطّ معيّن يريد أن يوصله إلى هدفه المعدّ سابقًا. وهنا تبرّز سلبيّة المستشرق تيسدال في اعتماده على الأفكار المسبقة المجهّزة سلفًا، والّتي يسعى إلى محاولة إثباتها بكلّ ما أوتي من قوّة، ولو على حساب العلم، والمنهج.
حيث يتّضح من العديد من القرائن أنّه قد ولج بحثه، وهو يضع في ذهنيّته أنّ القرآن منتج بشريّ من عقليّة محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم)، وليس من عند الله، متجنّيًّا على القرآن، وعلى شخص النّبيّ الكريم(صلى الله عليه وآله وسلم)، وعلى دين حاز العالميّة كالدّين الإسلاميّ.
ولا نشكّ في أنّه قد استند أيضًا إلى مستشرقين سابقين عليه، ممّن يحملون حملة شعواء على الإسلام، والقرآن، رافضين وجودهما من الأساس، ناظرين إليهما على أنّهما أمرين موضوعين من قبل النّبي محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) افتراءً، وتشويهًا لهما. وهذا ما نفهمه من مدحه، وإثرائه على بعض جهود هؤلاء المستشرقين السّابقين عليه، كموير وإبراهام جيجر، وهما مّمن سعى في نقد الإسلام، والقرآن، والقدح في شخصيّة حامل الرّسالة، حتّى أنّ الثّاني كتب كتابًا كلّه افتراءات، حمل عنوان: ماذا أخذ محمّد من اليهوديّة؟
فمنهجهم واحد -وطريقتهم أيضًا واحدة- يقوم على تتبّع الألفاظ، والآيات ثمّ يعمدون إلى مناهج تحليليّة، ومقارنة تستند إلى منهج إسقاطي واضح، ومن ثمّ تنتهي النّتائج المستخلصة إلى نتائج أبعد ما تكون عن الإنصاف، بحيث يظهر عليها مجافاة الحقيقة تمامًا، وإن تزيّت بزيّ علميّ. فجايجر على سبيل المثال ينقّب عن أوجه الأشباه، والنّظائر لعقد مقارنة مهما كانت غرابة هذه المقارنة، فضلًا عن أنّه لم يعتمد في هذه المقارنة إلّا على المصادر العبريّة الّتي يرجع تاريخها إلى ما قبل البعثة المحمّديّة، ولا شكّ أنّ هذا منهج يخالف أسس المنهج العلميّ[1].
والمتأمّل في تعامل تيسدال مع النّصوص القرآنيّة يلمس أنّه لم يتعمّق في فهمها، ولهذا لم يسعفه استعجاله إلى معرفة المعنى المراد منها، بل على العكس تمامًا يُخضع الآية لمعارفه السّابقة، ويقوم بلي عنقها قصرًا لتحقيق أهدافه، وأغراضه غير العلميّة. مع إيماننا العميق بأنّ هذا التّعجّل مقصود، وهذه الأحكام أيضًا مقصودة، إرضاءً لمعتقده من جانب، ومحاولة النّيل من الإسلام من جانب ثانٍ. ومن ثمّ فهي لم تكن قراءة علميّة هادئة لا تصدر حكمًا، أو تأتي بنتيجة إلّا بناءً على قراءة علميّة واعية، ورصينة، وإنّما كانت خلاف ذلك على الإطلاق.
ولقد لمسنا هذا التّعجّل، وعدم التّأنّي في كلّ القضايا الّتي طرحها، من نحو: قضيّة التّأثيرات اليهوديّة المزعومة في مسألة هاروت، وماروت، ومسألة إحراق سيّدنا إبراهيم، وغيرهما من المسائل، وقضيّة التّأثيرات الصّابئيّة المزعومة في مسألة الصّلوات الخمس، والصّوم، وغيرهما من المسائل، وكذلك قضيّة التّأثيرات العربيّة المزعومة أيضًا في مسألة بعض العادات الاجتماعيّة، وبعض طقوس، وشعائر الحجّ.
ويكفي أن نلقي نظرة على الموضوعات الّتي تناولها، والّتي زعم فيها أنّ القرآن اقتبسها من العادات العربيّة، أو الصّابئة، أو اليهود، لنرى كيف كان الإلمام غير الجيّد بالقرآن أوقعه في متاهات الادّعاءات، والأكاذيب الّتي انتهى إليها!
فقد قاده عدم الإلمام الجيّد بالقرآن الكريم إلى الزّعم مثلًا بالاقتباس من العادات العربيّة القديمة في قضايا الختان، وتعدّد الزّوجات، والرّقّ، وغيرها من القضايا، مع أنّه لو تأمّل قليلًا في النّصوص القرآنيّة، أو الأحاديث النّبويّة لعلم أنّ القرآن خاصّة، والإسلام عامّة كانا ثورة على العادات الجاهليّة، ثمّ هذّب منها ما يستحقّ التّهذيب، ونظّم منها ما يستحقّ التّنظيم، وألغى منها ما يستحقّ؛ كونه لا يتناسب مع المبادئ الإنسانيّة الّتي حمّلها ديننا الحنيف.
الأمر ذاته يقال في زعمه بالاقتباس من الصّابئة، فقد زعم باقتباس الصّلاة من الصّابئة، مع أنّه لو كان ملمًّا إلمامًا جيّدًا بالنّصوص لما قال بذلك، لما بين الصّلاة في الإسلام، والصّلاة في الصّابئة من فوارق تكشف خطأ ما انتهى إليه هذا المستشرق تيسدال. فمن قال إنّ الصّلاة هنا كالصّلاة هناك، أو الصّوم هنا كالصّوم هناك، أو الأعياد هنا كالأعياد هناك!
ويمكن القول إنّ عدم إلمام تيسدال بالقرآن بصورة جيّدة قاده إلى التّقصير في حقّ البحث العلميّ، وإلى التّقصير في حقّ نفسه، وما كان أغناه عن ذلك لو أنّه ألمّ جيّدًا بالنّصوص، لكنّ الإشكاليّة الّتي تتداخل مع ذلك هي أنّ تيسدال كان يركن إلى ما لديه من معلومات سابقة حول القرآن جمعتها ذهنيّته من أفكار، وآراء، ومواقف مستشرقين سابقين. ومن ثمّ اجتمعت الأفكار المسبقة مع عدم الإلمام الجيّد على تصدير نتائج مغالطة حول الإسلام، والقرآن.
ويظهر تعصّب تيسدال في أنّه دائم التّقليل من الإسلام بوصفه دينًا، والإعلاء من الأديان السّماويّة السّابقة، زاعمًا أنّه اقتبس منها مادّته، ونصوصه. فتيسدال لم يضع العلم كأولويّة عند تناوله النّصوص القرآنيّة بالدّراسة.
وعليه إنَّ المستشرق تيسدال، قد اعتمد المنهجيّة الّتي نسمّيها منهجيّة العقلانيّة المتطرّفة، أو المؤدلجة، والمعلوم أنّ العقل المتعصّب المتطرّف عقل مغلق على نفسه، وإنّ صاحب العقل المغلق من المستحيل أن يرى أيّ شيء خارج عقله، ولا يستطيع أن يتجاوز أفكاره المظلمة، ولا يمكنه أن يرى غير أفكاره هو، ويعتبرها يقينيّة قطعيّة لا تقبل المناقشة، ومؤكّدة بشكل نهائيّ، ويرجع هذا بدوره إلى حال الانغلاق العقليّ الّتي يعيشها، ومن ثمّ الطّابع التّعصّبي التّطرّفي الّذي يميّز منهجيّة التّفكير الّتي يستخدمها. «فأيّ متطرّف في الدّين، أو الفكر، أو السّياسة هو متعصّب، أو دوجماطيقي بلغة الفلسفة»[2].
وقد ظهر المنهج النّقدي الّذي اعتمد عليه هذا المستشرق بصورة معيبة، ولا منهجيّة، بخاصّة وأنّه لم يكن يربط نقده بقرينة، أو دليل لا يقبل الشّكّ، بل كلّ أدلّته دون استثناء تفتفر لهذه القرينة، أو هذا الدّليل، ونحن نعتقد أن نقده كان مبنيًّا على أساس مؤثّرات خارجيّة لا تمتّ للنّقد العلميّ بصلة. ولهذا لم يكن يمارس نقدًا موضوعيًّا، إذ شاع عنده ليّ عنق النّصّ القرآني، واعتماد آراء شاذّة لم تجتمع عليها الأمّة الإسلاميّة في تفسير النّصّ، والاستناد في نقده للقرآن -فضلًا عن الزّعم باقتباسه- على كتب كان ظهورها لاحقًا على الإسلام، ككتاب: فرقي ربي إليعازر، وغيره من الكتب.
ويمكن القول إنّ المنهج النّقدي الّذي استخدمه المستشرق تيسدال افتقر إلى مرتكز رئيس وهو الموضوعيّة، فلم تشغل ولو حيّزًا ضئيلًا من تفكيره، إذ من المعروف أنّ النّقد، والموضوعيّة كوجهيّ العملة الواحدة لا بدّ من أن يكونا متلازمين، بل هما صنوان لا وجود لأحدهما من دون الآخر. ذلك أنّ النّقد الموضوعيّ «يفصل العمل عن كلّ ما عداه من قيم خارجيّة؛ لينظر إليه هو من داخله، وليكتشف ما بداخله من معنى لا يمكن الكشف عنه إلّا من خلال تحليل البنّاء»[3].
وعندما نتأمل في بعض ما قاله حول القرآن نجد أنه يحشد أفكاره لإثبات قضيّة واحدة عبّر عنها في قوله: «فإنّ مواعظ القرآن، ورؤيته للطّبيعة الإلهيّة، ومفارقاته التّاريخيّة، والعديد من المآخذ الأخرى، لا تدع مجالًا للشّكّ بأنّه من تأليف محمّد نفسه. فعندما يتمّ تنسيق السّور في التّرتيب الزّمني لتأليفها، ومقارنتها مع الأحداث في تاريخ محمّد سنتيقّن أنّ هناك قدرًا كبيرًا من الحقيقة الّتي تفصح عنها المقاطع يؤكّد أنّها لم تكن وحيًا يوحى كما يقول المسلمون»[4].
وفي مورد آخر يحاول أن يوهم القارئ أنّ القرآن كتاب من تأليف محمّد يحكي فيه عن حياته، وسيرته، ومواقفه؛ لذا يقول: «إنّ القرآن هو مرآة صادقة عن حياة، وشخصيّة مؤلّفه، إنّه يتنفس هواء الصّحراء، إنّه يتيح لنا أن نسمع صرخات أتباع النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في المعركة، وهم يسارعون للهجوم، إنّه يكشف أداء عقل محمّد نفسه، ويبيّن التّحوّل التّدريجي في شخصيّته، وهو يتنقل من جاد، وصادق رغم أنّه حالم متحمّس ببصيرة إلى مدعٍّ يقظ، وشهواني صريح، هذا كلّه واضح لأيّ قارئ غير متحيّز للكتاب»[5].
وهنا نقول: صحيح إنّ القرآن يحكي عن سيّدنا محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم)، وعن أحداث كثيرة منها غزواته، وإذا كان تيسدال يجد فيه رائحة الصّحراء، ويسمع صرخات المقاتلين، وهم يندفعون إلى المعركة، فهذا دليل على دقّة الصّياغة القرآنيّة، وعلى روعة الأسلوب الّذي يجعل قارئيه، وكأنّهم يشاهدون الأحداث تجري أمام أعينهم، إنّ هذا دليل قوّة على أنّ القرآن ليس من صنع بشر، لا كما يحاول تيسدال أن يريد، بما يعني أنّ ما يحاول تيسدال أن يتّخذ منه دليلًا على صدق كلامه، هو في طبيعة الحال دليل على تهافت كلامه، وتهافته.
إنّ تيسدال يدّعي أنّ القرآن يكشف عن عمل عقل النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)، تأكيدًا لنزوع هذا المستشرق نحو محاولاته المستمرّة إلى نسبة القرآن إلى مصدريّة بشريّة، ومن ثمّ يعمد إلى السّير في هذا الاتّجاه، حتّى لو عمد إلى ليّ عنق النّصوص، أو توجيهها بحسب هواه، وغضّ النّظر عن الأدلّة الّتي تدلّ على فساد ما ذهب إليه. من تلك الأدلّة الآيات القرآنيّة الّتي تتحدّث عن الكون، وما فيه من سماء، ونجوم، وكواكب، وشمس، أو ما يطلق عليها الآيات الكونيّة، حيث إنّ «آيات الله تعالى نوعان: آيات شرعيّة، وهو ما جاءت به الرّسل،... وآيات كونيّة»[6]. ومنها آيات تخبر بالحوادث الماضية، والّتي تحوي إعجازًا في الإخبار بالماضي. فضلًا عن وجوه الإعجاز الأخرى الّتي لا يسع المجال لذكرها. وهذا يعني أنّ القرآن لم يكن كلّه مرآة لحياة النّبيّ محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) وعصره، ولكنّه أيضًا كان يشمل جوانب أخرى تؤكّد صحّة، وصدق ما جاء به من آيات تتعلّق بالكون، وأخرى تتعلّق بالحوادث التّاريخيّة، وغيرهما كثير.
وخلاصة القول في المقام
أنّ المستشراق تيسدال قد ادّعى أنّ عمله قام على الدقّة، والوضوح، والأمانة. وقد اتّضح لنا من خلال النّقود، والمناقشات، والشّواهد الّتي قدّمها الكاتب أنّه لم يراع هذه المبادئ الثّلاثة الّتي تعتبر بمنزلة الأصل الحاكم في أيّ عمليّة بحثيّة، وتحقيقيّة، فكيف إذا كانت في دراسة كتاب مقدّس، وسماويّ على الأقلّ بحسب عقيدة أصحابه.
والأخطر أنّه يوجّه سهامه إلى المسلمين بدعوتهم إلى تقدير عقيدتهم التّقدير الصّحيح وفق ما توصّل إليه من نتائج، وكأنّ دراسته ستغيّر وجهة نظر المسلم اتّجاه دينه، وهذا يعني أنّه يسلك مسلك المبشّرين الكنسيّين في نظرتهم للأديان الأخرى. وهذا ما يتّضح من قوله: «وقد تجد التّبشيريّة المسيحيّة أنّ من المهمّ متابعة تحقيقاتنا؛ لاستكشاف منهج جديد لإرشاد المسلمين المتطلّعين لإدراك الطّبيعة الواهية لآرائهم»[7]. وهو ما يؤكّد الخلل الواضح في المبادىء المذكورة.
وعندما يوجّه كلامه إلى الباحثين في علم الأديان المقارن؛ يقول: «ويمكن لدارس علم الأديان المقارن أن يفهم من هذا التّحليل، كيف نشأت عقيدة عرقيّة في العصور التّاريخيّة المتأخّرة»[8]. وهذا غاية التّحامل على الدّين الإسلاميّ السّمح حيث وصفه بالدّين العرقيّ.
يبرز موقفه العدائيّ من القرآن ونبي الإسلام(صلى الله عليه وآله وسلم) عندما يصرّ في الكثير من الموارد في كتابه على نزع كلّ قدسيّة إلهيّة من القرآن ؛ إذ يدّعي أنّه وإن كان النّسخة المتداولة في العهد النّبوي، فإنّها لا تعدو كونها إنتاج محمّدي، وليست قرآنًا نزل من عند الله تعالى، بما يعني أنّه يشكّك في المصدريّة الإلهيّة للقرآن زاعمًا بشريّته، واقتباسه من المصادر الّتي ذكرناها. وهذا ما يتطلّب تضافرًا في الجهود البحثيّة العلميّة عند المسلمين، والعمل على إعداد، وتربية جيل من المختصّين؛ بهدف دراسة الشّخصيات الاستشراقيّة بخاصّة المعاصرة منها، والوقوف على آرائها من القرآن الكريم، ونقدها نقدًا تفصيليًّا قائمًا على أسس عقليّة معرفيّة، وعقديّة دينيّة.
----------------------------------------
[1]- الزيني، محمّد عبد الرّحيم، الاستشراق اليهودي، رؤية موضوعيّة، ص36.
[2]- الخشت، محمّد عثمان، العقلانيّة والتّعصّب، (ص المقدمة).
[3]- سرحان، سمير، النّقد الموضوعي، ص16.
[4]- انظر: تيسدال، سان كلير، مصدريّة القرآن عند المستشرق تيسدال، ص23.
[5]- انظر: مصدريّة القرآن عند المستشرق تيسدال، سان كلير، م.س، ص23.
[6]- انظر: ابن عثيمين، تفسير ابن عثيمين، على الرابط التالي: https://tafsir.app/ibn-uthaymeen/41/53
[7]- انظر: مصدريّة القرآن عند المستشرق تيسدال، سان كلير، م.س، ص24.
[8]- انظر: م.ن، ص24.