البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

العلاقات الأوروبية المغولية وتأثيرها على المشرق الإسلامي

الباحث :  د. طارق شمس، أستاذ التاريخ الوسيط في الجامعة اللبنانية - كلية الآداب
اسم المجلة :  دراسات إستشراقية
العدد :  4
السنة :  السنة الثانية - ربيع 2015 م / 1436 هـ
تاريخ إضافة البحث :  August / 11 / 2015
عدد زيارات البحث :  4252
تحميل  ( 392.709 KB )
مقدمة
في الوقت الذي كانت فيه أوروبا الغربية، تنتقل من العصور الوسطى المظلمة، نحو عصر النهضة، وفي خضم الحروب الصليبية التي رزحت تحتها منطقة الشرق الأدنى، ظهرت القبائل المغولية، التي بدأت تتدفق على شكل موجات من الجيوش، تقتحم مناطق القارة الآسيوية وبلدانها، من بلاد الصين حتى حدود العراق، وهي الموجات الأولى التي قادها موحد المغول ومؤسس دولتهم ، جنكيز خان.
هذه القبائل التي أطلق عليها الأوروبيون اسم تارتاروس(1)، انصرفت إلى القتل والسلب في بداية غزواتها للمشرق الاسلامي، فالمغول بشكل عام كانوا عبارة عن مجموعة من القبائل التي كانت تنتقل في بيئة طبيعية صعبة بحثاً عن الماء والكلأ، شمال صحراء ( غوبي )، وكانوا يعملون في الصيد وتربية الماشية(2). ويذكر ابن الأثير في ذلك : « إنهم لا يحتاجون إلى ميرة ومدد يأتيهم، فإن معهم الأغنام، والبقر، والخيل وغير ذلك من الدواب، يأكلون لحومها لا غير... فهم إذا نزلوا منزلاً لا يحتاجون إلى شيء من خارج»(3).
وقد استطاع أحد أبناء قادتهم، ويدعى «تيموجين» الذي يعرف باسم «جنكيزخان» أن يوحد هذه القبائل، ومن الصعب أن نجد شخصية أخرى استطاعت أن تحكم هذه القبائل بمفردها، ويؤكد ذلك رشيد الدين الهمداني : « إن مجموع أقوام الأتراك والمغول لم يكن لهم مطلقاً ملك قهار، جبار، يستطيع أن يحكم هذه الطوائف، فكان أفرادها يتنازعون ويتصارعون، ويحاربون بعضهم بعضاً، وبالرغم من انه كان لكل قبيلة ملك أو أمير، فإن أفراد هذه القبيلة كانوا لا يخضعون له، ولا يأتمرون بإمرته»(4).
لقد جعلت الظروف والأوضاع الحياتية الصعبة، من تيموجين رجلاً حديدي الإرادة، وظف مجهوده ومقدرته من اجل تخليص قومه من الاضطهاد، فسعى نحو بناء دولة قوية يتربع على عرشها تبعاً لمقولته : « إن من يقدر على حفظ نظام بيته يقدر أيضاً على إقامة النظام في امبراطوريته، ومن يستطع قيادة عشرة رجال على وجه حسن، يمكن أن يعهد إليه أيضاً بقيادة ألف رجل وعشرة آلاف رجل»(5).
بناءً على هذه المقولة، لم يكتفِ جنكيزخان، بتوحيد القبائل المغولية، وإخضاع قبائل التتار، بل توسع نفوذه ليشمل الصين بأجمعها، فأنزل الهزيمة بأسرة كين الصينية عام 612هـ/ 1215 م (6) وبعد إضعاف سلطة ملك الصين، توسع نفوذ جنكيز خان نحو المناطق الغربية من منغوليا والصين حتى بحر آرال(7)، لتحاذي حدود دولته الجديدة حدود العالم الاسلامي والدولة الخوارزمية عام 615هـ/1218م(8).
وما يهمنا في هذا الموضوع، هو التوسع المغولي باتجاه أوروبا.
●  أولاً- بدايات العلاقة بالغرب:
ففي عهد جنكيز خان، وبعد أن تقدمت القوات المغولية داخل الدولة الخوارزمية، واخضعت أقاليمها الشمالية، بدأ عبور الجيوش المغولية للمنطقة الواقعة بين بحر قزوين والبحر الأسود باتجاه الأراضي الروسية.
هذا التقدم لم يستمر طويلاً لكنه تكرر مع تسلم أوكتاي قاآن لعرش المغول عام 626هـ/1229م، بعد موت والده جنكيز خان(9)، فتحرك جيش مغولي قوامه 150000 جندي، باتجاه أراضي روسيا والجركس والبلغار وأوروبا الشرقية واستطاع المغول السيطرة على كامل المنطقة الممتدة بين جبال الأورال وشبه جزيرة القرم، ودخلوا موسكو وأحرقوها كما سقطت أمامهم أوكرانيا ودخلوا عاصمتها « كييف » عام 683هـ/1240م، ومع سقوط روسيا، تقدم جيش مغولي باتجاه أراضي بولندا، وهزم الجيوش البولندية والألمانية ووصل حتى مدينة برلين، ودخل جيش مغولي آخر إلى المجر، فسيطر على عاصمتها «يست» ، وصولاً إلى فيينا وسواحل الأدرياتيك(10).
ولم يوقف هذا التقدم المغولي داخل الأراضي الأوروبية، سوى موت القاآن أوكتاي عام 639هـ/1241م، واستدعاء كبار القادة لحضور حفل انتخاب الخان الجديد.
لقد وقفت أوروبا مذهولة من هذا التقدم المغولي، مما دفع بالبابا غريغوري التاسع، إلى مناداة أمراء المسيحيين وحثهم على إعلان حرب صليبية على المغول(11).
ونتيجة للمجازر التي ارتكبها المغول، أثناء تقدمهم باتجاه الأراضي الأوروبية، فقد زرعوا الرعب في قلوبهم وقتلوا الروح المعنوية لديهم لذلك وجدت في عدد من المخطوطات الأوروبية، رسوم وعبارات تظهر وحشية المغول، وتصورهم كآكلة لحوم البشر وأنهم يشوون الجثث ويقطعونها(12). وهو ما يظهر الأثر السيئ الذي تركه هؤلاء في ثقافة الاوروبيين حينها.
أما ابن العبري، فيورد حول الغزو المغولي لبلاد الأوروبيين، أن جنكيزخان سلم لولده «باتو» البلاد الشمالية وهي بلاد الصقالبة واللاّن والروس والبلغار... وغزا هذه النواحي فقتل فيها خلائق بلغ عددهم ماءتي ألف وسبعين ألفاً، عُلم ذلك من آذان القتلى التي قطعوها امتثالاً لمرسوم قاآن، الذي كان يقضي بقطع الأذن اليمنى من كل قتيل. وبعد فراغ «باتو» من أمر الصقالبة تجهز للدخول إلى نواحي القسطنطينية فبلغ ذلك ملوك الفرنج فجاؤوا حافلين حاشدين، والتقوا المغول في اطراف بلد البلغار، وجرت بينهم حروب كثيرة انجلت عن كسرة المغول وهزيمتهم وهربهم، فقفلوا من غزواتهم هذه ولم يعودوا يتعرضون إلى بلاد يونان الفرنجة إلى يومنا هذا»(13).
●  ثانياً - علاقة الأوروبيين بالمغول (السفارات):
بعد ابتعاد الخطر المغولي عن أراضي أوروبا، تطلع امراء وملوك أوروبا _ ممن كانوا يشاركون أو يدعمون الحملات الصليبية على المشرق العربي الاسلامي _ إلى المغول بوصفها قوة تساعدهم على التخلص من الجيوش الاسلامية، التي أخذت تحكم الخناق على ما تبقى من إمارات صليبية على الساحل السوري والفلسطيني، رغبة منهم في إستعادة بيت المقدس، الذي حرره المسلمون من قبل على يد صلاح الدين الايوبي ( 583هـ\1187م).
فكانت السفارات التي أرسلها عدد من القيادات الأوروبية إلى بلاط خانات المغول في عاصمتهم قراقورم ومن أبرز هذه السفارات:
1- سفارة بيان دل كاربيني 1245- 1247 :
كان البابا أنوسنت الرابع يسعى بكل جهده للحفاظ على ما تبقى من املاك للصليبيين في المشرق العربي. واعتقد بإمكانية الاستعانة بالمغول على المسلمين، لذلك بعث بسفارة إلى قراقورم عام 1245م، وعلى رأسها الراهب الفرانسيسكاني يوحنا بيان دل كاربيني. وبعد مضي خمسة عشر شهراً، واجتياز بلاد الروس وآسيا الوسطى، وصلت إلى القرب من قراقورم في آب من العام 1246م(14) ، حيث كان يعقد (القوريلتاي)، وهو المجلس الأعلى للمغول، الذي اختار بعد موت القاآن أوكتاي كيوك قاآن على عرش المغول عام 1245م(15).
وفي هذا القوريلتاي تواجد بالاضافة إلى ممثلين عن العائلات المغولية ورجال الدولة المغول، وفود تداعت من مختلف المناطق والأقاليم والدول المجاورة، من الخطا وتركستان، وجورجيا، بالاضافة إلى موفد أمير حلب ، وبدر الدين لؤلؤ حاكم الموصل، وقاضي قضاة بغداد عن الخليفة العباسي المستعصم بالله(640- 656 هـ/1242 – 1258). وموفد يمثل أمير قلاع آلموت الاسماعيلية، محملين بالهدايا القيّمة (16).
واستقبل كيوك قاآن رسول البابا أنوسنت الرابع بالترحاب، ويذكر ستيفن رنسيمان في سبب هذه الحفاوة « نظراً لكثرة عدد النساطرة (17) بين مستشاريه ، غير أنه حينما قرأ رسالة البابا التي يطلب فيها أن يعتنق المسيحية كتب رداً عليها بأن طلب إلى البابا أن يعترف بسيادته العليا، وأن يقدم عليه مع سائر أمراء الغرب ليحلفوا يمين التبعية»(18).
ومع عودة هذه السفارة إلى روما عام 1247م، سلّم يوحنا بيان دل كاربيني، رسالة كيوك قاآن إلى البابا مع تقرير مفصّل عن رحلته، ذاكراً فيه « أن المغول لم يخرجوا إلا للغزو والفتح»(19).
2- سفارة إسكلين اللومباردي :
إلا ان البابا أنوسنت الرابع، حاول مرة ثانية التواصل مع المغول، عبر سفارة ثانية ، كان على رأسها الراهب الدومينكاني اسكلين اللومباردي في العام نفسه الذي عادت فيه السفارة الأولى. وبعد عبور سوريا ، وصلت هذه السفارة إلى تبريز في إيران، حيث كانت تتواجد جيوش مغولية، بقيادة القائد المغولي «بيجو».
وقد عبّر بيجو عن قبوله بفكرة التحالف مع أوروبا على المسلمين، واقترح القائد المغولي القيام بمهاجمة العاصمة العباسية بغداد، مقابل حملة عسكرية صليبية في سوريا تبعد جيوشها عنه، وتأكيداً على موقفه، بعث مع سفارة البابا رسولين من قبله، احدهما يعتقد أنه من النساطرة وهو سركيس، وشخص آخر يدعى أيبك، إلى البابا في روما،  وهو ما تأمل منه الأوروبيين خيراً، إلا أن هذين الرسولين سرعان ما عادا إلى بيجو عام 1248م، بعدما بقي مشروع التحالف مجرد اتفاقات شفهية لا يُعتد بأمرها(20).
3- الملك لويس التاسع والمغول:
كان الملك لويس التاسع، ملك فرنسا قد أصيب بالحمى وآيس من الحياة، فنذر إن هو شفي فسوف يقود حملة صليبية نحو الشرق، وهو ما حصل(21). ومع وصوله إلى قبرص عام 1248م وصلته رسالة حملها مبعوثان نسطوريان هما مرقص وداوود من القائد المغولي الجيهيداي ، مندوب القاآن في الموصل.
وفي هذه الرسالة يعبر مندوب القاآن عن عطف المغول على المسيحيين، فَسُرّ لويس بذلك، وأرسل موفدين من قبله من الرهبان الدومنيكان إلى القاآن المغولي في قراقورم وعلى رأس هذه السفارة أندرو لونججيمو، الذي كان من قبل أحد كبار مندوبي البابا. ويذكر ستيفن رنسيمان أن هذه السفارة حملت معها « كنيسة متنقلة» باعتبار أن القاآن حديث العهد باعتناق المسيحية، وهدايا اخرى.
انطلقت هذه السفارة من قبرص عام 1249م، فوصلوا أولاً إلى معسكر القائد المغولي الجيهيداي، الذي بعثهم إلى منغوليا(22).
مع وصول السفارة إلى قراقورم، كان كيوك قاآن قد مات، بعد مرور عام واحد على تسلمه الحكم، لتعود الفوضى والصراعات إلى العائلات المغولية حول من يتسلم الحكم من بعده(23).
ومن الجدير ذكره أن كيوك خان كان مسيحياً منذ الصغر، ذلك أن والدته توركانة خاتون أوصت الأمير «قداق» وهو مسيحي بتربية ولدها، وعندما تسلم كيوك الحكم  ارتفع شأن المسيحيين في عهده، وحفل معسكره بالأساقفة والكهنة والرهبان(24) فانتشرت بعض عادات وتقاليدها المسيحية عند المغول(25).
يؤكد ذلك ابن العبري في قوله : «وكان بمقام الأتابكية لكيوك خان أمير كبير إسمه قداق وكان معمّداً مؤمناً بالمسيح وشاركه في ذلك أمير آخر اسمه جينقاي، فهذان أحسنا النظر إلى النصارى وحسّنا يقين كيوك خان ووالدته وأهل بيته بالمطارنة والأساقفة والرهابين، فصارت الدولة مسيحية وارتفع شأن الطوائف المنتمية إلى هذا المذهب من الفرنج والروس والسريان والأرمن»(26).
وعلى أثر وفاة كيوك قاآن قامت زوجته أقول قيمش، بإدارة السلطة حتى يتم اختيار خان جديد. وهكذا عاد البيت المغولي إلى مدة الصراع التي حكمته قبل مجيء كيوك خان، واختلف فيمن يأتي من بعده(27)، حتى تم اختيار منكو قاآن بن تولوي خان بن جنكيزخان عام 648هـ/1250م(28). ويعتبر عهد منكوقآن من اخطر العهود بعد جنكيزخان، فهو من أمر بغزو العالم الاسلامي، وفي عهده سقطت بغداد عاصمة الخلافة العباسية 656هـ\1258م.
وكان وصول سفارة الملك لويس التاسع في الفترة التي سبقت تنصيب منكو قاآن على عرش المغول، فاستقبلتهم أرملة كيوك قاآن، التي اعتبرت الهدايا من الملك لويس التاسع عبارة عن إتاوة «من تابع لسيد». ولم تستطع تقديم أي مساعدة للملك لويس، الذي كان يرغب في رؤية جيش مغولي يتقدم نحو الشرق، بل اكتفت برسالة: «تؤكد سيادتها، فانطوت على شكر الوصية لما يبديه تابعها من الاهتمام بها، وطلبت الوصية إنه لا بدّ للتابع من أن يبعث إليها كل سنة هدايا من هذا القبيل ، وارتاع الملك لويس لهذا الرّد، غير أنه ظلّ يأمل في أن يتحقق في يوم من الأيام التحالف مع المغول»(29).
4- سفارة وليم روبروق إلى قراقورم:
عام 1253م، وصلت الأخبار إلى الملك لويس التاسع وهو في مدينة عكا، أن القائد المغولي باتو قد اعتنق الديانة المسيحية. فسارع لويس إلى ارسال سفارة جديدة إلى القائد باتو تألفت من الراهبين الدومنيكانيين وليم روبروق وبارتولوميو الكريموني، بهدف حث القائد المغولي على مساعدة الصليبيين في سوريا، إلا أن باتو لم يكن بمقدوره اتخاذ القرار منفرداً بمهاجمة الجيوش الاسلامية ودعم الصليبيين، لذلك توجهت السفارة إلى بلاط القاآن في قراقورم(30).
لقد كانت سفارة روبروق هي الأبرز التي أرسلها لويس التاسع، كما كانت الأخيرة .  انتقل روبروق من القسطنطينية سنة (650ه/1253 م) باتجاه شبه جزيرة القرم، ومنها إلى مدينة سراي على ضفاف الفولغا، بعدها عبر معابر جبال الأورال ووادي نهر إيلي نحو قراقورم، ليصلها في العام نفسه. وكان منكوقاآن حينها خاناً على المغول، وقد أكرم القاآن وفادة السفارة، وجرت في حضرته مناظرة بين الراهب وليم روبروق ورجال دين من المسلمين والبوذيين.
وطيلة الأشهر الخمسة التي قضاها روبروق في قراقورم لم يسمع رداً واضحاً من قبل القاآن على رسالة لويس التاسع حول التحالف ضد المسلمين. عندها قرر العودة نحو بلاد الشام التي وصلها سنة (652هـ/1255م)، ليقدم تقريراً إلى الملك لويس التاسع في مدينة عكا عن رحلته ومشاهداته، ورسالة من منكوقاآن بالأويغورية(31). يورد عباس إقبال أن من أسباب فشل هذه السفارة، هو طلب منكو قاآن من لويس التاسع «الخضوع هو وسائر الملوك المسيحيين لطاعة خان المغول»(32).
ويعود بعدها لويس التاسع إلى فرنسا، بعد أن شهد أبشع هزائمه في المشرق على أيدي الأيوبيين والمماليك، وبعد فشله في تحقيق حلف صليبي – مغولي ضد المسلمين.
أبرز مشاهدات روبروق في قراقورم:
تعدّ شهادة روبروق التي قدمها إلى ملك فرنسا، الأكثر قيمة في تلك الفترة، فهو يصف قراقورم أنها لا تساوي مدينة سانت دينيز في فرنسا، حيث أديرتها أكثر اهمية بعشر مرات من قصور قراقورم وحتى من قصر منكو قاآن نفسه.
ثم يصف المدينة فينقل انه شاهد شارعين كبيرين، أحدهما يتواجد فيه الباعة والتجار ويقصده التجار الأجانب، كما شاهد عدداً كبيراً من السفراء القادمين من كل المناطق.
أمّا الشارع الآخر ففيه الحرفيون، كما شاهد القصور حيث يعيش الأمراء ومستشارو القاآن، وإثني عشر معبداً للوثنيين من مختلف طوائفهم، ومسجدين للمسلمين، فضلاً عن كنيسة للمسيحيين في قلب المدينة. أما قراقورم نفسها فهي محاطة باسوار عالية، حيث يتواجد أربعة أبواب، باب من الجهة الشرقية وتباع فيه البذور وبعض انواع الحبوب النادرة في اوروبا (الدُخن) ، وباب من جهة الغرب حيث تباع فيه الماشية، اما من الباب الجنوبي فتباع العربات والثيران، وتباع الأحصنة من جهة الباب الشمالي(33).
ومن خلال سفارة روبروق، يورد رنسيمان حول الوجود الأجنبي في قراقورم قائلاً: أضحت قراقورم وقتئذ مركز الدبلوماسية في العالم، فحينما وصل إليها سنة 1254  وليم روبروق، سفير الملك لويس التاسع لقى سفارات من قبل الامبراطور اليوناني ومن لدن الخليفة العباسي، ومن عند ملك دلهي، ومن جهة السلطان السلجوقي، كما صادف أمراء من الجزيرة وكردستان وروسيا، وجميعهم يقفون في خدمة الخان الكبير، وأقام بقراقورم كثير من الأوروبيين، منهم تاجر جواهر من باريس مع زوجته المجرية، وإمرأة إلزاسية تزوجت من مهندس روسي. كما أشار روبروق إلى رجل إنجليزي إسمه باسيل، ولد ببلاد المجر وعاش في قراقورم.
أما أسباب فشل إقامة التحالف، فيلخصها روبروق كما ينقلها رنسيمان: وغادر وليم روبروق قراقورم في أغسطس سنة 1254، بعد أن ادرك مثلما أدرك كثيرون من السفراء الذين جاؤوا من بعده إلى بلاط ملوك أقاصي آسيا ، ان ملوك الشرق لا يفقهون تقاليد الدبلوماسية الغربية أو مبادئها(34).
●  ثالثاً - علاقة الأرمن مع المغول:
كانت العلاقات بين أرمينيا ومسيحيي الشرق وطيدة، خصوصاً مع مملكتي كيليكية وبقرادونية الأرمنيتين(35). أما مملكة كيليكية ، فقد خشيت على وجودها من خطر السلاجقة، وتطلعت بأمل إلى إنقاذ المغول لها، بعد أن هزم السلاجقة أمامهم عام 1243م في الأناضول، فسارع عندها الملك الأرمني على كيليكيا هيثوم إلى البعث برسالة الى القائد المغولي بيجو يعلن من خلالها ولاءه واحترامه ، إلا ان الجيش المغولي الذي دخل الأناضول انسحب واستطاع السلطان كيخسروا السلجوقي استعادة ما فقده من أملاك أمام المغول، فخشي هيثوم من خطره، وقرر التقرب من المغول وطلب مساعدتهم، فأرسل بسفارة من قبله إلى بلاط القاآن في قراقورم عام 1247 م، وعلى رأسها أخاه سمباد(36).
وصلت سفارة الملك الأرمني هيثوم إلى قراقورم، في الوقت الذي كان فيه كيوك قاآن يحتفل بجلوسه على عرش المغول، فينقل الهمذاني أن من بين الرسل الذين زاروا مهنئين بجلوس القاآن، كان رسل الإفرنج وهما إثنان : احدهما أخوم هيثوم ملك كيليكية الأرمنية المعروف باسم سمباد، والثاني يوحنا دي بلات كاربين وهما من الكهنة(37).
وقد خاطب سمباد كيوك قاآن يعلن له ولاء أخيه هيثوم للمغول، طالباً مساعدة القاآن في محاربة المسلمين، واستعادة أملاك كيليكية التي سقطت في أيديهم، وقد عاد سمباد مع وعود القاآن بالمحافظة على املاك هيثوم، وتحقيق مبتغاه(38).
ومع وفاة كيوك قاآن وتولية منكوقاآن، توجه هيثوم بنفسه إلى قراقورم عاصمة المغول، فاستقبل بحفاوة، وأعلن نفسه تابعاً للقاآن الجديد، وذلك عام 652ه/1254م، ليعود إلى بلاده وهو متأمل من تحقيق رغبته باستعادة الأملاك التي سقطت بأيدي المسلمين(39).
ينقل رنسيمان : «وحاز حظوة خاصة عنده، نظراً لأن سائر الزائرين الأجانب، إما كانوا أتباعاً جرى استدعاؤهم برغم إرادتهم ، وإما كانوا ممثلين لملوك زعموا لأنفسهم في تعاظم الاستقلال. ففي حفل الاستقبال الرسمي الذي أقامه له منكوقآن في 13 سبتمبر عام 1254م ، منحه الخان وثيقة تكفل لشخصه ومملكته السلامة، وعدم انتهاك حرمتهما، وجرت معاملته على انه كبير مستشاري الخان المسيحيين في كل ما يتعلّق بامور غرب آسيا». وفي هذا اللقاء صرّح القاآن « بأن أخاه هولاكو، الذي استقر في فارس، قد تلقى الأوامر بالاستيلاء على بغداد، وتدمير سلطان الخلافة، وتعاهد أنه إذا تعاونت معه كل القوى المسيحية، فسوف يعيد إلى المسيحيين بيت المقدس ذاتها، وغادر هيثوم قراقورم أول نوفمبر عام 1254، مثقلاً بالهدايا ... وقد سلك طريق تركستان وفارس، إذ بذل لهولاكو مظاهر الاحترام»(40).
●  رابعاً- علاقة أوروبا بالخان المغولي قوبلاي: ماركوبولو:
يغلب على العلاقة التي ربطت أوروبا بالخان المغولي في الصين، الطابع الاقتصادي البحت. فقوبلاي خان ( 658- 693هـ/ 1260- 1294م)، وهو شقيق منكو قاآن، عينه هذا الاخير هو وأخوه هولاكو للسيطرة على البلاد المحيطة بالدولة المغولية، فكان نصيب هولاكو المنطقة الغربية من بلاد المغول، فتوسع في غزواته حتى دخل بغداد وأنهى الخلافة العباسية سنة 656هـ/1258م، أما قوبلاي  فقد كُلّفَ بالسيطرة على البلاد الشرقية وممالك الخطا، وهي قبائل كانت تقيم إلى الجنوب من منشوريا(41) واستطاع قوبلاي من خلال حملاته العسكرية المتتالية إخضاع الصين، فحكمها نيابة عن اخيه منكوقاآن (42).
ومع موت منكو قاآن، دبّ الخلاف بين اخوته حول من يتسلم السلطة من بعده، وانقسم المغول بين قوبلاي خان، وأخيه أريق بوقا (43)، إلا أن قوبلاي ـ بمساندة الجيش وقادته ـ استطاع أن يحقق نصراً على شقيقه وأوقعه في الأسر سنة 662هـ\1263م، ليتفرد في حكم المغول ويعلن قاآناً عليهم(44).
لم يتخذ قوبلاي  ـ مثل  أسلافه  ـ من قراقورم عاصمة له، بل تحول إلى الجنوب إذ أعاد بناء مدينة بكين عام1267م، وغير إسمها إلى « خان باليك» أي: مدينة الخان (45) وعمل على التوسع باتجاه باقي أنحاء الصين وجوارها، مثل فيتنام وكوريا واليابان. وأعلن نفسه خليفة لأباطرة الصين، مؤسساً أسرة يو ـ وان عام 1279م(46)، متبنياً حضارة الصين، فكان أول قاآن مغولي يتخلى عن قوانين جنكيز خان المغولية(47).
ـ ماركو بولو وقوبلاي خان:
أولى الروابط التي تشكلت بين قوبلاي خان وأوروبا كانت عبر رحلات آل بولو إلى الصين، وخدمات ماركوبولو للخان التي اعتبرها المؤرخون الغربيون أولى العلاقات مع أسرة صينية حليفة للغرب المسيحي بنظرهم(48).
كان ماركو بولو، المولود في البندقية عام 1254م، قد تعرف على قوبلاي خان ، عن طريق والده نيقولو وعمه مافيو ، من خلال تجارتهم مع الصين(49).
وكان ذلك على أثر انضمام الأخوين بولو إلى مبعوثي الخان المغولي في مدينة بخارى في وسط آسيا حيث كانا يتواجدان، فرافقا بعثة الخان عاماً كاملاً حتى وصلا إلى بلاط الخان، الذي أحسن استقبالهما وأفاد من معلوماتهما عن اوروبا والحياة فيها، وعن ملوكها والبابا والكنيسة، ومدينة روما، ليبعث بهما الخان بعد ذلك كسفارة من قبله إلى البابا طالباً منه مائة مُبشّر لنشر المسيحية فضلا عن زيت من قنديل الناووس المقدس(50).
ومع عودة الأخوين إلى إيطاليا، وجدا أن البابا قد مات، ولم يتم اختيار خليفة له، فقصدا البندقية، بانتظار اختيار بابا جديد. وفي البندقية كان ماركوبولو قد بلغ الخامسة عشر من عمره وتوفيت والدته، فقرر والده نيقولو اصطحابه معه في رحلة العودة إلى قوبلاي خان عام1271م، مع الزيت المقدس، ومع عدم إمكانية إصطحاب أي مُبشّر لكون الكنيسة كانت منقسمة حينها، لذا اكتفيا برسالة من المندوب البابوي في مدينة عكا(51).
والجدير ذكره أن كرسي البابا بقي شاغراً في روما ثلاث سنوات، بعد وفاة البابا كليمنص الرابع (ت1268م)، واختير خلفا له البابا غريغور العاشر (ت  1276م)، وقد عرفت هذه الفترة صراعاً دينياً بين كنيسة روما وكنيسة بيزنطيا، عقدت خلالها عدة مجامع دينية كما شهدت صراعاً سياسياً بين أوروبا والقسطنطينية(52). وهذا ما منع حكام أوروبا من توطيد العلاقة السياسية مع خانات المغول في الصين، فظهر دور التجار الاوروبيين الذين لعبوا هذا الدور ومنهم آل بولو.
مع وصول آل بولو إلى بلاط قوبلاي خان عام 1275م، أعجب الخان المغولي بماركوبولو وبنباهته، فكلفه بعدة مهمات رسمية من قبله، فكان مبعوثه إلى الأقاليم الصينية المختلفة(53). وخلال السبعة عشر عاماً التي قضاها ماركو بولو عند قوبلاي خان، نقل مشاهداته التي ظهرت من خلال كتابه الذي يعدّ من أبرز كتب الأسفار، ومصدراً في العصور الوسطى عن بعض مناطق آسيا الوسطى والدولة الفارسية، وعن الصين الكبرى في عهد الأسرة المغولية (54).
وعلى الرغم من عدم وجود أي رابط سياسي رسمي، بين آل بولو، بوصفهم ممثلين لأوروبا والخان المغولي، يبقى ماركو بولو يمثل العلاقة التي ربطت بين الصين وأوروبا في العصور الوسطى، فهو الذي عبر المسافات، وانتقل بين الاختلافات، فكان مُبشراً ثقافياً وحضارياً، « أدخل السباغيتي الايطالية إلى الصين، والمعكرونة المسطحة إلى إيطاليا»، فضلاً عن اعتباره صاحب الفضل في الإيحاء بـ(البوظة الايطالية). وحتى اليوم لا يزال كتاب ماركو بولو ، يُعتمد في الأبحاث الأكاديمية عن الصين في العصور الوسطى، فهو قد أورد معلومات قيمة عن الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعسكرية والثقافية، في الصين في ذلك العصر(55) وهو ما فتح الباب واسعاً أمام عددٍ من الرحالة والتجار الأوروبيين للتوجه نحو الشرق للحصول على الأموال والغنائم التي كانوا يحلمون بها.
●  خامساً: دور العلامة نصير الدين الطوسي :
عرف العلامة الطوسي (597-672هـ /1200-1273م)، عند المؤرخين بالامام المشهور، كان يخدم صاحب آلموت، ثم خدم هولاكو وحظي عنده، وعمل لهولاكو رصدا بمراغة وزيجا، وله مصنفات عديدة كلها نفيسة ... (56) .
ويضيف ابن العبري :« ...الفيلسوف صاحب الرصد بمدينة مراغة، حكيم عظيم الشأن في جميع فنون الحكمة، واجتمع اليه في الرصد جماعة من فضلاء المهندسين، وكان تحت حكمه الأوقاف في جميع البلاد التي تحت حكم المغول ، وله تصانيف كثيرة ...» (57).
كان نصير الدين الطوسي في قلعة آلموت الاسماعيلية عندما هاجمها هولاكو، الذي أمر بقتل كل الرجال ممن كان فيها بعد سقوطها بيده الا ثلاثة رجال ، وهم الطبيبان موفق الدولة ورئيس الدولة، والعلامة نصير الدين الطوسي، وذلك لما عرف عن هولاكو من تقديره لرجال العلم، وكون العلامة الطوسي كان مختصا بعلم الفلك، الذي كان يؤمن به هولاكو (58).
وامتاز الطوسي بمنزلة خاصة عند هولاكو فكان « ذا حرمة وافرة ومنزلة عالية عند هولاكو، وكان يطيعه فيما يشير به عليه...» (59)،  ولم يكن ذلك لرغبة من العلامة الطوسي في التقرب من القائد المغولي، بل كان لزاما عليه أن يكون من حاشيته وإلا قُتل، وهو بوجوده الى جانب هولاكو أسهم في كثير من الحالات في انقاذ عدد من العلماء المسلمين وعامة الناس، فكان الطوسي من موقعه، يقوم بانقاذ ما يمكن انقاذه والتخفيف من الخسائر وحماية الارواح ، كما قال الكتبي : « كان للمسلمين به نفع»(60)، وهو ما ظهر مع الاجتياح المغولي لعاصمة الخلافة العباسية عام 656هـ / 1258م، فقد وردت روايات تؤكد ان الطوسي هو الذي حمى بغداد ومكتبات بغداد من الحرق والتدمير، إذ انقذت الكتب الموجودة في مكتبات المدينة بفضل العلامة الطوسي (61). ومن هذه المصادر :
1 ـ الصفدي (ت 764هـ / 1362م ): في ترجمة نصير الدين الطوسي : «...فابتنى بمدينة مراغة قبة ورصدا عظيما واتخذ في ذلك خزانة عظيمة فسيحة الارجاء، وملأها من الكتب التي نهبت من بغداد والشام والجزيرة، حتى تجمع فيها زيادة على اربع مائة الف مجلد ...»(62).
2 ـ ابن كثير (ت774هـ/ 1372م)، عن العام 657هـ : «عمل الخواجة نصير الدين الطوسي الرصد بمدينة مراغة ونقل اليه شيئا كثيرا من كتب الاوقاف التي كانت ببغداد...» (63).
وهكذا ففي الوقت الذي كانت فيه اوروبا تسعى لتدمير العالم الاسلامي بمساعدة من المغول، كان رجال من امثال العلامة الطوسي يعملون على انقاذ العالم الاسلامي من موقع وجدوا انفسهم فيه مرغمين، فسعوا، قدر المستطاع الى التخفيف من ويلات الحروب على السكان وحماية التراث الاسلامي الذي سيكون له دور مهم في اسلام المغول فيما بعد.
● سادساً: العلاقة الحضارية والاقتصادية بين اوروبا والمغول:
كان الشرق في العصور الوسطى، يعرف بتجارته التي امتدت الى أن وصلت إلى أبعد الأماكن التي يمكن أن يصلها التاجر حينها، فمن الصين شرقاً إلى بحر الخزر ونهر الفولجا شمالا، وشواطئ المحيط الهندي جنوباً، وصولاً إلى البحر المتوسط غرباً، ونهر النيل، دخولاً إلى اوروبا ليصل إلى جزر البلطيق، إذ نجد العملة العربية قد وصلت إلى أيدي التجار الاوروبيين، فكانت لها من القيمة والمكانة أن فتحت أعين التجار في الغرب على حضارة الشرق وغناه(64).
وبما أننا أتينا في دراستنا هذه على العلاقة التي ربطت المغول بالأوروبيين، وأهدافهما السياسية والعسكرية، لا بُدّ من ذكر العلاقة الحضارية والاقتصادية التي ربطت بينهما أيضاً في تلك الحقبة:
فقد عرفت دولة المغول الأولى في الشرق نهوضاً علمياً وأدبياً (ولكن ليس بالمستوى الذي كانت عليه سابقا في عصر الخلافة العباسية والدويلات). ظهرت خلالها شخصيات بارزة، منها جلال الدين الرومي الصوفي المعروف، وعطاملك الجويني المعروف عبر تاريخه : تاريخ الجويني، الذي يؤرخ فيه للمغول وحكامهم ، والخواجة رشيد الدين فضل الله الهمذاني، الذي وضع كتاباً عن تاريخ المغول، والعلامة قطب الدين الشيرازي : عالم الطب والفلسفة والفلك، والعلامة نصير الدين الطوسي: العالم والفيلسوف ورجل الدين الذي أنقذ مكتبات بغداد في اثناء الغزو المغولي(65).
صحيح أن الواقع العلمي والأدبي في فترة الحكم المغولي الأولى، مع ما رافقها من فوضى وخسائر بشرية وعلمية واقتصادية ، كان شحيحاً لكون المغول لم يكن لديهم دراية بهكذا حضارة إذ اهتموا في البداية بالنجوم والكيمياء والفلك بهدف التنجيم وبعلم التاريخ كي يدونوا اعمالهم وفتوحاتهم العسكرية. إلا أن ذلك لم يقفل بالكامل أبواب العلوم والآداب التي استمرت في بلاد الشام ومصر، ولكون جذور المعارف كانت لا تزال مختزنة عند شريحة من الناس الذين استمروا في التدريس وتلقف العلوم، وإن لم يكن بالشكل الذي كان معروفاً من قبل(66).
وقد شهدت هذه الفترة  ظهور طبقة من المثقفين الذين تأثروا بالحضارة الجديدة الآتية من الشرق، مما أوجد فئة جديدة من العلماء والمثقفين العرب والمغول معاً.
ونلحظ هذا الأثر على الحياة الأدبية  واللغة العربية التي فقدت بعضاً من مكانتها التي امتازت بها لمئات السنين، كما حمل المسلمون معهم من حضارة الصين بعض نظم الحكم الخاصة بالمغول، خصوصاً تلك التي طبقها الحكام الإيلخانيون على البلاد التي خضعت لسيطرتهم(67).
لكن الأثر المغولي عاد لينعكس إيجاباً فيما بعد وعلى أثر تطور العلاقات مع المسلمين، ومن خلال الدولة الإيلخانية، إذ إنّ بعض إيلخاناتها اعتنقوا الاسلام بعد أن تأثروا بالحضارة الاسلامية، فعملوا على إعادة إحياء العلوم والنشاطات الثقافية وتشجيعها واحتضنوا العلماء والفقهاء وأجزلوا لهم العطاء.
هذا من الناحية العلمية ، أما في المجال الاقتصادي، فقد نشطت التجارة وازدهرت في تلك الحقبة وكان لقيام الدولة المغولية أثر في الغاء الحواجز التي فصلت بين السكان والتي فرضتها الدول وأنظمة الحكم قبلهم. فاهتم المغول بالطرق التجارية، إذ وردت في قوانينهم بنود في صيانة طرق القوافل والحفاظ على الأمن فيها والاهتمام بالتجار(68).
كما اتبع إيلخانات المغول سياسة إقامة العلاقات الاقتصادية والسياسية مع أوروبا، فتواصلوا مع باباوات روما وملوك وأمراء أوروبا، وأوجدوا الروابط بين اوروبا ومصر والشام مع آسيا الوسطى والشرقية التي كانت مكاناً مجهولاً بالنسبة للاوروبيين.
فكانت الرحلات والسفارات إلى قراقورم وإلى الصين ـ التي أتينا على ذكر معظمها ـ تعرف الأوروبيين على آسيا الوسطى والشرقية. وقد نقل السفراء والرحالة مشاهداتهم  كما رأينا عند ماركوبولو. هذا كله ترافق مع بروز موانئ فينيسيا والبندقية، التي سيطرت على تجارة المتوسط من خلال سفنها التي جابت موانئ مصر وبلاد الشام. كما وصلت قوة فينيسيا إلى حد أن استولى تجارها على القسطنطينة عاصمة الدولة البيزنطية في بداية القرن الثالث عشر، ولمدة تقارب نصف قرن، استطاعوا خلالها أن يتاجروا مع روسيا الجنوبية والممالك الخوارزمشاهية وما وراء بحيرة خوارزم من ناحية ، ومع المماليك في مصر والشام من ناحية أخرى. كما أقاموا العلاقات التجارية من خلال البحر الأسود مع المغول المتواجدين في صحراء القبجاق والقرم وغيرها، فكانوا يشترون غنائم البلاد التي يتم احتلالها ويعيدون بيعها في اسواق اوروبا وحوض المتوسط. أما أبرز ما كان ينقل إلى أوروبا حينها، فكان «الخشب والكتان والقار والملح والعسل والشمع والجلد والسمك واللحم القديد، فضلاً عن تجارة الرقيق»(69).
يقول عباس إقبال في تطور طرق التجارة حينها في عصر دولة المغول:
«ودخل إيلخانات إيران المسلمون الذين كانوا ينافسون المماليك في كل مجال، في تنافس مع ملوك مصر والشام في هذا المجال أيضاً، وبتشجيع من التجار الإيطاليين، وتمكنوا من تحويل طرق التجارة الشرقية عن الإسكندرية إلى تبريز من خلال جذب تجار فينيسيا والبندقية وتشجيعهم وتأمين الطرق، وخفّضوا الرسوم الجمركية رغم أنف المماليك وأحسنوا معاملة التجار الأجانب وفتحوا أمامهم كل المراكز والطرق وطبقوا سياسة إقتصادية جديرة بالثناء، ونتيجة لذلك، أصبحت إيران هي الممر التجاري بين بلاد سواحل المتوسط وممالك آسيا الوسطى والشرقية»(70).
الخاتمة
 على مدى القرن الثالث عشر الميلادي، لم تتوقف مساعي السلطة البابوية في أوروبا عن محاولة تنصير المغول وتجنيدهم ضد المسلمين، وكان التبشير يسير جنبا الى جنب مع الأهداف العسكرية والمصالح السياسية والاقتصادية والثقافية. ولم يحل دون تطور هذه العلاقات ـ التي نجحت نسبيا في حالات عرضنا لها ـ إلا الأسلوب الفوقي الذي تعامل به المغول مع المساعي الأوروبية، وجاذبية الحضارة الإسلامية التي توجتها جهود العلماء من أمثال نصير الدين الطوسي، والتي أفضت في النهاية الى اعتناق ملوك المغول للإسلام.
 ولكن أوروبا لم تيأس، واستمرت في قرع أبواب الشرق مما دفع بأمثال ماركوبولو إلى الصين. ولم تكن الرحلة الأولى لتاجر إيطالي إلى تلك البلاد، كما رأينا عند وليم روبروق، إذ شاهد في عاصمة المغول« قراقورم » وقبل رحلة ماركو بولو بحوالي عقد أو عقدين من الزمن، مجموعة من الأوروبيين كانوا يعملون في أسواقها، مما يدّلُ على سرعة تلقف الأوروبي للفرص واغتنامها في سبيل تحقيق الأرباح  مهما بعُدتْ المسافة. ولعل البحث عن الارباح والطموح الاقتصادي، قد حقق من الأهداف الأوروبية ما لم تتمكن من تحقيقه الحملات التبشيرية والعلاقات الدولية، مما أوصلنا فيما بعد الى ما تعرض له الشرق من استعمار في إطار بحث الدول الغربية وشركاتها العابرة للقارات عن اسواق جديدة.
ولم يكن هذا ليتحقق لولا ان المشرق العربي الاسلامي اضاع بوصلة الحضارة والتطور الحضاري، وبقي يتغنى بما فعله الأسلاف حتى على مستوى حكامه الذين اكتفوا بانجازاتهم واستسلموا لترف السلطة.. فنجد صلاح الدين الايوبي على سبيل المثال، يتوقف بشكل نهائي عن تحرير العالم الإسلامي من الامارات الصليبية بعد معركة حطين، ويقوم شقيقه الملك العادل ومن تلاه من سلالة الايوبيين بتسليم بعض المناطق التي حررها صلاح الدين للصليبيين لكسب ودهم بل والتحالف معهم ضد الخصوم الداخليين.
كما نلحظ ان حكام العالم الاسلامي لم يحشدوا قواهم في مواجهة المغول قبل دخولهم محتلين الى اراضيهم، بل كانوا يتجمعون ويحشدون القوى في مقاتلة بعضهم البعض للحفاظ على تخت الرياسة .
هذا الضعف الذي اصاب الدولة العربية الاسلامية فاسقطها على يد هولاكو، يتتالى مع قيام دولة المماليك التي لم تشهد اي تطور فكري او حضاري يعتد به، وهذا ينسحب على العصر العثماني، حتى دخلنا في عصر الظلمات الذي لانزال نرزح تحت ثقله .
كل هذا فتح الباب على مصراعيه امام الغرب الذي شهد عصر نهضته، ليغزو عالمنا بوسائل لا يكف عن تطويرها بلا كلل. إنه السقوط المدوي للحضارة الأهم في تاريخ العالم، لتنشأ حضارة أخرى على أنقاضها. 
*  هوامش البحث *
1- تارتاروس : هي مكان في العالم السفلي عند الإغريق تعاقب فيه الروح التي ارتكبت آثاماً على الأرض ـ مايك إدوارد ، أبناء جنكيز خان ـ الخانات العظام ، مجلة الثقافة العالمية، العدد 83، السنة 1997 ، ص103.
2- ستانلي بول، طبقات سلاطين الاسلام ، بيروت : الدار العالمية ، 1986 ، ص 186- 187.
3- ابن الأثير ، الكامل في التاريخ ، بيروت : دار التراث العربي، ط1، 1996 ، 12 : 360.
4- فؤاد عبد المعطي الصياد ، المغول في التاريخ ، بيروت : دار النهضة العربية ، د. ت ، 1 : 35 .
5- دائرة المعارف الاسلامية ، ترجمة محمد ثابت الفندي وأحمد الشنتاوي وغيرهما، تهران : نشر جهان تران بو ذجمري ، 1933 ، 7 : 131.
6- الهمذاني، جامع التواريخ ، تاريخ خلفاء جنكيزخان، ترجمة فؤاد عبد المعطي الصياد ، بيروت : دار النهضة العربية، 1983 ، ص53.
7- السيد الباز العريني، المغول، بيروت : دار النهضة العربية ، 1986 ، ص 67.
8- حافظ أحمد حمدي ، الدولة الخوارزمية ، القاهرة : دار الفكر العربي، د.ت ، ص 79 – 80 .
9- الهمذاني ، جامع التواريخ ، المصدر السابق ، ص 29-30.
10- فؤاد عبد المعطي الصياد، المغول في التاريخ ، المرجع السابق ، ص 186- 188.
11- المصدر  نفسه ، ص 188.
12- مايك ادواردذ، جنكيزخان سيد المغول، المصدر  السابق، ص 82.
13- ابن العبري، تاريخ مختصر الدول، بيروت: دار المشرق ، ط3، 1992، ص 248 – 249.
14- ستيفن رنسيمان ، تاريخ الحروب الصليبية ، ترجمة السيد الباز العريني، بيروت : دار الثقافة ، 1997، ج3، ص 446.
15- الهمذاني ، المصدر السابق، ص 176 وما بعدها .
16- المصدر نفسه.
17- النساطرة: نسبة الى بطريرك انطاكية نسطوريوس الذي يؤكد على التمايز والفصل بين الطبيعة الالهية للمسيح والطبيعة البشرية وان مريم هي والدة يسوع وليست والدة الله ، وان الله حي لايموت ، وان الذي تألم وصلب ومات على الصليب هو البشر . – سعد رستم ، الفرق والمذاهب المسيحية ، دمشق : دار الاوائل ، ط4، 2011، ص 27 .
18- ستيفن رنسيمان ، تاريخ الحروب الصليبية ، المصدر  السابق ، ج3 ، ص 446.
19- المصدر  نفسه.
20- المصدر  نفسه ، ج3، ص 447.
21- المصدر  نفسه ، ج3 ، ص 439.
22- المصدر  نفسه، ج3 ، ص 448.
23- الهمذاني ، المصدر السابق ، ص 183الى 185.
24- ابن العبري ، تاريخ الزمان ، بيروت : دار المشرق ، 1986، ص 291.
25- الصياد ، المغول في التاريخ ، المصدر  السابق، ص 201.
26- ابن العبري ، تاريخ مختصر الدول، المصدر  السابق ، ص 257.
27- الهمذاني ، جامع التواريخ ، المصدر السابق، ص 197.
28- المصدر نفسه ، ص 195 و 203.
29- ستيفن رنسيمان ، المصدر  السابق، ج3، ص 448.
30- المصدر  نفسه ، ج3، ص 482.
31- عباس إقبال ، تاريخ المغول ، ترجمة عبد الوهاب علّوب، أبو ظبي: المجمع الثقافي ، 2000، ص 180.
- الإيغورية : نسبة إلى شعب الإيغور وهو احد قبائل المغول .
- عباس إقبال ، تاريخ المغول ، ص 58.
32- المصدر  نفسه ، 180.
* الدُخن: أنواع من الحبوب تنتمي إلى الفصيلة النجيلية تنتج حبوباً دقيقة تنبت في المناطق الجافة في قارتي أفريقيا وآسيا وتطهى كالأرز وتطحن كالقمح، والخبز الناتج منه يسمى بخبز الفقراء – موقع ويكيبيديا على شبكة الانترنت.
33 - ROLANd Muhoud Guillaune de Rubrouk,Voyage dans  L’empir Mongol, 1253 – 1255, Imprumerie Nationale , le livre des moveilles ( classique Bordas). 
34- رنسيمان ، المصدر  السابق ، ج3، ص 509 – 511.
35- آرام تيرغيفونيان ، دراسات إستشراقية حول العلاقات الآرامية والعربية ، ترجمة الكسندركشيشان ، حلب: دار النهج ، ط1 ، 2007 ، ص 196.
36- ستيفن رنسيمان ، المصدر  السابق ، ج3 ق2 ، ص 508.
37- الهمذاني ، المصدر السابق ، ص 181.
38- رنسيمان، المصدر  السابق، ص 512.
39- المصدر  نفسه ، ص512.
40- المصدر  نفسه ،ص 512.
41- فؤاد الصياد ، المغول في التاريخ ، المصدر  السابق، ص 24.
42- الهمذاني ، جامع التواريخ ، المصدر السابق، ص 237.
43- رنسيمان ، المصدر  السابق، ج3، ص 530- 531.
44- المصدر  نفسه ، 3 : 531.
45- دانييل إليسيف ، تاريخ الصين، ترجمة يوسف الشام، دمشق: وزارة الثقافة ، 2007، ص110-111.
46- المصدر  نفسه ، ص 115.
47- فؤاد الصياد ، المصدر  السابق، ص 217.
48- دانييل إليسيف ، المصدر  السابق ، ص 116.
49- ماركو بولو ، رحلات ماركو بولو ، ترجمة عبد العزيز جاويد، القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب ، الألف كتاب الثاني، 2002، 1 : 12.
50- المصدر  نفسه ، 1 : 15.
51- المصدر  نفسه ، 1 : 15- 16.
52- نجيب اسطيفان ، صراعات الكنيسة وسقوط القسطنطينية ، دمشق: دار التكوين ، ط1، 2011 ، ص 236- 237 .
53- فرنسيس وود، ماركو بولو هل وصل إلى الصين، ترجمة فاضل جكتر ،دمشق: قدمس للنشر والتوزيع ، ط1، 1992، ص 22-23.
54- ماركو بولو ، المصدر  السابق ، 1 : 17- 20.
55- فرنسيس وود، المصدر  السابق ، ص 16.
*- مراغة : بلد مشهورة عظيمة اعظم واشهر بلاد اذربيجان – ياقوت ، معجم البلدان ، بيروت : دار صادر ، ط2 ، ج5 ص 93.
56- ابو الفدا ، المختصر في اخبار البشر ، بيروت: دار الكتب العلمية ، ط1 ، 1997، 1: 340.
57- ابن العبري ، تاريخ مختصر الدول ، بيروت : دار المشرق ، ط3، 1992، ص286 .
58- حسن الامين ، الاسماعيليون والمغول ونصير الدين الطوسي ، بيروت : دار الغدير ، ط1 ، 1997، ص42 .
59- ابن شاكر الكتبي ، فوات الوفيات ، تحقيق احسان عباس ، بيروت : دار صادر ، ط1 ، 1974، 3 :  247.
60- المصدر نفسه.
61- راجع : طارق شمس ، احراق المغول مكتبات بغداد حقيقة ام افتراء ، مجلة رسالة النجف ، العدد21، حزيران 2012 .
62- الصفدي ، الوافي بالوفيات ، بيروت : دار احياء التراث العربي ، ج1 ص 147.
63- ابن كثير ، البداية والنهاية ، بيروت : دار احياء التراث العربي ، ج13 ص 161.
64- زيغريد هونكه، شمس العرب تسطع على الغرب، ترجمة فاروق بيضون وكمال دسوقي، بيروت : دار صادر ، د.ت ، ص 27.
65- عباس اقبال ، تاريخ المغول ، المصدر  السابق ، ص 473.
66- عباس إقبال ، المصدر  نفسه ، ص 488 – 489.
67- حافظ أحمد حمدي ، الدولة الخوارزمية والمغول ، القاهرة: دار الفكر العربي، د.ت، ص 308.
68- عباس إقبال ، المصدر  السابق، ص 549.
69- المصدر  نفسه ، ص 550.
70- المصدر  نفسه ، ص 554- 555.
***
(*) أستاذ التاريخ الوسيط في الجامعة اللبنانية – كلية الآداب.