البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

استكشاف جذور العنف الغربي من تاريخ حركة الاستشراق ليوهان فوك

الباحث :  جهاد سعد، رئيس قسم الاستشراق في المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية - بيروت
اسم المجلة :  دراسات إستشراقية
العدد :  3
السنة :  السنة الثانية - شتاء 2015 م / 1436 هـ
تاريخ إضافة البحث :  August / 15 / 2015
عدد زيارات البحث :  2019
تحميل  ( 674.013 KB )
تمهيد:
على مدى قرون ، سعى الغرب بكل ما أوتي من قوة عسكرية وفكرية ومالية وثقافية وعلمية ودعائية، لتفتيت العالم الإسلامي وتشويه صورة الإسلام. حاربه كدين وأسقط عليه أخطاء الكنيسة في القرون الوسطى، وهون من شأنه كحضارة مقللا من قيمة الخدمات التي قدمتها الحضارة الإسلامية للعالم أجمع. وقد تعاون معه على ذلك: أنظمة سياسية ، ونخب ثقافية، ومراكز دراسات، وحركة استشراق، وعلوم الأنثروبولوجيا، المتخصصة في الغور في تفاصيل الإناسة، واتجاهات تغريبية اجتاحت الشرق مع الجيوش، لتؤبد الهيمنة، وتكرس الدونية، وتحول وجهة نظر غربية حاقدة وظالمة ومجحفة إلى علم وحقائق علمية.
ولم تقف المشكلة عند هذا الحد، بل تفاقمت عندما اتخذ المسلمون موقفا دفاعيا، وأخذوا يبحثون عن إسلام يتوافق مع الهوى الغربي ويتسابقون على إثبات المطابقة أو الموافقة لما يقول الغرب أنه يمثله.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وفيما نحن نسعى إلى تجميل صورتنا بعين الغرب، كان عنف الغرب يفعل فعله فينا. وبالحملات العسكرية، وسكين السياسة، وخنجر الثقافة، ومكر الإعلام، وخدعة الموضوعية العلمية، وتكنولوجيا العلم المنحاز. تم تمزيق الأمة إلى دول قومية، ثم إلى جماعات إثنية وطائفية، ثم إلى قبائل عرقية ومذهبية.
ومنذ مطلع القرن الماضي، كنا نتجه بثقة نحو الجاهلية الجديدة وعيننا مسمرة على «حضارة الأنوار»، وقد لعب هذا الانبهار بالغرب دور المخدّر الفعّال، فيما يبحث مبضع الجزار الغربي عن عروق ما تزال في جسم أمتنا موصولة بدينها وعقلها وتاريخها ليوغل في تقطيعها وتشريحها. ومع كل خط جديد رسمه الغرب على خارطة العالم الإسلامي، كان يؤسس لصراعات لانهاية لها على الحدود والثروة والنفوذ.
وشهد العالم عمليتين متكاملتين: تبسيط الجغرافية السياسية  في شمال الأرض بإزالة الحدود إلى أقصى حد ممكن، وتعقيد الجغرافيا السياسية  في جنوب الأرض إلى أقصى حد ممكن.
كانت المعاهدات السياسية بين الدول المستعمرة، ترسم الحدود، ثم يحول الاستبداد والنخب المتغربة هذه الحدود إلى سدود ثقافية ونفسية وعرقية وحزبية، وكانت الحدود المغلقة مع الجار الإسلامي أو العربي، تترافق دوما مع سياسات انفتاح بلا حدود على الدولة المستعمرة في الغرب، الذي كان يحول الانتماءات المتكاملة إلى دوافع نزاع واختلاف. فاصطدم القومي بالأممي ثم الوطني بالقومي ثم الطائفي بالوطني .... وهكذا منع نهر الأمة من تطهير نفسه بالحدودـ السدود، وتحولت دويلات العالم الإسلامي إلى مستنقعات آسنة يعشش فيها التخلف والاستبداد والركود التنموي والفكري والاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي، برعاية مباشرة من سادة العصر وطغاته.
وشكلت هذه المستنقعات الدول، بيئة صالحة لتكاثر بكتيريا الانقسام، خاصة عندما وقعت هذه الدول بين فكي الاستبداد المحلي الذي يفرق المجتمع ليسود، والاستبداد الدولي الماضي في تفتيت الدول إلى دويلات والمجتمع إلى مجتمعات... يكفي أن تقرأ اليوم ورقة «إدارة التوحش»، و«المذكرة الاستراتيجية»، لداعش لكي يظهر لك بوضوح، أن الدور الذي تقوم به هذه العصابة ومثيلاتها، هو دور البكتيريا التي تقسم المواد العضوية وتحضرها للالتهام ثم تموت، ليتكفل السيد الغربي في اعادة رسم الخارطة على الحطام.
في تاريخ الشرق كانت الأديان دائما محركا أساسيا لعجلة الحضارة، سواء في العلوم أو العمران او التنظيم الاجتماعي. ولكن في التجربة الاسلامية تحديدا، شكل الاستبداد السياسي الذي ساد بعد الخلافة الراشدة، مسارا خاصا به حتى شكل في اوج تغوله كابحا لاضطراد مسيرة الحضارة الاسلامية، مما يعني أن أي محاولة نهوض يجب أن لا تركز على جانب دون آخر. فالتقدم العلمي والعمراني، والانتشار الجغرافي والاقتصادي، وقدرة المدينة الاسلامية على التكيف مع التنوع وتحول الاسلام الى ثقافة محلية شرقا وغربا، كل هذه العظمة، كانت تتعايش مع نظام سياسي استبدادي متخلف، شكل الثغرة الأخطر التي أغرقت سفينة الحضارة الاسلامية ومنعتها من متابعة المسير... دعنا نسمي هذه القاعدة  التي تلزمنا بالنهوض من الجوانب كافة من الآن فصاعدا «مبدأ النهوض التكاملي».
طالما قامت حضارات الشرق حول الفكرة المنفتحة على الأرض والسماء، منذ فجر التاريخ. وفكر الشرق كان دائما يغرف من وحي الله ليمنح حياة جديدة للإنسان. فكرة الصراع بين الغيب والشهادة غربية اساسا، والفلسفة الاسلامية صالحت بين العقل والشرع إلى أن اغتالها السلطان مع فقهائه. فيما أسس العقل الغربي لقطيعة مزمنة بين العقل والايمان، لتكون ردّة فعل على توظيف المقدس في السياسي على طريقة كنيسة القرون الوسطى.
جوهر المشكلة يكمن الآن في غياب الأطروحة متعدّدة الأبعاد: فالغرب يضطهد الايمان باسم العقلانية، أو في أحسن الأحوال، يوظف الإيمان على طريقة الكنائس الانجيلية الصهيونية ليضفي على حروبه المدنسة هالة القداسة. ومن جورج بوش وكنائسه الصهيونية الى داعش وسلفيتها التكفيرية، تم إنشاء دين ضد الدين، وإله غير ذلك الإله الذي تعرفه وتنادي به الأديان، ووراء كلا الأصوليتين غربا وشرقا ينشط شيطان السياسة.
لقد برهنت التجربة الغربية على أن العقل عندما ينفصل عن منظومة القيم المستندة الى الايمان، يصبح عقلا أداتيا يفتقر الى الحكمة والضمير الانساني. ماكنة تنتج ماكينات، وتكنولوجيا تنتج ايديولوجيا، تطحن كل ما يقف في طريقها تحت عنوان التقدم والتحديث. وكل من قارب التجربة الغربية من منظور انساني وجدها تميل الى «ألينة» الإنسان ومكننته. فالغرب اليوم بات أدنى الى ماكنات متراكمة بعضها فوق بعض: من المواطن الى الحزب والمنظمة والشركة والدولة، فيما العالم كله يتم توضيبه وإدخاله الى دائرة نفوذ المكنة الضخمة لتتم معالجته وتفتيته واعادة انتاجه بما يوافق تأبيد الهيمنة وثقافة السوق.
لقد برهنت التجربة المشرقية، على أن الايمان الديني عندما ينفصل عن العقل، يصبح جامدا متخلفا وخادما للاستبداد. ومن هنا نجد الطاغية في الشرق العربي يشجع الفقيه السلفي على الفقيه الفيلسوف، ويكفر الفلاسفة المسلمين على لسان فقهاء السلاطين و«ادعياء القداسة». فينتج عن عملية تعرية الايمان وتسطيح العقل دين آخر واسلام آخر واله آخر، سماؤه بلاط السلطان، و«جبريله» دوائر الأمن والمخابرات، وليس فيه الا «ملائكة» العذاب. وهكذا دين أقصى طموحه أن يحول «المؤمن» الى قنبلة، بحثا عن الجنات وحور العين... لأن الأرض كلها أصبحت دارا للكفر، فليست دار الاسلام والايمان الا تلك البقعة الصحراوية تحت قدمي الخليفة، وليس النعيم الا ما بعد الموت.
ما كان الغرب ليسود، لولا الاستبداد العربي، ثم العثماني الذي أسس للتخلف ثم للتبعية والهيمنة. وما كان الاستبداد ليدوم، لولا الدعم الغربي الذي تبنى الطبقة الحاكمة وسيّجها بالجيوش وعزلها عن جمهور الأمة. ومن فقه الاستبداد، الى فقه وفكر السجون، وصولا الى فقه التكفير والإرهاب، تحول العالم الإسلامي الى ساحة موت تحقق أقصى ما تمناه أساطين التعصب الديني والعنصرية هناك، وقد تلبسوا بلباس الحداثة والثورة التكنولوجية والعولمة.

استنبات الاستشراق:
لم تكن حركة الاستشراق في مناخ كهذا، إلا رافدا لهذا الصراع المرير بين إرادة الهيمنة والتسلط من جهة، وإرادة التحرر والتنمية من جهة أخرى. ولقد تمخض هذا الصراع عن عمليات اختزال مريبة مارسها الغرب ضد الأمة الإسلامية، فمسلم الأمس هو العثماني، ومسلم اليوم هو الإرهابي، هذا والغرب المتقدم جدا في عنفه على أي عنف مورس في العالم هو الذي نصب للإرهاب التكفيري خليفة.
ولئن كان الإرهاب التكفيري انحرافا بينا عن تعاليم الإسلام وقيمه، فإن العنف في الغرب دين وايديولوجيا وسياسة واستراتيجيات، لها جذورها وأصولها العميقة في رؤيته للعلاقة مع أي آخر وخاصة الإسلامي.
في قراءتنا كتاب «تاريخ حركة الاستشراق» ليوهان فوك، تظهر جذور العنف الغربي بلا تكلف أو عناء، وكما يستند الخطاب الإعلامي الغربي على صورة الشرق كما قدمها المستشرقون، ليقدم للمتلقي هناك شرقا غير هذا الشرق، نعود نحن بدورنا لجهود المستشرقين، لنرسم صورة الغرب كما هو الغرب. فنكون بذلك أكثر إنصافا، وأقوى بيانا.
إن رصد آلية اشتغال الحركة الاستشراقية، من خلال تاريخها وآثارها، لا يقل أهمية عن الجهود التي بذلت لرد الشبهات والنظريات المجحفة بحق العرب والمسلمين. فمن التبشير الى الاستعمار الى العولمة، كان الاستشراق القديم والجديد، ضابط الإستطلاع الذي يرسم صورة الشرق الملائمة لمنظور الغرب أو مصالحه، ومرجع أكاديمي، فرض نفسه بجهود مثابرة وتمويل سخي، حتى أننا نعود اليوم الى مخطوطات عربية في جامعات الغرب لم تر النور الا على ايدي المستشرقين.
فما نحن بصدده هنا، هو تفريغ الخطاب الغربي من داخله. واستخلاص العبر من مواجهة بدأت تفوقا اسلاميا، وانتهت هيمنة غربية حتى على وعينا لذاتنا. ولذلك سنعتمد اسلوب العرض والتعليق الفوري، لكي لا تغيب عن ذهن القاريء, المعلومة المرجعية التي استندنا اليها فيما خلصنا اليه. أما العناوين فهي خارطة جديدة للكتاب، بحسب اسلوب العرض الموضوعي، الذي يقترح قراءة مختلفة للمحتوى.

الكاتب والكتاب:
يوهان أو جوهان فوك (المولود عام 1894م)، لغوي بالدرجة الأولى وقد برز ميله لفقه اللغة (الفيلولوجيا) في مقاربته لتاريخ حركة الاستشراق. كان أستاذا للعربية في جامعتي ليبزيج وهالة، ومن أهم آثاره: العربية لغة وأسلوب (برلين 1950). وقد نقله الى العربية الدكتور عبد الحليم النجار (القاهرة 1951)([1])،  و«الدراسات العربية في أوروبا حتى بداية القرن العشرين»، الذي ترجمه عمر لطفي العالم، بعنوان إضافي هو «تاريخ حركة  الاستشراق». والطبعة الثانية التي أمامنا صدرت بتاريخ 2001، عن دار المدار الإسلامي في بيروت في 351 صفحة. تشتمل على مقدمة للمترجم وتمهيد للمؤلف وترقيم للموضوعات لغاية 65 موضوعا. يغلب على الكتاب النتاج الخاص بالمعاجم وفقه اللغة، أما نحن فقد اخترنا منه ما يناسب موضوعنا، بما يتناسب مع حجم البحث في المجلة.
ـ 1 ـ
ولادة الاستشراق في أحضان التبشير
يقدم فوك في البطاقات التالية، ما يعتقد انه ردة فعل منطقية من قبل الكنيسة على الانتصارات الاسلامية. وبغض النظر عن تماسك الحجة، فإنه يغير ما هو شائع عن تاريخ الاستشراق. حيث تبدأ معظم الدراسات من اوج الحركة الاستشراقية في القرن الثامن عشر، بينما يظهر التأريخ الأقرب الى الصواب، أن الأفكار المؤسّسة للحركة ولدت في القرن الثاني عشر الميلادي، ووصلت الى درجة عالية من النضج والتبلور في بداية القرن الرابع عشر.
أـ شعرت الكنيسة المسيحية بتهديد شديد لها نتيجة الانتصارات الساحقة التي حققها الخصوم، فبيزنطة فقدت في القرن السابع مستعمراتها في آسيا وشمال أفريقيا باستثناء آسيا الصغرى على يد العرب، ثم اضطرت الى التخلي عن آسيا الصغرى للسلاجقة في القرن التاسع، وبسقوط صقلية فقدت السيادة على البحر، وبذلك أصبح البحر المتوسط غير آمن بسبب القراصنة، وفي الغرب فتح العرب والبربر معظم اسبانيا ولم يبق منها سوى شمالها الغربي. ومن هذه النقطة شنت حروب الاسترداد (ريكونكويستا). ص15
ب ـ لقد كانت فكرة التبشير هي الدافع الحقيقي خلف انشغال الكنيسة بترجمة القرآن واللغة العربية. فكلما تلاشى الأمل في تحقيق نصر نهائي بقوة السلاح، بدا واضحا ان احتلال البقاع المقدسة لم يؤد الى ثني المسلمين عن دينهم، بقدر ما أدى الى عكس ذلك. وهو تأثر المقاتلين الصليبيين بحضارة المسلمين وتقاليدهم ومعيشتهم في حلبات الفكر. وقبل حدوث واقعة (إيديساس) في شهر ديسمبر من سنة 1143، وهي السنة التي رد فيها الصليبيون على اعقابهم، ظهرت أول ترجمة لاتينية للقرآن في سنة 1143م. التي نسبت الى مؤلفها بطرس المبجل رئيس دير كلاني (1092 أو 1094ـ 1157). ص 16ـ 17.
ج ـ خرج بطرس المبجل بقناعةٍ، بأن لا سبيل الى مكافحة (هرطقة محمد) بعنف السلاح الاعمى، وإنما بقوة الكلمة، ودحضها بروح المنطق الحكيم للمحبة المسيحية. لكن تحقيق هذا المطلب كان يشترط المعرفة المتعمقة برأي الخصم أولا. وهكذا وضع خطة للعمل على ترجمة القرآن الى اللاتينية. وكلف راهبَين احدهما الانكليزي روبرتوس كيتينيسيس بترجمة الكتاب مقابل مبلغ مغر من المال. اما الراهب الآخر هيرمان الدالماتي فقد ترجم ايضا نبذا مختصرة من تاريخ الشخصيات وثلاثة نصوص، منها ما يعود الى كتاب مسائل عبد الله بن سلام، ويتضمن إجابات الرسول على أسئلة أحبار اليهود التي اعتنق بسببها الاسلام، اما الثاني فسيرة كعب الأحبار عن ولادة الرسول وطفولته، أما الثالث فنظرة إجمالية لتاريخ الإسلام وصولا الى (استشهاد) الإمام الحسين (ع).. وفي سنة 1143 أرسل المبجل بطرس كل المخطوطات المترجمة الى الأب برنهارد شيرفو مشفوعة بخطاب ينوه فيه بنضالات رجال الكنيسة ضد سائر أشكال الالحاد.( ص17ـ 18).
التعليق:
1ـ  إن وصف التمدد العثماني باتجاه الغرب على نحو مطرد في كتابات المستشرقين، يهدف الى تأكيد فكرة انتشار الاسلام بالسيف. الحالة العثمانية كانت كذلك بالفعل، فلم يبذل العثماني مجهودا ثقافيا ذا وزن في مقابل الجهود الكنسية، لردع الانفتاح على الإسلام، ولتشويه صورته. وسيأتي في هذه القراءة ما يؤكد نجاح اختزال الاسلام بالعثماني، خاصة عندما يترجم القرآن الكريم تحت عنوان «كتاب الترك». مما يدفعنا الى القول أن همّ نشر الإسلام، كان همّاً ثانوياً في حروب العثماني، وأن العسكريتاريا الانكشارية العثمانية، كانت تعمل لبسط نفوذ الدولة. ولم تنتج على مدى قرون مفكرا عثمانيا يصلح نتاجه مادة لنشر الإسلام. ولكن بالمقابل وفر الفتح العثماني مادة تحريضية مهمة للمستشرقين، فنجد مثلا برنار لويس مولعا بابقاء صورة العثماني ـ المسلم العدو حاضرة في أذهان قرائه الغربيين، في معظم كتاباته، وهو الذي فتحت له خزانة الأرشيف العثماني لينتقي منها ما يناسب مشروعه([2]).
ولو عدنا الى إسبانيا فإن روجيه غارودي يؤكد من مصادر معتبرة، أن فتح الأندلس لم يكن غزوا عسكريا بقدر ما كان انقاذا للأندلس من حرب أهلية شنّها دعاة التثليث من أنصار مجمع «نيقية» (325م) على القائلين بالطبيعة البشرية للمسيح (ع) من أتباع آريوس أسقف الإسكندرية. بل حتى في مناطق أخرى كسوريا كان الفتح العربي انقاذا للمسيحيين من ظلم الرومان. يقول غارودي: في شبه الجزيرة الأيبيرية لم يكن فتحا عسكريا بغزاة أجانب، ولكن قبل كل شيء كان حربا أهلية، بين مسيحيين قابلين بعقيدة الثالوث والوهية يسوع المعلنة في مجمع نيقية (عام 325) من جهة، ومسيحيين «موحدين» أعني رافضين للثالوث ولايرون في يسوع الها وإنما رسولا موحى له من الله من جهة أخرى.. فانتشار الإسلام، في القرن الأول من الهجرة، كان خاطف السرعة، وسلميا على وجه العموم، في كل مكان كانت فيه العقيدة السائدة إما اليهودية، وإما مسيحية «مهرطقة» كما كان يدعى حينئذ المسيحيون الذين اختاروا رفض معتقد نيقية بـ«الهراطقة»، ولم تكن حالة اسبانيا استثنائية... المقصود حقيقة هو التحرير، إن ميشيل السوري، وهو يذكر بالاضطهادات المرتكبة من قبل البيزنطيين يقدر بهذه العبارات وصول المسلمين: إن إله الثأر... إذ رأى شرور الرومان الذين كانوا حينما يسيطرون، يسلبون بقسوة كنائسنا وأديرتنا ويحكمون علينا بلا شفقة، أتى بأبناء إسماعيل من الجنوب لتخليصنا منهم... ولم تكن مائدة طفيفة بالنسبة لنا أن نتخلص من الفظاظة الرومانية... وأن نجد أنفسنا في راحة. ويضيف غارودي ناقلا عن المؤرخ دوزي في كتابه تاريخ المسلمين في إسبانيا (ج2 ص43): أن الفتح العربي كان خيرا لإسبانيا، وقد أحدث ثورة اجتماعية هامة، فعمل على إزالة قسم كبير من الآلام التي كانت تئن تحتها البلاد منذ عصور...انتزع العرب الأرض من أيدي الأغنياء ووزعوها بالتساوي بين اولئك الذين كانوا يعملون بها. وراح المالكون الجدد يشتغلون فيها، يملؤهم الحماس ويحصلون منها على أفضل الغلال. وحررت التجارة من قيودها ومن الرسوم الباهظة، وكان القرآن يسمح للعبيد أن يشتروا أنفسهم لقاء تعويض عادل، وهذا ما أشرك طاقات جديدة. فكانت هذه الإجراءآت جميعها تحدث حالة من الرضى العام كان السبب في الاستقبال الحسن لبداية السيطرة العربية ([3]).
2ـ  لو عدنا لكتاب الهولندي رينهارت دوزي في نسخته المترجمة الى العربية تحت عنوان: المسلمون في الأندلس([4])، فسنجد أن اليهود كانوا قد أعدوا ثورة قبل الفتح الإسلامي ب 17 عاما أي عام 694م، ولكن المؤامرة كشفت واستمع الأساقفة الى بيانات بعض اليهود التي تتلخص في أن المؤامرة كانت ترمي الى تهويد اسبانيا، فاشتد غضبهم وصادروا جميع أملاك اليهود وحرموهم حريتهم، وجعلهم الملك عبيدا للنصارى بل ولأولئك الذين كانوا حتى اللحظة عبيدا لليهود ثم حررهم الملك، وفرض على السادة ألا يسمحوا لعبيدهم الجدد بممارسة شعائر الدين القديم (يعني اليهودية)، وأمرهم بانتزاع أبنائهم منهم حين بلوغهم السابعة من عمرهم،(فكيف يكون قد حررهم اذا!؟)، ثم ينشئونهم على النصرانية، كما حرم التزاوج بين اليهود بعضهم ببعض، فلا يستطيع العبد اليهودي أن يتزوج إلا من أمة نصرانية، ولا تتزوج الجارية اليهودية الا عبدا مسيحيا... هذه المراسيم قد طبقت بحذافيرها إذ لم يعد الأمر قاصرا هذه المرة على عقاب «الكفرة»، بل شمل المتآمرين الخطرين أيضا. ومن ثم ففي الوقت الذي غزا فيه المسلمون شمال أفريقيا الشرقي كان يهود اسبانيا يرزحون تحت نير شديد الوطأة قل أن يحتمل، فكانوا يتطلعون في لهفة الى لحظة خلاصهم، فلا عجب إن رأوا أن العناية الإلهية قد قيضت لهم منقذين هم الفاتحون العرب، الذين فرضوا عليهم جزية تافهة، وردوا عليهم حريتهم، وسمحوا لهم بممارسة شعائرهم. انتهى.
وهكذا يصرح دوزي أن الفتح الإسلامي كان خلاصا لفريق كبير من مسيحيي شبه الجزيرة الآيبيرية وخاصة أتباع آريوس ولليهود عامة، فتحريرهم الفعلي تم على يد المسلمين وليس على يد الملك كما بدا من تلك الجملة الغريبة عن سياق الكلام في المتن... والتي تتحدث عن أن الملك عاد فحرر اليهود.
ـ التحفيز العثماني للتكفير الغربي:
بناء على ما تقدم، لم تكن ردة الفعل الأوروبية بنفس القدر من الحدة والشدة في حالة الفتح الإسلامي، كما كانت في حالة الفتح العثماني. فالحملة الإسلامية الأولى كانت إنقاذية لمسيحيين ويهود. ثم تلاها حكم متسامح مع الأديان وبقي الكنيس والكنيسة مع المسجد في كافة أرجاء شبه الجزيرة الأيبرية، مما ساعد على توطيد دعائم الحكم الإسلامي، وإطالة أمده الى أن أفسده أمراء الطوائف من الداخل. وحتى في تلك الفترة المؤلمة من تاريخ الأندلس، لعبت تحالفات أمراء الطوائف دورا في المعادلة الأوروبية الداخلية، من خلال التحالف أو التخالف مع أطراف الصراع. و هذا يعني من منظار الجيوبوليتيك أن التعصب المسيحي حتى بعد الحروب الصليبية، لم يكن قد تمكن بعد من تحويل أوروبا الى دار الإيمان الخالص، في مقابل دار الكفر الذي هو العالم الاسلامي بالدرجة الأولى، ففي داخل أوروبا كان هناك حلفاء ومحايدون وخصوم. ولكن المعونة الأكبر للتعصب المسيحي جاءت من الفتح العثماني، الذي كان يعتمد فقط على قوة السيف، من دون أي التفات لأهمية استثمار الأندلس بوصفها قاعدة انطلاق لمشروع ثقافي اسلامي عابر للحدود. وإنه لمن المدهش بالفعل أن لا نجد أي مجهود فكري تبليغي منظم يقابل الجهود التبشيرية على مدى ما يقارب ستة قرون (1299م ـ 1923م) من الحكم العثماني.  لم يحصل ذلك، حتى في ذروة احتكاك الدولة العثمانية ديبلوماسيا مع الأمم الأوروبية، فيما كانت الديبلوماسية من أهم أدوات الاستشراق والغزو الفكري من جهة الغرب وهو بعد لم يدخل فترة التفوق والاستعمار.
إذا استحضرنا تلك الصورة، ألا يحق لنا أن نتساءل اليوم عن الدور الذي تقوم به «داعش التركية»، في دعم «الداعشية» الحاكمة في الغرب الحديث؟ وهل ما كان بالأمس غباء في فهم دور الثقافة لصالح السيف أصبح اليوم وظيفة ودور؟....
لقد انتهى الأمر مع مسلمي الأندلس تقصيرا على المستويات كافة الثقافية والعسكرية والسياسية، بسبب ما سمي آنذاك بحروب الطوائف، وتعبر شكوى العالم الأندلسي ابن حزم (456ه الموافق لسنة 1064م)عن الواقع المتدهور للمسلمين في وقت مبكر نسبيا، حيث قال وهو يشكو مماليك الطوائف: اللهم إنا نشكو اليك مشاغل أهل الممالك من أهل ملتنا بدنياهم عن إقامة دينهم، وبعمارة قصور ـ يتركونها عما قريب ـ عن عمارة شريعتهم اللازمة لهم في معادهم ودار قرارهم. وبجمع أموال ـ ربما كانت سببا الى انقراض أعمارهم وعونا لأعدائهم عليهم ـ عن حياطة ملتهم التي بها عزوا في عاجلتهم، وبها يرجون الفوز في آجلتهم([5]).
3 ـ من المفيد أن نشير الى أن أقدم ترجمة للقرآن وهي التي سبق ذكرها(سنة 1143م) اضطلعت بتقديم مضمون الفكرة ولم تكترث باسلوب الأصل العربي وصياغته. (ص13)، ثم برهنت النسخ التالية على رداءتها كما يبين فوك. ومن هذه الطبعة نبعت اقدم ترجمة ايطالية للقرآن (نشرها أريفابيني في سنة 1547)، وفي سنة 1616 ترجم سالمون شفايجر الى الألمانية عن الايطالية، وعن الألمانية الى الهولندية سنة 1641. ولم تتوار ترجمة روبرتوس عن الانظار الا بعد ظهور النسخة الإيطالية التي ترجمها ماراتشي في سنة 1698 والتي لا سبيل الى مقارنتها من حيث صحتها مع أي ترجمة أخرى قبلها.( ص20) .
مما يعني أن أوروبا المسيحية بقيت تتداول نسخة لاتينية رديئة الترجمة من القرآن الكريم _لا تكترث إطلاقا للإعجاز ـ وتعيد نقلها الى لغات اوروبية أخرى من النصف الأول للقرن الثاني عشر ولغاية أواخر القرن السابع عشر يعني حوالي خمسة قرون، وقد بدأت هذه القرون والمسلمون في الأندلس، وانتهت وقد طردوا  منها وذلك عام 1609م نهائيا. وللقاريء أن يقدر كم المغالطات التي تتراكم  في هذه المدة الطويلة، عندما يقارب المسيحي نصا مترجما للقرآن، وقد تلاعبت بمحتواه أيدٍ ملطخة بالعصبية العمياء.
أسئلة محيرة تستفز الباحث بعد هذه النكسة وهي: لماذا لم يتصدّ المسلمون لنشر كتابهم وترجمته في فترة ما سمي اوروبيا بحروب الاسترداد (ريكونكويستا)؟ هل استخف أصحاب الحضارة العظمى آنذاك بالسلاح الثقافي الأمضى في أيديهم؟ أم أن شعورهم بالتفوق خفف من حماسهم لهداية الآخرين؟. ومن جهة أخرى لماذا لم تحظ الأندلس بدعم عثماني في أوج انتصارات العثمانيين؟ لاحظ مشهدي الصعود والهبوط فيما ينقله فوك: مع حلول سنة 1353 أحرز العثمانيون موطيء قدم في البلقان، ثم وسعوا دائرة سلطانهم في غضون قرن واحد فقط حتى وصلت نهر الدانوب، واستولوا في سنة 1453 على مدينة القسطنطينية. بالمقابل كان الوجود الاسلامي في أسبانية يتراجع: سقوط إشبيلية في سنة 1248 وغرناطة في 2 يناير 1492 على يد فردناند الارجواني وإزابيلا القشتالية. (ص37ـ 38).
وهنا أيضا تفشل الإجابات التركية على السؤال الخاص بالعثمانيين. فبعد استنجاد مسلمي الأندلس بالسلطان بايزيد والمماليك بقيادة سيف الدين قائدباي قبل سقوط غرناطة سنة 1492م، أرسل العثمانيون قوة بحرية دون المستوى المطلوب، ثم عادت هذه القوة و اشتبكت مع الدولة الحفصية في تونس، مما كشف الهدف الحقيقي للحملة وهو الحرب مع المنافسين في داخل الأمة.  ولكن الخبر الأهم ـ  ونحن بصدد الحديث عن التعصب والتسامح ـ هو أن قائدبي المملوكي، أرسل آنذاك تهديدا شديد اللهجة الى الكنيسة الأوروبية وملوكها، يتضمن معاملة المسيحيين بالمثل، من قتل وتشريد واستبعاد كما يفعل الأوروبيون بمسلمي الأندلس، ولكن الكنيسة مضت في مجازرها ضد المسلمين لأنها على يقين أن إسلام قائدبي لا يسمح له بإساءة معاملة المسيحيين من مواطنيه.([6]) ولم يكن هذا اليقين الأوروبي ممكنا لو لم يختبر المسيحيون مقدار التسامح الإسلامي في فترة السيطرة الإسلامية على الأندلس. هذا من ناحية السياسة الدينية، أما من الناحية السياسية البحتة فقد كانت الحملة الصليبية الأولى (1096م ـ 1099م) قد فشلت، وكان للمسيحيين المشرقيين دور في فشلها، فلا يبعد أن يكون الموقف الأوروبي ـ كما هو الآن ـ هو دفع المسلمين لاضطهاد المسيحيين لتحضير البيئة المشرقية  للحملات الصليبية القادمة. يعني تقديم المسيحيين المشرقيين قربانا على مذبح الأطماع الأوروبية.
وفيما تظهر الوقائع اليوم أن الغرب الامبريالي لا يزال ينتهج السياسة نفسها، لا يسعنا الا أن نحمد الله على أن الوهابية (السلفية التكفيرية) لم تكن قد ولدت بعد، ومن ثمَّ لم يكن هناك تكفيرية إسلامية معتمدة كمذهب رسمي في العالم الاسلامي كما هو الحال اليوم في دول الخليج التي كان من شأنها ـ كما تفعل الآن ـ أن تكمل ما تفعله التكفيرية المسيحية الحاكمة في الغرب.... ومن التكفيرية الدينية الى التكفيرية السياسية لا يزال الغرب يعتمد استراتيجية إقصاء أي آخر وإلغائه وتهميشه، ولكن بوسائل أكثر تقدما. وكأن هذه الزاوية من العقل الغربي العدواني إزاء الآخر، لا تزال أسيرة «الجهل المقدس» الذي انتجته القرون الوسطى، وأعادت انتاجه الحداثة باجتراح  تنمية متغولة في المركز تعتاش من غنائم الحملات العسكرية وسفك الدماء، وحراسة التخلف ودعمه في الأطراف.
ـ 2 ـ
ريموندوس لولوس (1235أو 1232) التبشير والسيف
رأينا كيف كان بطرس المبجل مؤمنا بسلاح الكلمة والمحبة بعد فشل السيف، أما  ريموندوس لولوس (1235 أو 1232) هذا فيمثل في دأبه وعناده نموذجا متطورا لرجل دين يفكر بطريقة امبريالية، فحيث لا تنفع الكلمة فليكن السيف. وسنقوم بتحليل هذه العقلية الإمبراطورية بعد استعراض البطاقات الخاصة بسيرته.
أـ تعلم العربية من رقيق مغربي وأمضى تسع سنوات في الدراسة، ثم أصدر كتابا عن فن الحوار وسوق الأدلة باسم Ars major . ثم أقنع يعقوب الأول بانشاء مؤسسة لتثقيف مبشرين للعمل في مجال التبشير ضد الاسلام، وافتتحها لولوس بوصفه عضوا من الدرجة الثالثة وب 13 تلميذا من طائفة الفرنسيسكان في سنة 1267 في بلدة ميرمار. فالى جانب اللاهوت كان نزلاء الدير يتلقون بشكل خاص دروسا في العربية بكل مستلزماتها (ص28) .
بـ يصرح الجنرال الدومينيكاني هوما بيرتوس وهو احد الخبراء المسؤولين عن التبشير في كتابه : نبذة عن التبشير الصليبي في الوسط الاسلامي، أنه نادرا ما جرى تعميد أحد المسلمين، فإذا ما وقع فعلا، وهو شيء نادر الحدوث، فزوج من أسرى الحرب، ونادرا ما اصبح أحدهما مسيحيا مخلصا. (ص29 ).
ج ـ أشارت التقارير التي أوردها المبشرون والتجار الايطاليون، الى تسامح ديني تحت حكم التتار وأن وضع المسيحيين تحت امرة الخانات لا تدعو للقلق ابدا، وتبين كذلك، أن المسلمين، واليعاقبة، والنساطرة، واليهود، والبوذيين، كل يسعى الى كسب أنصار له تحت السيادة التترية. هنا وجد لولوس في ذلك فرصة فريدة سانحة، ليس للتبشير في المناطق التي يحكمها التتار فقط، بل محاولة كسب مسيحيي المشرق في اتحاد مع روما. ولم يقابل هذا الاقتراح بالترحاب... والتتار الذين عقد لولوس كل آماله على تنصيرهم، عقدوا أمرهم على عدم قبول المسيحية. وفي فارس اعتنق الخان الثالث أحمد تيكودار الإسلام لدى تتويجه لأسباب سياسية... إلى أن أصبح إسلام دولة المغول حقيقة واقعة بيد الخان قازان السابع (1296 ـ 1304). (ص31ـ 37).
د ـ في سنة 1291 التي خسر فيها الصليبيون عكا، سافر لولوس بنفسه من جنوه الى تونس التي كانت ملاذا للمسلمين الفارين من حرب الاسترداد في الأندلس، والتي كانت قد لعبت دورا مهما في المجال اللغوي بحكم موقعها الممتاز في المغرب العربي، واستضافت كذلك المسيحيين بسبب تجارتها النشطة مع الموانيء الأوروبية. وبعد وصوله، دعا فقهاء المسلمين الى حوار مفتوح معه، لم يتمخض، كما كان متوقعا، عن تنازل أحد الفرقاء للآخر. وأبعد لولوس عن البلاد فرجع الى نابولي. ص31 .
هـ ـ وفي سنة 1294 أوصى في كتاب قدمه الى كولستين الثالث: بتعليم المبشرين اللغات، وباعتماد اسلوبه في البرهان، و(الأهم) اتخاذ إجراءات عسكرية لاحتلال أرض الكفرة حسب قوله. وفي سنة 1307 اتخذ مبادرة جديدة لتجريب طريقته في المحادثة الدينية مع علماء المسلمين. وانتهى في مدينة (بوجيه) بالجزائر الى الفشل نفسه. وبرغم كبر سنه، سافر مرة ثانية الى تونس، وراح يعظ علانية، فأسيئت معاملته من قبل الجموع ومات متأثرا بجراحه في 29 يونيه 1316. ص32
وـ  أحد معالم ذكرى الدعوة الى الاشتغال باللغة العربية من قبل البعثات التبشيرية للمسلمين في القرن 13، معجم لمفردات العربية نشره (شيبا ريللي) في سنة 1881.... وحيث إن العربية في المخطوطة الوحيدة التي وصلت الى المؤلف، تشير بوضوح الى يد الكاتب نفسه الذي سجل سباب لولوس وشتمه للإسلام برسم قرآني، فتلك إشارة بنسبتها الى أوساط الطوائف التبشيرية وبالتالي الى القرن 13. وتشير الحواشي في الشروح اللاتينية الى شرق إسبانيا كمنشأ قطري. ص33 .
التعليق:
1ـ المسمى في النص عبدا مغربيا، كان في الحقيقة عالما، استخدمه لولوس للتمرن على مجادلة المسلمين. كما يروي ب.ش. فان كونينكسفلد في خطاب تقلده كرسي التاريخ الإسلامي في جامعة ليدن حيث يقول: من الجانب المسيحي كان هناك أيضا اهتمام كبير بالأسرى المسلمين العلماء الذين خبروا العلوم الدينية. كانت دراسة الإسلام والعربية تعتبر من الشروط اللازمة لتكوين المبشرين المكلفين بتبليغ تعاليم الإنجيل إلى الذين كان يــطلق عليهم «الوثنيون». لقد كان الرهبان الفرنسيسكانيون والدومينيكانيون بالخصوص نشيطين في هذا المجال، حيث أسسوا لأجل هذا الغرض مراكز تعليمية خاصة. ومن العلماء الذين لعبوا دورا مهما في هذا المجال العالم اللاهوتي الكتالوني ريموندس لولوس Raimundus Lullus الذي لقن مبادئ العربية والإسلام على يد عبد مسلم خلال سنين عديدة. يروى أن العالم العبد المسلم أنكر في حديث لـه مع لولوس ألوهية المسيح والأقانيم الثلاثة على وفق تعاليم القرآن، حينئذ رد عليه لولوس بالاستهزاء بالنبي محمد صافعا إياه على وجهه ورأسه وجميع جسمه. بعدئذ لم يجد العالم المسلم المغلوب على أمره إلا أن يتأسف على تعليمه العربية وتوضيحه القرآن والشريعة الإسلامية لريموندس لولوس. بعد محاولة فاشلة لقتل سيده وضع العبد المسلم في السجن حيث مات مخنوقا. إن هذه المأساة التبشيرية نجدها عند المتكلم اللاهوتي الكتالوني في سيرته الذاتية([7]).
تجرأ العبد المسلم على سيده القسيس وشكك بعقيدته، وعجز القسيس عن تنصير العبد المتفوق عليه حضاريا وثقافيا، فكان العنف جواب العجز ودائما هو كذلك. فليسمح لنا المصدر أن نشكك بمحاولة القتل لتبرير الضرب والسجن والقتل ولتحويل العبد المسلم من شهيد لحرية الرأي والاعتقاد، الى مجرم جنائي تمت معاقبته بما يستحق لأنه حاول قتل سيده. هذا في الواقع نمط دأب عليه المستشرقون ليس هنا محل تتبعه ولكن عموما وبشكل متكرر يدخل المستشرقون مبررات لأفعال الغربيين تجاه المسلمين للحؤول دون تكوين انطباع سيء عند المتأثرين بالخطاب الانساني... إن سيرة لولوس، وإيمانه بالسيف بعد فشل التبشير تعزز الاعتقاد بأنه قتل ذلك «الخطر الفكري» على خططه التبشيرية عن سابق تصور وتصميم.
2ـ تحت عنوان، الكنيسة تعتنق الامبراطورية (العقيدة اليهودية ـ المسيحية)، كتب روجيه غارودي: واقع الحال في 325م في نيقية، ليس قسطنطين هو الذي اعتنق المسيحية، وإنما الكنيسة ذات المناصب هي التي اعتنقت الامبراطورية، خضوعا لها باديء ذي بدء، وسيطرة عليها من بعد ذلك([8]).  ويستهل روبرت ليسي الباب الثاني من كتابه «المملكة من الداخل» بهذاالاقتباس عن المؤرخ إدوارد جيبون: العلاقة بين العرش والكنيسة وطيدة جدا الى الدرجة التي يندر فيها أن تقف الكنيسة في صف الشعب([9]).
ولذلك ليس من المستغرب أن نجد التبشير يؤسس للعدوان والاستعمار، والحملات العسكرية على الكفرة، بروح امبراطورية لا تمت الى السيد المسيح (ع) بصلة، حتى فيما نقله عنه المسيحيون أنفسهم. تجد هذه الحملات تبريرها فقط في عقيدة تم تحويلها الى «ايديولوجيا السلطة»، ففتكت اولا بمن لم يتبناها من المسيحيين ووسمتهم بالهرطقة، ثم تمددت على الطريقة الرومانية الوثنية الجذور واستخدمت العصبية الدينية لاضفاء طابع مقدس على حروبها. وبناء على ذلك فإن علينا أن نعيد النظر بتاريخ «علمنة» المسيحية ونؤرخ لها من مجمع نيقية سنة 325م، حين انتقل المشهد من اضطهاد وثني روماني يهودي للمسيحيين المؤمنين الذين كانوا يمثلون آنذاك دين التوحيد على الارض، الى حلف امبراطوري ـ كهنوتي ـ يهودي لاضطهاد المسيحية الحقة الممثلة باتباع آريوس أسقف الإسكندرية آنذاك. والذي لم تبق له الكنيسة الرومانية أثرا حتى أن كل ما نعرفه عنه اليوم هو من مصادر خصومه، ولكن الأهم تلك اللفتة الرائعة لغارودي التي تشير بوضوح الى استخفاف قسطنطنين بالإيمان الامبراطوري الذي سفكت دماء الناس من أجله، بما يعزز الاعتقاد بانها كانت عملية استغلال سياسي لا اكثر: وبلغ من ضآلة اهتمام الإمبراطور بأمر العقيدة أنه، بعد ثلاثة أعوام من نيقية، غيّر رأيه، وأعاد الاعتبار لأريوس وأنصاره. وراح يدعم مذ ذاك خصوم نيقية ولن يتعمد الا في 337م، عشية موته، وكانت عمادته على يد أسقف أريوسي!.([10])
3ـ من الواضح أن التبشير كان يعمل على خطين متوازيين: خط تنصير المسلمين و إخضاع الهراطقة المخالفين للكنيسة الرومانية في الغرب، وخط الاستفادة من التسامح الذي ساد عندما حسم المغول أمرهم واعتنقوا الاسلام لتنصير الشرق على حساب الاسلام والكنائس الشرقية. وفي الحالتين كانت الكنيسة الغربية ترفع رموز العنف ضد الآخر الى مستوى القداسة كما تشير كارين آرمسترونغ: فالملك لويس التاسع، الذي رسمته الكنيسة الكاثوليكية الرومانية قديسا... هو الذي أنشأ محاكم التفتيش الأولى لمحاكمة الهراطقة المسيحيين. فلم يكتف بحرق كتبهم فقط بل أحرق مئات من الرجال والنساء. كما كان يكره المسلمين كثيرا وقاد حملتين صليبيتين ضد العالم الاسلامي. وفي عهد لويس التاسع هذا كان الغرب المسيحي وحده من يرى ان من المحال التعايش مع الآخرين بينما لم يكن الاسلام يؤمن بوجهة النظر هذه([11]).
4ـ الارتباك الحاصل عند فوك في استخدام اسم التتار تارة والمغول تارة أخرى، لا يليق بمستشرق متعمق في مقامه، ولكن منشأه في الواقع، أن أصل التتار والمغول يعود الى أحد جدود التتار النجاخان وقد رزق بتوأمين تتارخان ومغل خان، وقد قام الصراع بين أحفادهما([12]). وكان ظهور التتار في القرن السادس الميلادي، وغلب عليهم إسم المغول في بداية القرن الثاني عشر ـ أي الفترة التي يتكلم عنها فوك ـ وأقرب الظن هو ان اسم المغول مشتق من كلمة  mongالصينية اي باسل وشجاع([13]). أما قصة اعتناق الخان الثالث للاسلام لأسباب يراها فوك سياسية، فلا تكفي لتفسير تحول المغول كشعب وقومية الى الاسلام، وهذه عقدة غربية من الاسلام، فاقمها تأثر بعض الذين شاركوا في الحملات الصليبية بالحضارة الإسلامية، والتحول المغولي الذي أكد أن الإسلام قد ينهزم عسكريا ولكنه يعود فينتصرثقافيا من داخل المخزون الالهي لرسالته.
ـ 3 ـ
بدايات الاستعمار أو «داعش» الإسبانية
تلقي البطاقات التالية أضواء على الجذور الدينية ـ الإمبراطورية لحركة الاستعمار، قبل الثورة الصناعية، وتنبهنا الى أن المقاربة التقليدية التي اعتمدت على ارتباط الاستعمار بالثورة الصناعية وحاجة الدول الغربية للأسواق، ليست كافية لفهم حجم العنف الذي مارسه الغرب وما يزال تجاه بقية العالم، فنحن بعين الغرب وقبل كل شيء «كفرة» مرة بالمسيحية ـ اليهودية ـ الرومانية التي كانت وما زالت دين الدولة هناك، ومرة بالعلمانية والنموذج الحداثوي المراد عولمته.
أ ـ  في بداية القرن الرابع عشر 1306م تحديدا كشف كتاب الناشر الفرنسي بيير دوبوا عن برنامج استعمار الشرق من قبل شعوب أوروبا المسيحية تحت إمرة المملكة الفرنسية. و المطالبة بتأسيس مدارس لغوية لا تعنى بتثقيف الموظفين والضباط والمترجمين والمفاوضين والمبشرين والأطباء، الذين تتطلبهم مثل هذه السياسة الاستعمارية فقط، بل فتيات اوروبيات أيضا، منهن على سبيل المثال اللاتي يتزوجن فيما بعد من قياديين شرقيين يجري إعدادهن لمستقبل حياتهن. ص36.
ب ـ داعش الإسبانية:
طمح الاب فرنشيسكو كسيمانس دي سيسنيروس( الذي كان في سنة 1495 أسقفا لمدينتي طليطلة وبريماس الإسبانيتين، وكان أبا لكرسي الإعتراف في المملكة) الى تحقيق الملكية المطلقة، وبدا للساسة الاسبان أن هذا الحكم لن يدوم الا على قاعدة عريضة من الايمان الكنائسي قدر الامكان. ولهذا فقد أيدوا كفاح الكنيسة ضد الهرطقة والالحاد. وقد طالب كل من فرناندو دي تالافيرا رئيس أساقفة إشبيلية وكسيمانس بحمل المسلمين على التنصر بالقوة. وعمما اعلانا يخير المسلمين بين التعميد أو الهجرة، وعلى أثر ذلك هاجر كثير من المسلمين الى أقطار إسلامية لا سيما الى المغرب المجاورة. أما الآخرون الذين امتنعوا أو تعذر عليهم ذلك، فقد قبلوا بالتعميد مكرهين وظلوا على ولائهم النفسي لدينهم الأول. وقد برر المسلمون هذا الرياء تحت شعار (التقية) التي كان يمارسها الشيعة بشكل خاص فيما بينهم من جهة ومع المعاصرين لهم من جهة أخرى. واستنادا الى رأي السنة، في أن الميزان الصحيح لكل تصرف إنما يخضع لنية الفاعل، وأن في القرآن الكريم ما يؤيد ذلك وهي الآية 106 من سورة النحل: «مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمانِ» ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم. وبتحفظ روحي شارك المسلمون المتنصرون ظاهرا المسيحيين شعائرهم، وشربوا الخمر، واكلوا لحم الخنزير، وزوجوا أبناءهم الذكور لمسيحيات وامتنعوا عن العكس، ثم ما لبثوا أن عادوا الى الإسلام تارة أخرى،... لكن الكنيسة عادت فحاولت التخلص من ظاهرة الاعتناق الشكلي للمسيحية بالاستعانة بمحاكم التفتيش التي تأسست في إسبانيا في سنة 1481 ولكن من دون أن يكلل ذلك بأي نجاح.... وجرت في جبال الأطلس عدة محاولات تمرد قمعت ولكن بصعوبة بالغة كما حدث في سنة 1570. كل ذلك أظهر أن سياسة التنصير ومحاكم التفتيش فشلت، وهكذا وجدت الدولة نفسها مضطرة الى اتباع أقسى الوسائل، فأجلت في سنة 1609 المسلمين كافة عن البلاد وتلك كانت نهاية الاسلام على شبه الجزيرة الأيبيرية. ص 39 ـ40.
ج ـ وضع بيدرو دي ألاكالا المعجم العربي بالحرف القشتالي، وأنجزه سنة 1505 في غرناطة بهدف استخدامه في الأوساط الإسلامية والمتنصرين حديثا في مملكة غرناطة من قبل المبشرين.... وقد ألحق بالقواعد نصوصا بطريقة نطق سكان غرناطة يحتاج اليها المبشر بشكل ملح. في البداية الصلوات المعهودة وعبارات الإيمان بالعقيدة، يتبعها الجزء المباشر وهو ارشادات بكيفية تعميد النصارى الجدد، مع اعادة كاملة لجميع مسائل التعميد باللغتين العربية والاسبانية. ص41
د ـ  لحسابات سياسية داخل فرنسا سعى شارل الأول لتعزيز العلاقات مع الدولة العثمانية العظمى التي كانت قد وصلت الى ابواب فينا سنة 1529، وفي سنة 1534، استطاعت بعثة فرنسية السفر الى القسطنطينية والحصول على الاستسلام المعروف، الذي يمنح السلطان بموجبه تابعه فرانس الاول الحق للإقامة في تركيا ومزاولة التجارة، والتمتع بحق الحماية القنصلية. وبغية تعزيز العلاقات تم تعيين علماء في البعثات المرسلة، وهكذا أرسل شارل الأول سنة 1534 أو بعد قليل، فلهلم بوستل لشراء مخطوطات شرقية، والى هذا تدين اوروبا بفضل قواعد اللغة العربية... استدل بوستل برفقة موسى المعلمي وهو يهودي كان يشغل وظيفة الطبيب الخاص للبعثة، استدل على المكتبة اليهودية حيث قرأ ( الزهار). لكنه اهتم بدراسة العربية بوجه خاص، وقد ساعده على دراسة نحوه استاذ تركي. ص48.
هـ ـ في سنة 1538 نشر بوستل كتابا عالج فيه الابجديات في لغات عدّة منها السريانية والعبرية والعربية. ويمتدح بوستل ثراء المصادر العربية: «لا أحد يستطيع الاستغناء عن طرق علاج وأدوية الطب العربية. وإن ما قاله إبن سينا في صفحة أو صفحتين يزيد على ما ذكره جالينوس في خمسة أو ستة مجلدات ضخمة». وبعد أن يبرز وجه القرابة بين العبرية والعربية التي تجعل التعلم سهلا جدا، يوجز الجدوى من معرفة اللغة العربية: بوصفها لغة عالمية، فإنها تفيد في التعامل مع المغاربة والمصريين والسوريين والفرس والترك والمغول والهنود. وهي لغة غنية بالمراجع، من يتمكن من إجادتها سيتسنى له اختراق سائر أعداء العقيدة المسيحية بسيف الكلمة المقدس ودحض حججهم بمعتقداتهم نفسها، والطواف حول العالم بلغة واحدة فقط». وقد ألف كتاباً باسم جمهورية الترك سنة 1543 أو 1540 وأُعيد طبعه تكراراً. (ص49).
التعليق:
ـ تسييس الدين بدل تديين السياسة:
1ـ  كان الدافع الديني حاضرا باستمرار في تحديد هوية العلاقة بين الغرب والشرق. وما حصل آنفا فيما سمي بعصر النهضة، هواعلان استسلام الديني للسياسي بعد أن كانت هذه العلاقة في تاريخ أوروبا تبرز  القس تارة وتارة الملك. أما وقد حسم الأمر لصالح السياسي فقد تم توظيف قدرة الكنيسة على التعبئة الدينية في علاقة تخادم يقرر السياسيون أوان تفعيلها ومجالات هذا التفعيل، ولا أدل على ذلك من تسمية ابرز احزاب اوروبا العلمانية باسماء دينية او عنصرية، لما لهذه العناوين من تأثير على الوجدان الشعبي والثقافة السائدة هناك. نعم يمكن القول إن التأثير اليهودي زاد قوة بعد انكفاء الكنيسة الى الظل، وشهد انتعاشا مع البروتستانتية، التي رافقت انشاء الولايات المتحدة الأميركية في العالم الجديد، وهناك نجد هالة القداسة التي منحت للآباء المؤسسين، واعادة توليف للتراث اليهودي ـ المسيحي في علمانية أصبحت مندمجة في هذا التراث لاقصاء المقدس الديني أو توظيفه لصالح المقدس الدنيوي.
وقد أفصحت الخلفية الدينية ـ بعد أن طعمتها الإنجيلية الصهيونية بجرعة زائدة من التهويد ـ عن وجهها بشكل سافر في الحملة الغربية على الإسلام بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، ما يزيدنا قناعة بأنها لم تكن غائبة يوما عن أصحاب القرار. ويكمن الفارق الأساسي بيننا وبينهم، في أن التكفير ظاهرة غريبة عن الإسلام إذا ما قورنت بما دأب عليه المسلمون في تاريخهم من حيث الامتداد الزمني عمقا، وجزيرة نافرة في بحر من التسامح الإسلامي من حيث الامتداد الجغرافي. فالاتجاه التكفيري والعنصري الحاكم في الغرب منذ قرون بأشكال مختلفة ، لم يتمكن من الوصول الى الحكم ويصبح مصدرا للقرار في العالم الاسلامي إلا في الحالة الخليجية، بل والسعودية تحديدا، وبرعاية وعناية خاصة من المستعمر البريطاني. حتى أن الجهود الهائلة التي بذلت لنشر السلفية التكفيرية على أنها «الإسلام» في أوروبا وأميركا الشمالية، تحت عين الدولة الأمنية الغربية، تشير بما لا يقبل الشك الى أن الغرب ـ الذي ساهم مباشرة في تخصيب بكتيريا الوهابية،  بالسلاح والدعاية والتدريب والتجهيز ضد الدولة العثمانية، ثم ضد العالم الإسلامي ـ قد اختار هذا الفهم المتخلف للإسلام فنصبه ملكا في جزيرة العرب ومنطلق الرسالة. فلقد فتح له المساجد والمراكز الدينية من جنوب اوروبا الى شمالها وصولا الى الولايات المتحدة الأميركية وكندا ، فلا يوجد في الغرب مسجد أو مركز إسلامي إلا وغزته الأدبيات الوهابية بكثافة مريبة. وهذه الكثافة الدعائية التي تدار بعقل غربي ومال سعودي ـ كما هو الحال في كل ما يحدث في الخليج ـ يمكنها أن تفسر لنا انضمام فئة غير قليلة من شباب الغرب «المتأسلم» الى تنظيم داعش اليوم، فبالنسبة لهؤلاء الضحايا _المحدودي الثقافة غالباـ هذا هو الإسلام كما تقدمه المراكز الإسلامية في عواصمهم... وما ذلك إلا لأن هذا الشكل الممسوخ والمغلق من الاسلام، يبرر العنف الغربي تجاه العالم الاسلامي من جهة، ويضمن من جهة أخرى بقاء العالم الإسلامي في حالة تشنج وتوتر وانقسام دائم في مواجهة قضاياه الملحة، وفي مواجهة الحملات الغربية، ولذلك سميناه بكتيريا الوهابية، لأن دور البكتيريا في الجهاز الهضمي والطبيعة هو تفكيك المواد العضوية وتحليلها باستمرار، فالحرب مع الوهابية هي إذا، أشبه بحرب بيولوجية مع كائن مجهري انتجته صحراء البداوة العربية وخصبته مختبرات الغرب المتقدم.... دهمنا في حالة نقص خطيرة في المناعة.
2ـ ومن الطبيعي أن ينتج عن تحالف الديني مع السياسي على الطريقة الرومانية، ما أسميناه «داعش الإسبانية» التي طمحت الى دولة نقية دينيا لا مكان فيها للمختلف، تماما كما تفعل نظرية الفوضى الخلاقة اليوم، غرب بلا مسلمين وشرق بلا مسيحيين لترتسم الحدود بين دار الكفر ودار الإيمان تمهيدا لمعركة نهاية التاريخ المسماة في تراث الإنجيلية الصهيونية «هرمجدون». أما محاكم التفتيش فقد استبدلت بتقنيات الارهاب الفكري في اعلام اليوم، وهي تقنيات فتاكة تؤدي الى ما يمكن تسميته بالإعدام الإجتماعي والمهني، وساكتفي هنا بعرض تجربة واحدة نراها تتكرر يوميا لأنها تعبر بوضوح صارخ عن حجم العنف الرمزي الذي يمارسه التكفير الغربي على من يخرج عن الخطاب الرسمي.
إنها تجربة كاتبة مقالات وروائية واسعة الإنتشار، هي سوزان سونتاغ التي مارست وطنيتها الأميركية على طريقتها، فتعرضت لأقسى حملات التجريح والتهديد حتى أجبرت على تراجع تكتيكي (تقية) تخرجها من تهمة التعاطف مع الإرهاب ضد أميركا « المقدسة» على إثر أحداث 11/9/ 2001، نعرضها بغض النظر عن شجبنا للعملية التي خدمت استراتيجيات أميركية معدة سلفا، مما عزز الظنون والشكوك بأن الإدارة فعلتها أو على الأقل سهلت إنجازها خصوصا أن سمفونية التحريض كانت جاهزة.
يقول بيترسكاون: «لم تتزحزح سونتاغ خلال الساعات الثمانية والأربعين الفظيعة الأولى عن شاشة السي. ان. ان في برلين، حيث كانت في ذلك الوقت، وأرسلت بعدها مقالا من مائة كلمة إلى صحيفة نيويوركر. كان ما كتبته، رد فعل متناقض عاطفي غاضب على التغطية السطحية والمستمرة، والسياسيين الأميركيين الإتهاميين، والإعلام، لتنفيذهم حملة لحشد الرأي العام وتساءلت: أين الاعتراف بأن ذلك لم يكن هجوما جبانا على الحضارة أو الحرية أو الإنسانية أو العالم الحر، بل هجوماً على من نصبت نفسها قوة عظمى للعالم، هجوما تم تنفيذه نتيجة للتحالفات والسلوك الأميركيين بشكل خاص؟ واضافت: إن الإجماع على الخطب المنافقة المخفية للواقع، من قبل المسؤولين الأميركيين ومعلقي الإعلام، في الأيام الأخيرة يبدو غير جدير بديمقراطية ناضجة. ثم استنتجت: لقد استبدلت السياسة بالعلاج النفسي...  وتابعت: فلنحزن معا بكل تأكيد، لكن دعنا من الغباء الجماعي. القليل من الوعي التاريخي قد يساعدنا على فهم ما حدث، أو ما قد يستمر في الحدوث. يتم إخبارنا أن بلدنا قوي مرارا وتكرارا، وأنا احد الذين لايجدون في هذا عزاء كليا، إذ من يشك في قوة أميركا؟ لكن ذلك ليس كل ما يجب أن تكونه أميركا.
كانت ردة الفعل سريعة ومتوحشة، لقبت سونتاغ بـ«الكارهة لأميركا» والبلهاء الخلوقة والخائنة، وأرادت صحيفة نيويورك بوست انتزاع أحشائها بحسب تعبيرها. ورأى معلق تلفزيوني أن من الواجب أن يلحق بها الخزي لآرائها المجنونة، وفي عقول نقادها مثل تشارلز كروثامر، كاتب نقابي في الواشنطن بوست، كان أكبر آثامها هو رفضها لأن تكون حاسمة بشأن الهجمات، وأنها سألت الأسئلة في وقت كانت قيادة الدولة تصر على سكوت طفيف([14])، انتهى.
أقول: سكوت طفيف يعني إما أن تركب الموجة وتعزف في سمفونية النظام الأميركي الحاكم أو تخرس، وبتعبير جان فرنسوا ليوتار:« كونوا جاهزين للعمل أي قابلين للقياس أو اختفوا([15]).
3ـ إن اعتماد التقية من قبل المسلمين السنة في اسبانيا ضد محاولات التنصير يدعم الرأي القائل بأن التقية مبدأ إسلامي عام لا يختص بمذهب دون آخر، بل هو مبدأ عقلاني عام يهدف الى حفظ الدماء والأنفس، وحفظ الهوية لنقلها الى الأجيال المقبلة التي ستتمكن بحكم سنن التاريخ من التعبير عن هويتها بظروف أفضل. ويلجأ الى التقية كل من يعيش تحت حكم ظالم حتى ولو تنكر لها في الظاهر أو سماها بأسماء أمنية وسياسية أخرى. ويظهر من النص أن فوك ككل غربي، قد تأذى من تقية المسلمين الإسبان ولذلك وسمها «بالرياء» وربطها بالآية القرآنية الكريمة، وكأنه يلمح الى أن القرآن والسنة تدعم هذا «الرياء» وتشرعه، وهذا إن دل على شيء فإنه يدل، على أن التقية فعلت فعلها بالعدو وحافظت في ظروف بالغة التعقيد على إسلام من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان. أما الاستدلال على مشروعية التقية في نظام الظلم والإكراه فيخرجنا عن نطاق البحث.
ـ العامية وحركة التغريب:
4 ـ من الملفت أن اهتمام المستشرقين بالعامية، قد ترك أثرا بالغا في حركة تغريب الشرق. فترى جمعا من دعاة التغريب وإن كانوا من كبار الأدباء العرب يسوقون مسألة استبدال اللغة المحكية باللغة العربية الفصحى، لتعطيل دور اللغة العربية بوصفها رابطة ثقافية بين العرب والمسلمين من جهة، ولإبعاد النص المقدس عن متناول الأجيال المقبلة. ولكن بقاء العربية لغة للتعليم في مصر وسوريا والعراق... حتى في مجال العلوم الحديثة شكل دفاعا مؤقتا عن مكانة اللغة يجب أن تدعم باستكمال تعريب العلوم وتدعيم اللغة في مختلف مجالات الحياة. كما علينا أن لا نغفل دور العامية في تقديم الشرق كجزر ثقافية مقطعة ليس بينها رابط قومي أو لغوي أو ديني مما يضعف من قدرتها على مواجهة الغزو الثقافي.
ثم أن الاهتمام بالعامية لتقريب المبشرين من الناس، في معاجم لغة عربية كتبت بالحرف القشتالي ومن دون تعمق بالعربية، كان يلبي حاجات المؤسسة الكنسية ولو على حساب اتقان العربية. وهكذا تميزت هذه المرحلة عموما بتوفير مادة عن العربية للطعن بالاسلام  حتى لو كانت دون المستوى،  لتكوين مصادر بحث تتجه بطالب العلم الى حيث تريد السلطة الكنسية والسياسية. وهذه السياسة لاتزال معتمدة حتى الآن من ناحية ضخ مادة هائلة عن قضايا الشرق تكرر وجهة النظر الغربية للمستهلك، الذي يعيش حالة شلل في الوعي تجعله مجرد متلقي لما يعرضه السوق. وتكفي إحصائية بسيطة لكم المعلومات التي يتم ضخها دوريا عن العرب والمسلمين لايضاح عمق تأثيرها على الوعي العام لقضايانا، فعلى مستوى الأخبار مثلا، تحدثنا الخطة الثقافية العربية الموضوعة من قبل المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم: ان وكالات الأنباء التي هي مصدر الخبر في العالم ، ليست مجرد وسائط لنقل الخبر ولكنها امبراطوريات كاملة واحتكارات دولية ضخمة  ، تستخدمها الدول الكبرى في تنفيذ سياساتها ، نشراً وهجوماً ودفاعاً ودسائس. فهي السلاح الرابع مع أسلحة البر والبحر والجو . وتحليل النظام الإحتكاري لعمليات جمع الأخبار واخراجها وتوزيعها يكشف ما يمكن ان يسمى (بامبريالية الأخبار). فمعظم أخبار العالم تجري صياغتها من خلال أربع وكالات للأنباء. اثنتان منها أمريكيتان ، والثالثة فرنسية والوكالة الرابعة بريطانية . ان معظم الأخبار الدولية عن العرب وعلاقاتهم الخارجية ، وأحداثهم الداخلية ، وأخبار العالم الاسلامي والعالم الثالث إنما تصاغ وتذاع ويعرفها الناس عبر هذه الوكالات الأربع وهي التي تقوم بغربلتها واختيارها وتكوينها وتغليفها وترتيب اذاعتها العالمية بالأشكال والصيغ والمضامين التي تنسجم مع مصالح الإحتكارات العالمية الضخمة القابعة وراءها. هذا التشويه الخفي الذكي يجري تشربه واعادة عرضه من قبل أجهزة الإعلام العربية والاسلامية ودول العالم الثالث. وبمعنى آخر فان الأمور تسير في مجرى وحيد حيث تقوم وكالات الأخبار الغربية هذه بتفسير الأخبار وتحميلها قيماً معينة تضفي عليها طابع الحقائق ، مستمدة ذلك من السلطة التي تتمتع بها هذه الشركات . وبعد ذلك تقوم هذه الوكالات بتغذية هذه الأخبار وبيعها للعرب ، ووسائل الاعلام الأخرى.
إن وكالات الأخبار الغربية الأربع ترسل أكثر من 24 مليون كلمة في اليوم الواحد وتنتج تسعة أعشار مجموع المواد الأخبارية في العالم غير الشيوعي من خلال الجرائد ومحطات الراديو والتلفزيون. وتشترك هذه الوكالات الأربع مع 120 وكالة أخبارية أخرى في صنع مجموع المواد الأخبارية العالمية. وفي الوطن العربي اليوم ، شبكة عربية كاملة من الوكالات المتخصصة بجمع الأخبار في الوطن العربي ولكن امكانياتها متواضعة للغاية بالقياس الى الوكالات الكبرى([16]).
إذا أخذنا بعين الإعتبار أن هذه الخطة، كتبت قبل سقوط الاتحاد السوفيتي، وأضفنا اليوم طفرة الأنترنت، ووسائط التواصل الإجتماعي، والحملة العالمية على الإسلام، ومراكز الدراسات التي أنشئت خصيصا لهذا الغرض فإننا نصبح أمام أرقام فلكية من المعلومات. وهي حالة تحتاج الى جيوش من الباحثين لقراءتها وغربلتها وتنقيتها والرد عليها بكافة اللغات الحية في العالم. هذا فضلا عن ضرورة بناء شبكة معلومات اسلامية مستقلة، تملك من الموارد البشرية والمالية ما يضاهي عالم صناعة المعلومة عندهم. ولا تشكل الفضائيات الإسلامية والعربية الأصيلة اليوم على أهميتها إلا قطرة في هذا البحر، أما الأخريات فهي شبكات غربية السياسة والعقل عربية اللغة ولها ما يماثلها في لغات القوميات الإسلامية الأخرى.
ـ 4 ـ
1ـ إذا اتفقنا أن العنف هو كل محاولة لإكراه أو تطويع أو إقصاء أو إلغاء الآخر بالقوة الفيزيائية أو الرمزية أو المعنوية، فالغرب كله عنف، ولهذا العنف جذور في تاريخه العسكري والديني والثقافي وفي عنصريته، لا تزال تصلح مرجعا لتفسير سلوكه العدواني تجاه العالم عموما والعرب والمسلمين خصوصا.
2 ـ يكمن الفارق الكبير في صراعنا معه، في منظومة السيطرة التي يفرضها على ضحاياه، وهي منظومة متكاملة. فهو عندما يؤسس لحملة عسكرية ثقافيا لا يتوقف بعد انتصاره العسكري عند حدود هذا الانتصار، بل يعيد انتاج منظومة السيطرة في كافة المجالات الفكرية والثقافية والاقتصادية والدعائية هادفا الى زرع التبعية في الوعي والسلوك واللغة والقيم حتى تتحول الضحية الى خادم لمصالحه حتى بدون تدخله. فيما اكتفى العثمانيون تاريخيا بالبعد العسكري وأهملوا البعد التبليغي الثقافي في ذروة قوتهم فتم تفريغهم من الداخل. وهذه اللوثة العثمانية لاتزال تتكرر في تعاملنا مع انتصاراتنا المحدودة التي تعتبر في مسار هذا الصراع مجرد جولة في معركة متعددة الأبعاد ومفتوحة الآفاق.
3ـ إن مكانة الاستشراق في صناعة الشرق الملائم للمصالح الغربية قد شهدت تطورا على الأسس القديمة نفسها. ولا تزال نتاجاتهم الحديثة والقديمة فاعلة في العقل السياسي الغربي بل موظفة في خدمته.
وهكذا فإن الرد الاستراتيجي الطويل الأمد، يكمن في ضرورة توفير مادة ثقافية وفكرية إسلامية أصيلة وغزيرة، وبثها في شرايين عالم الكتب والمعلومات بكافة اللغات الحية، وتبرئة الإسلام من جرائم الوهابية التي تحتل المشهد الاعلامي في العالم اليوم. وذلك من دون التخفيف من أهمية أي جهود سياسية أو اقتصادية او اجتماعية او علاقاتية، تبرز فرادة هذا الدين وعظمته، التزاما بمبدأ النهوض التكاملي كشرط لنجاح المواجهة الناعمة حضاريا.

*  هوامش البحث  *
([1]) نجيب العقيقي: المستشرقون، دار المعارف بمصر، ج1، ط3، 1964.
([2]) راجع، برنار لويس: أين الخطأ؟ التأثير الغربي واستجابة المسلمين، تقديم ودراسة رؤوف عباس، ترجمة محمد عناني، إصدارات سطور، جمهورية مصر العربية،ط1،2003.
([3]) روجيه غارودي: الإسلام في الغرب، قرطبة عاصمة العالم والفكر، ترجمة ذوقان قرقوط، دار دمشق، ط1، 1995، ص11_16 بتصرف.
([4]) رينهارت دوزي: المسلمون في الأندلس، ترجمة وتعليق حسن حبشي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، بدون ط، تاريخ مقدمة المترجم 1994، ج1، ص 39_40. وما بين هلالين من توضيحات المعلق.
([5]) محمد عبد الرحيم الزيني: الاستشراق اليهودي، دار اليقين، مصر، ط1، 2011، ص15.
([6]) راجع: ستار تايمز: www. Startimes.com ، لماذا لم تقم الدولة العثمانية بمساعدة مسلمي الأندلس؟
([7]) ب.ش. فان كونينكسفلد: من نص الخطاب الافتتاحي لتقلد منصب أستاذ كرسي للتاريخ الديني للإسلام في غرب أروبا. ألقي في جامعة ليدن بتاريخ 4 فبراير 1994.
http://www.geocities.ws/cuadernosdelnorte/dossmedkonicsfld.html
ذكر هذا الحدث المأساوي الفنان الفرنسي طوماس لوميزيي Thomas le Myésier  من القرن 14 في كتابه: Lullus Breviculum الذي يتضمن ترجمة حياة ريموندس لولوس في شكل مسلسل هزلي من القرون الوسطى. .
([8]) روجيه غارودي: الإرهاب الغربي، ترجمة سلمان حرفوش، دار كنعان، دمشق،طبعة خاصة 2014،ص141.
([9]) روبرت ليسي: المملكة من الداخل تاريخ السعودية الحديث، ترجمة خالد بن عبد الرحمن العوض، مركز المسبار للدراسات والبحوث، دبي، الإمارات العربية المتحدة،ط1، يناير (كانون الثاني) 2011، ص211، والاقتباس يشير الى أن علاقة المؤسسة الدينية في المملكة شبيهة بعلاقة الكنيسة بالامبراطور الروماني.
([10]) روجيه غارودي: الإرهاب الغربي، م.س.، ص133.
([11] كارين آرمسترونغ:الإسلام في مرآة الغرب، ترجمة محمد الجورا، دار الحصاد، دمشق، ط1، 2002، ص21 ـ22.
([12]) حسن ابراهيم حسن: تاريخ الإسلام، ج4، ص131.
([13]) الباز العريني : المغول ، بيروت : دار النهضة ، 1986، ص 39-40.
([14]) بيتر سكاون: أميركا الكتاب الأسود، الدار العربية للعلوم، بيروت، ص20ـ 22 بتصرف.
([15]) جان فرنسوا ليوتار: الوضع ما بعد الحداثي، دار شرقيات، بيروت، ص24.
([16]) المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم:  الخطة الشاملة للثقافة العربية، ص 309.
***