البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

إستشراق مستحدث «الإسلاموفوبيا» بما هي أطروحة إيديولوجية ما بعد حداثية

الباحث :  محمود حيدر، باحث في الفكر الفلسفي والاجتماع الديني - لبنان
اسم المجلة :  دراسات إستشراقية
العدد :  3
السنة :  السنة الثانية - شتاء 2015 م / 1436 هـ
تاريخ إضافة البحث :  August / 15 / 2015
عدد زيارات البحث :  2409
تحميل  ( 991.5 KB )
إستشراق مستحدث «الإسلاموفوبيا»
بما هي أطروحة إيديولوجية ما بعد حداثية

محمود حيدر(*)

تمهيد:
إذا كانت «الاسلاموفوبيا» قد استؤنفت في الغرب مع ابتداء الألفية الميلادية الثالثة، فذلك لا يعني انها عادت لتواصل حركتها إثر وقوف. فإنها على امتداد قرون سلفت ما فارقت عقل الغرب وروحه، ثم أخذت تنشئ لكل زمن لغته الرمزية وخطبته المناسبة. ولو صرفنا النظر عما إذا تمظهرت (الإسلاموفوبيا) في الماضي بنفس مسمَّاها المعاصر أم لا، فليس في الأمر من شكٍ بظهورها كحقيقة سارية في مسار التناظر السلبي بين الإسلام والغرب. كانت صورتها تظهر وتخبو، تبعاً لسيرورة هذا التناظر. أما حاصل الصورة فعلى وجهين متعاكسين: وجهُ غربٍ لم يفارق لاهوته الديني قط، ووجه شرقٍ لم ينفك الدين في أرجائه، عن كونه ماهية إيمانية وهوية حضارية وأسلوب حياة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) باحث في الفكر الفلسفي والاجتماع الديني ـ لبنان

بهذه المثابة لم تكن لازمةُ الخوف من الإسلام، لا سيما لدى الغرب المشبع بلاهوته الديني، سوى استظهار لسياقٍ تاريخي محموم إزاء الشرق المسلم. من أجل هذا سينبري المحققون الى رؤية «الاسلاموفوبيا»، بوصفها أفقاً استشراقياً واجراءً استراتيجياً في الآن عينه. أي انها ـ بالنسبة الى الغرب ـ مفهوم وموقف، تتشكَّل بهما، ويمنحانها خصوصيتها وفرادتها. ربما لهذا الاعتبار بدت حركة الاستشراق بنسختها النيو ـ أمبريالية أكثر شمولاً وسعة وإحاطة بفضاء الجغرافيا الإسلامية. إذ عند كل طور من أطوارها لا تعود معها مشاغل المستشرقين مجرد سفر عارض، غايتهم فيه التعرُّف على أحوال العدو بالتحرِّي والاستكشاف. بل صار فعلاً ميدانياً ينعقد فيه لاهوت الدين بلاهوت الثقافة والحرب والسياسة، ثم ليتلاقى فعل الكل في مضمار واحد.
تلقاء ذلك، يصير ممكناً النظر الى «الاسلاموفوبيا»، بما هي ظاهرة استشراقية ما بعد حداثية لا تُدرس أو تعاين بمعزل عن الحركة التي تحكم منطق العلاقة المتأخرة بين الغرب المسيحي والشرق المسلم. سوى ان الأهمية المعرفية لمعاينة تلك الظاهرة، تكمن في تزويد الاستشراق المعاصر بسعة أفق تجعله يتعدى إطاره المدرسي، وتعريفاته الكلاسيكية المألوفة...
***
في هذا البحث، نسعى الى مقاربة مفهوم «الإسلاموفوبيا» كظهور مستأنف من ظهورات الاستشراق الما بعد حداثي. سوف نحاول في أثنائه معاينة المصطلح في حقله الدلالي واستعمالاته المتعددة في الميادين النظرية والعملية، ولا سيما بعد التحول الكبير الذي أحدثته التفجيرات الانتحارية في 11 سبتمبر 2001 حيث دخلت أطروحة الخوف من الإسلام، بقوة في نطاق التوظيف الإيديولوجي الغربي.
1
حاضرية الإسلام وتريُّب الغرب
منذ الارهاصات الأولى لنهضة الغرب، قبل نحو أربعة قرون، أخذت تنمو سيرورة اللقاء بالإسلام. غير أن هذه السيرورة طُبعت على مآلات سالبة من أوّلها. ولقد رأينا كيف أنها ستنتهي الى ضربٍ من لقاء، تبيّن انه لن يُعقد البتَّة على النحو المرسوم له، إلا على أرض الزّيغ والكمون. كان على الغرب الذي حمل حداثته الفتية لينشرها على الملأ، أن يلتقي بالإسلام لقاء الحاكم بأمره. كأنما قُدِّر للغرب وهو في حداثته الأولى، ألّا يرى الى جغرافية الإسلام، إلّا كمتّسع مديد، يزخر بقابليات التلقّي والتمثّل والاستلاب.
مع الاستيلاد المستحدث لمقولة «الخوف من الإسلام»، سوف تستعاد ثنائية «إسلام/ غرب» لتُرجِعَ النقاش الى نشأته الأولى. وعلى الرغم من تقادم الزمان على تلك الثنائية، فهي لا تزال حيَّة تسعى. تفعل وتنفعل، وترسم وجه العلاقة التبادلية وحدودها. ناهيك عن انها أكثر أطروحات الزمن الحديث مثاراً للجدل. لا يعود السبب إلى سوء الفهم بين الطرفين وحسب، بل أن سوء فهم الغرب للشرق هو في الواقع وليد ضديّة حضارية وثقافية، وجدت بدايتها الفعلية مع صعود دولته القومية، واستشراء غريزة التّوسع. الأمر الذي أوجب عقلاً استعلائياً يرى الى الغير كحقل اختبار، ويتعامل معه كامتداد لأغراضه ومطامحه.
بإزاء الحال، لم يكن لجغرافية الإسلام الماثلة في عين الغرب كامداء مترامية، إلّا أن ترد الفعل بفعل معاكس. وهو ـ ردُّ فعل غالباً ما كان لونه ـ بحكم ميزان القوة، وتقنيات السيطرة الجائرة، جواباً ارتدادياً فظيع الأثر. فلقد ترتب على جوابٍ كهذا، نشوء منظومة مفاهيم ومعارف، وثقافات، لا تستوي إلّا على حدِّ الرفض والاختصام.
لم تشهد سيرورة «اللقاء اللدود» بين الإسلام والغرب أي انقطاع. فعلى الرغم من الحروب الضروس، والهُدَن المتواترة، والتسويات الموقوفة، رَسَتْ خطوط العلاقة على نحو ما من التواصل. غير أن تواصلاً كذاك، ما كان ليأتي على أجنحة المصادفة. لهذا السبب سنجده مقيماً على نصاب التريُّب الأقصى. وما ذاك إلا بسبب من حاضرية الاسلام ووعوده، وسط عالم يعيش خواءه وفوضاه وحروبه المجنونة. ربما من أجل هذا، مِلْنَا الى القول: إن ظاهرة «الاسلاموفوبيا» ـ في مثل هذه المنزلة ـ ليست سوى التمثيل الما بعد حداثي للاستشراق الايديولوجي المستحدث([1]).
إن قولاً كهذا، لا يلبث أن يستعيد الجدل حول ثنائية إسلام/غرب، ولا سيما لجهة التساؤل حول الصوابية المنهجية في مقاربة مفهومين غير متكافئين. مرجع الأمر ـ كما يلاحظ مشتغلون في الفلسفة السياسية المعاصرة ـ الى عدم استواء التناظر بين مفهوم يحيل الى عقيدة دينية وَحْيانيَّة هو الإسلام، ومفهوم آخر يشير الى  فضاء جغرافي جهوي هو الغرب([2]).
ومع أن صيغة الجمع بين طرفي هذه الزوجية، هي صيغة غير قابلة للاستواء على المستوى النظري المجرد، إلا أنها تبدو منطقية لو عاينَّا موقعية الغرب بوصف كونه جغرافيا طبيعية، وقيمة حضارية وسياسية وثقافية، ولاهوتاً دينياً في الآن عينه. ولنا أن نستدل على مثل هذه المعاينة من خلال ما اتخذته منزلة الدين المسيحي في التأسيس التاريخي لولادة الحداثة.
لقد جرى سؤال الدين على لسان الغرب مجرى خطاب الحداثة برمته. فلو اختبرنا شطراً منه، لاسيما الفلسفي والسوسيولوجي لعثرنا بيسر على أصله الديني. كما لو كان من أمر الحداثة لكي تكتسب شرعيتها الأخلاقية أن تتخِّذ لنفسها سبيلاً للاتصال بالمتعالي قد يكون هذا هو الحافز الذي حمل العقل الغربي على أن يتعامل معها في كثير من مواقفه الفلسفية، بوصفها ميتافيزيقا رغم دنيويتها الصارمة. كذلك فعلت الكانطية لمّا عقدت الصلة بين العقلاني والأخلاقي وأقامتها على نصاب الاعتدال والتناسب. فالحداثة من قبل أن تشرع سيوفها شرعت أسئلتها. وهي أول ما سألت، ساءلت الكنيسة كخصيم لها بلا هوادة. لكنها حين مضت في السؤال لتمنح نفسها بعض اليقين، هبطت إلى عمق الزمان الديني. بدت الحداثة حين فعلت هذا، وكأنها تصدر عن روح ميتافيزيقية. ربما لأنها لم تعثر على سبيل إلى اعتلائها الأرضي إلا في تاريخ الدين. أو لأنها أرادت بالفعل أن تستحلّ هذا التاريخ لتقوم مقامه، حتى ولو قُضي الأمر على أبحر من الموتى.
منشأ سؤال الحداثة الغربية من هذا الوجه، جاءنا ميتافيزيقياً. ـ وعلى ما ذهب الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر ـ فإن كل سؤال يجيء على هذا النحو يحيط دائماً بمجمل إشكالية الفضاء الذي منه جاء، ويكون في كل مرة هو هذا المجمل نفسه. وإذاً ـ يضيف هايدغر ـ لا يمكن لأي سؤال ميتافيزيقي أن يُطرح، من دون أن يكون السائل، بما هو سائل ـ مُتَضمَّنا ـ هو نفسه في السؤال. أي عالقاً في هذا السؤال([3]).
لم تغادر المسيحية هواجس الحداثة الغربية وأسئلتها الكبرى. حتى الدولة العلمانية ستحظى بعنايتها وإن بدرجات متباينة، خلال فترات تاريخية معينة. كأنما قدرٌ قضى أن يكون اللاهوت المسيحي شريكاً فعلياً للعلمنة بغية تحصين جغرافيته الحضارية. حتى لقد بدا وكأن كل تجاوز مفترض يمكن ان تجريه الحداثة لتحقِّق تقدمها، ينبغي ان يعثر على مشروعية دينية.
فالدين ـ على ما يبين فلاسفة التنوير ـ لم يكُف عن كونه وظيفة أبدية للروح الإنساني. وعليه، سوف ينبّه هؤلاء إلى ضرورة ألاَّ تتنازل الفلسفة يوماً عن حقّها في بحث المشكلات الدينية الأساسية وحلها. كان فيلسوف الدين الروسي نيقولا برديائيف Berdyaev، يؤكد على هذا في مطالعاته. وقوله بيَنٌ من هذا الوجه: إن «لليقظات الفلسفية دائماً مصدراً دينياً. وإن الفلسفة الحديثة عموماً، والفلسفة الألمانية خصوصاً، هي أشدّ مسيحية في جوهرها من فلسفة العصر الوسيط... فلقد نفذت المسيحية إلى ماهية الفكر نفسه ابتداءً من فجر العصور الحديثة»([4]).
لعل ما يشير الى سَرَيان المسيحية في عمق النقلات الحضارية الكبرى للغرب هو ما تنبَّه إليه الفرنسيون باكراً غداة ثورتهم العظمى. فقد وجدوا ان انتصار الجمهورية على الكنيسة كان أشبه بانتصار فرنسا على نصفها الآخر. وبالطبع ما كان لمثل هذا الاستدراك ان يحصل لو لم يكن الروح الديني المسيحي حاضراً حضوراً جوهرياً في بنية الحداثة الغربية، ومتضمَّناً فيها. بناء على مشهد الحضور هذا يصير الكلام على الغرب كمقولة دينية من نحوٍ ما، عنصراً محورياً يمنح المشروعية المنهجية لإجراء التقابل بين الإسلام والغرب.
ربما من هنا أمكن فهم المغزى من تظهير الغرب لأطروحة الخوف من الإسلام. لا سيما لجهة النظر اليها كمزيج مركب من الدين والتاريخ الثقافي والاجتماعي والمصالح الاستراتيجية، وبالتالي استخدامها على هذا الأساس. بهذا المعنى ـ على سبيل المثل ـ لم تكن أطروحة صامويل هاتنغتون، حول صراع الحضارات، واطروحات أخرى مشابهة، سوى مثال متأخر على مثل هذا التظهير الذي تترجمه المتاخمات الدامية بين الإسلام ومطامح الغرب العابرة للحدود.
2
المفهوم في نشأته مقاصده ودلالاته الاصطلاحية
حال «الإسلاموفوبيا» في فضاء التعريف، كحال سواها من المفاهيم. لا بد من أن ينالها شيء من الغموض والإبهام. والأسباب في ذلك شتى، أخصُّها أصل الولادة والنشأة وكثرة المشتغلين في حقولها.
بصدد مجال بحثنا هنا، يشير الدارسون الى أن النشأة الأولى لمصطلح «الإسلاموفوبيا» في الأدبيات والكتابات الغربية تعود الى عشرينيات القرن الماضي، حيث استخدمه مستشرق ولاهوتي  بلجيكي هو هنري لامانس ـ الذي عاش في لبنان لسنوات ـ وذلك في سياق كتاب له عن النبي محمد 9. ورد  أيضاً في كتاب للرسام الاستشراقي الفرنسي ايتيان ديني بعنوان: «الشرق كما يُنظر اليه من الغرب».([5]) 
وبحسب النحَّاة وعلماء النفس، يُنظر الى مصطلح «الاسلاموفوبيا» على انه حاصل جمع لمفردتين: الاسلام، و«فوبيا». وهو مصطلح ذو جذور إغريقية، ودلالته الخوف غير المبرر. ويترجم بـ«الرهاب» على وزن «فعال» وهو حسب الطب النفسي المصطلح الخاص بالإمراضية. غير ان الأبعاد السياسية لمفهوم «الاسلاموفوبيا» بدأت تتبلور منذ أواخر السبعينيات وبداية الثمانينيات من القرن الماضي أثر بروز ظاهرة «الاسلام السياسي» في العالم العربي والاسلامي، وخاصة بعد الثورة الإسلامية الإيرانية عام 1979. وقد تزايد الاهتمام الغربي بدراسة تنامي الصعود السياسي للتيارات الاسلامية خلال العقدين المنصرمين. وقد ارتبط مفهوم «الاسلاموفوبيا» في الكتابات الغربية بمجموعة من المسلمات المسبقة والسلبية عن الاسلام والمسلمين. وبخاصة بما كشفت عنه الصورة النمطية الهوامية التي بدأتها البيروقراطية الأمنية والسياسية البريطانية عبر لورنس العرب وملاحظاته. ثم أكملتها نظيرتها الاميركية في سياق عملها على رسم قوالب نمطية للأمم والشعوب بهدف وضع قوالب سلوكية للتعامل معهم. وتجدر الاشارة هنا الى ان معظم علماء النفس والانثروبولوجيا الذين رسموا هذه القوالب كانوا من اليهود المهاجرين من المانيا هرباً من النازية. ولعل سبب شيوع «الاسلاموفوبيا» وغلبته يعود الى انه يبرر العداء للإسلام دون الاعتراف به. والآلية المعتمدة في ذلك تقوم على تحويل العداء للإسلام من مظهر تمييزي، الى رد فعل مَرَضي  ناجم عن ممارسات ومظاهر اسلامية متعارضة والقيم الغربية، بدءاً من الحجاب ولغاية حوادث 11 سبتمبر([6]).
لدينا الآن، طائفة من القراءات التي عاينت الإسلاموفوبيا كظاهرة عابرة للحدود، وهي قراءات يمكن اجمالها بأربع على النحو الآتي:
< >    القراءة الاولى: إيديولوجية توظيفية:منطق هذه القراءة يقول ما يأتي: إذا كان التوليف اللغوي لمصطلح «الإسلاموفوبيا» يصدر ـ كما مرّ معنا ـ  عن مقاصد مسبوقة بأحكام القيمة، فمن البداهة أن يعكس الحال المرَضَية للبيئة التي صدر منها. وإذاً فهو تعبير عن خوف مَرَضيِّ تجاه الإسلام. ثم إنه لا يقتصر على حالات فردية، وإنما يتعدى ذلك ليستشري في فضاء حضاري لديه القابليات النفسية والثقافية والمعتقدية للانخراط فيه. وإذ يتخذ الخوف الـمَرَضي من الاسلام بعداً سوسيولوجياً في فضاء الغرب، فلأنه بات موضوعاً محورياً في مشاغل النخب الفكرية ومواقع القرار السياسي والأمني عبر الإعلام الوَرَقي والتلفزة الفضائية والإعلام الالكتروني. فالتصنيع الايديولوجي للمصطلح أدى عملياً الى انقلاب في المعنى: حيث تحول من مجرد خوف متأتٍ من الذاكرة الثقافية المشحونة بمشاعر سلبية حيال الإسلام، الى تخويف يجري تصنيعه بعقل صارم، ثم ليوظَّف في إطار استراتيجيات الهيمنة  الشاملة.
عند المستشرق الالماني غيرنوت روتر، يُنظر الى الاتهام الدائم الذي يوجهه الغرب الى الاسلام بأنه دين عدواني، على انه نفاق صرف. وفي كتابات المتشددين المسلمين تقلب هذه التهمة أيضاً وتوجه الى الغرب. ويتم تبرير ذلك في أغلب الأحوال بحقائق تاريخية محددة، بداية من الحروب الصليبية، ومروراً بالقضاء على المسلمين واليهود في إسبانيا وطردهم منها، وصولاً الى عصري الاستعمار والانتداب، وانتهاءً بتأسيس دولة اسرائيل (التي ينظر إليها على أنها وليد الاستعمار الغربي الحديث)، ناهيك عن سياسة الاقتصاد العالمي التي توصف بأنها استغلالية وامبريالية، والتي يمارسها الغرب بمساندة بعض الحكومات التابعة له في الشرق الأوسط([7]).
على هذا النحو فإن المخاوف التي يسوّقها العقل الغربي هي ـ حسب روتر ـ مخاوف مصنَّعة ويتم ترويجها عن قصد، في حين تقابلها مخاوف المسلمين من التهديد المستمر من قبل الغرب. فإذا استعرضنا تاريخ القرن العشرين بالذات والظروف السياسية الخاصة بسياسة القوة، سنجد أن الخوف في الحالة الثانية له ما يبرره لأن التهديد فيه حقيقي. فيما يصاحب الإحساس بالتهديد المادي، إحساس آخر قوي بالتهديد المعنوي من جانب الثقافة الغربية. ويقابل الوهم الغربي القائل بعدم عقلانية الشرقيين، وَهْمُ المتشددين الإسلاميين القائل بالانحطاط الروحاني للغرب. وهنا بالذات تكمن ضرورة التمييز بوضوح بين الاكتشافات الخاصة بعلوم الطبيعة، والتي لا ينظر اليها إلا باعتبارها امتداداً منطقياً للمعارف والعلوم التي ورثها الغرب عن عرب القرون الوسطى، وبين الفكر المادي الصرف الذي يُنظر إليه على أنه فكر «منحط»، وليس دينياً، بل انه ضد الدين، وما يتبع ذلك من الإعلان عن انحلال المعايير الأخلاقية في الغرب([8]).
< >   القراءة الثانية: ثقافية حضارية:وهي تعدّ الخوف والمصطلح المشتق عنه انعكاساً لمشاعر سلبية عميقة مدفونة في وعي المواطن الغربي ضد الإسلام والمسلمين، وتعبير عن تحيز تاريخي وثقافي ضد الإسلام كدين وضد المسلمين وحضارتهم الإسلامية. وهي قراءة منقوصة لأن الثقافة الشعبية في الغرب تقرأ كلمة «يهودي» على انها كل ذلك مضافاً اليها الخبث والعدوانية والميل للخيانة والتآمر. حتى ان هذه الدلالة لكلمة «يهودي» كانت موجودة في الموسوعات الغربية الكبرى وتم سحبها في السنوات الاخيرة بعد احتجاجات يهودية مكثفة. لكنها باقية في اللاشعور الغربي.
< >   القراءة الثالثة: حَدَثية صادمة:وهي تربط الاسلاموفوبيا ببعض الأحداث الدولية التي أثرت بقوة على العلاقات بين العالم الإسلامي والمجتمعات الغربية خلال السنوات الأخيرة، وعلى رأس هذه الأحداث هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001 الإرهابية وما تبعها من عمليات إرهابية ـ رفع مرتكبوها شعارات إسلامية.
< >   القراءة الرابعة:  سياسية اقتصادية:وهي قراءة تربط صعود الإسلاموفوبيا خلال السنوات الأخيرة ببعض التغيرات المجتمعية الكبرى التي لحقت بالمجتمعات الإنسانية خلال العقود الأخيرة، وعلى رأس هذه التحولات تراجع قوى اليسار الغربي التقليدية التي سادت خلال النصف الثاني من القرن العشرين، وصعود قوى اليمين الثقافي ومعه الأصوليات الدينية في الغرب والعالم الإسلامي خلال هذه الفترة([9]).
أما ما يتصل بالنتائج المترتبة على هذه القراءات على الجملة فسنجدها بيِّنة في سلبياتها، سواء في المجتمعات الغربية أو في المجتمعات العربية والإسلامية. وهو ما سنأتي على تبيينه لاحقاً في سياق هذا البحث.
3
«الإسلاموفوبيا» بما هي بيان إيديولوجي
لم تكن منجزات الحداثة، ولا سيما منها المنجز التكنو-الكتروني الما بعد حداثي، خارج فضاء التوظيف الايديولوجي. كذلك لن تكون ثورة المعلومات التي اختتمت قرناً واستهلت قرناً آخر بريئة من داء التسييس. مثل هذا المستنتج، يبيِّنه بوضوح الفضاء الإعلامي الفسيح الذي حوَّل الإسلاموفوبيا الى سلعة إيديولوجية رائجة. هذه المعادلة هي نفسها التي أشار اليها الكاتب الأميركي هربرت شيلر([10]) ثم وجدت ترجمتها الفعلية المباشرة في الاندفاعة الإعلامية الغربية الهائلة لتشويه صورة الإسلام.
أما الاستنتاج الإجمالي الذي سيتبين لنا لاحقاً، فيقوم على أن أطروحة الخوف من الإسلام، لا تتوقف عند كونها مجرد مصطلح نَبَتَ على نحو المصادفة الظرفية بعد الحادي عشر من ايلول 2001.. وانما كانت أقرب الى عنوان كبير يعكس مشاعر أزمنة غابرة تشكلت على أرضها ثقافة الغرب واستراتيجياته العليا حيال الإسلام والمسلمين.
لبيان المبررات المنطقية للفرضية المشار إليها، تجدر الإجابة على السؤال الآتي:
كيف جرى التعامل مع المصطلح من جانب الباحثين ووسائل الإعلام الأميركية والغربية، ومن هي التيارات الدينية والإيديولوجية التي روّجت له وأطلقته بقوة بعد زلزال 11 سبتمبر؟
لقد مرَّ معنا في ما سلف، أن عبارة «إسلاموفوبيا» المركبة أو «رهاب الاسلام» تحتوي نوعين متلازمين من الخوف:
مؤدى النوع الأول: ان الرعب بات موجوداً في المجتمعات الغربية وداخل أميركا بصفة خاصة.
ومؤدى النوع الثاني: «إنّه خوف بات يتهدد مصالحهما في الخارج، وخصوصاً في العالمين العربي والإسلامي. وبسبب هذه الرؤية عن ازدواجية موقع الإسلام بالتحديد، يخشى غير المسلمين الاسلام اكثر فأكثر ويبغضونه. وفي هذا الميدان المفعم بالكثافة يُذكر الكثير من التسميات التي تطلق عادة على المجتمعات الاسلامية داخل اوروبا من قبيل: الطابور الخامس، ورأس الجسر، والجيب، وحصان طراودة، والعدو الداخلي الخ..»([11]).
إذاً، فـ«الإسلاموفوبيا» بهذه المدلولات تؤول الى الشعور بالخوف والكراهية تجاه الإسلام والمسلمين. وهذا النوع من المفردات كان حاضراً في البلدان والثقافات الغربية طوال قرون، لكنه بات في العقود الأخيرة وتحديداً بعد 11 أيلول أكثر وضوحاً، وتطرفاً، وخطورة. فهو مكوّن ثقافي وإيديولوجي لمجمل وسائل الإعلام والتواصل فضلاً عن الرأي السائد في المدارس والمعاهد وأوساط المجتمع المدني في أميركا ودول الإتحاد الأوروبي. وفي هذا الإطار يوضح الباحث الإسلامي المقيم في الولايات المتحدة البروفسور أمير علي([12]) في دراسة له بعنوان «الإسلاموفوبيا في أميركا» أن هناك فئتين في الغرب تروِّجان لمقولة الخوف من الاسلام هما: شركات «الميديا» المعادية للمسلمين ـ وطريقة عمل وسلوك الوسط الايديولوجي الإسلامي الذي يعيش في الغرب، وبخاصة منه الوسط المتضامن مع تنظيم القاعدة.
حول مواصفات الفئة الاولى تلاحظ الدراسة المذكورة، ان المنتمين اليها هم أولئك الذين استحضروا  معلومات (خاطئة أو مضلّلة) عن الاسلاموفوبيا من نصوص عمرها ألف عام خلفها وراءهم الصليبيون في أوروبا وقدمت بلغات حديثة. ويمكن تقسيم مروجي الاسلاموفوبيا الى ثلاث فئات فرعية هي: (أ) الاصوليون العلمانيون، (ب) الاصوليون الصهاينة، (ج) الاصوليون المسيحيون الذين يعرفون بحركة الولادة الثانية والحركة الانجيلية، هذا فضلاً عن (د) الاصوليين الهندوس و(هـ) السلافيين، وكل مجموعة من هذه الجماعات لها أجندتها الخاصة ضد الإسلام.
أما الفئة الثانية: فتنتمي الى منظمات ايديولوجية إسلامية يمكن تصنيفها الى مجموعتين: (أ) الحركات الاسلامية المزّيفة و(ب) مسلمو الهامش. ويحظى البعض في هاتين المجموعيتن بدعم مباشر أو غير مباشر من القوى المعادية للإسلام في أنحاء العالم، ولا سيما الغرب. وأهل هذه الفئة ليسوا مسؤولين عن توليد «الإسلاموفوبيا» ولا يروجون لها، وإنما يساهمون فيها بشكل خامل عبر معتقداتهم التجديفية أو ممارساتهم وسلوكياتهم التي لا تمت الى الإسلام بصلة. هذا فضلا عن ان بعضهم في هاتين المجموعتين لا يعي النشاطات التي يمارسها أعداء الإسلام، أو يخجل من الجهر بمعتقداته، أو يتصف باللامبالاة والرضا الذاتي، أو لديه استراتيجيات لمحاربة الإسلاموفوبيا([13]).
في الطرف المقابل، أي: ما يعني المسلمين المقيمين في المجتمعات الغربية، يسود شعور عارم بانعدام الثقة مع السلطات، وبالأخص حيال المؤسسات المؤثرة في الرأي العام وفي مقدمها الميديا بتقنياتها المختلفة. النتيجة المباشرة لهذا الشعور تمثَّلت بالتداعيات السلبية للإسلاموفوبيا وانعكاسها على الأقلية المسلمة في الولايات المتحدة، وذلك من خلال جملة من الظواهر السوسيولوجية التي يلعب الإعلام الديني والعلماني معاً في تغذيتها وديمومتها. من أبرز هذه الظواهر:
أولاً: شعور بعض المسلمين بالامتعاض والغضب إزاء من يهاجمهم، فيعممون غضبهم على الشعب الاميركي برمته. فتنطبع صورة الاميركيين غير المسلمين في أذهانهم على أنهم ظالمون، وعنصريون، ولا يتمتعون بالأخلاق. وقد يتحول كل ذلك تباعاً الى مرارة إزاء الشعب الاميركي غير المسلم.
ثانياً: بعض المسلمين هم في حالة دفاعية، حيث باتوا يدافعون، حتى عن الانتقادات ضد تصويب المفاهيم الإسلامية الخاطئة والممارسات الفاسدة التي شاعت بين المسلمين في القرون اللاحقة، بينما ينبري البعض الآخر الى الدفاع عن الحكام الديكتاتوريين والمستبدين في البلدان ذات الغالبية المسلمة.
ثالثاً: يعزل بعض المسلمين انفسهم عن الشعوب غير المسلمة ويحيطون انفسهم بشرنقة تحول دون اندماجهم في المجتمع  ككل. فكان من شأن مثل هذا الموقف التأثير على الأجيال الجديدة من المسلمين الاميركيين.
رابعاً: ينمو لدى بعض المسلمين حس خاطئ بالاضطهاد في العمل، والمدرسة، والحي الذي يعيشون فيه.
خامساً: قد تلجأ أقلية صغيرة جداً من المسلمين الى الانتقام وترتكب أفعالاً جنونية. وبنتيجة الأمر، ستقرن وسائل الإعلام عملاً جنونياً قام به فرد واحد بجميع المسلمين، الأمر الذي ضاعف من انتشار ظاهرة «الاسلاموفوبيا»، ناهيك عن مفاقمة آثارها السلبية على المجتمع.
سادساً: أدت المفاهيم الخاطئة حول الاسلام والمسلمين الى التمييز على مستوى الأسرة، والوظيفة، والمدرسة، والجامعة والى تقبلها في الأحياء. عندئذ حين يمر ضحايا «الإسلاموفوبيا» الجهلة من غير المسلمين بجوار رجل مسلم يرتدي ثياباً شرقية أو امرأة تضع الحجاب، ينهالون عليهما بعبارات السخرية والتهكم ([14]).
4
المعايير الغربية لـ «الإسلاموفوبيا»
توصلت أبحاث ميدانية أجرتها لجنة رانيميد المتخصصة بقضايا الأقليات المسلمة في بريطانيا، الى جملة من النتائج ثم خلصت الى ثمانية معايير تتشكل منها القواعد الإجمالية التي تحكم الرؤية الغربية للإسلام والمسلمين([15]).
المعيار الأول: «ينظر الى الثقافات الإسلامية على انها كتلة واحدة متجانسة لا تتغير.
المعيار الثاني: إن الثقافات الإسلامية مختلفة كلياً عن الثقافات الأخرى. وهي بالتالي لا تستطيع التواصل والحوار معها.
المعيار الثالث: ينظر الى الإسلام على انه تهديد جسيم.
المعيار الرابع: النظر الى الإسلام على انه دوني بالنسبة الى الغربيين، وهو في نظرهم بربري وبدائي وغير عقلاني.
المعيار الخامس: انتقادات المسلمين للثقافات والمجتمعات الغربية مرفوضة تلقائياً ومسبقاً.
المعيار السادس: رهاب الاسلام مقترن بالعدائية العنصرية إزاء المهاجرين.
المعيار السابع: الافتراض بأن الإسلاموفوبيا أمر طبيعي ولا يثير الجدل.
المعيار الثامن: اعتبار الإسلام كدين مجرد ايديولوجية سياسية لتحقيق مصالح وأغراض معينة»([16]).
غير أن واقع الحال يبدو معاكساً للأفكار والمفاهيم التي نشأت تحت تأثير «الإسلاموفوبيا». لقد مرَّت الثقافات الإسلامية بمسار تطوري شأنها شأن الثقافات الأخرى. كما تتعدد الثقافات الإسلامية بتعدد البلدان ذات الغالبية المسلمة. فبين المهاجرين الى اميركا الشمالية، ثمة اختلافات شاسعة في ثقافة الجيل الأول، والثاني، والثالث. يرى الغربيون جميع المسلمين أو الغالبية الساحة من المسلمين على أنهم عرب، لكن في الحقيقة، يتراوح عدد العرب من المسلمين ما بين 15 و18 في المائة، في حين أن النسبة الباقية موزعة في أراض غير عربية. إندونيسيا، مثلاً، هي أكبر بلد ذات غالبية مسلمة. أما الهند فتضم أكبر عدد من المسلمين ضمن بلد واحد، وباقي سكانها من الأقليات. وفي كل من إندونيسيا والهند، يضاهي عدد سكانها المسلمين أو يفوق السكان العرب المسلمين جميعهم في العالم. أما بالنسبة للأقليات المسلمة في الولايات المتحدة فإن التعامل معها يجري على خلاف ما هو حاصل في دول ومجتمعات الإتحاد الأوروبي. ووجه الخلاف هنا هو ظاهرة التنوع الديني التي تشكل إحدى أهم مفارقات الوطنية الأميركية التي توظف هذا التنوع في خدمة الأطروحة التي أعاد المحافظون الجدد احياؤها بعد 11 سبتمبر وهي ما عبر عنها الرئيس بوش بالقول: «لا يوجد عرق أميركي بل عقيدة أميركية فقط»([17]).
وتبيِّن الأبحاث والاستطلاعات الميدانية لنشاط الإعلام الغربي في سياق ترويجه لـ «الإسلاموفوبيا»، عمق التدخل حتى في أبسط الممارسات الدينية والتقاليد القومية التي يمارسها المسلمون عموماً، ومسلمو أميركا بشكل خاص. ففي البرامج التلفزيونية وشبكات التواصل الاجتماعي مناظرات ومداخلات تعكس اعتقاد الغرب بأن المسلمين يقمعون نساءهم، وجميع الرجال متعدّدو الزوجات، والعنف من أساليب حياتهم، والإسلام يفرض الحكم الديكتاتوري ويجيزه، ويخالف الديمقراطية، والشريعة الاسلامية بترت أذرع جزء من المواطنين وأيديهم بسبب جرائم تافهة ارتكبوها، وشنقت وقتلت كثيراً منهم لأي مخالفة، والمسلمين يمتطون دوماً الجمال ويعيشون في خيم. ويظنون بأنّ المجتمع الاسلامي لا يحكمه اي قانون. وفي الولايات المتحدة، يمتنع كثيرون من غير المسلمين عن دخول مركز إسلامي أو مسجد خوفاً على حياتهم. في حين لم يسبق ان تعرض  أي شخص غير مسلم لأي فعل عنيف في اي تجمع إسلامي. في المقابل، وقعت مئات أعمال العنف ضد المسلمين، وأماكن تجمعهم، ودور عبادتهم ([18]).
في السياق نفسه يقول البروفيسور غوردن كونواي رئيس لجنة رانيميد حول الإسلاموفوبيا([19]): «إن كنتم تشككون في وجود الاسلاموفوبيا في بريطانيا(الولايات المتحدة)، أقترح أن تقوموا مثلي بقراءة مجموعة من الصحف القومية والمحلية على مدى اسبوع. فحين تبحثون عن مقالات عن المسلمين أو الاسلام، ستجدون تعليقات مجحفة ومعادية، مبطنة بمعظمها إنما فاضحة وفجّة في بعض الأحيان، وكثيرون يتبعون ما تقوله وسائل الإعلام. يعاني المسلمون البريطانيون و(الاميركيون) من التمييز في أماكن تعليمهم وفي عملهم حيث تشيع أعمال المضايقة والعنف ضد المسلمين ويضيف: «من المجحف والظلم تصوير مجتمع ينتمي الى الدين الاسلامي الذي يعود تاريخه الى اربعة عشر قرناً في قالب شيطاني. فالاسلام هو الدين الذي يعتبر الأسرع انتشارا في الولايات المتحدة، ولا يمكن أن يكون دين شياطين. فإدانة المسلمين في الولايات المتحدة هي إدانة للبيض، والسود، والاميركيين ذوي الاصول اللاتينية الذين يعتنقون الاسلام. ونحو ثلثي المعتنقين الحديثين للإسلام هم من النساء، وغالبيتهم من البشرة البيضاء، فهل جميعهم مجانين وأغبياء؟ هناك استخدام مفرط لحقوق حرية الصحافة الواردة في قانون التعديل الاول لمهاجمة ما بين خمسة وتسعة ملايين مواطن أميركي (وهم بصدد الازدياد). وذلك إن دل على شيء فعلى ان الاسلام والمسلمين لا يحظون بتمثيل عادل وكاف في وسائل الإعلام. فالاسلام ليس ديناً غريباً كلياً عن الولايات المتحدة لأنه وصل الى هذه القارة مع وصول الشعب الإفريقي الذي كان حراً، إنما استعبده بالقوة تجار الرقيق الأوروبيون والأميركيون»([20]).
5
تفاوت القيم وتناقضها
التفاوت القيمي بين واقع الحال الذي يعيشه المسلمون في الغرب ومنظومة القيم في المجتمعات الغربية، يعدُّ من أهم العناصر التي أسهمت في شيوع ظاهرة الإسلاموفوبيا. إذ حين يتمعن مسلمو الشرق في الثقافة الغربية بعدسات التلفزيون والسينما، يرون الانحلال الثقافي المتجسد في الحسية، والفردية، وتفضيل الماديات على القيم الدينية. فلقد اصبحت الأسر الغربية، من منظور مسلمي الشرق الأوسط، مصغرة ومفككة لأن المصلحة الذاتية الفردية باتت تفوق كل حد. في المقابل، تسعى المجتمعات الاسلامية الى خوض مصاعب التحول الاقتصادي وفي الوقت عينه الحفاظ على الأسرة كونها الحجر الأساس لنظامهم الاجتماعي([21]).
من المهم الإشارة هنا، الى ما يبيِّنه المؤرخ والمستشرق الأميركي برنار لويس في السياق نفسه. يقول: «بينما ينظر الناقدون المسلمون الى الغرب، ويرون فيه انحلالاً أخلاقياً وتشرذماً في القيم الأسرية، يسلّط المحللون الغربيون الضوء على قيمة الحرية الفردية في انتقاداتهم للإسلام المعاصر».  ثم يلاحظ أن ما يجري بثه يومياً على شاشات التلفزة وشبكات التواصل، يفضي الى ان الفرد في العالم الإسلامي يخضع للجماعة ولقيادة دينية ذات هيبة، في حين أن حرية الفرد في الغرب المحرر من الإكراه السياسي، والديني، والثقافي، مسألة مقدسة في نظام اجتماعي يحد من الاستغلال العشوائي للسلطة الشخصية([22]). لكن رداً على مثل هذه الانتقادات، يضع المسلمون المعاصرون الحرية على مستوى المجتمع، مجادلين بأن الغرب أصبح في غربة عن نفسه، إذ يضع المصلحة الذاتية فوق كل اعتبار. وهذه الانتقادات «للآخر» هي على ارتباط وثيق بالصراع السياسي وسياسة تبرير الذات العقائدية، حيث الهدف الأعلى المنشود أكثر أهمية من آثار العمل الذي يقوم به المرء. ضمن هذه الحركية، غالباً ما تلازم الخطاب الغربي حول الحرية والديمقراطية على سبيل المثال بالدعم للقادة القمعيين، تماماً كما استخدمت الدعوات للقيم الروحية والمجتمعية الإسلامية للدفاع عن أعمال تعتبر نقيضة لها([23]).
وعلى الرغم من تعدد الصور عن الغرب في الشرق الاوسط المسلم وتقلبها، تنتقل الافكار المكونة عن الخصم الى مقدمة الوعي عند اشتداد الخلافات السياسية. ففي لحظة الاحتدام، كما هو حاصل في مناخ ما قبل، وما بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، سوف تصحو ذكريات الحروب الدينية والاستعمار، وتذكر أساساً لعدم الثقة بالقيم الغربية. وعندما تشيع الصور التي تصف شدة معاناة العرب والمسلمين على يد غير المسلمين، يسود مناخ من الدفاعية والغضب الأخلاقي. فها هي أميركا تصبح قوة عظمى يجب على السياسيين التودد اليها ولكن لا يستطيعون التأثير عليها، أو مقاومتها، أو حتى فهمها عندما تصيغ سياسات تشجع انعدام المساواة على المستوى السياسي والاقتصادي: فالنفط يتدفق بحرية من بلاد الملوك الاقليميين الأثرياء، والمستوطنون الإسرائيليون يبنون مستوطنات جديدة على الاراضي الفلسطينية، ومؤيدو التغيير يخشون على سلامة عائلاتهم وأحبائهم. وفي النهاية، يولد الامتعاض السياسي شعوراً معمماً بخيبة الامل تجاه الغرب، معززاً المخاوف من أن التأثيرات الخارجية ستدفع بالمسلمين الى التضحية بدينهم، وليس بحقوقهم فحسب. وفي هكذا مناخ نشأت المجموعات الجهادية التي يصفها الغرب بـ «الاصولية» وأثارت درجات متفاوتة من التعاطف الشعبي مع ما أكدته بأن التغيير في الشرق الاوسط لا يمكن ان يتحقق الا بمواجهة غرب متغطرس سياسياً ومشبوه أخلاقياً. في هذا الاطار، تتردد عبارة «معاداة الغرب» أو «معاداة أميركا» المنهجية على لسان هذه الحركات في العواصم الاجنبية بدويّ أكبر من إدانات الخطط السياسية والعسكرية التي تستحضر صور المسلمين عن «الصليبيين» في العصر الحديث([24]).
6
الغيرية المذمومة وسايكولوجية التخويف
لا شك في أنّ التفاوت الحاصل في المحمولات القيمية بين المسلم المقيم في الغرب والمواطن الغربي الأصلي، سيكون له تداعيات إضافية تسهم في تعميق مشاعر الخوف وعدم الثقة. إذ بينما يتلاقى معظم المسلمين من الطبقة الوسطى مع الغرب بطرق متعددة، منها التعليم، والثقافة الشعبية والأخبار السياسية، يعيش المواطن الغربي أحداث الشرق الأوسط والعالم الاسلامي من خلال التقارير الإعلامية الجاهزة حول الأحداث السياسية، والعسكرية، والعمليات الإرهابية. فهو ليس على إلمام يومي بالثقافة الإسلامية، ويسهل بالتالي التأثير عليه عبر صور عن الأصولية منزوعة من سياقها. في حين تقترن هذه الصور برسائل غاضبة تدفع بالغربيين نحو وضعية دفاعية بدل البحث عن الأسباب وراء هذه الأفكار المعتمدة بشغف عن المسلمين. فالغرب لا يسمع سوى الأصوات العالية التي تبث عبر الأثير اللامتناهي ولا سيما أصوات أولئك الذين يرفضونه ويعترفون جهاراً بكراهيته. فضلاً عن ذلك، نادراً ما يشكل المسلمون المعتدلون والمسالمون موضوعاً للتداول، لأن وسائل الإعلام تميل الى التركيز على التطرف والإرهاب. فيصور الاسلام بعدسة التعصب والعنف، الى حد ان كثيرين ممن يسعون الى تعقيد الفكرة عن «التهديد الاسلامي» يبرّرون في النهاية تناقضاً مبسطاً بين «المسلم الصالح»، أي ـ العلماني، والمعتدل، والموالي لأميركا ـ و«المسلم الطالح»، اي الجهادي، والمتخلف، والمناهض لأميركا. والجدير بالذكر أن حكومات البلدان الاسلامية غالباً ما تستغل هذه الفكرة عند التماسها الدعم الاقتصادي والعسكري([25]). ولسبب يعود في مجمله الى وزن الدعاية والتضليل في الإعلام الغربي عموماً تعطي الصورة الطاغية عن الإسلام لدى المجتمعات الغربية انطباعاً بأن هذا الدين الذي يعتنقه خمس البشر تقريباً، هو دين ينطوي على عقيدة متعصبة تمجِّد العنف. لكن عوضاً عن أخذ التحليلات النقدية للمواقف الغربية تجاه الإسلام على محمل الجد، يركِّز كثيرون ممن يدعون المعرفة بالعالم الاسلامي على مشاعر الكراهية والخوف التي يعبّر عنها بالخطاب الديني من دون التفكر في الأوضاع المعقدة والمتضاربة التي نشأت فيها مثل هذه المشاعر. والى حدٍ كبير بات الاسلام يمثل بالنسبة الى الغرب كل ما هو «غير عقلاني»، ويرمز الى كل ما يستحيل فهمه، وما يجب بالتالي عدم الوثوق به والسيطرة عليه. فلقد أصبح العالم الاسلامي لدى السلطة المعرفية في الغرب مجرد مجموعة من الأشكال والصور التي تظهر اساسا لتناقض المثل، والأهداف، والقيم الغربية([26]).
لقد أسفرت التدفقات الإعلامية الهائلة التي أعقبت أحداث أيلول 2001/ الى جعل «الإسلاموفوبيا» مقولة مركزية تعكس قناعة متجذرة لدى المواطن في الغرب. فعلى سبيل المثال، بات المواطن الغربي يعتقد أن الكراهية التي يكنّها له المسلمون هي أكثر ارتباطاً بالدين الإسلامي نفسه (أي بما هو شريعة ووحي إلهي) منه بالتاريخ المأساوي للعلاقات الاميركية مع العرب ومسلمي الشرق الأوسط. ففي أعقاب الحادي عشر من سبتمبر، فسّر كثيرون من المعلِّقين أفعال عناصر القاعدة على انها تأكيد على فَرَضية «صدام الحضارات»، في حين انتقد كبار الإعلاميين بشكل خاص اي تفكير يرجّح ان تكون الهجمات على المدنيين والجنود الاميركيين رداً مضلّلاً على «الخطايا الأميركية» في الأراضي النائية. وعلى غرار الرد الاميركي على احداث الحادي عشر من سبتمبر، كان الرد الاسلامي عاطفياً أكثر منه خيالياً. وبالفعل، فقد حرص الكثير من المسلمين على رفض تحميل جموع المسلمين مسؤولية ذلك بدلاً من تخطي نموذج مشؤوم من الاتهامات المتبادلة والانتهازية السياسية. فبينما كان من المبرر ان ينظر المسلمون بشكل عام الى الحرب على الارهاب بوصفها ذريعة لإخضاعهم سياسياً على قاعدة «إما ان تكون معنا أو ضدنا».. جاءت تصريحات القادة ومواقف المفكرين في الشرق الأوسط في الغالب وكأنها تُظهر حساً من «قلة الحيلة»، بل وترفض جميع خيارات العمل البناء ([27]).
واستمراراً لتداعيات «زلزال مانهاتن»([28]) دخلت مجموعة من العبارات الى ساحة التداول الاعلامي. وهي غالباً ما تنمُّ عن نزعة دينية وعرقية صريحة من جانب وسائل الإعلام الغربية. فإلى جانب عبارة الإسلاموفوبيا و«الإرهاب الاسلامي» ساهمت «الميديا» بتسويق سؤال: لماذا يكرهوننا؟ ومثل هذا السؤال الملتبس والمضلل سوف يتحول من خلال السعير الإعلامي الى ثقافة يومية تعصف بالمجتمعات الغربية وتحدد اتجاهات الوعي لدى مواطنيها. وتبعاً لهذه الكيفية من عمليات التسويق الإعلامي، يمكن أن نلاحظ جملة من العناصر سيكون لها تأثير حاسم في فهم دلالات المصطلح ومبانيه المعرفية والعملية وهي:
أولاً: التوظيف الايديولوجي لوضعية وجدت مبرراتها في إرهاب القاعدة ومشتقاتها بدأ في 11 سبتمبر 2001 ولما تنتهِ الى اليوم.
ثانياً: حاجة المركز النيوليبرالي الغربي بعد انهيار منظومة الحرب الباردة الى عدو تبتني على خصامه هندسة جديدة لسيادتها على العالم.
ثالثاً: استشعار الغرب، بعقله اللاهوتي والنفعي معاً، ان «الجيوبوليتيك المسلم» هو قلب العالم الذي فيه تختزن الطاقة، ومنه تنطلق وعود المستقبل العالمي، وعلى أرضه تنمو احتمالات الخير والشر.
كان من نتيجة تسييل العناصر المذكورة ان خلفت حروب بوش العسكرية واللينة أكثر من مليون قتيل وثلاثة ملايين مصاب من المسلمين. وهي ـ كما بات شائعاً ـ حملت عـنوان «الصـدمة والترويع» ومارستها شعوب تردد السؤال عن ظهر قلب: «لماذا يكرهوننا؟». ومثل هذا السلوك يفسِّره الطب النفسي وفق السيرورة التالية: «طالما انكم تكرهوني دون سبب فسأعطيكم الأسباب التي تبرر كرهكم لي» ([29]).
في السياق نفسه يبين علماء النفس أن أكثر الضحايا المسلمين تضرراً يتوزعون على فئتين. الأولى توحدت بالمعتدي الغربي فوضعت نفسها في خدمته إتقاءً لعدوانه ورغبة في تحويل تهديداته الى فوائد. وهذه الفئة ستتعرض لصدمات نفسية عنيفة بعد نهاية تهديد العدوان لانها ستعيش حالة فقدان الهوية، وأزمة وجودية قد تؤدي الى الانتحار بعد محاولات التبرير واظهار التوبة وغيرها من الدفاعات.
أما الفئة الثانية فهي فئة المتعرضين للكارثة المعنوية. حيث خوفهم وحزنهم ومعاناتهم يتخطى الفردية الى الجماعة. اذ يشعر الفرد ان التهديد لا يطال شخصه وانما يهدد مُثُلَهُ (دينه وقيمه ووطنه وعائلته واستمرارية نوعه... الخ). وهي معاناة متضخمة لا تنتهي بإنتهاء التهديد، بل لعلها تنطلق بعده. ووفق المعطيات العلمية النفسية فان المحافظين الأميركيين الجدد خلفت عشرات الملايين من المسلمين المصابين بالصدمات النفسية. وهؤلاء يمكن تبرير افعالهم العدوانية ان ارتكبوها. في المقابل فان انتقاء مصطلح «الاسلاموفوبيا» بديلاً من مصطلح «العداء للإسلام والمسلمين» يهدف لتبرير هذا العداء بمرض نفسي هو الفوبيا. في حين أن «الفوبيا» ليست بالمرض الذي يرفع المسؤولية عن المصاب به، وبالتالي فهي لا تعفي ممارسيه من مسؤولية اعمالهم وممارساتهم([30]).
أما ما يعني الجواب على التساؤلات حول ما إذا كان ثمة رؤى علمية محددة للخروج من داء الإسلاموفوبيا فستأتي مداخلات لا حصر لها في هذا الصدد. غير أن جُلَّها يبقى أسير المقاربات الأخلاقية التي تصدر عن أحكام القيمة. لكن المقاربات العلمية للإسلاموفوبيا كحالة مرَضَيَّة جماعية لا تزال موضع اهتمام عدد من الدارسين والخبراء. حول هذا الموضوع يؤكد استاذ العلوم السياسية الاميركي د.وليام بيكر، مؤسس منظمة التآخي الاسلامي ـ المسيحي في أميركا، أن الاسلاموفوبيا هي جزء من سياسات تصنيع الخوف التي برع فيها تاريخياً المجمع العسكري الصناعي السياسي في الولايات المتحدة الاميركية بهدف تبرير سياسات الانفاق الهائلة على كل جديد في عالم السلاح والتدمير والقتل. وهو ما يدرج علاج «الاسلاموفوبيا» في إطار حماية الأمن القومي العربي والاسلامي بمنع تجار وصناع الحروب من آلية تصنيع الذرائع للعدوان على العرب والمسلمين. فلقد أصبحت الحدود بين المجموعات الداخلية والخارجية معلنة، حيث يجسّد «الآخر» الظل الثقافي، أي: النقيض لقيم «المجموعة الداخلية» الإنسانية. وفي سياق متواز حين تغلب قصة المواجهة بين الثقافتين على الفكر الشعبي، يلجأ الغربيون والمسلمون الى أساليب رجعية لتحديد إطار الصراع، واستحضار الروايات الخرافية عن النور والظلمة، فضلا عن استعارات من «الحرب الأخيرة» التي ستندلع. فالمفهوم الغربي الذي يعتبر الاسلام ميّالاً للعنف يقابله مفهوم يعني لدى المسلمين ان الغرب قمعي بطبيعته، وكلا المفهومين متجذّران في تفسيرات خاصة للتاريخ. فقد أصبح «الآخر الحقيقي» يشكل تهديدا أمنياً أو إهانة للكرامة، ويمكن التعامل معه على هذا الأساس ما لم يعتنق قيم المجموعة الداخلية ومعاييرها.([31])
وليس من شك في ان مشاعر الحذر والكراهية المتبادلة التي انفجرت بقوة بعد تدمير مركز التجارة العالمي، هي مشاعر مختزنة في الذاكرة وتعود الى تراكمات تاريخية، أهمها ما يتصل بصعود الحداثة وتمدد النفوذ الاستعماري الى بلاد المسلمين. أما الفارق بين الماضي والحاضر فهو بهذا المعنى فارق كميُّ. والذي جعله أكثر حساسية وأشد وطأة هو ثورة الاتصالات التي حوّلت الذاكرة البطيئة الى خبر يومي بات يخترق البيئات الاجتماعية بسرعة فائقة. ولعل الحروب التي خاضتها الولايات المتحدة الأميركية مع حلفائها في العراق وأفغانستان وفلسطين ولبنان سوف تضاعف من اتساع الفجوة الحضارية والدينية بين الإسلام والغرب، خصوصاً في ظل العولمة ونشوء ما يسمى بـ «مجتمع الإعلام العالمي».
7
«الإسلاموفوبيا» في عالم الميديا
لم تكن الصورة التي ظهَّرها الإعلام الغربي حول الإسلام والمسلمين وليدة الأحداث التي أعقبت تفجيرات الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001. بل هي تعود الى تراكمات تاريخية بدأت مع النص المكتوب الذي وضعه الفكر الاستعماري سواء عبر أجهزته الحكومية المباشرة، أو عبر أعمال المستشرقين. وقد ذهب كثيرون الى اعتبار الرسوم المسيئة للرسول(ص) في الدانمارك وفرنسا وما ترتب عليها من احتجاجات وأحداث دموية كما حدث مع صحيفة «شارلي إيبدو» مطلع العام 2015، بمثابة ظاهرة معاصرة، بل ومستأنفة للاستشراق المحكوم بالثقافة التاريخية المتعصبة حيال الإسلام. وعلى الرغم من محاولة بعض الحكومات الأوروبية وقوى المجتمع المدني التخفيف من وطأة الحملات العدائية ضد الإسلام عبر الفضائيات والإعلام الألكتروني. فقد بدت المحاولة أدنى إلى إجراءات دبلوماسية ترتِّبُها المصالح الاقتصادية والنفطية والأمنية. وقد شهدت الأحقاب المتعاقبة في العالم العربي الكثير من التجارب غير المشجعة، حيال وسائل الإعلام الغربية. ولعل الطريقة التي عالج فيها قادة الدول الغربية قضية الإساءة للنبي(ص) تعزز هذا الانطباع، وخصوصاً حين دافع هؤلاء عن حرية التعبير حتى وإن جاءت لتؤذي مشاعر أكثر من مليار ونصف المليار مسلم في العالم.
غير ان ظاهرة انعدام الثقة بما يبثُّه الإعلام الغربي حيال الإسلام لا تتعلق فقط بالمجتمع السياسي، وإنما تتعداه أيضاً الى النخب الفكرية الأوروبية التي لم تفلح في ردم الهوة الحاصلة. حتى ان الكثير من محاولات بعض المستشرقين المعاصرين من مثل عالم الاجتماع الفرنسي مكسيم رودنسون، في هذا الاتجاه، لم تفلح أيضاً في إحداث نقلة نوعية في تلك الصورة السلبية عن الإسلام والمسلمين. ذلك ان الكلام على العلاقة بين العالم الإسلامي والغرب غالباً ما يُقدَّم على نحو يفضي الى ما لا حصر من اتجاهات التأويل في مجال السياسة والثقافة وموازين القوة. ولنا من هذه التجارب التي حصلت في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين ما يشهد على ذلك:
عندما وضع رودنسون كتابه المعروف «جاذبية الإسلام» قبل نحو أربعة عقود، وجد كثيرون أن هذا الآتي من حقول اليسار الماركسي، شاء أن يحفر سبيلاً معاكساً لما كان مألوفاً لدى رجالات الاستشراق. وذهب آخرون إلى أن الرجل أخذته أبحاثه نحو توقعات «غير معقولة» حول موقعية الإسلام الحاسمة تحديد في المستقبل العالمي... ولقد كان واضحاً بالنسبة إليه كيف تشكل الوعي الغربي الاستعماري حيال المسلمين على قاعدة إنهم الخطر المحدق والدائم في وجه الغرب([32]).
يومها لم يسفر النقاش حول أفكار رودنسون عن نظر جديد للإسلام يعيد رسم خريطة معرفية تغاير النزعات الإيديولوجية السلبية التي ترسخت تاريخياً بفعل ما كتبه أسلافه. لقد لاحظ رودنسون ما لم يلحظُه السواد الأعظم من أهل الاستشراق الغربي، لجهة أن الحملات الصليبية ليست هي التي أنشأت الصورة الثقافية السلبية عن الإسلام، وإنما كانت الصليبية نفسها نتيجة لتلك الصورة. فالإرهاصات الثقافية التي سبقت الحملات الصليبية كانت ـ حسب رودنسون ـ وليدة الوحدة الإيديولوجية للعالم المسيحي اللاّتيني التي أدت بدورها إلى بلورة صورة «العدو المسلم» وإلى توجيه الطاقات نحو الصليبية في الوقت نفسه([33]).
السياق الإجمالي للرؤية الثقافية الغربية حيال الإسلام لم يتبدل. فالتحولات التي وقعت على امتداد النصف الثاني من القرن العشرين حتى يومنا هذا، جاءت لتؤكد اتّساق الرؤية  وتواصلها. ولئن جاءت الأطروحة التي بسطها رودنسون، على نصاب الدهشة المعرفية الايجابية، فإن ما نجده في الخطاب الثقافي الغربي اليوم حيال الإسلام جاء على نصاب مقلوب. وليست أطروحة « الاسلاموفوبيا » التي شقت  سبيلها بلا هواد في ذهنية الغرب، إلاّ واحدة من التجليات المستأنفة لأيديولوجية الاستشراق. وبصرف النظر عن طبيعة هذا التجلي المستأنف فإن لنا هنا ان ننظر إلى الإسلام كما هو الآن في ميزان الغرب، باعتباره حاضراً وبجاذبية استثنائية في بدايات القرن الحادي والعشرين.
يمكن القول إن علاقة الشرق بالغرب بعامة ظلت على امتداد قرون من الزمن عرضة للمد والجزر. أحياناً تصفو هذه العلاقة لتتوثق روابط الصداقة والتعاون في ظل معاهدات واتفاقات أحياناً أخرى تتوتر وتشتد لتصل حد حمل السلاح وإعلان الحرب. ولأسباب «معلنة وغير معلنة» كانت العلاقة تتغير على الدوام من صراع على النفوذ، وثأر للماضي البعيد، واستعمار تعقبه مقاومة... لتصل في مطلع الألفية الثالثة إلى منعرج خطير بلغ ذروته في أحداث الحادي عشر من سبتمبر في 2001 ([34]).
فـ«نظرة الغرب نحو الإسلام والمسلمين تشكلت عبر مراحل زمنية طويلة، تعددت خلالها رؤى رجال الدين والسياسة والمستشرقين، واتفقت في النهاية على جملة من التصورات التي تمخض عنها الوعي الذي منح من خلاله الغرب نفسه مواقع «الحقيقة» و«المركز» و«العقل» و«المدنية» مقابل إبقاء الآخر في مواقع «الضلال» و«الهامش» و«التخلف»([35]). وعلى العموم لم تكن صورة الإسلام عند الغربيين مشرقة على مدى القرون الغابرة، (باستثناء بعض مواقف بعض المستشرقين الموضوعيين، وعدد من المفكرين المعاصرين). لكن لا ينبغي تجاهل فارق شاسع بين ما حدث في الماضي وما يحدث اليوم. فإذا كانت أخطاء الماضي ومواقفه بعامة مبررة إلى حد ما، أو بعيد.. لبساطة وسائل المعرفة، وجهل كل طرف بالآخر.. فإن الأمر على غير ذلك اليوم، نظرا للتقدم العلمي والتكنولوجي والمعرفي وبخاصة في وسائل الإعلام التي حولت العالم إلى قرية صغيرة، وجعلت الفرد يتابع من زاوية في بيته مجريات الأحداث في العالم، ويتعرف على الشعوب والثقافات والأديان بشكل عميق، الشيء الذي يقطع أي عذر لأي كان في أن يجهل الآخر، أيا كان هذا الآخر، وأينما كان موقعه من العالم.([36]) 
8
«الإسلاموفوبيا» وجدلية المعرفة والقوة
سوف نتبيَّن مما تحصَّل من بعض التنظيرات المهتمة بجدلية الإسلام والغرب، أن التعرُّفُ إلى الخطاب الاستشراقي يمكن ان ينجز من خلال ملاحظة عنصرين أساسييْن متلازميْن فيه، هما: المعرفة والقوة([37]). وهذا التلازم يعني في الواقع أنّ المعرفة تَحْمل دلالات القوة، والعكس. فالمعرفة ليست التعرّفَ على ماهية حضارةٍ أو ثقافةٍ ما وحسب، وإنما التسليمَ أيضًا بالقدرة على القيام بتلك المعرفة؛ والقوةُ هي الانتصار على الآخر لا بسبب التفوق العسكري أو الاقتصادي وحدهما، وإنما بسبب التفوّق المعرفي أساسًا. إنّ هذا المفهوم الاستشراقي المحدّد، والمرتكز على تلازم القوة والمعرفة، يعني أنّ الحديث عن تجدّد الخطاب الاستشراقي لا يشير إلى ولادة جديدة له، بل هو اعترافٌ باستمرارية هذا الخطاب وإنْ بأشكالٍ ونسبٍ تتفاوت وسطوةَ الحالة الاستعمارية المرافقة. وعليه، فإنّ تجدّد الخطاب يعني تزايدَ التلازم بين المعرفة والقوة فيه، ويصبح البحثُ عن هذا التجدّد في الفكر الغربي المعاصر بحثًا عن التجلّيات الجديدة لمعادلة القوة والمعرفة. ومن أبرز هذه التجلّيات([38]):
أولاً: تزايدُ الارتباط بين دوائر الثقافة والأكاديميا والبحوث من جهة (عنصر المعرفة) ودوائر صناعة القرار من جهة ثانية (عنصر القوة)، بالتزامن مع فصلٍ ظاهريّ لهما. وينعكس هذا «التواطؤ» في تنامي الدور المزدوج لشخص المستشرق الجديد كسياسيٍّ (عنصر القوة) وخبيرٍ (عنصر المعرفة). وهو ما نراه في شخصياتٍ تاريخيةٍ عدة لعبتْ دورًا مفصليّاً في مراحل حسّاسة من الاستعمار كبلفور ولورنس العرب، وشخصياتٍ معاصرةٍ تلعب أدوارًا مشابهةً في يومنا هذا كتيري رود لارسن وپيتر غالبرايث وبرنار هنري ليفي ودوره المفصلي في بعض ساحات «الربيع العربي»...
ثانيًا: رواجُ النظريات التي تَرْسم صورةً جامدةً عن الشعوب الخاضعة للنُّظُم الاجتماعية التي تَحْكمها، بحيث تستحيل هذه النظمُ قوانينَ طبيعيةً لا تَخْضع لعوامل الزمان والمكان وحركةِ التاريخ.
ثالثًا: تصوير الفعل الاستعماري بوصفه ضرورةً أخلاقيةً ناتجةً عن احتكار المستعمِر للمعرفة والقوة في آن.
ولو نحن تحرَّينا النتاج الفكري الغربي على مدى العقديْن المنصرميْن، فسنجد معالمَ واضحةً لهذه التجلّيات. وما يلي محاولةٌ لإبراز هذه المعالم في ثلاث نظريات ما زالت تلعب دورًا محوريّاً في مقاربة القوى الغربية الرئيسة لقضايا العالم الثالث، وخاصةً أفريقيا والشرق الأوسط، وهي: نظرية الحروب الجديدة، ومبدأ مسؤولية الحماية، ومفهوم الدستورية الجديدة.
أولاً: نظرية الحروب الجديدة:
بحسب ماري كالدور، أستاذةِ العلوم السياسية في «مدرسة لندن للاقتصاد» فإنّ نظرية الحروب الجيدة تتميّز عن سابقاتها بما يلي([39]):
أ ـ بالأهداف: فهي حروب تتعلّق بالصراع حول الهوية (الدينية/ القومية/ الإثنية) لا الإيديولوجيا أو المصالح الجيوسياسية كالتي دارت حولها الحروبُ القديمةُ.
ب ـ بأساليب القتال: فبينما قامت استراتيجيةُ القتال التي اعتمدتْها القوى غيرُ النظامية سابقًا، تقوم المنظمات والميليشيات الحالية، بحسب كالدور، على مبدأ زرع الاضطراب والرعب بين المواطنين بهدف السيطرة عليهم والتخلّص ممن لا ينتمون إلى هوية المقاتلين.
ج  ـ بالتمويل: تشدّد كالدور على لامركزية شبكات تمويل النزاعات «الجديدة» بما يتناسب مع عولمة النظام المالي الدولي. وعليه، تعتمد القوى الثوريةُ على نهب الموارد الطبيعية، واحتجازِ الرهائن مقابلَ المال، وتجارة الممنوع، بحيث يَصْعب التمييزُ بين العمل الحربي والعمل الإجرامي المافيوي.
ثانياً: مبدأ مسؤولية الحماية:
يَجهد واضعو أسس مبدأ «مسؤولية الحماية» في نفي تعارضه مع سيادة الدولة، فيؤكّدون أنّ الهدف منه حمايةُ شعبٍ لا هزيمةُ دولة. ويضعون شروطًا عديدةً لحصر استخدام المبدإ في حالات قصوى قد تبدو (أي الشروط) متماشيةً مع مبدأ حقّ تقرير المصير. لكنّ شرحهم لما يترتّب على هذه المسؤولية يلغي أيَّ محاولة لدحض ذلك التعارض، بل يؤكِّد سهولةَ تجييره لبسط الوصاية على الشعوب المعنية. فهم يشرحون أنّ مبدأ الحماية يستلزم ممارسةَ ثلاثة أنماط من الموجبات: 1) واجب منع حدوث الانتهاكات التي تهدِّد حياةَ السكّان المدنيين. 2) واجب التدخّل عند وقوع الانتهاكات، وتتعدَّد سبلُ هذا التدخل لتشملَ فرضَ العقوبات والمحاكمات الدولية، بل الأعمال العسكرية أيضًا. 3) واجب إعادة البناء، وذلك يتطلّب (خاصةً عقب تدخّلٍ عسكري) منحَ المساعدة الكافية لتحقيق المصالحة وإعادة الإعمار([40]).
ثالثاً: مفهوم الدستورية الجديدة:
وهذا المفهوم يقوم على أن النظر في السُّبل التي اعتُمدتْ لحلّ نزاعات هذه الأقاليم سيبيّن طغيانَ فكرة اللجوء إلى «صناعة الدستور» كوسيلة لفكّ النزاع وإعادة رسم الخارطة السياسية لهذه المناطق. وتقوم فلسفة «الدستورية الجديدة» على احترام ثلاث قواعد لصياغة الدستور، وهي: 1) الملْكيّة المحلّية لعملية صياغة الدستور، أيْ أن تكون للسكّان المحلّيين مشاركةٌ كثيفةٌ في إبداء رأيهم عبر عقد طاولات الحوار والاستماع إلى أكبر شريحة ممكنة من مختلف المناطق والتوجّهات السياسية. 2) أخذ الوقت الكافي لصياغة مسوّدة هذا الدستور وعدم ممارسة الضغوط على القوى المحلّية لتسريع العملية. 3) إشراك خبراء دستوريين (أيْ دستوريين جدد) في وضع الخطوط العريضة لعملية الصياغة([41]).
9
الإسلاموفوبيا وذريعة «الجنون الإستراتيجي»
إثر زلزال الحادي عشر من سبتمبر 2001، سيبلغ العقل الاستشراقي بصيغته النيوليبرالية أمداءه القصوى. ولن تكون اطروحة الاسلاموفوبيا سوى أحد المداخل الأكثر جاذبية لاستيلاد طور مستأنف من الكولونيالية الغربية الما بعد حداثية.
وسنرى ذلك بوضوح بيِّن من خلال المسار الذي سلكته النيو ـ ليبرالية الغربية بوجهيها الثقافي والعسكريتاري مع احتلال أفغانستان والعراق (2001-2003).
لمَّا كتب ريتشارد بيرل، الذي لقّبه، المعجبون بأفكاره، بـ « أمير الظلام »، «ليس من حل وسط لأميركا، إما النصر وإما الإبادة»، كانت لغته مشبعة بثقافة استشراقية مستعادة من الذاكرة الانكلوساكسونية المكتظة بلاهوت الكراهية للإسلام. لم يكن كلامه هذا، من قبيل الغلواء الساذجة. فقد أومأ في العمق الى حقيقة المهمة العظمى التي ينبغي على الولايات المتحدة ألاّ تحيد عنها، وهي تؤسس للقرن الحادي والعشرين. كان بيرل يرمي، الى محاكاة شرق عربي إسلامي لم يعد احتواؤه بغير الحرب المفتوحة أمراً جائزاً. لكن هذه المحاكاة لم تكن في المقابل بغريبة عما دعت إليه الفلسفة السياسية الكولونيالية وهي تواجه سؤال البقاء في مسرح الهيمنة. ذلك ما سبق ولاحظته الفيلسوفة الألمانية حنّة أرندت (Hannah Arendt)، وهي تستقرئ مسارات حرب فيتنام: «يجب أن نعمل ليس على غزو العالم، بل على التفوق في معركة تستهدف عقول الناس»... وكانت تقول «إن هذا الشيء هو أمر جديد في هذا الكمّ الهائل من الجنون البشري الذي سجله التاريخ»...
مثل هذه المنظومة التفكيرية لا تصدر عن قلّة التمحّص بقدر ما يعاني الغلو الايديولوجي. فالايديولوجيا، على ما هو معروف، هي في أغلب المجالات قناع للمصالح. وهي التي تحدد أيضاً، ما يعتبره كل واحد، أنها مصالحه. ثم إنها تقود أحياناً إلى توسّع في الوسائل بالنسبة إلى الغائيّات، ومن ثمّ إلى مقاومة مثلث الإرهاب والاستبداد والتكنولوجيا المنتشرة لأسلحة الدمار الشامل. وبهذا المعنى فإن في الايديولوجيا التي تمثّل أهواء الجماعة البشرية ومصالحها، جانباً احتفالياً، فهي تدّعي إقامة حقيقة أكثر واقعية من الحقيقة، وذلك بقوة الخطاب وحده. وهذي هي بالضبط، حقيقة المحافظين الجدد. وسيبدو هذا الملمح بعضاً يسيراً من جنون «الجيل الرابع» الذي سينطلق بلا هوادة في مسار يشبه الحرب المفتوحة على الأبدية([42]).
لمعرفة طبيعة هذا الجنون من المفيد أن نعرض عدداً من المبادئ التي تلخص التفكير الاستراتيجي، لجيل الحرب العالمية الرابعة (G.W.O.T) وهي مبادئ سبق وأكد على وجوبية تطبيقها عدد من لاهوتيي المحافظين الجدد بالتزامن مع التصعيد المحموم لشائعة «الإسلاموفوبيا». وهي([43]):
أولاً: العدو فريد ومطلق وإنه هؤلاء: الإرهابيون، السلفيون، الشيعة، الاستبداديون، البعثيون، الأنظمة الإسلامية، الديكتاتوريات ما بعد الشيوعية، وهي كلها متساوية ـ بنظر المحافظين الجدد ـ لأنها تؤلّف الخطر نفسه.
ثانياً: لا فرق بين النية العدائية والقدرة العدائية. بين التنفيذ والنيّة، بين الجريمة والسلاح. فالحرب دائمة. من هنا، ضرورة الوقوف على كل الصعد ضد أي خطر متوقع، سواء جاء من عدو معلن، أم من منافس محتمل.
ثالثاً: الكرة الأرضية هي ساحة المعركة. لم يعد هناك منطقة محميّة (أرض الولايات المتحدة لم تعد مقدّسة). فالخطر، خصوصاً الإرهابي، قد يأتي من كل مكان من دون أن تُكبح عوامله باعتبارات السيادة أو توازن القوى. على العكس، يجب القيام ـ بحسب هؤلاء ـ بالهجوم على أرض الخطر في العالم العربي والإسلامي، وزعزعة الأنظمة السيئة.
رابعاً: السلاح، يجب احتكاره. وإذن يجب القيام بالحرب للقضاء على الأسلحة. من هنا، أهمية مسألة أسلحة الدمار الشامل.
خامساً: الخطر يناقض متطلبات الأمن المطلق. من هنا، الضرورة المزدوجة، للمراقبة الشاملة والقدرة على الرد ضد كل المخاطر. وهذا يقود إلى هوام العلم بكل شيء، كما يقوم على الشعور بامتلاك قوة كلية القدرة والجبروت..([44])
ببساطة شديدة، تبدو عقيدة «الجيل الرابع»، عقدية مركبة. فهي تخلط ـ كما رأينا ـ بين العناصر (المبادئ) الخمسة (العدو، نية العدو، الأرض، السلاح، والخطر)، ضمن مفهوم واحد. وبصورة أوضح، فإن هذا المفهوم، مفهوم يرمي إلى إزالة كل الأخطار المحتملة دائماً وفي كل مكان. وبما أن توازن القوى لا يزال بصورة واسعة لمصلحة أميركا، والعدو لا يمكن ردعه بالخوف من العقاب، كما كانت حال الاتحاد السوفياتي، فإن المعركة ليس لها في الواقع سوى هدفين: الزمن والصورة.
الزمن: لأنه يجب العمل بسرعة قبل فوات الأوان.
والصورة: فلأن المحافظين الجدد مقتنعون بأن 11 أيلول/سبتمبر، هو ثمن الخطأ الماضي في عدم القدرة على ترويع العدو([45]).
جنون « الجيل الرابع » سيتجاوز ومن خَلَفَه من أجيال الحاكمين بامتلاك الكلمات وبممارسة تلك الكلمات. فقد جعل الجيل المذكور للزمن الجديد لاهوته الخاص. اللّاهوت الذي يقوم على تقديس ما وضعه المؤسسون الأوائل، من رؤية رسالية لولادة أميركا، وكذلك على تقديس كل سلوك وممارسة تفضي إلى الغاية، ولو كلّف ذلك سقوط ملايين الضحايا.
في أثناء الحرب الباردة، لم يكن توازن الرعب نظرية جرى وضعها لتحقيق الاستقرار والسلم الدوليين، بل كان في حقيقته أمراً واقعاً. وبنتيجة هذا الواقع، رأينا كيف تم حفظ السلام بين القوى الكبرى. وهكذا فإن « نظرية الكتل » التي أفرزتها حركة الاستقطاب في مرحلة توازن الرعب لم تكن هي الأخرى، مجرد نظرية. وإنما كانت مظهراً يعكس التحولات في توازن النزاع الدولي.
مع نهاية الحرب الباردة، وسقوط التوازن لمصلحة الأحادية، سوف ينفتح فضاء العالم ليخرج التفكير الامبراطوري الأميركي من «هدوئه القسري» إلى جنونه الظاهر. وعلى هذا النحو لم تكن رحلة تقسيم العالم على وفق معادلة الخير والشر سوى ترجمة لبلوغ اللّاهوت السياسي الأميركي الدرجة القصوى من اللاعقلانية . صحيح أن هذه المعادلة هي حصيلة تحولات واقعية لمسار التطور العالمي، إلا أنها «المعادلة» الأقل ثباتاً في التاريخ، ذلك لأنها تشق سبيلها بواسطة القوة المحضة. وتبعاً لسياق كهذا، فمن غير المقدّر أن يفلح العالم المكتظ بعوامل الصدام، في العثور على منطقة الاعتدال والتسوية والتوازن([46]).
سوى أن أكثر ما يحمل اللّاهوت الكولونيالي الما بعد حداثي على الغبطة، حين يجد من مأثورات الحداثة، ما يبرِّر له أفعاله، ثم ليُضفي على «الاسلاموفوبيا» كواحدة من أهم أفعاله المستحدثة، صفة المشروعية. مع صعود هذا النوع المتجدد من الإستشراق المستحدث سيأتي من يستعير من موروث الحرب العالمية الثانية، ما يؤدي قسطاً من هذه المهمة. أن يتذكر العبارات الشهيرة لونستون تشرشل قالها في العام 1944: «إن الحقائق الاستراتيجية تحتاج في كثير من الأحيان، لأن تكون محميّة بـ «حرس من الأكاذيب»...
وبعد.. لو كان من بيان يوجز ما ذهبنا إليه في هذا البحث، لوجدنا في ظاهرة الإسلاموفوبيا ـ التي بلغت تمام صورتها في مستهل القرن الحادي والعشرين ـ ما يترجم التأسيس المعاصر للاستشراق المستأنف، ولكن ـ هذه المرة ـ على نشأة البغضاء الموصوفة للمسلمين وإيمانهم وهويتهم الحضارية...

*  هوامش البحث   *
[1] محمود حيدر ـ  حاضرية الاسلام ـ  فصلية "مدارات غربية" ـ  العدد الرابع ـ  ربيع2005 ـ  بيروت ـ  باريس.
[2] ـ كمال عبد اللطيف ـ  الاسلام والغرب وصعوبات الحوار ـ دراسة ضمن كتاب مشترك أشرف عليه د. محمد عابد الجابري تحت عنوان "الإسلام والغرب ـ الأنا والآخر) ـ الشبكة العربية للأبحاث والنشر ـ بيروت 2009 ـ ص 63.
[3] ـ راجع مارتن هايدغر ـ التقنية ـ الحقيقة ـ الوجود ـ ترجمة محمد سبيلا وعبد الوهاب مفتاح ـ المركز الثقافي العربي ـ بيروت ـ الدار البيضاء ـ 1995.
[4] ـ N.Berdyaev: The Russian Revolution, The Uni., of Michigan press, 1961. PP. 11 ـ 12.
[5] ـ محمد أحمد النابلسي ـ الإسلاموفوبيا كمظهر لجنون العظمة ـ راجع موقع (المركز العربي للدراسات المستقبلية):   www.mostakbaliat.com/antiarab ـ html
[6] ـ محمد أحمد النابلسي ـ المصدر السابق إياه.
[7] ـ غيرنوت روتر ـ الإسلام والغرب ـ الجار المفقود ـ  ترجمة ثابت عيد ـ مجلة "فكر ونقد ـ بيروت ـ برلين ـ السنة الأولى ـ العدد الخامس ـ كانون الثاني(يناير) 1998.
[8] ـ غيرنوت روتر ـ المصدر نفسه.
[9] ـ محمد أحمد النابلسي ـ مصدر سبقت الإشارة إليه.
[10] ـ  هربرت شيلر ـ الرعب الإعلامي من شؤون الرئاسة في واشنطن ـ لوموند ديبلوماتيك ـ الطبعة العربية الشهرية ـ آب(أغسطس) 1997.
[11] ـ أمير علي ـ  من دراسة له بعنوان: "الإسلام في أميركا: درب وعرة بالانتظار، دراسة حول النشاطات المعادية للإسلام"، في المؤتمر الاول حول الإسلام في أميركا، الذي اقيم في جامعة انديانابوليس، في إنداينا من 4 لغاية 6 تموز 1997، وذلك برعاية الجمعية الاسلامية لاميركا الشمالية، وجمعية علماء الاجتماعيات المسلمين، وجامعة إنديانابوليس. وقد عرض الجزء الثاني في المؤتمر السنوي الثاني حول الاسلام في اميركا، والذي أقيم في فندق حياة ريجنسي في شيكاغو، في ايلينوي، من 3 الى 5 تموز 1998 ونظم من قبل الجمعية الاسلامية لاميركا الشمالية، وجمعية علماء الاجتماعيات المسلمين.
[12] ـ البروفسور امير علي، مؤسس معهد المعلومات والتربية الاسلامية (III&E)، شيكاغو، ايلينوي ـ الولايات المتحدة الاميركية.
[13] ـ أمير علي ـ  المصدر نفسه.
[14] ـ المصدر نفسه.
[15] ـ الإسلاموفوبيا: مظاهرها وأخطارها ـ مقتطف من دراسة استشارية أعدتها لجنة رانيميد حول المسلمين البريطانيين عام 1997. راجع موقع اللجنة: www.runnimedtrust.org
[16] ـ دراسة لجنة رانيميد ـ راجع المصدر نفسه.
[17] ـ منكسن باي (Minxin pei) ـ مفارقات القومية الأميركية The paradoxes of American Nationalism ترجمة: رشا طاهر ـ  فصلية "مدارات غربية" العدد السابع ـ صيف 2005 ـ نقلاً عن مجلة "السياسة الخارجية" عدد أيار (مايو) حزيران(يونيو) 2003.
[18] ـ أمير علي ـ مصدر سابق.
[19] ـ غوردن كونواي، راجع تعليقاته على الدراسة التي أعدتها لجنة رانيميد حول (الإسلاموفوبيا مظاهرها وأخطارها) راجع موقع اللجنة التي يرأس مجلس إدارتها  www.runnimedtrust.org.
[20] ـ المصدر نفسه.
[21] ـ أمير علي ـ  المصدر نفسه
[22] ـ  للمزيد من التعرّف على رأي المستشرق والمفكر الأميركي المعروف برنار لويس في هذا الصدد أنظر كتابه:
 ـ Bernard Louis, the Atlantic Monthly, Islam and Liberal Democracy, New York 1993 No2 P. 89.
[23] ـ أنظر: أمير علي ـ  مصدر سابق.
[24] ـ ناثان فانك وعبد العزيز سعيد ـ الاسلام والغرب ـ روايات عن الصراع وتحول الصراع ـ الصحيفة الدولية لدراسات السلام ـ الجزء التاسع ـ العدد الأول ـ ربيع وصيف 2004.
[25] ـ المصدر نفسه.
[26] ـ المصدر نفسه.
[27] ـ ناثان فانك وسعيد عبد العزيز ـ المصدر نفسه.
[28] ـ "زلزال مانهاتن: هو التعبير الرمزي عن الحي النيويوركي الذي حدثت فيه عملية تفجير برجي التجارة العالمية في 11 سبتمبر.
[29] ـ النابلسي ـ  مصدر سبق الإشارة إليه.
[30] ـ محمد أحمد النابلسي ـ مصدر سبقت الإشارة إليه.
[31] ـ ناثان فانك وسعيد عبد العزيز ـ  المصدر نفسه.
[32] ـ مكسيم رودنسون ـ جاذبية الإسلام ـ ترجمة إلياس مرقص ـ دار التنوير ـ بيروت ـ الطبعة الثانية ـ 2005 ـ ص 15.
[33] ـ رودنسون ـ المصدر نفسه ـ  ص 40.
[34] ـ  أنظر الياس مرقص في تقديمه وتعليقه على كتاب رودنسون "جاذبية الإسلام" ـ المصدر نفسه ـ ص 18.
[35] ـ  علي القريشي ـ حوار الحضارات والحاجة الى كبح جماح الهويات المتغطرسة ـ مجلة "العربي" الكويت ـ العدد 525 ـ آب(أغسطس) 2002.
[36] ـ القريشي ـ المصدر نفسه.
[37] ـ راجع توصيف إدوارد سعيد لخطاب بلفور في كتابه الاستشراق، الصادر بالإنكليزية عن دار فينتدج بوكس ـ طبعة العام 1994، ص 32
[38] ـ هشام صفي الدين ـ  الاستشراقيون الجدد والاستعمار عن بعد: رجال وآليات ـ فصلية "الآداب"بيروت ـ  عدد أيلول(سبتمبر) 2008.
[39] ـ ماري كالدور ـ الحروب القديمة والحروب الجديدة ـ بوليتي برس ـ لندن ـ  1998 ـ 2006 ـ  المقتطفات الواردة هنا، هي من مقالة "الاستشراقيون الجدد لهشام صفي الدين ـ مصدر سبق ذكره.
[40] ـ هـ. صفي الدين ـ المصدر نفسه.
[41] ـ علينا ان نشير في هذا الصدد الى ان تيار "الدستورية الجديدة" هو من أكثر التيارات الفكرية تأثيرًا وتدخلاً في تفاصيل عملية كتابة دستورَي العراق وأفغانستان بعد الاحتلال.
[42] ـ Patrick Bacanan, The American Conservative, March 24, 2003.
[43] ـ المصدر نفسه.
[44] ـ انظر باتريك يوكانان (أيضاً)، برنامج المحافظزين الجدد، «المستقبل»، الجمعة 11 نيسان / أبريل 2003.
[45] ـ المصدر نفسه.
[46] ـ محمود حيدر ـ لاهوت الغلبة ـ التأسيس الديني للفلسفة السياسية الأميركية ـ دار الفارابي، ومركز دلتا للأبحاث المعمّقة ـ  بيروت 2009 ـ ص 270.
***