البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

يوهان يعقوب رايسكة (1716 – 1774 م) المستشرق الذي مات شهيداً للأدب العربي

الباحث :  د. طارق أحمد شمس
اسم المجلة :  دراسات استشراقية
العدد :  10
السنة :  السنة الرابعة - شتاء 2017م / 1438هـ
تاريخ إضافة البحث :  April / 4 / 2017
عدد زيارات البحث :  2993
تحميل  ( 278.763 KB )
يتفق معظم المؤرخين على أن الاستشراق الإلماني لم يكن يحمل غايات استعمارية، وذلك للأسباب الآتية:
بُعد ألمانيا عن العالم العربي.
غياب النزعة الاستعمارية للشرق.
الدراسات الاستشراقية الألمانية لم تكن لغايات تبشيرية دينية.
عدم خضوع المستشرقين الألمان للسياسة.
لم تكن دراسات المستشرقين الألمان عن المشرق العربي والإسلامي تتصف بروح العدائية، مع وجود بعض الاستثناءات، حيث ظهرت روح المودة والإعجاب من خلال دراساتهم للحضارة العربية والإسلامية(1).
هذا ما دفع بالمستشرقين الألمان إلى دراسة الشرق بعيداً عن أي غايات سوى العلمية منها.

هذا التفسير الذي تبناه بعض المؤرخين العرب، لم يقبل به البعض الآخر، ومنهم الكاتب رضوان السيد، الذي أورد من خلال كتابه: المستشرقون الألمان النشوء والتأثير والمصائر"، قائلاً: " فالألمان كانوا يملكون رغبات استعمارية شرهة ومعلنة، لكنها ما صارت فاعلة إلا بعد الوحدة الألمانية عام 1870م، في الوقت الذي اندفعوا فيه لخلق مجال حيوي في أوروبا، التي زعموا أنهم كانوا يختنقون فيها تحت وطأة الحضارات البريطانية والفرنسية والنمساوية اتجهوا صوب أفريقيا لانتزاع بعض الأقاليم، ثم صوب آسيا العثمانية، لإقامة علاقة إستراتيجية مع الرجل المريض في مواجهة الروس والبريطانيين والفرنسيين على حدٍ سواء...".

يضيف رضوان السيد قائلاً: " ومنذ السنوات الأولى لإستراتيجيتهم العثمانية استعانوا بالمستشرقين وعلماء الدراسات العربية والإسلامية..."(2).

يأتي موقف المفكر رضوان السيد، رداً على المفكر العربي المغترب في الولايات المتحدة " ادوارد سعيد "، فقد عرف عن هذا الأخير أنه لم يأتِ على ذكر الاستشراق الألماني في كتابه " الاستشراق المعرفة السلطة الإنشاء"(3). معتبراً أنه لم يكن لألمانيا " اهتمام قومي طويل ومستدام بالشرق" وبالتالي فإن هذا الاستشراق لم يكن له دوافعه السياسية،  " وقد ألغى بهذا القول ألمانيا والدراسات العلمية الألمانية من إستكشافه لرابطة السلطة / المعرفة التي منحت الشرعية والديمومة لمشروع الإمبراطورية الاستعمارية الأوروبية".

كما يضيف ادوارد سعيد قائلاً: " بأن الاستشراق الألماني يهتم بالدراسة المهنية للنصوص وليس بممارسة السلطة الاستعمارية..." وبالتالي كان لاستبعاد ألمانيا من دراسات إدوارد سعيد الاستشراقية، أن أبقى الاستشراق الألماني غير مستكشف حتى قام بعض المفكرين العرب بخوض غمارها(4).

يضيف الكاتب جينيفر جنكيز قائلاً عن الاستشراق الألماني ومبرراً موقف إدوارد سعيد : " الحالة الألمانية هنا مركزية، إن لم نقل نموذجية، فبما أن إمبراطوريتها جاءت متأخرة وبقيت صغيرة، فإن ألمانيا لم تكن لديها إمبراطورية استعمارية وفقاً للنموذج البريطاني والفرنسي، ومن ناحية أخرى.. فإن الشرق كان الموقع الذي تمَّ فيه ومن خلاله التعبير عن الرؤى القومية والإمبريالية الألمانية والتعامل معها"(5).
واقعاً فإن العلاقات الألمانية – العربية ليست بجديدة، فهي تعود إلى زمن الإمبراطورية الرومانية المقدسة، وحكم أسرة الهوهنشتاوفن الألمانية ومن خلال صقلية.

وقد وصلت إلى ذروتها في عهد الإمبراطور الألماني فردريك الثاني ( 1194-1250) ابن هنري السادس، امبراطور المانيا ومملكة صقلية ونابولي. ومن المعروف أن فردريك الثاني استعان بالعرب المسلمين في جيشه، كما في صناعة الأسلحة(6)، وعرف عدد من المستشارين العرب في بلاطه منهم : العالم العربي تيودور الأنطاكي، الذي لعب دور السفير للأمبراطور الألماني الى أكثر من منطقة عربية.

ونظراً لولع فردريك باللغة العربية وشغفه بتعلم الحضارة العربية، كانت له عدة مراسلات مع علماء مسلمين ومنهم : ابن سبعين، كما رافقه العلامة ابن الجوزي الصقلي الذي كان يدرسّه علم الجدل.
وكان للإمبراطور فردريك الثاني مراسلات مع الملك الكامل الأيوبي ( ت 635هـ / 1237م)، من خلال سفير هذا الأخير الشاعر والفيلسوف صلاح الدين الأربلي، فكان الأمبراطور الألماني يستفيد من علوم الأربلي ويتناقشون في شتى الأمور العلمية والأدبية والفلسفية(7).
تقول المستشرقة الألمانية زيغريد هونكة: " وفي خلال حياة فردريك الثاني التي دامت ستة وخمسين عاماً، باشر النفوذ العربي من مختلف مصادره الثقافية والفكرية تأثيره على دولته، حيث وجد جوّاً فكرياً مهيّأً لتقبله ورعايته، وإذا كانت أوروبا قد نظرت إلى تلك النهضة القادمة إليها عبر إسبانيا وصقلية نظرة الإعجاب حيناً فإنها نظرت إليها نظرة الشك أحياناً، لكنها على أية حال، لم تقف منها موقفاً سلبياً، خاصة بعد أن قدَّم فردريك في دولته نموذجاً لمدى ما يمكن أن تحققه تلك النهضة الجديدة من رفاهية وإزدهار للشعوب"(8).

وفردريك الألماني هذا هو الذي عقد الصلح المشهور مع الملك الكامل الأيوبي عام 626هـ / 1229 م، تنازل خلالها الكامل الأيوبي عن بيت المقدس، سلماً، للإمبراطور الألماني، وقد كان للسفراء دورهم في نجاح هذه المفاوضات فكان سفير الملك الكامل : الأمير فخر الدين وهو من العلماء العرب الأفذاذ، وسفير فردريك هو الكونت توماس الأكويني، من كبار علماء بلاط الأمبراطور الألماني، فكان من نتائج هذه السفارات الفوائد العلمية كما السياسية(9).

وتطورت العلاقة بين الرجلين إلى حد أن أمبراطور ألمانيا وصقلية أرسل إلى الملك الصالح أحد المبعوثين بزي التجار ليبلغه بأن ملك فرنسا لويس التاسع ينوي القيام بحملة صليبية على مصر، هذا السفير هو سرنرد مهمندار، أمين سر ديوان الرسائل عند الإمبراطور، وقد ذكر ذلك بقوله: " كان ذهابي إلى مصر ورجوعي في زي تاجر، ولم يشعر أحد باجتماعي بالملك الصالح خوفا من الفرنج ان يعلموا ممالأة الإمبراطور للمسلمين عليهم "(10).

بينما يتفق باقي الباحثين على ان بدايات الاستشراق تعود إلى القرن الثاني عشر للميلاد، عندما ترجمت ولأول مرة نسخة من القرآن الكريم إلى اللغة اللاتينية سنة 1143م، بطلب من رئيس ديركلوني بطرس المبجل(1094- 1157م)، بعد رحلة عمل إلى إسبانيا اطلّع خلالها على الحوار القائم بين المسلمين والمسيحيين في بلاد الأندلس، والحروب القائمة بينهما. وقد اقتنع الأب بطرس المبجل: " بأن لا سبيل إلى مكافحة هراطقة محمد بعنف السلاح الأعمى، وإنما بقوة الكلمة، ودحضها بروح المنطق الحكيم للمحبة المسيحية، لكن تحقيق هذا المطلب كان يشترط المعرفة المتعمّقة برأي الخصم أولاً، وهكذا وضع خطة للعمل على ترجمة القرآن إلى اللاتينية"(11).

تلا ظهور النسخة اللاتينية من القرآن الكريم، وضع معجم عربي – لاتيني، من قبل فئات غربية كانت تسعى إلى إجراء مناظرات عقلية مع المسلمين، ولا يعرف واضع هذا المعجم ولا مكان وتاريخ صدوره، إلا أنه يعتقد أنه وضع في إسبانيا(12).

ويعتبر انعقاد المجمع الكنسي العام في مدينة فيينا سنة 712 هـ/1311م أبرز حدث ساهم في دخول اللغة العربية إلى أوروبا، من خلال إقرار قانون نصَّ على تعيين مدرّسين للغة العربية في جامعات ( باريس، أوكسفورد، بولونيا، سلمنكا، والإدارة العامة البابوية) بالإضافة إلى مدرسين للغات اليونانية، والعبرية، والكلدانية.
وكان ذلك بطلب وحث من المبشّر المسيحي رايموند لولوس ( 1232- 1316م)، الذي اعتبر أن الإسلام هو " العدو اللدود الأكبر للكنيسة ...".
وكان يعتبر أن " المسلمين لن يقدموا له أي تنازل يتناول معتقداتهم، فكان لزاماً على من يريد إقناعهم بصواب العقيدة المسيحية أن يدخل معهم في حوار طويل ومناقشات حامية، ومن اجل ذلك كان لا بُدَّ من إتقان لغتهم إتقاناً كاملاً"(13).

يؤكد ذلك رضوان السيد بقوله: " بيد أن هذه الجهود وغيرها مما يشابهها ما كانت استشراقاً، لأن مقاصدها ما كانت معرفية، بل تبشيرية" ويضيف: "لقد أراد كَنَسيون متنورون في ما بين القرنين الثاني عشر والرابع عشر أن يتجاوزوا المرحلة الأسطورية في مكافحة الإسلام، من طريق الترجمة البدائية أو المشوهة، اصطناعاً لأدوات أفعل في ذلك الكفاح العسكري والسياسي والثقافي بين الدينين والثقافتين . ولذلك يمكن وصف هذه الجهود، حتى أعمال مارتن لوثر عن الإسلام والترك في مطلع القرن السادس عشر بأنها كانت جزءاً من الحروب الدائرة بين المسيحية والإسلام منذ ظهوره في القرن السابع، وبدء التصدي له دينياً وثقافياً في القرن التاسع من جانب اللاهوتيين البيزنطيين"(14).
وبالتالي استمرت المعرفة الثقافية بالإسلام محصورة ضمن إطار رجال اللاهوت، إلى أن قام المستشرق الفرنسي أنطوان غالان (1646 – 1715م) بترجمة حكايات الف ليلة وليلة التي أثرَّت بأوروبا خلال عصر النهضة، عصر الإنتقال من العصور الوسطى المظلمة إلى العصر الحديث(15).
هكذا تحركت الكنيسة ورجالاتها بهدف تنصير المسلمين وبالطرق السلمية بعد فشل الحروب الصليبية، فظهرت المعاجم العربية- الأسبانية(16) واللاتيني – العربي(17)، كما ساهمت العلاقات التي قامت بين السلطنة العثمانية، التي توسعت حدودها إلى الداخل الأوروبي، وشكَّلت خطراً على أوروبا المسيحية، وبين العواصم الأوروبية، في زيادة الإهتمام بالمخطوطات العربية ودراستها، مما ساعد على فهم أوسع للحضارة العربية(18).

ويعود الفضل الأكبر في دخول المخطوطات العربية إلى أوروبا لشخص فلهلم بوستل الذي أرسل في بعثة خاصة من قبل الملك الفرنسي شارل الأول، سنة 1534 م إلى الشرق بهدف شراء المخطوطات الشرقية، فتعلم اللغة العربية واهتم بها، وعلَّم في الكلية الفرنسية سنة 1539، كما ونشر كتاباً عالج من خلاله اللغات: العبرية، والكلدانية والسريانية، والسومرية، والعربية، والهندية والحبشية، واليونانية، والجورجية، والصربية، والألبانية، والأرمنية، واللاتينية؛ كما وضع كتاباً في القواعد العربية.
واضطر بوستل في نهاية حياته إلى رهن المخطوطات الشرقية التي جمعها طيلة فترة رحلاته نحو الشرق، مقابل المال، إلى مكتبة هايدلبرج العامة في إلمانيا، ليتلقى مقابلها من أميرها "ينريش" مبلغاً مقداره 200 دوكات(19) .
 مع وصول المخطوطات العربية إلى المانية تبدأ الدراسات العربية من قبل نخبة من المثقفين الألمان، مع الأخذ بعين الاعتبار انّ الدراسات الاستشراقية في ألمانيا في القرن السابع عشر كانت أضعف بكثير عن تلك في هولندة وإيطاليا وفرنسا وانجلترا، حيث اقتصرت الدراسات العربية على رجال اللاهوت (20).

يوهان ياكوب رايسكه: شهيد العربية:
كان العلماء الألمان يعتقدون أن اللغة العربية هي مجرد " لهجة عامية تفرعت عن العبرية(21)، لذلك لم يكن هنالك اهتمام جدي بالدراسات العربية، خصوصاً وأن هذه الدراسات كانت محتكرة من قبل رجال اللاهوت، الذين استعملوا العربية بهدف تفسير الكتاب المقدس، فقط ليس إلا.

ومن أبرز هؤلاء كان آلبرت شو لتنز(1686- 1750 م)، الذي اعتبر في رسالة له حول اللغة العربية، سنة 1706 م: " أن في اللغات، العربية الكلدانية، السوريانية، والحبشية، لغات ثانوية أو لهجات عامية، تَمِتُّ بالعلاقة نفسها التي تمتُ فيها اللهجات الأوليشتية والإيونية واللاتيشية إلى اللغة اليونانية، وخلص من ذلك إلى الحق في توظيف الثروة اللفظية العربية الهائلة في تحديد معاني المفردات العبرية"(22).
هذا التوجه نحو اعتبار العربية لغة أو لهجة فرعية عن العبرية، رفضها عالم إلماني يدعى يوهان ياكوب رايسكه، الذي اعتبر أول مستعرب ألماني وشهيد الأدب العربي. حيث أن رايسكه ظهر في مرحلة لم تكن خلالها اللغة العربية قد حصلت على حقها واعترف بموقعها كلغة مستقلة لحضارة عريقة ومزدهرة، حتى قيل أن رايسكه كان " معجزة "(23).
تقول عميدة الأدب الألماني في الولايات المتحدة كاترينا مومزن عن رايسكه: " وأنه كان في موضوعات الاستشراق أكبر عالم في اللغة العربية أنجبته ألمانيا "(24).

ولد رايسكه في مدينة زوريخ سنة 1716م، كان والده يعمل دبّاغاً، ثمّ انتقل إلى مدينة هالة حيث تلقى تعليمه في دار للأيتام بين الأعوام ( 1728 – 1732م)، وفي هذه المرحلة تعرَّف على اللغة العربية و أولع بها، فتعلمها منفرداً ومن دون مساعدة وبموهبة فريدة تجاوز مصاعب القواعد العربية، وأصبح نهماً لكل ما هو من إصدارات العربية ( كتب – مخطوطات ...) مما تيسر له، رغم ضعف قدراته المادية وفقره "(25).
فكان أول كتاب عربي عمل على ترجمته هو كتاب المؤرخ ابن عربشاه ( 791 – 854 هـ /1389 – 1450 م): "عجائب المقدور في نوائب تيمور"، وهو كتاب يتحدث عن الحاكم التتري تيمورلنك.

 كما ترجم رسالة "هرمس" من إحدى المخطوطات التي وجدت في مدينة لايبريغ، وكان لهذه الترجمة أثرها، حيث قال المستشرق الألماني فلايشر عنها بعد أكثر من مرور مئة عام على وفاة رايسكة : "إنه لم يعد يوجد الآن شاب ابن عشرين سنة يستطيع القيام بترجمة أحسن منها حتى ولو كان حاصلاً على أفضل التعليم ومتلقناً أصح الوسائل" ثم يضيف : " ليتني اجتنبت غلطات رايسكة، ولا ارغب في فضل آخر"(26).
لم يتوقف إبداع رايسكة عند هذا الحد، فها هو يحصل على مقامات الحريري، من مؤسس المكتبة العبرية يوهان كريستوف فولف ( 1683- 1739م)  ومن مجموعته الخاصة، فيعمل رايسكة على المقامة 26 بالعربية واللاتينية سنة 1737م(27).
وعلى الرغم من مساعدة فولف لرايسكة ودعمه بالمخطوطات الموجودة لديه، إلاّ أن هذا الأخير كان يتطلع إلى مكتبة ليدن في هولندا(28).
والجدير ذكره، أن مكتبة جامعة ليدن التي أسست سنة 1575م، عرفت كرسي الدراسات العربية رسمياً سنة 1613م، وقد احتوت هذه المكتبة على المئات من المخطوطات العربية، وبعضها نادر(29). مما حوّل مكتبة جامعة ليدن إلى محجّة لكل العلماء الأوروبيين المهتمين بالدراسات العربية، ومنهم رايسكة، الذي ونظراً لشغفه باللغة العربية، عزم على السفر إلى هولندة، رغم ضيق الحال.
وفي السنة 1738، وصل إلى مدينة هامبورغ لزيارة المستشرق يوهان كريستوف فولف، الذي لم يبخل عليه بمقامات الحريري وغيرها من المخطوطات التي كانت في حوزته، ثمّ أكمل طريقه إلى أمستردام مع توصية من فولف إلى العالم اللغوي دوارفيل(30)، وهو عالم في الفيلولوجيا الكلاسيكية ( اليونانية واللاتينية). فعرض هذا الأخير على رايسكة أن يكون مساعداً له مقابل راتب مغرٍ، إلا أن رايسكة رفض هذا العرض، رغم حاجته، خوفاً من انغماسه في الدراسات الكلاسيكية وإنصرافه عن الدراسات العربية(31).

وعلى الرغم من عمل رايسكة ببعض الأعمال الأدبية عند دوارفيل، إلا أنه انطلق نحو ليدن وقصد هناك المستشرق الهولندي شولتنز (1686- 1750م) الذي كان قسيساً إنجيلياً، واستاذاً للغات الشرقية في جامعة ليدن، كان شولتنز يعتبر أن اللغة العربية والكلدانية والسريانية والحبشية هي لغات " اخوات أو لهجات أخوات للغة العبرية "(32).
حاول رايسكة أن يسجل نفسه كطالب في جامعة ليدن للاستفادة من المنحة الدراسية، إلاّ أنه تلقى أول صدمة في مسيرة حياته العملية، وهي أنه لا تعطى المنح للأجانب، كما أنه وصل متأخراً حيث بدأت العطلة الصيفية، فعليه الانتظار حتى خريف السنة 1739، كما أن مكتبة ليدن لا يمكن دخولها إلا بمقابل بدل مالي، وهو لا يمتلك المال المطلوب، ومع معرفة شولتنز بوضع رايسكة، أمّن له وظيفة لدى تاجر كتب يدعى يوهان لازاك، كمصحح، كما عمل أيضاً على إعطاء الدروس الخصوصية في اللغة اليونانية والمحادثة اللاتينية للطلبة الهولنديين(33).

مع انتهاء العطلة الصيفية، دخل رايسكة إلى جامعة ليدن، فواظب على حضور محاضرات شولتنز، وعبره دخل إلى مكتبة لايدن ليتوجه نحو دراسة الشعر العربي بطلب من شولتنز نفسه.

فترجم قصائد الشاعر الأموي جرير، ولامية العرب للشاعر الجاهلي المعروف باسم الشنفري، وديوان الشاعر الأموي طهمان بن عمرو الكلابي، كما ترجم الحماسة للشاعر العباسي البحتري، واهتم بالمعلقات ومنها معلقة الشاعر الجاهلي طرفه بن العبد، وبالإضافة إلى ديوان الهذليين وأبي الطيب المتنبي، وأبي العلاء المعري وغيرهم من الشعراء(34).
يقول يوهان فوك حول عمل رايسكة على معلقة طرفة بن العبد: " وبعمله الأول هذا، شقَّ رايسكة طرقاً في شرح الشعر العربي لا زالت تحتذى حتى في وقتنا الحاضر، بالنظر لأنها توصل من أقصر الطرق إلى الهدف "(35).
كما أضاف صلاح الدين المنجد قائلاً: " وكان رايسكة بهذا العمل أول من سلك الطريق الذي يسلك إلى الآن في الغرب عند شرح آثار الشعراء العرب ومن المسلّم به أن هذا الطريق هو احسن طريق يهدي بالشارح إلى غايته العلمية"(36).

انغماس وشغف رايسكة بالدراسات العربية أوصلته إلى حقيقة وهي:
1- " عبث الألاعيب الإستشقاقية وتصيد المعاني الأساسية الوهمية للجذور السامية".
2- " لو شاء المرء النهوض بالعربية، فينبغي عليه ألا يتناولها بتناول اللاهوتي"(37).
3- نادى " بضرورة تدريس اللغة العربية والاهتمام بها، لا في إطار فقه اللغة المقدسة فحسب، بل وخارج هذا الإطار أيضاً"(38).
هذه النظريات التي أطلقها رايسكة، أوصلت العلاقة بينه وبين شولتنز إلى حد الفراق والقطيعة، خصوصاً بعد أن وقف شولتنز أمام سعي رايسكة للحصول على الدكتوراه في الآداب، حيث أنه كان يسعى إلى إعداد ولده ليخلفه في منصبه على كرسي اللغة العربية، ودفع برايسكة للتوجه نحو اختصاص الطب، ليحصل على الدكتوراه في الطب بعد عدة أشهر سنة 1746م، بناء على ما جمع من معلومات طبية من المؤلفات التي تعود إلى اطباء عرب(39).

وقد هاجمه مجموعة اللاهوتيين في ليدن معتبرين أن دراسته كانت مادية(40).
كان المنهاج الذي تبناه رايسكة في دراسة اللغة العربية بعيداً كل البعد عن أسلوب شولتنز الذي كان متمسكاً بالتفسير التوراتي ونظريات اللاهوتيين.
" ووقعت لذلك ولسبب آخر مناقشة شديدة بين هذين الرجلين المختلفي الأخلاق غاية الاختلاف أما رايسكة فلم يبال بما قاله الكثيرون وثابر على سلوك الطريق الذي عرفه صحيحاً ووطيداً، ولم يكن له علاقة بعلم اللاهوت، ولم يكترث بالسؤال هل لعلم التوراة ودرس اللغة العبرية أي فائدة من جراء درس العربية أم لا، ولم يكن باستطاعة الأستاذ شولتنز إقناع تلميذه هذا بأن يتعلم اللغات السامية الأخرى غير العربية، لأن رايسكة كان قد أدرك أن هذا لن يجلب ثماراً  مرضية لدرس علم اللغة العربية وآدابها"(41)، فافترق الرجلان، وكان على رايسكة أن يعود إلى وطنه ولكنه قبل ذلك، ونظراً لموقعه في مكتبه ليدن، في تنظيم المخطوطات العربية، قام بنقل بعض هذه المخطوطات ومنها: المعارف لابن قتيبة، وتاريخ أبي الفدا، وقصص حمزة الأصبهاني ومقتطفات من سير الأطباء لابن أبي أصيبعة، وغيرها من المخطوطات.

رايسكة والتاريخ الإسلامي:
مع عودة رايسكة إلى موطنه مدينة لايبزج الألمانية، سنة 1746، لم يستسغ العمل في مجال الطب، بل اتجه بداية نحو التصحيح المطبعي وإعطاء الدروس الخصوصية، والترجمة، إلا أنه استمر في دراساته العربية، فوضع كتاباً باللغة اللاتينية في التاريخ الإسلامي سنة 1747 م تحت عنوان:
“ Prodidagmata ad Hagi Chalifac LibRum memori – alem ReRum a MuhammedaNis gestaRum exhibentia introductionem generalem in historiam sic dictam Orientalem”.
وهو عبارة عن ترجمة لمقدمة كتاب " تقويم التواريخ " للجغرافي والمؤرخ العثماني حاجي خليفة ( 1017- 1067هـ/1609 – 1657 م)، نشرها تلميذه ي.ب. كولر سنة 1766 " في كتابه عن أبي الفداء في شكل ملحق"(43).
من خلال المقدمة يظهر رايسكة موقفه من التاريخ الإسلامي، ومن أبرز الأحداث التي لعبت دوراً بارزاً في ترجمة أحداث هذا التاريخ- فرايسكة يعتبر :
1- أن لفظة شرقي" التي يطلقها الأوروبيون على العرب غير دقيقة، بل يجب أن يطلق عليهم اسم : محمدي أو إسلامي، حيث أن الأمر يتعلق بتاريخ المسلمين ليس فقط الشرق، بل وأيضاً في المغرب وأوروبا"(44).
2- ظهور النبي محمد 9 وانتصار الدين الإسلامي، أحداث تاريخية لايمكن للعقل البشري أن يدرك مداها، وهذا بحد ذاته برهان على " تدبير قوة إلهية قديرة"(45).
3- اعتبر رايسكة أيضاً أن وصول الأمويين إلى السلطة والمحن التي توالت على أنصار ومحبي الإمام علي 7 هي تدبير إلهي أيضاً.
4- يعتبر أن الإمام علي بن أبي طالب 7 هو الأحق بالخلافة بعد النبي9، ولكنه حرم من حقه طيلة 24 سنة، بسبب المؤامرات التي حيكت ضده.
5- يؤمن رايسكة أن علي بن أبي طالب هو أفضل أمير عرف في العالم الإسلامي، وهو شخص شجاع وعادل.
6- يذكر أن الامام علياً ورغم صفاته التي تحلى بها كالشجاعة والعدل، إلا أنه لم ينجح في الحكم، ويعود ذلك، حسب رايسكة، " سوء حظه وكراهية [السيدة] عائشة له، وهي السيدة الطموح للسلطة والمجد".
7- يفسر الصراع الذي جرى بين الامام علي ومعاوية، وغلبة معاوية، نموذجاً         " لانتصار المكر على القوة، وللشر على الحق".
8- يقارن الامام علياً بشخصية تاريخية أوروبية، وهي ماركس أورليوس (161- 180م) (46)، وهو  الامبراطور الروماني السادس عشر، ومن آخر الاباطرة الخمسة الحكماء الذين حكموا روما، واعتبر من الفلاسفة الرواقيين، "يعكس كتابه "التأملات" صفات المفكر المتأمل الذي يفيض خواطره على القرطاس بأسلوب متدفق حر طليق"(47)، حتى قال عنه الفيلسوف البريطاني جون سيتورات مل ( ت 1873 م): " كانت كتابات ماركوس أويليوس هي أرفع ما أنتجه العقل القديم في الفكر الأخلاقي، ولم تكن تختلف اختلافاً يذكر عن أخص تعاليم المسيح"(48).
9- اعتبر ابن عربشاه ليس بمؤرخ حقيقي.
10- أوصى الأوروبيين بقراءة التأريخ الإسلامي ودراسته، فدرس هذا التاريخ واجب " لأجل التواتر التأريخي ".
11- اعتبر دراسة التاريخ اليوناني والروماني واجباً على كل رجل مثقف نظراً لأهمية التاريخ القديم.
12- ظهر لرايسكة من خلال وصف ابي الفداء لإيران، خلال العصور الوسطى، " أنه كانت هناك عين الأمم والأقاليم، وعين العادات وأنواع الحكومة" من خلال مطالعته أيضاً لتأريخ المؤرخ اليوناني هيرودوت الذي وصف إيران في العصور القديمة.
13- دعا رايسكة إلى مراعاة " العلاقات المتبادلة والحوادث المشتركة بين الغرب والعالم الإسلامي التي كانت موجودة منذ أيام الإمبراطور الفرنجي شارلمان (ت 814م ) وعلاقته مع الخليفة العباسي هارون الرشيد(149- 193هـ/766- 808م)، ومنذ حكم النورمان في صقلية والصليبيين إلى فتوحات العثمانيين.
14- أورد بأن التأريخ الشرقي ليس أقل قيمة من تاريخ الغرب، ولا أقل معنى أو محتوى(49).
يقول يوهان فوك حول هذه الدراسة التاريخية لرايسكة: " إنها – دراساته – تظهر أنه ينظر إلى تاريخ الشرق من خلال منطلقات تاريخية مجتزأة، ويرتأي دراستها كضرورة لأسباب تتعلق باستمرارها التاريخي كالعلوم القديمة تماماً... وإنه ليعترف، في الوصف الذي قدمه أبو الفدا عن فارس في العصر الوسيط، بأن الشعوب والطبيعة نفسها، والعادات المعيشية ونظم الحكم نفسه، هي نفس ما عرفه من الصورة التي قدمها هيرودوت، [ المؤرخ اليوناني ] للإمبراطورية الفارسية القديمة".
ويضيف: " ولقد تمنى رايسكه على القرّاء أن يتابعوا مصائر كل شعوب ومناطق الشرق وأفريقيا عبر السنين، التي كانت في يوم من الأيام يونانية أو تابعة إلى الامبراطورية الرومانية، ويشدُّ الانتباه إلى العلاقات المتبادلة التي كانت قائمة منذ ايام شارل الكبير والبيزنطيين، مروراً بعصور النورمان والحروب الصليبية، وصولاً إلى الحروب التركية بين أوروبا والعالم الإسلامي، ويبرز الفوائد التي يمكن للمؤرخ الغربي أن يستخلصها من معرفته بالشرق".
وما يميز رايسكة عن غيره من المؤرخين الأوروبيين، هو ما اورده يوهان فوك أيضاً: " ولكنه يشدد على أن تاريخ الشرق، من حيث مضمونه، لا يختلف عن تاريخ أوروبا"، كما أن رايسكة يوجه رسالة إلى المؤرخ مضمونها: " يتوجب على الباحث التاريخي... أن يتبين، بأن الشرك بالله والطغيان ازدهرت حظوظها في الماضي بغير ما عقاب، في حين أن التقوى والمحافظة على التقاليد والقيم الحميدة كان مصيرها الهوان، أو أنها ديست بغير عرفان بلا رحمة بالأقدام، بحيث يتهيأ للمتأمل المندهش والمتعجب في قليل أو كثير، كما لو أن كل شيء، كما في إعصار، اقتيد وشحن بصدمة عمياء، هذا في حين يبقى الأمل قائماً في محرك السلوك البشري الذي يتكشف لنا بالتاريخ، وهو أحلى ثمر وأهم حصاد من الدراسات التاريخية ".
لقد ذهب رايسكة إلى اعتبار ان " من يرغب في اكتناه السلوك البشري، فلسوف يجد على ذلك أمثلة ناصعة في تاريخ الشرق كما في أوروبا(50).
يقول يوهان فوك : " إن هذه النزعة لإبراز القيمة النموذجية للأحداث التاريخية، وإبانتها من خلال المقارنة مع الظواهر الأخرى المشابهة في التاريخ الأوروبي، أغرته دوماً بإماطة اللثام عن نظائر جديدة بين التاريخ الإسلامي والأوروبي بهدف إطلاع قرائه على مشاهد فذة غنية بالمعرفة لعبت على شاشة الشرق أيضاً"(51).
آراؤه هذه، وعدم قبوله بتصنيف تاريخ العالم إلى شقين: مقدس ومدّنس، بحيث وضع العالم الإسلامي في مكان وسط من التاريخ البشري، بالإضافة إلى عدم قبوله بوصف النبي محمد 9 بالدجّال والنبي المزيف، أدخلته في خلاف كبير مع الكنيسة هذه المرة، التي اتهمته بالزندقة(52) خصوصاً مع ظهور كتابه الجديد: مبادئ الإسلام. ينقل عبد الرحمن بدوي قائلاً: " لقد كان متهماً عند اللاهوتيين بأنه حر التفكير، ولم يسايرهم في إدعائهم أن محمداً كان نبياً زائفاً وغشاشاً، وأن ديانته خرافات مضحكة، ولم يشأ أن يقسّم تاريخ العالم إلى نصفين : نصف مقدّس، ونصف دنيوي، بل وضع العالم الاسلامي في قلب التاريخ العالمي، وفوق ذلك كان يعبّر عن آرائه هذه بصراحة تامة دون أن يحفل بما عسى أن يترتب عليها من نتائج، فيجلب هذا عليه الكساد"(53) فعندما خصص له ملك ساكسونيا معاشاً سنوياً وأنعم عليه بلقب "الأستاذ"، لم يستلم هذا المعاش بشكل دائم حتى أوقف بالكامل سنة 1755م بضغط من رجال اللاهوت(54).
ومما زاد الطين بلة، قيام صديقه وأستاذه السابق شولتنز بنشر طبعة جديدة سنة 1748 لكتاب النحو الذي الفه المستشرق أربنيوس سنة 1613، ولم يزد شولتنز على هذا الكتاب شيئاً، بل أبقى على ما فيه من أساطير لقمان ومن الأمثال، إلا أنه أضاف إلى هذه المادة الموروثة أشعاراً منتخبة من الحماسة... ثم ألّف شولتنز مقدمة طويلة لهذا الكتاب ردّ فيها نظريات بعض شارحي التوراة من اليهود ومن يقول قولهم من النصارى في مسألة قدسية اللغة العبرانية"، كما نشر شولتنز في العام نفسه ترجمة لكتاب حول أمثال سليمان.

إلا ان رايسكة عمد إلى إبداء رأيه حول هذين الكتابين من خلال مجلة Nova Acta Eruditorum العلمية التي يصدرها أحد المثقفين الكبار من الإلمان ويدعى منكن، ومن خلال هذه المطالعة التي قدّمها رايسكة، بيّن خلالها:

اعتراضه على المقدمة الطويلة التي بحثت في موضوع تفسير التوراة في كتاب يتعلق بالنحو العربي وهذا غير مناسب وفي غير مكانه.
إنّ أشعار الحماسة التي أوردها شولتنز ليست " مناسبة للمبتدئين بدرس العربية"(55).
ورغم أن رايسكة لم يتطاول على شولتنز من خلال مقالته هذه، إلا أن هذا الأخير والذي كان حينها يتربع على عرش اللغة العربية في اوروبا، ولم يسبق أن تجرأ أحد على الشك في كتاباته، عمد إلى كتابة رد من " تحريرين " نشرا في مجلة " منكن "، وأرسلهما في نفس الوقت إلى " جميع أساتذة كلية بلايبزج "، وحوّل الخلاف من فكري إلى شخصي، ولم يكن بمقدور رايسكة مواجهته، كما أن أحداً حينها لم يستطع أن يقارن بين ما أورده رايسكة وشولتنز مقارنة علمية، فانقلبت الأمور على رايسكة ولم يقبل أحد أن يعينه في أي من جامعات ومعاهد أوروبا(56).
لقد وجد رايسكة العديد من الأخطاء في كتابي شولتنز ولكن للأسف كان هو الوحيد في أوروبا حينها الذي كان متمكناً من العربية منفتحاً عليها وعلى الاسلام الذي فهمه بشكل لم يفهمه غيره من المستشرقين والباحثين الأوروبيين، لذلك كان غريباً في أفكاره وكتاباته في تلك الحقبة ومنبوذاً في نفس الوقت ممن لم يفهم بعد المشرق العربي وتاريخه.

لقد دفع رايسكة ثمن إيمانه بأهمية اللغة العربية ورفضه ربط الأمور اللاهوتية بها: " لو أردنا خدمة العربية، لوجب أن لا نتعامل معها كلاهوت"(57).

وأمام تدهور وضع رايسكة المالي، قصد عدة أشخاص لمساعدته من دون فائدة، ولولا الضائقة المادية التي كان فيها لكان رايسكة أبدع وترجم العديد من المخطوطات العربية، ولكن أنانية المثقفين حينها المسجونين في إطار اللاهوت ولا يريدون أو لا يدرون خطأ ما يرتكبونه بحق الحضارة العربية وحتى حضارتهم الأوروبية، منعت شخصية متألقة كرايسكة من الإبداع.

إلا أننا هنا نريد أن نحمّل رايسكة جزءاً من هذا الواقع الذي وصل إليه، وذلك من خلال:
1- عندما حاول الأستاذ النمساوي بوبوفتش في جامعة فيينا تأمين وظيفة لرايسكة عند السفير النمساوي في الآستانة فون شفاختهايم، رفض رايسكة تغيير مذهبه من البروتستانية إلى الكاثوليكية، فخسر الوظيفة(58). مع العلم أن هذه الوظيفة في عاصمة الخلافة العثمانية كانت ساهمت في حصوله من خلالها على المخطوطات العربية ومن مصادرها،  والتفرغ في دراستها وترجمتها.
2- عندما وضع رايسكة مقدمة لأحد كتبه، أورد قصة أحد أساتذته الذي ضربه ضرباً مبرحاً من دون وجه حق، فحاول شولتنز إقناعه بالامتناع عن ذكر هذه الحادثة لوقوعها في غير محلها، إلا أن رايسكة رفض ذلك بشدة، مما زادت العلاقة سوءاً بينهما (59).
لم يقبل رايسكة نصيحة شولتنز بالتوجه نحو دراسة لهجات سامية أخرى(60) وكان يمكنه أن يفعل ذلك دون أن يترك اللغة العربية ودراستها.
 وغيرها من الأحداث التي تظهر بأن يوهان رايسكة كان عنيداً، صحيح أن العناد أفاده من ناحية، إلا أنه أضرّه من ناحية أخرى، فهو لا يقبل الحلول الوسط، في عصرٍ كانت خلاله الدراسات اللاهوتية هي الحكم، ورجال اللاهوت هم من يسيطر ويتحكم بالدراسات العربية وغيرها من اللغات السامية في جامعات أوروبا.

فرجال اللاهوت – وكما مرّ معنا – وضعوا اللغة العربية في إطار اللغة المقدسة
[العبرية]، ولم يحرروا الدراسات الشرقية من إطارها اللاهوتي.

في المقابل، افاد عناد رايسكة من ناحية أخرى، حيث ظهر أنه شخصية فريدة ساهمت في رياح التغيير التي هبت على أوروبا من خلال " النهضة" و "الرومانسية"، فكان رايسكة أول من قال " أن الاستشراق يقبل مع نهاية اللغة المقدسة"(61).

وهذا ما فتح أمامه أبواباً مختلفة حيث اعترف عددٌ من مثقفي عصره علناً بالقدرات العلمية التي يمتلكها، فأشاد به أحد كبار رواد التنوير الألمان،غوتهولد أفرايم لينسنغ (1729- 1781م)، حيث " أثنى لينسنغ في مقالاته النقدية وفي رسائله ثناءً كبيراً على عبقرية رايسكة "، كما أن الشاعر والفيلسوف والناقد واللاهوتي الألماني يوهان جوتفريد هردر (1744- 1803 م) " قد أطرى في الستينات من ذلك القرن وبكثير من الإعتزاز [على] : " عالم الكلمات رايسكة" مسميا اياه "عربيناً" . كما أشاد في الجزء الأول من مؤلفه " الغابة النقدية الصغيرة" بترجمة رايسكة لبعض قصائد المتنبي".
كما امتدحه المستكشف والرياضي وعالم الخرائط الألماني كارستن نيبور (1733 – 1815م) "مؤكداً أن رايسكة أكثر قدرة على قراءة المخطوطات العربية من العلماء العرب المعاصرين، كما أكد في مؤلفه عن بلاد العرب أن رايسكة هو الوحيد القادر على تذليل أعظم الصعاب التي تلازم قراءة النصوص والمخطوطات العربية القديمة"(62).
ومع شهرة رايسكة وإتقانه للغة العربية، طلب منه المشرف على النقود في متحف مدينة درسدن الالمانية، تحديد النقود العربية الموجودة في المتحف، وهو ما حصل، وبعدما اطلع هذا المشرف على وضع رايسكة المادي السيء، وحاجته إلى وظيفة، ومحاربة رجال اللاهوت له، وكان مستشاراً للبلاط، سارع إلى شرح وضع رايسكة وأهميته وفائدته إلى الكونت " فاكربارت"، الذي عمد إلى إصدار توصية بتعيين رايسكة ناظراً في مدرسة نيقولاي، رغم رفض رجال اللاهوت لهذا التعيين.

مع الوظيفة الجديدة، تحسّن وضع رايسكة المادي سنة 1758م، ورغم منصبه الجديد ومسؤولياته الوظيفية، استمرت دراساته في الأدب العربي واليوناني، إلا أنه لم يستطع أن يقنع أحداً بتبني نشر مؤلفاته فكان ينشرها على نفقته الخاصة.

ومن هذه المنشورات:
المجلد الأول من تاريخ أبي الفدا.
رسالة ابن زيدون إلى ابن عبدوس.
ترجمة إلمانية للامية الطغرائي.
كتاب يتضمن أقوال مأثورة من تصنيف الميداني.
قصائد للمتنبي(63).
مع موت رايسكة سنة 1774م، عملت زوجته على حماية مؤلفاته وتركته العلمية، فنقلتها إلى أحد رواد التنوير الألمان غوتهوند أفرايم لينسنغ، الذي كان كرايسكة  في أفكاره الإصلاحية (64)، فاحتفظ لينسنغ بإبداعات رايسكة، إلى أن نقلت فيما بعد إلى مكتبة مدينة كوبنهاجن في الدنمارك. كما أن زوجة رايسكة نشرت سيرة زوجها، وأظهرت خلالها موقف خصومه منه ومدى بشاعة المواقف التي اتخذوها تجاهه، كما نشرت بعض تنقيحاته وإحدى محاضراته.
مع موت رايسكة أخذ مثقفو أوروبا بالإعتراف به كعالم رفع من منزلة فقه اللغة العربية إلى مصاف عالم مستقل، فرايسكة: " لم يكن أحد مثله على بيّنة من خصوصية" اللغة العربية وقواعدها وإستقلالها، " كما لم يتصد أحد مثله عن وعي لأصحاب اللغة المقدسة، التي كانت سائدة في ذلك الوقت، والتي لم تستخدم العربية إلا لأغراضها التي آمنت بها نفسها في شرح التوراة ... وعلى النقيض من موسوعيي عصره، فقد تمتع بنظرة نافذة في مكنونات الطبيعة البشرية..."(65).

يضيف يوهان فوك : " لكن دراسة اللغة لم تكن في حد ذاتها هدفاً لديه، بل اتخذ منها منطلقاً لبحوثه التاريخية، وبالنظر لإدراكه لأهمية الإسلام بالنسبة للتاريخ الأوروبي، فلم يقرأ نصوصه العربية كعلم لغة يكتفي منها فقط بفهم القصد الذي يرمي إليه المؤلف، بل كمؤرخ يصنف التاريخ الإسلامي في إطار التاريخ البشري العام(66) ليقف موقف المفسر للأحداث والدارس للشخصيات والمحلل لأفعالها، لذلك كان رايسكة أول أوروبي يدرس التاريخ الإسلامي ويبدي رأيه في أحداث هذا التاريخ. وإن لم نستطع قراءة مواقفه كلها، كونه لم يستطع أن يكتب تاريخ الإسلام كله، بسبب واقعه المعيشي المزري ومحاربة رجال اللاهوت والكنيسة له".

إلا أن رايسكة، شهيد الأدب العربي، وبعد قرن واحد، استعاد حقه، بعد وفاته، من خلال معهد الدراسات العربية في جامعة لايبزيغ، مدينته التي عاش فيها، فكان هذا المعهد يعتبر رايسكة الأب الروحي الذي تستمد منه تراثه الذي مات من أجله(67).

هكذا أخذ الاستشراق بعداً جديداً، فبعد أن كان خاضعاً لرجال اللاهوت وللدراسات اللاهوتية، في البدايات، كان لضغوط ومواقف رجال أمثال يوهان ياكوب رايسكة دورها في تقليص تأثير الكنيسة وحمل المستشرقين على الأخذ من كل ما هو علمي مستحدث، ليصبح للاستشراق كرسي في كل جامعة أوروبية.
وكان للدراسات الاستشراقية الألمانية دور الريادة في كل ما يتعلق بالعرب والمسلمين في أوروبا، حيث أن دراسات العلماء الألمان ومنهم رايسكة تحولت إلى مرجع في الدراسات القرآنية والشعر . واعتبر رايسكة أول من أبدى رايّاً مستقلاً غربياً حول التاريخ الإسلامي في عصر الرسول9  وماتلاه، وخصوصاً في اختيار الخليفة من بعد النبي 9.

وتعمق يوهان رايسكة في دراسة هذا التاريخ، كما تعمق في دراسة الشعر العربي، فكانت له نظرة مميزة من بعيد، كمراقب للأحداث ومعلّق مستقل، فتح لبني قومه نافذة على الشرق، وبوجه جديد مختلف عما كانوا يفهمونه من قبل ليتحول الاستشراق مع القرن 19 إلى علم قائم على النقد التاريخي.

*  هوامش البحث  *
1- صلاح الدين المنجد، المستشرقون الألمان، بيروت: دار الكتاب الجديد، ط1، 1978، ج1، ص7-8.
2- رضوان السيد، المستشرقون الألمان النشوء والتأثير والمصائر، بيروت : دار المدار الإسلامي، ط2، 2016، ص11.
3- ادوارد سعيد، الاستشراق، ترجمة كمال أبو ديب، بيروت: مؤسسة الأبحاث العربية، ط6، 2003.
4- جنيفر جينكز، الاستشراق الألماني، ترجمة غسان نامق:
Comparatime studies of south Asia, Africa and the Middle East, 24:2 (2004).
5- المرجع نفسه.
6- حسان حلاّق، العلاقات الحضارية بين الشرق والغرب في العصور الوسطى، بيروت: دار النهضة العربية، ط2، 2012، ص 135- 136.
7- المرجع نفسه، ص 140.
8- زيغريد هونكة، شمس العرب تسطع على الغرب، ترجمة فاروق بيضون وكمال دسوقي، بيروت: دار صادر، ط8، ص 448.
9- زيغريد هونكة، المرجع نفسه، ص 426.
حسان حلاق، المرجع السابق، ص 138- 139.
10- حسان حلاق، العلاقات الحضارية، المرجع نفسه، ص 142.
11- يوهان فوك، تاريخ حركة الاستشراق، ترجمة عمر لطفي العالم، بيروت: دار المدار الاسلامي، ط2، 2001، ص 17.
12- المرجع نفسه، ص 21.
13- المرجع نفسه، ص 28- 30.
14- رضوان السيد، المستشرقون الألمان، المرجع السابق، ص 15.
15- المرجع نفسه، ص 16.
16- يوهان فوك، تاريخ حركة الاستشراق، المرجع السابق، ص 41.
17- المرجع نفسه، ص 33.
18- المرجع نفسه، ص 47- 50.
19- المرجع نفسه، ص 47- 54.
20- زينب عبد الحسن الزهيري، تاريخ الاستشراق الألماني في القرنين 19 و 20، دراسة تاريخية، جامعة بغداد، مركز إحياء التراث العربي، مجلة كلية التربية الإنسانية، جامعة بابل، ايلول 2012، العدد 9، ص 156.
21- يوهان فوك، تاريخ حركة الاستشراق، المرجع السابق، ص107.
22- المرجع نفسه، ص 107- 108.
23- المرجع نفسه، ص 110.
24- كاترينا مومزن، جوته والعالم العربي، ترجمة عدنان عباس علي، مجلة عالم المعرفة، العدد 194، شباط، 1995، ص 36.
25- يوهان فوك، تاريخ حركة الاستشراق، المرجع السابق، ص 110.
26- صلاح الدين المنجد، المستشرقون الألمان، المرجع السابق، ج1، ص16.
27- عبد الرحمن بدوي، موسوعة المستشرقين، بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط4، 2003، ص298.
28- يوهان فوك، المرجع السابق، ص 111.
29- أسامة أمين، موقع مجلة القافلة على شبكة الأنترنت، شركة أرامكو السعودية.
30- يوهان فوك، المرجع السابق، ص 111.
31- عبد الرحمن بدوي، موسوعة المستشرقين، المرجع السابق، ص 298.
32- المرجع نفسه، ص 23.
33- يوهان فوك، المرجع السابق، ص 112.
34- عبد الرحمن البدوي، المرجع السابق، ص 299.
35- يوهان فوك، المرجع السابق، ص 112- 113.
36- صلاح الدين المنجد، المستشرقون الألمان، المرجع السابق، ج1، ص17.
37- عبد الرحمن بدوي، المرجع السابق، ص 300.
38- كاترينا مومزن، جوته والعالم العربي، المرجع السابق، ص 37.
39- صلاح الدين المنجد، المرجع السابق، ص 18.
40- يوهان فوك، المرجع السابق، ص 114.
41- صلاح الدين المنجد، المستشرقون الألمان، المرجع السابق، ج1، ص 17.
42- يوهان فوك، المرجع السابق، ص 114.
43-  صلاح الدين المنجد، المرجع السابق، ص 18-19.
44- عبد الرحمن البدوي، المرجع السابق، ص 300.
45- المرجع نفسه، ص 300.
46- المرجع نفسه .
47- محمد يوسف نجم، فن المقالة، بيروت : دار صادر، ط1، 1996، ص14.
48- قال عنه جون ستيورات مل: " كانت كتابات ماركوس أوريليوس هي أرفع ما أنتجه العقل القديم في الفكر الأخلاقي، ولم تكن تختلف اختلافاً يذكر عن أخص تعاليم المسيح – Press.mang.com .
49- صلاح الدين المنجد، المرجع السابق، ص 20.
50- يوهان فوك، تاريخ حركة الاستشراق، المرجع السابق،ص 116-117.
51- المرجع نفسه، ص 117.
52- المرجع نفسه، ص 117.
53- عبد الرحمن بدوي، موسوعة المستشرقين، المرجع السابق، ص 300-301.
54- صلاح الدين المنجد، المستشرقون الألمان، المرجع السابق، ص 23.
55- المرجع نفسه، ص 23.
56- المرجع نفسه، ص 23.
57- يوهان فوك، المرجع السابق، 113.
58- عبد الرحمن بدوي، ص 301.
59- يوهان فوك، المرجع السابق، ص 113.
60- المرجع نفسه، ص 113.
61- المرجع نفسه، ص 119.
62- كاترينا مومزن، جوته والعالم العربي، المرجع السابق، ص 37.
63- يوهان فوك، المرجع السابق، ص 120- 121.
64- زاحم محمد الشمري، الفيلسوف الألماني لينسنغ والإسلام، مجلة الدليل على شبكة الأنترنت، 8/2012.
65- يوهان فوك، المرجع السابق، ص 122.
66- المرجع نفسه، ص 122- 123.
67- المرجع نفسه، ص 123.
(*) الجامعة اللبنانية – كلية الآداب الفرعين 4 و 5 ـ قسم التاريخ.