البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

البقاع المقدسة في الرحلة الغربية -رحلة في بلد العجائب- (حجُّ مسيحيٍّ إلى مكَّة والمدينة)

الباحث :  مكي سعد الله
اسم المجلة :  دراسات استشراقية
العدد :  16
السنة :  السنة الخامسة - خريف 2018م / 1440هـ
تاريخ إضافة البحث :  January / 3 / 2019
عدد زيارات البحث :  2968
تحميل  ( 1.977 MB )
ملخص
تسعى هذه الدراسة إلى استجلاء صورة البقاع المقدسة الإسلامية؛ مكة والمدينة، من خلال رحلة الكاتب والمؤرخ المستشرق ألبير لوبوليكو (ALbert Le Boulicaut) الموسومة ﺑــ: «في بلد العجائب، حجُّ مسيحيٍّ إلى مكة والمدينة»، والكشف عن تمظهرات صورة المقدسات الإسلامية وشعائر الحج، في الخطاب الاستشراقي الفرنسي، بالإضافة إلى وصف ورصد تضحيات المسلمين المادية والمعنوية وهم يؤدون الركن الخامس من أركان الإسلام.
يتجه البناء النقدي إلى تفكيك وتقويض البُنى المركزية الاستشراقية للخطاب الرحلي، بإعادة تركيبه وفق المرجعية المعرفية العقلانية التي تستند إلى الحقائق التاريخية والدينية لدحض الشبهات وتصويب المغالطات. فالبحث في رسالته الأساسية يهدف إلى استعراض الصور النمطية التي رسمها الكاتب وفقاً لاستراتيجيةٍ خطابيةٍ متحيزةٍ ومقصودةٍ تعتمد على التعميم والتداخل المعرفي لإثارة الشك والريبة وصناعة صورةٍ وحشيةٍ ودمويةٍ عن الآخر/ المختلف، الذي يجسده في هذا المتن المسلم وتعاليم دينه.

كلمات مفتاحية: رحلة، مكة، بدوي، تفكيك، النمطية، الحج
مقدمة
الصورولوجيا؛ المفهوم والدلالة (المحمول الثقافي)
ارتبطت دراسات الصورة (Image Studies)، أو علم الصورة «Imagologie»، أو «الصورولوجيا» كما يتردد في اصطلاح المقارنين، أو الصوراتية في التداولات التطبيقية المقارنية، منذ نشأتها بالدرس الأدبي المقارن في المدرسة الفرنسية وخاصة عند روادها المؤسِّسين والمنظِّرين الأوائل ومنهم جان ماري كاريه «Jean Marie Carré(1887-1958) - وتلميذه فرانسوا غويار (Marius-François Guyard) (1921-2011)، وتهدف رسالتها إلى إنشاء فعلٍ ثقافيٍّ عالميٍّ من خلال تفكيك الصور النمطية التي تأسَّست عن «الآخر»وكانت نتيجةً منطقيةً وطبيعيةً للصراعات والحروب والنزاعات، ولكن تقاسم دراسات الصورة وتقاطعها مع حقولٍ معرفيةٍ أخرى كالعلوم الإنسانية جعلها محلَّ انتقاد من المقارنين أولاً ثم من المؤرخين والأنثربولوجين وغيرهم من الذين تساءلوا حول هويتها ووظيفتها.
وتعود الريادة في هذا الضرب من الدراسات إلى المدرسة المقارنية الفرنسية، بسلسلة من البحوث الأكاديمية والثقافية التي أسَّست لتحديد وتوضيح مبادئ وتقنيات دراسات الصورولوجيا من حيث التأكيد والتركيز على الفعل الثقافي وتبيان آثار التلقي ودوره في بناء الصورة الذهنية، فتتحوَّل الصورة إلى انزياحٍ ذي مغزًى ورسالةٍ تجمع بين منظومتين ثقافيتين مختلفتين.[1] وعلى الرغم من أن الصورة هي إعادة تقديمٍ وتركيبٍ وبناءٍ لواقعٍ ثقافيٍّ واجتماعيٍّ ونفسيٍّ، يخضع ويتأثر بالأبعاد الثقافية والأيديولوجية والخيالية وبمختلف المرجعيات، ما يفقدها بعض المصداقية والموثوقية إلا أنها تبقى آليةً فعالةً في كشف الصور الثقافية والنمطية التي أصَّلتها المنظومات الفكرية عن بعضها من خلال عمليات التواصل والمثاقفة.
وتستند هندسة الصورة ورسم معالمها إلى عواملَ موضوعيةٍ وأخرى ذاتيةٍ، وإذا كان الخطاب التأسيسي يحرص على الالتزام بالمبادئ العقلانية في الوصف والسرد والملاحظة والتحليل والتعليل، فإنَّ الانحراف المعرفي والتدليس التاريخي كان الوسم والسمة الغالبة على الدراسات المتعلقة بالإسلام والمسلمين، فقد سيطر على أغلب البحوث معجمٌ لفظيٌّ بمحمولاتٍ دلاليةٍ مشحونةٍ بمشاعر الدونية والعدوانية وكل النعوت والصفات السلبية، لم يستطع أن يتحرر من هيمنة الفكر الاستعماري المتحيِّز خطابًا وفعلاً وممارسةً.
السرد في سياق الصورولوجيا, هو تشكيلٌ جديدٌ لعالَمٍ متماسكٍ متخيلٍ، تنسج في إطاره وضمنه صور الذات والآخر وفق ما يناسب هويتها ومنافعها ومرجعياتها، وهذا ما يفقدها الموضوعية ويجعلها ترتدي ثوب التحيَّزات وأقنعة الخداع ونزوعات البنيات الأيديولوجية، وتصاحب عملية الأدلجة والتنميط والتحريف التاريخي ثورةٌ موازيةٌ تهدف إلى تقويض سلطة «الأنا»ومنعه من الدفاع عن نفسه وتفنيد الرؤى المعرفية والمغالطات الأيديولوجية حول تاريخه وشخصيته الوطنية والعقائدية، وتستعمل المركزية مختلف الوسائل في ترسيخ رؤيتها وتصوراتها «ويبلور ادوارد سعيد وجها خطيراً للسرديات يتمثَّل في تشكُّل سردياتٍ رسميَّةً لتاريخٍ معيَّنٍ ثم سعيها الدائب إلى منع سرديات مُغايرة من الظهور. كما يبلور الصراع ضد هذه السرديات والسعي إلى تقويضها [2]». وإذا كان الخطاب المركزي الغربي يتأسَّس وفق رؤيةٍ تعتمد على تنضيد صورة «الآخر» وتنميطه طبقًا لمرجعياتها ومروياتها الكبرى (les grandes narratives)[3] فإن هذه السرديات ترسم الصور والتمثُّلات استجابةً لأحكامٍ وأفكارٍ مسبقةٍ، تتميَّز بالجاهزية والانتقائية ولم يبق لها سوى عمليات البحث عن السلوكات الفردية والمواقف المعزولة والمشاهد الشاذة لإسقاط المعايير عليها واستنتاج الأحكام لتبرير وتسويغ خطابات الهيمنة والدونية.
فغالبًا ما تتكرَّر الصور وتُستنسخ آليّاً، ولا يتغيَّر فيها سوى اللفظ وتبقى الدلالة، فالبدوي العربي مثلًا هو نموذجٌ للنهب والسرقة وقطع الطريق «البدوي من قطَّاع الطرق في الصحراء لسرقة الأمتعة وممتلكات القوافل التجارية والرحَّالة وكل من يجوب الصحراء تائهًا أو مغامرًا أو حاجًّا»[4]. ومع شيوع هذه الهوية المتوهَّمة تمَّ تثبيتها معجميًّا كتعريف لمفهوم ومصطلح البدوي وساكن الصحراء.
وتتكرَّر مشاهد السلبية والعدوانية كلَّما استحضر البدوي ليرتبط في السرد الغربي المتحيَّز بكل المظاهر اللاإنسانية والتي صنعت منه آلةَ للهمجية والبربرية والوحشية، وحملت النصوص والمختارات الأدبية هذه المشاهد لتكون صورةً ثابتةً ونمطيةً تتوارثها الأجيال «هُوجمت القافلة وسُرقت من بَدوٍ كانوا أكثر عدداً من الحجيج، فوجد أخي نفسه أسيرًا عبدًا لأحد البدو، الذي عذَّبه وأبرحه ضربًا ليُجبره على إنقاذ نفسه بدفع فديةٍ[5]».

 تفكيك خطاب التحيُّز
تنعكس الخطابات المتحيِّزة المدفوعة من المرجعيات الدينية والأيديولوجيات السياسية في ضروب السلوك والتفكير، وتتحوَّل معها التمثُّلات لعوالم «الآخر» إلى صورٍ متخيَّلةٍ ومتوهَّمةٍ ونمطيةٍ تجانب الواقع والحقيقة، وتزداد تطرُّفًا ومغالطةً حين تقترن بالمغالطات المعرفية، المشوَّهة والمشحونة بالشبهات، فإذا كانت القصدية في الرحلة هي الإطلاع على شؤون المؤمنين من المسلمين وهم يستجيبون لأوامرَ إلهيةٍ لأداء فريضة الحج، فيخلِّفون وراءهم الأهل والمال والأوطان لأن الأمر يستوجب التضحية ويستحقُّها، فالمنطق والحكمة يستدعيان النهل من المصادر الصحيحة والموثوقة، ومساءلة أهل العلم والمعرفة في تذليل الصعوبات والمعوقات وفكِّ شفرات المجهول والمغلق، ليصبح التشكيل الصورولوجي هيكلاً معرفيّاً يؤدي وظيفة المثاقفة وتتضاءل مساحات التأويل السطحي في فهم وتفسير الظواهر العقائدية والسلوكات العبادية المجسَّدة في مختلف الطاعات.
 ولتفكيك خطاب التحيُّز والمُتخيَّل، يتبنَّى البحث منهج النقد الثقافي الذي يتأسس على رؤًى معرفيةٍ ومنهجيةٍ تهتمُّ باستكشاف الأنساق الثقافية الظاهرة والمضمرة، ودراستها في سياقها الثقافي والاجتماعي والسياسي والتاريخي والمؤسساتي فهمًا واعيًا وتفسيرًا علميّاً يستند إلى الحقائق ويتقصَّى المعرفة خدمةً وهدفًا للبعد الأكاديمي الموضوعي متجاوزًا الذاتية والاندفاعية العاطفية والانتماءات الأيديولوجية التي تحُول دون تحقيق الحقيقة والوصول إليها في بُعدها الإنساني.

صورة البقاع المقدسة في المنظومة الفكرية الغربية
لم تُولِ المنظومة الفكرية والخطابية الغربية بمختلف مشاربها الاستشراقية والمركزية اهتماماً بفضاءٍ أكثرَ من إيلائها القيمة الجوهرية والمركزية للبقاع المقدسة الإسلامية (مكة والمدينة) فقد شكَّلت الفضاءات الاسلامية محور الدراسات والبحوث والمقاربات في الغرب لفتراتٍ وحقباتٍ تمتدُّ مدًّا وجزرًا في التاريخ لما تحمله هذه الأمكنة من قدسية في الفكر والعقيدة الإسلامية.
فلا تخلو موسوعةٌ عالميةٌ على امتداد القرون الأولى للحركة التنويرية الغربية من مُصنَّفٍ أو مؤلَّفٍ أو بحثٍ حول الإسلام والمسلمين ومقدَّساتهم، وبصرف النظر عن التشكيل الأيديولوجي والتحيُّز المعرفي للمركزية الغربية، فإن مكة والمدينة قد احتلتا المكانة والفضاء الذي لم يرق إليه أيُّ فضاءٍ مكانيٍّ وجغرافيٍّ[6].
لعله من ضروب الترف الفكري أن يعتقد باحثٌ بإمكانية إحصاء ببليوغرافيا الكتب والمصنفات الغربية من خرائطَ ومجسماتٍ ومساراتٍ توضيحيةٍ حول مكة والمدينة، فلم يشهد التاريخ القديم والحديث اهتمامًا بالفضاءات كالذي بلغته المدينتان المقدستان. فقد صنَّفت المنظومة الفكرية الغربية الدراسات والمعاجم والرحلات للتعريف بالأماكن الإسلامية المقدسة، وعلى الرغم من صعوبة الكتابة لارتباطها بفقه تواجد الكفار (غير المؤمنين) (les infidèles) «كثيرون هم الذين كتبوا حول مكة أو حج المسلمين، ولكن القليل منهم الذي ذهب هناك كحالنا»[7]. فعلى الرغم من الظروف المناخية والتضاريس الوعرة لمكة المكرمة إلا أن فضاءها يشكل شعريةً مقدسةً تتجاوز التقديرات المعيارية البشرية، وتدفع بالفكر الغيبي والعقيدة إلى تفسير تعلق الأفئدة بها والارتباط بترابها وعدم القدرة على مغادرتها «المنطقة المكية، بلدٌ جافٌّ، محرقٌ، عارٍ، قاحلٌ، وهذه المؤشرات الطبيعية لم تكن توحي بأنه سيكون مع مطلع القرن السابع نواة لأكبر تجمعٍ دينيٍّ»[8].
وقد تناولت الأقلام الأكاديمية الغربية صعوبات الحج ومعوقاته وما يترتب على الإقدام والنية في أداء هذا الركن الأساسي في الإسلام، وقد ركزوا مخاوفهم وحصروها في الأمراض والأوبئة وخاصة الكوليرا[9]. وتعدُّ مسألة الأمراض والأوبئة المتنقلة والموسمية من القضايا المعهودة والمتداولة في العالم بأسره، نظرا لبساطة الوسائل وضعف إمكانات الوقاية والحماية، يقول الطبيب اليوناني ستيكوليس (Stekoulis) المتخصص في علم الأوبئة (Epidémiologie) «وقد أُصيبت أوروبا في جزئها الأكبر وكذلك المعمورة كلها في مناطق عديدة بكارثة الكوليرا، هذا الوباء العالمي الذي تعود أصوله إلى الوباء التاريخي الذي أصاب مقاطعة جازورا (Jessora) بالهند سنة 1817، وانتقلت عدواه إلى مكة سنة 1931 وأصاب العديد من الحجَّاج»[10]. واللصوصية المتمثلة في أعمال السطو الفردية أو الجماعية والتي تمارسها مجموعات البدو وتتأسس في أشكالٍ متعددةٍ منها الفردي أو ضمن قوافل ومجموعات قطاع الطرق[11].
لقد تحولت الباديةُ العربيةُ وصحراؤها إلى فكرةٍ أسطوريةٍ بفضل التشكيل المخيالي، فقد لعبت التصورات الذهنية دورًا مركزيّاً في بناء وصناعة «الآخر» البدوي ليناسب التمثلات المُتوهَّمة والمُتخيَّلة في المنظومة الفكرية والأيديولوجية الغربية، فجاءت الصور مرتجلةً، نمطيةً، مكررةً، بعيدةً عن الموضوعية لا تعكس الوجه الحقيقي للآخر/ المختلف، فقد تم اختزاله في هيئةٍ مُرعبةٍ ومُخيفةٍ تنحصر وظائفه في السطو والسرقة والإغارة على ممتلكات القوافل وعابري الصحراء: (بالنسبة لكتّاب القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، يمكن تلخيص الصحراء وسكانها في أنها ليست فضاءً للعزلة؛ بل إن سكانها يُثيرون الفضول. فقد كانوا دائما يُشكِّلون شعور الرعب في الخيال الأوروبي، وتحولوا تدريجيًا إلى صورة جديدة هي «المتوحش الطيِّب» وحتى هذه الصورة لم تسمح بمعرفتهم جيداً[12]).
ورغم المبالغات والتهويل فإن الصمود على هذه المعوقات والصعوبات والتضحيات يدل على صدق العقيدة وقوتها والاستعداد للتضحية في سبيلها وهو الشأن الذي حيَّر وأثار فضول الأوروبيين من مكتشفين ومستشرقين ومغامرين ومُتستِّرين ومختفين تحت قناع الإسلام. ولم يجدوا له تفسيراً عقلانيّاً سوى نعت المؤمنين بالتطرف نظرًا لتضحياتهم الكبيرة في سبيل عقيدتهم وتلبية نداء ربهم الذي أعدَّ لهم ما لا عينٌ رأت ولا أذنٌ سمعت ولا خطر على قلب بشرٍ. وإذا كانت بعض المقاربات قد رصدت الأسباب والدواعي وحصرتها في الأبعاد العسكرية والإقتصادية والجوسسة والتبشير وما إليها من القراءات والاجتهادات في تفسير الظاهرة، ولكنها تناست أو تجاهلت أن أغلب الرحَّالة الذين دخلوا إلى مكَّة والمدينة خِفية أو مُتقمِّصين لشخصيات عربية وإسلامية قد تمكَّن الإسلام من قلوبهم وغيَّر عقيدتهم وأصبحوا مسلمين، إيمانًا واحتسابًا بعدما وجدوا المبادئ والمقاصد التي تحفظ النفس والدين والعقل والمال والنسل ومنهم ليون روش ( Léon Roches) (1809-1901) الملقب باسم عمر بن عبد الله، ولودفيج فارتيما (Ludovico de Verthema) (1470- 1517) وعُرف باسم الحاج يونس المصري وأولريش ياسبر زيتسن (Ulrich Jasper Seetzen) (1711-1767) والمعروف باسم الحاج موسى بالإضافة إلى جيوفاني فيناتي (Giovanni Finati) المسمى بالحاج محمد ويوهان لودفيغ بوركهارت(Jean Louis Burckhardt) (1784-1817) والملقب بإبراهيم بن عبد الله الشامي.
والحقيقة أن المستعرض لببليوغرافيا الحج والرحلة إلى البقاع المقدسة الإسلامية في المكتبة الغربية، يعثر على كنوزٍ علميةٍ ومعرفيةٍ في التعريف بالإسلام وأركانه وخاصةً ركنه الخامس بتوصيفه وذكر أهم شعائره والأجواء الروحانية والإيمانية والأخوية والتي يستحيل إنجازها وتحققها خارج إطار فريضة الحج، ومن هذه المؤلفات (كتاب شعائر وطقوس الحج إلى مكة المكرمة) (Recueil des rites et cérémonies du pèlerinage de la MecQue) للمستشرق جوليان كلود غالان (Galland ( Julien-Claude و (كتاب المكتبة الشرقية أو المعجم الشامل لمجموع معارف شعوب الشرق) (Bibliothèque orientale, ou Dictionnaire universel contenant généralement tout ce Qui regarde la connaissance des peuples de l’Orient) لبارتيليمي هربلو (Barthélemy d’Herbelot) (1625-1695) الذي توفي قبل إتمامها وأكملها من بعده أنطوان غالان (Antoine Galland) (1646-1715) وهي موسوعةٌ شاملةٌ تتوزَّع موضوعاتها حول التاريخ والعادات والدين العلوم والفنون وغيرها من المسائل والقضايا التي تشغل اهتمام القارئ الغربي.
كما يمكن إضافة أيضا الكتاب الموسوعي للشاعر والمستشرق الفرنسي غييوم بوتيه (Guillaume Pauthier) (1801- 1873) الموسوم ب (الكتب المقدسة للشرق) (les livres sacrés de l’Orient) والذي أحصى فيه أشهر الكتب الدينية للشرق العربي والآسيوي وعبَّر في مقدِّمته عن حاجة الغرب إلى معرفة ثقافات وديانات الشرق «تحتلُّ الدراسات الشرقية منذ زمنٍ بعيدٍ مكانةً معتبرةً في أوروبا لأسبابٍ متنوعةٍ منها الفضول والشعور بضرورة معرفة الشعوب الأخرى، التي بدأت تُمكِّن لنفسها ضمن الحركية العامة للشعوب، بالإضافة إلى البحث عن حلولٍ تاريخيةٍ لقضايا ومسائل ما زالت غيرَ مفهومةٍ ومجهولةَ الأسباب[13]».
وبصرف النظر عن أسباب الزيارة والشكوك المصاحبة لدخولهم إلى الإسلام وتنازع الدارسين في معتقدهم الجديد وانقسامهم بين نظريتي التخفي والانتحال والإدعاء الانتمائي للإسلام خوفًا على الأنفس والأرواح خاصةً عند علمهم بتحريم أن تطأ قدم الكافر البقاع المقدسة للمسلمين، فإن جاذبية مكة الروحية سرٌّ إلهيٌّ، ومغناطيسٌ قدريٌّ ينقاد له الإنسان بالفطرة والبراءة والعفوية، لأن صفات مكة وخصائصها متفردةٌ لا يمكن أن تتقاطع مع أيِّ مكانٍ أو فضاءٍ كونيٍّ آخرَ، يقول الأمير شكيب أرسلان «جعل الله مكة مكانا لعبادته تعالى لا غير، وكأنه سبحانه وتعالى لما قضى بأن تكون محلًّا للعبادة ومثابةً للناس وأمناً قضى أيضاً بتجريدها من كل زخارف الطبيعة، ولم يشأ أن يطرِّزها بشيءٍ من وَشْي النبات، ولا أن يخصها بشيءٍ من مسارح النظر المونقة، حتى لا يلهو فيها العابد عن ذكر الله بخُضرةٍ ولا غديرٍ، ولا بنَضْرةٍ ولا نميرٍ، ولا بهديلٍ على الأغصان ولا هديرٍ، وحتى يكون قصده إلى مكة خالصًا لوجه ربِّه الكريم، لا يشوبُه تطلُّعٌ إلى جنان أو رياض، ولا حنينٌ إلى حياضٍ أو غياضٍ. وحتى يبتليَ الله عباده المخلصين، الذين لا وُجهةٍ لهم سوى التسبيح له، والتأمل في عظمته تعالى، فكانت مكةُ أجردَ بلدةٍ عرفها الإنسان وأقحلَ بقعةٍ وقعت عليها العينان. مكة هذه البلدةُ المقدسةُ، التي هي فردوس العبادة في الأرض، وجنة الدنيا المعنوية[14]».
 يبقى لغز مكة وأسرارها من الشفرات التي لا تُفكُّ إلاَّ بالتفسير والتأويل الروحي، فقد كشفت البحوث والدراسات المتخصصة في الرحلة الحجازية عامةً والبقاع الإسلامية المقدسة عن مفارقاتٍ عجيبةٍ تتجسَّد في الاهتمام الزائد للغربيين والأوروبيين باختلاف عقائدهم ومللهم ونحلهم بمكة والمدينة المنوَّرة لأغراضٍ وأهدافٍ مغايرةٍ لتلك الدواعي التي تأسَّست للرحلة الأوروبية قديمًا مُتمثِّلة ومُختصرة في الجوسسة والتبشير والاستشراق والحروب والتجارة.
وأصبحت مكة بهذه الأوصاف تأسر القلوب وتشدُّ العقول، فتتشوَّق إليها النفوس وتهفو إلى زيارتها، وستبقى الحكمة من ارتباط الأوروبيين المسيحيين أو الملحدين بها والميل إليها والرغبة في الاقتراب منها، والمغامرة في سبيل زيارتها مجهولةً، فعلى الرغم من المقاربات المنهجية والتأويلات والقراءات الاستقرائية لاستنتاج الأسباب والدواعي، فإنَّها تبقى مجرد اجتهاداتٍ نقديةٍ تأويليةٍ لفهم الجانب المادي من المتن الرحليّ، ولكن مُضمرات النصوص وراءها تُخفي أسبابًا ودواعيَ غير تلك المُعلن و المُصرَّح بها، ومنها على الخصوص المكانة الوجدانية التي تحتلها مكة في الوجدان والوعي الإنساني، فالأنفس تهوى إليها في ثنائياتٍ إراديةٍ وقسريةٍ، شعوريةٍ ولا شعوريةٍ.
ويبقى العقل عاجزاً عن تفسير أسرار التعلق بالأماكن الإسلامية المقدسة، للمؤمنين وغيرهم، فالأنفس والأبدان تنحدر وتهوى إليها في اطمئنانٍ وسعادةٍ وكأنّها تحنُّ إلى الفطرة والى مواطن النشأة الأولى، فضاءات السعادة الأزلية، والراحة والجمال والنَّفسُ بطبيعتها تَتُوق للجمال والصفاء والروحانية.
 ومحدودية العقل في مقاربة أسباب الارتباط بمكة والحرص على زيارتها تُجسِّدها الرحلات الغربية نحو مكة، فالمرويات الأوروبية تُحذِّر غير المؤمنين من الإقتراب من مقدسات المسلمين وتُصدر الأحكام والعقوبات، والتي غالبًا ما تكون القتل وتُشدِّد وتُبالغ في التخويف في محاولةٍ لبناء وصناعة فوبيا، تدفع ب «الآخر» إلى احتقار تعاليم الإسلام وربطها بالبربرية والوحشية والإكراه [15].
فقداسة مكَّة والمدينة وغيرها من المزارات الإسلامية لا يمكن أن تأخذ تفسيرها بالتأويلات الفلسفية والنسقية أو بالأيديولوجيات والتوجهات الانتمائية الهوياتية، وإنما تأخذ مرجعيتها من المقدس العقائدي المتغلغل في النفس والمتأصل في الروح والذي تفسره الفلسفة المادية باليوتوبيا والنزعة الطوباوية لأنه يتجاوزها ويتعدَّى معاييرها الضيِّقة، فهي لا تستطيع أن تُفسِّر لماذا يحمل هذا الأمازيغي القادم من الجزائر، تراب مكَّة إلى أهله بعد انتهائه من أداء مناسك الحج وشعائره «يحمل الحجَّاج من مكَّة إلى أهلهم المسابح والأحجار الكريمة ومياه زمزم وبعضاً من تراب مكَّة أو المدينة»[16].
وبصرف النظر عن موقف الشريعة السمحة من ثقافة التبُّرك، فإن سيميائية الصورة وملفوظاتها توحي بالقدسية وبروحانية الدالّ والمدلول. فعتبة العلامة السيميولوجية تكشف عن البُعد الإيماني الذي يتجاوز القناع السطحي والتأويل الوظيفي للملفوظ اللفظي إلى العلاقة المضمرة بين الخالق والمخلوق، وبين المادي والروحي وبين الدنيوي والآخروي.

معمارية الرحلة ووصفها الببليوغرافي
تتوزع الرحلة وموضوعاتها الفرعية على حجم كمِّي يبلغ زهاء ثلاثمائة وأربعة وثلاثين ورقةً (334) من الحجم المتوسط، تتقاسمها ستة فصول رئيسية ومدخل. اِبتدأ الرحَّالة خيط مسيرته ومركز انطلاقته من مصر، فكان الفصل الأول موسومًا بها، بينما حمل الفصل الثاني عنوان نحو مكَّة ثم الوصول إليها، ليكون الفصل الرابع في الطريق إلى المدينة ثم بلوغها وأخيرًا العودة. استهلَّ الرحالة متنه بمدخلٍ في شكل إهداءٍ تكريمًا وتبجيلاً للدبلوماسي والكاتب والمؤرخ الفرنسي غابرييل هانوتو (1853-1944) (Gabriel Albert Auguste Hanotaux) بعد انتخابه عضوًا بالأكاديمية الفرنسية[17]، وهو من أصولٍ بريتانيية (Breton)[18].
والمتداول عن صور شعوب بريتانيا (les Bretons) أنهم متعصِّبون للغتهم وثقافتهم الخاصة ويعتبرون أنفسهم الأصل النقيَّ والمتميِّز، ودفع التمسك بالخصوصيات الثقافية والهوية بالبعض إلى اعتناق الفكر العنصري المتطرف، المتمثِّل في أيديولوجية اليمين المتطرف،الإتجاه السياسي الرافض للآخر/ المختلف ولكل تعدُّدٍ وتنوُّعٍ ثقافيٍّ وعرقيٍّ وانثربولوجيٍّ. وتتعرض الشخصية البريتانية إلى التنميط في الأدبيات والمرويات الفرنسية، وتلعب التمثُلات الذهنية دورًا مركزيّاً في هيكلتها ضمن الصور المُشوَّهة، وغالبًا ما يتمُّ تسويق صورتها تحت ألوان الإدمان والتعصُّب والانعزال والانطواء على النفس والهوية، كما يضرب به المثل في العناد فيُقال «عنيد كالبريتاني» «têtu comme un breton»[19].
وينبثق هذا العمل عن فكرةٍ غربيةٍ/ أوروبيةٍ/ مسيحيةٍ في سبر أغوار الفكر العربي الإسلامي في مهده الأصلي الجزيرة العربية، باعتبارها الحاضنة المركزية والجوهرية لأصول الدعوة المحمدية، ويندرج أيضاً ضمن سلسلة الرحلات المتعاقبة نحو الجزيرة العربية، كفضاءٍ سحريٍّ وعجائبي وإلى البقاع المقدسة بعينها لاكتشاف مقاصد الدين الجديد الذي غيَّرت تعاليمه وقيَمه الإنسانية الكينونة البشرية، وصنعت من الاختلاف أمةً متجانسةً متناغمةً في ظلِّ المحافظة على الخصوصيات الثقافية والعرقية والهوية، ولإعطاء مصداقيةٍ للمغالطات حول الإسلام وأهله بالارتكاز على شرعية الزيارة الميدانية والادعاء باستقصاء المعلومة من مصدرها.
وجاء في مقدمة الرحلة أن الإهداء كان لتحقيق رغبةٍ خاصةٍ بعدما لاحظ الكاتب اهتمام غابرييل هانوتو (Gabriel Albert Auguste Hanotaux) بالشرق عموماً والحجاز خصوصاً من خلال أعمال وبحوث الأديب والدبلوماسي الفرنسي أوجين دي فوغي (Eugene-Melchior de Vogüé)[20].
وتكتسي المقدمة أهميةً بالغةً باعتبارها العتبة المُعبِّرة والكاشفة عن مضامين اتجاه الرحالة وأفكاره ومعتقداته، فقد شحنها بجملةٍ من المغالطات والصور المركبة المُشوَّهة والمُتوهَّمة عن الحج والحجيج وعن علاقة المؤمنين المسلمين، بالآخر/ الأوروبي/ المسيحي/ المُختلف.
وقد تمظهرت صورة الآخر/ غير المؤمن (l’infidèle) في شكل الضحية، البريء، الباحث عن الحقيقة لا لغرضٍ سوى إرضاء فضوله العلمي والمعرفي ورغبته في اكتشاف ثقافة الاختلاف.
يبدأ شعور تصوير المشهد باهتًا عاديًّا في سردٍ تاريخيٍّ، وقراءةٍ سطحيةٍ لأحكام تواجد غير- المؤمنين بالبقاع المقدسة الإسلامية، فيقرُّ الرحًّالة بتحريم التعاليم الإسلامية اقترابهم من الكعبة ومحيطها إلاًّ في حالات التخفِّي والتقمُّص ومحاكاة الشخصية الإسلامية والعربية في لباسها ومعتقدها «إنها الأرض المقدّسة، الأرض المُغلقة، هناك في عمق الصحراء، أرض رسول الله، حيث عاش ودُفن جسده، فهي مُحرًّمة على غير-المؤمن، ولا يمكنه دخولها إلاَّ مُتخفيًا في خزيٍ»[21].
وترتفع درجة التهويل والمبالغة في التخويف لخلق فوبيا (phobie)[22] وشعورٍ بالنهاية والموت لك. والرؤية العدائية في تشويه الإسلام وتسفيه شعائره وتحريف تعاليمه بالقراءات السطحية والنظريات التأويلات المادية، مقاربةٌ قديمةٌ ضاربةٌ جذورها في التاريخ العدائي للأيديولوجيا الغربية المؤسسة على التراث الأسطوري اليوناني والروماني والمرجعية الدينية المسيحية واليهودية، ابتداءً من الحروب الصليبية (489-690ھ) (1096-1292م) وطرد المسلمين من غرناطة سنة 1492م، وهي السنة التي اعتمدتها المراجع الأكاديمية الغربية، كعامٍ تأسيسيٍّ لنشأة الغرب والحداثة، وصولاً إلى الاستعمار والاستدمار الغربي بمختلف أشكاله لمن يُغامر أو ينوي الاقتراب من مقدسات المسلمين.
ومراحل تنميط «الآخر» تمرُّ وفق استراتيجيةٍ معلومةٍ ومدروسةٍ، تنطلق من التهيئة للتلقِّي من المرسِل إلى المرسَل إليه، بتكثيف الدلالة وربطها بالدالّ، فنظريات التواصل المعاصرة تؤكد على ضرورة توافر ميكانيزمات التلقي وقبول الرسالة دون الحاجة إلى تفكيك شفراتها من خلال اعتماد مرجعيةٍ سياقيةٍ تستند على وسائل الإقناع التأثيرية التي تُثير الوجدان والعاطفة.
 فقد نجح لوبوليكو (Le Boulicault) في رسم منهجيةٍ تؤدي إلى تثبيت الصورة المتخيَّلة في ذهن المتلقي الغربي، فبعد التأكيد على تحريم اقتراب الكفار/ غير- المؤمنين من الفضاءات المقدسة للمسلمين، ينتقل إلى تبيان الحالة النفسية للمكتشف الغربي وهو يُحاول اختراق المُحرَّم الإسلامي، لإفادة الناس بالعوالم الخفية للمقدسات الإسلامية، وفي تلبية رسالته النبيلة، فإنه يُضحِّي في مرحلةٍ أولى بكرامته ويرضى الإهانة والإذلال «لقد أخبروني أنَّ السفر إلى مكة ليس بالمسألة السهلة والهيِّنة، لقد قالوا لي: لا يدخلها غير- المؤمن إلا متخفيًا مخزيّاً ذليلاً»[23].
يتوازى التصوير النفسي ويتقاطع مع مشهد استحقار الحجَّاج المسلمين، بالاستخفاف بعقولهم ونعتهم بصفة «السذاجة»(naïveté) لأنه تسهل عملية توجيههم واستغلال عواطفهم الدينية وغيرتهم على الإسلام وتعاليمه، فيتم شحنهم ودفعهم لمطاردة غير- المؤمنين ثم قتلهم، استجابةً وتنفيذاً لنصوصٍ إلهيّةٍ مقدسةٍ «تُطارد بلاد الإسلام غير-المؤمنين، ويتعرَّض كل محتالٍ (مسيحيٍّ مُتقمِّصٍ لشخصيةٍ إسلاميةٍ) لمطاردة الحشود الساذجة والرضوخ لعقوبتها»[24].
وتتصاعد المشاهد التصويرية نحو التأزم في حُبكةٍ فنيةٍ متصنَّعةٍ ومتكلًّفةٍ لإثارة المتلقِّي الغربي وتهيئته لتقبُّل الصورة المتخيَّلة عن الحجًّاج المسلمين خاصةً والمسلمين عامةً، وربطهم بالدموية، مُتجاهلين تواجدهم في أطهر مكان وأقدسه وهم يؤدون مناسكهم الإيمانية التي ترفعهم إلى العوالم الروحية، التي تتنزَّه وتتعالى عن المُدنَّسات، لتعانق السعادة الأبدية وهي تُلبِّي نداء ربِّها وتستجيب لدعوته ﴿وَأَذِّن فِي ٱلنَّاسِ بِٱلۡحَجِّ يَأۡتُوكَ رِجَالٗا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٖ يَأۡتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٖ ٢٧ لِّيَشۡهَدُواْ مَنَٰفِعَ لَهُمۡ وَيَذۡكُرُواْ ٱسۡمَ ٱللَّهِ فِيٓ أَيَّامٖ مَّعۡلُومَٰتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُم مِّنۢ بَهِيمَةِ ٱلۡأَنۡعَٰمِۖ فَكُلُواْ مِنۡهَا وَأَطۡعِمُواْ ٱلۡبَآئِسَ ٱلۡفَقِيرَ﴾[25].
 ومع كلِّ رسالةٍ خطابيةٍ، إرساليةٌ مُصوَّرةٌ غائبةٌ يتخيَّلها المُلقي (المُرسل) ويُجمِّع لبناتها وعناصرها ليؤسِّس بمكوِّناتها حقيقةً تترسَّخ في ذهنه وتتحوَّل بالتداول والاعتقاد إلى أفكارٍ ثابتةٍ، وتكاد تكون الرؤية المتوهمة قاعدةً لبناء الحقيقة ومرجعيةً لها في فكر المركزية الغربية ومنظومتها المعرفية «فالحقيقة لدى نيتشه (Friedrich Nietzsche) (1844-1900) هي مجرد أوهامٍ وأخطاء مفيدةٍ في خدمة تيار الحياة المتدفق من جهةٍ، كما أنها من الزاوية المعرفية مجرد منظورٍ يعكس موقع ورؤية بل إرادة قوة صاحبه»[26].
والتمركز حول الفردانيَّة وجعلها أداةً إجرائيةً لإقرار الحقيقة سمةٌ بارزةٌ ومُميَّزةٌ في الفكر الأوروبي منذ عصر الأنوار (Le siècle des Lumières) حين أقرَّت مختلف الفلسفات الوضعية سلطة العقل وتبنَّته كمعيارٍ وحيدٍ في الوصول إلى الحقيقة واليقين، ونتج عن تضخيم وظيفته إنتاج مكوِّنات تاريخية ومعرفيَّة تناسب رؤيته وتتوافق مع إستراتيجيته في تحديد وتوجيه جدلية الأنا والآخر.
وإذا كان العاقل لا يمكنه إنكار أو جحود فتوحات العقل وانجازاته إلاَّ أنَّه يبقى كوسيلةٍ أحاديةٍ عاجزًا عن تفسير الظواهر الكونية كلها، بمنظار نظريات النشأة والتطوُّر الماديتين.
وباستعظام «الأنا» لصورها المتوهَّمة وتثبيتها في المخيال للاعتقاد بها والإيمان بمضامينها، وتنميط «الآخر» وتحويله إلى هيكلٍ مُثيرٍ للخوف ومصدرٍ للفناء، قد تؤول الصورة وتتحوَّل إلى مشكلةٍ وجوديةٍ طبيعيةٍ وعُقدةٍ نفسيةٍ/ ثقافيةٍ تسكن الذات وتؤجِّج فيها صراع حب البقاء بعد تمكُّن ثقافة الخوف من «الآخر» فيها وارتباطها بأفعالها وتصرفاتها ومواقفها التي لا يُمكن أن تُنجز وتتبلور وتتجسَّد إلاَّ ضمن منظومة الخوف، ومن هنا تتحوَّل الإكزينوفوبيا (La xénophobie) إلى هوسٍ ورهابٍ وعداءٍ عفويٍّ غيرِ مبرَّرٍ ودون دافعٍ عقلانيٍّ أو علميٍّ، كما هو حال وشأن الغرب وانتيليجنسيته مع الحضارة العربية والإسلامية «إنَّ الخوف يتحوًّل إلى خطرٍ على الذين يعانون منه، لذلك لا يجب أن ندعه يتحوَّل إلى شعورٍ جامحٍ مسيطرٍ. إنَّ الخوف هو بالذات التبرير الأساسي للتصرفات التي غالبًا ما نصفها ب «اللاإنسانية»... إنَّ الخوف من البرابرة هو الذي يُخشى أن يُحوِّلنا إلى برابرة. والسوء الذي نتسبَّب به لأنفسنا سيتخطَّى السوء الذي كنَّا نخشاه في الأساس. إنَّ التاريخ يعلمنا ذلك: يمكن للدواء أن يكون أسوأ من الداء»[27].
وفي سياق البحث عن الحقيقة المُنحازة المُوجَّهة يلجأ الخطاب البنائي إلى مناهجَ وأنساقٍ ذهنيةٍ مُنتجةٍ لتمثُّلات للكون وللآخر، فقد كتب ميشيل فوكو (Michel Foucault)(1926-1984) في كتابه (التاريخ والحقيقة) الذي ألَّفه سنة 1964 «إنَّ البحث عن الحقيقة مشدودٌ بين حالتين للإنسان هما: وضعه الشخصي كفردٍ وتَوْقه إلى تَمثُّل الوجود»[28].
فالأنا الغربية تبحث عبر مسيرتها الوجودية عن مرآةٍ تنعكس فيها، فترتكز فلسفتها على وجود «آخر» مُختلفٍ، فمرآة الغيرية والآخرية مقياسٌ للمُنجز ونقدٌ للذات ودعوةٌ لتجاوز نقائصها وسلبياتها. وإذا كانت هذه النظرية معقولةً بمنطق سُنَّة التدافع الكوني والحضاري، فإنها تتحوَّل إلى أزمةٍ حضاريةٍ وفلسفيةٍ عُنصريةٍ عندما تجعل من «الآخر» عدوّاً ضروريّاً يُهدِّد وجودها، ويفرض عليها تعاملاً حربيّاً عدائيّاً «إن انهيار الاتحاد السوفيتي والشيوعية ترك أمريكا بدون عدوٍّ، بل إنَّه للمرة الأولى في تاريخها تركها دون «آخر» واضحٍ يُمكن أن تُعاديه»[29].
إنَّ شعرية وبلاغة المتخيَّل تتجسد في وظيفة التهيئة والإعداد لتقبل الصورة والحكم، حيث تتداخل أنظمةٌ متعددةٌ في عمليات الإقناع والتجلي والتجسيد، فهناك (أجهزة الدولة الأيديولوجية) كما يسميها لوي ألتوسير (Louis Althusser) (1918-1990)[30]. وهي الوسائل والآليات ذاتها التي يصفها وينعتها ميشيل فوكو بالانضباطات[31]. وهي مركبٌ من مؤسساتٍ وضوابطَ تمنح للمتخيل الرمزي سلطةً ومشروعيةً، وسلطة الصورة المتخيلة تدفع المركزية الأيديولوجية إلى البحث عن وسائلَ موضوعيةٍ للإقناع لإضفاء الصدق على معتقداتها ومتخيلاتها وأوهامها، فلا تجد أفضل من الخطاب بمحمولاته الدلالية المختلفة لأداء هذه الوظيفة «وحيثما توجد سلطةٌ، توجد مطالبةٌ بالمشروعية. وحيثما توجد مطالبةٌ بالمشروعية، يكون اللجوء إلى بلاغة الخطاب العمومي بهدف الإقناع»[32].
فالمشهد الترويجي للصورة المتخيَّلة حول «الآخر» المسلم ينطلق من المُتخيَّل الذاتي ليصل إلى المتلقي الجاهز للاستقبال والقبول بفضل مجهودات واستراتيجيات الخطاب «لقد انتابني الإحساس في مشهدٍ مُتصوَّرٍ ومُتخيَّلٍ حول هذه الجماهير وهي تتحوَّل إلى وحوشٍ ضاريةٍ، تَسفك دمي حين تعلم وتكتشف بأنِّي غير- مؤمن [33]».
وتتفنَّن الأجهزة الأيديولوجية للأنظمة بتعبير لوي التوسير (Louis Althusser) في صناعة عدوٍّ مُتوهِّمٍ يكون منطلقًا وأرضيةً لإنجاز العداوة وتنميط «الآخر». وبصرف النظر عن الجوانب الإيجابية التي يمكن أن يتحمَّلها التصوُّر في بعث روح التعبئة ورفع التحدي وتحقيق الأحلام والطموحات إلاَّ أنَّ التجارب التاريخية أثبتت انحراف هذه التصوُّرات نحو فوبيا «الآخر» وشيطنته واتهامه بالبربرية والوحشية.[34].
وتحوَّل «الآخر» المختلف إلى معادل موضوعيٍّ في المنظومة الفكرية والفلسفية ﻠـ «لأنا» الغربية وأصبح وجوده حتميَّةً وضرورةً للكينونة والوجود، ووفقا لهذه الرؤية انحرف التصور من الوصف المادي الواقعي والحقيقي إلى البناء والتصنُّع والتكلُّف والتشكيل المنهجي المتناغم والمتناسق مع متطلبات المرحلة والمصلحة والمنفعة وصار يستجيب للرغبة والنزوع البراغماتي[35].
وضمن رؤية التحوُّل المتخيَّلة داخل المنظومة المركزية، يُفتقد الحوار الحضاري والتكامل الإنساني وتتأجج مشاعر العدوانية ويُنجز خطاب التأصيل لنظرية العدو الوهمي الجديد الذي يتقمَّص أفكار ومواقف المرحلة المناسباتية الآنية.
وفي سياق رؤى لوبوليكو (Le Boulicault) تتجلى نظرية «التشكيل الكاذب» التي أشار إليها الفيلسوف الألماني أزوالد شبنجلر (Oswald Spengler) (1880-1936) وهي جملة التصورات التي تؤسس لتضاريسَ وهميةٍ وتبني صوراً وهميةً وتُروِّج وتُسوِّق خطابًا معرفيّاً مشحونًا بالمغالطات والانفعالات الإقصائية والعنصرية التي تنتقي من التاريخ ما يخدم رسالتها ومرجعيتها الأيديولوجية، فتحوَّل معها «الآخر» المختلف/ المسلم إلى نموذجٍ لتشكيلٍ موسومٍ بالدونية والوحشية والمخادعة والزيف.
وينتج عن تكرار هذا الخطاب وترويجه والمساهمة في شيوعه وذيوعه تهميشٌ إراديٌّ ومقصودٌ لحضاراتٍ وثقافاتٍ بعينها كما هو الشأن لحضارة العرب والمسلمين وموازاةٌ مع الموقف التعصبي يُنجز خطاباً تفوُّقيّاً، يعتقد بانتصاره للقيم الإنسانية والحضارية لمدَنِّية «أنا» مركزيةٍ متطرفةٍ وعنصريةٍ ومتخيلةٍ، وهذا ما أطلق عليه الباحث الهندي أمارتيا صن (1933) (Amartya Sen) الحائز على جائزة نوبل للاقتصاد سنة 1998، مصطلح «العزل الحضاري» وهي رؤيةٌ عنصريةٌ تهميشيَّةٌ للحضارة الإسلامية ومساهماتها التاريخية في بناء المعرفة الإنسانية وإقصاءٌ لها من الحوار الحضاري العالمي باعتبارها تفتقد لميكانيزمات العالمية والإنسانية ومرتبطةً بالبربرية والوحشية[36].

المؤلف والنص
المؤلف
شحيحةٌ ونادرةٌ هي المعلومات البيوغرافية المرتبطة بسيرة الرحالة والمستشرق ألبير لوبوليكو (Albert Le Boulicaut) فلا نعثر في ثنايا كتب التاريخ أو الأدب إلا على شذراتٍ بسيطةٍ متعلقةٍ برحلته إلى مكة، حتى ليكاد الباحث أن يَجزم أنه لولا هذا المُصنَّف لكان نسيًا منسيًّا على الرغم من انتمائه إلى الأكاديمية الفرنسية وتعاونه الصحفي مع العديد من المجلات المتخصصة. ولد لوبوليكو (Le Boulicaut) سنة 1877 في مدينة فان (Vannes) الواقعة في غرب فرنسا بمنطقة البروتاني (La Bretagne) وتوفي بباريس سنة 1920، فهو كاتبٌ وصحفيٌّ، يعتبر أول رجل دين مسيحيٍّ دخل مكة متخفيّاً وبطريقة غير شرعية مع مطلع القرن العشرين، متنكراً في هيئة بدويٍّ[37] ومعرّفًا بنفسه وسط العامة بأنه صحفيٌّ مصريٌّ. دوَّن رحلته تحت عنوان (في بلد العجائب؛ حجُّ مسيحيٍّ إلى مكة والمدينة) ونشرت الرحلة كاملةً لأوّل مرةٍ سنة 1913، ونُشرت بعض المقتطفات منها في مجلة، المجلة الشهرية (Revue Hebdomadaire)[38] التي اشتغل بها الكاتب كمتعاونٍ ومشاركٍ، وقد تعرض الكتاب لانتقادات كبيرةٍ من حيث الشكل والمضمون، فمن ناحية المحتوى المعرفي فقد اعتبره المستشرق والفنان المسلم ألفونس إيتيان دينيه المعروف باسم الحاج ناصر الدين (1861-1923) (ةtienne Dinet) عبثاً استشراقيّاً يدخل ضمن المزاعم الكثيرة التي يتقوَّل فيها أصحابها بزيارة البقاع المقدسة الإسلامية خِفية، ثم يُدوِّنون رحلاتٍ متوهَّمةً ومُتخيَّلةً بالاعتماد على الكثير من المغالطات التاريخية التي تحرف وتشوه العقيدة الإسلامية.
وفي كتابيه (الحج إلى بيت الله المقدس) و (الشرق في نظر الغرب، دراسة في الاستشراق الأدبي)[39] تعرض الحاج ناصر الدين بالنقد العلمي الموضوعي إلى مغالطات المستشرقين في تدوين السنة والحديث عن الإسلام ومقدساته ومنهم ألبير لوبوليكو (Albert Le Boulicaut) الذين كانت مرجعياتهم في معرفة الإسلام والمسلمين كتابات المستشرقين المتطرفين ومنهم على الخصوص المستشرق البلجيكي هنري لامانس[40].
يُعتقد أن الرحلة كانت بين سنتي 1907 و 1908 لأن المتن الرحلي لا يُحدِّد تاريخًا بعينه ما عدا الإشارة إلى الأيام والشهور، وبهذا التاريخ تكون الرحلة قد أُنجزت بعد رحلاتٍ لمسيحيين سابقةٍ ومنها رحلة الطبيب الدكتور برنارد شناب (DR Bernard Schnepp) الذي توفي بجدة في 26 جوان 1866 بداء الكوليرا الموسومة ﺑـ «الحج إلى مكة؛ غير مؤمنين زاروا مكة» pélerinage de La MecQue: infidèles Qui ont visité La MecQue Le»[41] التي ألَّفها سنة 1865 وفيها رصْدٌ لرحلات مجموعة من الرحَّالة المسيحيين وأسفارهم إلى البقاع المقدسة الإسلامية، وقد أحصى أربع عشرة (14) رحَّالاً مسيحيًّا من مختلف الدول الأوروبية وهم (الفرنسي لويس بارتيما 1508) (Louis Bartema)، (الفرنسي فانسان لوبلان 1566) (Vincent Le Blanc)، (الجندي النمساوي جون ويلد 1604) (Jean Wild)، (الإنجليزي جوزيف بيتو 1566) (Joseph Pitto)، (الألماني سيتزان 1810) (Seetzen)، (الألماني بيردكهارت 1827) (Burkhart)، (الانجليزي بورتون 1853) (Le capitaine Burton)، (البارون ماليتزان 1860 المتنكر في هيئة جزائري وسافر بجواز سفر يحمل اسم سيدي عبد الرحمان) (Baron de Maltzan)، (القسيس الإيطالي دومنغو باديا 1800) (Domingo Badia)، (القسيس الايطالي جيوفاني فيناتي 1800) (Giovani Finati)، (الإنجليزي بانكس 1800) (Bankes)، (الفرنسي والين 1800) (Wallin)، (ليون روش قنصل فرنسا بتونس 1800) (Léon Roche) وأخيراً (الإنجليزي تينات المعروف بالحاج عبد الله واحه 1800) (Tenett)[42]، وكان الطبيب العامل بالقطاع الصحي التابع للحملة الفرنسية بمصر ينعت كلَّ رحالةٍ اعتنق الإسلام بالمرتد (Renégat). وبمقارنة القائمة الاسمية التي أعدَّها الطبيب شناب (Schnepp) للرحالة المسيحيين الذين زاروا البقاع المقدسة الإسلامية وكتاب (مسيحيون في مكة) الذي ألَّفه أوغستيس رالي (Augustus Ralli) نلاحظ الاختلاف حول خمسة رحّالين وقد أوردهم الكاتب في نهاية تصنيفه وكلهم اعتنقوا الإسلام وهم (هرنان بيكيل، الحاج عبد الواحد، 1862) (Hernan Bicknell) و (جون فريير خان، الحاج محمد أمين 1877) (John Frayer Keane)، (كريستيان سنوخ هرغرونج، الحاج عبد الغفار، 1855) (Christian Snouch Hurgronje) ( جيرفيه كورتلمون، الحاج عبد الله، 1894) (Gervais Courtellemont)[43].
أثارت الرحلة من حيث البناء المعرفي جملة من الإشكالات المنهجية والمفاهيمية، كان أولها أنّ الكاتب لم يُعرف عنه إتقان اللغة العربية، كما أنه لم يُسافر صحبة مترجمٍ معروفٍ بهوية الممارسة الوظيفية للترجمة، أما ثانيها فإن الرحالة ادَّعى تصوير بعض المشاهد من موسم الحج مصحوبة بأهم المعالم المقدسة الإسلامية والتي لم يُعثر عليها بعد، وثالثها أن فكرة اندماج رجل دينٍ مسيحيٍّ وسط المسلمين بملامحه الأوروبية تبدو غيرَ معقولةٍ ولا عقلانيةً بالنسبة للكثير من الباحثين. وعلى الرغم من هذه الإشكالات إلا أنّ المتن الرحلي يحفل بمشاهدَ تصويريةٍ تدلُّ على الحضور والمشاركة، فقد وصف الرحالة الآذان بدقةٍ وترجم كلماته وقدَّم كيفية الصلاة و صورةً دقيقةً عن الكثير من العبادات التطبيقية التي لا يُمكن الحديث عنها نظريّاً باستقاء المعلومات من المراجع الفقهية.

النص
يعكس النص في صفوته النهائية، صورةً مركَّبةً عن الفضاء الحجازي عامةً وعن مقدساته الدينية خاصةً، وجاءت الصورة امتداداً للتصورات والتمثُّلات التي صنعتها المركزية الغربية حول «الآخر» بصفته مغايراً ومرآةً للمكاشفة والتقييم والتقويم.
فصورة الحجاز في هذه الرحلة جاءت ضمن نظامٍ وسياقٍ خطابيٍّ معهودٍ ومتداولٍ، على عكس بعض الصور النمطية التي تأتي عرضًا ضمن سياقات الصور الذهنية المتخيلة لأداء وظائف لا تتجاوز البُنى الفنية والبلاغية.
فقد كانت الرحلات الغربية نحو الشرق تعبيرًا وتجسيدًا للرؤية الثقافية والأيديولوجية للمنظومة الفكرية الأوروبية حول «الآخر» الذي ظلَّت صور العجائبية والغرائبية والبربرية والوحشية تلاحقه في الاعتقاد السائد من المتخيَّل الوفيُّ للخلفيات والمرجعيات.
إن خطاب ألبير لوبوليكو (Albert Le Boulicaut) في هذه الرحلة جاء مخالفًا للتوجهات النمطية لصورة «الآخر» المشرقي الذي بقي لعهودٍ رهين الصورة العجائبية للمرويات الكبرى وخاصةً قصص «ألف ليلة وليلة»، «إن الاستشراق يعتبر الشرق والشرقيين «موضوعًا» للدراسة، ويطبعهما بطابع غيريَّةٍ معيَّنةٍ، مثل كل ما هو مختلف، سواء كان «ذاتًا» أو «موضوعًا» ولكنها غيرية تُشكِّله»[44].
إن عجائبية الكاتب في سرده انبثقت من المشاهد والأحداث التي رآها وعايشها ومن الصراع بين الطبيعة بتضاريسها ومناخاتها القاسية والمُعتقد الإسلامي الذي لأجله تُقدَّم القرابين والتضحيات، فالفانتستيك مصدره صفات المؤمنين من صبرٍ وعناءٍ وفراقٍ ومشقَّةٍ في سبيل إرضاء المعبود وهي صفاتٌ لا يدركها إلا المؤمن الذي يعتقد بأن ما عند الخالق أفضل وأحسن وأجود.
وتكمن جماليات الخطاب الواصف في محمولاته المعرفية، فالسرد اقتصرت وظيفته على تقديم خطابٍ معلوماتيٍّ تبليغيٍّ، مُشبَّعٍ ومشحونٍ بالأنباء والأخبار المكثَّفة التي تُفسِّر للمتلقي جوانب العجائب والأسرار، فالغرائبية في هذا النص الرحلي لا تستمدُّ شرعيتها من عوالم الخوارق واللامعقول، ولكن أسرارها تكمن في القوة الإيمانية والعقائدية للمسلمين وهم يستجيبون لنداء ربهم في إتمام أحد الأركان الأساسية للإسلام «فلا قيمة للوجود بالنسبة للمسلمين خارج الإيمان بالله وبرسوله»[45].
فالخطاب عند لوبوليكو يتشكَّل من مستوياتٍ سرديةٍ ومرئيةٍ مشهديةٍ، ففي المستوى الأول تتحدد الوظيفة في التبليغ لملامسة المكتسبات المعرفية للمتلقي حول الإسلام والمسلمين عامةً وفريضة الحج خاصةً، ليتحوَّل الخطاب في المستوى الثاني إلى إدراك وتأويل العلامة السيميائية للمشهد المرئي لشعائر المسلمين وضمن هذه الشبكة الخطابية تقترن وتندمج الصورة الموصوفة بالحركة الحية النابضة بالحياة فيصبح المتلقي مشاركًا للحركة من خلال التصوير الفنِّي ومُنتجًا للدلالة من خلال المرجعية «في علاقاتنا مع الإسلام، فإن القضايا والمسائل متداخلةٌ دينيًّا وسياسيًّا وخارجيًّا وداخليًّا»[46].
والكتاب ثريٌّ بالمشاهد والمواقف التاريخية التي تكشف ثقافة المؤلف الإسلامية واطّلاعه على أهم الأحداث التاريخية في السيرة النبوية العطرة وأصحابها الأكرمين، صحابة رسول الله - ص- ومنها على سبيل المثال حادثة أبولبابة الأنصاري الذي قيل أنه ممن تخلّفوا عن غزوة تبوك، وندم على ذلك، فربط نفسه في سارية المسجد النبوي أيامًا إلى أن حلّه النبي محمدP بيده[47]. ويُشير الكاتب إلى ركنٍ من أركان الروضة الشريفة يُعرف باسم اسطوانة أبو لبابة (التوبة) تخليدا للحادثة.  واتجاه المسلمين في جميع أصقاع الدنيا نحو الكعبة لحظة الصلاة، والتي يصفها بأنها «من أطهر الأماكن وأكثرها قداسة»[48].
ويُذكِّر الكاتب أيضاً بالتزام المسلمين بالطواف حول الكعبة سبعة أشواطٍ، في اتجاه معاكسٍ لدوران عقارب الساعة، تعظيمًا لله وتطبيقا لشعائره وتلبية لطاعاته، قال تعالى: ﴿ذَٰلِكَۖ وَمَن يُعَظِّمۡ شَعَٰٓئِرَ ٱللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقۡوَى ٱلۡقُلُوبِ﴾ (الحج:32) ويعرض الكاتب بعض الروايات المنتشرة في المرويات العربية والأدبيات الدينية والتي لم تقم عليها أدلةٌ ثابتةٌ، والتي تحاول أن تجعل من الطواف عملاً ملائكيّاً، تُنجزه الملائكة تكريمًا وتقديسًا للبيت العتيق[49] لأنهم بنوه مع آدم Q ليكون فضاءً للعبادة.
لقد استقى الكاتب معلوماته من بعض السير والروايات المتناقلة والمتوارثة في بعض المتون الاستشراقية ومن بعض السرديات الرحلية والسّفريّة العتيدة والتي يغلب عليها الجانب الخرافي والطابع الغرائبي والعجائبي. وأغلب الروايات المتداولة حول تأسيس الكعبة الشريفة وبنائها تتبنىّ فكرة آدمQكمؤسِّسٍ أوّلَ لها، فببليوغرافيا التاريخ الإسلامي (الغربي) في هذه الفترة تُجمع جميعها على تكرار المعلومات ذاتها حول تأسيس الكعبة وهي أفكارٌ ورؤًى تقترب من الأسطورة والخيال والخرافة أكثر منها إلى العلمية والعقلانية والمنطق[50].
لم يكن الرحالة المستشرق مواكبًا للعلوم الإسلامية عن طريق المعايشة وهو متستِّرٌ تحت قناع المسلم المتعاون مع إحدى الصحف، بل كان مسلمًا عالمًا بشعائر دينه، فهو يُفرِّق بين الآذان ذاكراً ألفاظه[51]، والصلاة والإقامة، ويتحدث عن الوقوف بعرفة مذكراً بقيمته ومكانته في الحج، ويُبيِّن موعد رمي الجمرات وعددها وأماكن جمعها «جمعت الجمرات السبع التي سوف أرميها على الشيطان بمدخل مزدلفة وفقاً للشعائر المتعارف عليها، وتخليداً لذكرى إبراهيم والوسيلة التي استخدمها في محاربة إغواء الشيطان»[52]، مستعرضًا الحكمة من تقبيل الحجر الأسود وتعظيمه[53]، وهو مندمجٌ مع الحجاج في أداء مناسكهم، يُحاورهم ويُسائلهم ويُشاركهم في الأكل والعبادة «اختلطت في سوق الماشية مع الناس وإخواني في الإسلام، لرؤية الأغنام التي أحضرها البدو للأضاحي في مِنى»[54] مُذكرًا بالطواف وعدد الأشواط[55]، مستحضرًا آيات القرآن الكريم وأحاديث الرسول P للحجة والبرهان.
وعلى الرغم من الاطلاع الكبير على تعاليم الإسلام إلا أن الكاتب وقع في أخطاء متعلقة بترتيب آيات القرآن الكريم، فقد استمع الكاتب مثلاً إلى الشيخ »سليمان« وهو يتلو آيات من القرآن الكريم فيها نعم الجنة على عباد الله الصالحين، ولكنه أخطأ في ترتيبها، فقال إن الآية الكريمة ﴿وَبَشِّرِ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ أَنَّ لَهُمۡ جَنَّٰتٖ
تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُۖ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنۡهَا مِن ثَمَرَةٖ رِّزۡقٗا قَالُواْ هَٰذَا ٱلَّذِي رُزِقۡنَا مِن قَبۡلُۖ وَأُتُواْ بِهِۦ مُتَشَٰبِهٗاۖ وَلَهُمۡ فِيهَآ أَزۡوَٰجٞ مُّطَهَّرَةٞۖ وَهُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ﴾ هي الآية الثالثة والعشرين(23) من سورة البقرة، ولكنها في الحقيقة الآية رقم 25، بينما الآية (23) هي قوله تعالى ﴿وَإِن كُنتُمۡ فِي رَيۡبٖ مِّمَّا نَزَّلۡنَا عَلَىٰ عَبۡدِنَا فَأۡتُواْ بِسُورَةٖ مِّن مِّثۡلِهِۦ وَٱدۡعُواْ شُهَدَآءَكُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ﴾.
كما صنف الآية الكريمة ﴿وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ سَنُدۡخِلُهُمۡ جَنَّٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَآ أَبَدٗاۖ لَّهُمۡ فِيهَآ أَزۡوَٰجٞ مُّطَهَّرَةٞۖ وَنُدۡخِلُهُمۡ ظِلّٗا ظَلِيلًا﴾ بأنها تحمل رقم (60) من سورة النساء، في حين أنها مرقمة (57) من السورة نفسها بينما الآية (60) هي ﴿أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يَزۡعُمُونَ أَنَّهُمۡ ءَامَنُواْ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبۡلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوٓاْ إِلَى ٱلطَّٰغُوتِ وَقَدۡ أُمِرُوٓاْ أَن يَكۡفُرُواْ بِهِۦۖ وَيُرِيدُ ٱلشَّيۡطَٰنُ أَن يُضِلَّهُمۡ ضَلَٰلَۢا بَعِيدٗا﴾[56].
وعلى الرغم من هذه الشواهد الدقيقة في معرفة الإسلام وتشريعاته، وترديد الكاتب في سياقات كثيرة لعبارة «إخواني في الإسلام»[57] حتى يعتقد ويؤمن المتلقي وهو يستقبل الإرسالية الخطابية بصحة عقيدة لوبوليكو (Le Boulicaut) وانتمائه للإسلام ولكنه يصطدم باعترافه وإقراره باختلاف ديانته عن ديانة مُرافقيْه وخادميْه، موطب (Moutab) وجابر (Gueber) «حينما انطفأ النور، اعتقد رجالي أني نائم، ولكني كنت أسمعهم يتهامسون بإعجاب: إنه رجل قديس، فهم يعاملونني كأخ لهم، أيها البائس موطب أيها البائس جابر! لو تعلما أن ديني مختلف عن دينكم»[58].

مسار الرحلة
 اتًّبع لوبوليكو (Le Boulicaut) منهجية اليوميات (Journal) ويوميات القُمرة (Journal de bord) في سرد ووصف دخوله مصر كجسر عبورٍ نحو الأراضي الإسلامية المقدسة، مُتخذاً من تاريخ وصوله (12 نوفمبر/ تشرين ثاني) على متن الباخرة الفاخرة (Schleswig du Norddeutscher Lloyd.)( ([59]بدايةً لسرد الأحداث والوقائع ووصف المشاهد وتصوير صورة «الآخر» الثقافية والاجتماعية والدينية.
وكانت القاهرة المحطة الثانية بعد الإسكندرية التي وصلها في 12 نوفمبر/ تشرين الثاني وفيها وصف الكاتب كيفية أداء الصلاة من تكبير وركوع وسجود، ولم تدم إقامته بها طويلاً لينطلق نحو السويس استعداداً للرحيل نحو مكة وقد وصلها في 19 ديسمبر/ كانون الأول وقد أقام في فندق الهواء الجميل، والقاهرة هي المحطة الأولى من المحطات الست التي جعلها الكاتب مرتكزات أساسيةً لمساره الرحلي.
افتتح الكاتب الفصل المخصص بمكة بقوله تعالى ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيۡتٖ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكٗا وَهُدٗى لِّلۡعَٰلَمِينَ ٩٦ فِيهِ ءَايَٰتُۢ بَيِّنَٰتٞ مَّقَامُ إِبۡرَٰهِيمَۖ وَمَن دَخَلَهُۥ كَانَ ءَامِنٗاۗ وَلِلَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلۡبَيۡتِ مَنِ ٱسۡتَطَاعَ إِلَيۡهِ سَبِيلٗاۚ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ ٱلۡعَٰلَمِينَ﴾ مُدَّعيًا أن الآيتين هما (90 و 91) من سورة آل عمران في حين أنهما (96و97) أما الآيتين (90 و91) هما قوله تعالى ﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بَعۡدَ إِيمَٰنِهِمۡ ثُمَّ ٱزۡدَادُواْ كُفۡرٗا لَّن تُقۡبَلَ تَوۡبَتُهُمۡ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلضَّآلُّونَ ٩٠ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمۡ كُفَّارٞ فَلَن يُقۡبَلَ مِنۡ أَحَدِهِم مِّلۡءُ ٱلۡأَرۡضِ ذَهَبٗا وَلَوِ ٱفۡتَدَىٰ بِهِۦٓۗ أُوْلَٰٓئِكَ لَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٞ وَمَا لَهُم مِّن نَّٰصِرِينَ﴾ لينتقل إلى وصف الشوارع واكتضاضها بالحجاج «مدينةٌ عربيةٌ غيرْ نظيفةٍ مثل الأخريات، بشوارعها المكتضة بالحجاج، إنهم مائةٌ وثمانون ألفاً هذه السنة»[60].
أما في الطريق نحو المدينة، فقد صور الكاتب فرحة الحجاج بعد أدائهم للشعائر«كلُّ واحدٍ من الحجاج في لغته الخاصة، يُعبِّر عن فرحته بأغانٍ لحصوله على لقب «حاج» وباقتراب عودته لأهله»[61].
إنها المدينة «بشوارعها المرصوفة، المغبرة، ودكاكينها الممتلئة بالبضائع والسلع وبازاراتها الصاخبة، خاصةً درب البازار، إنها بازارات الصاغة والنقَّاشين على النحاس»[62]، ومن المشاهد التي أثارته في المدينة اهتمام العربي بالحصان الأصيل «يتعلق العربي تعلقًا شديدًا بحصانه، فهو رائعٌ... إنه من عرق وسلالة صافية، ففي حين لا يملك الناس بطاقة هوية، فالحصان يملك واحدةً، وهي هويةٌ مقدسةٌ وكلُّ تزويرٍ فيها يعدُّ جريمةً»[63].
وكانت المرحلة الأخيرة العودة إلى الديار بعد مغامرة الحج تحت قناع الإسلام، والتي ابتدأت بتصوير مشهد الأمطار الغزيرة التي تهاطلت على المنطقة وسبَّبت فسادًا كبيرًا في الطرقات، ثم بدأت عملية الاسترجاع والتذكُّر لكل مشاهد الحج والمواقف بسلبياتها وايجابياته.
بين الأسرار (Secrets) والعجائب (Mystères)
إن البحث المعجمي في المتون اللغوية يكشف عن الفروق الدلالية بين مصطلحَي الأسرار والعجائب، فلم يكن اختيار الرحالة للفظ العجائب (Mystères) اعتباطيّاً ولا هامشيّاً، بقدر ما هو اختيار قوي الدلالة، كثيف المعنى، رمزي المقصد.
إن كلمة (mystère) من اليونانية القديمة (musterion) المشتق من (muein) ويعني (مُغلق) ويوظف في الخطابات الإنجيلية للدلالة على الجوانب الخفية من اللاهوت المسيحي، والتي ترمي إلى المجهول، والغامض وغير المُفسَّر، ومرادفه اللغز والمُبهم.
أخذ المعنى تطورًا عبر العصور، ففي العصر الوسيط دلَّ على قطعة مسرحية ذات موضوعٍ دينيٍّ، ليتحول إلى الدلالة على العلاقة بين (الرب وابنه) وفق العقيدة المسيحية، لتنتهي مع المعاصرين إلى الدلالة «على عقائد المؤمنين وأسرارها العجيبة التي لم يتم تفسيرها عقليّاً»[64] وفي موسوعة لالاند الفلسفية «معنًى متخفٍّ وراء رمزٍ... رمزٍ يحجب معنًى خفيًّا... مُعطًى غيرُ قابلٍ للتفسير، مسألةٌ لا يمكن حلُّها»[65]، أما معجم الأكاديمية الفرنسية فيعتقد أن المفهوم والمصطلح يدلَّان على «كل ما هو خفيٌّ وسريٌّ، في شؤون الدين ويقصد به الجوانب المستترة والمضمرة من الدين»[66].
وجاء في لسان العرب لابن منظور، نقلاً عن الزجّاج «أصل العَجَبِ في اللغة، أن الإنسان إذا رأى ما يُنكره ويقلُّ مثله... أما ابن الأعرابي: العجَبُ النظر إلى شيءٍ غيرِ مألوفٍ ولا معتادٍ»[67].
أما مصطلح «الأسرار» (Secrets) الذي وضعه بعض المترجمين مرادفًا ﻟــ (Mystères) فإنه من الناحية الاشتقاقية بعيد عن الدلالة القصدية، التي تحمل مضمون الغرائبية والعجائبية، ذلك أن السرَّ كما يقول ابن منظور «السرُّ من الأسرار التي تُكتم، والسر: ما أَخفيتُ، والجمع أسرار... وأسرَّ الشيء، كتمه وأظهره وهو من الأضداد»[68].
إن الأسرار معلوماتٌ مخفيةٌ إراديّاً آو ألغازٌ تستوجب الحلول وتتطلب البحث، ولكنها معروفة ومعلومةٌ من مجموعةٍ من الناس «السرُّ أمرٌ معروفٌ من قِلة من الناس»[69] فالأسرار تستمد قوتها من محدودية الانتشار بينما تعتمد العجائبية على قوة الغموض واللامنطقية واللاعقلانية واللاتناهي التي تشكِّل سلسلة الدلالات المجهولة لعالَمَي الخوارق والمعجزات.
ولا نكاد نعثر في كتب التعريفات أو الفروق اللغوية على توضيحٍ يكشف الفرق بين (الأسرار) و (العجائب) ماعدا ما أوردته الموسوعة الالكترونية أغورا (AGORA) والتي ترى «أنّ هناك فروقاً جوهريةً بين الأسرار والعجائب، فالأسرار معلوماتٌ معلومةٌ من مجموعةٍ محددةٍ من الناس... أما العجيب (العجائب) فهو المُستعصي على التفسير العقلي، ولا يخضع للفهم المنطقي»[70].
فالعجيب يتصل ابيستيمولوجيّا بحقلٍ دلاليٍّ مرتبطٍ بالخوارق والفانتستيك، التي تثير الدهشة والحيرة والانفعال بغير المألوف الذي تصاحبه مشاعر العجز والضعف.  يُلخِّص الباحث الفرنسي تزيفيتان تودوروف الدلالات المتداولة لمفهوم العجيب والعجائبية بقوله «التعاريف الثلاثة، هي، عن قصدٍ أو غيرِ قصدٍ، شروحٌ على بعضها البعض: ففي كلِّ مرةٍ هناك « السرُّ الخفيُّ» «المُستغلق عن التفسير»، «اللامعقول»، الذي لا يندسُّ في الحياة الواقعية، أو في «العالم الواقعي»، أو كذلك في «الشرعية اليومية التي لا تتبدل»[71].
إن مضمار «العجيب» هو الاستفهام الإنكاري البعيد عن المنطق والعقلانية، هو العجز عن تفسير الظواهر والمشاهد والأحداث والأفكار وفق قوانين ومعايير الأنظمة والسياقات العقلية «التردد الذي يحسه كائنٌ، لا يعرف غير القوانين الطبيعية، فيما يواجه حدثًا فوق- طبيعيٍّ حسب الظاهر، فالمفهوم يتحدد إذاً بالنسبة إلى مفهوميْن آخريْن هما الواقعي والمتخيل»[72].
 إن الصورة المنظور إليها تعكس الصورة النمطية للمسلمين في المتخيل المسيحي دينيًّا وفي المركزية الغربية معرفيًّا وفي السينما والإعلام تواصلاً واتصالًا، فالنمذجة بقيت وفيةً للمرجعيات، صادقةً مع المنبع والمنهل، لذلك فالعجائب (Mystères) مصطلحٌ دينيٌّ مسيحيٌّ يعبر عن الدهشة والغموض عند استعظام أشياء (شعائرَ دينيةٍ خاصةٍ) عجز العقل عن تفسيرها وتأويلها، في حين أن لفظ الأسرار (Secrets) يوحي بعدم بلوغ مجموعةٍ من الأشخاص معرفة دلالاتٍ ومضامينَ سلوكياتٍ بعينها، بعد معرفتها من قبل جهاتٍ وفئاتٍ أخرى.

التأصيل لثقافة الكراهية
تأسَّس الفكر المركزي الغربي على جملةٍ من المرويات الأسطورية كرَّست فكرة التفاوت العرقي، لتُصنِّف المنظومة البشرية إلى فئتين، الأولى متحضرةٌ ومُتمدِّنةٌ والثانية بربريةٌ ومُتوحِّشةٌ، وتجعل من »الآخر/ المختلف« صورة للدونية والنّقص الذي يتطلب التدخل لإنقاذه من براثن التخلف وسلبيات التخلف الفكري والحضاري والخلقي.
تنتهج المركزية الغربية استراتيجيات معرفيةً وأشكالاً منهجيةً في التعبير عن قوتها وايجابياتها قياساً إلى «آخر» تتفنن في تبخيس دوره الحضاري وإقصائه من التراكمات الثقافية التي تتأسس عليها الحضارات الإنسانية كلها تحت قناع العقلانية «نعتقد في غالب الأحيان أننا داخل العقلانية بينما لا نكون في واقع الأمر إلا داخل العقلنة، أي داخل نسقٍ منطقيٍّ بشكلٍ تامٍّ لكنه يفتقد للأساس التجريبي الذي يسمح بتبريره، ونعرف أنه بإمكان العقلنة أن تخدم الهوى، بل وتقود إلى الهذيان، يوجد هذيانٌ خاصٌّ بالعقلانية المغلقة، يخلق الإنسان الصانع أيضاً أساطيرَ هاذيةً، يمنح الحياة لآلهةٍ قاسيةٍ ترتكب أفعالاً بربريةً»[73].
يسعى خطاب «الفوبيا» إلى خلق مناخٍ من الخوف واللاأمن لدى المتلقي وإشعاره بتهديد غريزته في البقاء، فتتمكن ثقافة الخوف من النفس وتستقر فيها، فيحول «الآخر» إلى نموذجٍ وصورةٍ للإلغاء ولإفناء كينونة ووجود كلِّ مختلفٍ، سواءً كان ماديّاً أو معنويّاً.
وللمحافظة على الهوية والخصوصية الثقافية وحب البقاء، تندفع »الأنا« المهددة في وجودها إلى اتخاذ إجراءاتٍ تحصينيةٍ والتزام ثقافةٍ ممانعةٍ لتتصدَّى لمخاطر «الآخر» الوحشية، وهذا ما حاول الكاتب تبليغه وبثَّه كإرساليةٍ مشحونةٍ بخطابٍ تحذيريٍّ «إن اكتشاف تواجد غيرِ مؤمنٍ (مسيحيٍّ أو كافرٍ) في الحجاز، يؤدي إلى قتله بوحشيةٍ ودون رحمةٍ، بعدما يتلقَّى ويتذوَّق العذاب الشديد للإخصاء»[74].
إن الترهيب بالقتل أو فقدان أعضاء بيولوجيةٍ بالقطع والتعطيل يؤدي إلى تكوين وتشكُّل جملةٍ من العواطف تنطلق من الخوف لتصل إلى الكراهية والتعصب والتطرف، وهذه في عمومها نتائج الصور النمطية التي بنَتها وصنعتها المرويات والسرديات الكبرى، وعجزت المنظومات الفكرية المعتدلة على تفنيدها وإبطالها.
 نهى الشَّرع الحكيم عن صبر البهائم وإخصائها والتحريش بينها ووسمها في الوجه، وقال عبد الله بن عباس «نهى رسول الله P عن التحريش بين البهائم»[75]، وبهذا يكون التشريع الإسلامي الحكيم سبَّاقاً إلى التأسيس لمنظومةٍ قانونيةٍ وأخلاقيةٍ تحمي حقوق الحيوان في العالم، حيث تزخر السيرة العطرة بالمواقف الخالدة للرسول P في التعامل مع الحيوان سواءً كوسيلة نقلٍ أو مصدر رزقٍ أو أداةٍ للصيد، ولم يترك ظرفًا ولا مناسبةً إلَّا ونبَّه إلى أن هذه الكائنات أممٌ مثلنا، فدعا إلى حسن معاملتها وعدم تعذيبها وترويعها وتشويه وجهها أو إخصائها، فقد روى ابن عباس أن النبي P «نهى عن إخصاء البهائم نهيًا شديداً».[76]
ويشهد التاريخ أن المسلمين تعاملوا مع الخصيان ولكنهم لم يقوموا بإجراء العمليات نظرًا لتحريم الشريعة لمثل هذه التشويهات التي تُسيء للإنسان ولفطرته التي فطره الله عليها، ويختلف المؤرخون في تحديد المهد الأصلي لأول عملية، فتاريخ الخصي يعود إلى التاريخ القديم وبالتحديد إلى عصر البيزنطيين والإغريقيين، والبابليين والفُرس ويُقال أنَّ الفراعنة هم أول من اتخذوا الخصيان في قصورهم، وقد كان في البداية مقصوراً على الأسرى ثم انتقل إلى العبيد والخدم بحكم ظروف عملهم داخل القصور وتعاملهم المباشر مع نساء القصور. أما في ايطاليا فكان يتمُّ خصي قسمٍ من المُغنِّين حتى نهاية القرن التاسع عشر لترفيع أصواتهم وتحسينها وتحصينًا لنساء المجتمع البورجوازي وكَبْحًا لطموحاتهم التي أوصلت البعض منهم إلى أعلى المناصب، ومنهم على سبيل المثال تشنغ خه الرحالة الصيني المسلم (1371م- 1433م) وكافور الإخشيدي (946-968 م)[77].
وتتوافق الرؤية الإسلامية في حماية جسم الإنسان من التشويه والقطع والبتر مع ما تذهب إليه المنظمات الحقوقية المعاصرة، في اعتبار المحافظة والحماية على الأعضاء البشرية من التلف والمتاجرة معياراً من معايير التحضُّر والتمدُّن، وهي المقاربة التي قدَّمتها الباحثة لورانس مولينيه (Laurence Molinier) من جامعة ليون (Lyon) بفرنسا في مؤتمر (الأجساد المُذَلُّة والأجساد المُمزَّقة (المُشوَّهة)، نظراتٌ متقاطعةٌ من العهد القديم إلى العصور الوسطى) (Corps outragés, corps ravagés. Regards croisés de l’AntiQuité au Moyen آge) المنعقد بجامعة بواتيه (Poitiers) الفرنسية، حيث اعتبرت «أن درجة الحضارة لأيِّ مجتمعٍ تُقاس وتُحسب بمدى شغفه وحرصه على حماية وادخار الجسم كله وبكامل أعضائه»[78].
 من المشاهد المثيرة التي رصدها الكاتب وأثبتها في رحلته صورةٌ لمقيمين بمكة وجوههم مُشرَّطةٌ، فتبدو مُشوَّهةً ومميزةً تكشف عن اختلافهم عن بقية السكان «منذ دخولي إلى مكة لاحظت بغرابة أشخاصاً مُشرَّطة وجوههم... فسألت مرافقي فقال: إنها التشريط نسبة إلى العملية التي تحمل الاسم نفسه، فبعد أربعين يوماً من ميلاد المولود الذكر، يُشرَّط خدّاه وصدغه عموديّاً، إنها علامةٌ لا تُمحى لتمنع وتميِّز سكان مكة عن بقية الناس»[79].
إن الصورة المُعبَّر عنها لظاهرة تشريط الوجه في مكة كعلامةٍ هوياتية للتمييز بين الأصيل والدخيل، لم تثبتها كتب التاريخ ولم تَرد حتى بصيغة الإشارات البسيطة، وإنما أشارت المراجع التاريخية إلى ممارسة الحجامة كوسيلة علاجية، وفي مواضع مختلفة من الجسم ولكن لا بالحجم الكمي المبالغ فيه لتصبح الندوب علاماتٍ لتحديد الأصل والهوية.
تلعب استراتيجية المبالغة وسلطة التهويل والترهيب أدوارًا مركزية في تهيئة «الذات» للمناعة والمواجهة، فهي تنشر ثقافة الغلو والمغالاة، وتدفع إلى صناعة شعور الفزع والخوف من «الآخر» وثقافته ودينه، وتكوين ثقافة وأيديولوجية «فوبيا الآخر».
 لم يؤسس الكاتب خطابه في هذا السرد التنميطي لصورة «الآخر/ المسلم» على المرجعية المعرفية الموضوعية التي تستقي الفكرة من المصادر العلمية أو عن طريق الاحتكاك المباشر بالآخر والمختلف في تمظهراته وتجلياته المختلفة والمتنوعة ولكنه اكتفى بمساءلة المرافق (Le Compagnon)، والمرافَقة كمَهمَّة ووظيفة تُحيل إلى شخصية «الخادم» المُكلَّف بإنجاز أعمالٍ بعينها، بعيدًا عن الاستشارة العلمية في تفسير الظاهر الدينية والثقافية والأنثربولوجية.
ينتقل الكاتب إلى انتقاد مظاهر العمران والتمدن من خلال تصويرٍ دقيقٍ للشوارع ليثبت غياب البُعد الحضري الذي يميز المدينة عن غيرها من الفضاءات المعمورة والآهلة بالسكان. وكانت ظاهرة انتشار الأوساخ والفضلات من الظواهر الأكثر تشويهًا لمدينة «جدة»، حيث تنتشر الفضلات في كل الشوارع وهي تشكل بذلك مشهداً سلبيّاً يؤثر على البيئة والإنسان «شوارعُ ضيِّقةٌ، مُتَّسِخةٌ، ومُتعرِّجةٌ، مُغيَّمةٌ بسحبٍ مُتحرِّكة من الذباب الذي يصدر طنينًا دون كَللٍ، يَصُمُّ الآذان»[80].
يريد الكاتب إدانة المجتمع المدني باعتبار المُحيط البيئي صورةً للمواطنة الحضرية، ودليلاً على تطور وعيه وانتقاله من البدائية العمرانية إلى المدنية الواعية، وفي هذا التصور تكرارٌ للصور والمشاهد النمطية التي تكرسها المركزية الغربية، التي تعتقد أن المجتمعات غير الأوروبية، عبارةٌ عن تَجمُّعاتٍ بشريةٍ تفتقد لمظاهر التمدُّن، ما لم تحتكَّ بالحضارة الغربية باعتبارها نموذجًا ومثالاً للاحتذاء.
فالقمامة تُشوِّه مناظر المدينة وتعرقل سيرورة التنمية والتقدم والارتقاء الفكري والإنساني، وفي انتشارها معيارٌ وحُجيَّةٌ على درجات تحضُّر سكانها والمُقيمين فيها «في كلِّ شارعٍ ومع كلِّ خطوةٍ نصطدم بقطع البطيخ، والخضر وبقايا اللحم والعظام المتعفنة، والتي تنتظر الكلاب والماعز لالتهامها وتنقية الشارع من آثارها»[81]، وللنفايات أثارٌ سلبية على الإنسان والمحيط وهي سببٌ مباشرٌ لانتشار الأمراض والأوبئة والتي تنعكس على الصحة العمومية والبيئية للفضاء وينتج عنها اضطراب في المكونات السيكولوجية والاقتصادية والبيئية للإنسان «تنبعث روائحٌ كريهةٌ من مكانٍ، فهي تخنقك وتؤلم قلبك، وتدفعك إلى الإسراع في العبور واضعاً منديلاً تحت أنفك»[82]
إن لوبوليكو (Le Boulicaut) في هجائه للمناظر المشوهة بالفضلات ومخلفات التجار يدرك أيما إدراكٍ أن العقيدة الإسلامية في مقاصدها الراقية والسامية تحرص كل الحرص على الصحة البدنية والبيئية حفاظًا على النفس البشرية، كما يُقدِّر جهود الهيئات المختصة في محاربة التلوث.
إن السلطة الإدارية أصبحت عاجزةً أمام مشكلة الصحة العمومية، خاصةً بعد استفحال سلوك الرمي العشوائي للنفايات والفضلات وهذا ما يستوجب المشاركة الجماعية بنشر الوعي العام بأهمية النظافة وهي الظاهرة التي شهدتها جميع المجتمعات البدائية في مراحل تكوُّنها ومنها المجتمعات الغربية.
فمسألة النظافة من المسائل التي لمْ تكنْ تحتل مرتبة الأولويات في المُجتمع الغربي، فالحمامات وأماكن الاغتسال كَانت مجرد ديكورٍ في قصور وإقامات الأغنياء والطبقات المَيسورة، الذين كانوا يستغلونها في مناسبات محدَّدة «إنَّ النظافة لمْ تكن دائمةً ومُستمرةً، وكان الماء يستعمل بطريقةٍ احتفاليَّةٍ، ولم تتغيَّر هذه الوضعيَّة إلا في مطلع القرن الثامن عشر، حيث أصبح الاستحمام مقتصرًا على الفئات البورجوازيَّة»[83].
كما كان رمي النفايات من النوافذ وقضاء الحاجة علناً من المسائل العاديَّة، حيث تنتشر الروائح الكريهة، وتتجمع النفايات وبقايا الفضلات في الشوارع، ممَّا سبَّب أمراضاً وأوبئةً كثيرةً، منها الطاعون والكوليرا ومُختلف أنواع الحمّى، التي أثبتت البحوث المخبريَّة لاحقاً أنَّ أسبابها تعود إلى انعدام النظافة وقلّة استعمال الماء.[84]
وتشير كُتب التاريخ إلى حالاتٍ كثيرةٍ لمشاهير، من الطبقات السياسيَّة خاصَّةً، لم تكن تعرف للنظافة سبيلاً، ومنها ما ارتبط مثلاً بالملك الفرنسي لويس الرابع عشر (1638-1715) (Louis XIV) الذي كان لا يغتسل، وكانت نظافته لا تتجاوز الأجزاء المكشوفة، كالوجه والرقبة، وقد استاء القيصر الروسي من رائحته الكريهة، والتي بسببها تم اختراع أقوى العطور والبخورات للتقليل من نتانة جسمه «حول سؤال هل يستحم لويس الرابع عشر، أجابت كلُّ أجيال المؤرخين بالسلب، وأقروا أنَّه أحياناً قد يدخل الحمام بِناءً على أوامر أطبائه في حَالة المرض»[85].
وحال الأشخاص لا يختلف عن وضع المدينة وشوارعها، فهي مرتعٌ للحيوانات الضالة، وممرٌّ لبقية الحيوانات المستخدمة في النقل كالبغال والحمير، وإسطبلٌ مفتوحٌ للحيوانات التي تنتظر الذَّبح كالأبقار والخنازير، وكانت تترك فضلاتها مكشوفة في الشارع، مسبّبة آثارًا كبيرةً وتلوّثاً واضحًا في المُحِيط والذي تصاحبه دائماً الروائح الكريهة وانتشار الحشرات والذباب وغيرها «مجهوداتٌ كبيرةٌ بُذِلت في نهاية العصر الوسيط لمحاربة مُخالفات الطريق، وتأدِيب الحضريين، للتقليل من تراكم الأوساخ في الشوارع، التي نتجت عنها روائحُ كريهةٌ تخرج من البالوعات والمقابر، وقد عمَّ هذا التلوث البيولوجي والمعدني والكيميائي الشَّوارع وانعكس على المياه والترع والأنهار»[86].
وقد زاد من شدَّة التلوّث طريقة إنشاء الشَّوارع والممرات، فقد كانت في أغلبها لا تستجيب للمعايير الصِّحية، فهي ضيقةٌ وغيرُ مُعبدةٍ، مع قلة قنوات صرف المياه القذرة، ويتوزع التجار والجزارون في مُختلف الشوارع، مُخلفين وراءهم بقايا بضاعاتهم وسلعهم وفضلات ذبائحهم التي تتحوَّل في ما بعد إلى مصدرٍ أساسيٍّ من مصادر انتشار الأمراض التي تفتك بالناس. كما سادت في مجتمع القرون الوسطى سلوكاتٌ سلبيَّةٌ ساهمت في انتشار الأوساخ والقمامة، فأصبح رمي النفايات من النوافذ أمرًا وسلوكاً عاديّاً، بالإضافة إلى الذَّبح العشوائي في الشّوارع، حيث تحوَّلت الشوارع والأزقة إلى مَسالخَ مفتُوحةٍ، يتبعها ترك الجزارين بقاياهم ومُخلفاتهم في العراء، كما كانت جثث الموتى البشريَّة توضع في الطرقات في انتظار عربات نقل الجثث، فالمدينة الأوروبيَّة لم تكن بالصورة الجماليَّة المعروفة اليوم، فقد كان «يتمُّ الولوج إلى المدينة مِن أحد أبوابها المُحصنة والمحروسة من قبل الجنود، وكانت أبوابها تغلق ليلاً... أمَّا شوارعها فكانت ضيقةً، مُتعرجةً، ومظلمةً، مساراتُها موحلةٌ، وكانت موصولةً ببعضها بسلالم. بِها قناة رئيسيَّة واحدة لجمع المياه، وكان السكان يرمون فضلاتهم من النوافذ، ويتركون أوساخهم وبقايا الأخشاب والحصى في الشوارع..».[87]. وهندسة الطرقات لم تكن تخضع لمعايير البناء والتَّخطيط العلمي، فكانت أغلبها عشوائيَّةً تكونت نتيجةً للممارسة، فقد تعوَّد السكان على السَّير في ممراتٍ ومسالكَ لقربها من مناطق عملهم أو إقاماتهم، فتحوَّلت بحكم الوظيفيَّة والعادة إلى شوارع ومَعابر. ولم تكن السلطات الإداريَّة تولي هذه الشوارع الأهميَّة مِن حيث الإنارة والنظافة وغيرهما من المرافق الضروريَّة لإقامة الطرقات والشوارع «وكانت الشوارع عبارةً عن أروقةٍ صغيرةٍ، ضيّقةٍ، تصاحبها إنارةٌ ضعيفةٌ وخافتةٌ، وهذه الظروف تدفع الفضوليين والزائرين ليلاً إلى اتخاذ إجراءاتٍ أمنيةٍ خاصَّةٍ»[88].
يرتفع إيقاع التخويف حين يُعلن الكاتب أن التشريع الإسلامي يُحرِّم القتل وارتكاب الفواحش والرذائل حماية للمسلم خاصةً والإنسانية عامة مع استثناءٍ واحدٍ «لا بد من بذل جهدٍ للتذكر بأنَّنا في «المدينة» وسط الإقليم المُقدس، أين تُمنع كل المحرمات، فيُحرَّم قتل حتى الحيوانات، ماعدا غير المؤمنين. وغير المؤمنين هم نحن؟»[89]. وبين صراع السيف وكسب العقول والقلوب تذبذبت آراء الكاتب، فهو يسرد في هذا الشاهد مشهدًا مخيفًا يُهدد غير المؤمنين بإراقة وسفك دمهم لأنهم في مرتبةٍ دونيَّةٍ لا ترقى حتى إلى مستوى الحيوانية، نجده في الآن نفسه يستدل بآياتٍ من سورة «التوبة» تُشيد بسماحة الإسلام وتسامحه مع الكتابيين وتمنح الأمن والحصانة والحماية لهم.
وبين الشعوريْن المتناقضيْن تنشأ فلسفة الخوف والموت التي تكون دافعًا للانتقام ولشرعنة العنف والتطرف، (إنّ الخوف يتحول إلى خطرٍ على الذين يعانون منه، لذلك لا يجب أن ندعه يتحول إلى شعورٍ جامحٍ مسيطرٍ. إنّ الخوف هو بالذات التبرير الأساسي للتصرفات التي غالباً ما نصنفها ب «اللاإنسانية». إن الخوف من الموت الذي يتهددني، أو أسوأ من ذلك، يتهدد أشخاصاً أحباء على قلبي، يجعلني قادراً على القتل والتشويه والتعذيب... إنّ الخوف من البرابرة هو الذي يُخشى أنْ يُحوّلنا إلى برابرة)[90].

الشعوذة
احتلت السيرة النبوية مكانةً معتبرةً في الرحلة قياسًا إلى الحجم والكم العام للسرديات الإسلامية في المتن، ولكن الكاتب استطاع تجاوز وتفادى الكثير من المحطات من سيرة المصطفى P فلم يتحدث الرحَّالة عن زوجاته كعادة المستشرقين ودأبهم على إثارة الشبهات، كما أنه لم يتناول أخلاقه وشمائله ضمن محاور الوصف باعتبارها حقائقَ ثابتةً، لم تطلها الشكوك وهواجس التفنيد، وتمَّ أيضا تجاوز معاناته P في تبليغ الدعوة لأنها تنفتح عن النبوءة الصادقة. واكتفى بسرد مواقف ومشاهد تتسم في أغلبها وعمومياتها بالسطحية والتداخل والمغالطة، وهي أخطاء منهجيةٌ معهودةٌ ومتداولةٌ في الكتابات الاستشراقية منها المقصودة لأغراض التشويه والتشكيك ومنها ما يعود إلى التراكمات المعرفية والثقافية والتاريخية التي لم تتعرض للمراجعات والنقد للتصحيح والتصويب.
إن أول ما يلاحظه القارئ وهو يستعرض شهادات الكاتب حول الرسول P هو الخلط بينه وبين بقية الأنبياء والرسل حول العديد من المسائل والقضايا سواء السلوكية أو الخلقية أو التشريعية، وكانت ظاهرة التعامل مع الحيوانات هي الإشكالية المركزية في عمليات الوصف والسرد والتحليل «تتكلم حيوانات الصحراء؛ الغزلان والذئاب والضباع، مع الرسول، ويفهم مقولها، حتى أنه مرة تحدث معه خروفٌ كان يشويه لعشائه، ما أثار استغراب ودهشة ضيوفه»[91].
مارست العجائبية في القصص الخطابي القديم وظيفة العلاج الطبيعي من قساوة الحضارة المادية، من خلال الهروب من الواقع اللاانساني ومن الفلسفة العقلانية التي قتلت الإحساس واغتالت المشاعر الإنسانية، إلا أن الفانتاستيك في السيرة النبوية يهدف إلى تحقيق أبعادٍ فكريةٍ وأيديولوجيةٍ بعيدةٍ عن شعرية العجيب وبلاغة الغريب، بتجريدها لشخصية الرسول P من الصفات البشرية وتصنيفه ضمن المخلوقات والكائنات الخارقة للتقليل من أخلاقه ومواقفه الإنسانية بربطها بالأساطير والفلكلوريات.
كما كانت معجزة المعراج، من القضايا التي شغلت اهتمام الكاتب واحتلت مركزاً جوهريّاً في التأويل والسرد، حيث تعتبر معجزة الإسراء والمعراج من أَجَلِّ المعجزات وأعظم الآيات التي تفضَّل وتكرَّم بها المولى سبحانه على نبيِّه ومصطفاه محمد P، دون بقية الأنبياء، حيث‏ لم يسبق لبشرٍ أن قام برحلةٍ مشابهةٍ ﴿سُبۡحَٰنَ ٱلَّذِيٓ أَسۡرَىٰ بِعَبۡدِهِۦ لَيۡلٗا مِّنَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ إِلَى ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡأَقۡصَا ٱلَّذِي بَٰرَكۡنَا حَوۡلَهُۥ لِنُرِيَهُۥ مِنۡ ءَايَٰتِنَآۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡبَصِيرُ ﴾ (الإسراء: 1). وصعد به إلى السماوات العُلا إلى سدرة المنتهى ﴿وَلَقَدۡ رَءَاهُ نَزۡلَةً أُخۡرَىٰ ١٣ عِندَ سِدۡرَةِ ٱلۡمُنتَهَىٰ ١٤ عِندَهَا جَنَّةُ ٱلۡمَأۡوَىٰٓ ١٥ إِذۡ يَغۡشَى ٱلسِّدۡرَةَ مَا يَغۡشَىٰ ١٦ مَا زَاغَ ٱلۡبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ ١٧ لَقَدۡ رَأَىٰ مِنۡ ءَايَٰتِ رَبِّهِ ٱلۡكُبۡرَىٰٓ﴾ (النجم: 13 - 18).
وبحكم أن التصديق عقائديٌّ مرتبطٌ بقوة الإيمان، لم تتمكن المنظومة الفكرية الغربية من وعي المعجزة، لافتقادها لنموذجٍ مشابهٍ في تاريخ العقائد والأديان، فإن الخطاب المتحيز اتجه نحو التكذيب أولاً ثم التشكيك ثانيًا وإثارة التعجب والاستفهام في مرحلةٍ ثالثةٍ، بإقحام مشاهدَ خارقةٍ، وساذجةٍ تثبت التكلُّف والتصنُّع المشهدي لغرض السخرية والاستهزاء بالمعجزة الإلهية «في إحدى الأمسيات حُمل محمد إلى الجنة للحوار مع الله، فزار السماوات السبع، ثم عاد بسرعةٍ ليمنع فيضان الماء من القدر الذي وضعه على النار قبل سفره»[92].
 وبصرف النظر عن وظيفة السخرية في الخطاب بوصفها إستراتيجيةً حجاجيةً تهدف إلى إقناع المتلقي بمصداقية الصورة والمشهد المتخيل والمحتمل، فإنها من آليات إثبات دونية «الآخر/ المختلف» عند فلاسفة القرن الثامن عشر من أمثال فولتير (Voltaire) (1694-1778) ومونتسكيو (Montesquieu) (1689-1755)» إن السخرية لا تعني مجرد الاستهزاء والانتقاص من اللامرغوب فيه والمبتذل. إنها بدليلٌ أخلاقيٌّ وأيديولوجيٌّ للَّاأخلاقي الرديء. فهي تقدم الزمان والفضاء البديلين، لأنها وعيٌ انتقاديٌّ أو انتقادٌ واعٍ يفضح الخطاب المضاد مُفشِيًا سرَّ حقيقة وهْمِه. وهي بذلك ترفد الباثَّ ومتلقيه بفرحة القصاص الماكر من الأفكار المزيفة والمحتطة. وبقدر ما تفتح للبسمة طاقةً، تُشرِع طاقات البصر والبصيرة على الفجائعي والمريب والسلبي والإستلابي»[93].
من القضايا الجدلية التي أثارها بعض المستشرقين المتعصبين للمركزية الأوروبية وبعض المفكرين العرب والمسلمين، مسألة أميَّةُ الرسول P وذهب كلُّ فريقٍ إلى تأويل مصطلح (الأُميُّ) وشحنه بدلالاتٍ ومحمولاتٍ معرفيةٍ تصبّ في أغلبها حول نفي صفة الأمية بمعنى عدم القراءة والكتابة عنه P، ولا يتسع المقام في هذا البحث لعرض مختلف الآراء والأطاريح حول القضية وانعطافاتها وتمظهراتها بين الفقه والاجتهاد.
فمن الموافقين على الرؤية الإسلامية بأمية الرسول P وعدم قدرته على القراءة والكتابة، وهذا ما يشكل جانبا من الإعجاز، المؤرخ الأمريكي ويليام جيمس ديورانت (1885-1981) ( William James Durant) الذي قال: «ولكن يبدو أنّ أحداً لم يعن بتعليمه القراءة والكتابة، ولم تكن لهذه الميزة قيمةٌ عند العرب في ذلك الوقت، ولهذا لم يكن في قبيلة قريش كلها إلا سبعة عشر رجلاً يقرؤون ويكتبون، ولم يعرف عن محمّدٍ أنّه كتب شيئاً بنفسه، وكان بعد الرسالة يستخدم كاتباً خاصّاً، ولكن ذلك لم يَحُل بينه وبين المجيء بأشْهَر وأبلغ كتابٍ في اللغة العربية أو على تعرّفه لشؤون النّاس تعرفاً قلّما يصل إليه أرقى النّاس تعليماً»[94]، بالإضافة إلى المستشرقيْن الايطالي ميكيلي أماري (1806-1889) (Michele (Amari والفرنسي كازيميرسكي (1808-1887) ( (Albert Kazimirskiأما الاتجاه الثاني فيُمثِّله نخبة من المستشرقين يقودهم وليام مونتغمري واط (1909-2006) (William Montgomery Watt) الذي يعتقد أن الرسول P يُتقن القراءة والكتابة وحجته في ذلك: «ورغم أنّ الإسلام الأصولي يقرر أنّ محمّداً كان لا يعرف القراءة والكتابة إلا أنّ هذه المعلومة مشكوكٌ فيها بالنسبة للعلماء الغربيين المحدَثين، لأنّها تبدو موضوعةً من أجل إبراز الطابع المعجز لوجود القرآن، وهو عملٌ لا يستطيع أُمّيٌّ أبدًا أن يُنجزه. وعلى العكس نجد أنّ عدداً كبيراً من المكّيين كان يعرف القراءة والكتابة، ولذلك يفترض أنّ تاجراً نشيطاً كمحمّدٍ كان يتوافر على حظٍّ من هذه الفنون»[95].
اتَّبع لوبوليكو (Le Boulicaut) منهج العارف المندهش والمستغرب لسرد الشيخ سليمان بن عبد الله (أحد الدعاة) حين ساءله عن شؤون الدين الإسلامي وعن سيرة المصطفى لحديث الرسول P «ائتوني أكتب لكم كتابًا لا تضلوا بعدي» فقال: «أحسَّ النبي بقرب أجله، فقام وطاف بالكعبة، ثم عاد إلى المدينة في آخر زيارة، قبل الدفن، وحين اقتربت الساعة الأخيرة، قال لمقربيه والمحيطين به: غسِّلوني ثم ضعوني فوق سريري قرب قبري الذي سوف يُحفر في هذه الغرفة... ثم طلب العفو من الذين ظلمهم وطلب ورقًا وحبرًا، وهنا قاطعته كيف بالورق والحبر وهو أُميُّ والقرآن كان يوحى إليه من السماء»[96].
ازدواجية الرؤية وثنائية الموقف المُعبَّر عنه والحامل لمظاهر التناقض هي السمة الغالبة على خطاب الكاتب، ففي حين هيمن الشعور برفض أطروحة المعجزة في تصديق الحادثة، يتجلَّى مبدأ المفارقة والسخرية من الإيمان بمثل هذه المشاهد، نرى الإلحاح والإصرار على استماع المزيد من أطوار السيرة الشريفة، ويوحي التحليل النفسي للشخصية بملامح الذات المرتبكة، غير الثابتة، المتذبذة بين الشك واليقين، بين الكفر والإيمان، بين الاستحسان والاستهجان، فتختلط في ثنايا الخطاب الرحلي، أفكار الرفض والاستغراب والدهشة، بأفكار الإيمان وصدق العقيدة «إن كلماتك (الشيخ سليمان بن عبد الله) تنزل في أعماق روحي، مُحدثةً سرورًا وغبطةً روحية، أنت الذي يعرف كلَّ شيءٍ، هلاَّ حدثتني عمَّا ينتظرني من أفراحٍ وملذاتٍ في الجنة بعد انتهائي من أداء فريضة الحج؟»[97].
 يعاني الكاتب في مواضعَ كثيرةٍ من اختلاطٍ وتخبُّطٍ منهجيٍّ في الأفكار والمعلومات، فنراه ينسب معجزات أنبياء الله موسى وعيسى إلى رسولنا  P، فلم يثبت في السيرة أن الرسول محمد P نزلت عليه مائدة طعام من السماء سواء له أو لغيره من الصحابة «جاع عليٌّ (هو أصدق مرافقيه وتلميذه المتحمس) يوماً، فأدَّى محمد صلاته، ثم دعا الله فنزلت مائدة من السماء محمولةٌ من الملائكة»[98]، فمعجزة المائدة، كما وردت سيرتها في القرآن الكريم هي تلك المتعلقة باستجابة الله سبحانه تعالى، لدعاء نبيه عيسىQ ﴿قَالَ عِيسَى ٱبۡنُ مَرۡيَمَ ٱللَّهُمَّ رَبَّنَآ أَنزِلۡ عَلَيۡنَا مَآئِدَةٗ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ تَكُونُ لَنَا عِيدٗا لِّأَوَّلِنَا وَءَاخِرِنَا وَءَايَةٗ مِّنكَۖ وَٱرۡزُقۡنَا وَأَنتَ خَيۡرُ ٱلرَّٰزِقِينَ﴾[99] فقد حدَّد التنزيل الحكيم الطالب وهويته رفعًا لكل التباس، بالإضافة إلى أنه لم يثبت في كتب السيرة باختلاف مشارب مُدوِّنيها ومذاهبهم وانتماءاتهم ما يؤكد رواية لوبوليكو (Le Boulicaut).
ولا تُشكِّل هذه الرواية استثناءً، بل المستعرض لأفكار الرحلة يعثر على مغالطاتٍ أخرى، تعود إلى الارتجال والتعميم، فقد نسب الكاتب معجزات (موسى Q) للرسول محمد P.
فهو في الرواية التي سمعها من الداعية الشيخ سليمان بن عبد الله «إنه يشفي المرضى، ويُعيد البصر للعميان، ويُحي الموتى وتردِّد الصخور والأشجار عليه تحية السلام»[100].
إن مؤرخي السيرة الشريفة لم يوردوا في هذا الباب سوى حديث التوسل الذي طلب فيه رجلٌ ضريرٌ من الرسول P أن يُعيد إليه بصره «عَنْ عُثْمَانَ بْنِ حُنَيْفٍ أَنَّ رَجُلًا ضَرِيرَ الْبَصَرِ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: اُدْعُ اللَّهَ أَنْ يُعَافِيَنِي. قَالَ: إِنْ شِئْتَ دَعَوْتُ وَإِنْ شِئْتَ صَبَرْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ. قَالَ: فَادْعُهْ. قَالَ: فَأَمَرَهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ فَيُحْسِنَ وُضُوءَهُ وَيَدْعُوَ بِهَذَا الدُّعَاءِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ وَأَتَوَجَّهُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ إِنِّي تَوَجَّهْتُ بِكَ إِلَى رَبِّي فِي حَاجَتِي هَذِهِ لِتُقْضَى لِيَ اللَّهُمَّ فَشَفِّعْهُ فِيَّ»[101].
من المسائل المثيرة في الرحلة أيضاً، قضية الرقيق والعبيد، فالكاتب يخلط بين الخدم وهم الموظفون أو العمال الذين يتمُّ انتقاؤهم وفق معاييرَ محددةٍ، لانجاز أعمالٍ بعينها مقابلَ أجرةٍ يُتفق عليها بين العامل وصاحب العمل، وبين العبيد الذين يتمُّ شراؤهم ويتحوَّلون بحكم صفقة الشراء إلى جزءٍ من الممتلكات الخاصة.
إن المستقرئ للتاريخ البشري يدرك أن الرق والعبودية من الأنظمة الاجتماعية والسياسية التي كانت سائدةً قبل الإسلام، ولما جاء الإسلام بتشريعه الحكيم تدرَّج في استصدار الأحكام المتعلقة بالظاهرة، فحاول تجفيف منابعها والقضاء على أسبابها تمهيدًا للقضاء عليها نهائيّاً، فدعا إلى تركها والابتعاد عنها ثم جعل عتق الرقاب من العبادات التي يُتقرَّب بها إلى الله، وتُعدُّ هذه المرحلية من أرقى الحلول لقضيةٍ متأصلةٍ تاريخيّاً في البُنية الاجتماعية والفكرية والثقافية، كما نظَّم الإسلام العلاقة بين العبد وسيده بصورةٍ لا توجد في أيِّ أمةٍ أو نظامٍ آخرَ من خلال الدعوة إلى معاملتهم بالحسنى والإنفاق عليهم وعدم تكليفهم بأكثر مما يُطيقون.
يخلط الرحالة بين المفهومين الخدم والعبيد، فهم من ناحية العمل والطاعة والولاء عبيدٌ «يسير عبيدي أمامي، يُنيرون طريقي بفوانيسهم التي يُمسكونها مقتربين من الأرض، بدأتُ أتوجَّسُ من الفريق وحماقتهم ولكن فات أوان العودة ولكني أثق في رجالي»[102]، ومن ناحية المصاحبة ودليل الطرق فهم خدم ينجزون مَهامَّ توضيحية أو بعض الأعمال المنزلية «لا بد من علاقةٍ وجدانيةٍ تربطني بعبيدي الجدد، فأبسط نسيان لجزئيةٍ من ناحيتي، يؤدي إلى معرفة ديانتي الحقيقية وفي هذا هلاكي»[103]، يحمل هذا الإقرار عملية الخلط بين العبد والخادم، فلا يُعقل أن يجهل العبد ديانة سيِّده؟
ورغم النظرة السوداوية التي سادت الوصف السردي للأحداث إلا أن الكاتب لم يتمكن من إنكار مشهد الوفاء والإخلاص لمرافقيْه اللذين كانا سندًا له في رحلته. ففي مشهد الوداع تُختزل الطبقية وتزول الفوارق الاجتماعية والدينية، وتطفو العاطفة الصادقة والإحساس النبيل «تعلَّق بي عبديَّ، وشكَّل فراقي لهم حزنًا شديدًا، وهذا السلوك علَّمني مشاعر الحب، فهو الحب المستحيل، لأنه دون خلفيات أو حسابات»[104].
لاحظ الكاتب في مسار رحلته اهتمام المسلمين بظاهرة الأضرحة، ويكشف هذا الاهتمام بزيارة الأضرحة وحضور مواسمها والتبرك بها اعتقاداً بـما في داخلها من أولياء صالحين لهم من الكرامات والخوارق ما يخفف من معاناتهم ويجد حلولاً لمشاكلهم وهمومهم «إنهم يمنحون كل أحمق، احتراماً وقداسةً موازيةً لضريح الولي المقدس تحت القبة الرمادية التي نعثر عليها عند مداخل المدن الإسلامية»[105].
تدفع المنظومة الغربية في أدبياتها إلى الإقرار بسيطرة الدجل والشعوذة على فكر العامة من الناس، فهم يعتقدون بالكرامات والنجاة والخلاص من خلال تبجيل وتقديس فئةٍ من المشعوذين يؤمنون بإمكاناتهم الخارقة في جلب الخير ودرء الشر والأضرار والمكاره، ولذلك فهم يُقدِّمون الأموال والقرابين طلبًا للرضى والمنفعة. والمسلمون حسب الكاتب لوبوليكو (Le Boulicaut) من الشعوب المؤمنة ثقافيّاً ودينيّاً بسيطرة الكائنات الميتافيزيقية على الحياة والوجود البشري ولذلك فهي تُؤوِّل كلَّ ظاهرةٍ عجزت عن تفسيرها وفهمها إلى قوًى خارقةٍ وغيرِ طبيعيةٍ «تعتقد الشعوب الإسلامية كثيراً بالماورائيات، فهم يفسرون إراديّاً كلَّ مسألةٍ عجزوا عن إدراكها بقوًى غيبية»[106].
الحقيقة هي أنَّ الصورة المرسومة من الكاتب تُحيل على لوحةٍ مزدوجة الدلالة، الأولى وصفيةٌ لمشاهدَ حقيقيةٍ واقعيةٍ تعكس الاعتقاد بالإمكانات الخارقة للأولياء في جدلية صراع الخير والشر، والثانية تدفع إلى تشكيل صورةٍ ثقافيةٍ عن المسلمين فتربط شخصيتهم بالسذاجة والبساطة والجهل لتصديقهم للخرافة، وبذلك فهم يُساوُون بين المعجزة الإلهية وعالم الشعوذة ويخلقون صراعًا بين الإلهي والبشري استخفافًا واستصغارًا للبُنية الفكرية والدينية الإسلامية.


التجارة
دأب المسلمون منذ فجر الدعوة إلى تحويل مكّة المكرّمة إلى عاصمة للإنسانية بأبعادها المختلفة، الثقافية والاجتماعية والاقتصادية وحتى السياسية، فموسم الحج هو فضاء الاتصال والتواصل بين المسلمين على اختلاف أعراقهم وثقافاتهم، فيتبادلون التجارب والثقافة ويتواصلون مع العلماء في مسائل الدين واللغة والفكر فتحدث المثاقفة الايجابية التي تستند على قيم التنوع والتعدد واحترام ثقافة الاختلاف ضمن المشترك الإسلامي والإنساني.
وموسم الحج لقاءٌ اقتصاديٌّ، يشهد التجار فيه ارتفاعًا في المبيعات مع الكثافة العددية للوافدين لأداء مناسك الحج، ويُشكِّل الظرف الآني مناسبةً لانتشار بعض التجاوزات والانحرافات في المعاملات التجارية، من جشعٍ واحتكارٍ واستغلالٍ وحرصٍ شديدٍ على الكسب، فينعكس ذلك على الحجاج ويُولِّد عندهم صورًا سلبيةً عن التجارة في البقاع المقدسة.
وقد عايش لوبوليكو (Le Boulicaut) بعض هذه المظاهر ورصدها في لوحاتٍ مختلفةٍ، ترتبط بحوادث محددةٍ وتراوحت بين ثنائية الجشع والاستغلال، والصفتان في منطق التجارة متلازمتان ولا ترتبطان بصنف من التجار بعينهم، وبفضاءاتٍ جغرافيةٍ محددةٍ بقدر ما هي صفاتٌ أخلاقيّةٌ تتواجد في جميع المعاملات التجارية عبر العالم بنسبٍ متفاوتةٍ وبأشكالٍ مختلفةٍ.
والنماذج البشرية والإنسانية من موضوعات الأدب المقارن وتُشكِّل حقلاً بحثيًا من ميادينه «الصورة التي يعطيها الكاتب لشخصيةٍ من شخصيات عمله الأدبي، تتمثل فيها مجموعةٌ من الفضائل أو الرذائل أو من العواطف المختلفة التي كانت من قبل في عالم التجريد أو متفرقةً في مختلف الأشخاص»[107]، ومنها النماذج السلالية المتعلقة بالانتماءات السياسية والجغرافية، كالفرنسي والإنجليزي والعربي، ومنها أصحاب المهن والوظائف كالتاجر والفلاح والطبيب وغيرها.
وتتمثّل دراسة الشخصية في هذا الضرب من الدراسات في التركيز على تبيان الجوانب السوسيو- ثقافية، والانثربولوجية والأيديولوجية التي تؤثر في المواقف والسلوكيات وفي بناء الصور الذهنية حول «الآخر» وتعرقل انتشار ثقافة الاختلاف والمثاقفة الندية التي تحارب الإقصاء والتهميش.
وتتجاوز دراسة النماذج البشرية الأحكام المسبقة والصور النمطية أو المظاهر الأحادية والاستثنائية التي ترتبط بالفردية والظرفية وبرود الأفعال الآنية التي تنشأ وتتكوَّن من مواقفَ سياسيةٍ أو وجدانيةٍ خاصةٍ تبتعد عن العقلانية والموضوعية.
لم يُحدِّد لوبوليكو (Le Boulicaut) جنسًا بعينه بالجشع والاحتكار والاستغلال، وإنما أشار إلى أن فئةٍ من التجار في مكة والمدينة وجدة يستغلون موسم الحج لرفع الأسعار. إن أسعار المواد الأولية وأسعار الهدايا التي يقتنيها الحجاج لأهاليهم عند العودة إلى الأوطان، مرتفعة الأثمان بسبب الندرة وكثرة الطلب أو بسبب أخلاق التجار الذين ينتهزون الفرصة لابتزاز الزائرين «إن موسم الحج مُربحٌ ومُثمرٌ كثيرًا بالنسبة لسكان المدينة، فهم يستغلون الضيوف بطريقةٍ مذهلةٍ، فأسعار المواد الأولية مرتفعةٌ إلى درجةٍ لا تُطاق ولا تُحتمل»[108].
ولم تنجُ وسائل النقل من الارتفاع والزيادة في الإيجار، فقد استغلَّ بعض البدو مناسبة الحج لرفع تكاليف النقل بين المدن المقدسة «من جدة إلى مكة ما يقارب المائة كيلومتر، المسافة يمكن قطعها في يومين، ولكن هذا لا يمنع من مناقشة أسعار إيجار المركوبات»[109].
وحسب الكاتب فهناك من يحتكر التجارة في مكة، لأسبابٍ متنوعةٍ، «وأخيراً بني حسين، إنهم السادة هنا، هم مُلَّاك مكة ومستغلو الحجَّاج، إنهم من نسل محمد ومنه ينحدرون، فهم يبالغون في أسعار المعيشة والمأوى للمؤمنين المساكين الذين قدموا من كل بقاع الأرض... أعتقد أنّه الحال في كل أماكن الحج على اختلاف الأديان»[110].
إن إدانة الكاتب شديدةٌ للتجار، ويُخصِّص منهم الفئة المتعاملة مع زوَّار الأماكن المقدسة على اختلاف العقائد والأديان ويتمنَّى أن تكون أخلاق التجار بمرتبة قدسية الأماكن العبادية.
تعود أسباب الجشع والطمع إلى أسبابٍ سيكولوجيةٍ تدفع النفس إلى الاستغلال وعدم الاكتراث بالآخرين وبظروفهم الاجتماعية والاقتصادية، وغالباً ما تكون الشخصية في هذا الوضع نموذجاً للانفصام الوجداني والاجتماعي وللازدواجية ولعدم القدرة على التواصل والتوازن مع المجتمع وقيمه. ولم يكن الرحالة الفرنسي أول من أشار إلى الجشع والاستغلال، فقد تحدث عنه مجموعةٌ من الرحالة العرب منددين باستغلال بعض تجار القبائل العربية للحجاج، يقول ابن جبير «وأكثر هذه الجهات الحجازية وسواها فِرَقٌ وشِيَعٌ لا دين لهم قد تفرَّقوا على مذاهبَ شتَّى، وهم يعتقدون في الحاجّ ما لا يُعتقَد في أهل الذِّمَّة، قد صَيَّرُوهم من أعظم غَلاَّتهم التي يستغِلُّونها: ينتهبونهم انتهابًا، ويسبِّبون لاستجلاب ما بأيديهم استجلابًا. فالحاجُّ معهم لا يزال في غَرَامةٍ ومؤونةٍ إلى أن ييسِّر الله رجوعه إلى وطنه»[111].

بين البدوي والعربي، ازدواجية الرؤية ووحدة البُني
تعاني المنظومة الفكرية الغربية من التباسٍ في المفاهيم وتوظيفٍ في المصطلحات، ففي الكثير من السرديات والمرويات ما يَرِد مفهوم البدو مرادفًا للعربي عرقاً وثقافةً وعقيدةً، والعكس، فيختلط العرق بالأخلاق والمهنة، فيتحوَّل كلُّ عربيٍّ إلى مُرتحلٍ بدويٍّ يمارس الرعي والسطو، وأدَّى هذا الخلط والالتباس إلى التنميط والتعميم، «البدوي يمارس الضيافة مع الأجنبي الذي يحلُّ وينزل عنده، لكن بعض القبائل تسلبه ممتلكاته بحجة أنها إن لم تفعل ذلك سوف يصنعه غيرها»[112] .
 وفي مراضعَ كثيرةٍ يتم الربط والجمع بين العرب كعرقٍ وسكان الصحراء من البدو الرحل الذين قد ينتمون إلى أعراقٍ أخرى غيرِ عربيةٍ، كما يُوظَّف العربي مقابلاً للأوروبي الغربي، وبتعميم صورة الارتحال والتنقل لكل العرب من حضرٍ وبدوٍ، «يُحيل مفهوم البدوي إلى العرب الرُّحل، في حين أن الغربي مقيمٌ ومستقرٌّ، وقد عانى هذا الأخير من القرصنة وقاومها بكلِّ قواه»[113].
المستقرئ لتاريخ البدو وصورتهم في الخطابات التمثُّلية الغربية يلاحظ التكرار والاجترار اللاعقلاني للصور النمطية التي صنعها الفكر الاستشراقي أو الرحالة المتحيزون لأفكار المركزية الغربية، التي تسعى إلى تقويض الآخر/ المختلف، وجمعه بكل ما هو دونيٌّ وبربريٌّ ووحشيٌّ لتسويغ عمليات الاحتلال والاستعمار، ولخلق خطابٍ كولونياليٍّ يُغطّي عن الجرائم والإبادات الجماعية للشعوب غير الأوروبية، فكانت الصور النمطية قناعا تستتر وتختفي تحته صور الظلم و القهر والقتل والنهب.
إن خطاب التحيُّز والتنميط يعتمد على إستراتيجية فن التمثل والتصوير، الذي يفكك المضامين الموضوعية لصناعةِ غيريةٍ وآخريةٍ تناسب توجهاته المركزية والتي تستند في مبادئها الجوهريّة على الترهيب من «الآخر» وجعله رمزاً لكلِّ الشرور ومصدراً لها.
ولعل التخبط المعرفي في تصوير البدوي دليلٌ على ضعف الحجية والمعايشة الحقيقية والاحتكاك المباشر، ففي كثير من الصور المعبَّر عنها سواءً بالمعايشة والمشاركة أو بالتخيُّل والتوهُّم يتجلَّى البدويّ في صور متناقضةٍ ضمن لوحةٍ مركبةٍ تركيبًا عشوائيًّا ارتجاليًّا.
فالعربي والبدوي تشكيلٌ لجملة من الصور المتضاربة في الصفات والأخلاق «العربي تجميعٌ للصفات المتناقضة مع نفسه، فهو جشعٌ حقيرٌ، كريمٌ دون حدود، إنسانيٌّ ولكنه يرتكب دون تردد قساوة لا تصدق، مضياف فهو يستقبل المسافر ويكرمه، ثم يسطو على ممتلكات المسافر الآخر الذي يلتقيه، معتدلٌ وانتقاميٌّ، مستقيمٌ مع أهله ولكنه يتناسى الشرف والاحترام والعقيدة مع الأجنبي»[114].
يتحول هذا العربي/ البدوي بمكوناته المتناقضة والمتصارعة بين قيم الخير والشر، إلى الخيرية الفطرية والإيجابية الإنسانية المطلقة، «ولكن الأجنبي حين يحل عند البدوي فلا يخاف مطلقاً، نستقبله وندعوه، ونفتخر باختياره لنا، ومباركة الخيمة التي آوته وخدمته»[115].
لم يستطع لوبوليكو (Le Boulicaut) التخلص من مرجعيته الاستشراقية ومن الصور المرصوفة في المرويات الكبرى، فجاءت صورة البدوي عبارةً عن إسقاطات لصورٍ نمطيةٍ متداولةٍ، كما لعبت تقنية الاسترجاع دورها في عمليات التمثُّل والتخيُّل، فكانت النظرة الانتقائية تبحث في المشهد المنظور إليه عن مطابقات للخلفيات الثقافية.
فالسطو والسرقة عند البدوي سلوكٌ عاديٌّ وطبيعيٌّ، فبإمكانه سرقة حتى ستار الكعبة «تستعرض الفرق العسكرية أسلحتها وهي تستعد لحماية السجاد المقدس ضد محاولات الاختطاف من بدو الصحراء»[116]. وتجريد البدوي من القيم الإنسانية، أمرٌ متداولٌ في الفكر الغربي ومنظومته الفكرية، وقد يتحول في مواضعَ كثيرةٍ إلى براديغم لكل ما هو وحشيٌّ وبربريٌّ يتنافى مع السلوك البشري، لإزالة كل مظاهر التحضر والتمدن عنه، تلبيةً لتعالي الرجل الأبيض وحضارة القارة العجوز ووفاءً لرومانسية الاتجاه العجائبي والغرائبي «البدوي الذي لم يثأر لأبيه أو أخيه أو أحد الأقارب، يصرح عند موته باللعنة التي ستصاحب كل مَن يُهمل الثأر والانتقام... إنها الأخلاق العربية البربرية القديمة»[117].
 وفي طريق العودة ووصولا إلى الوطن تزول المخاوف والمخاطر ويسيطر الأمن والطمأنينة «تغيَّر الفضاء وأصبح أكثر ابتهاجًا، فقد انتهت خطورة الطرقات المُحاطة بالصخور العظيمة وبقوافل الإبل، وانتهت معها مخاوف هجومات النهب المحتملة للبدو»[118].
 فعملية السط و والنهب المصحوبة بأعمال العنف والترويع، صورةٌ مرتبطةٌ بظهور الصحراء، وبالعربي فهي مرادفةٌ لوجوده «يضمن الفرسان حماية القوافل ويحاولون معرفة أسرار السبل لتجنُّب هجماتٍ محتملةٍ من البدو النُّهَّاب»[119].
 يسعى المتخيل الكولونيالي والمركزي والاستشراقي إلى صناعة «آخر» يتطابق مع الايدولوجيا الدافعة إلى التحيز والإقصاء، فيكون المختلف معادلاً موضوعياً لتصوراتٍ وهميةٍ متخيلةٍ من خلال الترويج لصورٍ ومفاهيمَ وتصوراتٍ ومعتقداتٍ ترتقي بحكم التداول والانتشار إلى مستويات الأحكام النهائية التي تترسخ في الوعي الجماعي فتصبح بديهيةً لا تقبل التعديل والتحوير، وتصبح مرجعاً أكاديمياً معتمداً من الدوائر العلمية والبحثية.
لقد تمَّ توصيف البدوي بأنه من مظاهر الخوف في القرن الثامن عشر «شعوبٌ بدائيّةٌ لا تعرف الزراعة ولا الصناعة، ولم يعرفوا أيَّ تطورٍ إنسانيٍّ»[120]، فهم وفق النظرة الاستعلائية رمزٌ للحيوانية والوحشية وهم بذلك يُشكِّلون مصدرًا للخوف الدائم لكلِّ إنسانٍ متحضِّرٍ.
إن الصورَ المعبَّر عنها في تشكيل هوية البدوي تستقي بنيتها ومصادرها الدلالية بكل مصداقية وموثوقيةٍ من المصنفات التأسيسية للفكر الغربي القديم الذي وضع المبادئ الجوهرية لصورة »الآخر/ المختلف»، فقد وصف الكونت بوفون (الكونت دي بوفون) (Comte De Buffon) (1707-1788) البدو/ العرب سنة 1749، في كتابه الموسوم (التاريخ الطبيعي للإنسان) (Histoire naturelle de l’home) في باب (أنواع الجنس الإنساني) (Variétés dans l’espèce humaine) أن البدو يشبهون قبائل الترتار المتوحشة، فهم «رجالُ عنفٍ وقساوةٍ»[121]، أما صفاتهم وأخلاقهم فهي أقرب إلى الوحشية أكثر منها إلى الإنسانية، إنهم يتصفون ب «السرقة والاختطاف واغتصاب الممتلكات، وهي ممارساتٌ يُزكِّيها أشرافهم، ويفتخرون بالرذيلة وليس لهم احترامٌ للفضيلة، ولا للمواثيق، إنهم لا يؤمنون إلاَّ بالعصبية والخرافة»[122].
وترافق المظاهر السلبية صورة البدوي، فيتحول إلى رمزٍ للعدوانية والجهل والقساوة والعصبية والنهب وما إليها من الصفات الدنيئة والمبتذلة، وتلعب إستراتيجية التحيُّز والإقصاء والاختزال في الترويج لهذه الصور النمطية ونشرها ضمن نسقٍ معرفيٍّ في معرفة «الآخر» وثقافة الاختلاف. وتتصدَّى في المقابل إلى تجاهل المقاربات المعاكسة، إما بالتشكيك في مصداقيتها أو بجعلها جزءاً من ثقافة الهامش التي لا ترتقي إلى الأنساق الفكرية المركزية، ومن ذلك شهادة جون باتيست لابا المعروف بالأب لابا (Jean-Baptiste Labat appelé Père Labat) (1663-1738) حين كتب في مذكراته (Mémoires du chevalier d’Arvieux) وفي باب (أخلاق العرب): «نخطئ خطأً جسيمًا حين نعتقد أنّ العرب، أشخاصٌ غيرُ مؤدبين، عنيفون، وحشيون، خائنون، ودون مشاعر»[123].
إن الرحَّالة الأوروبي لوبوليكو (Le Boulicaut) في مسيرته نحو الجزيرة العربية والبقاع المقدسة الإسلامية لم يتمكن من تشكيل قطيعةٍ معرفيةٍ مع المُتخيَّل الاستشراقي والتحرر من التراكمات النمطية للآخر/ المختلف عموماً والبدوي/ العربي خصوصاً، فكانت الصور استنساخاً لمشاهدَ ورؤًى وتصوراتٍ معهودةٍ ومستهلكةٍ في الخطاب المركزي الغربي، حيث جاء الخطاب التصويري عبارةً عن استرجاعٍ واستدعاءٍ للموروث العتيق، ضمن تجربةٍ رحليةٍ جديدةٍ. وعلى الرغم من القساوة والميل نحو العنف واغتصاب ممتلكات الآخرين، فإن هذه النفس البدوية ترتبط وجدانيّاً بمحيطها وبمكوناتها، وفي مقدمتها الرَّاحلة المختزلة وظيفةً ووجوداً وكينونةً في الجمل «كم هو مدهشٌ عناية أصحابنا البدو بجِمالهم، فهم يطعمونها ويزيلون عنها الأحمال حين الوصول إلى مكانٍ آمنٍ، وفي الاستراحة تذهب الإبل حرةً وتعود لأصحابها بأول نداء... والبدوي لا يضرب جمله مطلقًا، فهو يوجهه بكلمةٍ سواءً كان غاضبًا أو هادئًا»[124].
وهؤلاء البدو نموذجٌ فريدٌ في الصورة المعاكسة التي يرسمها الكاتب، من حيث الصدق في الكلمة والوفاء بالعهود «وقد أحضروهم لنا، بدو الصحراء، ببرانيسهم الفخمة، مدججين بالأسلحة من الأرجل إلى الرؤوس... ثم أعطونا العهد، فإني الآن على يقينٍ بتأمين طريقي حتى مكة »[125].
ويستعمل البدوي في حياته دروعاً تحصينيةً لحماية نفسه وممتلكاته، منها المادي ومنها المعنوي، فالقوة للصراع مع الطبيعة ومكوناتها والنباتات للعلاج «تنمو نباتاتٌ صغيرةٌ حليبيةٌ بين الرمال، بكمياتٍ كبيرةٍ، غيرِ معروفةٍ من علمائنا في أوروبا، ويستخدمها البدو بنجاح في العلاج ولكن لا أعرف لأيِّ داءٍ»[126]، أما المعنويات فالكلمة الصادقة والوفاء بالعهود وعدم الخيانة... وهكذا.
 ومهما اختلفت القراءات والمقاربات في وصف البدو أو عرب الصحراء، فإنهم أقوامٌ كانت لهم حضارتهم ومدنيَّتهم الخاصة، والتي تتناسب وتتجانس مع حياتهم البدائية البسيطة التي لا تتطلب إمكاناتٍ مميزةً، وهذه المرحلة تمثِّل طفولة الحضارة والمدنية، فالبدوي العربي يتفاعل ويتكيَّف مع محيطه ضمن منظومةٍ أخلاقيةٍ وثقافيةٍ محددةٍ شكَّلت هويته الشخصية وخصوصيته الثقافية. يذهب ابن خلدون في توصيفه للبدوي بأنه «أقدم من الحضر... والبدو أقرب إلى الخير... وأقرب إلى الشجاعة»[127]، أما الأمير عبد القادر الجزائري فيقول: لو كنت تعلم ما في البداوة تعذرني لكن جهلت وكم في الجهل من ضرر! ما في البداوة من عيب تُذمُّ به إلا المروءة والإحسـان بالبدر وصحة الجسم فيها غير خافية والعيب والداء مقصور على الحض. من لم يمت عندنا بالطعن عاش مدى فنحن أطول خلق الله في العمـر !! [128]

خاتمة
النص الرحلي عبارةٌ عن استحضارٍ واقعيٍّ لرؤية المركزية الغربية وتحيزها المعرفي في تصوير «الآخر» الإسلامي المتميز بهويةٍ محددةٍ وبخصوصيةٍ ثقافيةٍ جوهريةٍ تشكل مقوماً مركزيّاً من مكونات البنية الهوياتية.
لم تتمكن المنظومة الفكرية الغربية التخلص والتحرر من قيود المركزية الغربية المتعصبة التي بنت صورة الآخر/ العربي/ المسلم وفق براغماتيةٍ نفعيةٍ متوحشةٍ، جعلت من المُختلِف رمزًا لكل مظاهر السلبية من وحشيةٍ وبربريةٍ وتخلُّفٍ ودونيةٍ. وساهمت المرويات الكبرى تحت سلطة ونفوذ الخطاب الكنسي في ربط الإسلام بالدموية والخطورة والرجعية وقمع الاختلاف ومحاربة العقلانية، لتؤسس لفوبيا تلقِّي الإسلام في الفضاء الغربي «شكَّل المسلمون بالنسبة للغرب المسيحي لفتراتٍ طويلةٍ، خطرًا قبل أن يُصبحوا مُعضلةً»[129].
رغم ثقافته الإسلامية العميقة ومكتسباته المعرفية النظرية حول الإسلام والمسلمين، فإن لوبوليكو (Le Boulicaut) لم يتمكن من التحرر من التراكمات النمطية الموروثة، وعجز عن تجاوز المحمولات التاريخية التي تستحضرها الإيديولوجيا وثقافة التحيز لإحداث قطيعةٍ إبستيمولوجيةٍ والتأسيس للمثاقفة الندية التي تحترم «الآخر» باعتباره شريكًا ومرآةً للأنا في مختلف تمظهراتها.
يمثل نص لوبوليكو (Le Boulicaut) أثراً مفتوحًا، بحكم كثافة الصور والتصورات والمواقف ويعتبر نموذجاً لسردياتٍ كثيرةٍ في خزائن المركزية الغربية، ولتقويض سلطة النص المتحيزة، يجب انتهاج استراتيجيةٍ نقديةٍ وثقافيةٍ تتبنى العقلانية كمنهجٍ ورؤيةٍ مركزيةٍ في دحض وتفنيد وتفكيك البُنى المتحيزة والمتعصبة المنقوشة في وعي «الآخر» الغربي.
وعملية خلخلة المفاهيم الراسخة والمتجذرة في الوعي الثقافي الجماعي، مسألةٌ ثنائيةٌ ورسالةٌ مشتركةٌ بين «الأنا» و «الآخر» تهدف إلى تحقيق التعايش والتواصل ضمن المنجز الحضاري الكوني.
إن فلسفة الاستخلاف تنفتح على احترام «الآخر» في هويته ومنجزه الثقافي، وتحارب عقدة «التماهي» التي تتناقض مع ثقافة «الاختلاف» الداعية إلى الانفتاح دون إقصاء أو تهميش في الوجود والثقافة. إن تمثل «الآخر» وتصوره ضمن خطابٍ ثقافيٍّ تخيليٍّ يستوجب تخلص «الأنا» من مركزيتها وتحيزها المعرفي والعرقي، كآليةٍ وأرضيةٍ للتعايش الثقافي والحضاري في فضاء المشترك الإنساني الذي يكشف على أن المنجز موروثٌ كونيٌّ مشتركٌ للإنسانية جمعاء لأنه بناءٌ تحقق بالتراكمات المعرفية العامة.
 وتفكيك خطاب الآخر، لا يكفي وحده ما لم تُصاحبه مراجعاتٌ نقديةٌ علميةٌ للموروث السردي الذي أسَّس للنمطية ولاجتهادات المُتخيَّل التي حوَّلت المُختلِف إلى متوحشٍ وبربريٍّ لا يرقى وفق المرويات الكبرى إلى درجات الحضارة والمدنية وبالتالي وجبت محاربته قصد ترويضه ليُغيِّر هويته وانتماءاته المتخلِّفة ويعتنق هوية «الآخر» الغربي الأبيض المتحضر وريث الحضارتين اليونانية والرومانية. «تَمركزَ خطاب الرِّحلة العجائبي مُنذ القرن الثامن عشر حول فِكرة لقاء الآخر »المُتوحِش« والذي مِنْ خلاله تتأسَّس صورة الرَّجل الأوروبي الجديد... فهي تمثيل للمُتحضر الذي ينزل للتَّزود مِن الثقافات البدائيَّة، المُشبعة بالقيم الإنسانيَّة الأساسيَّة، وهذه الكليشيهات الجاهزة لَمْ تنته إلى اليوم»[130].

--------------------------------------
[1] من أهم الدراسات والأطروحات التي نُوقشت في الجامعات الفرنسية في مرحلة التأصيل والتأسيس لدراسات علم الصورة، يُمكن ذكر النماذج الآتية:  أندريه مونشو(André Monchoux (ألمانيا أمام الآداب الفرنسية من 1814 - 1835 ( L’Allemagne devant les lettres françaises de 1814 à 1835» سنة 1953، ورسالة ماريوس فرانسوا غويار(1921-2011( Marius-François Guyard (صورة بريطانيا العظمى في الرواية الفرنسية «L’image de la Grande-Bretagne dans le roman français: 1914- 1940 سنة 1954، بالإضافة إلى أعمال أخرى منها رسالة ميشيل كادو (Michel Cadot (صورة روسيا في الحياة الثقافية الفرنسية بين 1839-1856 (La Russie dans la vie intellectuelle française (1839-1856» وتبقى دراسة مدام دي ستايل (Madame de Staël (1766- 1817 الموسومة ب (من ألمانيا (1813 والذي حمل صورةً جديدةً ومغايرةً عن ألمانيا تتناقض مع تلك الصورة النمطية الراسخة في المخيال الفرنسي عن الألمان وثقافتهم ومميزات شخصيتهم، ما دفع بنابليون الأول (Napoléon 1er (1769-1821 إلى مصادرة الكتاب ومنع صدوره، فصدرت الطبعة السرية الأولى منه سنة 1813 بلندن، ولم تظهر الطبعة الفرنسية إلا سنة 1839 بعد سقوط الإمبراطور.
[2] ادوارد سعيد، الثقافة والإمبريالية، ترجمة كمال أبوديب، ط4، دار الآداب، 2014، بيروت، ص: 17.
[3] المرويات الكبرى أو السرديات الكبرى نصوص متنوعة تشكل مضامينها تصوراتٍ وتمثلاتٍ للإنسان عن ذاته والآخرين وفق تحيُّزاتٍ ورؤًى انبثقت من خطاباتٍ دينيةٍ وسِيَرٍ شعبيةٍ وحكاياتٍ خرافيةٍ وملاحمَ ورواياتٍ ورحلاتٍ وآدابٍ جغرافيةٍ وغيرها، بصرف النظر عن الصيغة الأسلوبية التي تجلَّت وتجسًّدت فيها من مشافهةٍ وكتابةٍ. ولعل أهم ما يميِّز المرويات الكبرى هو وفاؤها وإخلاصها لمرجعياتها التأصيلية، ومن النادر وجود نصٍّ أو خطابٍ لها محايدٍ وغيرِ متحيِّزٍ، فارتباطها بالمركزية يجعلها ملتزمةً ومتقيدةً بمبادئ الهيمنة وسلطة التفوق العرقي والمعرفي ومن نماذجها نشيد رولان (La Chanson de Roland وأعمال آرثر دو غوبينو (Joseph Arthur de Gobineau (1816- 1882 صاحب كتاب (دراسة حول التفاوت بين الأعراق البشرية (Essai sur l’inégalité des races humaines الذي ألَّفه بين سنوات 1853 و 1855 ويعتبره الدارسون دستور النظريات العنصرية.
[4] M.W.Duckett (sous la Direction, Dictionnaire de la conversation et de la lecture, Librairie de Firmin Didot, Tome premier, Paris, 1832, MD CCC LXXI, p, 692.
[5] Le chevalier Charles-Joseph de Mayer, Le Cabinet des fées, collection choisie des contes des fées et autres contes merveilleux, Tome huitième, 1785, Barde, Manget et compagnie, Genève, LXXXVII, p, 397.
[6] للاستزادة حول مكانة مكة والمدينة في الفكر الغربي ينظر:
- Sourdel DominiQue, Janine Sourdel-Thomine, Dictionnaire historiQue de l’islam, Collection: Quadrige dicos poche,Paris,2004.
ودراسة بيرار فيكتور:
- Bérard, Victor, Le Sultan, l’Islam et les puissances ; Constantinople-La MecQue-Bagdad; avec deux cartes hors texte, Armand Colin,Paris,1907.
[7] Le Docteur DUGUET, Le Pèlerinage à la MecQue, au point de vue religieux, social et sanitaire, les éditions REIDER, Paris,1932, p, 1 (introduction
[8] GAUDEFROY -DEMOMBYNES, Le Pèlerinage à la MEKKE, Librairie Orientaliste, Paris, 1923, p, III .
[9] DR.C.Stékoulis Le Pèlerinage de la MecQue et le cholera au Hedjaz, Imprimerie de Castro, 1883, p,6.
[10] C. Stekoulis, Le Pèlerinage de la MecQue et le cholera au Hedjaz, De Castro (éditeur 1883, p, 15
[11] تناولت مراجعُ غربيةٌ كثيرةٌ قضايا السرقة التي يمارسها قطاع الطرق وبعض عصابات البدو، وتأتي دائماً الصور السلبية مقترنةً بصورٍ أخرى إيجابيةٍ كالكرم ومعرفة الصحراء والشجاعة، حتى أن نابليون بونبرت في حملته على مصر خصص للبدو فرقة خاصة لقتالهم. ينظر:
- J.T.de Belloc, Echos du pays des pharaons- tribus bédouine, Revue Du Monde CatholiQue, 1887, Vol. 92, p, 87.
[12] Sarga Moussa, Le Mythe bédouin chez les voyageurs aux XVIIIe et XIXe siècles, Paris, Presses de l’Université Paris-Sorbonne, 2016, p, 65
[13] Guillaume Pauthier, les Livres sacrés de l’Orient, Firmin Didot, 1840,Paris, p, 5.
[14] الأمير شكيب أرسلان، الرحلة الحجازية المسماة الارتسامات اللطاف في خاطر الحاج إلى أقدس مطاف، ط1، دار النوادر، 1428ھ/ 2007م، دمشق، ص، 49.
[15] لم يسجِّل التاريخ حادثةً واحدةً تُبرِّر المواقف التي تُروِّجها الرؤى الفكرية الغربية الاستشراقية والرحلية حول قتل «الآخر» المختلف تحت أيِّ قناعٍ دينيٍّ أو معرفيٍّ أو أيديولوجيٍّ عند اقترابه من مُقدَّسات المسلمين. إنَّ فكرة الترويج لثقافة القتل نتجت عن القراءة السطحية والمرتجلة لبعض الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة في تواجد غير المؤمنين (les infidèles بالأماكن المقدسة والعبادية للمسلمين. وقد أفاض فقهاء الإسلام في تفسير سورة التوبة وخاصة الآية (28 واستنباط الأحكام، رفعًا لكل التباسٍ أو تأويلٍ وفرَّقوا خاصةً بين الاقتراب والإقامة. يُنظر للاستزادة:
 أبو جعفر محمد بن جرير الطبري (224 - 310ھ تفسير الطبري، جامع البيان عن تأويل آي القرآن، حقَّقه وخرَّج أحاديثه، محمود محمد شاكر، دار هجر، مصر،1422 هـ - 2001م، ص، 191.
[16] Mœurs et coutumes Kabyles, Imprimerie de la manufacture de la charité, Montpellier,1905,p,31
[17] الأكاديمية الفرنسية Académie Française» هيئةٌ اعتباريةٌ تأسَّست سنة 1634 واعتمدت رسميًا في 29 جانفي 1635، في عهد الملك لويس الثالث عشر(1601-1643 (Louis XIII من قبل الكاردينال ريشيليو (1585-1642 (Cardinal de Richelieu وتشير أدبياتها إلى أن وظيفتها المركزية والأساسية تكمن في تطوير اللغة الفرنسية وتطويعها اشتقاقًا لتتكيَّف وتتفاعل مع المعجم اللغوي المعاصر، ولهذا يعتبر معجمها اللغوي (Dictionnaire de l’Académie Française من أجود معاجم اللغة الفرنسية دقةً وموضوعيةً وشموليةً، وقد وصلت إلى الطبعة التاسعة منذ تأسيسها.
ويحتل أعضاؤها أربعين كرسيًّا موزعةً على مختلف التخصصات، العلمية والأدبية والتاريخية والسياسية، ويرتدون زيًّا موحدًا خاصًا ومميًّزًا، يتمثًّل في بذلة سوداء مطرزًّة بالأخضر في شكل أغصان زيتون.
[18] بَرْطانِيَة أو بريتاني هي منطقةٌ ثقافيةٌ ولغويةٌ تقع في شمال غرب فرنسا، وهي مجموعة سكانية منحدرة من شعوبٍ فرنسيةٍ مختلفةٍ، كانت المنطقة مستقلَّةً حتى القرن السادس عشر، وتُرجع البحوث التاريخية أصول هذه الشعوب إلى المملكة المتحدة ومنها هاجروا في شكل موجاتٍ متتابعةٍ منذ القرن الثالث إلى غاية القرن السادس.
أما اللغة البريتانية (Brezhoneg فيتكلَّمها زهاء 365000 ويتقنها كتابة وقراءة ما يفوق عن 240000، ويتمركز البريتانيون الفرنسيون في مقاطعتي بريتانيا Région Bretagne» ولوار الأطلسية Loire AtlantiQue» ويبلغ تعدادهم حسب إحصاء 2007، 4365500 نسمة.
[19] Ronan Le Coadic, L’identité bretonne, Terre de Brume Editions, 1998.
[20] أوجين دي فوغي (Eugene-Melchior de Vogüé (1848- 1910 أديبٌ ودبلوماسيٌّ فرنسيٌّ، عمل كملحقٍ بسفارات القسطنطينية والقاهرة وسان بترسبورغ، له العديد من المؤلفات حول الشرق والأدب الروسي منها:
- سوريا، فلسطين، جبل أتوس (Mont Athos 1876)
- قصص شرقية، 1880
- الرواية الروسية، 1886
[21] Albert Le Boulicaut, Au pays des mystères, pèlerinage d’un chrétien à la Mecque et à Médine, Plon-Nourrit et Cie 1913,Paris, p, VIII
[22] مصطلح الفوبيا (phobie في الطب النفسي، مشتقٌّ من اليونانية القديمة (Phóbos التي تعني تشخيص الخوف، وكثيرا ما يستخدم ويوظف مفهوم الفوبيا كمعادلٍ موضوعيٍّ لتفسير وتبرير المخاوف الناتجة عن المواقف الاختيارية وغير العقلانية. وقد ظهر المفهوم لأوَّل مرَّة سنة 1997 في تقرير لجنة «المسلمين البريطانيين والإسلاموفوبيا «الموسوم ﺒـــ «الإسلاموفوبيا تتحدانا جميعاً» « Islamophobia: A Challenge For All Of Us» وتتولد مشاعر الإشمئزاز والنفور من حالاتٍ ووضعياتٍ نفسيةٍ مرضيةٍ تعجز قدراتها العقلية عن تفسير الظواهر والمواقف تفسيرا علميًا ومنطقيًا. ولقد لعبت المرويات الكبرى والسرديات الفلكلورية والشعبية أدواراً كبيرةً في تنميط «الآخر» المختلف وتصويره وتسويقه في هيكل وهيئة البربري المتوحش، الذي يفتقد إلى القابلية الحضارية، ما يستوجب على الرجل الأبيض تحمُّل رسالته في إخراجه من ظلمات الجهل والبداوة والبدائية!!!.
[23] المدونة، ص، XV.
[24] المصدر نفسه، ص، XIV.
[25] سورة الحج الآيتان 27-28.
[26] محمد سبيلا، عبد السلام بن عبد العالي، الحقيقة، ط2، دار توبقال للنشر، 2005، الدار البيضاء، ص، 6.
[27] تزفيتان تودوروف، الخوف من البرابرة، ما وراء صدام الحضارات، ترجمة جان ماجد جبور، ط1، هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث(كلمة 1430ھ -2009م، أبوظبي، ص، 12.
[28] محمد سبيلا، عبد السلام بنعبد العالي، الحقيقة، مرجع سابق، ص، 17.
[29] صمويل ب. هنتنجتون، من نحن؟ المناظرة الكبرى حول أمريكا، ترجمة أحمد مختار الجمال، ط1، المركز القومي للترجمة، 2009، القاهرة، ص، 335.
[30] Louis Althusser, Idéologie et appareils idéologiQues d’État (Notes pour une recherche, Presses Universitaires de France, 2011, Paris.
[31] يُنظر، ميشيل فوكو، المراقبة والمعاقبة، ولادة السجن، ترجمة علي مقلد، مركز الإنماء القومي، 1990، بيروت،ص،159.
[32] بول ريكور، من النص إلى الفعل، أبحاث التأويل، ترجمة محمد برادة، حسان بورقية، ط1، عين للدراسات والبحوث الإنسانية والإجتماعية، 2001، القاهرة، ص، 303.
[33] المدونة، ص، 185.
[34] يُنظر مقال (الشرق المتخيل والشرق الحقيقي في القرن التاسع عشر.
David Vinson, L’ORIENT RÊVÉ ET L’ORIENT RÉEL AU XIXE SIÈCLE
L’univers perse et ottoman à travers les récits de voyageurs français, Presses Universitaires de France, 2004/1 Vol. 104, p, 71.
[35] ينظر: صناعة العدو من الداخل في أوروبا في القرنين التاسع عشر والعشرين، للباحثة هنريات أسيو (Henriette Asséo ضمن كتاب:Henriette Asséo, La construction de l’ennemi de l’intérieur en Europe aux XIXe et XXe siècle, in ASSÉO, Henriette , JULIEN-LAFERRIÈRE, François , et MISSAOUI, Lamia. L’étranger, Institut de recherche sur le Maghreb contemporain, Rabat 2002, p, 81. ومضمون الكتاب مداخلات أعمال الأيام الدراسية المنظمة من طرف معهد البحث حول المغرب المعاصر بعنوان: الهويات والأقاليم، التصنيفات الاجتماعية، المنعقدة بتونس في الفترة الممتدة بين 16-17 فيفري/شباط 2001.Actes des Journées d’etudes organisées dans le cadre du séminaire annuel de
 l’IRMC 2000-2001, Identités et territoires: les catégorisations du social,Tunis,16-17 Fevrier 2001
[36] Amartya Sen, Identité et Violence, Traduit de l’Anglais par Sylvie Kleiman-Lafon, Paris, Editions Odile Jacob, 2007, p.34
[37] François Pouillo, Dictionnaire des orientalistes de langue française,Editions Karthala,Paris,2012,p,610
[38] المجلة الشهرية (La Revue hebdomadaire مجلةٌ أدبيةٌ تأسست سنة 1892 من طرف الكاتب الفرنسي فرنان لوديه (Fernand Laudet(1860-1933 وتوقفت عن الصدور بتاريخ 1939، أما المقتطف فقد نُشر:
Albert Le Boulicaut, voyage au pays des mystères, Revue Hebdomadaire, vingt et unième Année, Tome VIII, Juillet 1912,Paris, Ne 523
[39] يُنظر كتابي ألفونس إيتيان دينيه:
- Alphonse Étinne Dinet, Sliman Ben Ibrahim, Le pelèringe à la maison sacrée d’Allah, A.Maisonneuve, 1962
- Etienne Dinet, L’Orient vu de l’Occident, essai sur l’orientalisme littéraire, Piazza et Geuthner, Paris, 1922.
[40] هنري لامانس (1862-1936) Henri Lammens قسيس يسوعي بلجيكي، يعرف في المحافل الأكاديمية بالتطرف والكراهية الشديدة للإسلام ونبيه محمد P وكان من المبشرين في الشرق، قضى أغلب حياته في لبنان، له مؤلفاتٌ كثيرةٌ حول اللغة العربية (ملاحظات على الكلمات الفرنسية المستمدة من العربية 1890 و (فاطمة وبنات محمد، ملاحظات نقدية حول دراسة السيرة،1912 و (مهد الإسلام1914 و (مكة في مطلع الهجرة 1924 وغيرها من الدراسات التي نفث من خلالها القس سمومه وحقده حول العقيدة الإسلامية، مستغلّاً الفراغ المعرفي والأكاديمي في المكتبات الفرنسية والبلجيكية وسعي المركزية الغربية على الترويج لكل ما هو عربيٌّ وإسلاميٌّ لتبثّ فكرة الدونية الحضارية والتفاوت العرقي.
[41] يذهب معجم الأكاديمية الفرنسية في طبعته لعام 1835 أن مصطلح (infidèle يقصد به الذي لا يملك العقيدة الصحيحة، قياسا بالديانة المسيحية، يُنظر:
Dictionnaire de l’Académie Française, sixième Edition, Tome second,1835,Imprimerie et librairie de Firmin Didot Frères, Paris, p,33.
في حين يرى معجم المصطلحات الدينية أن لفظة (infidèle) يقابلها في المفهوم العربي مصطلح كافر ينظر:
Abdullah Abu-Eshy Al-Maliki,Abdul-atif Sheikh Ibrahim, A Dictionary of Religious Terms,1418-1997,Islamic University of Imam Muhammad Ibn Saud, KSA, P,74.
[42] M.LE DR.B.SCHNEPP, le pèlerinage de la MecQue, L.LECLERC Editeur, PARIS, 1865, pp, 13,14
[43] Augustus Ralli,Christians at Mecca,William Heinemann,1909,London, pp,200 -244.
[44] إدوار سعيد، الاستشراق، المفاهيم الغربية للشرق، ترجمة محمد عناني، ط1، رؤية للنشر والتوزيع، 2006، ص: 175.
[45]- Albert Le Boulicaut, Au pays des mystères: pèlerinage d’un chrétien à la Mecque et à Médine, p, XXIV.
[46] المرجع نفسه، ص: III.
[47] المرجع السابق، ص: 236.
[48] المرجع نفسه، ص:.77
[49] المدونة، ص: 89.
[50] يُنظر في هذا الباب الأطروحات والمقاربات الواردة في المراجع الآتية:
a- Fréderic le Blanc Hackluy, Histoire de l’islamisme et des sectes Qui s’y rattachent, Paris, Victor Lecou, Editeur, 1852, p,39.
b-Albert Etienne de Montémont, Histoire Universelle des voyages effectués par mer et par terre, Paris, Armand-Aubrée, libraire-éditeur, 1707, p, 128.
[51] المدونة، ص: 50.
[52] المرجع السابق، ص: 106.
[53] المرجع نفسه، ص: 92.
[54] المرجع نفسه، ص: 106.
[55] المرجع نفسه، ص: 95.
[56] المدونة، ص: 217.
[57] وردت العبارة في مواقعَ متعددةٍ من الرحلة، ينظر الصفحات: 12، 32،38،59،87،109،231.
[58] المدونة، ص: 64.
[59] باخرةٌ مملوكةٌ للشركة البحرية الألمانية، المؤسسة سنة 1857 بمدينة بريمن (Brême وقد بلغت شهرةً عالميةً بين سنوات 1897-1906، حين اقتنت العديد من البواخر الفاخرة التي أهَّلتها لنيل ثقة النظام العالمي للنقل الذي منحها الانتماء و الاعتماد الدولي سنة 1929.
[60] المدونة،ص ص: 72،73.
[61] المرجع نفسه، ص: 142.
[62] المرجع السابق، ص ص: 203،204.
[63] المرجع نفسه، ص: 207.
[64] Édouard JEAUNEAU, « MYSTÈRE », Encyclopædia Universalis [en ligne], consulté le 30 janvier 2018. URL: http://www.universalis.fr/encyclopedie/mystere
[65] أندريه لالاند، موسوعة لالاند الفلسفية، تعريب خليل أحمد خليل، ط2، منشورات عويدات، باريس، لبنان، 2001، ص: 847.
[66] Dictionnaire de l’Académie française, sixième édition, Volume 1,Tome premier, Adolphe Wahlen et Cie,1844, BRUXELLES, p,156
[67] أبو الفضل جمال الدين محمد بن مكرم، لسان العرب، المجلد الأول، مادة (عجب دار صادر، بيروت، (د ت ص ص: 580،581
[68] ابن منظور، لسان العرب، المجلد الرابع، مادة (سرر ص ص: 356،357.
[69] Dictionnaire de l’Académie française, p,722 .
[70] http://agora.Qc.ca/dossiers/secret
وقد استقى الموقع معلوماته من مداخلة (Lucien Guirlinguer الموسومة:
 De l’ambiguïté ontologiQue du secret à son ambivalence éthiQue,
[71] تزيفتان تودوروف، مدخل إلى الأدب العجائبي، ترجمة الصديق بوعلام، ط1، دار الكلام،1993، الرباط، ص: 50.
[72] المرجع نفسه، ص: 18.
[73] ادغار موران، ثقافة أوروبا وبربريتها، ترجمة، محمد الهلالي، ط1، دار توبقال للنشر، 2007، الدار البيضاء، ص: 6.
[74] المدونة، ص: 87.
[75] رواه أبوداود والترمذي ص: 334، يُنظر: الشيخ محمد ناصر الدين الألباني، غاية المرام في تخريج أحاديث الحلال والحرام، المكتب الإسلامي، ط1، 1400ھ/ 1980م، دمشق، ص: 280.
[76] أخرجه البزار بإسنادٍ صحيحٍ، ص: 335، يُنظر المرجع السابق، الصفحة نفسها.
[77] تُرجع المصادر التاريخية الريادة في الإخصاء إلى الصين كدولةٍ ذات خبرةٍ في هذا الميدان واستفاد منها الآخرون، بينما يعود التقليد إلى الإغريق الذين أطلقوا على المخصي »حارس السرير« (eunoukhosومنها انتقل التعبير إلى اللغات الأوروبية (énuQue, eunuch أما مصطلح »النخاسة« في الثقافة العربية فهو امتدادٌ لكل ما يُحيط بتجارة العبيد وشؤونهم.  وتروي كتب تاريخ الطب والجراحة أنه انتشرت مع نهاية القرن التاسع عشر مراكز للإخصاء، يُشرف عليها أطباء يهود، حيث يُجرون العمليات للأطفال العبيد ما بين 10 و 15 سنة، ثم يُباعون في الأندلس وباقي أنحاء العالم الإسلامي. وكانت نسبة نجاح الجراحة ضعيفةً جدّاً، ولكن الإقبال عليها تضاعف وتزايد، لاعتباراتٍ تجاريةٍ وفنيةٍ حيث كان الخصيان في القرن السادس عشر يُستخدمون في الغناء بدلاً عن النساء ثم كمطربين للأوبرا. يُنظر:
Olivier De Marliave, Le Monde des énuQues, la castration à travers les âges, Editions IMAGO, 2011,Paris.Kurt Sprengel, Histoire de la médecine depuis son origine jusQu’au neuvième siècle, traduit de l’Allemand par, A.J.L. Jourdan, Tome neuvième, Librairie de l’Académie Royale de médecine, Paris, 1832.
[78] Laurence Molinier, la castration dans l’Occident Medieval, Actes du colloQue corps outragés, corps ravagés. Regards croisés de l’AntiQuité au Moyen-âge, Université de Poitiers 15- 16 Janvier 2009, p, 1.
[79] المدونة، ص ص: 75، 76.
[80] المدونة، ص: 36.
[81] المرجع نفسه، ص: 40.
[82] المرجع السابق، ص: 40.
[83] Yannik Ripo(compte rendu Georges Vigarello, Le Propre et le sale, l’hygiène du corps depuis le moyen âge, Revue de l’éducation, année, 1986, vol, 29, Ne 1, p, 119.
[84]ساد اعتقادٌ في القرون الوسطى أن استخدام الماء يؤدي إلى أمراضٍ كثيرةٍ، نفسيةٍ وجلديةٍ وغيرها، مع انتشار نصائحَ علميةٍ، ترشد إلى عدم الاغتسال بالماء، لأنه يفسد نظارة الوجه ويفقده نظارته الطبيعية، وقد رصد الكاتب المجري ساندور ماراي (1900-1989 (Sándor Máraiمظاهر تطور النظافة واستخدام وسائل التطهير في المجتمعات الأوروبية في العصر الوسيط وكشف عن حقائقَ مرعبةٍ متعلقةٍ بالتلوث البيئي الذي غلب على المجتمع الأوروبي، حيث كانت البيوت تفتقد للحمامات والمراحيض، وكان الناس يقضون حاجاتهم في الخلاء وفي زوايا الشوارع، كما أن الطبقات البورجوازية كانت تتجنب الإغتسال لخوفها من الأمراض، وكانوا يسكبون الماء على أجسامهم دون خلع ملابسهم... ينظر كتاب:
Márai, Sándor, Les Confessions d’un bourgeois, Albin Michel, 1993, Paris, p, 125.
[85] Stanis Perez, La Santé de Louis XIV, une biohistoire du Roi-soleil, Editions Champ Vallon , 2007, Seyssel, p, 243.
[86] Jean-Pierre Leguay, La Pollution au moyen-âge dans le royaume de France et dans les grands fiefs, Editions, Jean-Paul Gisserot,1999,Paris, p,121.
[87] Alain Dag’Naud, La Ville au moyen âge, Editions Jean-Paul Gisserot, 2004, Lucon, p, 6.
[88] Jean Pierre Leguay, Vivre en ville au moyen âge, Editions Jean-Paul Gisserot, 2006, Lucon, p, 129.
[89] المدونة، ص: 205
[90] تزيفيتان تودوروف، الخوف من البرابرة، ما وراء صراع الحضارات، ط1، هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث (كلمة 1430ھ - 2009، أبوظبي، ص: 12.
[91] المدونة، ص: 242.
[92] المدونة، ص: 242.
[93] عبد النبي ذاكر، العين الساخرة، أقنعتها وقناعاتها في الرحلة العربية، المركز المغربي للتوثيق والبحث في أدب الرحلة،ط1،مطبعة الكماني، 2000، المغرب، ص: 13.
[94] ول ديورانت، قصة الحضارة، ترجمة، محمد بدران وآخرون، ج 13، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط2، القاهرة، 2001، ص ص: 21-22.
[95] Montgomery watt ; Mahomed prophète et homme d’etat , traduit par odile mayot, Edition la petite bibliothèque Payot , Parie , 1962 , p ,37.
[96] المدونة، ص:215.
[97] المدونة، ص: 216
[98] المدونة، ص: 242.
[99] سورة المائدة، الآية 114
[100] المدونة، ص: 242.
[101] رواه: (الترمذى في السنن، 3502)، (النسائى في الكبرى، 10495) (بن ماجة في السنن، 1375)، (الحاكم في المستدرك، 1930،1180).
[102] المدونة، ص: 189.
[103] المدونة، ص: 123.
[104] المدونة، ص: 249.
[105] المدونة، ص: 119.
[106] المرجع نفسه، ص: 119.
[107] محمد غنيمي هلال، الأدب المقارن، (د ط نهضة مصر للطباعة، 2003، القاهرة، ص، 303.
[108] المدونة، ص: 221.
[109] المرجع السابق، ص: 45.
[110] المرجع نفسه، ص: 75.
[111] أبو الحسين محمد بن أحمد بن جبير، رحلة ابن جبير، (د ط دار صابر، بيروت(د ت ص: 54.
[112] M.COURTIN, Encyclopédie moderne, ou, Dictionnaire abrégé des sciences, des lettres, et des arts, Tome Toisième, Au Bureau de L’Encyclopedie, Paris,1824, p, 38.
[113] Ammar Azouzi, Arabe-musulman: archéologie du discours et des représentations dans les dictionnaires de langue Francaise,Editions connaissances et saviors, 2016, p, 85.
[114] F. J. MAYEUX, LES BÉDOUINS, OU ARABES DU DÉSERT, FERRA jeune, LIBRAIRE,1816,Paris,p,4.
[115] المرجع نفسه، ص: 7.
[116] Albert Le Boulicaut, Au pays des mystères: pèlerinage d’un chrétien à la Mecque et à Médine, p,14.
[117] Charles Letourneau, L’évolution juridiQue dans les diverses races humaines, Lecrosnier et Babé, 1891,Paris,p,240
[118] Albert Le Boulicaut, Au pays des mystères: pèlerinage d’un chrétien à la Mecque et à Médine,p,269.
[119] المرجع نفسه، ص: 68.
[120] Jacques Berchtold, Michel Porret, La peur au XVIIIe siècle: discours, représentations, pratiques Librairie DROZ, S.A, GENEVE, 1994, p, 200.
[121] Georges-Louis Leclerc, comte de Buffon, Histoire naturelle de l’homme, Oeuvres completes, Imprimerie Royale, Paris, (1774-1778, tome, V (1774, p,30
[122] المرجع السابق، ص ص: 78، 79.
[123] R. P. Jean-Baptiste Labat (mis en ordre par le, Mémoires du chevalier d’Arvieux, Delespine, Paris 1735, tome. III, p, 188) chap. XI
[124] المرجع السابق، ص، 208.
[125] المرجع نفسه، ص ص، 46،47
[126] المرجع نفسه، ص،143
[127] عبد الرحمان ابن خلدون، المقدمة، تحقيق عبد السلام الشدادي، ج1، بيت الفنون والعلوم والآداب، ط1، الدار البيضاء، 2005، ص ص: 195،197، 200.
[128] الأمير عبد القادر الجزائري (1807م- 1883م) الديوان، جمع، تحقيق، شرح وتقديم، العربي دحو، ط3، منشورات تالة، 2007، الجزائر، ص ص: 50،51.
[129] مكسيم رودنسون، جاذبية الإسلام، ترجمة إلياس مرقص، دار التنوير، 1982، بيروت، ص: 15.
[130] Romuald Fon Koua, Le Discours de voyages: AfriQue, Antilles, Editions Karthala, 1998, Paris, p, 18.