البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

نقد نظرية التناقض الأدبي في الآيات القرآنية

الباحث :  د. محمد جواد اسكندرلو
اسم المجلة :  دراسات استشراقية
العدد :  16
السنة :  السنة الخامسة - خريف 2018م / 1440هـ
تاريخ إضافة البحث :  January / 3 / 2019
عدد زيارات البحث :  2005
تحميل  ( 1.063 MB )
مقدمة
منذ بدء نزول القرآن بعنوانه وحياً إلهيّاً، حاول البعض بدافع العداء أو بدافعٍ آخرَ أن يطرحوا بعض التعارضات التي يدّعون وجودها في الآيات القرآنيّة، فيما يؤكد القرآن الكريم على إلهية الآيات القرآنية وعدم وجود تعارضٍ في القرآن الكريم: ﴿وَلَوۡ كَانَ مِنۡ عِندِ غَيۡرِ ٱللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ ٱخۡتِلَٰفٗا كَثِيرٗا﴾.النساء: 82. وقد بين القرآن كيف تشكل الآيات المتشابهة منطلقاً لأصحاب الأغراض لما فيها من إبهامٍ، وذلك في الآية السابعة من سورة آل عمران وأن القرآن يؤيد وجود هذا الابهام ويقول أن هناك من يسعى وراء الفتنة قال تعالى: ﴿هُوَ ٱلَّذِيٓ أَنزَلَ عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ مِنۡهُ ءَايَٰتٞ مُّحۡكَمَٰتٌ هُنَّ أُمُّ ٱلۡكِتَٰبِ وَأُخَرُ مُتَشَٰبِهَٰتٞۖ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمۡ زَيۡغٞ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَٰبَهَ مِنۡهُ ٱبۡتِغَآءَ ٱلۡفِتۡنَةِ وَٱبۡتِغَآءَ تَأۡوِيلِهِۦۖ وَمَا يَعۡلَمُ تَأۡوِيلَهُۥٓ ...﴾.
وفي السيرة ينقل الشيخ الصدوق في كتاب التوحيد أن أبا معمر السعداني قال:
«إن رجلاً أتى أمير المؤمنين علي أبن أبي طالب Q فقال: يا أمير المؤمنين إني شككت في كتاب اللَّه المنزل فقال علي Q: وكيف شككت في كتاب اللَّه المنزل؟ قال:
-لاني وجدت الكتاب يكذب بعضه بعضاً فكيف لا أشك فيه ؟! فقال الامام Q:
-إن كتاب الله ليصدق بعضه بعضاً ولا يكذب بعضه بعضاً ولكنك لم ترزق عقلاً تنتفع به فهات ما شككت فيه!
فجعل الرجل يورد آيات زعمهن متهافتات والإمام يجيبه عليهن..»..(التوحيد ص255)
كما نقل الطبرسي في كتاب الاحتجاج:
«ان بعض الزنادقة جاء إلى الإمام أمير المؤمنين وقال له:
-لولا ما في القرآن من الاختلاف والتناقض لدخلت في دينكم! فقال له:
- وما هو ؟!
فجعل يورد آيات بهذا الشأن ليأخذ جوابه الوافي وشكره أخيراً ودخل حظيرة الاسلام». (الاحتجاج.ج1 358 85-359)
وينقل السيوطي في كتاب الإتقان:
..... سعيد بن جبير قال:جاء رجل إلى ابن عباس فقال:
-رأيت أشياء تختلف عليّ من القرآن! فقال ابن عباس:
-ماهو؟ أشك؟! قال:
-ليس بشكٍّ ولكنه اختلافٌ! قال:
-هات ما اختلف عليك من ذلك!
فجعل الرجل يذكر موارد الاختلاف حسب زعمه ويجيبه ابن عباس تباعاً....»..(الإتقان ج3ص79)
وأكد مولى المتقين على عدم وجود اختلافٍ في القرآن في خطبةٍ له يقول فيها:
والله سبحانه يقول ﴿مَّا فَرَّطۡنَا فِي ٱلۡكِتَٰبِ مِن شَيۡءٖۚ﴾ (الأنعام 38) وقال: «فيه تبيان لكل شيء» وذكر أن الكتاب يصدق بعضه بعضاً وأنه لا اختلاف فيه.(نهج البلاغة الخطبة 18)
جميع هذه الأخبار التي نُقِلتْ في مصادر الشيعة والسنة توضح وجود الشبهة في وجود الاختلاف والتهافت في الآيات القرانية عند البعض من الناس.
فظهور تيارٍ سياسيٍّ - اجتماعيٍّ للزنادقة وبعده دخول الأفكار اليونانية في ترجمة المتون الفلسفية والعلوم العقلية أدى إلى توسع نطاق الشبهات.
وازدهار العلوم الأدبية، والصرف، والنحو، والبلاغة العربية، وظهور أكبر مدارس النحو في البصرة والكوفة وظاهرة اختلاف القراءة كل ذلك قد خلق أرضيةً جديدةً من الشبهات حول الانسجام اللفظي للقرآن، ما دفع قطرب أن يؤلف كتاباً مستقلاً سماه (الرد على الملحدين في تشابه القرآن)، وقطرب هذا أحد تلامذة سيبويه ومن أصحاب الإمام جعفر الصادق Q. يقول الزركشي أنه رأى كتاب قطرب.(البرهان ج2ص45)
منذ ذلك التاريخ وعلاوة على كتب التفسير التي اهتمت بالرد على الشبهات، وضع البعض من العلماء مؤلفاتٍ مستقلةً في الجواب على الشبهات حول الاختلاف في آيات القرآن والبعض من ذلك اختص بالمباحث الأدبية والرد على الإشكالات الأدبية مثل: (أسئلة القرآن الكريم وأجوبتها).

ظاهرة الاستشراق:
مع ظهور تيار الاستشراق بواسطة الغربيين والذي انطلق بأهدافٍ منها الطعن بأفكار وثقافة الشرق بما فيها ثقافة المسلمين، تم الالتفات إلى الشبهات القديمة التي أجيب عليها مسبقاً وطويت صفحتها، وجدد المستشرقون بحثها من جديد، كما أنهم لعدم معرفتهم بالثقافة الاسلامية ومصادرها المعتبرة وعدم فهم القرآن أضافوا من عندهم إشكالات أخرى. وقد تتبع المستشرقون ما يعتقدونه تناقضاً في القرآن في مجال المحتوى واللفظ وقدموا الشواهد والقرائن وأصروا على ما يدعون من تناقض ومن هذه الجهة من الضروري الإجابة من جديد على الشبهات القديمة ورد الإشكالات الجديدة في مقابل الأمواج الجديدة.
و من هذا المنطلق نشهد تأليف كتبٍ خاصةٍ برد الشبهات التي طرحت وإبطال الادعاءات الواهية للمستشرقين من قبل علماء الاسلام في العقد الجديد. وهذه الكتب مثل: (تأويل آیات مشکله قرآن» آية الله السبحاني و«شبهات وردود حول القرآن الكريم » آية الله المعرفة و«شبهات حول القرآن وتنفيدها» د. غازي عناية.
وبعض المؤلفين كتب بشكلٍ خاصٍّ حول قضية التعارض اللفظي في الآيات القرآنية بواسطة القواعد النحوية، مثل كتاب: (ظاهرة التأويل في إعراب القرآن الكريم). (دراسةٌ تحليليةٌ لموقف النحاة من القراءات القرآنية المتواترة التي تتعارض مع القواعد النحوية)، تأليف الأستاذ محمد عبد القادر هنادي.
ومما تقدم يمكن بحث التناقض المزعوم في القرآن في عدة فصولٍ:
1-التناقضات المدعاة التي لها سابقةٌ ويمكن تقسيمها إلى ثلاثةِ فصول:
أ-الإشكالات الواردة في الروايات المنقولة عن الصحابة.
ب-الإشكالات المنقولة عن التابعين.
ج-الإشكالات المطروحة من قبل الزنادقة.
د-الإشكالات التي تم طرحها من قبل الكُتّاب والمفسرين والتي أجيب عليها.
2-التناقضات الأدبية التي تم طرحها من قبل المستشرقين في الوقت الحاضر.
التناقضات الأدبية التي لها سابقةٌ:
1- الإشكالات التي نقلت عن طريق الصحابة:
أ-أخرج أبوعبيد في فضائله وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن جرير وابن أبي داوود وابن المنذرعن عروة قال:
سألت عائشةعن لحن القرآن: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلصَّٰبِ‍ُٔونَ﴾ و﴿وَٱلۡمُقِيمِينَ ٱلصَّلَوٰةَۚ وَٱلۡمُؤۡتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ ﴾ و﴿إِنۡ هَٰذَٰنِ لَسَٰحِرَٰنِ﴾ فقالت:
-يا ابن اختي هذا عمل الكُتّاب أخطؤوا في الكتاب. (الدر المنثور ج2ص246).
يتضح من الرواية أن عايشه تصحح اللحن في القرآن في ثلاثة موارد وتؤيد ذلك ولكن تسنده لكُتّاب القرآن. وشبيهٌ لهذه الرواية تذكر كيفية وقوع الخطأ عن طريق الكتاب:
ب-أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي داوود في المصاحف وابن المنذرعن الزبير بن خالد قال: قلت لأبان بن عثمان بن عفان:
ما شأنها كتبت ﴿لَّٰكِنِ ٱلرَّٰسِخُونَ فِي ٱلۡعِلۡمِ مِنۡهُمۡ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَ يُؤۡمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبۡلِكَۚ وَٱلۡمُقِيمِينَ ٱلصَّلَوٰةَۚ وَٱلۡمُؤۡتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ ﴾ ما بين يديها وما خلفها رفعٌ وهي نصبٌ؟!
قال: إن الكاتب لما كتب ﴿لَّٰكِنِ ٱلرَّٰسِخُونَ فِي ٱلۡعِلۡمِ.....﴾ حتى إذا بلغ قال: ما أكتب؟ قيل: ﴿وَٱلۡمُقِيمِينَ ٱلصَّلَوٰةَۚ﴾ فكتب ما قيل.
2- الإشكالات التي نقلت عن التابعين: (الدر المنثور ج2ص2469).
- أخرج ابن أبي داوود عن سعيد بن جبير قال:
في القرآن أربعةُ أحرف: ﴿وَٱلصَّٰبِ‍ُٔونَ﴾ ﴿وَٱلۡمُقِيمِينَ﴾ و﴿فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن﴾ و﴿إِنۡ هَٰذَٰنِ لَسَٰحِرَٰنِ﴾. (المصدر نفسه).
يبدو أن أصل وجود اللحن في كتابة القرآن في روايات أهل السنة موردُ تأييدٍ لأنّه في رواياتٍ كثيرةٍ بنيت الصحة على هذا الموضوع ومنها الروايات التالية:
-أخرج ابن أبي داوودعن عبد الأعلى بن عامر القريشي قال: لما فرغ من المصحف أُتي به إلى عثمان فنظر فيه فقال: قد أحسنتم وأجملتم، أرى شيئاً من لحنٍ ستقيمه العرب بألسنتها.
بالطبع، إن ابن أبي داوود يوجه كلام عثمان بأن مراده من اللحن يعني خلاف لغة قريش والحجاز وإلا إذا كان الخلاف مع جميع كلام العرب لم يجزعثمان أن يرسله إلى أطراف العالم الإسلامي.
-أخرج ابن أبي داوود عن عكرمه قال: لما أُتي عثمان بالمصحف رأى فيه شيئاً من لحنٍ فقال: لو كان المملي من هذيل والكاتب من ثقيف لم يوجد فيه هذا.
-أخرج ابن أبي داوود عن قتادة أن عثمان لما رُفع إليه المصحف قال: إن فيه لحناً ستقيمه العرب بألسنتها.
ومع الالتفات إلى الروايات المتقدمة طرحت إشكالاتٌ أدبيةٌ في أربع آياتٍ، وهنا نتطرق لها مع الإجابة عليها:
1 - ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلصَّٰبِ‍ُٔونَ وَٱلنَّصَٰرَىٰ مَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَعَمِلَ صَٰلِحٗا فَلَا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ﴾ (مائدة 69)
2 - لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل اليك وما أنزل من قبلك والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر أولئك سنؤتيهم أجراً عظيماً.
3 - ﴿قالوا إن هذان لساحران يريدان يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى﴾ (طه63).
4 - ﴿وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقۡنَٰكُم مِّن قَبۡلِ أَن يَأۡتِيَ أَحَدَكُمُ ٱلۡمَوۡتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوۡلَآ أَخَّرۡتَنِيٓ إِلَىٰٓ أَجَلٖ قَرِيبٖ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ ٱلصَّٰلِحِينَ﴾ (منافقون 10).
قبل التطرق إلى الآيات واحدةً بعد الأخرى يجب الالتفات إلى عدةِ مطالبَ:
أولاً: الآية الرابعة من جهة إمكان وقوع اللحن في الكتابة لم تختلف عن الآيات الثلاثة التي سبقتها لأنه كما في الآيات الثلاثة التي وردت في حديث عائشة يمكن قبول اللحن في الكتابة كذلك في الآية الرابعة، ادعاء كهذا يمكن قبوله، لأنه يُكتب بصورة الجزم «أكنْ» وبصورة النصب «أكون».
ثانياً: أصل ادعاء اللحن في كتابة الكلام خالٍ عن الصحة لأن ما تواتر من قراءة القرآن الذي كان موجوداً وما هو موجودٌ حاليّاً هونفس ما ورد في الآيات الأربعة الماضية والكتابة لم يكن لها علاقةٌ بالموضوع، كذلك لها مشابهٌ في القرآن وعلى الرغم من كتابة بعض الكلمات بطريقةٍ خاصةٍ لكن القراءة المتواترة كانت بطريقةٍ أخرى ولازالت مثل ﴿وَيَبۡصُۜطُ﴾ التي تكتب بالصاد (البقرة 345) وتقرأ بالسين يعني (يبسط) لذا فالتصور بوجود التواتر في القراءة على أساس كتابة القرآن أمر خاطئٌ. ومن هذا الوجه ندع جانبا شبهة اللحن في الكتابة والروايات المتعلقة، ولكن الآيات الأربعة السابقة يمكن بحثها على أساس نوع القراءة والإبهام الموجود فيها.

ثالثاً: القرآن كلامٌ عربيٌّ فصيحٌ وحجةٌ للقواعد الأدبية، ولهذا لا أساس لأصل شبهة تناقض القرآن مع القواعد الأدبية.
الآية الأولى:
﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلصَّٰبِ‍ُٔونَ وَٱلنَّصَٰرَىٰ مَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَعَمِلَ صَٰلِحٗا فَلَا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ﴾ (مائدة 69)

إشكال:
صابئون تقرأ بالمرفوع ومع أنها يجب أن تكون منصوبةً يعني «الصابئين» لأنها معطوفٌ على اسم (إن) وهي محلاًّ منصوبٌ. ويمكن رفع المعطوف على اسم (إن) ولكن في حالة يكون المعطوف من بعد خبر(ان) لا قبل خبرها كما في هذه الآية.

الجواب:
الصابئون تم عطفها على محل اسم (ان) وأما لا يمكن عطفها على محل اسم (ان) قبل أن يأتي خبرها فهذا الكلام غير صحيح لأن:
أولاً: عدم العطف على المحل في حالة أن يكون اسم (ان) معرباً لا مبنيًّا يقول الفرّاء: «ويجوز ذلك (العطف على محل اسم إن بالرفع) إذا كان الاسم مما لم يتبين فيه الاعراب كالمضمر والموصول كقول ضابئ بن الحارث البرجمي:
فمن يك أمسى بالمدينة رحله فإني وقيار بها لغريب
وقال بشربن حازم:
وإلا فاعلموا أنا وأنتم بغاة ما بقينا في شقاق
ثانياً: عدم جواز العطف على محل الاسم قبل الخبر في باقي الحروف المشبهة بالفعل لا في «إن».
يقول ابن قتيبة:
«جوازالرفع في مثل ذلك إنما كان لأجل عدم تغييرٍ في مفهوم الابتدائية سواءً قبل دخول إن وبعده. حيث إنها تزيد معنى التحقيق ولا تزيد معنىً آخر سوى ما كانت الجملة تفيدها ذاتاً ومن ثم لا يجوز ذلك في المعطوف على اسم (لعل) و(ليت) لزيادة معنى الترجي أو التمني في مفهوم الكلام».(تأويل مشكل القرآن ص52).
يمكن أن يرد إشكالٌ بأنه في أيِّ حالٍ الأصل في العطف على اِسم إن النصب لا الرفع. كما في مشابه هذه الآية في سورة البقرة.
﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلنَّصَٰرَىٰ وَٱلصَّٰبِ‍ِٔينَ﴾ (البقرة 62).
وفي الجواب نقول: ترجيح الرفع في الآية المذكورة هو لمناسبةٍ بين (الصابئون مع آمنوا وهادوا) ولكن هذه المناسبة قد زالت في الآية (62) من سورة البقرة لأن قبل الصابئين جاءت كلمة نصارى لم تختم بالواو. وعلى هذا طبقاً للأصل تم عطفها على النصب.

عدة نقاطٍ:
1 - في بيان علة قراءة صابئون وتوجيه النحوي ذكرت أقوال اخرى لا بأس بنقلها لإحكام البحث أكثر. يقول صاحب كتاب «التبيان في إعراب القرآن»:
المشهور في القرائة الرفع وفيها أقوال:
أحدها: قول سيبويه وهو أن النية به التأخير بعد خبر إن وتقديره: «ولا هم يحزنون والصابئون كذلك» فهو مبتدأ والخبر محذوف، ومثله فاني وقيار بها لغريب أي: فاني لغريب وقيار بها كذلك»
والثاني: إنه معطوفٌ على موضع «إن» كقولك: «إن زيداً وعمراً قائمان» وهذا خطأ لان خبر إن لم يتم وقائمان إن جعلته خبر إن لم يبق لعمرٍ وخبر وإن جعلته خبر عمر ولم يَبْقَ لزيدٍ خبرٌ، ثم هو ممتنع من جهة المعنى لانك تخبر بالمثنى عن الفرد...
....الثالث: إن الصابئون معطوفٌ على الفاعل في «هادوا» وهذا فاسدٌ من وجهين:
أحدهما أنه يوجب كون الصابئين هوداً وليس كذلك والثاني أن الضمير لم يؤكَّد.
والقول الرابع: أن يكون خبر الصابئين محذوفاً من غيرأن ينوي به التأخير وهو ضعيفٌ أيضاً لما فيه من لزوم الحذف والفصل.
والقول الخامس: إن «إنّ»، بمعنى «نعم» فما بعده في موضع رفع فالصابئون كذلك، والسادس: إنّ «الصابئون » في موضع نصب ولكنه جاء على لغة بلحرث الذين يجعلون التثنية بالألف على كل حالٍ وهو بعيدٌ.
والقول السابع: إن يجعل النون حرف الإعراب. فإن قيل: فأبو علي إنما أجاز ذلك مع الياء لا مع الواو قيل: قد أجازه غيره والقياس «يدفعه».(التبيان في اعراب القرآن ص131)
وفي كتاب التحرير التنوير يضيف توجيها آخر:
«فالذي أراه أن يجعل خبر (إن) محذوفاً وحذف خبر (إن) وارد في الكلام الفصيح غيرُ قليلٍ، كما ذكر سيبويه في (كتابه) وقد دل على الخبر ما ذكر بعده من قوله «فلا خوف عليهم...الخ» ويكون قَوْلُهُ: وَالَّذِينَ هادُوا عَطْفَ جُمْلَةٍ عَلَى جُمْلَةٍ، فَيُجْعَلُ الَّذِينَ هادُوا مُبْتَدَأً، وَلِذَلِكَ حَقَّ رَفْعُ ما عطف عليه وهو «الصابئون». وهذا أولى من جعل «والصابئون» مبتدأ الجملة وتقدير خبر له أي: والصابئون كذلك. كما ذهب إليه الأكثرون لأن ذلك يفضي إلى اختلاف المتعاطفات في الحكم وتشتيتها مع إمكان التفصّي عن ذلك».(التحرير والتنوير ج5ص161) (6ص269).
2-قراءة «والصابئون» القراءة الرائجة والمتفق عليها بين القراء السبعة كما أنها قرئت بشكلٍ آخر.
الأول: (والصابئين) التي نسبت إلى عثمان، وأبيّ، وعائشة، وابن جبير، والحجدري ولا يرد الإشكال المذكور على الآية في هذه القراءة.
الثاني: (والصابيون) تكون الياء بدل الهمزة وهذه القراءة نقلت عن ابن كثير والحسن والزهري وبالحقيقة من باب التخفيف بقلب الهمزة ياء. في هذه القراءة يرد الإشكال المذكور. كما مر في القراءة الرائجة «والصابئون».
«وقرأ السبعة والصابئون بالرفع وعليه مصاحف الأمصار والجمهور».(البحر المحيط ج4ص325)

الآية الثانية:
﴿لَّٰكِنِ ٱلرَّٰسِخُونَ فِي ٱلۡعِلۡمِ مِنۡهُمۡ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَ يُؤۡمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبۡلِكَۚ وَٱلۡمُقِيمِينَ ٱلصَّلَوٰةَۚ وَٱلۡمُؤۡتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ أُوْلَٰٓئِكَ سَنُؤۡتِيهِمۡ أَجۡرًا عَظِيمًا﴾ (النساء 162).
إشكال: (المقيمين معطوفٌ على «الراسخون» أو على «المؤمنون» ويجب أن تكون مرفوعةً يعني المقيمون، وما بعدها كذلك «المؤتون» و«المؤمنون بالله» جاءت مرفوعةً بالعطف وعلى هذا فلا يصح نصب «المقيمين».
الجواب: بحث قطع التابع عن المتبوع من قواعد اللغة العربية ويطلق على أغراض خاصةٍ من اللفظ أو المعنى وفي مكانه تم بحثه بشكلٍ مفصلٍ من قبل أدباء العرب البارزين.
من موارد قطع التابع عن المتبوع وهذا الباب يختص بالمدح والذم. في هذه الآية كذلك »والمقيمين« من باب الاختصاص للمدح نصبت وبواسطة الفعل المحذوف يعني اخصأاو أمدح وأمثاله الذي يعرف بقرينة المقام ولهذا تكون الجملة معترضةً.
«والمقيمين الصلاة» الواو معترضةً «والمقيمين» نصب على المدح بإضمار فعلٍ لبيان فضل الصلاة على ما قاله سيبويه وغيره والتقدير: أعني أو أخصّ المقيمين الصلاة الذين يؤدونها على وجه الكمال فانهم أجدر المؤمنين بالرسوخ في الإيمان.
والنصب على المدح أو العناية لا يأتي في الكلام البليغ إلا لنكتةٍ والنكتة هنا هي ما ذكرنا آنفاً من مزية الصلاة.على أنّ تغيير الإعراب في كلمة بين أمثالها ينبه الذهن إلى وجوب التأمل فيها ويهدي التفكير لاستخراج مزيتها وهو من أركان البلاغة».إعراب القرآن وبيانه ج2ص376.
يذكرالنحاس في (كتاب إعراب القرآن) ست توجيهاتٍ أدبيةٍ لنصب المقيمين:
وفي نصبه ستة أقوالٍ:
1 - فسيبويه ينصبه على المدح أي وأعني المقيمين.
2 - وقال الكسائي: معطوفٌ على «ما» قال أبوجعفر هذا بعيدٌ لأن المعنى يكون: ويؤمنون بالمقيمين وحكى محمد بن جرير أنه قيل: إن المقيمين الصلاة هنا الملائكة R لداومهم على الصلاة.
3 - وقيل: المقيمين عطفٌ على الكاف التي في «قبلك» أي: من قبلك ومن قبل المقيمين.
4 - وقيل والمقيمين عطفٌ على الكاف التي في إليك.
5 - وقيل: هو معطوفٌ على الهاء والميم أي منهم ومن المقيمين.
وهذه الاجوبة الثلاثة لا تجوز لأن فيها عطفَ ظاهرٍ على مضمرٍ مخفوضٍ.
6-والجواب السادس أن يكون «المقيمين عطفاً على (قبلك) ويكون المعنى من قبل المقيمين ثم أقام المقيمين مقام قبل كمال قال: واسأل القرية».(إعراب القرآن ج1ص249)

يقول ابن عاشور:
«وعطف المقيمين بالنصب ثبت في المصحف الإمام وقرأه المسلمون في الأقطار دون نكيرٍ فعلمنا أنه طريقةٌ عربيةٌ في عطف الأسماء الدالة على صفات المحامد على أمثالها فيجوز في بعض المعطوفات النصب على التخصيص بالمدح...».
ثم يشير إلى القصة منقولةً عن عائشة وادعاء الخطأ في الكتابة فيقول:
«ومن الناس من زعم أن نصب المقيمين ونحوه هو مظهر تأويل قول عثمان لكتاب المصاحف حين أتموها وقرأها أنه قال لهم: أحسنتم واجملتم وأرى لحناً قليلاً ستقيمه العرب بألسنتها».
وبعد بكلِّ جرأةٍ يرفض هذا الادعاء ويقول:
«وهذا أوهامٌ وأخبارٌ لم تصح عن الذين نُسبت إليهم. ومن البعيد جدّاً أن يخطئ كاتب المصحف في كلمة بين إخوتها فيفرد بها بالخطأ دون سابقتها وتابعتها وأبعد منه أن يجيء الخطأ في طائفةٍ متماثلةٍ من الكلمات وهي التي إعرابها بالحروف الثابتة عن حركات الإعراب من المثنى والجمع على حده ولا أحسب ما رواه عن عائشة وأبان بن عثمان في ذلك صحيحاً» (التحرير والتنوير ج4ص313).

يقول أبوعبيد:
«هو نصبٌ على تطاول الكلام بالنسق أي للإيفاء بالكلام، نظرية تخرجه على تطاول النسق فيجوز القطع إلى النصب وإلى الرفع للكلام وإخراجه عن نسقٍ واحدٍ وأنشد للخرنق بنت هفان:
لا يبعدن قومي الذين هم سم العداة وآفة الجزر النازلين بكل معترك والطيبون معاقد الأزر» (تأويل شكل القرآن ص53)
ملاحظة: «المقيمون» قرئت بالرفع أيضا ونسب ذلك إلى عائشة، ونسبت أيضا إلى عبد الله بن مسعود، وأبي بن كعب، وحسن ومالك بن دينار والحجدري وسعيد بن جبير وعيسى بن عمر وعمرو بن عبيد، واعتبرابن عاشور ذلك من الشواذ. «ولا تُردُ قراءة الجمهورالمجمع عليها بقراءةٍ شاذةٍ» التحرير والتنوير ج4ص313

الآية الثالثة:
«قالوا إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى» (طه63).
إشكال: اسم إن لا بد أن يكون منصوباً بهذا الشكل: ﴿إِنۡ هَٰذَٰنِ لَسَٰحِرَٰنِ﴾.
الجواب: أولاً الآية قرئت بست قراءات كما أن البعض من هذه القراءات شاذٌ ولم تكن مقبولةً ولكن القراءة السائدة بين المسلمين على شكل: إن هذان لساحران يعني إن مخففة عن إنّ وعلى هذا المنوال لا يعمل وهذان مبتدأ ومرفوعةٌ ولم يرد عليها إشكالٌ.
وأما القراءات الست التي نقلت في الآية:
1 - إن هذان لساحران: القراءة السائدة حفص عن عاصم وكذلك قراءة الزهري وإسماعيل بن قسطنطين والخليل بن أحمد الفراهيدي.
2 -إن هذان لساحران: قراءة أهل المدينة والكوفة.
3 -إن هذين لساحران: قراءة أبو عمرو بن علاء.
4 -إن هذان إلا ساحران: قراءةٌ منقولةٌ عن عبد الله بن مسعود.
5 -إن هذان ساحران: قراءةٌ منقولةٌ عن عبد الله بن مسعود بنقل الكسائي.
6 -إن ذان إلا ساحران: قراءة منقولة عن أبي بن كعب.

دراسة القراءات:
القراءات الثلاث الأخيرة بالأصل تُحمل على تفسير وتوضيح معنى الآية لا بمعنى قراءة المصطلح لأنها على خلاف رسم خط القرآن ولم تكن مقبولة، ومن الناحية الأدبية لا إشكال فيها.
القراءة رقم 3 يعني إن هذين لساحران طبقاً للقواعد الأدبية لم يكن فيها إشكالُ.
القراءة رقم 1 خالية من الاشكال الأدبي.
لذا فالمورد الوحيد الذي يجب بحثه من وجهة نظر أبيّ القراءة رقم 2، وأكثر الأحيان تقرأ بهذا الشكل من قبل القراء السبعة، ولا يمكن تجاوزها بسهولةٍ ولذلك من الناحية الأدبية لا بد أن تكون موجهةً لأنّ القُرّاء هم من العرب ومسلطون على القواعد واللغة العربية.
وأما الأجوبة التي طرحت قبال الإشكال عن قراءة (إن هذان لساحران):
الأول: (إن) بمعنى أجل وفي اللغة العربية هناك شواهدُ كثيرةٌ على ذلك.
الثاني: على أساس لغة بني الحارث بني كعب «هذان» جاءت في حالة النصب بالالف.
الثالث: هذان استعملت بشكلٍ مبنيٍّ مثل (الذين) بالأصل كانت الذي وأضيف إليها نون ولكن بقيت مبنية.
الرابع: استعملت هذان مثل يفعلان الألف فيها لم تتغير.
الخامس: اسم إن ضميرُ شأنٍ محذوفٌ يعني كانت بالأصل إنه هذان لساحران.
السادس: وكانت التثنية يجب أن لا يغيّر لها الواحد أجريت التثنية مجرى الواحد وعلى هذا مع وجود تثنية هذان لحفظ شكل المفرد (هذا) لم يجعلوا لها إعراب تثنية (إعراب القران نحاس ج3ص32).
يبدو أن كل واحدةٍ من هذه التوجيهات لها مواضيعها وانتقاداتها الخاصة بها، ولكن بشكلٍ عامٍّ فإن القول الأول أنسب ومنطقيٌّ، وبعده يأتي القول الخامس.

الآية الرابعة:
-﴿وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقۡنَٰكُم مِّن قَبۡلِ أَن يَأۡتِيَ أَحَدَكُمُ ٱلۡمَوۡتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوۡلَآ أَخَّرۡتَنِيٓ إِلَىٰٓ أَجَلٖ قَرِيبٖ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ ٱلصَّٰلِحِينَ﴾ (منافقون 10)
الإشكال: مع أنّ (أكنْ) تمّ عطفها على (أصّدّق) وهي منصوبةٌ ولكن جاءت مجزومةً وهذا على خلاف قاعدة العطف.
الجواب: القراءة السائدة بين المسلمين والقراء السبعة باستثناء أبو عمرو بن علاء (أكن) تقرأ مجزومة ولكنّ ابو عمرو بن عبده قرأ (وأكونَ) بالنصب وعلى هذا يظهر أنها مقبولةٌ بالذوق العربي ولكن التوجيه الأدبي للآية:
إحدى القواعد السائدة في اللغة العربية (قاعدة الحمل على المعنى) التي نراها في مختلف الأبواب الادبية، كما في باب العطف، وأحد أقسام العطف بالاصطلاح العطف على المعنى او العطف على التوهم، وإن كان التعبير الثاني لم يستخدم في ايات القرآن واقتصر في الاشعار والعبارات العربية.
وقد أفرد الزجاج لها باباً خاصّاً في كتابه (إعراب القرآن) ذكر فيه موارد من الحمل على المعنى في آيات القرآن (اعراب القرآن ج2ص612-630)

الباب المتمم الثلاثين:
هذا باب ما جاء في التنزيل وقد حمل فيه اللفط على المعنى وحكم عليه بما يحكم على معناه لا على اللفظ وقد ذكر ذلك سيبويه في غير موضع وأنشأ فيها أبياتاً....)
ومن هذه الموارد يقول:
«ومنه قوله تعالى: ﴿وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقۡنَٰكُم﴾ إلى قوله ﴿فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن﴾ لأن معناه:
إن يؤخرْني أصدَّقْ وأكنْ فحمل (أكن) على موضع (فأصدّق) لأنه في موضع الجزم لما كان جواب (لولا)».(إعراب القرآن ج2ص620)
وكذلك في الباب »الخامس والثمانين« من كتابه يذكر موردًا واحدًا من موارد الحمل على المعنى:
«هذا باب ما جاء في التنزيل حمل فيه الفعل على موضع الفاء في جواب الشرط فجزم..... ومن ذلك قوله لولا أخرتني إلى أجلٍ قريبٍ فأصدّقَ وأكنْ، فحمل (يكنْ) على موضع الفاء في فأصدق أي: موضع الفاء جزمٌ وكأنه في التقدير: إن أمهلتني أصدقْ وأكنْ.... وربما كال تنشد فارسهم قول أبي داوود: فأبلوني بليتكم لعلي أصالحكم واستدرج نويا فحمل «أستدرج» على موضع (لعلي) جزمٌ على تقدير فلعلي بالفاء محذوفةً..»..(إعراب القرآن ج3ص930)
الإشكالات التي جاء بها المتأخرون:
1- اشكالات الملحدين والزنادقة:
على الرغم من وجود تيار الزندقة والإلحاد في زمن النبي والخلفاء، لكنه في زمان خلافة بني أمية وبني العباس بلغ ذروته.
تتوجه إشكالات الزنادقة بشكلٍ عامٍ إلى محتوى الدين والأحكام والعقائد والآداب الاسلامية ولكن منذ انطلاق هذا التيار كان الطعنَ بالقرآن الذي يمثل الركن الأساسي للمعتقد الديني يقع في مقدمة برنامجهم.
ينقل الطبرسي في كتاب الاحتجاج مفصلاً هذا الحديث:
«جاء بعض الزنادقة إلى أمير المؤمنين علي Q وقال له: لولا ما في القرآن من الاختلاف والتناقض لدخلت في دينكم فقال له Q: وما هو؟ قال: قوله -تعالى- ﴿نَسُواْ ٱللَّهَ فَنَسِيَهُمۡۚ﴾ وقوله ﴿فَٱلۡيَوۡمَ نَنسَىٰهُمۡ كَمَا نَسُواْ
لِقَآءَ يَوۡمِهِمۡ هَٰذَا﴾ وقوله ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّٗا﴾ وقوله ﴿يَوۡمَ يَقُومُ ٱلرُّوحُ وَٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ صَفّٗاۖ لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنۡ أَذِنَ لَهُ ٱلرَّحۡمَٰنُ وَقَالَ صَوَابٗا﴾ وقوله ﴿وَٱللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشۡرِكِينَ﴾ وقوله تعالى ﴿يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ يَكۡفُرُ بَعۡضُكُم بِبَعۡضٖ وَيَلۡعَنُ بَعۡضُكُم بَعۡضٗا﴾ وقوله ﴿إِنَّ ذَٰلِكَ لَحَقّٞ تَخَاصُمُ أَهۡلِ ٱلنَّارِ ﴾ وقوله ﴿لَا تَخۡتَصِمُواْ لَدَيَّ﴾ وقوله ﴿ٱلۡيَوۡمَ نَخۡتِمُ عَلَىٰٓ أَفۡوَٰهِهِمۡ وَتُكَلِّمُنَآ أَيۡدِيهِمۡ وَتَشۡهَدُ أَرۡجُلُهُم بِمَا كَانُواْ يَكۡسِبُونَ﴾»
ثم أجاب أمير المؤمنين على ادعائاته مفصلاً قائلاً:
«.....فأما قوله تعالى: ﴿نَسُواْ ٱللَّهَ فَنَسِيَهُمۡۚ﴾ إنما يعني نسوا الله في دار الدنيا ولم يعملوا ‏بطاعته فنسيهم في الآخرة أي لم يجعل لهم من ثوابه شيئاً فصاروا ‏منسيين من الخير.....».
جاء في مصادر السنة والشيعة الكثير من الأحاديث من هذا القبيل وتظهر أن الأهداف التي يتبعها الزنادقة هي الخوض في الآيات المتشابهة أو المتعارضة بحسب الظاهر.على الرغم من أن ما جاء في المصادر الحديثية له معنًى محتوائيٌّ وينظر إلى الإشكالات التي لها بعدٌ مفهوميٌّ، لكن لا يستبعد أن بعض الإشكالات اللفظية وبالخصوص المخالفة للقواعد العربية طرحت عن طريق الزنادقة وسرت بين الأدباء في إطار إشكالاتٍ وأجابوا عليها.
وعلى هذا الأساس، بدراسة الإشكالات التي طرحت بواسطة الادباء والمفسرين والإجابة عليها نكون في غنًى عن الإشكالات التي ترد عن الزنادقة ولكن للمثال نشير إلى بعضٍ منها.
الاشكالات التي جرى تداولها بين المفسرين والادباء وفيها اشارة إلى شبهات الزنادقة:
﴿وَٱلَّذِينَ هُمۡ لِلزَّكَوٰةِ فَٰعِلُونَ﴾ (مؤمنون 4).
يقول أبوحيان في تفسير هذه الآية:
والزكاة إن أريد بها التزكية صح نسبة الفعل إليها إذ كل ما يصدر يصح أن يقال فيه فعل وإن أريد بالزكاة قدر ما يخرج من المال للفقير فيكون على حذف أي: لأداء الزكاة فاعلون إذ لا يصح فعل الأعيان من المزكى.
أو يضمن (فاعلون) معنى مؤدون وبهذا الشكل شرحها التبريزي.
وقيل: للزكاة: للعمل الصالح كقوله خيراً منه زكاة أي عملاً صالحاً قاله أبو مسلم وقيل الزكاة هنا النماء والزيادة واللام لام العلة ومعمول (فاعلون) محذوف التقدير، والذين هم لأجل تحصيل النماء والزيادة فاعلون الخير.
وقيل: المصروف لا يسمى زكاةً حتى يحصل بيد الفقير.
وقيل: لا تسمى العين المخرجة زكاةً فكان التعبير بالفعل أولى منه بالأداء وفيه ردٌّ على بعض زنادقة الأعاجم الأجانب عن ذوق العربية في قوله: ألا قال: مؤدون؟!» (البحر المحيط ج7ص547).
يظهر من كلام أبي حيان أن أحد الزنادقة كان أعجميّاً وأشكل على استعمال لفظ فاعلون في الآية الرابعة من سورة المؤمنون بالقول: كان من الأجدر أن يستعمل كلمة (مؤدون ) وابوحيان يأتي بست تبريراتٍ على هذا الاستعمال ويجيب على الإشكال. كما أنه بعد هذا استشهد بشعر أمية بن أبي الصلت (نقلاًعن صاحب التحرير والتحبير) أن:
 المطعمون الطعام في السنة الازمة والفاعلون للزكوات.
ولم يرد عليه أحدٌ من فصحاء العرب ولا طعن فيه علماء العربية بل جميعهم يحتجون به ويستشهدون».
2- الإشكالات التي طرحت بين الأدباء والمفسرين:
1-﴿أَرۡبَعَةَ أَشۡهُرٖ وَعَشۡرٗاۖ﴾ (البقرة 234)
الإشكال:   لا بد أن تكتب عشرة لأن المراد من العشرة الأيام.
الجواب:   تقدير الآية: عشر ليال لأن المعروف عند العرب عدّ الأيام يكون على الليالي وكما يكتبون في التاريخ: لخمسٍ بقين أو خلوْن من رجب. ولذا كل الشهر يبدأ في اليلة الأولى من الشهر واليوم تابع لليلة من جهة الحساب والترتيب عند العرب. (التبيان في أعراب القرآن ص59).
2-﴿وَٱلۡمُطَلَّقَٰتُ يَتَرَبَّصۡنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَٰثَةَ قُرُوٓءٖۚ﴾ (البقرة 228)
الإشكال:   المميز في الأعداد من ثلاثةٍ إلى تسعةٍ يجب أن يأتي جمع القلة ولكن في هذه الآية جاءت بجمع الكثرة مع أن قرء يمكن جمعها بشكل أقراء ولكن جاءت قروء.
الجواب:   لا إلزام باستعمال جمع القلة بل يستعمل كلا الجمعين بالخصوص اذا كان جمع الكثرة كان استعماله اكثر، واحتمال استعمال قروء اكثر رواجا من اقراء. كما ان عكسه في (انفسهن) مع وجود كثرة العدد لم يستعمل نفوس. (راجع كشاف ج1ص272)
3- ﴿جَآءَتۡهَا رِيحٌ عَاصِفٞ﴾ (يونس22)
الإشكال:مع أن ريح مؤنث ولكن عاصف جاءت بلفظ مذكر مع أنه جاء في مكانٍ آخرَ من القرآن: ولسليمان الريح عاصفة (الانبياء 81)
الجواب: لفظ الريح من الألفاظ العربية التي تستعمل بكلا الحالتين مؤنث ومذكر وكلا الاستعمالين صحيح ولا يوجد بينهما تناقض.
4-﴿هَٰذَانِ خَصۡمَانِ ٱخۡتَصَمُواْ فِي رَبِّهِمۡۖ﴾ (حج 19)
الإشكال:  مع أن خصمان تثنيةٌ ولكن الضمير جاء بالجمع في اختصموا ويجب القول اختصما.
الجواب:  الخصم بالأصل هو مصدرٌ وهنا جاء بمعنى فريق وجماعة بينهما عداوة.
«وخصم مصدر وأريد به هنا الفريق فلذلك جاء اختصموا مراعاةً للمعنى إذ تحت كلّ خصمٍ أفرادٌ».(البحر المحيطج7ص495)
«فالفرق الكافرة خصمٌ والمؤمنون خصمٌ وقد ذكروا في ما قبل» (جمع البيان:ج:7ص77).
5- ﴿وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٱقۡتَتَلُواْ فَأَصۡلِحُواْ بَيۡنَهُمَاۖ﴾. (حجرات9)
الإشكال:   الضمير في اقتتلوا جاء بصورة الجمع على طائفتَيْن ولكن في أصلحوا بينهما جاء بشكل تثنيةٍ فهنا لا بد أن يأتي في الكلمتين جمعاً أو تثنيةً.
الجواب:   الحرب بين الطائفتين في الحقيقة يشمل جميع أفراد الطرفين. ولكن في الصلح بين الطائفتين هو مصالحة بين المجموعتين ولم يشمل آحاد المجموعتين. (راجع:الهدى إلى دين المصطفى ج1ص384).
3- الأشياء التي لا يتناسق فيها الضمير مع مرجعه:
الإشكال:   في مواردَ متعددةٍ من الآيات القرآنية لم يكن الضمير فيها متناسقاً مع مرجعه وقد أشرنا في ما تقدم إلى موردين، ولكن هناك مواردُ كثيرةٌ غيرها.
الجواب:الفرق بين الضمير والمرجع على أساس أمورٍ موجودةٍ وقد أشير إليها سابقاً. وبشكلٍ عامٍّ يمكن ذكر عدة عناوينَ كليةٍ:
1-في بعض الاحيان من باب تغليب الضمير يعود بحالةٍ مختلفةٍ، على سبيل المثال إلى المرجع المذكر والمؤنث الضمير يعود بشكلٍ مذكرٍ من باب تغليب المذكر على المؤنث أو على العاقل وغير العاقل يعود الضمير عاقلا.
2- في بعض الأحيان من باب الاستعارة التخيلية التي يتجسم المرجع في الذهن بشكلٍ آخرَ ولكن تحذف أدوات التشبيه. مثل ﴿قَالَتَآ أَتَيۡنَا طَآئِعِينَ﴾ (فصلت 11)
فرض الأرض والسماء مثل الكائنات العاقلة.
3-في بعض الأحيان يستعمل الجمع لأكثر من عددٍ واحدٍ ولذا تد خل فيه التثنية.
مثل ﴿وَدَاوُۥدَ وَسُلَيۡمَٰنَ إِذۡ يَحۡكُمَانِ وَكُنَّا لِحُكۡمِهِمۡ شَٰهِدِينَ﴾ (الأنبياء78).
ويا مثل صغت قلوبكما والمراد من القلوب هو قلبان.
4-المرجع إذا كان جمعٌ من غير عاقلٍ يمكن أن يأتي مؤنثًا. مثل: ﴿وَمِنۡ ءَايَٰتِهِ
ٱلَّيۡلُ وَٱلنَّهَارُ وَٱلشَّمۡسُ وَٱلۡقَمَرُۚ ٱلَّذِي خَلَقَهُنَّ﴾ (فصلت37).
الإشكال:   في بعض موارد في القرآن تستعمل (ما) للعاقل مثل ﴿وَلَا تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءَابَآؤُكُم مِّنَ ٱلنِّسَآءِ﴾ (نساء 22).
الجواب:   أولاً (ما) موصولةٌ ولم تختص بغير العاقل وتستعمل في ذي العقول.
ثانياً: في الموارد التي يراد بها الصفة، تستعمل (ما) للعاقل مثل: ما زيد؟ السؤال عن صفة زيدٍ يعني هل هو كريمٌ أو فاضلٌ أو......؟
الإشكال:   بعض الآيات القرآنية لها لفظٌ مفردٌ وفي مكان آخر لفظ على أنها جمع مثل: ﴿وَٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَوۡلِيَآؤُهُمُ ٱلطَّٰغُوتُ يُخۡرِجُونَهُم مِّنَ ٱلنُّورِ إِلَى ٱلظُّلُمَٰتِۗ﴾ (البقرة 257) و﴿يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوٓاْ إِلَى ٱلطَّٰغُوتِ
وَقَدۡ أُمِرُوٓاْ أَن يَكۡفُرُواْ بِهِۦۖ﴾ (نساء60)
لفظ الطاغوت في الأولى الجمع وفي الآية الثانية استعمل مفرداً.
الجواب: الطاغوت في الأصل مصدرٌ وحينما يكون اسماً يمكن استعماله مفردًا وجمعًا مثل: ضيف إبراهيم المكرمين.

عدة نقاطٍ مهمةٍ:
1-أحد الأسباب في تشديد الأبحاث الأدبية في مجال آيات القرآن، هو وجود ظاهرة اختلاف القراءات. مع الرجوع إلى كتب التفسير وإعراب القرآن يمكن التعرف على مقدارٍ كبيرٍ من التعارضات والتحديات الأدبية الناتجة عن القراءات، بعبارةٍ أخرى إن القراءة السائدة والمجملة على طول التاريخ، واليوم متداولة وتنطبق على كتابة القرآن وخالية من التعقيدات الفنية الأدبية، وفي مجالاتٍ معدودةٍ برزت أبحاثٌ معقدةٌ نشير إلى أهمها.
-البعض من القراءات تتعارض بشدةٍ مع قواعد اللغة وتعرف بالقراءات الشاذة، وهي غير مقبولةٍ نضعها خارج البحث.
وعلى أيّ حالٍ إذا كان من المقرر أن تطرح أبحاث التعارض على أساس القراءات العشر المشهورة أو السبعة المتواترة ستصحب معها الكثير من الأبحاث الخاصة بها.
2-الأدباء والمفسرون الذين درسوا المواضيع المختلف فيها توصلوا إلى حقيقةٍ واحدةٍ واعترفوا بها وهي أن القرآن يُعد أفصح الكلام بل هو من معجزات كلام العرب وهو حجةٌ وسندٌ معتبرٌ لقواعد اللغة والبحوث المختلف فيها في حقيقة الأمر هي لرفع الإبهام البدوي والتعارض الصدري الذي يعرض للأشخاص غير المتخصصين في الأدب، وأن قواعد العربية لم تكن معيارًا لصحة وعدم صحة تركيب العبارة القرآنية.  «.....لكنا نقول: بان القواعد العربية استنبطت من القرآن الكريم والحديث الشريف وأقوال العرب من شعرٍ ونثرٍ وأن هذه القواعد لم تشتمل على كلّ أحوال العرب بل جاءت قاصرةً لأن اللغة أكبر من أن تستوعبها القواعد ونحن نجعل القرآن الكريم حكماً على القواعد ولا نجعل القواعد حكماً على القرآن الكريم كما قرر ذلك علماء أصول النحو. (الجدول في اعراب القرآن ج2ص240).
الإشكالات التي طرحت من قبل المستشرقين.
كما ذكرنا سابقاً أن عموم الإشكالات المطروحة من قبل المستشرقين تتلخص في:
أولاً: إنها تركز على التعارض في المحتوى مثل إشكالات الزنادقة والملاحدة في السابق.
ثانياً: إشكالات التعارض الأدبية عموماً مقتسبةٌ من البحوث المطروحة تاريخيًّا، لأنّ كل ما بوسع علماء الأدب وباهتمامٍ خاصٍّ بشأن القرآن بين علماء الاسلام وضّحوا وأجابوا بالطرق الفنية والشخصية على جميع الاحتمالات والابهامات التي يمكن أن تطرح والتي لها أساسٌ في الظاهر. وكلّ من لديه معرفةٌ بالمصادر الأصيلة الإسلامية في مجال إعراب القرآن وعلوم البلاغة فيدرك جيّداً الدقة العالية والاهتمام اللامتناهي لعلماء الاسلام بهذا الأمر.
على أيِّ حالٍ بعض من المستشرقين أرادوا أن يضخمّوا الاشكالات ويطرحوها بشكلٍ وسياقٍ جديدٍ. أو لعدم المعرفة باللغة والثقافة الاسلامية توهموا أشياء لا أساس لها من الصحة ومع قليلٍ من التدبر تظهر هشاشة وبطلان هذه الادعاءات. ومن الذين تطرقوا إلى الاختلافات الأدبية في القرآن الكاتب المصري المسيحي هاشم العربي في (ملحق ترجمة كتاب مقالة في الاسلام).
وقد أجاب الأستاذ المعرفة في كتاب شبهات وردود حول القرآن الكريم على بعض شبهاته بالتفصيل بما يلي.
1-﴿وَقَطّعۡنَٰهُمُ ٱثۡنَتَيۡ عَشۡرَةَ أَسۡبَاطًا أُمَمٗاۚ﴾ (الاعراف160)
إشكال:
أولاً: مع أن المعدود مذكرٌ جاء العدد مؤنثًا والصحيح أن يكون اثني عشر.
  ثانياً: تمييز الأعداد من 11 الى 99 في اللغة العربية يجب أن يأتي مفردًا مذكرًا ولكن في الآية جاءت بالجمع.

الجواب:
أولاً: هذه المسألة من قبل كانت مورد اهتمام المفسرين وعلماء العرب وأجابوا عليها بوضوحٍ، فأسباط لم تكن تمييزًا بل هي بدلٌ عن اثني عشرة والمميز هو عددٌ محذوفٌ بقرينة الفعل الذي جاء سابقاً والكثير من هذه الاستعمالات وردت في القرآن مثل: وواعدنا موسى أربعين ليلة وأتممناها بعشرٍ، أو يتربصن بأنفسهن أربعة أشهرٍ وعشراً، وإن لبثتم إلا عشراً، و«فان اتممت عشراً فمن عندك»، وعليها تسعة عشر.
كما هو شائعٌ ومتعارفٌ عليه في اللغة العربية مثل قطعت اللحم أربعاً أي أربع قطع. في الآية كانت بالأصل: قطعناهم (أي فرقناهم) اثني عشر فرقة.
ثانياً: لو فرضنا أن أسباطاً مميزٌ للعدد يرد الإشكال وأجاب عنه الزمخشري بأن أسباطاً مميزٌ حيث يقول: «فإن قلت مميز ما عدا العشرة مفرد فما وجه مجيئه جمعاً؟ قلت: لو قيل ذلك (يعني اثني عشرة سبطاً) لم يكن تحقيقاً لأن المراد: وقطعناهم اثني عشرة قبيلةً وكل قبيلة أسباطٌ لا سبطٌ. فوضع أسباطاً موضع قبيلة ونظيره: بين رماحي مالك ونهشل».(الكشاف ج2ص168)

يقول ابن منظور:
«قطعناهم اثني عشرة أسباطاً أمماً ليس أسباطاً بتمييزٍ إنما يكون واحداً لكنه بدلٌ من قوله اثنتي عشرة كأنه قال: جعلناهم أسباطاً والأسباط من بني إسرائيل كالقبائل من العرب وقال الأخفش... أنث لأنه اراد اثنتي عشرة فرقة ثم أخبر أن الفرق أسباط». (لسان العرب ج7ص310).
2-﴿وَنُقَدِّسُ لَكَۖ﴾ (البقرة 30).
إشكال: اللام في لك زائدةٌ لأن قدّس متعدٍّ بنفسه والصحيح أن يقال: نقدسك إلا أن يقال نجعل مفعولاً من دون واسطةٍ محذوفًا وهو ليس من المعلوم أن يسبب إبهاماً.

الجواب:
أولاً: بالفرض أن معنى نقدس لك هو نفس نقدسك فزيادة اللام هو أمرٌ مستساغ بالأدب العربي وهو للتأكيد مثل الكثير من حروف الجر الأخرى تضاف للتأكيد.
ثانياً: بين نقدس لك ونقدسك فرقٌ بالمعنى. نقدسك بمعنى تنزيه الله وتوصيف الله بالقدوس ولكن نقدس لك بمعنى تطهير النفس وتحضير الروح لاستيعاب الفيض الملكوتي.
ويقول أبو حيان:
«.... ومفعوله أنفسنا لك من الأدناس قاله الضحاك وغيره أو أفعالنا من المعاصي قاله أبو مسلم..... أو نصلي لك أو نتطهر من أعمالهم يعنون بني آدم حكي ذلك عن ابن عباس أو نطهر قلوبنا من الالتفات إلى غيرك».
ثم يذكر احتمالات كثيرةً حول اللام في لك:
«واللام في لك: قيل زائدةٌ أي:نقدسك وقيل لام العلة متعلقةٌ بنقدس قيل أو بنسبح وقيل معديةٌ للفعل كي في سجدت لله وقيل اللام للبيان كاللام بعد سقياً لك فتتعلق إذّاك بمحذوفٍ دل عليه ما قبله أي: تقديساً لك».
ويختار من بين الأقوال أن اللام متعديةٌ:
«والأحسن أن تكون معديةً للفعل كما في قوله: يسبح لله ويسبح لله» (البحر المحيط ج1ص231)
3- ﴿ثُمَّ قَالَ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ﴾ (آل عمران 59)
إشكال: لا بد من القول بهذا الشكل (ثم قال له كن فكان) لأن البحث عن خلقة آدم Q قد انتهى: (ان مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من ترابٍ ثم قال له كن فيكون» رعاية الوجه مقدمةٌ على صحة المعنى.
الجواب:   أولاً استخدام المضارع في حالة إذا كان المعنى ماضياً وفي اللغة العربية له سابقةٌ كما أنه يستخدم كثيراً الماضي في معنى المستقبل.
«..... قال له كن فيكون: أي: فكان والمستقبل يكون في موضع الماضي إذا عرف المعنى» (إعراب القرآن للنحاس ج1ص163)
ثانياً: ﴿كُن فَيَكُونُ﴾ هي حكاية عن التكوين والخلقة ولم يكن كلام يقال.
 (يجوز أن تكون كلمة التكوين مجموع (كن فيكون) والمعنى: ثم قال له كلمة التكوين التي هي عبارة عن توجه الإرادة إلى شيء ووجوده بها حاليّاً.... ويظهر هذا في مثل قوله تعالى ﴿وَهُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ بِٱلۡحَقِّۖ وَيَوۡمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُۚ قَوۡلُهُ ٱلۡحَقُّۚ ﴾....) (تفسير المنار ج3ص 319بنقل عن الشيخ محمد عبده)
«قال الحجة البلاغي: (فيكون) فعلٌ مضارعٌ دالٌّ على الثبوت لبيان الملازمة الدائمة بين قوله (كن) وبين تكون الشيء بهذا الامر لا محالة وبهذه القدرة التامة والملازمة الدائمة خلق عيسى من غير فحلٍ إذ قال له (كن).... وهذا بخلاف ما لو قال (فكان) لأن هذا الأسلوب (الثاني) لا يفيد إلا أن آدم كان. سواءً أكان ذلك باتفاقٍ أم بملازمةٍ خاصةٍ بذلك الكون أو عامةً وهو أمرٌ معلومٌ لا فائدة في بيانه ولا حجة فيه على خلق عيسى من غير فحلٍ فلا يكون التفريع لو قيل كن فكان إلا لغواً في كلامٍ متهافتٍ». (الهدى إلى دين المصطفى ج1ص380).
4-﴿وَكَانَ وَرَآءَهُم مَّلِكٞ يَأۡخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصۡبٗا﴾. (الكهف 79)
إشكال: والصحيح أن يأتي، وكان قدامهم لا كان وراءهم.
الجواب:كلمة وراء في تلك الحالات هي كناية عن الخطر والحادث المؤلم الذي يقع في المستقبل وكأنما الحادثة تقع من ورائهم وتلتف عليهم. فالذي يعرف أسلوب اللغة العربية يعرف هذه الظرافة بوضوحٍ. وفي القرآن الكريم مواردُ كثيرةٌ جاءت بهذا الأسلوب: ﴿وَمِن وَرَآئِهِم بَرۡزَخٌ إِلَىٰ يَوۡمِ يُبۡعَثُونَ﴾ المؤمنون100، ﴿مِّن وَرَآئِهِمۡ جَهَنَّمُۖ وَلَا يُغۡنِي عَنۡهُم مَّا كَسَبُواْ شَيۡ‍ٔٗا﴾ الجاثية10، ﴿مِّن وَرَآئِهِۦ جَهَنَّمُ وَيُسۡقَىٰ مِن مَّآءٖ صَدِيدٖ﴾ إبراهيم 16، ﴿وَمِن وَرَآئِهِۦ عَذَابٌ غَلِيظٞ﴾ ابراهيم  17.
وفي الشعر العربي شواهدُ على هذا الاستعمال ظريفةٌ ولطيفةٌ.
5- ﴿وَطُورِ سِينِينَ﴾ (التين2)
إشكال: هنا لا بد أن نقول طور سيناء واستعملت لرعاية وجه الكلمة غير الصحيحة، لأن القرآن في موضعٍ آخرَ يقول ﴿وَشَجَرَةٗ تَخۡرُجُ مِن طُورِ سَيۡنَآءَ﴾ المؤمنون20.
الجواب:   سيناء اسم جبلٍ في صحراء سين وفي اللغة العبرية جاء باسم سينيم وباعتبار هذا الجبل والوادي وصحراء سمي بوادي سيناء أو سينيم وهي جاءت بتعريب سينين ولهذا سيناء وسينين اسمان مختلفان لمعنىً واحدٍ. (شبهات وردود ص380)
6-﴿سَلَٰمٌ عَلَىٰٓ إِلۡ يَاسِينَ﴾ (الصافات 130)
إشكال: إلياس من دون أيّ دليل قال: وإنّما سَاقه إلى ذلك مراعاةُ الرويّ.
الجواب: إلياس مصطلحٍ غيرِ عربيٍّ ومن عادة العرب يستعملون الكلمات غير العربية بطرقٍ مختلفةٍ مثل درهم ودرهام معرب درخم (البهلوي) كما أن جبرئيل جاءت باشكالٍ مختلفة، جبريل. جبرئيل. جبرائيل.
وعلى هذا إلياسين لغة أخرى من إلياس..
يقول العلامة البلاغي:..وقوله تعالى: -﴿سَلَٰمٌ عَلَىٰٓ إِلۡ يَاسِينَ ﴾ بعد قوله ﴿ وَإِنَّ إِلۡيَاسَ لَمِنَ ٱلۡمُرۡسَلِينَ﴾. ذلك لان لاسم هذا الرسول في اللغة العربية تعريبان كما كان لاسمه في العبرية تعبيران: إلياه وإلياهو وهو المعروف بإيليا التشبي في العهد القديم».(الهدى إلى دين المصطفى ج1ص384) كما أن البعض تم توجيهها بشكلٍ آخرَ وهذا التوجيه كان مكلفاً بهذه الطريقة أن:
إلياسين في الواقع جمع إلياسي يعني منسوب إلى إلياس ولهذا كانت في الاصل إلياسيين وحذفت ياء النسبة فيها مثل أشعرون التي كانت بالأصل أشعريون.
7- ﴿قُلۡ بَلۡ مِلَّةَ إِبۡرَٰهِ‍ۧمَ حَنِيفٗاۖ﴾ (البقرة 135)
اإشكال:    إنّ الحنيفيّة هي الميل عن الصراط السويّ، وقد استعملها القرآن في غير معناها الأصيل، وزَعَم أنّ ذلك ممّا موّهته اليهود على صاحب القرآن فلقّنته؛ ليدعو دين إبراهيم حنيفاً، تعبيراً عليه ليُفضح أمره عند العرب، فانخدع بذلك من غير دراية بمعناه العربي الأصيل.
الجواب:
أولاً: إن النبي هو عربيٌّ أصيلٌ ومن نسل إبراهيم فكيف يمكن لليهود الغرباء والجهال يخدعون أفصح العرب في لغته؟
ثانياً: إن كلمة الحنف تعني الاستقامة والتمايل من الاعوجاج إلى طريق الصحيح في مقابل كلمة جنف تكون عكس ذلك تعني الاعوجاج والميل إلى طريق الضلال.
يقول الراغب الاصفهاني: (الحنف هو ميل عن الضلال إلى الاستقامة والجنف ميل عن الاستقامة إلى الضلال، كما في قوله تعالى: ﴿فَمَنۡ خَافَ مِن مُّوصٖ جَنَفًا أَوۡ إِثۡمٗا﴾ أي ميلاًعن الحق في الوصاية) والحنيف المائل إلى الاستقامة قال تعالى: قانتاً لله حنيفاً وقال حنيفاً مسلماً وجمعه حنفاء قال تعالى ﴿وَٱجۡتَنِبُواْ قَوۡلَ ٱلزُّورِ ٣٠ حُنَفَآءَ لِلَّهِ﴾ (المفردات، مادة حنف).
يقول ابن منظور: «الحنف الاستقامة وانما قيل للمائل الرِّجل أحنف تفاؤلاً بالاستقامة كما يقال للغراب أعور وللصحراء القاحلة: المفازه» لسان العرب ج9ص56-58
8-﴿إِنَّمَا ٱلۡبَيۡعُ مِثۡلُ ٱلرِّبَوٰاْۗ﴾ (بقره 275)
إشكال: يجب القول: إنما الربا مثل البيع
الجواب:   وذلك أنّ المـُرابين زَعموا تَماثل البيع والرِّبا، فكلّ ما في الرِّبا من آثار وتَبِعاتٍ فإنّها بعينها موجودةٌ في البيع بِلا فَرقٍ؛ ومِن ثَمّ استغربوا أن يُحلَّل البيع وقالوا: إنّما البيع مثل الرِّبا في الترابح وجَلب المنافع، فما شأن البيع يُحلَّل والرِّبا يُحرَّم؟! وقد حكى اللّه تعالى عنهم ذلك تفضيعاً لشانئتهم.

خاتمة الكلام:
إن القرآن معدن البلاغة والعلوم الأدبية، ولم يكن فقط سيد الكلام بل هو إعجازُ الكلام، وأصولاً إيراد الاشكال الأدبيّة على القرآن هو يحكي عن عدم العلم، أو هو لإهدافٍ مغرضةٍ من المتكلم.
ومن العجيب أنْه كلما كثرت مثل هذه الاسئلة والشبهات حول الجوانب الأدبية والبلاغية للقرآن فإن ظرافة ودقة وإعجاز القرآن تبرز أكثر من قبل. حاله كالذهب الأصيل كلما تصقله يزداد تلؤلؤه وتشعشعه، وهذا من الألطاف الإلهية الخفية حيث يقوم البعض بمحاولاتٍ لتشكيك في القرآن فتأتي النتائج خلافا لمقاصدهم فتظهر الوجه النوراني للقرآن أكثر من قبل.