البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

بحر الخلفاء تاريخ المتوسط الإسلامي

الباحث :  د. حسن قاسم سلهب
اسم المجلة :  دراسات استشراقية
العدد :  18
السنة :  السنة الخامسة - ربيع 2019م / 1440هـ
تاريخ إضافة البحث :  July / 10 / 2019
عدد زيارات البحث :  2074
تحميل  ( 706.610 KB )
كريستوف بيكار هو أستاذٌ في جامعة باريس الأولى بانتيون-سوربون، واختصاصيٌّ في التاريخ السياسي والمجتمعي للغرب في العصور الوسطى، إلا أن اهتمامه ينصبّ بشكلٍ خاصٍّ على مسألة الوجود الإسلامي في الغرب والتفاعل الحضاري.
له مؤلفاتٌ عديدةٌ من بينها: - «المحيط الأطلسي الإسلامي، من الفتح العربي إلى العصر الموحّدي» (1997)؛ - «البحر ومسلمو الغرب في العصور الوسطى، من القرن الثامن إلى القرن الثالث عشر». (1999)؛ - «البرتغال الإسلاميّة من القرن الثامن إلى القرن الثالث عشر، الغرب الأندلسي تحت السيطرة الإسلامية». (2000)؛ - «العالم الإسلامي من القرن الحادي عشر إلى القرن الخامس عشر». (2001)؛ كما أشرف على العديد من المؤلفات الجماعية، من بينها: -»الجماعات المسيحيّة في أرض الإسلام» (1997)؛ «فضاءاتٌ وشبكاتٌ في المتوسط، من القرن السادس إلى القرن السادس عشر» (2007).
أما كتابنا الحالي «بحر الخلفاء، تاريخ المتوسط الإسلامي من القرن السابع إلى القرن الثااني عشر الميلادي، فقد ترجمه إلى اللغة العربيّة د. جان ماجد جبّور، وأصدرته المكتبة الشرقيّة في بيروت سنة 2018. يقع الكتاب في ثلاثمائةٍ وستين صفحةً من القياس المتوسط، ويحتوي على مقدِّمةٍ واثني عشر فصلاً موزَّعةً على جزئين، سبعةٌ في الجزء الأول والباقي في الثاني، وخاتمةٍ وملاحقَ لخرائطَ وصورٍ ولائحتين بأبرز الحملات البحرية، وفهرسٍ عامٍّ للمادة.
ثمَّة الكثيرُ مما يقال في هذا العمل التاريخي الجديد «بحر الخلفاء، تاريخ المتوسط الإسلامي»، نحن أمام إنجازٍ علميٍّ متعدِّدِ الوجوه، فبالإضافة إلى لغته الزاهية وتناوله الرشيق، ومع كونه يخوض مجالاً ساحراً بطبيعته، وأثيراً في وقائعه، إلا أنّه قد يذهب بعيداً في الخيال، ويقع قريباً في الواقع، حتى يُخيَّل للقارئ أن الباحث يفتش عن حقيقةٍ تاريخيّةٍ على طريقة الأديب في تركيبه للحبكة والدهشة.
بمعزِلٍ عن بعض الملاحظات يمكن القول بأن العنوان ينطوي على وعودٍ جذَّابةٍ لم يخفق الكاتب في الوفاء بالكثير منها، لقد خاض البحرَ فعلاً، واستطاع أن يحملنا على متن كتابه، حيث وصل بنا إلى معظم حياضِه وجزرِه، ومدنِه وموانئِه، وكشف لنا العديد من تضاريسه وبعض مواقعِه ومراكزِه البالغةِ الأهميّة.
ثمَّة إضاءَاتٌ متنوِّعةٌ يمكن التفاعل معها، كذلك بعض المبالغات النافرة التي يتعيَّن التوقُّف عندها، ولدينا بعض الهفوات والشبهات المستَغربة التي قد تصل إلى حدود الإخفاقٍ.

في ما يلي نستعرض أبرز هذه الملاحظات:
أولاً: إضاءَاتٌ متنوِّعةٌ
استطاع المؤرخ بيكار (picard) تقديم الجغرافي العربي المسلم الشريف الإدريسي، صاحب كتاب «نزهة المشتاق في اختراق الآفاق» بصورةٍ جديدةٍ بعض الشيء، فقد اعتبر وصف الإدريسي للبحر هو «الأكثرَ إنسانَويَّةً والأكثرَ شمولاً للفضاء المتوسطي في العصور الوسطى» (ص: 48)، وأنه أي الأدريسي «تحرَّر من الحدود السياسيَّة والدينيَّة التي فرضها الجغرافيون العباسيون لصالح استقطابٍ متوسطيٍّ مشتركٍ» (ص: 51)، بالإضافة إلى ذلك فإنه، والكلام لايزال لبيكار في الإدريسي، «لم يتردَّد في الإشارة إلى مظاهر التوفيق بين المعتقدات عبر التقاء المسيحيين والمسلمين في أماكنَ للحج... في الوقت نفسه الذي كانت فيه السلطات القيِّمة على الديانتين ترفض بشكلٍ متزايدٍ هذه الممارسات»(ص: 51).
وفي مكانٍ آخرَ أشار المؤرخ بيكار (Picard) بشكلٍ مفيدٍ إلى بعض مصادر الإدريسي اللاتينية، وعلق على تفرُّده، بقوله «إنه الوحيد، حتى بين الجغرافيين اللاتين، الذي مكّننا من التعرّف إلى مسارات الحج عن طريق البحر...» (ص: 224).
لم يكن المؤرخ بيكار أوّل من أشار إلى هذه الفرادة لدى الأدريسي، فقد كان هذا الجغرافي محطَّ اهتمامِ العديدِ من المفكرين والمؤرخين، لكن في حدود علمي لم يجرِ التطرَّق إلى هذه الزاوية المتوسطيَّة، إذا جاز التعبير، كما عرضها المؤرخ بيكار.
كذلك كانت له إضاءةٌ على نصٍّ متوسِّطي[1] لابن خلدون، ربما لم ينتبه إلى مغزاه العديد من الباحثين:
«وكان المسلمون لعهد الدولة الإسلاميّة قد غلبوا على هذا البحر من جميع جوانبه…] حتى إذا أدرك الدولةَ العُبيدية والأموية الفشلُ والوهنُ، وطرقها الاعتلالُ، مدَّ النصارى أيديَهم إلى جزائر البحر الشرقية».
وقد علَّق على ذلك بقوله: «إلى أي مدى كان هذا العالِمُ العربيُّ، الذي عاش في القرن الرابع عشر، يعتبر السيطرة على المتوسط كقضيَّةٍ أساسيّةٍ في المواجهة بين بلاد الإسلام وبلاد المسيحيّة» (ص: 145). ربّما كان لأصول ابن خلدون المغربية، وإقامته بالمشرق العربي، دورٌ في تكوين هذه النظرة الشمولية، وبالتالي الأهميّة الاستراتيجيّة لهذا المسطّح والمدى المائي المتوسِّطي.
في تعليله للروابط التي كانت قائمة بين أهل بلاد المغرب والمتوسط، فضلاً عن الأطلسي، رأى بيكار «أن لوائح الطرق البحرية والمراسي، ووصف الموانئ والبنى التحتية البحرية، وإحصاء نُظُم الدفاعات الساحلية مع بيانٍ لمواقع الرباطات، هي المؤشرات الرئيسية لروابط أهل بلاد المغرب بالمتوسط والأطلسي» (ص: 203). وفي ذلك إضاءةٌ محترِفةٌ على أهم الآثار الثقافيّة والماديّة التي نجمت عن تلك الروابط والعلاقات.
في المقارنة بين سياسة الأمويين البحرية وسياسة العباسيين التفت المؤرخ بيكار إلى أن البحر لا يظهر «أبداً في المراجع الرسمية وكأنه ميدانُ حرب لدولة الخلافة» وأن الغرض الرئيسي من الجهاد العباسي «لم يعد الاستيلاءُ على «دار الحرب»، وإنما إرساءُ سلطةِ وشرعيَّةِ قائدِ جماعةِ المسلمين» (ص: 98). ويتساءل بطريقةٍ تنطوي على قناعةٍ ضمنيّةٍ «هل تراهم افتقدوا لأيِّ سياسةٍ بحريّةٍ واكتفوا بتدعيم الدفاعات الساحلية»؟ (ص97).
وكما عهدناه في الحديث عن الإدريسي، قدَّم صاحب كتاب «بحر الخلفاء» الجغرافي المشهور ابنَ حوقل بطريقةٍ جديدةٍ بعض الشيء، فكما أن الإدريسي تجاوز الحواجز الدينيّة، فها هو ابن حوقل «أوّل جغرافيٍّ شرقيٍّ في العصر العباسي يتخطىَّ فعلاً الحواجز الذهنيّة التي تفصل بين الشرق والغرب الإسلاميّيْن» (ص: 121)، لقد كان لخلفية ابن حوقل المتوسطيَّة، على غرار الإدريسي، دورٌ في هذه النظرة الشموليّة حين «أعطى مكاناً محوريّاً داخل البلاد الإسلاميّة للمِنطقة المتوسطية الآهلة والمزدهرة»(ص: 121).
ربّما كان عثور المؤرخ بيكار على ابن حوقل في نظرته تلك بمثابة الركن الوثيق الذي استند إليه في بناء رؤيته العامّة للمتوسِّط الإسلامي، فقد كان نصّ ابن حوقل عميق الدلالة في هذا الاتجاه:
«وليس في البحار أعمرُ حاشيةٍ من هذا البحر، لأن العماراتِ في الجانبين ممتدةٌ غيرُ منقطعةٍ ولا ممتنعةٍ، وسائر البحارِ تعترض في شطوطها المفاوزُ والمقاطع». نحن هنا أمام عملية مقارنة بين البحار تنطوي على خبرةٍ بالمكوِّنات والمزايا، فضلاً عن التجربة التاريخيّة البشريّة، وهذه صورةٌ جديدةٌ لابن حوقل النصيبي غيرُ مسبوقةٍ على ما يبدو.
في مجال الإضاءات أيضاً يمكن التوقّف عند توغَّله في خصوصية غرب المتوسط، أو الحوض الغربي للمتوسط، ويبدو أنه توكَّأ على أعمالٍ سابقةٍ له في هذا المجال عندما قدَّم وصفاً بليغاً عن أحوال هذا القسمِ المفْعَمِ بالنشاطِ والحيويّة: «تميَّز غرب المتوسط بشكلٍ لافتٍ بأنه بحرٌ بلا أعداء بالنسبة للأندلسيين منذ غزو شبه الجزيرة الإيبيرية حتى وصول الفايكنغ عام 844» (ص: 140). أما الخطر البيزنطي فإنه لم يتجاوز «منطقة صقلِّيَّة وسواحل أفريقيا وسردينيا»(ص: 140)، على حد تعبيره.
يمكن القول بأن عرضَه لعلاقة الموحِّدين بالبحر، هو أوضحُ عروضه وأكثرُها تناغماً مع إشكاليّة الكتاب، فبعد أن استفاد من التقييم الإيجابي لصلاح الدين بخصوص الأسطول الموحِّدي، حيث نقل أمله أن «يمدّ غربُ الإسلامِ المسلمين بأكثر مما أمدّ به غربُ الكفارِ الكافرين» (ص: 210)، وهذه التفاتة في غاية الأهمية، أتى على ذكر «وجود الخليفة الموحدي] على متن سفينة عام 1160م من أجل تفقُّد تحصينات المهدية التي كان يحاصرها أسطولُه». وقد شكل ذلك برأيه «حدثاً نادراً إذا ما وضعنا جانباً رحلاتِ عبور مضيق جبل طارق» (ص: 218). هذا الخليفة نفسه هو الذي سوف ينشئ «بحيرة في العاصمة في عمق المناطق الداخلية، حيث كان بالإمكان التدرُّب على معركة بحرية» (ص: 218). ولم يكتفِ بهذا الخبر شديد الدلالة، بل يرفُده بعبارة بليغة عندما يقول «فإنما أعطى الانطباع بأنه استقدم البحر إليه» (ص: 220).
ثمّة فرادةٌ للموحِّدين مع البحر ترتبط بكونه عمقاً استراتيجيّاً لدولتهم يتصل بمقوِّمات وجودهم ومصيرهم، لا بتوسّعهم أو حماية نفوذهم فحسب، كما هو الحال مع الأمويين والفاطميين، وربما كانت إشكالية الكتاب تستقر أكثر في وقائع هذه الدولة على الرغم من قِصر مدتها ومحدودية إنجازاتها.
فالحديث عن الإلفة مع البحر، أو أن مداه هو مدى الدولة في كل النواحي والاتجاهات ما «يتوجب أن تشمل العالَم بأسره» (ص221)، كلُّ ذلك وغيرُه يعطي انطباعاً بوصول المسلمين في علاقتهم بالبحر إلى المستوى الذي تعالجه الإشكاليّة وتسعى في إلقاء الضوء عليه وبلورته، هنا لم يعد الدفاع عن حدود الدولة البحرية غاية الحضور، كما لم يعد طريقةً في إثبات الشرعية عبر تحقيق الانتصارات النوعية فحسب، لقد بات البحر مجالاً أساسيّاً لا مِساحةً مُلحَقةً أو تخوماً مشحونةً بالرجال ومحصَّنةً بالمنشآت العسكرية. غلبت الصفة الدينية على الموحِّدين في الدراسات التقليدية، وقد كان لتسميتهم بالموحِّدين، من توحيد الله، نصيبٌ كبيرٌ من هذه النظرة، لكن صاحبَ «بحر الخلفاء»، أضاف سمةً جديدةً على هذه الدولة لا تقِلُّ دلالةً عن سابقتِها، إنها دولةُ البحريَّةِ الإسلامية، أو البحَّارةِ المسلمين.

ثانياً: مبالغاتٌ نافرةٌ
من دون التقليل من القيمة العلمية لهذا الكتاب يمكن التوقَّفُ عند العديد مما يمكن وصفُه بالمبالغات أو الإسراف بالرأي إذا جاز التعبير.
أول هذه المبالغات، والتي نجدها في أماكنَ عديدةٍ من الكتاب، تكمن فيقوله أن كتابة التاريخ العربي تتم «بإملاءٍ من الخليفة» (ص: 22). لقد أراد الباحث أن يقنعنا بأن كل ما كُتب من تاريخٍ إسلاميٍّ في مجال البحر خصوصاً، أو غيره على العموم، هو بتأثير الخلفاء وسياستهم الثقافية. لا يمكن لأحدٍ أن ينكر دور السلطة في كتابة التاريخ، أو كتابة تاريخٍ، لكن أن تصل الأمور إلى درجة الإملاء، ولكل أو معظمِ ما جرت كتابتُه، فهذه مبالغةٌ من دون شكٍّ.
والجدير ذكرُه أن المثال الذي اعتمده مؤرخنا دليلاً على رأيه هو الجغرافي المعروف بالمقدسي الذي كان يتماشى «مع الطريقة التي فرضتها دواوين الخلفاء منذ بدايات العصر العباسي، فقدَّم صورةً للمتوسط «بإملاء الخليفة»، والتأمل بكتاب المقدسي «أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم» لا يساعد على قبول هذه الفرضية، فالمجالات التي تحظى بتأثيرٍ مباشرٍ من الخلفاء معروفةٌ، وهذا النوع من الكتب لا يتضمن مادةً ذاتَ حساسيّةٍ في تلك المجالات.
إن ما نعرفُه من تعدُّدٍ في الكتابة التاريخية العربية والإسلامية يصل إلى حد التعارض والتناقض في بعض الأحيان، فضلاً عن الاختلاف مع مزاج السلطة وبعض مصالحها وآرائها، الأمر الذي لا يمكن أن ينسجم مع الإملاء السلطاني، نعم ثمَّة قضايا تاريخيّةٌ حظيت برقابة السلطة واهتمامها، لكن لم يكن تاريخُ البحر المتوسط أو قضاياه المتعدّدة واحداً منها، ذلك أن هذا النوع من المواد التاريخيّة قليلاً ما يمس شرعية السلطة القائمة، أو ينالُ منها. ومن الغريب أن يكون مؤرخنا قد تورَّط بهذا الرأي الذي لا أعتقد أنه يحظى بتأييد المستشرقين سواءً في الأجيال القديمة أو المعاصرة.
والكلام نفسه عن تأثير «نكبة الوزراء البرامكة» أو «الحرب على وراثة الخلافة» (ص59) بين الأمين والمأمون. هذه أحداثٌ آنيةٌ لها تأثيرها المحدود، ولا يمكن أن تشكل منطلقاً في الكتابة التاريخية الإسلامية أو العربية، وثمّة إشارةٌ إلى أن الخلفاء العباسيين «يستخدمون مؤرخين من أجل الكتابة عن السياسة البحرية لمعاوية، مؤسِّس السلالة المرفوضة منهم والتي هُزِمت على يد العباسيين، والإشادة بانخراطه في القتال في بحر الروم» (ص97). وهذا زعمٌ آخرُ يفتقر إلى دليلٍ، كما أنه مبنيٌّ على تخمينٍ لم يثبت أيضاً، وبذلك نكون أمام تخمينٍ مركَّبٍ كما يقولون.
لم يكتفِ مؤرخُنا بهذا الرأي، بل وصل في بعض الأحيان إلى ما يمكن وصفه بالتخمين الخيالي عندما رأى بأن «سرديَّات زمن الفتح تخضع للتحديث مع كلِّ جيلٍ من المؤمنين» وأن بعضها انتشر «في وقت مبكر جداً، ولم تتمكن الأوساط المحيطة بالحكام من غربلتها على الرغم من الرقابة المتشدّدة» (ص61). كذلك حديثه عن «التلاعب بالنصوص ومحو الروايات السابقة» (ص317). هذا نوعٌ من التصوّرات لا يستند لنصوصٍ تاريخيّةٍ، ولا توجد قرائنُ يمكن الاستناد إليها في هذا الخصوص، والمعروف هو أن البيئة الثقافيَّة والفكريّة العربيّة كانت من القوَّة والحضور الفاعل بشكلٍ يحول دون هذه السلوكيات البدائية المكشوفة والسافرة.
فالكتابة التاريخيّة ليست نُسَخاً متواليةً يجري تعديلها أو تنقيحها على الدوام، ولدى العرب تراثٌ ضخمٌ لا يمكن التعاملُ معه بهذا التخمين. هذا الكلام لا يعني أبداً التقليل من حجم تأثير الخلفاء في بعض الأعمال خصوصاً، ومجمل الأعمال على وجه العموم، لكن بمستوًى ودرجةٍ لا تصل أبداً إلى مستوى أو درجة الإملاء أو التأثير المباشِر والشامل.
كذلك هناك العديد من الوقائع التي بالغ في التوقُّف عندها أو التمعُّن في مغزاها، مثال خلفية بناء عبد الملك بن مروان لقبّة الصخرة في القدس «كسندٍ دعائيٍّ وذلك من أجل التأكيد على التوحيد، والإدانة الضمنية للتثليث المتمثل بكنيسة القيامة..» (ص 90).
وهذا تعليلٌ يبالغ في تقدير المزاحمة العمرانية الإسلامية للعمران المسيحي من زاويةٍ عقائديّةٍ، والواقع أن الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان لم يكن مشغولاً بهذه الأمور إلى هذا الحد، والسياق التاريخي في تلك الفترة كان مدفوعاً بالصراع الداخلي بين عبد الملك بن مروان وعبد الله بن الزبير كما هو معروفٌ، في أيِّ حالٍ لم تكن العلاقات المسيحيّة الإسلاميّة في تلك الفترة بهذا الصدد على ما يظهر من المصادر.
كذلك قضية قبر الصحابي أبي عبيدة بن الجرَّاح» أمام أسوار القسطنطينية، حيث قُتِل أثناء الحصار الذي قاده مَسْلمة، ليتبيَّن لاحقاً أنه قضى بفعل وباء الطاعون الذي تفشىَّ عام (639م) في قرية عَمواس في بلاد الشام» (ص: 80). إن زمان ومكان وسبب وفاة أبي عبيدة بن الجرَّاح لا يكتنفه غموض، وهذه المصادر التاريخيّة التقليديّة تنقل ذلك بلا خلافٍ، وليس من ضرورةٍ للقول «وليتبيَّن لاحقاً» وإذا كان أحد الرواة أو النُّسَّاخ قد تشابهت عليه الأسماء، فلا يمكن التوقّف عنده بهذه الطريقة، وبالتالي إهمال المصادر المعتبرة، بغية التأكيد على فكرة التبرُّك بالاستشهاد عند أسوار القسطنطنية.
ومن المبالغات أيضاً قولُه بأن الفاطميين أبدلوا، في المرحلة الأولى، الهجوم على القسطنطينية بالسيطرة على المتوسط وذلك استناداً لمجموعة من الأغاني الخاصة في البحر في العهد الفاطمي (ص: 80). ليس من ضرورةٍ في أن يكون الإبدال قد حدث، كما ليس من المناسب أن يكون البحر بديلاً في الأساس، وما من دليلٍ يمكن الركونُ إليه. في أيِّ حالٍ إن هذا النوع من الفرضيَّات لا يمكن التعاملُ معه بهذه الطريقة السريعة والعابرة.
نتوقف عند مقولته حول تبعيَّة الجغرافيا للثقافة العامة التي كانت بدورها مسخَّرةً لخدمة الإسلام المتمثل بالخليفة ومن يدور في فلكه:
«لم يُنظَر إلى الجغرافيا كعلمٍ مستقلٍّ بذاته، وإنما تمَّ] التعامل معها، بعكس التاريخ، كمادةٍ مكتملةٍ توفر معرفة الأمكنة وترتبط بالثقافة العامة، ولكن لم يكن لها أيُّ معنًى إذا لم توضع في خدمة الإسلام، أي الخليفة ومن يدور في فلكه» (ص115).
نعم لم تكن الجغرافيا، ولا غيرها من العلوم ذات الطابع الديني أو الإنساني وحتى المادي، مستقلةً أو قائمةً بذاتها، كذلك فإن مقتضى هذا الارتباط أن تكون خاضعةً للثقافة العامة في جانبٍ أو أكثرَ، والغاية الإسلاميّة جزءٌ من كلِّ سلوكٍ إسلاميٍّ ثقافيٍّ أو غيرِ ثقافيٍّ، لكن اختصار كلِّ ذلك بالخليفة ومن يدور في فلكه هو من قبيل تحميل الأمور فوق طاقتها، أو وضعها في غير محلِّها.
فالتاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية والتراث الفكري الإسلامي لم يكن في لحظةٍ أو عهد انعكاساً دقيقاً لمشيئة الخليفة ومن يدور في فلكه، كائناً من كان هذا الخليفة، وفي أيِّ دولةٍ من دول الإسلام أو أيِّ مذهبٍ من مذاهبه.
فعلى الرغم من استبداده واحتكاره السلطة كلّيّاً في بعض الأحيان، لم يكن بمقدورالخليفة مطلقاً تحديدُ المسارات الفكرية أو الإنتاج الفكري برمّته، هذا فوقَ طاقته، وليس مطروحاً بهذا الشكل في أيِّ زمنٍ من أزمنة الإسلام. ومن السهولة بمكانٍ تعيين الكثير من حقول الفكر والعلم التي ليس للخليفة فيها مأربٌ، كما ليس له فيها أثرٌ.
والجغرافيا، كما التاريخ، تتضمن معطيات ذاتَ فائدةٍ مباشِرةٍ وغيرِ مباشِرةٍ للخليفة، كما تتضمن معطياتٍ لا صلة لها بما يُفيد أو لا يُفيد، إنها نتاجٌ فكريٌّيتجاوز خصوصية الخليفة أو ميادينَ اهتمامه وانشغاله، ولنا أن نتصوَّر الكثير من المواد الجغرافية الخارجة عن نطاق خدمة الخليفة.

كتب في الصفحة 113 ما يلي:
«كرَّس التقليد العربي الخليفة المأمون على أنه مؤسسُ علم الجغرافيا». وفي مقام التدليل على هذا الرأي ذكر في الصفحة نفسها: «فلقد ذكر المسعودي، كما نقل آخرون، أنه رأى في المكتبات كتاب جغرافيا من دون نصوصٍ، لكنه يحتوي على أقاليمَ على شكل جدول بياناتٍ فلكيةٍ وخريطةً تحمل اسمَه «الصورةَ المأمونية».
والسؤال: هل يكفي وجود هذه الصورة للحكم على صاحبها بأنه مؤسسُ علم الجغرافيا؟؟ بل هل يصحُّ بأن تكون دليلاً على دورٍ مميَّزٍ للخليفة فيما يتعلق بعلم الجغرافيا كما رأينا قبل قليلٍ؟؟ ربّما كان المؤرخ بيكار يستند إلى هذا النوع من المعطيات في تحديد علاقة الجغرافيا بالخلفاء، وإذا كان الأمر كذلك فالنتيجة باتت واضحةً.

ثالثاً: هفواتٌ وشُبُهاتٌ مُستَغْرَبةٌ
لا أعرف كيف رأى المؤرخ بيكار بني صالح أحد أعمام الخليفة المنصور على نحوٍ نسَبيٍّ مستقلٍّ عن الأسرة الحاكمة، بحيث يشعر القارئ بأنه أمام أسرةٍ سياسيّةٍ وليدةٍ وجديدةٍ في منطقة الصراع الإسلامي البيزنطي. ولو لم يُشِر هو نفسُه إلى أنهم «أحفاد أحد أعمامه» (ص259)، لظننَّا أنه يكتشف سلطةً محلِّيةً مغمورةً في الكتابة التاريخية الإسلامية. والعبارات التي ساقها في الحديث عن منطقة الحدود والمواجهة مع البيزنطيين حيث جرى «تسليمُها للقبيلة الأقوى في المنطقة، بني صالح، الذين بايعوا الحكم الجديد..» مضلِّلةٌ فعلاً، فإذا كان بنو العباس أقلَّ من قبيلةٍ، بل هم قسمٌ من بني هاشم وبنو هاشم ليسوا في حجم القبيلة، فكيف يكون جزءٌ من العباس قبيلةٌ، والقبيلة الأقوى على حد تعبير الكاتب، هذه واحدةٌ من هفوات المؤلف التي لا مبرِّر لها.
كذلك مقالتُه عن خلفية حركة الترجمة في العصور العباسية أنها في إطار إسقاط أهليَّة العالَم المسيحي، وأنها عملية «نقل محور الصراع بين الديانتيْن العالميتيْن من الميدان العسكري إلى ميدان المعرفة». مرةً أخرى بعد تعليله لأسباب بناء القُبَّة المذهَّبة في القدس يستحضر المؤرخ بيكار النزاع الإسلامي المسيحي لتفسير حركة الترجمة في العصر العباسي. يدعونا صاحب «بحر الخلفاء» اليوم إلى التخلّي عن كل ما كتب من إضاءاتٍ حضاريةٍ في هذا المجال، وبالتالي التقوقع في الصراع الديني الإسلامي البيزنطي لكي نفهم هذه الظاهرة الحضارية الأكثر إنسانيّةً في التاريخ الفكري الإسلامي، إنها محاولةٌ في تعميم دور السلطة على كل شيءٍ.. فكما كُتِب التاريخ بإملاء السلطة، وسُخِّرت الجغرافيا لخدمة الخليفة، ها هي الترجمة، على جمالها وجلالها، وعلى تحرُّرها وتألقها، غدت وسيلةً سياسيّةً بيد الخليفة لمواجهة خصومه وأعدائه، من دون أن نتمكن من معرفة كيف جرى ذلك، أو هل يمكن أن يكون هذا الأمر قابلاً بطبيعته لذلك في الأساس!؟
لقد تم استدعاء الفيلسوف اليوناني العظيم أرسطو، من قبل الخليفة العباسي المأمون لتحقيق انتصاراتٍ إسلاميّةٍ على المسيحيين ذاتِ نوعيّةٍ جديدةٍ قائمةٍ على المعرفة هذه المرة (ص95). هذه واحدةٌ من مغالطات المؤرخ بيكار، ولا أقول هفواته.
ثمَّة مغالطة أخرى من قياس مغالطة الترجمة تثير الإستغراب أيضاً، وهي موقف الخليفة عمر بن الخطاب من ركوب البحر، فالبرغم من أن المؤلف قد صدَّر كتابه بنصٍّ منسوبٍ للخليفة الراشدي الثاني يقول فيه:
«والله الذي بعث محمداً بالحق لا أحمل فيه مسلماً أبداً.. فكيف أحمل الجنود على هذا الكافر المستصْعَب»، وعلى الرغم الكثير من المواقف لهذه الخليفة في هذا المجال وفي معظم المصادر الأساسية يُفاجأ القارئ بما ورد في «بحر الخلفاء» صفحة: 237:
«لم يكن إذاً بإمكانِ عمر أن يرفضَ مبدأ ضرورة استثمار البحر من قبل العرب، طالما أن بيزنطية وبشكلٍ خاصٍّ القسطنطينية، أصبحتا من أولويات أهداف المسلمين».

وفي الصفحة التالية:
«إلا أن الخليفة عمر شجع معاوية وعمرو بن العاص على خلق الظروف المؤاتية لتنفيذ مشروعٍ كهذا» أي استثمار البحر من قبل العرب.
في النص الأول ينطلق المؤرخ بيكار من قاعدةٍ منطقيّةٍ عامّةٍ، مبنيةٍ على هدفٍ لم تُشر إليه المصادر الأساسيّة بأيِّ شكلٍ من الأشكال، وبعبارةٍ أخرى لم يَرِدْ في المصادر المعتبرة أن الخليفة الراشدي الثاني قد وضع هدفاً للمسلمين هو السيطرة على القسطنطينية، فمن أين جاء مؤلِّفُنا بهذا الخبر؟؟.
ثم إنه لم يصدر عن الخليفة أيُّ توجيهٍ يُفهم منه تشجيعٌ على خوض البحر، بل بالعكس، فقد كان حاسماً في الحيلولة دون ذلك، كما رأينا في نص تصدير الكتاب. والمعطيات التاريخيّة تفيد بأنه سأل واليه على مصر عمرو بن العاص عن أحوال البحر و أنَّ جوابَ الأخير لم يكن مشجِّعاً[2]، وقد ظلَّ الخليفة عمر بن الخطاب حتى وفاته، رافضاً طلب واليه على الشام معاوية الخوض فيه[3].
ولم يكتف المؤلف بما ذكره، بل اعتبر موقف الخليفة الراشدي الثالث، المخالف لسلفه في هذا الخصوص، تابعاً له بقوله «أما صاحب الحكمة الخليفة عمر، الذي اتبع نهجه عثمان»(ص239). والمغالطة هنا ليست حصيلة اجتهادٍ بسبب عدم وجود نصوصٍ تاريخيّةٍ، بل في مخالفة نصوصٍ تاريخيّةٍ موجودةٍ وصريحةٍ. لقد كان مسكوناً بعلاقة الخلفاء بالبحر إلى حدِّ أن التبس عليه موقفٌ مشهورٌ لأشهر خليفةٍ في هذا الشأن.
اكتفى صاحب الكتاب بهذه العبارة لتفسير كل هذه السلبية من قبل الخليفة:
«إلا أن الخليفة احتفظ لنفسه بحق تحديد التوقيت وطريقة استخدام البحر» (ص: 234). ما من نصٍّ يشير إلى هذا الاحتفاظ الطبيعي لحق تحديدِ التوقيت، كما ما من نصٍّ يؤكد أن الخليفة كانت لديه أدنى رؤيةٍ في خوض البحر أو استثماره على النحو الذي يراه الكاتب.
 في مكانٍ آخر التبس على مؤلفنا المفهوم الإسلامي لنوعَيِ الجهاد: الأصغر والأكبر، والمتواتر لدى المسلمين، أن النوع الأول الجهاد الأصغر هو الجهاد العسكري الحربي المعروف، أما الجهاد الأكبر فهو جهاد النفس، أي مواجهة الميول والغرائز غير المشروعة في النفس البشرية، وبالتالي تطويع هذه النفس وضبطها والحيلولة دون وقوعها في المحارم والآثام، وذلك عبر تربيتها على السلوك الإسلامي الصحيح.
فقد اعتبر المؤلف المرابطة في الثغور هي جهاد النفس، وذلك بقوله «إن الاستعمال المتكرِّر لفعل «رابط» في النصوص، يشير إلى الأشكال المتنوعة لممارسة الجهاد على الصعيدين الشخصي والجماعي»(ص: 130)، وفي مكانٍ آخرَ كان قد ذكر:
«وهذا الربط الوثيق بين أشكالٍ من الزهد على شيءٍ من الصراحة، والقتال ومراقبة الحدود، عرف ازدهاراً من خلال ممارسة الرباط، فصيغة الفعل «رابط» هي الأكثر شيوعاً في الكتب المخصصة للحرب، ]...، للدلالة على ممارسة نوعي الجهاد» (ص: 106).
ومن الهفوات التي يمكن إيرادها ما كتبه في الصفحة 130:
«بعد قرنٍ، قام الماوردي ــ وهو فقيهٌ ومقرَّبٌ من خليفةٍ القائم بأمر الله] اتسم حكمه بالضعف لصالح الأمراء البويهيين»، وبخلاف ما هو مذكورٌ، فقد كان القائم بأمر الله (ت.467هـ/1074م) الخليفة العباسي الأقوى في العهد البويهي، كما كان الأمراء البويهيون في عهده أضعف الأمراء البويهيين قاطبةً، بل إن الخليفة القائم تسبَّب بزوال العهد البويهي عن بغداد في وسط عهده سنة447هـ/1055م، كما أسهم في دخول الخلافة في العهد السلجوقي في السنة نفسها، وكان أول خليفةٍ عباسيٍّ في هذا العهد ودامت خلافته في العهد الجديد قرابة عقدين من الزمان[4].
ذكر المؤلف مراراً «رسائل الجِنيزة» للتجار اليهود في كنيس بن عزرا في مِنطقة الفسطاط بمصر واعتبرها تحوَّلاً في فهم تاريخ المتوسط الوسيط، لكنه كان يكتفي بإيراد بعض النتائج العامة بشكلٍ عابرٍ، ومن دون أيِّ تفصيلٍ، فضلاً عن التوثيق والتحقيق. لقد كان عرضُه لهذه الثروة الوثائقية البالغة الأهمية غائماً وعاماً إلى أبعد الحدود، وباستثناء إشارةٍ قصيرةٍ جدّاً وردت في الصفحة 332:
«وجود شبكاتٍ لتجارٍ يهودٍ تعمل بشكلٍ يشابه مراكز الخدمات التجاريّة في أمال في وجنوة والبندقيّة أو بيزا», يمكن القول أن المؤلف عرَّفنا على وجود هذه الوثائق، وحفّزنا على الاهتمام بها والاطلاع عليها، لكنه لم يعرضْها، أو يعرضْ شيئاً منها، بشكلٍ علميٍّ على الرغم من كونها لعبت دوراً جوهريّاً في تحوَّلات الكتابة التاريخية عموماً ورؤيته في كتابه هذا على وجه التحديد. هذا النوع من الاستفادة من الوثائق لم يعد جائزاً إذا ما توافرت النصوص وتعدَّدت الإسهامات، ربما كانت هذه الملاحظة التي نوردها الآن مع الملاحظة العامة في أن الكتاب خلا تماماً من أيِّ إشارةٍ علميّةٍ لمصادره ومراجعه في الهامش، إلا ما أقدم عليه المترجم على ما يبدو، أقول إن هذه الملاحظة ربما كانت الأكثر تأثيراً في اعتبار هذا المصنَّف يفتقر إلى بعض قواعدِ وأصول البحث التاريخي المتعارفة، ومن المرجَّح أيضاً أن هذه الملاحظة تقف خلف العديد من أحكامه وآرائه التي تتطلب نصوصاً ووثائقَ تاريخيّةً واضحةً ودقيقةً. وعلى الرغم من هذه اللائحة الغنية والطويلة للمصادر والمراجع في نهاية الكتاب، إلا أنها لم تسهِّل العودة إلى تلك المصادر، وكان على القارىء في كثيرٍ من الأحيان أن يتقبل الأمور بلا توثيق، أو يقوم بما قام به المترجم، وهذا نقصٌ في العمل العلمي لأننا مع المترجم لا نخوض تحقيقاً تاريخيّاً، فالكتاب ليس مخطوطةً أو وثيقةً، كذلك ليس عملاً علميّاً تعرَّض للتلف أو لضياع بعض أجزائه.

خاتمة
إن هذا الكتاب من الأعمال العلميّة التي يشعر القارئ بأنها تعده بالجديد مع كل صفحةٍ يطويها، ولذلك فالحافز لقراءته قويٌّ، ولا داعي لتكرار جاذبية العنوان، بل جاذبية الإشكالية التي يطرحها أيضاً.
ويبدو أن الكاتب كان مسكوناً بالوصول بالمتوسِّط الإسلامي إلى أقرب صورةٍ ممكنةٍ من المتوسِّط الأوروبي، فسعى جهده في أن يجمع كلَّ دليلٍ يفيده في هذا الاتجاه، ولم يكن ليقبل بالنتائج المتواضعة، وهي كافيةٌ ووافيةٌ، فذهب بعيداً ليغدو وحيداً في بعض المواقف والآراء.
من المفيد أن نتساءل عن مدى نجاح بيكار في نقد رأي بروديل (Braudel) ومعظم «المؤرخين الذين تناولوا البحر المتوسط في العصور الوسطى وعدُّوا بحَّارةَ الإسلام بشكلٍ عامٍّ مجرَّد قراصنةٍ»(ص13-14) أو لأطروحة المؤرخ البلجيكي (Pirenne) حول الدور التعطيلي أو التخريبي للمسلمين في ما يرتبط بالنشاط والازدهار الاقتصادي للمتوسط في القرون الوسطى؟؟.
لم يكن صاحب «بحر الخلفاء» أوَّل من وجّه نقداً لهذا الاتجاه التأريخي فيما يتعلق بدور المسلمين في تاريخ البحر المتوسط في العصور الوسطى، فثمة دراساتٌ عديدةٌ سبقته إلى ذلك، لكن ميزة مؤرخنا هنا تكمن في هذا التركيز مع حصر المجال بالمكان، البحر المتوسط تحديداً، أي نحن أمام معالجةٍ مركَّزةٍ تستنفد كلَّ الإطار البحثي، لا قسماً أو بعضاً منه، كما هو الحال في الدراسات السابقة. من هنا يمكن القول بأن المؤرخ بيكار قد أسهم بإضافةٍ نقديّةٍ جديدةٍ في هذا الشأن.
ونحن، بعد قراءة هذا الكتاب، بتنا أكثر تقبُّلاً لدورٍ إيجابيٍّ للمسلمين في المتوسط الوسيط، وبالتالي أكثر ابتعاداً عن أطروحة الدور السلبي.
لقد تم بالفعل اكتشافُ فتراتٍ مضيئةٍ ووقائعَ متقدِّمةٍ تتنافى كليّاً مع ما درجت عليه الآراء والنظريات الفرنسيّة التقليديّة في العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر وحتى أواسط القرن العشرين، من دون أن يعني ذلك الخروج بفرضيةٍ نهائيّةٍ في هذا المجال، وهذا ما أشار إليه المؤرخ بيكار، ويمكن اعتبار ذلك أهم ما ظهر من منهجه العلمي عندما قال:».. مع ذلك ما من فرضيّةٍ موثوقةٍ يمكن الركون إليها حتى الآن» (ص19).
يهمني الآن أن أتعرَّف على الخلفية الشخصية لهذا الكاتب والمؤرخ المتخصِّص والنشيط، فقد بدا لي أنه من النوع المتحرِّر والطموح جدّاً، والذهنيَّة التي قادته إلى هذه المغامرة العلمية أقوى وأكبر بكثيرٍ من ذهنيَّة السير عكس السائد، أو تحقيق إنجازاتٍ علميّةٍ وهميّةٍ، فقد تلمّست اجتهاداً وجدِّيّةً لا تتعايش إلا مع القيم العلميّة الرصينة والتوجُّهات الفكريّة المتقدّمة.
وإن صدور هذا الكتاب في هذه اللحظة التاريخيّة المظلمة من تاريخ المنطقة، بل العالم عموماً، يشير إلى عزيمةٍ صادقةٍ في السير بالأماكن الموحشة وعلى الطرقات المهجورة، وإنني أحمل في مشاعري ودَّاً خالصاً لكل الذين خرجوا عن حدود السياسة والجغرافيا، وربّما الحضارة الموهومة، ليلعبوا أدواراً رائدةً في فهم الأمم الأخرى، والشعوب المختلفة، بطريقةٍ تتجاوز كلَّ التوقُّعات.
 لا أدري إذا كنَّا اليوم نعوِّل على هذه الذهنية الإنسانية أكثر من تعويلنا على الذهنية العلمية، ويبدو أن النتاج التاريخي الغربي لم يعد متقدِّماً بالنسبة لنا على غرار ما كان عليه الحال في القرنين الأخيرين، وربما كان هذا الكتاب مثالاً على المسافة العلمية الفعلية التي تفصلنا حاليّاً عن الغرب، وهذا في تقديري يعود إلى بعض التقدَّم عندنا وبعض الفتور عندهم، ففي الوقت الذي بتنا نلمح فيه قاماتٍ علميّةً في الكتابة التاريخية في بلادنا لم نعد نتلمّس أصداءً لشخصيّاتٍ علميّةٍ على غرار الفترات السابقة.
أخيراً، وفي خصوص الترجمة ومع أنني لم أطّلع على الكتاب بلغته الأصلية، فقد تكوَّن لديَّ انطباعٌ إيجابيٌّ حول حِرَفية النقل إلى العربية، وثمّة خبرةٌ فعليّةٌ بالموضوع من زاويةٍ حضاريّةٍ رفيعةٍ، وهناك بعض الإيضاحات التي يمكن الحصول عليها من الأستاذ المترجم.

--------------------------------------
[1]    ابن خلدون: المقدمة، تحقيق عبد الله محمّد الدرويش، دمشق2004، ج1، ص: 438 -439.
[2]    أورد الطبري في تاريخه جواب الوالي عمرو بن العاص على الشكل التالي: «إني رأيت خلقاً كبيراً يركبه خلقٌ صغير، إن ركَنَ خرَق القلوب، وإن تحرَّك أزاغ العقول، يزداد فيه اليقين قلّة والشك كثرة، هم فيه كدود على عود، إن مال غرق وإن نجا برق، ...» الطبري: تاريخ الأمم والملوك، تحقيق محمّد أبو الفضل ابراهيم، دار التراث، بيروت- لبنان، ج4، ص258.
[3]    حسن سلهب: المكان والتاريخ في صدر الإسلام، مقاربات في الجغرافيا التاريخيّة، دار روافد للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت 2017، ص160- 162.
[4]    حسن سلهب: تاريخ العراق في العهد البويهي، دراسة في الحياة الفكرية، دار المحجة البيضاء، بيروت 2008، ص: 59-60.