البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

الجغرافيا التاريخية لشبه الجزيرة العربية للمستشرق كارستن نيبور (اليمن)

الباحث :  د. أنور محمود زناتي
اسم المجلة :  دراسات استشراقية
العدد :  18
السنة :  السنة الخامسة - ربيع 2019م / 1440هـ
تاريخ إضافة البحث :  July / 10 / 2019
عدد زيارات البحث :  2984
تحميل  ( 3.531 MB )
الدراسة تقدم قراءةً نقديّةً لكتاب «رحلةٌ إلى شبه الجزيرة العربيّة وإلى بلادٍ أخرى مجاورةٍ لها» لكارستن نيبور، وهي رحلةٌ ذاتُ أهميّةٍ خاصّةٍ حيث شغلت حيِّزاً مهمّاً في التاريخ الجغرافي بصورةٍ متميّزةٍ للجزيرة العربيّة، اليمن السعيد بصفةٍ خاصّةٍ، وتُعَدُّ تلك الرحلة من أقدم الرحلات التي قام بها رحالةٌ ومستكشفٌ أوروبيٌّ كونه من أقدم الرحالة الأوروبيّين الذي تجولوا في بلاد العرب. كما تُعَدُّ هذه الرحلة أولَ رحلةٍ أوروبيّةٍ إلى اليمن، خطط لها صاحبُها تخطيطاً علميّاً منهجيّاً، من ناحيةٍ، وأوّلَ رحلةٍ ذاتِ نتائجَ علميّةٍ حقيقيّةٍ، من ناحيةٍ أخرى، وقدم وصفا تفصيليّاً لجغرافيا وتاريخ ومجتمعات العرب قبل قرنين ونصف القرن. وتميزت معلوماته بالدقة العلميّة وقدرتها على الغوص في جغرافيا وتاريخ وآثار وبشر.
كما تم مناقشة حصاد الجغرافيا التاريخية عن اليمن السعيد في تلك الرحلة وتعدّد جوانبها ما أعطى بعداً جديداً يضاف إلى علم الجغرافيا التاريخية للرحلات. وقدمت الدراسة استنتاجاتٍ منطقيّةً لما انتهت إليه تلك الرحلة التي تشابكت فيها الجغرافيا بالتاريخ وتشابكت خيوطها وتقاطعت مساراتها.
جاء هذا البحث في تمهيدٍ ومبحثين اثنين وخاتمةٍ فيها أهم النتائج والتوصيات، على النحو الآتي: التمهيد: وفيه تم تناول الرحلة والرحالة. ليكون ذلك ممهداً لما سيأتي في متن البحث من أفكارٍ ونقاشاتٍ.

المبحث الأول: جغرافية المدن اليمنية من خلال الرحلة، ونبحث فيه حرص نيبور على وصف المدن التي مر بها، وصفاً دقيقاً، وقد قام رصد مواقع المدن، ووصفٍ عامٍّ لها ولتاريخها.

المبحث الثاني: الجغرافيا الاقتصاديّة في الكتاب، ونناقش فيه ما قدمته رحلة نيبور من العديد من المعلومات التي يمكن إدراجها ضمن الجغرافيا الاقتصاديّة ومن خلالها يمكن استجلاء العديد من الحقائق والتي تمكن من رصدها وإدراجها في رحلته.

الخاتمة: وفيها أهم النتائج والتوصيات.

المقدمة:
تُعَدُّ دراسة الجغرافيا التاريخية في كتاب «رحلةٌ إلى شبه الجزيرة العربية وإلى بلادٍ أخرى مجاورةٍ لها» لكارستن نيبور، ذاتَ أهميّةٍ خاصّةٍ لا سيما أنها على حد علم الباحث جديدةٌ ولم يتناولها باحث من قبل.

المنهج المتبع:
تتبع هذه الدراسة عددًا من مناهج البحث، منها: المنهج الجغرافي التاريخي الاستقرائي والمنهج الوصفي من حيث التحليل والتعليل والربط والاستنتاج. واعتمدت الدراسة بالدرجة الأولى على رحلة نيبور، بالإضافة إلى مراجعَ ودراساتٍ تخص نيبور ورحلته بأكثر من لغة.

أهداف البحث:
أ‌- القيام بقراءة نقدية لكتاب «رحلة إلى شبه الجزيرة العربيّة وإلى بلاد أخرى مجاورة لها»، متناولًا الجغرافيا التاريخيّة لبلاد اليمن وفق ما جاء فيه، وما ناقشه الكتاب حول تلك الموضوعات المتعلّقة بالجغرافيا التاريخيّة.
ب‌- مناقشة حصاد الجغرافيا التاريخيّة عن اليمن السعيد في تلك الرحلة وتعدّد جوانبها ما أعطى بعداً جديداً يضاف إلى علم الجغرافيا التاريخيّة للرحلات.
ج- الخروج باستنتاجاتٍ منطقيّةٍ لما انتهت إليه تلك الرحلة التي تشابكت فيها الجغرافيا بالتاريخ وتشابكت خيوطها وتقاطعت مساراتها.
د- جمع ورصد وتتبع المادة الجغرافية التاريخيّة، التي تضمنتها كتابات نيبور، واستخلاصها من صفحات كتابه، وتجميعها وترتيبها، بحسب موضوعاتها، ثم تبويب البحث وفقاً لهذه الموضوعات.
خطة البحث: جاء هذا البحث في تمهيدٍ ومبحثين اثنين وخاتمةٍ فيها أهم النتائج والتوصيات، على النحو الآتي:
التمهيد: وفيه تم تناول الرحلة والرحالة. ليكون ذلك ممهداً لما سيأتي في متن البحث من أفكارٍ ونقاشاتٍ.

المبحث الأول: جغرافية المدن اليمنية من خلال الرحلة، ونبحث فيه حرص نيبور على وصف المدن التي مر بها، وصفاً دقيقاً، وقد قام برصد مواقع المدن، ووصفٍ عامّ لها ولتاريخها.

المبحث الثاني: الجغرافيا الاقتصادية في الكتاب، ونناقش فيه ما قدمته رحلة نيبور من العديد من المعلومات التي يمكن إدراجها ضمن الجغرافيا الاقتصادية ومن خلالها يمكن استجلاء العديد من الحقائق والتي تمكن من رصدها وإدراجها في رحلته.

الخاتمة: وفيها أهم النتائج والتوصيات.

تمهيد

أضواءٌ حول الرحلة والرحالة:
تعدّ الرحلات وكتابات الرحالة مصدراً مهماً من مصادر دراسة الجغرافيا التاريخية لما لهذا النوع من التوثيق من قدرة على سد الكثير من الثغرات، التي تشكلت وسببت مشكلةً واضحةً في الدراسات التاريخيّة، والرحلات جزء لا يتجزأ من علم الجغرافيا، فالرحلة عين الجغرافيا المبصرة وهي جزءٌ أصيلٌ من حركة الحياة على الأرض(فهيم، 1989م، ص 18)؛ لذلك كان من المهم في الدراسات التاريخية، الاهتمام بشهادات وانطباعات الرحالة، وملاحظاتهم التي يسجلونها في رحلاتهم للمناطق التي يمرون بها، لما تضمه هذه الكتابات من فوائدَ ومعلوماتٍ تاريخيّةٍ واجتماعيّةٍ وتراثيّةٍ، فأخذ هذا النوع من التدوين حيزاً واضحاً في كتابة الجغرافيا التاريخيّة.
أما صاحب الرحلة في هذه الدراسة فهو الرحالة الألماني كارستن نيبور (Carsten Niebuhr)، المستكشف وعالم الرياضيات وعالم الخرائط الذي عمل في خدمة الدولة الدنماركية(Baack، 2014،p. 34)، وعاش في عصر النهضة الأوربية والتنوير والبحث العلمي (في الفترة ما بين 17 مارس 1733، وحتى - 26 إبريل 1815)، والجدير بالذكر أنه في القرن الثامن عشر زاد رخاء أوروبا لما تدفق عليها من خيرات المناطق التي استعمرتها، ومع الرخاء تتسع آفاق العلم وتزداد الرغبة في المعرفة (Kramer، 1963،p. 76).
ولد كارستن نيبور في قرية»(لودينگ‌ڤورت» (Lüdingworth) حالياً وهي جزء من Cuxhaven))، ساكسونيا السفلى (Lower Saxony) التي أصبحت فيما بعد في برمن -فردن.(Bremen-Verden)، بشمال غرب ألمانيا عمل فلاحاً في مزرعته أول سنين حياته، وحصل على قدرٍ ضئيلٍ من التعليم، ثم أظهر ميلا لدراسة الرياضيات، وأراد أن يحترف مهنة مساحٍ للأراضي، فقصد جامعة غوتنغن (University of Gِttingen)وتلقى بعض الدروس في علم المساحة والخرائط (Hopkins، 1967،p. 115).
اقترح أحد أساتذته، وهو العالم جون ديفيد ميخائيليس (1717-1791) (Johann David Michaelis) أن يلتحق نيبور بالرحلة والبعثة الدنماركية التي أمر بها الملك فردريك الخامس (1722-1766) (Fredrick V) ملك الدنمارك سنة 1760م إلى بلاد العرب، لقدرته الشديدة على الملاحظة ووصف عادات الشعوب، إضافةً إلى وفائه وتكتمه وموضوعيّته وحسن تفهمه وتقويمه للأمور وإصراره على العناية بالتفاصيل الدقيقة وإخلاصه للمهام الموكلة إليه (Rasmussen، 1990،p. 23).
وكان هدف الرحلة كتابة تقريرٍ علميٍّ واجتماعيٍّ شاملٍ عن الجزيرة العربية وسوريا ومصر، وافق نيبور على الاقتراح وانخرط في دورةٍ لمدة عامٍ ونصفٍ تقريبا درس بها علم الرياضيات والمساحة والخرائط، وكان الفضل في تعلمه ونبوغه لأستاذه الفلكي توبياس ماير (1723-1762) (Tobias Mayer)، الذي علَّمه طريقة تشييد ما كان يعرف بالإسطرلابر] والطريقة التي طورها لتحديد المسافة الجغرافيّة بوساطة الأبعاد القمريّة ولقياس أبعاد الأجرام السماويّة عن
الأفق. كما أخذ بعض الدروس في اللغة العربية بشكلٍ مكثفٍ ليتأهل لموقعه في البعثه كمساحٍ وراسمٍ للخرائط (Hopkins، 1967،p. 116).
تكونت البعثة من خمسة أعضاء من العلماء الشباب وهم فون هوفن
(1727-1763) (Von Haven) الدنماركي رئيس البعثة وهو عالم في اللسانيات، ومن تلاميذ ميخائيلس، والسويدي بتيروس فورسكال(Peter Forsskهl) (1763-1732) الذي درس اللغات الشرقية لدى ميخائيلس أيضاً وذلك خلال الفترة الفاصلة بين 1753 و1756وفي الوقت نفسه كان تلميذ عالم النبات السويدي الشهير كارل فون لينيه وهو كذلك متخصصٌ في علوم الطبيعة والنبات(Hansen، 1965،p. 10)، وكان أعضاء البعثة الآخرون هم الطبيب الدانماركي كريستيان كرامر (Christian Carl Cramer) (1763-1732) متخصص في الطب، والطبيعة أيضاً، وخادمٌ عسكريٌّ سويديٌّ اسمه برججرين (1763). وجورج فلهلم باورنفايند، (1728-1763)(Georg Wilhelm Baurenfeind) الألماني الجنسيّة، المتخصص في الرسم(Hansen، 1963،p. 64).
وكان محور الرحلة قد تركز حول إجراء أبحاثٍ في (اليمن العربية السعيدة)، فقد كانت منذ بدء الرحلة، وحتى انتهائها، هدف الرحلة، والمجال الرئيسي لأبحاثها، حيث شمل الاهتمام الأوروبي عموماً بالبلاد العربية اليمن كذلك، بل لقد أخذت اليمن مكاناً متميزاً في إطار الاهتمام الأوروبي، بسبب موقعها الجغرافي المتميّز في مدخل البحر الأحمر وعلى المحيط الهندي (ماكرو، 2013، ص: 19).
وفي مطلع عام 1761م انطلقت البعثة العلمية الدنماركية من كوبنهاغن، عاصمة الدنمارك، قاصدةً اليمن، وكانت اليمن عند قدوم البعثة إليها، تتمتع باستقلالها السياسي، منذ خروج الأتراك منها عام 1635م. وكان يحكمها حكّام عديدون، كان أقواهم وأوسعهم رقعة هو الإمام المهدي عباس بن الإمام المنصور (ت 1189هـ/1775م). وقد كانت لليمن في تلك الفترة التاريخية علاقاتٌ تجاريّةٌ بالعالم الخارجي، عبر نوافذها البحرية، وخاصةً عبر مينائها الشهير المخا، الذي ارتبط باسمه اسم البن اليمني، فغدا اسم مكانٍ رمزٍ لأجود أصناف البن في العالم
 (Baack، 2014،p. 138).
وانطلقت الرحلة مروراً ببحر الشمال فالبحر المتوسط، حيث توقفت لبعض الوقت في تركيا، ثم اتجهت إلى مصر ومنها عبر البحر الأحمر إلى اليمن مروراً بميناء جدة. وكان مقرراً أن تمكث في اليمن عامين إلى ثلاثة أعوام، ولكنها لم تمكث سوى سبعة أشهرٍ، وجدت البعثة أن بقاءها عاماً كاملاً في اليمن، بعد أن قضت حوالي سبعة أشهرٍ، لن يحقق فوائدَ علميّةً، تُقاس بالمتاعب الصحية والإدارية المحتملة. لهذا قررت الرحيل، قبل انقضاء المدة الزمنية، التي كان مقرراً أن تمكثها في اليمن، بعد أن عاشت أشهراً مليئةً بالعمل والبحث والمشاقّ والمرض والموت في آنٍ واحدٍ.
وغادرت ميناء المخا بعد أن فقدت اثنين من أعضائها، بسبب الملاريا، أحدهما دفن في المخا، والآخر في مدينة بريم. ثم مات أعضاء البعثة الأخرون تباعاً، بعد مغادرتها اليمن متأثرين بالملاريا، التي أصيبوا بها في سهول تهامة. ولم يبق منها حيّاً سوى نيبور، الذي عاد إلى الدنمارك واستطاع وحده بجده ودأبه أن يحقق جزءًا كبيراً من مهام البعثة، فسجل جوانبَ كثيرةً من الحياة اليمنيّة، سياسيّةً واقتصاديّةً واجتماعيّةً وجغرافيّةً وتاريخيّةً ولغوية... إلخ، ضمّنها جميعاً يوميّاته.
 وقد رصد نيبور العديد من الجوانب التي تخص الجغرافيا التاريخيّة، وكتب عن كل المناطق التي زارها، ورسم خرائطَ لها، وتحدث عن السكان والقبائل والمذاهب والأديان، وقد طالت فترة بقائه في اليمن فزار صنعاء وبيت الفقيه وأبو عريش وغيرها(Vermeulen،2016،p.41 138)، واستطاع أن يختلط بالناس البسطاء وأن يحصل منهم على معلوماتٍ ثريّةٍ عن مناطقهم وعاداتهم وتقاليدهم وسجل كلَّ ذلك بدقةٍ ونزاهةٍ قلًّ نظيرها. وسجل أسماء كل القرى والأنهار على خرائط رسمها خصيصاً إضافةً إلى أسماء العشائر والحكام وطراز حياة الناس وكلَّ شاردةٍ وواردةٍ وكلَّ ما يخطر وما لا يخطر على بالِأحدٍ. بل يقيس عرض الأنهار ومناسيبها مثل النيل وشط العرب ودجلة والفرات في مختلف المناطق في ذلك الوقت الذي كانت تنعدم فيه الأجهزة والمعدات العلمية الدقيقة كما يقيس خطوط الطول والعرض ودرجات الحرارة إلخ. بل ويسجل أسماء الحكام الحاليين والسابقين في كلِّ بلدٍ حسب ما يحصل عليه من معلوماتٍ، إضافةً إلى الأساطير والقصص والحكايات الرائجة عن هؤلاء وغيرهم سواءً رجال الدين أو الشخصيّات الشعبيّة. وكذلك يرسم الخرائط ورسوم الأبنية والأزياء وكل ما يشاهده من آثار ونقوشٍ وكتاباتٍ.
أصيب اثنان من رفقاء نيبور بالملاريا ولم تكن مرضا معالجاً في تلك الأيام بل إن نيبور نفسه أصيب بمرضٍ خطيرٍ، ولكنّه تحامل على نفسه وانتقل إلى الهند، وفي الباخرة التي كانت تقله ورفيقاه فارق رفيقيه الحياة ليكمل رحلته إلى الهند وحيداً، وتكيّف نيبور مع مرضه إلى شُفي كما يقول هو بإتباع العادات الغذائية السائدة، مع العلم أنه الشخص الوحيد الذي عاد سالماً من أفراد البعثة في نهاية المطاف. عاد نيبور من الهند إلى مسقط عاصمة عمان، وتجول بها وكتب عنها، ثم زار إيران، ومنها انتقل إلى العراق فمكث في بغداد فترةً طويلةً نسبيّاً، وفي عام 1767م زار نيبور إسطنبول، ثم فلسطين، ومنها أبحر إلى قبرص ليعود إلى وطنه في عام 1770 تقريباً (Hansen، 1965، S. 344).
ويمكن القول أن ما تحقق من إنجازٍ علميٍّ للبعثة، ما كان يمكن أن يتحقق، بعد أن مات أعضاؤها جميعاً، ما عدا نيبور، لولا جهد نيبور وتفانيه ودقته في عمله.
تزوج نيبور عام 1773م، وتنقل بين عدة مناصبَ عسكريّةٍ في كوبنهاغن حتى عام 1778م عندما استلم منصباً مدنيّاً رفيعاً في مقاطعة هولشتاين (Hollstein)، وكان قد اُنتخب عام 1776 كعضوٍ أجنبيٍّ في الأكاديميّة الملكيّة السويديّة للعلوم. بقي نيبور في كوبنهاغن حتى حانت وفاته سنة 1815م، وقد كرمته بلاده وأطلقت اسمه على معهد الدراسات الشرقية في كوبنهاغن.

مؤلفاته:
تمحورت مؤلفات نيبور حول رحلته وخرجت على النحو التالي:
المجلد الأول: «وصف الجزيرة العربية» (Beschreibung von Arabien)، نُشر في كوبنهاغن بلغةٍ هولنديّةٍ سنة 1772م، يشتمل على وصفٍ كامل للجزيرة العربية وأسماء مدنها وقراها في نجد والحجاز والأحساء وشبه جزيرة سيناء، مع ذكر القبائل العربية والأمراء والأعيان والمذاهب الدينية السائدة، وزين نيبور هذا المجلد بعشرات الصور التي رسمها عن الزي واللباس وحتى خرائط المدن والمناطق. ووفرت الحكومة الدنماركية دعماً لنقش وطباعة عددٍ من الرسومات التوضيحيّة التي وردت فيه.
المجلد الثاني: «رحلةٌ إلى شبه الجزيرة العربيّة وإلى بلاد أخرى مجاورة لها» نُشر عام 1774م، وقد أعاد أحد أبناء نيبور نشر هذا المجلد سنة 1837م، وأضاف إليه بعض أبحاث رفيق نيبور (فورسكال) وهو عالم الأحياء النباتيّة، وهذا المجلد تم ترجمته إلى العربيّة بواسطة: عبير المنذر، وأصدرته دار الانتشار العربي سنة 2007م، وهو المعتمد في دراستنا تلك.
المجلد الثالث: اختصار الإنجليزي روبرت هيرون لمؤلفات نيبور، تم طبعه سنة 1792 م في مدينة إدنبرة، الاختصار كان مُخِلّاً جدّاً بمادة المؤلف، ولكن يبدو أنه مناسبٌ لحصول المؤسّسات الأكاديميّة على ما ترغبه من معلوماتٍ تهم أوروبا بالتحديد.
ولا بد أن نقرر شخصيّة نيبور ومكانته وأهمية كتاباته، باعتبارها تمثل خلاصة ما أنجزته البعثة في رحلتها. كما أمكن لهذا البحث أن يحقق هدفه في تقديم فصولٍ عن الحياة السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافية والدينية في اليمن القرن الثامن عشر، وأن يقدم وصفاً للمدن ونبذة تاريخية لأحداثٍ قريبةِ العهد كانت لا تزال تُروى من قِبل معاصريها عند زيارة نيبور.

المبحث الأول
جغرافية المدن اليمنيّة من خلال الرحلة:
حرص نيبور على وصف المدن التي مرّ بها، وصفاً دقيقاً، ورصد مواقعها، والتحدّث عن تاريخها، ولذا تجول فيها، وطاف حول أسوارها وقلاعها ومنازلها، وسجل أبرز معالمها. وقد تمكن من الحصول على معلوماته عن مدنٍ قديمةٍ، وإماراتٍ صغيرةٍ في اليمن لم تكن معروفةً للأوروبيين حتى عصره، وتناول الحديث عن مدنٍ اندثرت، ولم يستحسن الرجوع إلى كتب الجغرافيا المعروفة، لاستكمال المعلومات عن المناطق التي لم يرها أو لم يتمكن من جمع معلوماتٍ عنها بنفسه فيقول في هذا الصدد: «قررت أن أذهب بنفسي إلى أماكنها لا لأحدد موقعها الجغرافي وحسب بل لأقوم بدراسات على الآثار المتبقية» (نيبور، 2013، 1/269).
 وقد بذل نيبور جهده للتحقق من المعلومات الجغرافية المتعلقة بالمناطق التي لم يشاهدها إذ كان يستفسر عنها ويعيد الاستفسار لدى أكثرَ من شخصٍ، ولم يمنعه من جمع المعلومات إلا حالات الحرب والثورات فيقول: «ولم أستطع جمع معلوماتٍ وافرةٍ عن تاريخ مدينة تعز، فالثورات التي وقعت في السنوات الأخيرة كانت ستحتل مكاناً مميزاً في التاريخ» (نيبور، 2013، 1/308).
ومن هنا يستطرد بعين الباحث المؤرخ والجغرافي والرحالة، ويروي عن أحداثٍ تاريخيّةٍ باليمن بمناسبة عدم تمكنه من جمع المعلومات بتعز فقال: «لو أن العرب احتفظوا بالتواريخ أو لو أتيحت للأوروبيين فرصة الاطلاع على تفاصيلها. وسأروي لكم باختصارٍ ما سمعته من أقاويل حولها: عيّن الإمام المنصور حسين أخاه حاكماً أو صاحباً للدولة في هذا الإقليم. فاستمتع هذا الأخير بمنصبه كثيراً إلى حد أنه رفض لاحقاً التخلي عنه. فأرسل الإمام جيوشه لإرغامه على الخضوع لمشيئته، غير أن أحمد استطاع الصمود 12 سنةً، بمساعدة حاميته التي يبلغ عددها 2000 عنصرٍ، فصك عملةً باسمه في المدينة، وفرض ضرائب على البضائع التي تعبرها، وأجبر رعايا الإمام على سلوك طريق عدن خلال سفرهم من المخا إلى صنعاء. وخلال حديث السكان عن هذا الحاكم كانوا يسمونه ملكاً أو إمام تعز. أما هو فكان يكتفي بأن ينادوه سيدي أحمد، وهو لقب يحمله أمراء عائلة الإمام كلهم» (نيبور، 2013، 1/308). هنا نجد الرحلة تتميز بامتزاج الجغرافي بالتاريخي في تناسقٍ سلسٍ تميزت به معلومات تلك الرحلة القيمة.
وهذا دليلٌ أيضاً على أنه كان الباحث الصبور الذي لا يمنعه البحث وتقصي الحقائق إلا الضرورة القصوى، كما لم يكن الأمر سهلاً عليه في جمع المعلومات، فعند محاولته وضع أسماء دقيقة للمدن والقرى والجبال والوديان واجه صعوبةً فيها، بسبب اختلاف نطق الأهالي لها، وقد كتبها بحسب السمع، وحاول قدر الإمكان أن يكتبها من قبل أحد الأهالي باللغة العربية. وهذا سر تعلمه العربية قدر المستطاع قبل رحلته، فعلى حد قوله في الرحلة «أن المسافر يقع بسهولة في الفخ، إن لم يحسن لغة البلاد»(نيبور، 2013، 1/297).

وسوف نستعرض وصف نيبور للمدن فيما يلي:
أولاً: وصف المدن بين الجغرافيا والتاريخ:
1- رصد مواقع المدن:
سجل نيبور، وصفاً للمدن اليمنية وموقعها مازجاً بين الجغرافيا الاقتصادية والتاريخ؛ فيقول عن «مدينة لحية»: «وتقع في مكانٍ مجدبٍ، وقاحلٍ، وفي بعض الأحيان وكأنها على جزيرةٍ، لأن الأرض منخفضةٌ نحو الشمال حتى أن الرياح الجنوبية حين تعصف لوقتٍ طويلٍ، وتعلو المياه، يغطي المد هذا الجزء من المدينة، وقلما يحدث هذا خلال عامٍ واحدٍ. وهي على خط عرض 15°، 42-، وعلى بعد فرسخين و 39 دقيقة و 14 ثانية على خط الطول إلى الشرق من باريس. وهو المرفأ الأكثر إلى الجنوب في المناطق الخاضعة للإمام، لكن حالته سيئةٌ إذ إن المراكب الصغيرة التي تقصده تضطر للرسوّ على مسافةٍ بعيدةٍ من المدينة، حيث الجزر فلا تستطيع القوارب الصغيرة الاقتراب منه. وتبقى التجارة الأولى في هذه المدينة هي البن الذي ينتزعون بزوره ويبيعونه. ولا يضاهي هذا البن جودة بن بيت الفقيه الذي يتم نقله عبر مخا وحديدة، وهو أرخص ثمناً، ولا تعتبر كلفة نقله إلى جدة عاليةً نظراً إلى أن المسافة التي تفصل المنطقتين ليست بكبيرةٍ. ولهذا السبب، نجد تجاراً من القاهرة يقيمون في لحية ويشترون البن لأصحاب عملهم أو أصدقائهم في جدة، ومصر وتركيا، كما يقصد الكثير من أبناء القاهرة لحية سنويّاً لشراء البن لحسابهم الخاص»(نيبور، 2013، 1/256).
وعند تناوله الحديث عن مدينة «بيت الفقيه» نجده يقدم أيضاً وصفاً جغرافيّاً يمتزج بالتاريخ فيقول: «هي مسكن صاحب الدولة الذي يحكم ولايةً كبيرةً تقع على ارتفاع 14°، 31°»(نيبور، 2013، 1/256). وذكر موقع «مدينة تعز» قائلا: «تقع تعز شمالاً، عند سفح جبل صابر الخصيب، على خط العرض 13°، 34 ؛وهيمحاطةٌبأسوارٍتتراوحسماكتهابين 16 و 30 قدماً، وتعلوها أبراجٌ صغيرةٌ؛ كما وأنها مغطاةٌ من الخارج بآجرٍ مشويٍّ؛ ونجد داخل الجدران صخرةً متعرّجةً يبلغ ارتفاعها حوالي 400 قدم بني عليها حصن قاهر المنيع»(نيبور، 2013، 1/304). فنجده هنا يحدد الموقع من حيث خطوط العرض وهو الأمر نفسه الذي قام به عند وصف «مدينة المخا» قائلاً: «وتقع على خط العرض 13°، 19׳، في منطقة جافةٍ وجرداء لافتقارها للأمطار"(نيبور، 2013، 1/345).
ولم يهمل ذكر مواقع المدن الصغيرة مثل «مدينة موفاق»، وهو ما زال يجمع بين وصف المدن والتاريخ فيقول: «تقع على قنة جبلٍ وعرٍ، ونجد على سفحه بعض المنازل التي يأوي إليها المسافرون عادةً، وهي على خط عرض15°، 6׳. يقيم في المدينة صاحب الدولة الذي يقدم حساباً عن إيرادات هذه المقاطعة لأحد أبناء الإمام»(نيبور، 2013، 1/341).
كما رصد نيبور صعود واندثار المدن من الصعود إلى التلاشي ويعدد لنا أسباب ذلك ويفسره؛، فقال عن «مدينة غلفقة»: «كانت شهيرةً في الماضي لأنها كانت مرفأ زبيد إلا أنه لم يعد ناشطاً، ليس لأن مياه الخليج العربي تراجعت ولأن أرصفة المرجان تضخمت وحسب بل أيضاً بسبب التلال الرملية التي كونها الهواء في هذا المكان منذ بضع سنواتٍ. وتقتصر غلفقة اليوم على 20 أو 30 كوخاً حقيراً مشتتاً بين شجر النخيل، ويعتاش أهل هذه القرية من التمر والخراف لأن صيدهم شديد التواضع. ثم إن ثروة هذا الشاطئ هي الملح ويسمح لأيِّ كان بأن يأخذ منه قدر ما يشاء شرط أن يدفع للحاكم (وهو أمين سر صاحب دولة بيت الفقيه) ضريبةً على كل حمولة جملٍ. إن الجدران المقلوبة التي تبقت من مقام السيد علي المدفون في مشيد هي التي تراها فقط في هذه المدينة القديمة»(نيبور، 2013، 1/270).
ولم يقتصر نيبور على ذكر انحسار شهرة «مدينة غلفقة» وأسباب ذلك بل نجده في صفحاتٍ أخرى يذكر المدينة التي حلت محلها من حيث الأهمية وأسباب ذلك أيضاً فعند الحديث عن «مدينة زبيد» يوضح ذلك فيقول: «تقع بالقرب من الوادي الأكبر حجماً والأكثر خصوبةً في تهامة كلها. وكان هذا الوادي جافّاً لكن موسم المطر يحمل إليه كمياتٍ هائلةً من الماء تصبّ عليه من الجبال فيصبح نهراً كبيراً مثل النيل في مصر يسقي القرى المجاورة ويخصبها. وفي الماضي كانت هذه المدينة مكان إقامة أميرٍ مسلمٍ وكانت من أهم المدن التجارية في تهامة. لكن بعد أن أصبح مرفأ غلفقة غير صالحٍ وبعد أن انتقلت التجارة إلى المخا والحديدة ومخية وبيت الفقيه لم يتبق من زبيد إلا شهرة الماضي البائدة»(نيبور، 2013، 1/272).
كما رصد نيبور اندثار «مدينة عدين» أيضاً فيروي ذلك دون أن ينسى الجانب التاريخي فيقول: «مدينة عدين، المقابلة لمدينة تعز، لم يتبق منها إلا أنقاضُ جوامعَ صغيرةٍ. يقول العرب أنها كانت قديماً مقر الملوك أو أسياد هذه المنطقة. ويروي أن إسماعيل ملك، بدأ بتشييد ضريحه وجامعه عند سفح جبل قاهر، فتبعه سكان عدين الذين كانوا يعانون من تسلق الجبل أو الذين كانوا يفضلون الإقامة قرب نبيهم»(نيبور، 2013، 1/308)، كما تحدث عن مدينةٍ كبيرةٍ تدعى «المهاد» «لكن لم يتبق منها أيُّ منزلٍ»(نيبور، 2013، 1/272).
ويمزج نيبور بين الجغرافيا والتاريخ عند الحديث عن «مدينة صنعاء» قائلاً: «وتقع على خط عرض 15°، 21-، وعلى سفح جبل يحمل اسم نقوم Nikkum)) أو لقوم ((Lakkum، نرى عليه بقايا قصرٍ قديمٍ، بناه سام، على حد اعتقاد العرب، ويجري في جهةٍ أخرى، أي في غرب المدينة، جدولٌ صغيرٌ. ونجد من جهة الجبل القصر الواقع، بحسب ما أكدوا لي، على تلة خمدان (Chomdan) الشهيرة، ويمتد إلى جانب النهر بستان المتوكل، وهو حديقةٌ فسيحةٌ، أو على الأصح ضاحيةٌ بناها الإمام المتوكل، وزينها الإمام الحالي بقصر بناه فيها. ويحيط بالكل حائطٌ واحدٌ، أو بالأحرى، حاجزٌ من ترابٍ، مغطًّى بالصلصال، ويعلو فوقه عددٌ من الأبراج الصغيرة يبعد الواحد منها عن الآخر 60 قدماً. وتفصل الأسوار المدينة عن القصر من جهةٍ وعن بستان المتوكل من الجهة الأخرى. ولا تعتبر مساحة المدينة والقصر، إذا ما استثنينا بستان المتوكل، شاسعةً، ويمكننا زيارتها بساعةٍ وثماني دقائق»(نيبور، 2013، 1/330).

1- وصفٌ عامٌّ للمدن وتاريخها:
- مدينة لحية:
تحدث عن «مدينة لحية» وتاريخها فقال: «بنيت هذه المدينة منذ حوالي 300 عام، على يد وليٌّ مسلمٌ، يدعى الشيخ صالح (Salei)، ويعتبر اليوم شفيع هذه المدينة لأن عرب تهامة من أصل السنة ويجلون كثيراً هؤلاء الأولياء المزعومين على الرغم من أن دينهم يحرم تقديسهم. بنى هذا الشيخ لنفسه كوخاً على شاطئ البحر، خارج لحية، في المكان الذي نجد فيه اليوم ضريحه، وعاش فيه متنسكاً. وبعد موته، تم بناء قبة فوق قبره، ومع الأيام، تم تكبيرها، وتجميلها، واعتبارها وقفاً: وبما أن المسلمين المؤمنين يتوقعون أن يباركهم الله في هذه الدنيا وفي الآخرة، إذا ما أقاموا وماتوا في جوار هذا المزار، بنوا لهم بيوتاً في محيطه. وفي ذاك الوقت، كان حاكم الإقليم يقيم في مرابع (Marabea)، وهي مدينةٌ صغيرةٌ، على بعد ميلٍ إلى الشمال من لحية، لكن حالة مرفئها ازدادت سوءاً، فهجرت المدينة، وتوسعت لحية، وأضحت فيما بعد مكان إقامة صاحب الدولة»(نيبور، 2013، 1/255)، ووصفها بقوله: «وتقع مدينة لحية في مكانٍ مجدبٍ، وقاحلٍ، لأن الأرض منخفضةٌ نحو الشمال حتى أن الرياح الجنوبية حين تعصف لوقتٍ طويلٍ، وتعلو المياه، يغطي المد هذا الجزء من المدينة، وقلما يحدث هذا خلال عامٍ واحدٍ»(نيبور، 2013، 1/256).

-مدينة بيت الفقيه:
يقول عن تاريخها: «ليست مدينة الفقيه بالمدينة القديمة لأن عمرها بعض القرون مثل مخية. ويعود أصلها إلى شيخٍ شهيرٍ يعتبره العرب في تهامة فقيهاً لذا فإن اسمها أي بيت الفقيه يعود إليه. يدعى هذا العربي أحمد بن موسى ولا يزال ضريحه قائماً إلى اليوم داخل مسجدٍ مبنيٍّ على تلّةٍ رمليّةٍ خارج المدينة. وحتى اليوم يحتفل به الشعب مرةً كل سنةٍ في شهر ربيع الأول. وفي السنوات الأولى كان المؤمنون يشيدون منازلهم حول ضريح فقيههم. ثم مع تدهور الحركة في مرفأ غلفقة، تدهور حال التجارة فيها كما في زبيد وبدأت تزدهر في مدنٍ أخرى منها بيت الفقيه. وبعد أن كبرت هذه المدينة لدرجة أن سيد الولاية قرر أن يشيد فيها قلعةً، اختار مكاناً يسهل فيه جلب المياه لكن ذلك كلفه عناءً كبيراً. فمن دون ذلك لما كانت القلعة شديدة الأهميّة. ولا شك أن العرب بعد ذلك وجدوا أن صاحب الدولة والقلعة يوفران الأمن أكثر من فقيههم. وصاروا يشيدون بيوتهم قرب القلعة، لذلك لا نجد قرب مسجد أحمد بن موسى إلا بعض الأكواخ»(نيبور، 2013، 1/266).ووصفها بقوله: «تقع بيت الفقيه فيما يشبه الوادي. ومع أنها ليست شديدة الخصوبة إلا أن الزرع لا ينقصها»(نيبور، 2013، 1/268).

- مدينة زبيد:
وصفها بقوله: «تقع بالقرب من الوادي الأكبر حجماً والأكثر خصوبةً في تهامة كلها. وكان هذا الوادي جافّاً لكن موسم المطر يحمل إليه كمياتٍ هائلةً من الماء تصبّ عليه من الجبال فيصبح نهراً كبيراً مثل النيل في مصر يسقي القرى المجاورة ويخصبها. وفي الماضي كانت هذه المدينة مكان إقامة أميرٍ مسلمٍ وكانت من أهم المدن التجارية في تهامة. لكن بعد أن أصبح مرفأ غلفقة غير صالحٍ وبعد أن انتقلت التجارة إلى المخا والحديدة ومخية وبيت الفقيه لم يتبق من زبيد إلا شهرة الماضي البائدة. لكن لا بد من القول أن زبيد تتمتع بأفضلٍ مظهرٍ خارجيٍّ من بين مدن تهامة كافةً ويعود الفضل في ذلك إلى رجال الدين الذين عرفوا كيف يجذبون الكثير من الثروات، علماً أن السكان لا يحصلون اليوم إلا على خمس عائدات المدينة والبقاع المجاورة ويحصل الأمير على الخمس الثاني بينما يحتفظ رجال الدين بالأخماس الثلاثة الباقية. لذلك نجد في المدينة الكثير من المساجد والقبب التي تبيض قبيل حلول شهر رمضان. وهذه القبب هي بناءٌ صغيرٌ يوضع على قبر المسلمين الأثرياء الذين يعتقد الشعب أنهم بمثابة أولياء. ويقال أن القبة المسماة جامع ابن عمر عبد الأحد حيث يؤدى صاحب الدولة الصلاة كل يوم جمعة قد شيدها إمامٌ كان يقيم في جبلة Dsjobla)) وأن قبة الأشعر (El Ashar) قد بناها أحد صحابة الرسول. ويقال أن مسجد باش القريب من باب شباريق والمسجد القريب من باب القرطاب وغيرها من المساجد هي من بناء الباشاوات الأتراك الذين كانوا يقيمون في المدينة وأن مسجد الإسكندرية الذي اليوم داخل القصر بالإضافة إلى مسجد كمالية المجاور له قد بنتهما نساء تركياتٌ. ونرى في هذه المدينة دور عبادةٍ أخرى يقول أهلها أنها رائعة الجمال. ويمكننا مشاهدة آثار قناة ماءٍ تمرّ في الجبال وتصل إلى المدينة ولا شكّ في أن أحد الباشاوات الأتراك هو الذي بناها، إلا أن هذه القناة لم تعد صالحةً منذ عدة سنواتٍ. وحاليّاً يجلب السكان الماء من الآبار المحفورة علماً أن مياه المدينة ليست سيئة. حيث نجد في زبيد وفي جوارها بساتينَ غناءَ كثيرةً»(نيبور، 2013، 1/272).

- مدينة المخا:
يقول عن تاريخها: «أنها من المدن الجديدة في تهامة وأن عمرها لا يتعدى 400 عام - بالنسبة للزمن الذي زار فيه نيبور اليمن-. ويقال أنّه في ذاك الوقت، كان يعيش في المنطقة رجلٌ وحيدٌ شهير يدعى الشيخ الشاذلي ويعتبر مؤسس المدينة»(نيبور، 2013، 1/347).

- مدينة تعز:
أما عن مدينة تعز فيقول: «نجد في جوار تعز بقايا مدينتين قديمتين، ومنها مدينة عدين، المقابلة لمدينة تعز، لم يتبق منها إلا أنقاض جوامعَ صغيرةٍ. يقول العرب أنها كانت قديماً مقر الملوك أو أسياد هذه المنطقة. ويُروى أن إسماعيل ملك، بدأ بتشييد ضريحه وجامعه عند سفح جبل قاهر، فتبعه سكان عدين الذين كانوا يعانون من تسلق الجبل أو الذين كانوا يفضلون الإقامة قرب نبيهم، ويمكننا القول بالتالي أن تعز تدين بأصلها إلى النبي محمّد المسلم شأنها شأن مخية بيت الفقيه والمخا»(نيبور، 2013، 1/308).
ويستطرد قائلاً عن تعز: وقد تبدو محصنة جدّاً ضد الأعداء، لكن وفقاً للأسلوب الذي يعتمده الأوروبيون في حروبهم، لا أظن أن بلدة تعز وحصنها قد يصمدان طويلاً أمام العدو. وإليكم ما تدل عليه الأرقام التي وضعتها على اللوحتين LXVIو LXVII، 1) باب الشيخ موسى، 2) باب الكبير، 3) البرج الجديد الذي وضعت عليها المدافع، 4) قصر المرحوم سيد أحمد، 5) جامع الشريفة الكبير الذي يعلو أقبيةً تستعمل لتخزين القمح، 6) إسماعيل ملك أو جامع تعز الكبير؛ وهو كبيرٌ جدّاً، ويعلو أقبيةً تستعمل كمخازن للأسلحة، 7) قبة الحسنية المبنية على ضريح باشا تركي، 8) جامع قصر، 9) السوق، 10) جوامعُ متداعيةٌ خارج البلدة، 11) المصلى حيث يصلي صاحب الدولة أيام الأعياد. ونجد في كافة مدن اليمن أماكنَ مماثلةً يصلّي فيها المسلمون في الهواء الطلق، خلال الأعياد والمناسبات. غير أن بعضها يفوق بعضها الآخر جمالاً. أما هذا المصلى فهو محاطٌ بسورٍ كبيرٍ فيه بعض الحجرات التي يستعملها المسلمون للوضوء قبل أداء صلاتهم 12) طريق صنعاء 13) طريق المخا. قست حرم المدينة وحددت موقعها بواسطة البوصلة مع أنني لم أتعرف على شوارعها كلها. وأشرت على اللوحة LXVI إلى ارتفاع الهضاب التي بنيت عليها أسوار المدينة»(نيبور، 2013، 1/304).

- مدينة عدن:
يقول عن مدينة عدن «مفتوحةٌ وصغيرةٌ، لا يزيد عدد منازلها على 300، وهي مبنيةٌ من الحجارة والملاط يمر أمام البلدة من الجهة الشمالية جدولٌ يصب في وادي زبيد. والجدير ذكره أن الطريق الممتدة من تهامة إلى عدن شبهُ خاليةٍ من السكان، بينما يحتشد الناس في أماكن أخرى من هذا الاقليم»(نيبور، 2013، 1/285).

- مدينة صنعاء:
قال عنها وعن تاريخها: «تقع على سفح جبلٍ يحمل اسم نقوم (Nikkum) أو لقوم (Lakkum)، نرى عليه بقايا قصرٍ قديمٍ، بناه سام، على حد اعتقاد العرب، ويجري في جهة أخرى، أي في غرب المدينة، جدولٌ صغيرٌ. ونجد من جهة الجبل القصر الواقع، بحسب ما أكدوا لي، على تلة خمدان (Chomdan) الشهيرة، ويمتد إلى جانب النهر بستان المتوكل، وهو حديقةٌ فسيحةٌ، أو على الأصح ضاحيةٌ بناها الإمام المتوكل، وزينها الإمام الحالي بقصرٍ بناه فيها. ويحيط بالكل حائطٌ واحدٌ، أو بالأحرى، حاجزٌ من تراب، مغطًّى بالصلصال، ويعلو فوقه عددٌ من الأبراج الصغيرة يبعد الواحد منها عن الآخر 60 قدماً. وتفصل الأسوار المدينة عن القصر من جهةٍ وعن بستان المتوكل من الجهة الأخرى. ولا تعتبر مساحة المدينة والقصر، إذا ما استثنينا بستان المتوكل، شاسعةً، ويمكننا زيارتها بساعة وثماني دقائق»(نيبور، 2013، 1/330).

- مدينة ذمار:
وصفها بقوله: «وتقع ذمار في منطقةٍ خصبةٍ ومنبسطةٍ، اشتهرت في اليمن بمرابط الخيل الجميلة، وهي عاصمة إقليم مشارب العنز (Mechareb el Anes) وبالتالي مكان إقامة صاحب الدولة. ونجد فيها جامعةً شهيرةً للمسلمين، وتسمى الجامعة الزيدية، ونشاهد قرب المدينة قصراً ضخماً، أما المدينة نفسها فمفتوحةٌ، وواسعةٌ، وحسنة البنيان، وأشك أنها تحتوى على 5000 منزلٍ كما يؤكد شيخ البلد «(نيبور، 2013، 1/323).

2- وصف بعض القلاع والحديث عنها:
نجد نيبور بجانب تحديده لموقع المدن يقوم أيضاً بوصفٍ وعرضٍ لقلاع المدن، فعند عند حديثة عن «مدينة مخية» يقول: وعلى الرغم من أنّ مخيةَ غيرُ محاطةٍ بالأسوار، فهي ليست بالمدينة المفتوحة كلّيّاً، إذ نجد فيها 12 برجاً (قلعةً) من جهة اليابسة، يبعد الواحد منها عن الآخر 120 خطوةً مزدوجةً، وتشبه هذه الأبراج أبراج المراقبة القديمة في ألمانيا، فأبوابها مرتفعةٌ لا يمكن ولوجها من دون الاستعانة بسلمٍ. ويقيم الجنود، الذين يشكلون حامية المدن التركية، قرب الأبواب أو في المدينة نفسها، ونجد حراساً في كل برجٍ من أبراج لحية تقريباً. وكان معظم جنود المدينة يجلسون في الفيء في أسفل الأبراج، يدخنون النرجيلة ويشربون الكيشر (وهو شرابٌ يحضر من سنفة البن)» (نيبور، 2013، 1/256).
ويذكر أنه «بعد أن كبرت «مدينة بيت الفقيه»لدرجة أن سيد الولاية قرر أن يشيد فيها قلعةً، اختار مكاناً يسهل فيه جلب المياه لكن ذلك كلفه عناءً كبيراً. فمن دون ذلك لما كانت القلعة شديدة الأهمية. ولا شك أن العرب بعد ذلك وجدوا أن صاحب الدولة والقلعة يوفران الأمن أكثر من فقيههم. وصاروا يشيدون بيوتهم قرب القلعة، لذلك لا نجد قرب مسجد أحمد بن موسى إلا بعض الأكواخ»(نيبور، 2013، 1/266).
كما يذكر أحياناً القلاع ويحدد أهميّة واحدةٍ دون الأخرى معللاً ذلك، فعند حديثه عن «مدينة المخا» ذكر قلاعها فقال: «نجد على طرفيْ مرفأ مدينة المخا قلعتين مماثلتين مزودتين ببعض المدافع. وتسمى الواقعة إلى الشمال قلعة الطيار(Kalla Teiar)، تيمُّناً بوليٍّ مسلمٍ دُفن في مكانٍ قريبٍ، وهي القلعة الأهم والأعظم، أما القلعة الأخرى فصغيرةٌ، ونظراً لأن ضريح أحد أولاد الشيخ الشاذلي قريبٌ منها حملت اسمه وهي قلعة عبد عرب (Kalla Abed Urrab)»(نيبور، 2013، 1/345).
 ويؤكد نيبور أن هذه القلاع: «بنيت بطريقةٍ تمكنهم من الدفاع عنها بالسلاح الأبيض. أما البرج، الذي أمر الأمير فرحان ببنائه فجهز لوضع مدافع فيه، ونجد قرب البرج الخامس مبنًى فيه بعض الأسلحة. ونشاهد أمام البرجين الرابع والخامس حفرةً في الصخر. وتعتبر هذه التحصينات غيرَ مجديةٍ، حتى أن عرب حاشد، منذ سنواتٍ، اجتازوها وأحرقوا المدينة، لذا لا يتكل أهالي مخية عليها كثيراً، إذ علمنا، في شهر أيار/ مايو في مخا، أن عدداً كبيراً منهم لجأ إلى جزيرة يرموك Ormuk)) الصغيرة، ونقلوا إليها أغلى ما عندهم حين علموا أن بضعَ مئاتٍ من رجال حاشد وبكيل دخلوا تهامة وتقدموا حتى مور (Mor)، وغادر العديدون بيت الفقيه، وتوجهوا إلى مرفأ الحديدة، ليتمكنوا من الانسحاب بسرعةٍ نحو بعض الجزر إذا ما تقدم العدو أكثر، لكنه تراجع حين لاقاه الأمير فرحان مع جنده»(نيبور، 2013، 1/256)، ونجده هنا يمزج بين وصف القلاع الجغرافي والحدث التاريخي.

3- وصف البيوت:
نجد نيبور عندما يسجل ملاحظاته عن المنازل يشير إلى اختلافٍ في المساكن، فمثلاً في المدن الجبلية تبنى البيوت بالحجارة، أما في تهامة فمعظم بيوتها عبارةٌ عن أكواخ، وبناؤها لا يكلف كثيراً، فهي تبنى من أغصان الشجر والأعشاب، وتكسي جدرانها بالطين المخلوط ببراز الأبقار، وتدهن من الداخل بالكلس، وسقوفها مبنيةٌ بأعشابٍ متوفرةٍ بكثرةٍ في تهامة. ونادراً ما تكون هناك نوافذُ، أما الأبواب فهي مجرّدُ قطعٍ من الحصير، وفي هذه البيوت وحولها توضع سررٌ أشبه بكراسٍ طويلةٍ، منسوجٌ سطحها بخيوطٍ من القماش، يجلس المرء عليها وينام بارتياحٍ، ومثل هذه السرر- الكراسي لا توجد في مناطق الجبال. ونادراً ما تكون الأكواخ مقسمةً في الداخل إلى أجنحةٍ أو حجراتٍ. فإذا كان حجم الأسرة كبيراً. أو كانت هناك حيواناتٌ، فإنه يتم بناء أكثرَ من كوخٍ للأسرة الواحدة، ثم تحاط جميعها بسياجٍ واحدٍ، مبنيٍّ من أغصان الشجر(نيبور، 2013، 1/258، 264، 266، 290).
يصف نيبور المدن اليمنية فنجده يتحدث عن بيوت «مدينة مخية» فيقول: «بني العديد من منازل «مخية» من الحجارة، كمنازل تهامة عامّةً، ولا يكلف بناء منزلٍ كهذا الكثير من المال فهيكله من الخشب الرقيق الذي يقطع من الأشجار أو الدغل، وتطلى الجدران بالصلصال الممزوج بالروث ثم تطلى من الداخل بالكلس، وتصنع السطوح من أعشابٍ تكثر في هذه البلاد. وتفتقر هذه المنازل للنوافذ، وتسد الأبواب بالحصر المصنوعة من القش. ويؤثث داخل هذه المنازل بالأسرة، ولا تغطي هذه الأسرة سوى بحبالٍ من القش، وهي مريحةٌ جدّاً للجلوس والنوم، لا سيما أن أرض تهامة رمليّةٌ، لجدبها، ما يجعل النوم عليها مزعجاً للغاية. ولا تقسم هذه المنازل إلى غرفٍ عدّةٍ، وحين تكون عائلة العربي كبيرةً ويملك ماشيةً، يقوم ببناء أكواخٍ عدّةٍ ويحيطها بسورٍ عالٍ، لذا تحتل المنازل مساحةً واسعة ولا يمكن أن نعتبر عدد سكان تهامة بعدد سكان أيِّ مدينةٍ في أوروبا وتركيا تمتد على المساحة نفسها»(نيبور، 2013، 1/258).
ويقول عن «مدينة القنفذة»: «مدينة كبيرة، لكنها سيئة البناء، فمعظم المنازل لا تتعدّى كونها أكواخاً في لغة الأوروبيّين»(نيبور، 2013، 1/245).
ويتحدّث عن بيوت «مدينة بيت الفقيه» بالتفصيل فذكر من ذكر الوصف قائلاً: «المدينة مفتوحةٌ والمنازل بعيدةٌ عن بعضها وهناك الكثير من الحجارة المستعملة في تدعيم البناء إلا أن غالبية المنازل قد بنيت على الطريقة الهندسيّة في تهامة أي إنها تتألف من أكواخٍ طويلةٍ مستديرةِ السطوح ومغطاةٍ بالعشب. نزلنا في بناءٍ حجريٍّ هرب منه صاحبه للتخلص من حشرات حجمها كحجم النمل تسمّى أرضة (Ard). كانت هذه الحشرات الموجودة في كافة الغرب تشق طريقاً لها مغطًّى بالتراب اعتباراً من الأرض وحتى المكان الذي تبحث فيه عن الطعام. وهي تأكل الفاكهة والثياب وكل ما تجد، فليس إذاً من الغريب أن يكره العرب شغل منزل تملؤه الحشرات»(نيبور، 2013، 1/266).
أما عن وصف منازل «مدينة المخا فيقول: «وبني قسمٌ من المنازل الواقعة في حرم هذه الأسوار من الحجر، وبعضها شيد بشكلٍ متينٍ وجميلٍ على طراز المنازل التي رأيناها في بئر القصب. لكن شاهدنا داخل المدينة وخارجها منازلَ حقيرةً كالأكواخ العادية في تهامة والتي رسمنا نموذجاً عنها في وصف شبه الجزيرة العربية»(نيبور، 2013، 1/345).
ويتحدث عن منازل «مدينة بو القوف» بتهامة فيقول: «وبما أن الحجارة لا تنقص هنا، فإن المنازل كلها مصنوعةٌ منها. ومع أنها سيئة البناء بالمقارنة مع منازل أوروبا إلّا أن منظرها جميلٌ من بعيدٍ وخاصةً تلك التي تقع على أعلى القمم والجبال والتي تحيط بها الحداق والبساتين المزروعة شجراً والتي تكون على شكل جلولٍ»(نيبور، 2013، 1/277).
ويتحدث عن منازل «مدينة يريم» الصغيرة فيقول: «منازلها جزءٌ مبنيٌّ من الحجارة، والجزء الآخر من الصلصال المدهون بمعجونةٍ مؤلّفةٍ من الطين وروث البقر»(نيبور، 2013، 1/319).

4-  الحديث عن أبواب المدن:
يتناول نيبور الحديث عن أبواب المدن أيضاً في رحلته فيقول عن أبواب «مدينة زبيد»: «يزعم أبو الفدا أنه كان لزبيد في الماضي ثمانية أبوابٍ إلا أنني لم أسمع إلا بخمسةِ أبوابٍ؛ كان باب النحل يقع في جنوب المدينة الغربي وقد اقتلعته المياه من أساسه منذ سنواتٍ. ولا يزال باب القرطاب قائماً لكنه في الأغلب سيلقى مصير الباب السابق. وباب شباريق يقع في الشمال الشرقي وباب الشام في الشمال. ولم يبق من هذا الباب الأخير إلا الجدران الجانبية. ولقد هدت أسوار المدينة بكاملها تقريباً لأن الفقراء من سكانها يقومون ببيع حجارتها. ولقد دققت في أبواب المدينة وأسوارها واستغرق مني المرور حولها ساعة وبضع دقائق»(نيبور، 2013، 1/273).

ويتحدث عن أبواب «مدينة صنعاء» قائلاً: «وللمدينة أربعة أبوابٍ هي:
1) باب اليمن(Bab El Yaman)،
2) باب السبع (Bab es Sebba)،
3) باب شعيب Bab Schaub))،
4) باب الستران (Bab es Stran).
ولم يفتح البابُ الأخير، والذي يؤدّي إلى القصر منذ سنوات عدّةٍ، كما نجد أيضاً ثلاثة أبواب صغيرة أخرى:
5) باب الشرارة (Bab Scharara)،
6) باب الحديدBab Hadid))،
7) باب الصغير Bab Sogair))،
(نيبور، 2013، 1/332).
كما تناول نيبور ذكر أبواب «مدينة تعز» فقال: «وللمدينة بابان، باب الشيخ موسى، وباب الكبير، يصلان على الطريق المؤدي من المخا إلى صنعاء، وهما مبنيان على الطراز العربي؛ ونجد باباً آخر يصل قصر قاهر بجبل صابر، وباباً رابعاً في سور المدينة بين قاهر وباب الكبير؛ والجدير ذكره أننا لم نشاهد أثراً للمدافع إلا في قلعة قاهر، وعلى بابَيِ المدينة»(نيبور، 2013، 1/304)، كما يرصد أبواب «مدينة سعد المسورة» فيقول: «لها ثلاثُ أبوابٍ: باب هادي، باب منصور، وباب القصر»(نيبور، 2013، 1/363).
لقد كان لرحلة نيبور الفضل الكبير في توضيح الطبيعية الجغرافيّة للعديد من المدن والقرى اليمنية، إذ قدم لنا رصداً لمواقع المدن، ووصفاً عامّاً للمدن وتاريخها وأبوابها، وقدم وصفاً لبعض القلاع وتحدث عنها، وكذلك البيوت اليمنيّة، ما ساهم في تقديم مادةٍ تاريخيّةٍ جغرافيّةٍ ثريّةٍ عن اليمن في تلك الفترة من القرن الثامن عشر.

المبحث الثاني:
الجغرافيا الاقتصاديّة في الكتاب:
قدمت رحلة نيبور أيضاً العديد من المعلومات التي يمكن إدراجها ضمن الجغرافيا الاقتصادية ومن خلالها يمكن استجلاء العديد من الحقائق والتي يمكن رصدها فيما يلي:
1- الحِرف والصناعات اليمنية:
تعرض نيبور في رحلته إلى الحرف والصناعات باليمن وشاهدها بنفسه وسجل ذلك، ومن تلك الصناعات:

أ. صناعة الأواني الفخارية:
شاهد نيبور صناعة الأواني الفخارية في قرًى ومدنٍ مختلفةٍ، فعند حديثة عن «بلدة حاس» في تهامة، قال عنها: «تكثر فيها مصانع الفخار»(نيبور، 2013، 1/290)، وذكر أنه شاهد فيها معاملَ كثيرةً، لصناعة الأواني الفخاريّة، وما يؤكد انتشار تلك الصناعة أن «الضيافة تُقدم في فناجينَ من فخارٍ. والعرب الأثرياء الذين لم يعتادوا على شرب القهوة في أقداحٍ مماثلةٍ يحملون معهم أثناء السفر فناجينهم الصينية المصنوعة من الخزف»(نيبور، 2013، 1/263). كما كان في بعض القرى يحتفظون بالمشروبات الخاصة بهم داخل جرارٍ كبيرةٍ من الفخار»(نيبور، 2013، 1/334). وقد «اشتغل اليهود بتلك الصناعة في اليمن واشتهروا بها، وقد اشتهرت قرية قاع اليهود بتلك الصناعة على حد ذكر نيبور»(نيبور، 2013، 1/334).

ب- صناعة النيلة:
أشار نيبور إلى كثرة زراعة نبات النيلة، فيذكر عن وادي المهاد قوله: «ويكثر شجر النيلة في هذا الوادي»(نيبور، 2013، 1/272)، كما أشار إلى انتشار زراعته في وديان تهامة فقال: «ويشتهر هذا الوادي بشجر النيلة الذي يكثر في وديان تهامة. وتمكن نيبور من إحصاء ما يزيد على ستمائة قِدرٍ ضخمٍ، مخصصّةٍ لتحضير النيلة فيقول: «قرب قرية التحيتا هناك أكثر من 600 مكانٍ مختصٍّ في صناعة اللون الأزرق»(نيبور، 2013، 1/275)، وذكر وجود «معمل للنيلة في قرية الضحي (Dahhi)»(نيبور، 2013، 1/264)، ورصد هناك بتلك القرية «كميّةً كبيرةً من الآنية التي يُصنع فيها اللون الأزرق»(نيبور، 2013، 1/264)، وأكّد على أن «ثمن هذا اللون رخيصٌ في اليمن إذ يباع كل 25 رطلاً بدرهمٍ واحدٍ إلا أنه سيِّئ النوعية. يستعمل هذا اللون كثيراً في اليمن لأن النساء كافّةً يرتدين قمصاناً وسراويل زرقاء»(نيبور، 2013، 1/264).

ج- استخراج الحديد:
ذكر نيبور أن اليمنيين يستخرجون الحديد، من مناجم الحديد، الموجودة في منطقة سهم، ولكنه حديد غالي الثمن، وردئ النوعية (نيبور، 2013، 1/285). كما أشار إلى أنه «تكثر في سعد مناجم الحديد» (نيبور، 2013، 1/363).

2. المحاصيل الزراعيّة:
تضمنت كتابات نيبور إشاراتٍ، وملاحظاتٍ كثيرةً، حول المحاصيل الزراعيّة في اليمن، منها.

- البن:
تشتهر اليمن بالبن، والذي يُعد من أجواد الأنواع في العالم، وقد عرف البن، وبدأت القهوة تنتشر كمشروبٍ في أوروبا، وأصبحت جزيرة العرب في نظر الأوروبيين بلاد البن قبل أيِّ شيءٍ آخرَ، وكان يشغل معظم الأراضي الخصبة في المرتفعات الجبلية، وقد أقر نيبور بأهمية البن اليمني وخاصةً بن عدن قائلاً: «بن عدن هو الأفضل في اليمن وفي العالم أجمع» (نيبور، 2013، 1/285).
وأشارنيبور إلى أن البن كان يزرع في مدينة لحية وكانوا «ينتزعون بزوره ويبيعونه» (نيبور، 2013، 1/256)، كما أشار إلى «جودة بن بيت الفقيه»(نيبور، 2013، 1/256)، كما أن «قرية بو القوف» (Bulgofe) كانت تعيش من زراعة البن، فنجد أشجار البن من كل مكانٍ «(نيبور، 2013، 1/277)، كما أن «وادي زبيد تكثر فيه بساتين البن»(نيبور، 2013، 1/285)، كما أن «إقليم جميل، تكثر فيه مزارع البن»(نيبور، 2013، 1/360) و«مدينة العبيد، بلدةٌ كبيرةٌ، تقع على تلةٍ خصبة بالقمح، وبمزارع البن» (نيبور، 2013، 1/360).
كما «تميز الطريق المؤدي من قسمة إلى بيت الفقيه بمنحدراته الوعرة، وبساتين البن الكثيرة» (نيبور، 2013، 1/360). و«كانت بلدة سوق Suk el Ass، الواقعة على الجبل، تكثر فيها مزارع البن»(نيبور، 2013، 1/362).
ويرجع نيبور سبب جودة البن اليمني إلى أن المناخ وارتفاع الحقول الجبلية قد وفر للبن شروطاً ممتازةً، ومن تلك الشروط التي قالها: «إن شجرة البن المعروفة في أوروبا. ولقد رأيتها مزهرةً هنا قرب بو القوف تنبعث منها رائحةٌ زكيةٌ. تقع البساتين الواحد فوق الآخر وبعضها لا يتلقى الماء إلا من الأمطار بينما هناك بركٌ في البساتين العليا تجر منها المياه العذبة إلى كافة البساتين الأخرى. ولشدة ما تكون الأشجار مرصوصةً الواحدة قرب الأخرى يصعب عل أشعة الشمس اختراقها. قيل لي أن الأشجار التي تُسقى من غير مياه الأمطار لا تثمر إلا مرتين في السنة وأن ثمارها لا تنضج إلا مرةً واحدةً وأن الثمار التي لا تنضج تكون أقلَّ جودةً من الناضجة»(نيبور، 2013، 1/277).

- القات:
كما تحدث نيبور عن شجرة القات والأهمية التي اكتسبتها عبر أكثرَ من مائتيْ عامٍ، أي منذ زيارة نيبور وحتى الآن، حيث أصبحت اليوم تمثل نوعاً من الزراعة لا ينافس ولا يقاوم إغراؤه، وسجل نيبور أول ملاحظة عن القات، عند حديثه عن وصول البعثة إلى تعز، وسجل عنه في يومياته العبارات التالية عن شجرة القات فقال: «شجرةٌ يمضغها العرب في أوقات اللهو، كما نمضغ التبغ، وكما يمضغ الهنود التنبول»(نيبور، 2013، 1/304).
كما تناول نيبور محصول الذرة وكانت تزرع في معظم مناطق اليمن التهامية والجبلية، وأنها «تكاد تكون الغذاء الوحيد لعامة الناس»(نيبور، 2013، 1/344). وإلى جانب الذرة كان يزرع القمح والشعير والفاصولياء والعدس وقصب السكر والتبغ والقطن والورس وفيلة والبلح، والإجاص والمشمش والدراق والتين(نيبور، 2013، 1/332).و «تكثر الفواكه في صنعاء، إذ نجد في أسواقها أكثر من عشرين صنفاً من العنب، وبما أنها لا تنضج في وقتٍ واحدٍ، يمكننا أن نشتري عنباً جديداً خلال أشهرٍ عدةٍ من السنة، كما يقوم بعض العرب وبعض الأتراك في الأناضول بتعليق عناقيد العنب في سقوف الأقبية، فتتوفر هذه الفاكهة اللذيذة على مدار السنة»(نيبور، 2013، 1/333)، «وفي قرية حد، حيث يملك الإمام منزلاً ريفيّاً، وحديقةً تكثر فيها الدوالي، وأشجار البندق والمشمش والإجاص وغيرها»(نيبور، 2013، 1/325).
ونجد في «سراج سهولاً مزروعةً. ونصادف من هذا المكان الأخير حتى صنعاء، وقرب القرى كلها، عدداً كبيراً من الحداق المزروعة بالكرمة الجميلة والشهية فضلاً عن فواكهَ أخرى»(نيبور، 2013، 1/324)، وفي الحديدة «تكثر أشجار النخيل»(نيبور، 2013، 1/270)، ويُوجد في «مصيل» جبلُ نخيلٍ شاهقٌ يتطلب تسلقه حوالي 45 دقيقة»(نيبور، 2013، 1/284).
و «بلدة عصل (Osle)، بها حقولٌ مزروعةٌ بقصب السكر»(نيبور، 2013، 1/286). ويقول نيبور: «إن منظر المنطقة من بيت مساعد صاحب دولة هادية لراع خلابٌ. فأمام البيت نرى وادياً عميقاً فيه جلولٌ مزروعةٌ قمحاً وبقولاً»(نيبور، 2013، 1/280)، وكانت «مدينة العبيد، بلدةً كبيرةً، تقع على تلّةٍ خصبةٍ بالقمح»(نيبور، 2013، 1/360).

- شجرة البلسان (البلسم):
 وتوجد في اليمن شجرة البلسان أو البلسم، وقد ذكر نيبور أن اليمنيين يسمونها شجرة (أبو الشم)، أي الشجرة الطيبة الرائحة، ويُقال أنّها تكثر في اليمن، ولكن السكان يحرقونها للاستمتاع برائحتها، ولا يحسون استعمالها لشيءٍ آخرَ»(نيبور، 2013، 1/290).
 وكانت تلك الشجرة كشفاً رائعاً من اكتشافات الرحلة فيقول نيبور موضحاً ذلك: «لقد اكتشف السيد فورسكال بعد ميلٍ عودةَ شجرة بيلسان مغطاةً بالزهر، وبعد أن أجرى عليها تجاربَ كثيرةً، أيقن أنه عثر على الشجيرة التي تعطي بلسم مكة. فطار فرحاً باكتشافه هذا، كما وأنه احتفظ بكميةٍ من الأزهار ليقدم دليلاً على اكتشافه هذا، وليثبت صحة وصفه»(نيبور، 2013، 1/290).

1-  أنظمة الري:
-مياه الأمطار:                                 
أشار نيبور إلى اعتماد اليمن في زراعتها على مياه الأمطار، وقد لاحظ هطول الأمطار في الصيف بانتظام، «كل يوم تقريباً كما حدث أثناء وجوده في صنعاء»(نيبور، 2013، 1/389)»وفي تعز وآب والقرى المجاورة لمنسل، تساقطت الأمطار لأيامٍ عدّةٍ في فترات بعد الظهر»(نيبور، 2013، 1/320)، و«كانت وديان تهامة، لا تغمرها المياه إلا أثناء المطر»(نيبور، 2013، 1/265)، وكان «وادي كوة وهو وادٍ صغيرٍ نجد فيه الماء في أيام المطر»(نيبور، 2013، 1/272).
أما الوادي الأكبر قرب زبيد فكان الأكبر حجماً والأكثر خصوبةً في تهامة كلها. وكان هذا الوادي جافّاً لكن موسم المطر يحمل إليه كمياتٍ هائلةً من الماء تصب عليه من الجبال فيصبح نهراً كبيراً مثل النيل في مصر يسقي القرى المجاورة ويخصبها»(نيبور، 2013، 1/272)، كما كان «وادي الحنش شأنه شأن باقي الوديان في تهامة، تغمره المياه أثناء مواسم المطر فيلتقي بوادي الريما ويصب في الخليج العربي بين شرام(Schurem) وسماحي بعد أن يأخذ اسم وادي عباسي»(نيبور، 2013، 1/276)، وكان جبل عصل تهطل عليه الأمطار بغزارةٍ وبني على هذا الجبل منزلان أو قبتان يحتمي فيهما المسافر من وابل الأمطار»(نيبور، 2013، 1/286).
ويذكر نيبور أنه: «على مسافةٍ قريبةٍ من آب وجبلة نبعان، يجري أحدهما نحو الغرب في جداولَ صغيرةٍ عدّةٍ، ليصبّ بعد الأمطار في الخليج العربي تحت اسم وادي زبيد. ويجري الآخر في الجنوب، ويطلق عليه اسم ميدام Meidam، وبعد تساقط الأمطار، يعظم ويصب أخيراً في البحر قرب لحج Lahadsj وعدن»(نيبور، 2013، 1/317).

- السدود المائيّة:
ويذكر نيبور أنه: «في قرية طوارق، الواقعة في وادي جرصة، الذي يقع على الساعد الصغير لوادي زبيد، وهو يتفرع من ساعده الأكبر، لإخصاب أكبر مساحةٍ من أراضي تهامة. إن حقول هذ المنطقة تحاط بسدودٍ ترابيةٍ تساعد على تجميع الكميات اللازمة من المياه لري الأراضي المجاورة»(نيبور، 2013، 1/293).
كما يشير إلى «تحويل المياه في الجنوب اليمني إلى بعض الحقول المحاطة بسدودٍ عاليةٍ، حيث حفظت في حفرٍ عميقةٍ. ولا يدعون المياه على الأرجح تجري في وادي زبيد قبل ري كافة الحقول المجاورة، وقد تم بناء الحواجز المحيطة بالسهول المذكورة آنفاً بطريقةٍ فريدةٍ. فبعد فلاحة الأرض، يربط العرب ثورين بثلاثة حبالٍ أو ثلاثِ سلاسلَ حديديّةٍ يربطونها بخشبةٍ عريضةٍ للغاية، وتجر هذه الخشبة على الأرض المفلوحة لتمتلئ، فينقلونها إلى الحاجز المذكور»(نيبور، 2013، 1/345).
«ولما كان سكان منطقة الوشفاد يتوقعون هطول الأمطار في أوقاتٍ متقاربةٍ، بنوا قرب الجبال سدوداً من الحجارة والأشواك حتى تصب المياه المتدفقة من أعالي الجبال في الحقول المجاورة، فهذه الحقول متدرجةٌ ولها من الجهة السفلى سورٌ ترابيٌّ، يحول دون تسرّب المياه. يجدر بالبلدان الأخرى أن تقلد هذه الطريقة في ري الحقول»(نيبور، 2013، 1/285).

- مياه الآبار والينابيع:
ذكر نيبور العديد من المعلومات المهمة عن مياه الآبار باليمن ومنها آبار تهامة فقال: «تتميز آبار تهامة كافةً بأرضيتها المنحنية فنرى الرجال والثيران والحمير تنزل للحصول على مياهها ما يسهل عليهم هذه العملية. ويرفع الماء في أكياس كبيرةٍ من الجلد تكون مربوطةً إلى حبلٍ معلّقٍ على بكرةٍ. والجدير بالذكر أن هذه الآبار عميقةٌ بمجملها. يبلغ انحدار البئر 34 قدماً أو من 160 إلى 170 خطوةً من حيث الطول وهذا هو طول الجبل وبالتالي عمق البئر. من هناك مررنا بوادي شعب دفين حيث لا نجد الماء الجاري إلا في أيام المطر»(نيبور، 2013، 1/256).
كما أشار نيبور أثناء ذهابه من منطقة من «مخية إلى بيت الفقيه» إلى أنه في منطقة «دير العفة» كانت الطريق مزروعةً بالآبار هنا وهناك»(نيبور، 2013، 1/264)، كما شاهد أثناء خروجه من بيت الفقيه متجهاً إلى الغرب نحو باب غلفقة أربعة آبارٍ محفورةٍ هناك»(نيبور، 2013، 1/270).
وذكر أيضاً: «قرية المحلة (Mehalle) باتجاه الجنوب الشرقي. ولقد رأيت بئرين على هذه الطريق. ومن المحلة نجتاز مسافة نصف ميلٍ لنصل إلى قريةٍ أخرى هي قرية مهاد. ولقد رأيت على هذه الطريق ثلاثة آبارٍ محفورة»(نيبور، 2013، 1/272).
وعند حديثة عن مدينة زبيد قال: «ويمكننا مشاهدة آثار قناة ماءٍ تمرٍّ في الجبال وتصل إلى المدينة ولا شك في أن أحد الباشاوات الأتراك هو الذي بناها. إلا أن هذه القناة لم تعد صالحةً منذ عدّةِ سنواتٍ. وحاليّاً يجلب السكان الماء من الآبار المحفورة»(نيبور، 2013، 1/273).وعند مروره على «قرية حيدان، شاهد على طول الطريق، عدة آبارٍ محفورةٍ في الأرض»(نيبور، 2013، 1/289).
أما عن الينابيع فيذكر أنه «على مسافة قريبة من آب وجبلة نبعان، يجري أحدهما نحو الغرب في جداولَ صغيرةٍ عدةٍ، ليصبّ بعد الأمطار في الخليج العربي تحت اسم وادي زبيد. ويجري الآخر في الجنوب، ويطلق عليه اسم ميدام (Meidam)، وبعد تساقط الأمطار، يعظم ويصبّ أخيراً في البحر قرب لحج (Lahadsj) وعدن»(نيبور، 2013، 1/317).

- خزانات المياه:
تحدث نيبور أيضاً عن خزانات المياه ورصدها أثناء رحلته وذكر أنه «بما أن الأمطار لا تتساقط في هذ البلاد بغزارةٍ كافيةٍ لترويها كلها، نجد في أماكنَ مختلفةٍ خزاناتٍ كبيرةً ورائعةً من مختلف الأشكال بُنيت على سفوح التلال. ويصعب جمع مياه الأمطار من الجبال والتلال في الأماكن المنبسطة، لذا نرى آباراً عظيمة وضعت في أعلاها أحياناً ست بكرات الواحدة جنب الأخرى. وتستخدم في رفع المياه بقوة الذراع لري الحقول، ما جعل الزراعة مضنيةً ومكلفةً»(نيبور، 2013، 1/325).
«ونرى إلى شرق المدينة جبلاً شاهقاً يحمل اسم بعدان (Baadan)، تجر منه المياه في قناة يبلغ طولها 300 قدم إلى مسجد كبير ومنه إلى المساجد الأخرى وإلى منازل المدينة. وبما أن المسجد يقع في منخفضٍ، يضطر الأهالي إلى غرف المياه كما لو أنهم يستخرجونها من بئرٍ. وتم بناء سورٍ عالٍ قرب الخزان الكبير لهذه المياه، تعلوه بكرةٌ عليها حبلٌ غليظ ربط بأسفله دلوٌ من الجلد أو على الأصح قربةٌ واسعةٌ. ويعمل الرجال والحمير والثيران على نقل المياه حتى خزانٍ آخرَ فتفرغ فيه ثم توزع إلى أحياء المدينة المختلفة. ونجد هنا، كما في أماكن أخرى، في أعلى الآبار، في الريف، بكراتٍ عدّةً الواحدة منها جنب الأخرى، لكنها تحتاج إلى جهدٍ كبيرٍ مُضنٍ، وهي متعبةٌ أكثرَ من الآلات التي تعمل على المياه والتي تستخدم في بلاد أخرى من الشرق»(نيبور، 2013، 1/317). ويذكر أنه: «بعد مغادرتنا دوربات سرنا إلى بلدة سلامة رأينا على الطريق مقهًى آخرَ، وخزانيْن للمياه»(نيبور، 2013، 1/303).

1-  التجارة الداخليّة والخارجيّة:
يعد نيبور هو أول من أعطى الغرب وصفاً منظماً عن اليمن وهو أول من وصف تجارتها مع الدول الأخرى، وقدم وصفاً لذلك، وذكر أن الأمم الأوروبية التي تاجرت ولا زالت تتاجر مع اليمن -ومنها المخا-والتي تتمتع بامتيازاتٍ فيما يتعلق برسوم الدخول لا ينالها المسلمون، وإذا ما فكرت أمّةٌ أوروبيّةٌ أخرى بإرسال سفن إلى المنطقة، يسهل عليها نيل التسهيلات نفسها. وعند وصول سفينةٍ غريبةٍ إلى مرفأ المخا، لا ينبغي أن تُحيَّى بطلقةِ مدفعٍ إنما عليها رفع علمها، فيرسل صاحب الدولة مركباً للاستطلاع ولمعرفة سبب قدومها البلاد. وإذا ما تعرض القبطان لبعض المصاعب، عليه أن يكتفي بالقول أن هدفه هو الوصول إلى الحديدة وإلى مخية، وهذا ما لا يقبله صاحب الدولة بسهولةٍ، خوفاً من أن يفقد الهدايا التي يحملها مركبٌ كهذا، ورسوم الدخول التي يدفعها دائماً. لكن الدول التي لا تملك مراكز لها في الهند، لن تجني الكثير من التجارة في الخليج العربي، إذ إن البضائع الأوروبيّة التي يستخدمها العرب قليلةٌ»(نيبور، 2013، 1/351).
وأكّد على أنه «ينبغي أن يحمل الأوروبيون، الذين يتاجرون مع المخا، معهم بضائع من الهند، ولا يجدون ما يشترونه بالمقابل سوى البن الذي يمكنهم الحصول عليه بكلفةٍ أرخصَ مما لو أرسلوا سفينةً إلى الخليج لهذا الهدف فقط، وذلك من المراكب التي تحمله كي لا تعود إلى الهند فارغةً. ويتم استهلاك كميةٍ كبيرةٍ من الحديد في شبه الجزيرة العربية، كما ذكرت في (وصف شبه الجزيرة العربية)، ويشتريه الإنكليز من الدانمارك ثم ينقلونه إلى المخا وجدة، وبالتالي يمكن للدانماركيين ممارسة تجارةٍ مربحةٍ كتجارة الإنكليز مع مستعمراتهم وذلك عبر بيع حديد أوروبا، وشباك البنغال وبضائع هندية أخرى ينقلونها من ترنكبار إلى الخليج»(نيبور، 2013، 1/352).
كما تناول الحديث عن تجارة المدن اليمنية فقال على سبيل المثال عن تجارة المخا: «في المخا التجارة فيها لا يستهان بها، وتدر الكثير من الأموال على جمارك الإمام، ويضطر العرب والأتراك والهنود إلى نقل بضائعهم إلى المكتب مباشرةً، وإخضاعها للتفتيش، فضلاً عن دفع 8 إلى 10 بالمائة من قيمتها، وفقاً للنسبة التي يحلو للموظف أن يحدّدها. ولا يدفع الأوروبيّون سوى ثلاثة بالمائة من قيمة البضائع كلها التي ينقلونها من أوروبا والبنغال والصين إلى المخا، ويحق لهم نقل بضائعهم مباشرة إلى محالهم فيقوم الموظفون بتفتيشها هناك. ومنذ أن عظمت سلطة الإنكليز على شواطئ مالابار، وأخذ تجارهم يرسلون من بومباي وسورات إلى المخا البضائع على متن مراكبهم. بعد أن كانت المراكب الهندية تنقلها، أصبحوا يدفعون ثلاثة بالمائة كرسم لدخولها. لكن يضطر تجار المخا إلى دفع الثلاثة بالمائة المتبقية، وهكذا يحافظ العرب على اتفاقاتهم مع الأوروبيين، معززين بالوقت نفسه انتشار التجارة الإنكليزية. ويدفع الأوروبيون ثلاثة بالمائة على تصدير البن وعلى توضيبه، كما تضطر المراكب التي ترسو هنا إلى دفع رسم تبلغ قيمته بضع مئات الدراهم فضلاً عن رسوم الجمارك، ويراعي العرب في فرض هذا الرسم حجم المركب وعدد أشرعته فيدفع مركبٌ بثلاثة أشرعةٍ ضعف ما يدفعه مركب بشراعين وإلا كان بالحجم نفسه تقريباً. لكن يحصل التاجر الذي يحمّل هنا مركباً أوروبيّاً بالبن على مكافأة قيمتها 400 درهم من صاحب دولة المخا»(نيبور، 2013، 1/350).

- الأسواق اليمنية مركزاً للتجارة الداخليّة والخارجيّة:
انتشرت الأسواق في طول اليمن وعرضها بسبب أنها كانت الملتقى والمنفذ للتجارة الداخلية والخارجية على حدٍّ سواءٍ، وكانت المدن والأسواق الأسبوعيّة هي الأماكن التي تمارس فيها التجارة، فحتى التجارة الخارجيّة لم تكن تمارس عن طريق وكلاء لليمن في الخارج، بل كان التجار العرب والأجانب يأتون لشراء السلع اليمنيّة، في الأسواق اليمنيّة نفسها.
ولذا لا تكاد مدينةٌ أو قريةٌ يمر بها نيبور إلا ويذكر سوقها الشعبي مثال ذلك ذكره «محلة الشيخ المجاورة لربوع؛ وهي قريةٌ كبيرةٌ يقام فيها أسبوعيّاً سوقٌ كبيرٌ، يجتمع فيه التجار والحرفيون والعاطلون عن العمل من القرى المجاورة بهدف جني المال أو اللهو«(نيبور، 2013، 1/383)، وقرية سلام، «حيث يقام أسبوعيّاً سوقٌ شعبيٌّ»(نيبور، 2013، 1/383)، ويقام في مشعا، «سوقٌ شعبيٌّ مرةً في الأسبوع؛ وهي تمتاز بأكواخها الرديئة المصنوعة من الأنسجة المصلبة، والمغطاة بالقصب»(نيبور، 2013، 1/284)، و«يقام سوق شعبي في مصيل»(نيبور، 2013، 1/284)، وفي «بلدة ربي (Roba)، حيث تقام أسبوعيّاً سوقٌ شعبيّةٌ»(نيبور، 2013، 1/289)، و«بلدة عريش الواقعة على حدود المخا حيث يقام سوقٌ شعبيٌّ كل نهار أحد»(نيبور، 2013، 1/302)، و«بلدة البراش ((El Brach، حيث يقام أسبوعياً سوقٌ شعبيٌّ»(نيبور، 2013، 1/303).
ويقول أيضاً: و«شاهدنا قرية ربيع التي يقام فيها سوقٌ شعبيٌّ كلَّ أسبوعٍ»(نيبور، 2013، 1/303)؛ «أما عماقي كانت فيما مضى مدينةً صغيرةً لكنها تعرضت منذ سنواتٍ للدمار، فلم يبق فيها سوى بضعة منازل. ويقام فيها سوق أسبوعيّاً»(نيبور، 2013، 1/315) إلخ.
ويعطي نيبور وصفاً حيّاً للسوق اليمني فيقول عن الأسواق اليمنية عموماً وسوق صنعاء على وجه الخصوص ما يلي: «ونجد في صنعاء، كما في كافة المدن الكبرى التجارية في الشرق، نزلاً للتجار والمسافرين، فضلاً عن ساحاتٍ خاصّةٍ أو أسواقٍ يباع فيها الخشب، والفحم والحديد، والعنب والقمح والزبدة، والملح والخبز. ولا نرى في سوق الخبز سوى النساء، كما نجد في صنعاء سوقاً حيث يمكنك أن تستبدل ثيابك القديمة ثياباً جديدةً. ويملك البضائع تجار من الهند وبلاد فارس وتركيا، فضلاً عن أولئك الذين يبيعون التوابل على أنواعها، والأدوية، والذين يبيعون أوراق القات (Kaad)، والفواكه المجففة أو الطازجة من إجاصٍ ومشمشٍ ودراقٍ وتينٍإلخ، والنجارون، والحدادون، والإسكافيون، والخياطون، وصانعو السرج والحجارون، والصاغة، والحلاقون، والطباخون، ومجلِّدو الكتب، وحتى الكتاب الذين يخطون عريضةً للإمام لقاء بضعة قروشٍ أو لبعض الأعيان، فضلاً عن أنهم يعلمون الأولاد وينقلون الكتب، أماكنهم المحددة في محالهم الصغيرة المحمولة. أما خشب البناء فمرتفع الثمن في اليمن ولا يقل خشب التدفئة عنه غلاء في صنعاء لأن الجبال جرداء، فيتطلب نقل خشب التدفئة يومين إلى ثلاثة أيام ليصل إلى المدينة، وتبلغ كلفة حمل الجمل الواحد عادةً درهمين، لكن يتم التعويض عن نقص الخشب بالفحم الحجري. ورأيت الكثير من الخشب في تلك البلاد، لكنه سيّئٌ للغاية فيضطرون إلى خلطه بالقش ليؤججوا النار فيه. وتكثر الفواكه في صنعاء، إذ نجد في أسواقها أكثر من عشرين صنفاً من العنب، وبما أنها لا تنضج في وقتٍ واحدٍ، يمكننا أن نشتري عنباً جديداً خلال أشهرٍ عدّةٍ من السنة، كما يقوم بعض العرب وبعض الأتراك في الأناضول بتعليق عناقيد العنب في سقوف الأقبية، فتتوفر هذه الفاكهة اللذيذة على مدار السنة. ويعصر يهود المنطقة العنب لصنع النبيذ، ويمكنهم الحصول على كمياتٍ ضخمةٍ فيجعلون منها بالتالي تجارةً مربحةً شأنهم في ذلك شأن أرمن شيراز. لكن يبدو أن العرب كالفرس يكرهون المشروبات القوية، فيضطر اليهود إلى اتخاذ إجراءاتٍ عدّةٍ عندما يريدون تزويد البعض بالمشروبات في المدن الأخرى، إذ يعاقبون بشدّةٍ إذا ما تم العثور على النبيذ بحوزتهم وهم ينقلونه إلى أحد العرب. ويتم تجفيف الكثير من العنب لتصديره، ومن بينها عناقيد عنب بيضاء تبدو وكأنها من دون بزور، لكن نجد في داخلها بدل البزر القاسي حبوباً طرية لا نحس بها أثناء الأكل إنما يمكن رؤيتها عند قطع حبة العنب»(نيبور، 2013، 1/332).

- المواني اليمنيّة:
ازدهرت التجارة الخارجية عبر الموانئ اليمنية، ازدهاراً كبيراً، حتى أصبحت الضرائب، التي كانت تدفع على السلع اليمنية المصدرة، تشكل أهم مصدرٍ من مصادر إيرادات الإمام، كما أوردها نيبور حيث تحدث عن بعض مواني اليمن ومنها مرفأ لحية وهو أول موانئ الإمام من جهة الشمال فقال: «مرفأ مدينة لحية وهو المرفأ الأكثر إلى الجنوب في المناطق الخاضعة للإمام، لكن حالته سيئةٌ إذ إن المراكب الصغيرة التي تقصده تضطر للرسو على مسافة بعيدةٍ من المدينة، حيث الجزر فلا تستطيع القوارب الصغيرة الاقتراب منه. وتبقى التجارة الأولى في مدينة لحية هي البن الذي ينتزعون بزوره ويبيعونه. ولا يضاهي هذا البن جودة بن بيت الفقيه الذي يتم نقله عبر مخا والحديدة، وهو أرخص ثمناً، ولا تعتبر كلفة نقله إلى جدة عاليةً نظراً إلى أن المسافة التي تفصل المنطقتين ليست بكبيرة. ولهذا السبب، نجد تجاراً من القاهرة يقيمون في لحية ويشترون البن لأصحاب عملهم أو أصدقائهم في جدة، ومصر وتركيا، كما يقصد الكثير من أبناء القاهرة لحية سنويّاً لشراء البن لحسابهم الخاص»(نيبور، 2013، 1/256).
كما ذكر أن «مرفأ الحديدة أفضل من مرفأ مخية إلا أن السفن الكبيرة لا ترسو فيه. ويخضع صاحب دولة الحديدة إلى الإمام مباشرة إلا أن ولايته لا تمتد إلى خارج المدينة أما عائداته فيأخذها من الضرائب المفروضة على البن المصدر»(نيبور، 2013، 1/271).
كما ذكر أنه قد «ازدهر مرفأ مدينة الفقيه بسبب تدهور الحركة في مرفأ غلفقة»(نيبور، 2013، 1/266). وقد كان بيت الفقيه له موقع: «يعتبر استراتيجيّاً بالنسبة للتجارة فهي تبعد مسافة نصف يومٍ عن الجبال التي تنتج البن ومسافة يومٍ ونصفٍ عن مرفأ الحديدة ومسافة أربعة أيامٍ عن المخا وأربعة أيامٍ ونصفٍ عن مخية وستة أيامٍ عن صنعاء»(نيبور، 2013، 1/266).
أما ميناء المخا فهو أهم الموانئ اليمنية على الإطلاق. ومنه اكتسب البن اليمني اسمه العالمي مُكا. ويقع ضمن مملكة الإمام، وقال عنه نيبور: «نجد على طرفي مرفأ مدينة المخا قلعتين مماثلتين مزودتين ببعض المدافع. وتسمى الواقعة إلى الشمال قلعة الطيار(Kalla Teiar)، تيمناً بوليٍّ مسلمٍ دُفن في مكانٍ قريبٍ، وهي القلعة الأهم والأعظم، أما القلعة الأخرى فصغيرةٌ، ونظراً لأن ضريح أحد أولاد الشيخ الشاذلي قريبٌ منها حملت اسمه وهي قلعة عبد عرب (Kalla Abed Urrab)» (نيبور، 2013، 1/345).

-الصادرات اليمنيّة:
كان البن أهم سلعةٍ يمنيّةٍ تصدر إلى الخارج وأكد نيبور على أن «التجارة الأولى في هذه المدينة -يقصد لحية- هي البن»(نيبور، 2013، 1/256)وهو ما ينطبق على كل اليمن، وكان يتم تصدير أفضل أنواعه وهو البن الآتي من العدين والجبي وكسمة عبر موانئ المخا والحديدة ومخية وبيت الفقيه. وكان ميناء الحديدة يعتبر ميناء بيت الفقيه، فمنه يصدر البن الآتي من سوق بيت الفقيه، على ظهر السفن إلى جدة. كما كانت السفن العمانية تنقله إلى مسقط والبصرة وموانئ الخليج(نيبور، 2013، 1/272).
وفي بيت الفقيه تقوم أكبر تجارةٍ للبن على صعيد اليمن كلها وربما على صعيد العالم بأسره. تجتذب هذه التجارة إلى المدينة تجاراً من الحجاز ومصر وسوريا والقسطنطينيّة وفاس والمغرب والحبشة والساحل الشرقي في شبه الجزيرة العرب وبلاد فارس وبلاد الهند وحتى أوروبا. ومن سكان هذه المدينة هناك وثنيون من الهند وغالبية من الديو Diu. يتمتع هؤلاء بحريّة ممارسة دينهم علناً لكن يمنع عليهم حرق موتاهم وإحضار نسائهم معهم إلى اليمن، ومن هنا نجدهم يسرعون إلى العودة إلى بلادهم ما إن يجمعوا بعض المال. وفي أيامنا كان في المدينة أكثر من 120 من البانيان والراسبوت منهم التجار الأثرياء والحرفيون البارعون»(نيبور، 2013، 1/266).
وتبقى التجارة الأولى -كما سبق وذكرنا- في مدينة لحية هي البن الذي ينتزعون بزوره ويبيعونه. ولا يضاهي هذا البن جودة بن بيت الفقيه الذي يتم نقله عبر مخا والحديدة، وهو أرخص ثمناً، ولا تعتبر كلفة نقله إلى جدة عاليةً نظراً إلى أن المسافة التي تفصل المنطقتين ليست بكبيرةٍ. ولهذا السبب، نجد تجاراً من القاهرة يقيمون في لحية ويشترون البن لأصحاب عملهم أو أصدقائهم في جدة، ومصر وتركيا، كما يقصد الكثير من أبناء القاهرة لحية سنويّاً لشراء البن لحسابهم الخاص»(نيبور، 2013، 1/256).
ويذكر نيبور أنه «ينبغي أن يحمل الأوروبيون، الذين يتاجرون مع المخا، معهم بضائع من الهند، ولا يجدون ما يشترونه بالمقابل سوى البن الذي يمكنهم الحصول عليه بكلفةٍ أرخصَ مما لو أرسلوا سفينةً إلى الخليج لهذا الهدف فقط، وذلك من المراكب التي تحمله كي لا تعود إلى الهند فارغةً. ويتم استهلاك كميّةٍ كبيرةٍ من الحديد في شبه الجزيرة العربية، كما ذكرت في (وصف شبه الجزيرة العربية)، ويشتريه الإنكليز من الدانمارك ثم ينقلونه إلى المخا وجدة، وبالتالي يمكن للدانماركيين ممارسة تجارةٍ مربحةٍ كتجارة الإنكليز مع مستعمراتهم وذلك عبر بيع حديد أوروبا، وشباك البنغال وبضائعَ هنديّةٍ أخرى ينقلونها من ترنكبار إلى الخليج»(نيبور، 2013، 1/352).
ويتناول نيبور في رحلته الموانئ التي تستخدم للتصدير ومنها تصدير البن فيقول: «وتأكدنا من أن إنكليزاً من الهند سيصلون إلى المخا، وارتأينا أننا بحاجةٍ لعونهم لدخول البلاد، فقررنا التوجه إليها مباشرةً من جدة. وكنا لا نعرف لحية والحديدة وهما المرفآن الخاضعان لسيطرة الإمام، وجل ما كنا نعرفه أنه علينا اجتياز مسافةٍ كبيرةٍ برّاً للوصول إلى المخا، وهي مسافةٌ أقلقتنا لأن رأينا بعرب اليمن لم يكن أفضل من رأينا ببدو مصر والحجاز. وعلمنا أن الريس سيتوجه إلى الحديدة لتحميل كمية من البن لمسقط»(نيبور، 2013، 1/241)، «ورأينا خلال هذه الرحلة العديد من المراكب الصغيرة المحملة بالبن والقادمة من اليمن إلى جدة، ولم تكن هذه المراكب تنتقل في قوافل إنما منفردةً، ما يدل على أن العرب لا يخافون من غيرهم من العرب مثل الأتراك»(نيبور، 2013، 1/245).
كما «تضطر السفن، الآتية من اليمن، والمحملة بالبن، إلى دفع رسومٍ تبلغ قيمتها، إن لم أكن مخطئاً، بالة واحدةً لكل حمولةٍ، وتحصل بالمقابل على إيصالٍ. وفي طريق العودة، يسمح لها بالمرور، لكن إذا مارست، تلزم بدفع ريالين نقداً»(نيبور، 2013، 1/245).

-الواردات اليمنيّة:
كانت أهم السلع المستوردة تأتي إلى اليمن من الهند، وفي حديثه عن سوق صنعاء أشار إلى وجود «بضائعَ وتجارٍ من الهند وبلاد فارس وتركيا، فضلاً عن أولئك الذين يبيعون التوابل على أنواعها، والأدوية»(نيبور، 2013، 1/332).
أما السلع الأوروبيّة فقد ذكر أن اليمنيين لا يحتاجون إليها كثيراً، لهذا «فإن معظم ما يجلبه الأوروبيّون إلى المخا هو سلعٌ هنديّةٌ. والسلعة الأوروبيّة الوحيدة، المطلوبة كثيراً، هي الحديد، وأشار إلى أنه «يتم استهلاك كميةٍ كبيرةٍ من الحديد ويشتريه الإنكليز من الدانمارك ثم ينقلونه إلى المخا وجدة، وبالتالي يمكن للدانماركيين ممارسة تجارةٍ مربحةٍ كتجارة الإنكليز مع مستعمراتهم وذلك عبر بيع حديد أوروبا، وشباك البنغال وبضائعَ هنديةِ أخرى ينقلونها من ترنكبار إلى الخليج»(نيبور، 2013، 1/351).
كما تناول نيبور نظام تسديد أثمان البضائع الأجنبية المستوردة، فذكر أن «يدفع تجار مخا ما يتوجب عليهم على ثلاثِ دفعاتٍ في السنة، تتراوح مهلة كل دفعةٍ حوالي 100 يومٍ، الأولى من 17 أيلول/ سبتمبر إلى 23 ك 1/ ديسمبر، الثانية من 23 ك1/ ديسمبر حتى 2 نيسان/ إبريل، والثالثة من 3 نيسان/ إبريل وحتى 10 تموز/ يوليو، وينبغي أن يدفع ثمن البضائع التي تشترى خلال هذه الفترة، واستناداً إلى تلك القوانين، قبل انتهاء المهلة المحددة»(نيبور، 2013، 1/351).
لقد قدم لنا نيبور صورةً حيةً للاقتصاد اليمني من واقعٍ معيشٍ وشهادةَ عيانٍ فرصد لنا الحرف والصناعات اليمنيّة، وكذلك المحاصيل الزراعيّة المختلفة، وكذلك أنظمة الري، كما تناول التجارة الداخلية والخارجية والأسواق اليمنية والموانئ والصادرات والواردات، ما يُعَدُّ بحقٍّ سِجِلّاً حيّاً لشواهد الجغرافيا وحقائق التاريخ.

الخاتمة وأبرز النتائج:
 تعتبر رحلة نيبور أولَ رحلةٍ أوروبيّةٍ إلى اليمن، خطط لها صاحبُها تخطيطاً علميّاً منهجيّاً من ناحية، وأوّلَ رحلةٍ ذاتِ نتائجَ علميّةٍ حقيقيّةٍ، من ناحيةٍ أخرى. فقد شملت حصيلتها مجالاتٍ عديدةً، كان منها ما يدخل في نطاق الجغرافيا التاريخيّة. ولا زالت الرحلة دليلاً ومرشداً للباحثين، والدارسين لمزيدٍ من الدراسات في عدّةِ مجالاتٍ. فقد كان نيبور قويَّ الملاحظة، وكانت أبحاثه في الجغرافيا التاريخية الأولى من نوعها حتى عدَّه المستشرقون الأوربيون المؤسس الأول للبحوث العلمية والجغرافية عن بلاد العرب، وكان يفند المعلومات التي يحصل عليها، ويمحص كل ما يثبت من حقائقَ. وكان يلقي السؤال الواحد على عدّةِ أشخاصٍ من مختلف المستويات ليتأكد من صحة الجواب. ولهذا جاءت كتابته ممتازةً في نوعيتها دقيقةً في أخبارها. فلا عجب أن كان أشهر من كتب عن الجزيرة العربية في القرن الثامن عشر، وفتح باب الرحلة العلمية الأصلية لمن جاء من بعده من الرحالة.

وخرجت الدراسة بعددٍ من النتائج منها:
1- أكدت الدراسة أن نيبور من الرحالة الذين اعتمدوا على شهادة العيان، وكذلك شهود العيان لمرحلةٍ هامّةٍ من التاريخ والجغرافيا اليمنية، ولذا يرى البعض أن المعرفة العلمية في أوروبا، بالبلاد العربية، قد بدأت مع نيبور، فقد شملت أعماله حقولاً معرفيةً شتى، كان من أهمها الجغرافيا التاريخية، ما جعل نيبور يحتل مكانةً بارزةً في إطار الدراسات العربية الحديثة.
2- تميّزت معلومات نيبور بالدقة قدر استطاعته فخرج لنا بمعلوماتٍ قيمةٍ تستحق التسجيل والدراسة.
3- استطاع نيبور تسجيل وصفٍ للمدن اليمنية وموقعها مازجاً بين الجغرافيا الاقتصادية والتاريخ.
4- على الرغم من اهتمام نيبور بالمدن الرئيسة الكبرى باليمن، إلا أنه لم يهمل ذكر مواقع المدن والقرى الصغيرة.
5- بجانب تحديده لموقع المدن يقوم أيضاً بوصفٍ وعرضٍ لقلاع المدن. كما يذكر أحيانا القلاع ويحدّد أهميّة واحدةٍ دون الأخرى معللاً ذلك.
6- رصد نيبور صعود واندثار المدن من الصعود إلى التلاشي ويعدّد لنا أسباب ذلك ويفسره ثم يذكر المدينة التي حلت محلها من حيث الأهمية وأسباب ذلك أيضاً.
7- نجد نيبور عندما يسجل ملاحظاته عن المنازل يشير إلى اختلاف في المساكن ما بين المدن والجبال.
8- قدمت رحلة نيبور العديد من المعلومات التي يمكن إدراجها ضمن الجغرافيا الاقتصاديّة حيث تناول الحرف والصناعات اليمنيّة والمحاصيل الزراعيّة وأنظمة الري وكذلك التجارة الداخليّة والخارجية.

توصيات الدراسة:
خرجت الدراسة بعدةِ توصياتٍ وهي:
1- ضرورة قيام دراسات وأبحاث عن رحلة نيبور، فهي تحتاج لعدّةِ دراساتٍ أخرى منها: الحياة السياسية في اليمن من خلال الرحلة، والنظام الإداري هناك في تلك الفترة.
2- يمكن إنجاز دراسةٍ حول الحياة الاجتماعية والدينية والثقافية في اليمن خلال تلك الفترة أيضاً وكذلك دراسة الأقليات السكانية هناك.
3- التوصية بضرورة تكليف طلبة الماجستير والدكتوراه بإنجاز رسائلَ علميّةٍ تدور حول تلك الأفكار.
4- تخصيص أحد المؤتمرات القادمة لموضوع الجغرافيا التاريخيّة في كتابات الرحالة الأجانب إلى البلاد.

قائمة المصادر والمراجع
 أولاً: المراجع العربيّة والمعربة:
1- فهيم، حسين محمد(1989): أدب الرحلات، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، 1989م.
2- نيبور، كارستن (2013): رحلةٌ إلى شبه الجزيرة العربيّة وإلى بلاد أخرى مجاورة لها، دار الانتشار العربي، بيروت.

ثانياً: المراجع الأجنبية:
2-Baack، Lawrence(2014): Undying curiosity. Carsten Niebuhr and the Royal Danish Expedition to Arabia (1761-1767). Stuttgart.
3-Kramer،Samuel Noah(1963): The Sumerians: Their History، Culture and Character. University of Chicago Press.
4-Hopkins، I.W(1967): The maps of Carsten Niebuhr: 200 years after، The Cartographic Journal 4.
5-Rasmussen، Stig(1990): Den Arabiske Rejse 1761-1767. En dansk ekspedition set i verdenskabshistorisk perspektiv. Copenhagen.
6-Hansen، Thorkild(1965). Reise nach Arabien. Die Geschichte der Königlich Dänischen Jemen-Expedition 1761-1767 Hamburg، Hoffmann und Campe Verlag.
7-Vermeulen، Han (2016).، ‘Anthropology and the Orient: C. Niebuhr and the Danish- German Arabia Expedition. In: Han F. Vermeulen: Before Boas. the genesis of ethnography and ethnology in the German Enlightenment. Lincoln & London، University of Nebraska Press.