البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

الاستشراق والاستمزاغ والاستعراب والاستغراب (مقـــاربة مفاهيمية)

الباحث :  د. جميل حمداوي
اسم المجلة :  دراسات استشراقية
العدد :  19
السنة :  السنة الخامسة - صيف 2019م / 1440هـ
تاريخ إضافة البحث :  August / 31 / 2019
عدد زيارات البحث :  5977
تحميل  ( 1.501 MB )
المقدمة:
ثمة مجموعةٌ من المفاهيم والمصطلحات والدوالّ الشائكة والصعبة في حقل الفكر الإنساني والنقد الأدبي والأدب المقارن التي ينبغي التوقّف عندها لفهمها ودراستها ومناقشتها وتفسيرها نظراً لأهميتها في تفكيك النصوص وتحليلها وتركيبها. ومن بين أهم هذه المصطلحات الاستشراق (Orientalisme)، والاستعراب (Arabisme)، والاستمزاغ (Berbérisme)، والاستغراب (Occidentalisme).
ومن هنا، آثرنا أن نتمثّل المقاربة المفاهيمية بغية استكشاف مكونات هذه الدوالّ، ورصد سماتها البنيوية والدلالية والوظيفية.
إذاً، ما دلالات الاستشراق والاستمزاغ والاستعراب والاستغراب؟ وما سياقاتها الفكرية والإبستمولوجية؟ وما مقوماتها ومرتكزاتها النظرية والتطبيقية؟ وما مجالات استعمالها؟ وما خلفياتها العلمية والإيديولوجية والفكرية؟
هذا ما سوف نتوقف عنده في موضوعنا هذا في ضوء المقاربة المفاهيمية حتى نستكمل بناء معرفةٍ شاملةٍ مفصّلةٍ ووافيةٍ حول هذه المفاهيم الأربعة في مختلف تجلياتها الظاهرة والباطنة.

المبحث الأول: مفهوم الاستشراق
يعني الاستشراق (Orientalism/Orientalisme/Orientalismo) دراسة الشرق أو المشرق.. ومِن ثَمّ، فالاستشراق عبارةٌ عن حركةٍ أدبيةٍ وفنيةٍ مولَعةٍ بسحر الشرق، ظهرت في الغرب إبان القرن التاسع عشر الميلادي. وقد ارتبط الاستشراق بالبحث عن الغرابة والنبالة، والتشبع بالقيم البورجوازية، والانسياق وراء العوالم الشرقية العجيبة والغريبة، والرغبة في الانصهار في الحياةالتي عبّرت عنها نصوص ألف ليلٍة وليلةٍ، والتعطش إلى جمال الصحراء ولوحاتها الفنية المتميزة، والانتشاء بزرابيّ فارس، والإعجاب برجولة الإنسان الشرقي وفروسيته وشجاعته وكرمه، والتغنّي بجواري القصور والمجالس، والبحث عن أسرار حريم السلاطين، والرغبة العارمة في في الاطلاع على نوادي الموسيقى والغناء والشعر والأدب التي انتشرت كثيرًا في الشرق العربي الإسلامي، والانجذاب وراء اللوحات التشكيلية التي تتغنى بسحر الشرق وجماله المعتق، والانبهار بالحضارة الشرقية في مختلف تجلياتها ومجالاتها وميادينها المتنوعة والمختلفة.
ومن ثم، فالاستشراق هو دراسة الغرب للشرق بغية فهمه وتفسير أحواله، والاهتمام بمعارفه وعلومه وحضارته، وخدمة تراثه لجعله رافعةً لانطلاق الغرب وتقدّمه وازدهاره. ولا يعني الشرق -هنا- الشرق العربي والإسلامي فحسب، بل يندرج ضمنه ما يُسمّى بشمال إفريقيا الذي كان تابعا للدولة العثمانية. وقد كان الاستشراق في بدايته استشراقًا كولونياليًّا استعماريًّا الغرض منه دراسة الشرق تمهيدًا لاستعماره، وتغريبه في العادات والتقاليد والأعراف، وتنصيره دينيًّا وعَقَديًّا، واستغلال ثرواته الطبيعية، وإذلال الإنسان العربي والمسلم.
ويعرف المفكر الألماني رودي بارت الاستشراق بقوله:» كلمة الاستشراق مشتقةٌ من كلمة شرق، وكلمة شرق تعني مشرق الشمس، وعلى هذا يكون الاستشراق هو علم الشرق، أو علم العالم الشرقي.»[1]
وعلى الرغم من أن لفظة الشرق فضفاضةٌ من الصعب تحديدها؛ لأنّ ثمة أنواعًا مختلفةً من الشرق، فهناك الشرق الأدنى، والشرق الأقصى، والشرق الأوسط، وشمال إفريقيا الذي يقع في الغرب. لذا، فمن الصعب تعريف الاستشراق بدقةٍ وافيةٍ. ومن ثَمّ، فالاستشراق هو تخصُّص العلماء الغربيين في الدراسات الشرقية على اختلاف مجالها.
أما المستشرق (Orientaliste)، فهو الذي أتقن لغات الشرق،وأعد شهاداتٍ عليا في موضوعٍ من المواضيع التي تتعلق بالشرق، وانكبّ على معالجة الظواهر والقضايا التي أفرزها هذا الشرق بغية فهمه وتفسير أحواله وتأويلها. وبمعنًى آخرَ، تشتق لفظة المستشرق من طلب دراسة الشرق. ومن ثَمّ، فالمستشرقون «هم الذين يتعلّمون لغة الشرق، ويَدرسون علومه وحضارته، ليكون لهم علمٌ تامٌّ بأحواله الاجتماعية والسياسية والعقلية، يطلبون بذلك أن يندمجوا فيه كل الاندماج، ليكون فهمهم له، وحديثهم عنه، وحكمهم عليه، خاليًا من التخيُّل، بعيدًا عن التوهّم، أو بمنأًى عن التزيُّد، والمبالغة.[2]»
ومن هنا، فالمستشرقون هم جماعةٌ من العلماء والباحثين والدارسين والمفكّرين الغربيين الذين تخصّصوا في لغات الشرق وعلومه وفكره، وأغلب هؤلاء المستشرقين من رجال الدين، سواءً أكانوا رهبانًا، أم يهودًا، أم ملحدين، أم مسيحيين كاثوليك، أم بروتستانتيين، أم أرثودوكسً[3]... وبهذا، تكون دوافع الاستشراق استعماريةً دينيةً، قبل أن تكون دوافعَ علميةً وفكريةً وبحثيةً.
وثمة عدة أسبابٍ ودوافعَ أساسيةٍ كانت وراء بروز حركة الاستشراق في البلدان الغربية من أهمها الدوافع الدينية، والحركة الصليبية، والإصلاح الديني، والرغبة في فهم الشرق بصفةٍ عامّةٍ، وفهم الإسلام والمسلمين وحضارتهم بصفةٍ خاصّةٍ. ناهيك عمّا يرتبط بالتّبشير والتّنصير، وما يتعلّق بخدمة الاستعمار بغية السيطرة والهيمنة على العالم الإسلامي، علاوةً على الأهداف السياسية والدبلوماسية والاقتصادية والمجتمعية والعلمية، وما يرتبط بالعوامل الشخصية والاقتناعات الذاتية التي تتمثّل في «أسبابٍ شخصيةٍ مِزاجيةٍ عند بعض الناس الذين تهيّأ لهم الفراغ والمال واتخذوا الاستشراق وسيلةً لإشباع رغباتهم الخاصة في السّفر أو في الاطّلاع على ثقافات العالم القديم، ويبدو أنّ فريقًا من النّاس دخلوا ميدان الاستشراق من باب البحث عن الرزق عندما ضاقت بهم سبل العيش العادية، أو دخلوه هاربين عندما قعدت بهم إمكانياتهم الفكرية عن الوصول إلى مستوى العلماء في العلوم الأخرى، أو دخلوه تخلُّصا من مسؤولياتهم الدينية المباشرة في مجتمعاتهم المسيحية. أقبل هؤلاء على الاستشراق تبرئةً لذمتهم الدينية أمام إخوانهم في الدين، وتغطيةً لعجزهم الفكري، وأخيرًا بحثًا عن لقمة العيش؛ إذ إنّ التنافس في هذا المجال أقلُّ منه في غيره من أبواب الرزق.»[4]
وعلى الرغم من هذه الدوافع العديدة، تظلّ الأهداف الدينية هي الأساس، فالمستشرقون هم جماعةٌ من العلماء والباحثين والدارسين والمفكرين الغربيين الذين تخصصوا في لغات الشرق وعلومه وفكره، وأغلب هؤلاء المستشرقين من رجال الدين، سواءً أكانوا رهبانًا، أم يهودًا، أم ملحدين، أم مسيحيين كاثوليك، أم بروتستانتيين، أم أرثودوكس...[5]
ويُعدُّ المستشرقون اليهود -الذين يحملون جنسياتٍ غربيةً متعددةً ومتنوعةً ومختلفةً- أكثرَ خطورةً في ميدان الاستشراق؛ لأنهم انطلقوا من أهدافٍ دينيةٍ وعقديةٍ مَحْضةٍ لتشويه الإسلام والمسلمين، والتشكيك في معتقداتهم الدينية، والحطّ من حضارتهم الزاهية. وكانت النزعة الصهيونية واضحةً وجليةً في كتاباتهم العدوانية تجاه الإسلام بصفةً خاصّةً. وفي هذا الصدد، يقول المفكر المصري محمد البهي: «وهناك ملاحظةٌ لبعض الباحثين تتعلّق بالمستشرقين اليهود خاصّةً. فالظاهر أنّ هؤلاء أقبلوا على الاستشراق لأسبابٍ دينيةٍ، وهي محاولة إضعاف الإسلام والتشكيك في قيمه بإثبات فضل اليهودية على الإسلام بادعاء أن اليهودية، في نظرهم، هي مصدر الإسلام الأول، ولأسبابٍ سياسيةٍ تتّصل بخدمة الصهيونية: فكرةً أولا ثم دولةً ثانيًا، هذه وجهة نظرٍ ربما لا تجد مرجعًا مكتوبًا يؤيدها غير أنّ الظروف العامة، والظواهر المترادفة في كتابات هؤلاء المستشرقين تعزّز وجهة النظر هذه، وتخلع عليها بعض خصائص الاستنتاج العلمي.»[6]
إذًا، فالسبب الرئيس المباشر الذي دعا الأروبيين إلى الاستشراق هو سببٌ دينيٌّ محضٌ؛ «فلقد تركت الحرب الصليبية في نفوس الأروبيين ما تركت من آثارٍ مُرّةٍ عميقةٍ. وجاءت حركة الإصلاح الديني المسيحي فشعر المسيحيون: بروتستانت وكاثوليك، بحاجاٍت ضاغطةٍ لإعادة النظر في شروح كتبهم الدينية، ولمحاولة تفهُّمها على أساس التطوّرات الجديدة التي تمخّضت عنها حركة الإصلاح، ومن هنا اتجهوا إلى الدراسات العبرانية. وهذه أدت بهم إلى الدراسات العربية فالإسلامية؛ لأن الأخيرة كانت ضروريةً لفهم الأولى، وخاصّةً ما كان منها متعلِّقًا بالجانب اللُّغوي. وبمرور الزمن اتّسع نطاق الدراسات الاستشراقية حتى شملت أديانًا ولغاتٍ وثقافاتٍ غيرِ الإسلام وغيرِ العربية.»[7]
ومن جهةٍ أخرى، فلقد كان التبشير والتنصير من أهم العوامل الأخرى التي دفعت الباحثين الغربيين للاهتمام بالشرق. «فلقد رغب المسيحيون في التبشير بدينهم بين المسلمين فأقبلوا على الاستشراق ليتسنّى لهم تجهيز الدعاة وإرسالهم للعالم الإسلامي. والتقت مصلحة المُبشّرين مع أهداف الاستعمار فمكّن لهم واعتمد عليهم في بسط نفوذه في الشّرق. وأقنع المبشّرون زعماءَ الاستعمار أنّ المسيحية ستكون قاعدة الاستعمار الغربي في الشرق. وبذلك سهّل الاستعمارُ للمبشرين مهمّتهم وبسط عليهم حمايته، وزوّدهم بالمال والسلطان، وهذ هو السبب في أنّ الاستشراق قام في أوّل أمره على أكتاف المبشّرين والرّهبان ثم اتّصل بالاستعمار.»[8]
وبهذا، تكون دوافعُ الاستشراق دينيةً تبشيريةً وتنصيريّةً واستعماريّةً، قبل أن تكون دوافعَ علميّةً وفكريّةً وبحثيّةً. وفي هذا، يقول محمد البهي: «ينطوي عمل الدارسين للإسلام من المستشرقين على نزعتين رئيسيتين:
النزعة الأولى: تمكين الاستعمار الغربي في البلاد الإسلامية، وتمهيد النفوس بين سكّان هذه البلاد لقبول النفوذ الأوروبي والرضا بولايته.
النزعة الثانية: الروح الصليبية في دراسة الإسلام، تلك النزعة التي لبست ثوب البحث العلمي، وخدمة الغاية الإنسانية المشتركة.»[9]
ومن جهةٍ أخرى، يمكن الحديث عن أنواع من الاستشراق على النحو التالي:
الاستشراق الكلاسيكي الذي ارتبط بالعصور الوسطى، وبزوغ النهضة الأوروبية، واكتشاف سحر الشرق مع الرحلات الأوروبية، والاهتمام بالكشوف الجغرافية التي استهدفت الانفتاح على طرق الحرير والتوابل. ومن جهةٍ أخرى، ارتبط ارتباطًا وثيقًا بالحروب الصليبية التي كان الهدف منها هو تحرير فلسطين المسيحية، وطرد المسلمين منها.
 الاستشراق الحديث هو الذي تشكلت معالمه الأولى في القرن التاسع عشر الميلادي، وكان الغرض منه فهم الشرق، ولا سيما العربي والإسلامي منه، بغية الاهتمام بتراثه وحضارته وعلومه، ودراسته وفق مناهج العلم الحديثة.
الاستشراق الجديد هو الذي يدرس القضايا المعاصرة الراهنة، ولا سيما علاقة الغرب بالشرق، والحديث عن الصراع العربي الإسرائيلي، أو الصراع العربي الغربي، أو التنافس الأمريكي والصيني، والاهتمام بقضايا التطرف، والإرهاب، والأصوليّة، والاستعمار الجديد، والحديث عن صراع الأديان وفلسفة القيم الكونية... كما يظهر ذلك جيدًا عند كلٍّ من الأمريكي برنارد لويس، والأمريكي صمويل هنتنغتون، والبريطاني فيديار سوراجبراساد نيبول، والإسبانية ماريا مينوكال (Marيa Rosa Menocal)، في كتابها (زينة العالم: كيف صنع المسلمون واليهود والمسيحيون ثقافة التسامح في إسبانيا العصر الوسيط)»[10]...
ومن ناحيةٍ أخرى، يمكن الحديث عن استشراق مُعادٍ للإسلام والمسلمين، كما يتّضح ذلك بَيِّنًا عند إرنست رينان، وكازانوفا، وكارل بروكلمان، وإينياس غولدتزيهر، وغوستاف فون غرونباوم، وهنري لامانس...
بيد أنّ هناك استشراقًا علميًّا موضوعيًّا كان الغرض منه دراسة حضارة الشرق دراسةً موضوعيةً، باتّباع مناهج العلم المحايدة، وإنصاف الإسلام، وتسفيه أحكام الغرب الباطلة تجاه الإسلام والمسلمين. وقد اعترف هذا الاستشراق بحضارة المسلمين، واعتبروها حضارةً شرعيةً بامتيازٍ، ساهمت في بناء الحضارة الغربية المادية، كما نجد ذلك واضحًا عند المستشرقة الألمانية فيزيغريد هونكهفي كتابها (شمس العرب تسطع على الغرب)[11].
ومن المدافعين عن الإسلام وحضارته البلجيكي جورج سارتون، والفرنسي  إميل درمنجم، والبريطاني ويلفريد بلنت، والفرنسي هنري دي كاستري، والمستشرقة الإيطالية لورا فينشيا فاليري، والمستشرقة الإيطالية فالريا بوروخا، والفرنسي موريس بوكاي، والشاعر الألماني غوته، والألماني روديت باريت، والألمانية أنّا-ماري شميل، والإنجليزي توماس كارلايل، والأمريكي واشنطن إرفنغ، والشاعر الفرنسي لامارتين، والفرنسي روجيه غارودي، والمستشرقة الأمريكية مارغريت ماركوس، والألماني  مراد هوفمان، والمهندس البريطاني اللورد هدلي، والفيلسوف الفرنسي رينيه غينون الذي لُقِّب بعبد الواحد يحيى، والفرنسي روبيرت بيرجوزيف، والإنجليزيمحمد مارماديوك باكتال، والمستشرق الأمريكي البروفيسور خالد بلانكين شيب، والصحفية الهولندية ناصرة زهرمان، والفرنسي إدوار بروي، والفرنسي  مارسيل بوازار، وهنري بولانفلييه، والفرنسي روني بلاشير، وكارا دي فو، والفرنسي فولتير...
وثمة مستشرقون اعتنقوا الإسلام كالمستشرق الفرنسي روجيه غارودي، والمستشرق الفرنسي ميشو بللر الذي درس حضارة المغرب ومجتمعه، والسويسري جوهن لويس بوركهارت، والألماني فريتس كرنكوف، والمجري عبد الكريم جرمانوس...
وهكذا، يتبين لنا أن الاستشراق الموضوعي قد قدم خدمات جليلة للحضارة العربية الإسلامية، بتحقيق نصوصها ومخطوطاتها ونشرها من جهةٍ أولى، ودراستها وتحليلها وفهمها وتأويلها من جهةٍ ثانيةٍ، والتعريف بأعلامها وفكرها وثقافتها وعلومها من جهةٍ ثالثةٍ. في حين، هناك استشراقٌ استعماريٌّ وكنسيٌّ وعنصريٌّ وعرقيٌّ غيرُ علميٍُ أساء إلى المسلمين وحضارتهم جملةً وتفصيلًا.
وفي ما يخص المناهج، فلقد دَرَس المستشرقون الغربيون، ومن تَبِعهم من العلماء المسلمين، التراث العربي الإسلامي وفق الرؤية الغربية القائمة على التمركز والهيمنة والاستعلاء، وتطبيق المناهج العلمية المادية، واستخدام النظرة التجزيئية، والانطلاق من المعتقدات المسيحية الملحدة، وتشكيك المسلمين في تراثهم بتوظيف المناهج العلمية الحديثة والمعاصرة. ومن ثَمّ، تتأرجح قراءتهم للتراث بين الذاتيّ والموضوعيّ.
وتمتاز النظرة الاستشراقية، في تدريس التراث العربي الإسلامي، بتكريس النزعة الاستعمارية، ومعاداة العقلية السّاميّة، والغض من قيمتها على المستوى المعرفي والعلمي، وترجيح كفة العقلية الآرية. ويتجلى هذا واضحًا في عدم اعتراف بعض المستشرقين بالفلسفة الإسلامية، والانتقاص من علم الكلام والتصوف الإسلامي؛ لأنّ العقلية السَّامِيّة غيرُ قادرةٍ على التجريد والتركيب، وبناء الأنساق الفلسفية الكبرى وجودا ومعرفةً وأخلاقًا، كما يذهب إلى ذلك المستشرق الألماني رينان.
ومن جهةٍ أخرى، تمسك المستشرقون الغربيون، منذ القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، بالدفاع عن المركزية الأوروبية باعتبارها نموذجًا للمعرفة والعلم والحقيقة. وقد انطلق هؤلاء الدارسون من مناهجَ فيلولوجيةٍ، أو مناهجَ تاريخيةٍ، أو مناهجَ ذاتيةٍ. ويعني هذا أن المستشرق، صاحب المنهج التاريخي، «يفكر شموليًّا في الفلسفة الإسلامية لا بوصفها جزءًا من كيانٍ ثقافيٍّ عامٍّ، هو الثقافة العربية الإسلامية، بل بوصفها امتدادًا منحرفًا أو مشوَّهًا للفلسفة اليونانية. وبالمثل، يفكّر في النحو العربي ومدارسه، يوجّهه هاجس ربطها بمدارس النحو اليونانية في الإسكندرية أو برغام وبيان تأثّرها بالمنطق الأرسطي، كما لا يتردد في ربط الفقه الإسلامي، نوعًا من الربط، بالقانون الروماني وما خلّفه في المنطقة العربية من آثارٍ وأعرافٍ»[12].
كما تعكس دراسات الباحثين العرب ذاتُ الطابع الاستشراقي والتغريبي مدى التبعية الثقافيةوالفكرية للغرب. ومِنْ ثَمّ، تعتمد هذه الصورة على الفهم الخارجي لمفهوم التراث. وفي هذا الصدد، يقول محمد عابد الجابري: «فالصورة العصرية الاستشراقوية الرائجة في الساحة الفكرية العربية الراهنة عن التراث العربي الإسلامي، سواءً منها ما كتب بأقلام المستشرقين أو ما صُنّف بأقلامٍ من سار على نهجهم من الباحثين والكتاب العرب، صورة تابعة.إنها تعكس مظهرًا من مظاهر التبعية الثقافية، على الأقلّ على صعيد المنهج والرؤية.»[13]
أما المستشرق الفيلولوجي الغربي، فيبحث عن جذور جينيالوجية (البحث عن الأصول) للثقافة العربية الإسلامية، فيُعيدها إلى مصادر يونانية أو هندوأوروبية. ويعني هذا أنّ «المستشرق المغرم بالتحليل الفيلولوجي، فهو عندما يتجه إلى الثقافة العربية الإسلامية، بنظرته التجزيئية، لا يعمل على ردّ فروعها وعناصرها إلى جذورٍ وأصولٍ تقع داخلها، أو على الأقلّ مقروءةٍ بتوجيه من همومها الخاصة، بل هو يجتهد كلَّ الاجتهاد في ردّ تلك الفروع والعناصر إلى أصولٍ يونانيةٍ، أو عندما تعوزه الحجة إلى أصول هندوأوروبيةٍ، الشيء الذي يعني المساهمة، ولو بطريقةٍ غيرِ مباشرةٍ، في العملية نفسها، عملية خدمة «النهر الخالد»، نهر الفكر الأوروبي الذي نبع أوَلَّ مرةٍ من بلاد اليونان»[14].
أما المستشرق الذي يستخدم المنهج الذاتوي في دراساته وأبحاثه، فيميل إلى شخصياٍت معينةٍ، فيتعاطف معها دفاعًا ومناصرةً ومآزرةً، من دون أن يُدليَ في ذلك بحججٍ موضوعيةٍ تُرجِّح وجهة نظره الصائبة، وتُقنعنا بأطروحتهالفكرية، أو تصوراته الحِجاجيّة. وفي هذا السياق، يقول محمد عابد الجابري: «أما المستشرق صاحب المنهج الذاتوي فإنه، على الرغم من تعاطفه مع بعض الشخصيات الإسلامية، كتعاطف ماسينيون مع الحلّاج، أو هنري كوربان مع السُّهروردي، فإنّه يبقى مع ذلك مُوجَّهًا من داخل إطاره المرجعي الأصلي، إطار المركزية الأوروبية، مشدودًا إليه، غيرَ قادرٍ ولا راغبٍ في الخروج عنه، أو القطيعة معه. إنّه يتمرد على حاضره الأوروبي، يتمسّك بماضيه، فيعيشه رومانسيًّا عبر تجربة هذه الشخصية أو تلك من الشخصيات الروحانية في الثقافة العربية الإسلامية. وقد يذهب إلى أبعدَ من هذا فيطالب، من خلال تلك التجربة، استعادة روحانية الغرب مما لدى الشرق.»[15]
ويعني هذا أنّ المستشرق الغربي حينما يطبّق المنهج الذاتويّ في تعامله مع التراث العربي الإسلامي، فإنّه ينطلق في ذلك من رؤيةٍ رومانسيّةٍ حالمةٍ قائمةٍ على الانبهار بسحر الشرق، والاندهاش بعجائبه الخارقة، كما تتعشعش في مخيلته الإثنوغرافية أو الفانطاستيكية.
وخلاصة القول، فللاستشراق إيجابياتٌ عديدةٌ لا يمكن إغفالها في ميدان البحث العلميّ الأكاديميّ، وله سلبياتٌ كثيرةٌ ينبغي التوقّف عندها لدحضها وردّها بشكلٍ علميٍّ مقنِعٍ.
وتتحدّد سلبيات الاستشراق الغربيّ في كونه استشراقًا براغماتيًّا مَنفِعيًّا، هدفه الأساس هو العدوان على الشعوب الآمنة التي لا تريد حروبًا، ولا معاركَ، ولا صراعاتٍ طاحنةً. ويعني هذا أنّ الاستشراق الغربّي كان في خدمة الاستعمار من جهةٍ، ودعم الرأسماليّة المتوحّشة من جهةٍ أخرى. لذا، اتخذ الاستشراق صبغةً ماديّةً ابتزازيّةً وارتزاقيّةً بحتةً.
وأكثر من هذا فلقد كان الهدفُ الدينيُّ الغرضَ الرئيس للاستشراق الغربي بصفةٍ عامةٍ، والاستشراقُ اليهوديُّ الصهيونيُّ بصفةٍ خاصّةٍ، بتشويه الإسلام والمسلمين، والحطّ من الحضارة العربية الإسلامية، وتشكيك المسلمين في عقيدتهم الربانية، ومحاولة طمسها في نفوس الشباب، باستخدام شتّى الطرائق اللعينة لصدّ هؤلاء عن دين الإسلام، وجرّهم إلى المسيحية تبشيرًا وتنصيرًا. ومن ثَمّ، فلقد كان الاستشراق، في عمومه،ذاتيًّا متحيِّزًا يميل إلى الأهواء والأمزجة الشخصية، ولم يكن استشراقًا علميًّا أكاديميًّا موضوعيًّا هدفه البحث من أجل البحث، مع استثناءاتٍ قليلةٍ جدًّا.
إذاً، من سلبيات الاستشراق نزوعه إلى خدمة أغراضٍ دينيةٍ دنيئةٍ، وخدمة الاستعمار الرأسمالي أو الاشتراكي، والاهتمام بالتبشير والتنصير على حدٍّ سواءٍ، والدفاع عن الحركة الصهيونية، والهيمنة على الشعوب الضعيفة، وإشعال الفتن والمعارك والحروب بين المسلمين، وتغريب الشعوب العربية والإسلامية على مستوى الأعراف والعادات والتقاليد والموضات والمناهج والأفكار والسياسات الداخلية والخارجية.
علاوةً على ذلك، فلقد كان المستشرقون الغربيون يفضّلون دائما المنتج الغربي على المنتج العربي الإسلامي بطريقةٍ متحيِّزةٍ واضحةٍلإشعار المسلمين بضعفهم على جميع الأصعدة والمستويات، وتفوّق العقل الغربيّ في كلِّ شيءٍ. و «مِن المبشِّرين نفرٌ يشتغلون بالآداب العربية والعلوم الإسلامية أو يستخدمون غيرهم في سبيل ذلك، ثم يرمون كلهم مما يكتبون إلى أن يوازنوا بين الآداب العربية والآداب الأجنبية، أو بين العلوم الإسلامية والعلوم الغربية (التي يعدّونها نصرانية؛ لأنّ أمم الغرب تدين بالنصرانية) ليخرجوا دائمًا بتفضيل الآداب الغربية على الآداب العربية والإسلامية، وبالتالي إلى إبراز نواحي النشاط الثقافي في الغرب وتفضيلها على أمثالها في تاريخ العرب والإسلام. وما غايتهم من ذلك إلا تخاذُلٌ روحيٌّ وشعورٌ بالنقص في نفوس الشرقيين وحملهم من هذا الطريق على الرضا بالخضوع للمدنية المادية الغربية.»[16]
يتحول هذا الاستشراق من خطابٍ معرفيٍّ موضوعيٍّ إلى خطابٍ سياسيٍّ كولونياليٍّ ذاتيٍّ ومصلحيٍّ.
وفي المقابل، تتمثل إيجابيات الاستشراق، على الرغم من كثرة سلبياته، في كون المستشرقين الغربيّين قد أسدوا خدماٍت جليلةً وعظيمة للتراث العربي الإسلامي قديمًا وحديثًا، بتحقيق النصوص والمتون وأمّهات المصادر، بتوظيف مناهجَ علميةٍ معاصرةٍ تجريبيةٍ موضوعيةٍ، مع الاعتراف بأفضلية العرب في كثيرٍ من ميادين اللغة، والمعرفة، والعلم، والآداب.
وخلاصة القول، يتبيّن لنا، مِمّا سبق ذكره، أنّ الاستشراق عبارةٌ عن حركةٍ فكريةٍ وعلميةٍ غربيةٍ تبشيريةٍ وتنصيريةٍ وتشكيكيةٍ بامتيازٍ، هدفها دراسة الشرق بغية فهم حضارته من جميع جوانبها المادية والمعنوية والرمزية، واستكشاف مواطن قوتها وضعفها. ومِن ثَمّ، كان الاستشراق في خدمة الاستعمار الغربي من جهةٍ، وخدمة الكنيسة من جهةٍ أخرى.
ولم يكن الاستشراق كله سلبيًّا، بل كانت هناك دراساتٌ استشراقيةٌ علميةٌ موضوعيةٌ أنصفت العرب والمسلمين على حدٍّ سواءٍ، وقد تضمّنت كثيرًا من الفضائل الإيجابية التي كان يتميّز بها الإنسان العربي المسلم. كما رصدت مختلف الآثار التي بصمت بها الحضارة العربية الإسلامية نظيراتها من الحضارات الأخرى، بما فيها الحضارة الغربية نفسها.

المبحث الثاني: مفهوم الاستمزاغ
يدل مفهوم الاستمزاغ ( Berbérisme/Amazighisme) على تلك الحركة الفكريّة والثقافيةالأمازيغية ذات الطابع السياسي والإيديولوجي والهويّاتي التي ظهرت بشمال إفريقيا، وبالضبط في منطقة تامازغا، للدفاع عن قضايا الأمازيغيينأو البربر، والتعريف بحضارتهم، والتشبث بلغتهم التي تستعمل كتابة تيفيناغ. ويعني هذا أن البربر يعرفون باللغة الأمازيغية التي كان يستعملها أهل تامازغا، أو سكان شمال إفريقيا، وهي لغة التواصل الشفويّ الحيّ. وهي أيضا أداةٌ للتعبير الكتابيٍّ، وتستعين بمجموعةٍ من الحروف الأبجدية التي تسمى بتيفيناغ، وقد وُجدت مثبتةً على جدران الكهوف والمغارات والجبال،ولا سيما في منطقة الطوارق.
وكان أهل البوادي يتحدثون بالأمازيغية أكثر من أهل المدن، بعد أن اُحتُلّت منطقة تامازغا من قِبل المحتلّ الرّومانيّ الذي فرض اللغة اللاتينية لغةً رسميةً على الساكنة، ولا سيما المثقفة منها. وقد استمر أهل تامازغا في التواصل بلغتهم الأمازيغية المحلية إلى يومنا هذا. على الرغم من استمرار مسلسل التعريب الذي كان يهدف إلىإقصاء الأمازيغية بشكلٍ تدريجيٍّ وممنهَجٍ، وإبعادها عن الساحة الفكرية والثقافية واللسنية والإعلامية باسم الدين والإيديولوجيا السياسيّة.
ومن المعلوم أن اللغة البربرية تنقسم «إلى لغةٍ قديمةٍ وهي اللوبية، ولا توجد بها إلا المنقوشات الصخرية؛ وإلى البربرية الوسطى، وهي من القرن الثالث الهجري إلى السابع، ويوجد بها كتاب (المدونة في الفقه الأباضي) لابن غانم، ويوجد بها قاموسٌ بربريٌّ عربيٌّ بجزيرة جربة؛ والبربرية الحديثة، وهو نحو ثلاثين لهجةً بين شماليةٍ وجنوبيةٍ، يوجد منها بمصر لهجة واحةٍ، هي سيوة المعروفة بواحة عمون، وهذه اللهجات منتشرةٌ بليبيا وتونس والجزائر والمغرب والسودان وجزر الكناري.[17]»
ومن جهةٍ أخرى، يمكن الحديث -كذلك- عن فروعٍ لغويةٍ أمازيغيةٍ ثلاثةٍ:
الزناتية (تاريفيت): ويتكلم بها سكان منطقة الريف المغربية، وسكان بعض المناطق الأطلسية، والبرابرة الليبيون، والتونسيون، والجزائريون ما عدا منطقة القبائل؛
المصمودية (تشلحيت): يتكلم بها سكان الأطلس الغربي الكبير ومنطقة سوس؛
الصهاجية ( تامازيغت): يتكلم بها سكان منطقة القبائل، وسكان الأطلس المتوسط، وشرق الأطلس الكبير، وشرق الأطلس المتوسط، وناحية ملوية، وطوارق الصحراء[18].
ولقدكانت اللغة الأمازيغية أكثرَ انتشارًا في شمال إفريقيا، وقد تكلم بها الليبيون، والجيتوليون، والنوميديون، والموريون، والبربر، والأمازيغ... وتُعدُّ أبجديتها الخطية، إلى جانب الأبجدية الإثيوبية، أقدم كتابةً في تاريخ الإنسانية. وتنتمي الأمازيغية إلى الفصيلة السامية-الحامية، وقد استخدمها السكان في خطبهم المختلفة، ومحادثاتهم اليومية، وقدّاسهم الديني، وكتابتهم على النقوش والجدران. وعندما فتح العرب المسلمون إفريقية (شمال إفريقيا) وجدوا البربر محافظين على لغتهم. والشاهد على ذلك مجموعةٌ من النقوش والصفائح التي رسمت عليهاحروف تيفيناغ. وأصبحت الأمازيغية - اليوم- لغة التواصل اليومي في المغرب، والجزائر، وتونس، وليبيا، وجنوب مصر، وجزءٍ من إفريقيا السوداء (مالي، والطوارق، والنيجر، وبوركينا فاسو...).
هذا، ولقد «نطق بهذه اللغة البربر اللوبيون المعاصرون منذ 35 قرنًا. وتحدّث بها أهل برقة القدماء الذين عرفهم اليونان «قريني». وهي لغة الجيتوليين والنوميديين والموريتانيين الذين امتزجوا بالقرطاجنيين من القرن التاسع إلى القرن الثاني قبل الميلاد، وقد اصطدم بهم الرومان أكثر من اصطدامهم بالقرطاجنيين أنفسهم. وفرض هؤلاء الرومان لغتهم اللاتينية على البربر بواسطة المدرسة والإدارة والكنيسة، ودام سلطان الرومان ثمانية قرونٍ، فلما اضمحلّ كانت البربرية قائمةً، وعرف الرومان هذه اللغة البربرية، وميّزوا بينها وبين البونيقية، بل عرفوا أنها تنقسم منذ ذلك العهد إلى عدة لهجاتٍ، وحدّثونا عما كانوا يلاقونه من مصاعبَ شائكةٍ في تعلُّمها ونفورهم من تعاطي دراستها. فقال الكاتب الروماني فلينوس القديم متحدّثًا عن البربر: «يتعذّرعلى حناجر غير حناجر البربر أن تستطيع النطق بأسماء قبائلهم ومدنهم.»
ولما فتح العرب المغرب سنة 27هـ، وجدوا هذه اللغة البربرية منتشرةً في الصحارى والجبال والجزر، وفي المدن والقرى تزاحمها في الساحل الشرقي اللغة البونيقية. أي: اللغة الفينيقية المتأثرة باللهجات والنطوق البربرية.»[19]
 ولقد اُستعملت اللغة البربرية، بعد الفتوحات الإسلامية، بين الأوساط الثقافية، والسياسية، والاجتماعية، والاقتصادية. وفي هذا، يقول عثمان الكعاك: «وبقيت هذه اللغة بعد الإسلام، وبعد إسلام البربر الذي حسن منذ القرن الأول، وعدلت في الغالب عن الخط اللوبي القديم، وكتبت بالحرف العربي، كتبت به تصانيفها الدينية الإسلامية، وشعرها وحكاياتها ونوادرها. ودرس المسلمون هذه اللغة العجيبة، وصنّفوا كتبًا في المقارنة بينها وبين العربية والعبرانية. وألفوا معاجم لها وللعربية معًا، واعتنى أصحاب المعاجم النباتية من الغافقي إلى ابن الجزار إلى ابن البيطار بإيراد التسميات البربرية للنباتات التي يصفونها. وبقيت هذه اللغة لغة البلاط في الأُسر المالكة البربريّة من صنهاجيين وحفصيين وحماديين وزناتيين ومرابطين وموحدين، بل كان غيرهم من ملوك المغرب يعرفها، فالمعز لدين الله الفاطمي كان يتكلم بها مع زعماء صنهاجة وكتامة، واستعملها عبد الله الشيعي في دعوته للفاطميين بجبال القبائل وزواوة. كما استعملها المهدي بن تومرت في دعوته بين العروش والعشائر البربرية. وبنى بعض الملوك الحفصيّين جامعًا، ولم يكتب عليه اسمه، فقيل له في ذلك، فأجاب بالبربرية «يسنت ربي»، أي: قد علم الله ذلك. ودخلت مفرداتٌ بالبربرية في اللهجات العربية بالمغرب والأندلس وصقلية منها «الكرومة» و«الفكرون» وغيرها.[20]»
وإبّان الاحتلال الأجنبي لشمال إفريقيا، دافع الفرنسيّون عن الأمازيغية وشجّعوها، وبنوا لها مدارسَ وثانوياتٍ ومعاهدَ وجامعاتٍ، ولا سيما بعد صدور الظهير البربريّ سنة 1930م. بيد أنهم اختاروا الحرف اللاتيني وسيلةً للكتابة والبحث والتنقيب، ومنعوا الحرف العربي، وكان غرضهم الأساس من ذلك هو فصل البرابرة عن إخوانهم العرب.
وقد تضاءلت قيمةاللغة الأمازيغية مع مرور الوقت، وتراجعت مكانتها بين السكان الأمازيغ أنفسهم بسبب مسلسل التعريب الذي نهجته الدولة المغاربية بعد الاستقلال مباشرةً؛ إذ عمدت لجنة التعليم في المغرب -مثلا- إلى سنّ سياسة المبادئ الأربعة، وهي: التعميم، والمغربة، والتوحيد، والتعريب. ومن ثَمّ، أصبح التعليم المغربيّ، من تلك الفترة، خاضعًا لهيمنة اللغة العربية، وهيمنة اللغات الأجنبية. لذا، أضحت اللغة الأمازيغيّة منبوذةً سياسيًّا، واجتماعيًّا، ودينيًّا، وثقافيًّا.ومُنع تداولها في مرافق الدولة. كما مُنع الدفاع عنها ثقافيًّا أو حضاريًّا، وخاصَّةً في الستينيات والسبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي.
علاوةً على ذلك، فلقد تخلّت بعض القبائل الأمازيغية عن عاداتها وتقاليدها وأعرافها وحضارتها وثقافتها التي كانت ترتبط باللغة الأمازيغية، فاندمجت في قبائلَ عربيةٍ، وانصهرت فيها جزئيًّا أو كُليًّا. أضف إلىذلك ما يقوم بهالإعلام الإذاعيّ والمرئيّ من دورٍ كبيرٍ في نشر اللغة العربية، وترويج باقي العاميات المتفرعة عن هذه اللغة، دون الاهتمام باللغة الأمازيغية قيد أنملة. ناهيك عن التهميش المقصود الذي مورس ضد الأمازيغية سياسيًّا، واقتصاديًّا، واجتماعيًّا، وثقافيًّا، وتاريخيًّا، وحضاريًّا، ونفسيًّا؛ ما أثّر في مستواها التداوليّ والتواصليّ وقيمتها المعرفية. علاوةً على ذلك، فلقد بقيت اللغة الأمازيغية حكرًا على الأجداد، دون الأبناء والأحفاد الذين تخلّوا عن هذه اللغة بالتدريج لصالح اللغة العربية، أو لصالح اللغات الأجنبية المنافسة الأخرى بسبب هجرة الساكنة الأمازيغية نحو الضفة الأخرى. بالإضافة إلى طابعها الشفوي الذي كان عاملًا من عوامل ضياع إرثٍ حضاريٍّ أمازيغيٍّ كبيرٍ في مختلف العلوم والمعارف والفنون.
ولا يعني هذا أنّ مسلسل التعريب حديثُ العهد، فلقد مورس منذ القديم، مع تأسيس أولى دولةٍ مغربيةٍ هي دولة الأدارسة،فتطوّر مسلسل التعريب مع باقي الدول المغاربيةإلى يومنا هذا، فقد كانت سلطة الدولة تقوم على النَّسب الشريف، والدفاع عن الدين الإسلامي، وحماية اللغة العربية،وتثبيت وحدة الأمة.
وعلى الرغم من التضييق الذي عانت منه اللغة الأمازيغية، فإنها لغةٌ تواصُليّةٌ حيّةٌ بامتياز. وفي هذا الإطار، يقول محمد شفيق: «والواقع أنّ اللغة الأمازيغية لا تزال حيّةً، محافظةً على كيانها الذاتي الذي لا يتجلى بوضوحٍ تامٍّ وبكلِّ عناصره إلا لمن كلّف نفسه قليلًا من الاهتمام باللهجات وما بينها من التداخل والتكامل، منحها وجهة التماس العوامل الموحدة، لا وجهة التماس العوامل المفرقة بينها، كما كان يفعل عددٌ من الباحثين الفرنسيين. واللغة الأمازيغيّة، في وضعها الحالي، أي: بصفتها لغةً حيةً يتخاطب بها الناس، في تلقائيةٍ وعفويةٍ، قابلةٌ للانتعاش والنموّ والازدهار، ولا سيما أنّ لها نظامًا اشتقاقيًّا مَرِنًا جدًّا، يتفاعل فيه الاشتقاق الأصغر والاشتقاق الأكبر مع النحت والتركيب المزْجي تفاعلًا يُضاعف إمكانات الخلق المعجمي يسير المنال. وبدراسة هذا النظام في تفاصيله، سيتمكّن الخبراء من فكّ ألغاز النقوش القديمة التي استغلق أمرها عليهم حتى الآن، ومن تسليط بعض الأضواء على خفايا تاريخ إفريقيا الشمالية.»[21]
والآن، لقد انتعشت اللغة الأمازيغية نسبيّا، واستفادت كثيرًا من الدعم الرسمي والسياسي والجماهيري والمؤسساتي؛ إذ شكّل خطاب 20 غشت/آب 1994م منعطفًا سياسيًّا نوعيًّا في تعامل السلطة مع اللغة الأمازيغية. فلقد اعترف العاهل المغربي الحسن الثاني بضرورة تدريس اللغة الأمازيغية في المدرسة المغربية إلى جانب اللغات الأجنبية الأخرى. لكن ذلك الطموح لم يتحقّق فعليًّا إلا بعد خطاب أجديرفي 30 يوليوز/يوليو سنة 2001م، وتأسيس المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية في 17أكتوبر/كانون الأوّل 2001م، وميلاد الكونغرس العالمي الأمازيغي سنة 1995م، وانطلاق تعليم الأمازيغية في الموسم الدراسي 2003-2004م، وتأسيس القناة الأمازيغية الثامنة سنة 2008م، ودسترة اللغة الأمازيغية بشكل رسميٍّ في الدستور الجديد للمغرب، إلى جانب اللغة العربية، مع خطاب 09 مارس/آذار 2011م. علاوةً على تأسيس مسالكَ وشعبٍ ووحداتٍ دراسيةٍ جامعيةٍ في مادة الأمازيغية في كلٍّ من: أكادير، والرباط، ووجدة، وتطوان، وفاس،ومكناس، والناظور... إضافةً إلى توفير عددٍ من المناصب المالية لتأهيل أطر الابتدائي في اللغة الأمازيغية،في المراكز الجهوية لمهن التربية والتكوين بكلٍّ من: أكادير، ومكناس، والناظور.
وعليه، لم تظهر الدراسات الاستمزاغية في المغرب بصفةٍ خاصةٍ، وإفريقيا الشمالية بصفةٍ عامةٍ، إلا في أواخر القرن التاسع عشر مع الباحثين الفرنسيين والإسبان المستمزغين بالخصوص كاللساني الفرنسيريني باسِّي (René Basset) الذي يُعدُّ المؤسس الحقيقي للدراسات البربرية، ومع مجموعةٍ من المفكرين والمبدعين والأساتذة كميلود معمّري، وكاتب ياسين، ومحمد خير الدين، ومحمد شفيق، وأحمد بوكوس، ومحمد الشامي، وسالم شاكر، وعبد الله بونفور... بيد أنّ الجغرافيا اللسانيّة والدراسات المعمّقة حول اللغات واللهجات في شمال إفريقيا لم تتطور إلا في بداية القرن العشرين مع باسِّي (A. Basset) الذي مسح منطقة شمال إفريقيا لسانيّا ولغويّا وجغرافيّا، من الشمال إلى الجنوب، مرورًا بالجنوب المغربي، ما بين 1926م و1949م.
فلقد درس هذا الباحث المستمزغ ( Le berbériste) أمازيغية الجزائر والطوارق، وأمازيغية ليبيا وتونس وموريطانيا، وأمازيغية جنوب المغربي، وخاصةً أمازيغية فجيج. وتتسم أبحاث باسِّي بكونها دراساتٍ ميدانيةً إجرائيةً أرشيفيةً، كان الهدف منها تسجيل جميع اللهجات البربرية وتدوينها وتوثيقها، مع دراسة ثوابتها ومتغيراتها.
ويمكن الحديث عن مجموعةٍ من المقاربات التي خضعت لها اللغة الأمازيغيةكالمقاربة الكولونيالية، والمقاربة البيداغوجية، والمقاربة العلمية الأكاديمية، والمقاربة الصحفية الانطباعية.
وعليه، فالدراسات الاستمزاغية التي أنجزت منذ منتصف القرن التاسع عشر إلى سنوات السبعين من القرن الماضي هي دراساتٌ استمزاغيةٌ عسكريةٌ توثيقيةٌ واستخباراتيةٌ. كان الهدف منها قراءة الجهة المرصودة لغويًّا، وأنتروبولوجيًّا، وجغرافيًّا، ولغويًّا، واقتصاديًّا، مع رصد نقط القوة والضعف لاستغلالها واستثمارها سياسيًّا وعسكريًّا لصالح الدولة الحامية الغازية. وكانت معظم الدراسات الكولونياليّةتتّخذ، في تعاملها مع اللّغات واللهجات الأمازيغيّة،شكلَ مقاربةٍ بيداغوجيةٍ تعليميةٍ وتعلميةٍ ذاتِ أبعادٍ نحويّةٍ تداوليّةٍ، كما نفهم ذلك من خلال العناوين الموظفة في هذه الدراسات اللسانية والنحوية: (ملاحظات، ومقرّر، وملخّص، وموجز، ودراسة، وبحث، ومعجم)، (Notes, Manuel Esquisse,Etude,،Glossaire...).
ومن جهةٍ أخرى، فلقد كانت هناكَ دراساتٌ استمزاغيّةٌ علميّةٌ وموضوعيّةٌ الغرض منها هو التعريف بالحضارة الأمازيغية، واستعراض تاريخها وآدابها وعلومها وفلسفاتها، سواءً أَكَتَبها مستمزغون أجانبُ أم مغاربيون.
وخلاصة القول، يحيل مفهوم الاستمزاغ على تلك الحركات والجمعيات الثقافية والعلمية الأمازيغية المختلفة التي تُعنى بإنجاز دراساتٍ وأبحاثٍ، في الجامعة أو خارجها، حول اللغة الأمازيغية وآدابها وحضارتها وثقافتها، سواءً أكان ذلك من قبل الباحثين المغاربيين كسالم شاكر، ومحمد الشامي، وقاضي قدور، وأحمد بوكوس، ومحمد المدلاوي، وأحمد أكواو، وبلعيد بودريس، وفاطمة بوخريص، وعائشة بوحجار، والحسين المجاهد، وهباز بوجمعة، وفاطمة صدّيقي، ومحمد شفيق، وجميل حمداوي، وعبد الهادي أمحرف، وميمون حمداوي، ومحمد شطاطو، وعبد العزيز علاتي، وعبد الرحمن العيساتي، ووفاء طنجي، ومحمد الأيوبي، وميشيل كيطو، ومحمد بلحرش، وحميد سويفي، ونور الدين أمروس، ومصطفى العدك، وحسين فرحاض، وحسن بنعقية، وحميد سويفي، وأمينة الفقيوي، وعبد الله بونفور، وإبراهيم أخياط، وعلي صدقي أزايكو، وأحمد عصيد، وجواد الزوبع...
أم كان ذلك من قبل الباحثين المستمزغين الأجانب، بما فيهم الباحثون في جامعات فرنسا الذين تخصصوا في دراسات الأمازيغية بمختلف مكوّناتها، مثل: أندري باسِّي (A.Basset)، وهنري باسِّي (H.Basset)، وليونيل غالان (L.Galand)، وروبير أسبينيون (R.Aspinion)، وفرناند بينتوليلا (Fernand Bentolila)، وبيارناي (S.Biarnay)، ودافيد كوهن (D.Cohen)، وجان ماري كورتاد (Jean-Marie Cortade)، وإميل لاووست (Emile Laoust)، إلخ...

المبحث الثالث: مفهوم الاستعراب
إذا كان الاستشراق (Orientalisme) يدرس كلّ ما يتعلق بالشرق من حضارةٍ وثقافةٍ ولغةٍ وتقنيةٍ، وإذا كان الاستمزاغ ((Berbérisme ينصب أيضا على الحضارة الأمازيغيّة الموجودة بشمال إفريقيا بالدّرس والفحص والتحليل، فإن الاستعراب (Arabisme) ينكبّ على دراسة كلّ ما يتعلق بحضارة المسلمين في الأندلس أدبًا، وفكرًا، وعلمًا، ولغةً، ومعرفةً. ومن ثَمّ، فلقد ركّز المستعربون كثيرًا على الأدب الأندلسيّ، واستخدموا في ذلك اللغة العربية تارةً، واللغة الإسبانية واللغات اللاتينية تارةً أخرى. وقد ظهر الاستعراب في القرن التاسع عشر الميلادي بإسبانيا من أجل فهم المنتج العربي بالأندلس ودراسة قيمه وإبداعه، وتبيان أسباب ذلك. لذلك، التجأ الباحثون الأكاديميون والأساتذة الجامعيونإلى تحقيق المخطوطات العربية، وتشريح الفكر العربي بالأندلس، وتبيان أسرار تفوّق العرب المسلمين في مجالات العلم والمعرفة والفن والفكر والأدب.
ويرى الباحث المغربي مصطفى الغديري أن الاستعراب الإسباني «بدأ حركةً ثقافيةً علميةً أكاديمية منصبة بالدرجة الأولى على دراسة التراث الأندلسي، بكل أشكاله، وما له علاقة بهذا التراث في الزّمان والمكان على اعتباره يمثل المصادر الأساسية لدراسة ومعرفة إسبانيا المسلمة، وهي حركةٌ حديثةُ العهد يعود تاريخها إلى منتصف القرن التاسع عشر قامت بمجهوداتٍ فرديةٍ وبدوافعَ أكاديميةٍ في الدرجة الأولى بين الجامعيين في بعض الجامعات الإسبانية، وخاصةً جامعة مدريد وجامعة غرناطة وجامعة سرقسطة. بينما تهتمّ الحركة الاستشراقية بكل ما هو مشرقيٌّ وشرقيٌّ، أي ما أنتجته قرائح أبناء منطقةٍ جغرافيةٍ تمتدّ من شمال إفريقيا إلى الشرق الأقصى تدعمه مختلف المؤسسات السياسية والعسكرية بغية معرفة الفكر الشرقيّ وتراثه لتسهيل مهمة التدخل العسكري والاقتصادي والإيديولوجي شارك فيها الأكاديميون من العسكريين والسياسيين وغير الأكاديميين بإيعازٍ من الأنظمة الأوروبية الاستعمارية التي كانت تسعى إلى التوسّع الاستعماريّ. لهذا السبب نجد أكثر الدارسين الإسبان يرفضون أن يُطلق عليهم لفظ المستشرق[22]»[23].
إذاً، لقد بدأ الاهتمام بالدراسات الأندلسية من قِبل الباحثين والدارسين الإسبان منذ منتصف القرن التاسع عشر الميلادي؛ بل منذ القرن الثامن عشر الميلادي مع خوان أندريس (Juلn Andrés) الذي اهتم بآثار الحضارة العربية الإسلامية في إسبانيا، ولاسيما في موسوعته ( الآداب العالمية وتطوّرها)، وتبعه في ذلك إستيبان أرتياغا (Esteban Arteaga) في كتابه (حول تأثير العرب في نشأة الشعر الحديث في أوروبا)، ثم خوسي أنطونيو كوندي (Jose Antonio Conde) الذي ألّف كتابًا بعنوان (تاريخ الحكم العربي في إسبانيا)، ثم غاسبار ماريا دي نابا ألباريث (Gaspar maria de Nava Alvarez) الذي ترجم مختاراتٍ من الشِّعرين العربي والتركي إلى اللغة القشتالية.
وبعد ذلك، تطوّر الاستعراب عن طريق الاهتمام بالمخطوطات العربية، وتأسيس الكراسي الجامعية لتدريس اللغة العربية وآدابها وثقافتها وحضارتها، وإنشاء المكتبات لجمع التراث العربي توثيقًا، وأرشفةً، وتصنيفًا، وتحقيقًا، وبحثًا، ودراسةً. ويُعدُّ باسكوال دي غايانغوس (Pascual de Gayangos) مؤسس الدراسات الاستعرابية بإسبانيا، ومؤسس المدرسة الاستعرابية المكتملة العناصر والأركان، فلقد كوّن أجيالًا عديدةً من المهتمين بالتراث الأندلسي. ولقد اعتنى كثيرًا بتحقيق المخطوطات الأندلسية في كتابه (تاريخ الأُسر الإسلامية الحاكمة بالأندلس) باللغة الإنجليزية في مجلدين ضخمين[24]. «وإثر إنجازه هذا العمل نودي عليه ليكون أستاذًا لكرسي اللغة العربية بجامعة مدريد حيث قام بتدريس اللغة العربية على أمد النصف الثاني من القرن التاسع عشر وكوّن خلالها مجموعة من الطلبة الذين سيتخصصون في الدراسات الاستعرابية الإسبانية التي استمرت بأهم الجامعات الإسبانية، وما يزال أثرهاإلى اليوم بسبب تأثيره في طلبته ورعايته الأبوية لهم.[25]»
ومن أبرز تلامذة باسكوال فرانسيسكو كوديرا إي زيدن (Franciscus Codera y zaydin) الذي يُعدّ المؤسس الحقيقي للمدرسة الاستعرابية التي تُسمّى بمدرسة كوديرا أو بني كوديرا (Beni Codera). في حين، أنّ باسكوال دي غايانغوس قد وضع اللبنات التمهيدية الأولى لهذه المدرسة. ومعه، انتقل الدرس الاستعرابي من مدريد إلى باقي الجامعات الإسبانية كسرقسطة، وغرناطة... وقد قرر هذا المستعرب منذ البداية أن يحقق مائة مخطوطٍ توثيقًا ودراسةً ونشرًا. وبعد ذلك، يأتي الدرس التحليلي لفهم تاريخ الأندلس وحضارتها وآدابها وثقافتها[26].
ومن أهم طلبة كوديرا خوليان ريبيرا طاراغو (Juliلn Ribera y Tarrago)، وميغال أسين بالثيوس (Miguel Asin Palacios)، وخوسي مونيوس سيندينو (José Mońoz Sendino)، وميغال أنخيل بالانثيا (M.Angel Gonzales Palencia)، وأورتيغاإي غراسيت (Ortiga Y Grasset)، ومينينديث بيدال (Menendez Pedal)، وسانشيس ألبورنوث(Albornoz Sanchez)، وداماسو ألونسو (Damaso Alonso)، وإيميليو غارسيا كوميث(Emilio Garcia Gomez)، وفدريكو كوريينتي (F.Corriente)، وخبيريت فنيش وسوليذاذ (Giberet Fenech Soledad)، وخواكين بالبيه بيرميخو (Joaquen Valve Bermejo)، وبيدور مونتابيث (Pedro Moontavez)، وماريا خيسوس بيغيرا (Maria Jesus Viguera)، وماريا خيسوس روبييرا ماتا (M.Jesus Rubiera Mata)، ومانويلا مارين (Manuela Marin)، واللائحة طويلةٌ من المستعربين الإسبان الذين ينتمون إلى مدرسة كوديرا الاستعرابية.
إذًا، لقد أسدى المستعربون الإسبان خدماتٍ جلى إلى التراث الأندلسي، بتحقيق مخطوطاته، ودراسة آثاره من حيث المحتوى والفن والوظيفة، وقد درسوا اللغة العربية في جامعات إسبانيا، وسعوا إلى نشرها بين النخب المثقفة. كما دافعوا عن حضارة المسلمين وثقافتهم في الأندلس بكلِّ موضوعيةٍ وجرأةٍ علميةٍ، وأشرفوا على العديد من البحوث والرسائل والأطاريح الجامعية التي تنصبّ على دراسة آداب الأندلسيين وعلومهم وفكرهم وفنهم. كما أسسوا مدرسةً استعرابيةً نموذجيةً تُسمَّى بمدرسة بني كوديرا[27]. ولقد امتدّ الدرس الاستعرابي إلى الاهتمام بالشعر العربي قديمه وحديثه من جهةٍ، والعناية بالإسلام قرآنًا وسُنّةً وعقيدةً وتاريخًا من جهةٍ أخرى.
إذاً، لقد اهتم المستعربون الإسبان بكثيرٍ من المجالات المعرفية في العصر الوسيط، كاللغة وفقهها، والتاريخ والحضارة، والأدب العربي، والفن، والعمارة، والتربية، والمهن والصنائع، والسياسة، والفقه والشريعة، والعقيدة وأصول الدين.... كما اهتمّوا كذلك بالفلسفة والتصوف والفكر الإسلامي الذي أنتجه علماء الأندلس ومفكروها إبّان العصر الوسيط، كما عند ابن طفيل، وابن رشد، وابن باجة، وابن حزم، وابن العربي على سبيل التمثيل[28].
وعلى الرغم من الجهود الجبارة التي بذلت من قبل الاستعراب الإسباني، فثمة مجموعةٌ من الهِنات والسّلبيّات التي كان يتميّز بهابعض المستعربين المحسوبين على الكنيسة الكاثوليكية المسيحية، ويمكن حصرها في ما يلي:
الانطلاق من التصورات الإيديولوجيّة المسبقة في التعامل مع الثقافة العربية؛
 التعصب الكنسي الأعمى، والحقد الدفين للإسلام والمسلمين؛
النزعة العنصرية والعرقية في التعامل مع الآخر العربي؛
 تفضيل الإنسان الغربي على الإنسان العربي؛
 خدمة المسيحية والتبشير النصراني؛
تمهيد الطريق أمام سياسة التوسع الاستعماري؛
إصدار أحكامٍ مسبقةٍ ومتوارثةٍ؛
«عدم الاعتراف بالثقافات الأخرى التي ساهمت في إثراء الحضارة الإيبيرية[29] ( Iberia ) كالثقافتين: العربية والعبرية. ويعني هذا أن المستعربين الإسبان قد قزّموا هاتين الحضارتين، ونفخوا كثيرًا في الحضارة الإيبيرية، واعتبروها مصدرًا لا غنى عنه في تطور الحضارة العربية الإسلامية بالأندلس؛
«غياب الروح العلمية والموضوعية في التعامل مع الثقافة العربية الإسلامية؛
تحميل المستعربين الإسبان العرب المسلمين المسؤولية في تخلّف الإسبان عن ركب باقي البلدان الأوروبية، ويرتسم هذا الاتهام «في كتاباتهم ضمنيًّا، ويتراءى بين السطور»[30].
إذا كان هناك بعض المستعربين الإسبان المتحاملين الذين ينظرون إلى العرب المسلمين نظرةً فوقيةً عدائيةً قِوامها الإقصاء والتغريب والتهميش والاستعلاء، فإنّ ثمةَ مستعربين كانوا موضوعيين في دراساتهم الاستعرابية والاستشراقية. ومن بين هؤلاء المستعربين الأجلاءخوان غويتيسولو (Juan Goytisolo) صاحب كتاب (في الاستشراق الإسباني)[31] الذي دافع كثيرًا عن الإسلام، والثقافة العربية الإسلامية، وانتقد المستعربين الإسبان انتقادًا شديدًا.
وعليه، فلقد قدّم الاستعراب الإسباني للأدب العربي بالأندلس، إلى يومنا هذا، خدماتٍكبرى وجلى. ولا يمكنلأيِّ دارسٍ عربيٍّ مسلمٍ -بأيِّ حالٍ من الأحوال- إنكارُ ذلك تحت أيِّ مبرِّرٍ ذاتيٍّ، أو مُسوِّغٍ علميٍّ، أو رغبةٍ في المناظرة والجدل، أو غضُّ البصر عن تلك الجهود الجبّارة التي قام بها كبار المستعربين الإسبان على مرّ السنين، على الرغم من تحامل الكثير منهم على ذلك الأدب. فلقد قام هذا الاستعراب -فعلا- بجمع المخطوطات الأدبية الأندلسية شعرًا ونثرًا، وتوثيقها متنًا وتدوينًا وتحقيقًا وأرشفةً، وتأريخ معطياتها سياقا وتحقيبا ومرجعا، وترجمتها إلى اللغة الإسبانية في مختلف لهجاتها المتنوعة، ودراستها مضمونًا وشكلًا ووظيفةً من أجل تحديد تطوّر الأدب الأندلسي، ورصد مجمل خصائصه الدلاليّة والفنيّة والجماليّة، وتبيان مختلف سياقاته التاريخية، والسياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والدينية، والنفسية، والحضارية. علاوةً على ذلك،فلقد خُصّص للأدب الأندلسي بإسبانيا المكتبات العامة والخاصة، والمعاهد المتخصصة، والكراسي الجامعية. كما صدرت صحفٌ ومجلاتٌ تُعنى بالأدب الأندلسي تأريخًا، وتصنيفًا، ونقدًا، وبحثًا.
وفي الأخير، أقول بكلِّ موضوعيةٍ علميةٍ بأنه لولا الاستعراب الإسباني لما عرفنا الكثير عن الأدب الأندلسي شعرًا ونثرًا، ولما عرفنا الكثير عن الدواوين الشعرية ومبدعيها المغمورين والمشهورين على حدٍّ سواءٍ، ولما كان لدينا إلمامٌ كافٍ بفنّ الموشحات والزّجل بشكلٍ محكَمٍ ومتقَنٍ.

المبحث الرابع: مفهوم الاستغراب
يمكن الحديث عن استشراقٍ مُضادٍّ، أو استشراقٍ معكوسٍ[32]،تولّاه مجموعٌة من الباحثين من دول الجنوب من جهةٍ، ودول العالم العربي والإسلامي من جهةٍ ثانيةٍ. والغرض منه هو فهم الغرب بطريقةٍ جيدةٍ، وتفكيك مركزيته السياسية والثقافية، ونقد أطروحاته الاستعمارية والإيديولوجية. ويُسمّى هذا الاستشراق المضادّ بنظرية ما بعد الاستعمار من جهةٍ، أو علم الاستغراب من جهةٍ أخرى.
بيد أن هناك من يرفض مصطلح الاستغراب كالباحث المغربي محمد خروبات، ويفضّل مصطلح الفكر الإسلامي الذي يتناول بدوره قضية الاستشراق بالدرس، والتحليل، والتقويم. وفي هذا، يقول الباحث: «وأعتقد أن الملائم للموضوع هو الفكر الإسلامي، وقد كنا ندرس في الجامعة المغربية مادةً تسمى بـ«الفكر الإسلامي في مواجهة الحضارة الغربية»، وقد تغيّر اسمها بحكم ما طرأ على الجامعة المغربية من إصلاحاتٍ متتاليةٍ، أعتقد أن الفكر الإسلامي بهذا النعت كافٍ جدًّا للقيام بهذه المهمة، فهو ينطلق من القرآن الكريم ومن السنة النبوية وأصول الإسلام الأخرى، كما يستوعب ما كتبه المفكرون والمثقفون حول الغرب والحضارة الغربية والاستشراق والاستعمار والتنصير والتبشير، ولا شك في أن المكتبة الإسلامية حافلةٌ بشتّى المؤلفات في هذا المجال، كما يستوعب ما كتبه الغربيون حول التراث الإسلامي والحضارة الإسلامية لأنه مثلما أنّ هناك فكرًا غربيًا يواجه الإسلام والحضارة الإسلامية فهناك فكرٌ إسلاميٌّ يواجه الفكر الغربي والحضارة الغربية، ثم إنّ هذا الفكر يستفيد من تجارب الماضين في تعيين الشبه والطعون، وترتيبها وبيان كيفية الرد عليها واستلهام طرائقهم ومناهجهم، وله القدرة على استقراء مشاكل الواقع ومعاينة ما يجري بين الحضارات والثقافات والسياسات. وكثير، ممن تكلم عن الاستشراق من المفكرين العرب المسلمين وباسم الفكر الإسلامي، عالجوا قضايَا فكريةً وثقافيةً وحضاريةً، وردّوا على شبهات المستشرقين وطعونهم، وحاوروا الكثير منهم، كما سجّلوا زياراتٍ لأوروبا، وحاضروا في جامعاتٍ ومراكزَ فيها.»[33]
ومن هنا، يهدف الاستغراب إلى فضح الخطاب الاستعماري الغربي، وتفكيك مَقُولاته المركزيّة التي تعبر عن الغطرسة والهيمنة والاصطفاء اللوني والعرقي والطبقي، باستعمال منهجية التشتيت والفضح والتعرية. لذا، فقد وجد كُتّاب الاستغراب في تفكيكية جاك دريدا آليةً منهجيةً لإعلان لغة الاختلاف، وتقويض المسلمات الغربية، والطعن في مقولاتهم البيضاء ذات الطابع الحلمي الأسطوري. كما تأثّروا في ذلك بميشيل فوكو، وكارل ماركس، وأنطونيو غرامشي، وكان إدوارد سعيد رائدَهم في ذلك.
ولقد رفض كُتّاب الاستغراب ومثقَّفوه الاندماج في الحضارة الغربية، وانتقدوا سياسة الإقصاء والتهميش والهيمنة المركزية، ورفضوا كذلك الاستلاب والتدجين. وفي المقابل، دعوا إلى ثقافةٍ وطنيةٍ أصيلةٍ، ونادوا بالهوية القومية الجامعة. ومن هؤلاء -مثلا- كُتّاب الحركة الزنجية الإفريقية ومبدعوها الذين سخّروا كل ما لديهم من آلياتٍ ثقافيةٍ وعلميةٍ لمواجهة التغريب، فتشبّثوا بهويتهم السوداء، ودافعوا عن كينونتهم الزنجية الإفريقية. وقد رأينا كذلك كُتّاب الفرانكفونية بالمغرب العربي يحاربون المستعمر بلغته، ويقوّضون حضارته بالنقد والفضح والتعرية، مستخدمين في ذلك لغةً فرنسيةً مختلطةً باللغات الوطنية تهجينًا، وأسلبةً، وسخريّةً.
ولم يقتنع مثقفو الاستغراب بقراءة الخطاب الاستشراقي الغربي فحسب، بل حاولوا مقاومة المستعمر بكل الوسائل المتاحة، إما عن طريق المقاومة السلمية أو المسلحة،وإما عن طريق الاستشراق المضادّ، وإما بنشر الكتابات التقويضية لتفكيك الفكرين المتمركزين: الأوروبي والأمريكي، وفضحهما بشتى السبل والطرائق، ما دام هذان التمركزان مبنيين على اللون، والعرق، والجنوسة، والطبقة، والدين.
ولم يكتف مثقَّفو الاستغراب أيضا بتوجيه النّقد إلى الغرب، بل سعوا إلى نقد ذواتهم ضمن ما يُسمّى بالنقد الذاتي، كما عند الناقد الكيني الأصل عبد الرحمن جان محمد حينما صرح قائلًا: «أعتقد أنّنا نحتاج إلى الإفصاح بشكلٍ أكثرَ انتظامًا، عن الواجبات التي تفرضها علينا هذه الوضعية البينية، وهي واجباتٌ أشعر أنّه يمكن استشعارها من وضعية مثقف «العالم الثالث» في الأكاديميات الغربية. إننا لا نزال نكافح ضد الهيمنة المعرفية للغرب، لا نزال نحارب «الاستعمار» و»الاستعمار الجديد». ولكن بالمقارنة مع التابع في «العالم الثالث»، نحن نعيش في ظروفٍ بالغةِ الرفعة. بعض النُّقاد يؤكدون أنّ نوعًا معيَّنًا من نظرية ما بعد الاستعمار يمثّل هو نفسه جزءًا من البنية القائمة على الهيمنة، أيْ أنّه نوعٌ مستمرٌّ ومكرَّرٌ من الاستعمار. ولهذا أعتقد أنه لا بد لنا أن نستمرّ على خطى غاياتري سبيفاك وآخرين، فنتفحص وضعية ذواتنا في كل هذه النواحي وبشكل أكثرَ انتظامًا»[34]
ويعني هذا أن ثمة مفارقةً بين القول والفعل، وأن هناك انفصامًا وجوديًّا وحضاريًّا وطبقيًّا بين مفكري الاستغراب وواقعهم المتخلف المزري.
وإذا كان المفكرون الغربيون قد تعاملوا مع الشرق في ضوء علم الاستشراق باعتباره خطابًا استعماريًّا وكولونياليًّا من أجل إخضاعه حضاريًّا، والهيمنة عليه سياسيًّا واقتصاديًّا وثقافيًّا واجتماعيًّا، فإنّ المثقَّفين الذين ينتمون إلى الاستغراب كحسن حنفي -مثلًا- يدعون إلى استشراقٍ مضادٍّ، أو ما يُسمَّى أيضا بعلم الاستغراب بغية تفكيك الثقافة الغربية تشريحًا وتركيبًا، وتقويض خطاب التمركز تشتيتًا وتأجيلًا، وفضح مقصدية الهيمنة على أسسٍ علميةٍ موضوعيةٍ.
وقد دافع علم الاستغراب كثيرًا عن التعددية الثقافية، بانتقاد التمركز الثقافي الغربي والثقافة الواحدة المهيمنة. كما رفض سياسية التدجين والتغريب والإقصاء، ونادى إلى التنوع الثقافي والانفتاح الثقافي عبر آليات المثاقفة، والترجمة، والنقد، والتفاعل الثقافي.بمعنى أنّ هناك ثقافاتٍ جديدةً إلى جانب الثقافة الغربية المركزية، كالثقافة العربية، والثقافة الآسيوية، والثقافة الإفريقية، والثقافة الأمازيغية... بمعنى أنّهليس هناك ثقافةٌ مهيمنةٌ واحدةٌ ووحيدةٌ، بل هناك ثقافاتٌ هجينةٌ متعددةٌ ومتداخلةٌ ومتلاقحةٌ.
ومن أهمّ روّاد الاستشراق المضاد، أو علم الاستغراب، المفكر المصري حسن حنفي الذي يُعرف بتأسيسه لعلم الاستغراب نظريةً وتطبيقًا،كما يتجلّى ذلك واضحا في كتابه القيّم (مقدمة في علم الاستغراب)، والمفكر الفلسطيني إدوارد سعيد الذي يعرف بكتابه البارز (الاستشراق) الذي صدر سنة 1978م، وقد تبنى فيه الباحث منهجيةً تقويضيةً تفكيكيةً في دراسة الخطاب الاستشراقي الغربي.
وهكذا، ينفي حسن حنفي عن نفسه، في كتابه (مقدمة في علم الاستغراب)[35]، تهمة الانغلاق والانكماش والانطواء على الذات، برفض الغرب جملةً وتفصيلًا، كما يبدو ذلك جليًّا في الفكر السلفي التقليدي، بل يدعو إلى إبداع الأنا مقابل تقليد الآخر، وإمكانية تحويل الآخر إلى موضوعٍ للمعرفة، لا مصدرًا لها. وبهذا، يؤسس حسن حنفي لعلمٍ جديدٍ هو علم الاستغراب (occidentalisme) خلافا لنزعة التغريب (Westernisation/occidentalisation).
ومن هنا، ينطلق الكاتب من ثلاث مواقفَ رئيسةٍ: الموقف من التراث (النقد الذاتي)، والموقف من الغرب (علم الاستغراب)، والموقف من الواقع (نظرية التفسير والطرح الجديد). وبذلك، يهتمّ حسن حنفي بجدلية الأنا والآخر، بالتأرجح بين أزمنةٍ ثلاثةٍ هي: الزمن الماضي المخصّص للتّراث العربّي القديم، وزمن المستقبل المخصّص للوعي الأوروبيّ، وزمن الحاضر المخصص لواقعنا العربي المباشر، أي: يدرس حسن حنفي الموروث (التراث القديم/ الماضي)، والوافد (الغرب/ المستقبل)، وموطن الإبداع أو بوتقته التي ينصهر فيها الموروث والوافد (الحاضر). وبهذا، يتوقّف الباحث عند جدلية الأنا والآخر، وجدلية النقل والإبداع، وجدلية الماضي والحاضر، وجدلية الزمان والمكان، وجدلية الأصالة والمعاصرة، وجدلية التأصيل والتغريب...
وينصبّ علم الاستغراب عند حسن حنفي على تفكيك المركزية الغربية وتقويضها، والدفاع عن الأنا وفق مقاربةٍ إبداعيةٍ تأصيليّةٍ منفتحةٍ على الحداثة. وإذا كان الاستشراق يحوّل الشرق(الآخر) إلى موضوعٍ للدراسة، ويتحوّل المستشرق إلى ذاتٍ دارسةٍ تتحكّم في الموضوع المدروس وفق مقارباتٍ ومناهجَ معينةٍ، فإن الاستغراب يحوّل الغرب إلى موضوعٍ للدراسة، لا إلى مصدرٍ للمعرفة والعلم، وبذلك تُصبح الأنا المستغربة تتحكّم في الموضوع المدروس الذي يتمثّل في الغرب. ومن هنا، تنقلب الكفّة لصالح الأنا المستغربة التي تحاول نقد الحضارة الغربية، وتبيان مصادرها وأصولها، وتشخيص مظاهر قوتها وضعفها، والدفاع عن حضارة الأنا بغية تجاوز مُركّب النّقص الذي يُحسّ بها المفكّر العربيّ المسلم أمام عظمة الغرب.
إذاً، يعني الاستغراب الدفاع عن الإبداع العربي، وتقويض المنظومة الذهنيّة الغربيّة وتفكيكها فلسفيّا، ودينيّا، وعلميّا، وحضاريّا. ومن ثمّ، يتمثّل الهدف الرئيس من هذا التفكيك في «فك عقدة النقص التّاريخيّة في علاقة الأنا بالآخر، والقضاء على مُركّب العظمة لدى الآخر بتحويله من ذاتٍ دارسٍ إلى موضوعٍ مدروسٍ، والقضاء على مُركّب النقص لدى الأنا بتحويله من موضوعٍ مدروسٍ إلى ذات دارسٍ.[36]» 
ويتابع حسن حنفي تصوُّره للاستغراب: «كيف ندرس الغرب؟ لا بد من التخطيط الفعّال في هذه القضية إن أردنا أن ننجح حقًّا في معرفة الغرب والإفادة من المعطيات الإيجابية للحضارة الغربية. ويحتاج هذا الأمر إلى عشرات اللجان في العديد من الجامعات العربية والإسلامية لوضع الخطط اللازمة لهذه الدراسات. ولكن حتى يتمّ ذلك لا بد من التفكير في الطريقة المثلى لهذه الدراسات.
وبعد البدء في برامج اللغات العربية استعانت الجامعات الأمريكية بعددٍ من أساتذة الجامعات البريطانيين خاصّةً، والأوروبيين عامةً، لتدريس الاستشراق في الجامعات الأمريكية، كما بدأت الاستعانة ببعض أبناء المنطقة لإنشاء أقسام دراسات الشرق الأدنى، كما فعلت جامعة برنستون حينما كلّفت فيليب حِتّي لإنشاء القسم في الجامعة. ثم بدأ التعاون بين أقسام دراسات الشرق الأوسط والمؤسسات العلمية الأخرى مثل مؤسسة الدراسات الاجتماعية والإنسانية وغيرها من المؤسسات العلمية والأكاديمية.
وفي العالم الإسلامي يكاد لا ينقصنا دراسة اللغات الأوروبية، ولكننا بحاجةٍ إلى من يتعلّم هذه اللغات ليصل إلى مستوًى رفيعٍ في التمكّن من هذه اللغات، وبالتالي الدراسة في الجامعات الغربية والتعمّق في قضايا الغرب، لا دراسة موضوعات تخص العالم الإسلامي. كما أنّنا بحاجةٍ إلى من يتعمّق في علم الاجتماع الغربي ليعرف مجتمعاتهم كأنّه واحدٌ منهم. ولم تَعدْ هذه المسألة صعبةً؛ فإنّ في الغرب اليوم كثيرًا من المسلمين من أصولٍ أوروبيةٍ وأمريكيةٍ يستطيعون معرفة بيئاتهم معرفةً حقيقيةً، ولا يَعوقهم شيءٌ في التوصّل إلى المعلومات التي يرغبون في الحصول عليها. ولا بد من التأكيد على أنّ دراستنا الغربَ يجب أن تستفيد من البلاد التي سبقتنا في هذا المجال، ومن ذلك أن عددًا من البلاد الأوروبية قد أنشأت معاهدَ للدراسات الأمريكية، فهناك معهد الدراسات الأمريكية التابع لكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة لندن.
ودراستنا الغربَ لا شك ستختلف عن دراسة الغرب لنا، ذلك أنّ الغرب بدأ الاستشراق فيه منطلقًا من توجيهات وأوامر البابوات لمعرفة سرّ قوة المسلمين وانتشار الإسلام في البلاد التي كانت خاضعةً للنصرانية. وكان القصد لا فقط معرفة الإسلام والمسلمين، ولكن كانت أيضًا لهدفين آخرين: أحدهما تنفير النّصارى من الإسلام، والثاني إعداد بعض رجال الكنيسة للقيام بالتنّصير في البلاد الإسلامية. 
أما نحن فحين نريد دراسة الغرب ومؤسساته وهيئاته فأوّلًا نحن بحاجةٍ للأخذ بأسباب القوّة المادّيّة التي وصلوا إليها، أليس في كتابنا الكريم ما يؤكد هذا ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا ٱسۡتَطَعۡتُم مِّن قُوَّةٖ وَمِن رِّبَاطِ ٱلۡخَيۡلِ تُرۡهِبُونَ بِهِۦ عَدُوَّ ٱللَّهِ وَعَدُوَّكُمۡ﴾ (الأنفال 60).
والأمر الآخر أنّنا حين نَدْرس الغرب فليس لدينا تطلعاتٌ استعماريةٌ، فما كان المسلمون يومًا استعماريين. ولكنّنا نريد أن نحميَ مصالحنا ونفهم طريقة عمل الشركات متعددة الجنسيات التي ابتدعها الغرب وأصبحت أقوى نفوذًا من كثيرٍ من الحكومات، وجاء في حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: (نضّر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها فبلّغها إلى من لم يسمعها؛ فرُبّ مُبَلّغٍ أوعى من سامعٍ أو رُبَّ حاملِ فقهٍ إلى من هو أفقهُ منه). ونحن أمة الشهادة فكيف لنا أن نشهد على الناس دون أن نعرفهم المعرفة الحقيقية؟!( ﴿قُلۡ هَٰذِهِۦ سَبِيلِيٓ أَدۡعُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا۠ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِيۖ﴾.
والأمر الثالث وهو أمرٌ له أهميته الخاصة، أن هذه الأمة هي أمةٌ الدعوة والشهادة؛ فإنْ كان الأنبياء قبل سيّدنا محمد صلى الله عليه وسلم كانوا يُكَلّفون بدعوة أقوامهم بينما الدعوة الإسلامية موجهةٌ إلى العالم أجمع، وقد كلّف المسلمون جميعًا بحمل هذه الأمانة.
ولن يكون علم الاستغراب لتشويه صورة الغرب في نظر العالم، ذلك أننا ننطلق من قوله تعالى {ولا يجرمنّكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله}، ولنا أسوةٌ في ذلك بما ورد عن عمرو بن العاص رضي الله عنه في وصف الروم بقوله: «إنّ فيهم لخصالًا أربعًا: إنهم لأحلم الناس عند فتنة، وأسرعهم إفاقةً بعد مصيبةٍ، وأوشكهم كرةً بعد فرّةٍ، وخيرُهم لمسكينٍ ويتيمٍ وخامسةً حسنةً جميلةً: وأمنعهم من ظلمِ الملوك».فمتى ينشأ علم الاستغراب؟!»[37]
من خلال هذا النّصّ الطويل، يتبيّن لنا أنّ حسن حنفي هو رائدُ علم الاستغراب في الوطن العربي بامتيازٍ؛ حيث يدعو إلى تأسيس هذا العلم في الجامعات العربية من أجل دراسة العقل الغربي فهمًا، وتفسيًرا، وتأويلًا. ولن يتحقّق ذلك الأمر إلا بالتسلّح بمنهجية التفكيك الغربي من جهةٍ، ومنهجية القرآن والسنة من جهةٍ أخرى، من أجل فهم قوة الغرب وتفسيرها وتأويل منظومتها الفكرية المركزية، واستجلاء مَواطن قوة الغرب وبواطن ضعفه. وأهم ميزةٍ يتميّز بها هذا المفكر المصري هو دعوته إلى تأسيس علمٍ جديدٍ هو علم الاستغراب الذي يتميّز عن الفكر الإسلامي بحداثة مناهجه العلمية، والاستعانة بالفلسفة والأدوات المختبرية الموضوعية.
ومن ناحيةٍ أخرى، يُعدُّ المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد من رُوّاد علم الاستغراب، ومن محلِّلي الخطاب الاستعماري، ومن أهمّ منظِّرِي نظرية «ما بعد الاستعمار». لذلك، توج بكونه مؤسسا لهذا الحقل المعرفي الذي يعنى بتفكيك الخطاب الاستعماري أو الكولونياليّ الجديد. كما يُعدُّ أيضًا من رُوّاد النّقد الثّقافيْ؛ لأنّه اهتمّ كثيرًا باستكشاف الأنساق الثّقافية المضمرة في المؤسسات المركزية الغربية، بتحليل الخطاب الاستشراقي تفكيكًا وتشريحًا وتقويضًا، متأثِّرًا في ذلك بمنهجية دريدا، وميشيل فوكو، وأنطونيو غرامشي.
وينطلق إدوارد سعيد، في كتابه (الاستشراق)، من تعريف الشرق، بتحديد مدلولاته الجغرافية والحضارية، وتعريف مصطلح الاستشراق في ضوء المفاهيم اللغوية، والعلمية، والأكاديمية، والتاريخية، والمادية. وبعد ذلك، ينتقل الباحث إلى استعراض تاريخ الاستشراق الغربي في مساراته العلمية والاستعمارية، مُركِّزًا بالخصوص على الاستشراق الفرنسي، والاستشراق الإنجليزي، والاستشراق الأمريكي الذي ازدهر بعد الحرب العالمية الثانية. ومن ثَمّ، فلقد تعامل الباحث مع الاستشراق خطابًا للتحليل، معتمدًا في ذلك على نظريات ميشيل فوكو وأنطونيو غرامشي. وفي هذا الصدد، يقول إدوارد سعيد: «إذا اتّخذنا من أواخر القرن الثامن عشر نقطةً للانطلاق محدَّدةً تحديدًا تقريبيًّا، فإن الاستشراق يمكن أن يناقش، ويحلل بوصفه المؤسسة المشتركة للتعامل مع الشرق التعامل معه بإصدار تقريراتٍ حوله، وإجازة الآراء فيه وإقرارها، وبوصفه، وتدريسه، والاستقرار فيه، وحكمه: وبإيجازٍ، الاستشراق كأسلوبٍ غربيٍّ للسيطرة على الشرق، واستبنائه، وامتلاك السيادة عليه. ولقد وجدت استخدام مفهوم ميشيل فوكو للخطاب، كما يصفه في كتابيه (حفريات المعرفة) و(المراقبة والعقاب) ذا فائدةٍ هنا لتحديد هوية الاستشراق. وما أطرحه هنا هو أنّنا ما لم نكتنهْ الاستشراق بوصفه خطابًا، فلن يكون في وسعنا أبدًا أن نفهم الفرع المنظَّم تنظيمًا عالًيا الذي استطاعت الثقافة الغربية عن طريقه أن تتدبر الشرق -بل حتى أن تنتجه- سياسيًّا، واجتماعيًّا، وعسكريًّا، وعقائديًّا، وتخييليًّا، في مرحلة ما بعد عصر التنوير. وعلاوةً على ذلك، فقد احتلّ الاستشراق مركزًا هو من السيادة بحيث إنني أؤمن بأنّه ليس في وسع إنسانٍ يكتب عن الشّرق، أو يفكّر فيه، أو يمارس فعلًا متًعلّقًا به أن يقوم بذلك دون أن يأخذ بعين الاعتبار الحدود المُعِيقة التي فرضها الاستشراق على الفكر والفعل. ولا يعني هذا أن الاستشراق، بمفرده، يقرّر ويحتّم ما يمكن أن يُقال عن الشرق، بل إنّه يشكّل شبكةالمصالح الكلّيّة التي يُستحَضر تأثيرُها بصورةٍ لا مفرّ منها في كلِّ مناسبةٍ يكون فيها ذلك الكيان العجيب الشرق موضعا للنّقاش. أما كيف يحدث ذلك، فإنه ما يحاول هذا الكتاب أن يكشفه. كذلك يحاول هذا الكتاب أن يُظهر أنّ الثقافة الغربية اكتسبت المزيد من القوّة ووضوح الهوية بوضع نفسها موضع التضاد مع الشرق باعتباره ذاتًا بديلةً.»[38]
ومن الناحية المنهجيّة، فلقد اعتمد إدوارد سعيد على دراسة الخطاب الاستشراقي بمنهجيةٍ فيلولوجيةٍ تفكيكيةٍ قائمةٍ على دراسة الأفكار والثقافات والتواريخ ليبرهن على أنّ العلاقة بين الشرق والغرب مبنيّةٌ على القوة والسيطرة والهيمنة المعقدة المتشابكة. ومن ثَمّ، يرى إدوارد سعيد أنّه «ينبغي على المرء ألّا يفترض أبدًا بأنّ بنية الاستشراق ليست سوى بنيةٍ من الأكاذيب أو الأساطير التي ستذهب أدراج الرياح إذا كان للحقيقة المتعلقة بها أن تُجلَّى. وأنا نفسي أؤمن بأنّ الاستشراق أكثرُ قيمةً بشكلٍ خاصٍّ كعلامةٍ على القوّة الأوروبية -الأطلسيّة- بإزاء الشرق منه كخطابٍ حقيقيٍّ عن الشرق (وهو ما يُدعى الاستشراق، في شكله الجامعي أو البحثي، كونه). على أيِّ حالٍ، إنّ ما علينا أنْ نحترمه ونحاول أن ندركه هو القوة المتلاحمة للخطاب الاستشراقي، وعلاقاته الوثيقة بالمؤسسات الاجتماعية والسياسية المعززة، وقدرته المهيبة على البقاء.»[39]
وعليه، فلقد تمثّل إدوارد سعيد منهجية ميشيل فوكو في دراسة الخطاب، ثُمّ استحضر أفكار أنطونيو غرامشي في التمييز بين المجتمع المدني والمجتمع السياسي، والحديث عن التسلط الثّقافيّ. ومن ثَمّ، يمثّل الاستشراق الغربي نوًعا من التّسلّط الثّقافيّ؛ لأنه يؤكّد التّفوّق الأوروبي مقابل التّخلّف الشّرقّي، ويبيّن أيضا أنّ للغرب اليد العليا على الشرق تنويرًا، وتعليمًا، وتثقيفًا، وتمدينًا.
وقد استند إدوارد سعيد، في تعامله مع الخطاب الاستشراقي، إلى رؤيةٍ ثقافيةٍ سياسيةٍ قائمةٍ على ثلاثِ خطواتٍ منهجيةٍ هي:
 أولاً: التمييز بين المعرفة الخالصة والمعرفة السياسية.
وثانياً: الاهتمام بالمسألة المنهجية في التعامل مع الأفكار والمؤلفين والمراحل التاريخية، بالتركيز على الاستشراق الاستعماري للشرق، سواءً أكان فرنسيًّا، أم بريطانيًّا، أم أمريكيًّا.
وثالثاً: البعد الشخصي الذي يتمثل في الجمع بين الموضوعية والذاتية القائمة على الوعي النّقديّ، مع الاستعانة بأدوات البحث التاريخي، والسياسي، والإنساني، والثقافي.
وفي الأخير، يبيّن إدوارد سعيد أن كتابه( الاستشراق ) مُوجَّهٌ إلى مجموعةٍ من القُرّاء، بما فهيم طُلّاب الأدب والنقد لتبيان العلاقات المتداخلة بين المجتمع والتاريخ والنصوص، وفهم الدور الثقافي الذي يقوم به الشرق في الغرب، مع الربط بين الاستشراق وبين العقائدية والسياسة ومنطق القوة. كما يقدّم الكتاب إلى القارئ العام وقارئ العالم الثالث؛ حيث تطرح هذه الدراسة بالنسبة له «خطوةً لا نحو فهم السياسة الغربية والعالم الغربي في هذه السياسة، بل نحو فهم قوة الخطاب الثقافي الغربي، وهي قوةٌ كثيرًا جدًّا ما تُفهم خطأً على أنها زخرفيةٌ فقط، أو منتميةٌ إلى البنية الفوقية. إنّ أملي هو أنْ أوضّح البنية المتينة الصلبة للسيطرة الثقافية والأخطار والإغراءات الكامنة في استخدام هذه البنية، خصوصًا بالنسبة للشعوب المستعمرة سابقًا، عليهم أو على الآخرين.»[40]
إذاً، لقد تأثّر إدوارد سعيد بفكر (ما بعد الحداثة) بصفةٍ عامةٍ، وفكر ميشيل فوكو بصفةٍ خاصّةٍ. دون أن ننسى تأثّره بالتاريخ الجديد، وفلسفة جاك دريدا التفكيكية والتقويضية. وقد ربط إدوارد سعيد خطابه الاستشراقي بنزعة التباين والاختلاف بين الشرق والغرب؛ فلقد تسلّح الغرب بكل مقولاته المركزية وآلياته البنيوية لإخضاع الشرق والهيمنة عليه سياسيًّا، وعسكريًّا، واجتماعيًّا، وثقافيًّا، وعلميًّا. ومِنْ ثَمَّ، يقوم الاستشراق بدورٍ هامٍّ في عملية الإخضاع والاستيلاء والتغريب، بربط الشرق بأغراض المصلحة الغربية. ومِنْ ثَمَّ، يتبجّح الاستشراق الغربي بالصفات الرشيدة للحضارة الغربية التي تتمثل في الديمقراطية على سبيل الخصوص. بينما يُعرَّف الشرق بالصفات الذميمة كالشهوانية، والبدائية، والاستبدادية. ومِنْ ثَمّ، فالغرب عند إدوارد سعيد هو العقل، والمركز، والاستشراق.
ومن هنا، يطرح إدوارد سعيد سؤالًا هاًّما وقَيِّمًا: هل كُتّاب السكان الأصليين في إطار النظرية الجديدة يتمثّلون النظرية الغربية أم يعارضونها؟ بمعنى هل يرفضون الثقافة السائدة ؟ أم يُخضعونها لمشرح التفكيك والتقويض بالمفهوم الدريدي نسبةً إلى تفكيكية جاك دريدا؟!!
ويرى ديفيد كارتر (David Karter)، في كتابه (النظرية الأدبية)، أن تحليلات إدوارد سعيد» للخطابات الاجتماعية المختلفة هي بشكلٍ أساسيٍّ تفكيكيةٌ و»ضد التيار». فقد كان هدفه تهميش الوعي للعالم الثالث، وتقديم نقدٍ من شأنه أن يُقوّض هيمنة خطابات العالم الأول. وبالنسبة لسعيد، جميع تمثيلات المشرق المقدَّمة من قِبل الغرب تُشكّل جهدًا دؤوبًا يهدف إلى الهيمنة والإخضاع. وقد خدم الاستشراق أغراض الهيمنة الغربية (بالمعنى الذي قصده غرامشي): لإضفاء الشرعية على الإمبريالية، وإقناع سكان هذه المناطق بأنّ قبولهم للثقافة الغربية هي عملية تمدينٍ إيجابيةٍ. ومن خلال تعريف الاستشراق للشرق، فإنه يعرف أيضا كيف يتصور الغرب نفسه (وذلك من خلال المعارضات الثنائية). فالتشديد على الشهوانية والبدائية والاستبدادية في الشرق، يؤكد على الصفات الرشيدة والديمقراطية عند الغرب.»[41]
وما يُلاحَظ على إدوارد سعيد أنّه قد أهمل الاستشراق الإسباني، على الرغم من طابعه الاستعماري في المغرب على سبيل الخصوص. كما نعتبره المؤسس الحقيقي لنظرية «ما بعد الاستعمار» في الحقلين الثقافيين: العربي والغربي على حدٍّ سواءٍ. ويُعدُّ كذلك الممِّهدَ الفعليَّ للنّقد الثّقافيّ وعلم الاستغراب على حدٍّ سواءٍ. ومن هنا، «يأتي إدوارد سعيد في طليعة محلِّلي الخطاب الاستعماري، بل ويَعُدُّه بعضهُم رائدَ الحقل، فقد استطاع بمفرده في كتابه (الاستشراق) كما كتب أحد الدارسين مؤخَّرا، «أن يفتتح حقلًا من البحث الأكاديمي هو الخطاب الاستعماري» (باتراك ويليامز،5). ذلك أنّ دراسة سعيد للاستشراق دراسةٌ لخطاب استعماريٍّ، خطابٌ تلتحم فيه القوة السياسية المهيمنة بالمعرفة والإنتاج الثقافي، غير أنّ تحليل سعيد جاء مرتكزًا على سياقٍ معرفيٍّ وبحثيٍّ سابقٍ له يتضمن أعمال اثنين من المفكرين الأوروبيين المعاصرين، هما: الفرنسي ميشيل فوكو والإيطالي أنطونيو غرامشي. ومن الممكن والحال كذلك اعتبار هذين المفكرين ممّن وضعوا أسس البحث في الخطاب الاستعماري، بالإضافة إلى بعض فلاسفة مدرسة فرانكفورت مثل: ثيودور أدورنو، وماكس هوركهايمر، وكذلك والتر بنجامين، وحنّه أرندت.»[42]
ومن هنا، فكتاب (الاستشراق) لإدوارد سعيد خيرُ نموذجٍ يُعبّر عن علم الاستغراب من جهةٍ، ونظرية ما بعد الاستعمار من جهةٍ أخرى، ما دام هذا الكتاب خطابًا مُضادًّا للاستشراق الغربي؛ لكونه يحوي انتقادات واعيةً ولاذعةً لخطاب التمركز الغربي تقويضًا وتفكيكًا وتشتيتًا. و»هناك شبهُ إجماعٍ بين الدارسين على الدّور المؤسِّس الذي لعبه كتاب إدوارد سعيد عن «الاستشراق»، في صياغة اللبنات الأولى لنظرية «ما بعد الاستعمار». فقد استدعى هذا الكتاب، بما طرحه من أفكارٍ، طائفةً أخرى واسعةً من الكتابات التي ناقشت هذه الأفكار، أو ردّت عليها، أو طوّرتها، سواءً كتابات اللاحقين من منظِّري «ما بعد الاستعمار» مثل: سلمان رشدي، وهومي بابا، وجاياتري سبيفاك، أو من تصدوا للنظرية من منظور مخالف، وكشفوا عن تناقضاتها، مثل إعجاز أحمد وعارف ديليرك. وقد شارك إدوارد سعيد نفسه بعد ذلك في تطوير النظرية وتأمّلها، من خلال كتاباته ومراجعاته المتعددة التالية لكتاب الاستشراق، وخاصّةً في كتب مثل: «الثقافة والإمبريالية» و»صور المثقف» و»تأملات حول المنفى» وغيرها. وكان أن انتهت هذه الكتابات جميعًا، وفي زمنٍ قصيرٍ نسبيًّا،إلى بلورة حقلٍ ثقافيٍّ جديدٍ يُعرف الآن باسم «ما بعد الاستعمار.»[43]
وعليه، يُعدُّ إدوارد سعيد المؤسس الفعلي لنظرية ما بعد الاستعمار في فترة ما بعد الحداثة، ومن الممهدين الفعليين للنقد الثقافي وعلم الاستغراب في القرن العشرين.
وخلاصة القول: يُعدُّ علم الاستغراب خطابًا مضادًّا للاستشراق الغربي، وقد جاء الاستغراب لفضح المركزية الغربية، ودحض تفوق الغرب المبالغ فيه، بتشخيص العقل الغربي تفكيكًا وتركيبًا، في مختلف مجالاته وميادينه وحقوله النظرية والتطبيقية، بغية استكشاف مواطن القوة والضّعف؛ حيث يتحول الغرب إلى موضوع للدراسة والبحث والفحص والنبش من قِبل الأنا العارفة المشرقية التي تمارس تشريحها التفكيكي والتقويضي لسبر أوهام التمركز الغربي، ونقد مؤسساته الرأسمالية من خلال تقديم بديلٍ حضاريٍّ جديدٍ، يتمثّل في الحضارة العربية الإسلامية.

الخاتـمة
وخلاصة القول: يتبيّن لنا، مِمّا سبق ذكره، أنّ الاستشراق عبارةٌ عن حركةٍ فكريةٍ وسياسيةٍ ودينيةٍ وتبشيريةٍ وتنصيريةٍ غرضُها دراسة الشرق لإخضاعه سياسيًّا وعسكريًّا ومجتمعيًّا، وتشويهه دينيًّا وروحيًّا، واستغلاله اقتصاديًّا. ولقد استعمل المستشرقون الغربيون جميع الوسائل المادية والمالية والعلمية لفهم الشرق، وتشويه الإسلام والمسلمين، والحط من قيمة الحضارة العربية الإسلامية. ومن هنا، فالاستشراق حركةٌ فكريةٌ وعلميةٌ وفنيةٌ من جهةٍ، ونزعةٌ دينيةٌ وتبشيريةٌ واستعماريةٌ وتنصيريةٌ من جهةٍ أخرى، هدفها دراسة الشرق العربي الإسلامي دراسةً علميةً وأكاديميةً، سواءً أكانت تلك الدراسة موضوعيةً أم ذاتيةً. ومِن ثَمَّ، فالغرض الرئيس للاستشراق هو فهم الإسلام في كل جوانبه المادية والروحية والعقدية، ودراسة حضارة المسلمين في مختلف مراحلها التاريخية لمعرفة عوامل نهوضها وانتشارها ونكوصها.
وإذا كان الاستشراق ينظر، في عمومه، إلى الإسلام والمسلمين نظرةً عدائيةً أساسها الحقد والاستعلاء والإقصاء والتغريب والهيمنة، فلقد قدّم أيضا خدماتٍ جلى وعظيمةً للتراث العربي الإسلامي في جميع مجالاته وميادينه العلمية والمعرفية. ومِنْ ثَمَّ، فالاستشراق سلاحٌ ذو حدين: حدٍّ إيجابيٍّ، وحدٍّ سلبيٍّ.
ومن ناحيةٍ أخرى، يحيلنا مفهوم الاستمزاغ على تلك الحركة الأمازيغية الهوياتية والفكرية والسياسية والإيديولوجية التي ظهرت في شمال إفريقيا للدفاع عن الحضارة الأمازيغية من جهةٍ، والتشبّث باللغة الأمازيغية وكتابة تيفيناغ من جهةٍ أخرى. ولقد ساهم كثيرٌ من المستمزغين المغاربيين والأجانب في النهوض بهذه الحركة الفكرية والعلمية واللغوية، وما زالت هذه الحركة تؤتي ثمارها إلى يومنا هذا.
وفي ما يخص مصطلح الاستعراب، فهو يحيل على تلك الحركة الفكرية والجامعية والأكاديمية الإسبانية التي اهتمت بدراسة تراث الأندلس في مختلف جوانبه وميادينه وحقوله المعرفية، إما باستخدام اللغة العربية من جهةٍ، وإما باستخدام الإسبانية واللغات اللاتينية من جهةٍ أخرى. وقد تأسّست مدرسة كوديرا (Codera) الاستعرابية لتكوين مجموعةٍ من المستعربين الإسبان في مجال الدراسات الأندلسية. ومِن ثَمّ، فلقد كانت لهذه المدرسة إيجابياتٌ وسلبياتٌ في الآن نفسه.
ويعني مصطلح الاستغراب دراسة الغرب دراسةً تقويضيةً وتفكيكيةً علميةً، بنقد غطرسته وتبجّحه ومركزيته وتفوّقه، ضمن ما يُسمّى أيضا بالاستشراق المضادّ. والهدف من ذلك هو التعرّف إلى الغرب في مختلف مجالاته المادية والمعنوية والرمزية، بتفكيك منظومته الفكرية والعقدية والحضارية والثقافية، واستكشاف مواطن قوّته وضعفه، وتبيان سموّ الحضارات المجاورة الأخرى كالحضارة العربية الإسلامية، والحضارات الإفريقية، والحضارات الآسيوية...

المصادر والمراجع
المراجع باللغة العربية:
1-إدوارد سعيد: الاستشراق، ترجمة: كمال أبو ديب، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت، لبنان، الطبعة السابعة سنة 2005م.
2- بول موي: المنطق وفلسفة العلوم، ترجمة: فؤاد حسن زكريا، دار نهضة مصر، القاهرة، د.ت.
3- خوان غويتيسولو: في الاستشراق الإسباني، دراساتٌ فكريةٌ، ترجمة: كاظم جهاد، نشر الفنك، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الأولى سنة 1997م.
4- حسن حنفي: مقدمةٌ في علم الاستغراب، الدار الفنيه للنشر والتوزيع، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى سنة 1991م.
5- دافيد كارتر: النظرية الأدبية، ترجمة: د. باسل المسالمه، دار التكوين، دمشق، سوريا، الطبعة الأولى سنة 2010م
6- رودي بارت: الدراسات العربية والإسلامية في الجامعات الألمانية، ترجمة مصطفى ماهر، القاهرة، مصر.
7- زيغريدهونكه: شمس العرب تسطع على الغرب، تحقيق: فاروق بيضون، وكمال دسوقي، دار الجيل، ودار الآفاق الجديدة، بيروت، لبنان، طبعة 1993م.
8- سعد البازعي وميجان الرويلي: دليل الناقد الأدبي، المركز الثقافي العربي، بيروت، لبنان، الطبعة الثانية، سنة 2000م.
9- صادق جلال العظم: الاستشراق والاستشراق معكوسًا، الطبعة الأولى سنة 1981م.
10- عباس الجراري: الأدب المغربي من خلال ظواهره وقضاياه، الجزء الأول، مكتبة المعارف، الرباط، المغرب، الطبعة الثانية،1982م.
11-عبد المجيد دياب: تحقيق التراث العربي منهجه وتطوره، دار المعارف، القاهرة، مصر، الطبعة الثانية 1993م.
12- عثمان الكعاك: البربر، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الثانية، 2003م.
13- محمد البهي: الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة السادسة 1973م.
14- مصطفى خالدي وعمر فروخ: التبشير والاستعمار في البلاد العربية، الطبعة الخامسة سنة 1973م.
15- محمد خروبات: الاستشراق والعلوم الإسلامية بين نقلانية التأصيل وعقلانية التأويل، المطبعة والوراقة الوطنية، مراكش، المغرب، الطبعة الأولى سنة 2017م.
16- محمد شفيق: البربر، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الثانية، 2003م.
17- نجيب العقيقي: المستشرقون، الجزء الثاني، دار المعارف، القاهرة، مصر، الطبعة الرابعة، سنة 1980م.

المراجع الأجنبية:
18-Marيa Rosa Menocal: The Ornament of the World: How Muslims, Jews, and Christians Created a Culture of Tolerance in Medieval Spain Little, Brown, (2002).
19-Pascual de Gayangos: History of the Mohammedan Dynasties in Spain. London 1840-1861.
20-Theory, Practice and the Intellectual:
A Conversation with Abdul R. Jan Mohamed, by S.X. Goudie, Juvert: A Journal of postcolonial Studies, published by The College of Humanities and social sciences, North Carolina State University, Volume 1, Issue 2, 1997.

المقالات:
21- الحسين الإدريسي: (مسارات التحول في مواقف المستعربين الإسبان)، الخطاب الاستشراقي في أفق العولمة، يومٌ دراسيٌّ، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية رقم 76، جامعة محمد الأول، وجدة، المغرب، الطبعة الأولى سنة 2003م.
22- محمد عابد الجابري: ( التراث ومشكل المنهج)،المنهجية في الأدب والعلوم الإنسانية، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، الطبعة الأولى، 1986م.
23- مصطفى الغديري: (الحركة الاستعرابية الإسبانية /مدرسة كوديرا نموذجًا)، الخطاب الاستشراقي في أفق العولمة، يومٌ دراسيٌّ، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية رقم 76، جامعة محمد الأول، وجدة، المغرب، الطبعة الأولى سنة 2003م.
الروابط الرقمية:
24-خيري دومة: (عَــدْوَى الرَّحِــــــــــــيل موسم الهجرة إلى الشمال ونظرية «مــا بعـــد الاستعمار»)،
 http://www.ibn-rushd.org/forum/Adwa-al-Raheel.htm

-------------------------------------
[1]    رودي بارت: الدراسات العربية والإسلامية في الجامعات الألمانية، ترجمة مصطفى ماهر، القاهرة، مصر، ص:12.
[2]    عبد المجيد دياب: تحقيق التراث العربي منهجه وتطوره، دار المعارف، القاهرة، مصر، الطبعة الثانية 1993م، ص:176.
[3]    عبد المجيد دياب: تحقيق التراث العربي منهجه وتطوره، ص:176-177.
[4]    محمد البهي: الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة السادسة 1973م، ص:533.
[5]    عبد المجيد دياب: تحقيق التراث العربي منهجه وتطوره، ص:176-177.
[6]    محمد البهي: نفسه، ص:534.
[7]    محمد البهي: نفسه، ص:533.
[8]    محمد البهي: نفسه، ص:533.
[9]    محمد البهي: نفسه، ص:52.
[10]  - María Rosa Menocal :The Ornament of the World: How Muslims, Jews, and Christians Created a Culture of Tolerance in Medieval Spain Little, Brown,   (2002).
[11]  زيغريدهونكه: شمس العرب تسطع على الغرب، تحقيق: فاروق بيضون، وكمال دسوقي، دار الجيل، ودار الآفاق الجديدة، بيروت، لبنان، طبعة 1993م.
[12]  محمد عابد الجابري: (التراث ومشكل المنهج)، المنهجية في الأدب والعلوم الإنسانية، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، الطبعة الأولى، 1986م، ص:80.
[13]  عابد الجابري: نفسه، ص:81.
[14]  عابد الجابري: نفسه، ص:80-81.
[15]  عابد الجابري: نفسه، ص:81.
[16]  مصطفى خالدي وعمر فروخ: التبشير والاستعمار في البلاد العربية، الطبعة الخامسة سنة 1973م، ص:17.
[17]  عثمان الكعاك: البربر، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الثانية، 2003م، ص:100-101.
[18]  عباس الجراري: الأدب المغربي من خلال ظواهره و قضاياه، الجزء الأول، مكتبة المعارف، الرباط، المغرب، الطبعة الثانية، 1982م، ص: 16.
[19]  عثمان الكعاك: نفسه، ص:92-93.
[20]  عثمان الكعاك: نفسه، ص:93-94.
[21]  محمد شفيق: البربر، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الثانية، 2003م، ص:60.
[22]  انظر الحوار مع المستعرب الإسباني فيديريكو أريوس، جريدة العلم عدد26/11/1996م، والحوار الذي أُجري مع المستعرب الإسباني بيدرو مونتابيث في الملحق الثقافي لجريدة العلم، عدد 27/07/2002م.
[23]  - مصطفى الغديري: (الحركة الاستعرابية الإسبانية /مدرسة كوديرا نموذجًا)، الخطاب الاستشراقي في أفق العولمة، يومٌ دراسيٌّ، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية رقم 76، جامعة محمد الأول، وجدة، المغرب، الطبعة الأولى سنة 2003م، ص:81 (الهامش).
[24]    -Pascual de Gayangos: History of the Mohammedan Dynasties in Spain. London 1840-1861.-
[25]  مصطفى الغديري: (الحركة الاستعرابية الإسبانية /مدرسة كوديرا نموذجا)، ص: 86.
[26]  انظر الحسين الإدريسي: (مسارات التحول في مواقف المستعربين الإسبان)، الخطاب الاستشراقي في أفق العولمة، يومٌ دراسيٌّ، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية رقم 76، جامعة محمد الأول، وجدة، المغرب، الطبعة الأولى سنة 2003م،ص:119-151.
[27]  «على الرغم من نفي بعض المستعربين الإسبان العلاقة بين مدرسة كوديرا الاستعرابية وبين حركة أو جمعية المتأفرقين الاستعمارية (Los Africanistas) التي كان همها القيام بدراساتٍ عن أوضاع شمال إفريقيا كي تساعد القوة العسكرية على الاستيلاء عليها، المغرب منها خاصةً، إلا أنه من الثابت أنّ كثيرًا من هؤلاء كانوا أعضاءً في هذه الجمعية التي تحالفت مع السياسة الاستعمارية الإسبانية في احتلال المغرب. فقد وضع هؤلاء دراساتهم في خدمة هذه السياسة، إذ كان غايانغوس، وكوديرا من المساهمين في «الجمعية الإسبانية لاكتشاف إفريقيا»، كما ساهما في تأسيس «جمعية المتأفرقين الاستعمارية».وكان خوليان ريبيرا من المؤيدين لحضور إسبانيا سلميّا في المغرب، وحين أنشأت الحكومة الإسبانية مجلسًا للتعليم في شمال المغرب عقب الحماية المشؤومة سنة 1912م كان كلٌّ من خوليان ريبيرا وأسين بالثيوس عضوًا فيه، ما يعني أنّ أعضاءً أو رؤوسًا هذه المدرسة الاستعرابية ساهموا، بمعرفتهم اللغة العربية، في التوسع الاستعماري الإسباني بالمغرب شأن المستشرقين الإنجليز الذين رسموا الطريق لبريطانيا في الاستيلاء على المشرق.» مصطفى الغديري: نفسه، ص:100-101.
[28]  انظر: نجيب العقيقي: المستشرقون، الجزء الثاني، دار المعارف، القاهرة، مصر، الطبعة الرابعة، سنة 1980م.
[29]  -شبه جزيرة إيبيريا(Iberia): هي المنطقة التي تضمّ كُلَّا من إسبانيا، والبرتغال، ومحمية جبل طارق،  وأندورا.
[30]  خوان غويتيسولو: في الاستشراق الإسباني، دراساتٌ فكريةٌ، ترجمة: كاظم جهاد، نشر الفنك، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الأولى سنة 1997م، ص:223.
[31]  خوان غويتيسولو: في الاستشراق الإسباني، المرجع المذكور سابقا.
[32]  -صادق جلال العظم: الاستشراق والاستشراق معكوسًا، الطبعة الأولى سنة 1981م.
[33]  محمد خروبات: الاستشراق والعلوم الإسلامية بين نقلانية التأصيل وعقلانية التأويل، المطبعة والوراقة الوطنية، مراكش، المغرب، الطبعة الأولى سنة 2017م، ص:115.
[34]    -Theory, Practice and the Intellectual: A Conversation with Abdul R. Jan Mohamed, by S.X. Goudie, Juvert: A Journal of postcolonial Studies, published by The College of Humanities and social sciences, North Carolina State University, Volume 1, Issue 2, 1997.
[35]  حسن حنفي: مقدمة في علم الاستغراب، الدار الفنيه للنشر والتوزيع، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى سنة 1991م.
[36]  حسن حنفي: مقدمة في علم الاستغراب، ص:29.
[37]  حسن حنفي: مقدمة في علم الاستغراب، ص:29.
[38]  إدوارد سعيد: الاستشراق، ترجمة: كمال أبو ديب، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت، لبنان، الطبعة السابعة سنة 2005م، ص:38-39.
[39]  إدوارد سعيد: نفسه، ص:41.
[40]  إدوارد سعيد: نفسه، ص:57.
[41]  دافيد كارتر: النظرية الأدبية، ترجمة: د. باسل المسالمه، دار التكوين، دمشق، سوريا، الطبعة الأولى سنة 2010م، ص:126.
[42]  سعد البازعي وميجان الرويلي: دليل الناقد الأدبي، المركز الثقافي العربي، بيروت، لبنان، الطبعة الثانية، سنة 2000م، ص:92.
[43]  -خيري دومة: (عَــدْوَى الرَّحِـيل موسم الهجرة إلى الشمال ونظرية «مــا بعـــد الاستعمار»)،
 http://www.ibn-rushd.org/forum/Adwa-al-Raheel.htm