البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

دراسة المذهب الإسلامي الشيعي في الغرب

الباحث :  لياقت تكيم
اسم المجلة :  دراسات استشراقية
العدد :  20
السنة :  خريف 2019 م / 1441 هـ
تاريخ إضافة البحث :  January / 21 / 2020
عدد زيارات البحث :  2140
تحميل  ( 1.114 MB )
ملخّص:
 ينظر هذا البحث في الدراسة التاريخيّة للمذهب الشيعيّ في المناهج الغربيّة. يطرح البحث نظريّة أنّه حتى أربعة عقود خلت، كانت المدارس الغربيّة تدرس المذهب الشيعيّ وفقًا للمنظور السنّيّ وحسب، كما يُظهر أنّه ومنذ الثمانينيّات برزت عوامل جمّة، منها الثورة الإسلاميّة في إيران، وبروز حزب الله في لبنان، والغزو الأمريكيّ في العراق، وقد فرضت هذه العوامل على المدارس الغربيّة أن تنظر إلى المذهب الشيعيّ من وجهة نظر مختلفة، وبالتالي فإنّها تعرّفت إلى جوانب مختلفة من المذهب الشيعيّ والتي تختلف بين الرؤية الشيعيّة للحكم المركزيّ في أثناء غيبة الإمام، وخاصّة في ما يرتبط بالشعائر والممارسات الشيعيّة والنظريّة السياسيّة الشيعيّة[1].

--------------------------------
كلمات البحث:
دراسات غربيّة، دراسات شيعيّة، الثورة الإيرانيّة، كربلاء، مجتهدون، 9/11.
المقدّمة
حتى وقتٍ ليس ببعيد كانت المناهج التعليميّة الغربيّة حول المذهب الشيعيّ تستند بشكل تامّ إلى المراجع السنّيّة، حيث إنّ الشح الكبير في العديد من المصادر الشيعيّة الذي كان له أثر كبير في العمليّة البحثيّة حتى مطلع النصف الثاني من القرن العشرين، كان أحد الأسباب التي أدّت إلى نقص الفهم الأكاديميّ لتاريخ المذهب الشيعيّ وقانونه وتعاليمه. وكما يقول فريديريك ديني:
على مدى سنوات مديدة ظلّت الدراسات الإسلاميّة في الغرب حتى في جزء كبير من العالم الإسلاميّ نفسه تتشارك النظرة المجحفة التي ترى أنّ المذهب السنّيّ الإسلاميّ هو المذهب الطبيعيّ والتقليديّ للإسلام، في حين أنّ المذهب الشيعيّ، في أحسن الأحوال، لا يعدو كونه بدعة أو في أسوأ الحالات، فهو هرطقة [...]. وبالتالي فإنّ هذه الخرافة التي دارت حول تلك الدائرة الصامتة قد منحت السنّة شعورًا بأنّهم أولياء الحقّ على أوسع نطاق في حكم غالبيّة المجالات الإسلاميّة، حتى في المناطق، التي يشكّل فيها الشيعة الجزء الأكبر من السكان كالعراق ولبنان[2].
إضافة إلى ذلك فإنّ السيد حسين نصر كان قد عبّر في إحدى المناسبات عن تحفّظاتٍ مماثلةٍ حول دراسة المذهب الشيعيّ. حيث إنّ نصر الذي انتشرت كتاباته في الثمانينيّات كان يستغرب كيف «حتى الآن لم يلق المذهب الشيعيّ سوى الاهتمام القليل، وعندما بدأت مناقشته جرى الاستخفاف به واعتباره ذا مكانة ثانويّة أو هامشيّة ولا يعدو كونه «مذهبًا» دينيًّا - سياسيًّا، أو بدعة أو حتى هرطقة»[3].
وفي السنوات الأخيرة دفعت الأحداث التي شهدتها الساحتان الدينيّة والسياسية في الشرق الأوسط بالمدارس الغربيّة إلى الانكباب على دراسة المذهب الشيعيّ باعتباره كيانًا قائمًا بحدّ ذاته، وذلك في سبيل رسم المعالم البارزة والخطوط التي يتّسم بها المذهب الشيعيّ وتميّزه عن المذهب السنّيّ. علمًا أن بعض الأحداث مثل  الثورة الإيرانيّة وظهور حزب الله وإلقاء القبض على الرهائن الغربيّين في بيروت، وفي وقتٍ لاحق، الغزو الأمريكيّ للعراق، والحراك الذي خرج في البحرين والمملكة العربيّة السعوديّة، والمكانة المهمّة من الناحية الجغرافيّة السياسيّة التي راحت تكتسبها إيران، كلّها ساهمت في زيادة حدّة الوعي الأكاديميّ تجاه المذهب الشيعيّ. أمّا هذا البحث فهدفه الغوص في الأسباب التي حملت الغرب على دراسة المذهب الشيعيّ الاثني عشريّ وما استتبعها من تطوّرات، كما يناقش البحث بعض التوجّهات الحاليّة بالنسبة إلى الدراسات الشيعيّة في الغرب. علمًا بأنّه لا يُراد به أن يكون دراسة شاملة في هذا المجال؛ ولكن في الحقيقة هو يقدّم نماذج عن التوجّهات العريضة المتنوّعة والمختلفة التي تعالج الماهيّة التي بدأت بها دراسة المذهب الشيعيّ في المناهج الغربيّة وكيف استمرّت.
فضلًا عن ذلك، فإنّ البحث يطرح الفرضيّة القائلة إنّه من الممكن إدراج تاريخ دراسة المذهب الشيعيّ تحت عنوانين عريضين؛ أحدهما العلوم الدينيّة والآخر العلوم الاجتماعيّة، أمّا الأوّل، وبالاستناد إلى بعض الافتراضات القائمة حول الإسلام والغرب، فيمكن وصفه بأنّه وريث المقاربة الشرقيّة المنهجيّة الكلاسيكيّة، في حين أنّ العنوان الثاني يعكس الجهود التي يبذلها الباحثون المعاصرون الذين هم بأغلبهم من الشيعة، حيث إنّ أعمالهم لا تحيط بمختلف وجوه المذهب الشيعيّ وحسب، إنما تستفيد من مختلف المناهج التي تتنقل ما بين المقاربات التاريخيّة المتسلسلة، وصولًا إلى المقاربات الاجتماعيّة والفينومينولوجيّة، مرورًا بالمقاربات التأويليّة والعرقيّة أيضًا. كما أنّ بعض الدراسات الحديثة المتعلّقة بالمذهب الشيعيّ تتداخل بالاعتبارات العصريّة السياسيّة والاجتماعيّة والثقافيّة أكثر مما تتداخل مع الشؤون اللغويّة والنصّيّة الدقيقة.

الدراسات الغربيّة حول المذهب الشيعيّ في حقبة العصور الوسطى
إنّ واحدة من أقدم الكتابات المسيحيّة التي أرّخت لحياة النبيّ محمّدP تعود للقديس يوحنا الدمشقيّ (حوالي 650 - 750)، الذي ادّعى أنّ النبيّ محمّداً كان مخادعًا كبيرًا ومصروعًا[4]، إضافةً إلى أنّ مؤلّفه:Pege Gnoseos  ينبوع الحكمة، يتضمن فصلًا حول الهرطقات يأتي فيه على ذكر النبيّ باعتباره «مدّعيًا للنبوّة». وفي حوالي عام 1100 قام بعض المؤلّفين من اللاتنيّين بتأليف كثير من الروايات والأساطير بشأن النبيّ، حتى أنّ الاسم «مهوند»، وهو مصطلح مرادف للشر، ابتدعه كتّاب المسرحيّات والروايات من المسيحيّين في القرن الثاني عشر في أوروبّا. وفي هذه الكتابات يظهر النبيّ محمّد باعتباره شخصيّة وثنيّة يعبده العرب[5].
وينبغي أن لا يغيب عن بالنا أنّ الصورة والملامح التي كان الغرب يرسمها للنبيّ محمّد كانت تتأثّر بشكل ملحوظ بالأحداث الاجتماعيّة السياسيّة التي كانت تدور في المنطقة، ولأسباب لا تخفى على أحد فإنّ الصليبيّين على سبيل المثال كانوا يرغبون في تقديم الإسلام في لبوس الدونيّة، حيث إنّ العديد من المؤرّخين خلال الحملة الصليبيّة الأولى (1095 - 1099) كانوا يتصوّرون أنّ أعداءهم من الشرقيّين كانوا من الوثنيّين الذين شيّدوا معبدًا لإلههم محمّد في «معبد الربّ» (أي قبّة الصخرة)[6]. علمًا بأنّ غالبيّة هذه المصادر في تلك الحقبة كانت تشوّه صورة الإسلام والنبيّ، ولم تكن تأتي على ذكر المذهب الشيعيّ مطلقًا.
ومن ثمّ تولّت الخلافة الفاطميّة الحكم في مصر في القرن العاشر، وقد استتبع ذلك أثرًا واسعًا خلّفته هذه السلالة في الشرق الأوسط، وبذلك تكون تلك الحقبة قد شكّلت أوّل احتكاك للغرب مع الشيعة عن طريق الفاطميّين. وعلى سبيل المثال فإنّ وليام الصوريّ، رئيس أساقفة صور جاء على سيرة السنّة والفاطميّين وحدَهم في معرض كلامه عن الإسلام، كما أنّه يذكر رأيًا مرتبطًا بجماعة شيعيّة متطرّفة تدعى الغرابيّة كانت تقول إنّ الوحي كان من المفترض أن ينزل على عليّ (توفي عام 661) وإنّ جبرائيل أخطأ فأنزل الرسالة على النبيّ محمّدP. وقد أطلق على هذا المذهب اسم الغرابّية؛ لأنهم كانوا يعتقدون بأنّ النبيّ وعليّ كانا يشبهان أحدهما الآخر أكثر من غرابين[7].
أضف إلى ذلك أن جاك دو فيتري كان مؤرّخًا صليبيًّا آخر ورئيس أساقفة عكّا بين عامي 1216 و1228، وهو يظهر جهلًا تامًّا بالمذهب الشيعيّ؛ إذ قال إنّ الشيعة يعتقدون بأنّ الله كلّم عليًّا بصورة أكثر ودًا مما كلّم النبيّ محمّدًا. ووفق ما يقول دو فيتري، فإنّ عليًّا وأصحابه هاجموا النبيّ وخرقوا قوانينه[8].
حتى بعد الحملات الصليبيّة، ظل المذهب الشيعيّ مجهولًا تمامًا في الدوائر العلميّة الغربيّة، حيث إنّ التواصل الذي كان يجري بين الأوروبيّين والمسلمين كان يقوم بصورة رئيسة على الاحتكاك بالسلطنة العثمانيّة التي كانت تتبع المذهب السنّيّ.
ولم يبدأ الأوروبيّون بالتعرّف ولو بصورة بسيطة إلى بعض نواحي المعتقدات والممارسات الشيعيّة إلا بعد قيام السلالة الصفويّة في إيران في عام 1501، حيث إنّ كثيرًا من المعلومات التي وردتهم في تلك الحقبة كانت تستند إلى كتابات وملاحظات الديبلوماسيّين والإرساليّين والتجّار الذين كانوا يبعثون بهم إمّا للزيارات الاستكشافيّة وإمّا للإقامة في بلاد فارس. وبالتالي فإنّ كتاباتهم تلك لم تكن علميّة ولا موضوعيّة، حيث كانت في الأغلب الأعم تستند إلى المعتقدات الشعبيّة، وإلى ما كانوا يشاهدونه من ممارسات في شوارع إيران، وعلى سبيل المثال، فإنّ الأب رفايال دو مانس (توفي عام 1696) كان يترأس أحد الأديرة في أصفهان في القرن السابع عشر، وفي كتابه State of Persia  دولة فارس يشير إلى بعض العقائد الشيعيّة والنصوص الشرعيّة والاحتفالات المتعلّقة بهذا المذهب، كما يشير  إلى بعض العلماء من أمثال محمّد تقي المجلسيّ (توفي عام 1659) الذي عاش في تلك الحقبة[9].
ثم جاء آخرون من أمثال جان شاردين الذي كان قد زار بلاد فارس وكتب عنها بين عامي 1664 - 1670 ومن ثمّ بين عامي 1671 - 1677، ويصف في كتابه الهرميّة داخل المرجعيّة الدينيّة الشيعيّة في مدينة مشهد والزلزال الذي كان قد حدث في تلك الفترة. وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أنّ الصفويّين كانوا يولون علماء الدين الشيعة كرامة كبرى، حتى أنّهم كانوا قد عيّنوا بعض هؤلاء في بلاطهم، وعليه فإنّه خلال تلك الحقبة ازدادت حدّة النفوذ الموكل لهؤلاء العلماء بشكل ملحوظ، سواء أكان على المستوى الدينيّ أم السياسيّ. حتى إنّ شاردين وفي مؤلَّفه يأتي على ذكر المجتهدين أيضًا وما اضطلعوا به من نفوذ على الصعيدين الاجتماعيّ والسياسيّ على حدٍ سواء[10].
ومع ازدياد حدة نفوذ القوى الأوروبية وسيطرتها على العالم أجمع مع تطور القرن السابع عشر وصولًا إلى القرن الثامن عشر، فإنّ الأوروبيّين راحوا يزيدون من رحلاتهم إلى بلاد المشرق شيئًا فشيئًا، بما في ذلك إيران. وفي هذا المجال لا يسعنا إلا أن نأتي على ذكر الكتابات التي كانت نتاج الدبلوماسيّ الانتقائيّ جوزيف أرتور كومت دو غوبينو (توفي عام 1882)، والذي كتب في عــام 1859 Trois ans en Asie (ثلاث ســنوات في آســيا)، ومن ثمّ كتاب Religions et philosophies de l’Asie central (الدين والفلسفة في آسيا الوسطى)، وقد كان شاهدًا على الحركة الشيخيّة وأصدر الكتابات حولها، حتى إنّه تطرق أيضًا إلى الجدال الذي كان دائرًا آنذاك بين الإخباريّين والمجتهدين (الأصوليّين). وقد قدّم كثيرًا من المراجع المفصّلة حول المظاهر التي كانت تسود خلال شهر محرم والتي كانت تعبق بالمشاعر الجيّاشة، علمًا أنّ مؤلّفاته تزخر بكثير من المفاهيم المغلوطة والمبالغة في إضفاء الطابع السطحيّ على المعتقدات والشعائر الشيعيّة. وعلى سبيل المثال، فهو يصف المذهب الشيعيّ باعتباره دخيلًا على الإسلام «الحقيقيّ» والأصيل، بسبب ما يبديه المذهب الشيعيّ من تبجيل وتوقير للأئمة، والنفوذ الذي كان يتحلّى به رجال الدين من الفرس. وفي كتابه الدين والفلسفة في آسيا الوسطى، فإنّ دو غوبينو يربط ما بين المذهب الشيعيّ والتيار القوميّ الفارسيّ[11].
فضلًا عن ذلك فإنّ الحقبة نفسها شهدت على ولادة الاستشراق، علمًا أن إدوارد سعيد يرى أنّ الاستشراق هو عبارة عن ما يبديه الغرب من قبول للـ «تمييز المبدئيّ بين الشرق والغرب، باعتبارها نقطة انطلاق لتطوّر النظريّات والأساطير والروايات والتوصيفات الاجتماعيّة والاعتبارات السياسيّة في ما يتعلّق بالشرق وشعبه وتقاليده و«عقليّته» ومصيره وما إلى ذلك». أضف إلى ذلك، أنّ الاستشراق يقدّم الذريعة التي تعلّق بها الغرب في حملته الإستعماريّة القائمة بدورها على تاريخٍ روّجه الغرب ليصبّ في مصلحته، حيث أن «الغرب» قدّم صورة عن «الشرق» باعتباره أدنى مستوى، وبالتالي فهو في حاجّة ماسة إلى التدخّل من جانب الغرب لـ«إنقاذه»[12]. في الجوهر، فإنّ الإستشراق يقوم بفرض المعايير الغربيّة التي تسمح له بالسيطرة على الشرق وإعادة هيكلته، وفرض السلطة عليه.
في بادئ الأمر كانت الدراسات الشرقيّة تأخذ شكل التحليلات النصّيّة المتعلّقة بالآخر، والتي كانت في مجملها قائمة على الفرضيّات والنظريّات التي كان الغرب قد رسمها أصلًا. وبالتالي فإن هذه المقاربة كانت تعني أنّه وحدها النصوص والأعمال التي تصنّف ضمن الخانة القانونيّة أو المعياريّة هي التي كانت تخضع للدراسة. وبناءً عليه فإنّ التأثير الأكبر لهذه الحالة تمثّل في التصوّر المتناغم هو الآخر ضمن الدين الإسلاميّ، حيث باتت دائرة الاعتراف بالتنوّع داخل الإسلام منغلقة على ذاتها. وهنا ساد الاعتقاد الذي يجسّد الإسلام ويتمثّله، كدين يشكّل وحدة قائمة بذاتها تحيط بها الحواجز المحدّدة من كلّ جانب، من دون الالتفات إلى الطبيعة التنوّعيّة للتقاليد المُعاشة. وبما أنّ النظرة التي سادت حول المسلمين ترى أنّهم عبارة عن كيان شامل ومنفصل بذاته، فقد جرى التغاضي بشكل كبير عن شعائرهم ومعتقداتهم وثقافاتهم المتنوّعة؛ إذ إنّ المقاربة التي كان الباحثون المستشرقون قد تبنّوها كانت قد سمحت لهم بأن يقوموا بتصنيف الأفكار والحركات الإسلاميّة، باعتبارها إمّا دينيّة مستقيمة أو هرطقة ابتداعيّة.
فضلًا عن ذلك، فإنّ الدراسات الشرقيّة كانت قد أرخت بظلالها على كيفيّة النظر إلى المذهب الشيعيّ في الغرب، خاصّة أنّ الباحثين ممن كتبوا عن المذهب الشيعيّ في ذلك الوقت كانوا يعتمدون بصورة كبيرة على وجهة نظر المؤرّخين من السنّة، أو على المتخصّصين في الأبحاث حول البدع من أمثال الخطيب البغداديّ (توفي عام 1071)، وابن حزم (توفي عام 1064)، ومحمّد بن عبد الكريم الشهرستانيّ (توفي عام 1153)، ولا شكّ أنّ هذه التصوّرات كانت تقدّم الرؤية المعادية، بل المحرّفة عن المذهب الشيعيّ في بعض الأحيان. وفي الفصل المخصّص للمذهب الشيعيّ في كتاب ذاك الأخير، والذي يدور حول دراسة البدع، يظهر الكاتب عدم تعاطفه تجاه هذا المذهب.
كما إنّ الصورة الانتقاصيّة التي ورثها الأدب الاستشراقيّ حول المذهب الشيعيّ كانت أيضًا تُعزى إلى حقبة العصور الوسطى، بحيث كانت الكتب والمراجع الشيعيّة شحيحة داخل المكتبات الغربيّة، ومن بين الاستثناءات البسيطة نذكر مؤلّف الشيخ الطوسيّ (توفي عام 1067) الفهرست، ومؤلّف العلّامة الحلّي (توفي عام 1325) تحرير الأحكام، ومؤلّف المحقّق الحلّيّ (توفي عام 1277) شرائع الإسلام[13]. ومع زيادة اطلاع الباحثين الغربيّين على الدين الإسلاميّ، شهد القرن التاسع عشر المزيد من الكتابات الأكاديميّة التي كانت قد انحصرت هذه المرة بالمذهب الشيعيّ، على أنّ مصدر هذه الظاهرة هي دراسة الأعمال التي قدّمها غارسان دو تاسي التي قام من خلالها بتحرير إحدى السور «الشيعيّة» من القرآن وترجمتها في عام 1842، إلى جانب كتاب إغناس غولدزيهير    Beitrage zur  Literaturgeschichte der Shia und der sunnitischen Polemik    (مساهمات الأدب الجدليّ بين الشيعة والسنّة في التاريخ)، الصادر في عام 1874، والذي كان بدوره عبارة عن رسالة قدّمها حول الجدليّة السنّيّة الشيعيّة. وبصورة أو بأخرى لا يسعنا إلا أن نعتبر غولدزيهير أنّه رائد  من روّاد الدراسات الغربيّة حول الإسلام، وعلى الرغم من الصعوبات التي واجهته آنذاك من أجل الوصول إلى البحوث الشيعيّة الأولى، إلّا أنّه ظلّ قادرًا على تصحيح بعض سوء الفهم الذي ساد النظرة الغربيّة إلى المذهب الشيعيّ، وبصورة أدقّ قام هذا الكاتب بالتشكيك بالفرضيّة التي كانت سائدة في تلك الحقبة والتي كانت تقول إنّ المذهب الشيعيّ انطلق بسبب النفوذ الإيرانيّ؛ ولأن الشيعة رفضوا سنّة النبيّ، حتى إنّه قلّل من مصداقيّة هذه النظريّة.
إلا أنّ الدراسة التي أتينا على ذكرها آنفًا والتي تعود لإغناس غولدزيهير لم تستتبعها أيّ سلسلة من الدراسات حول المذهب الشيعيّ، ولكن يبقى أنّ بعض الأعمال المهمّة التي جرت دراستها في العديد من مراكز الأبحاث حول العالم تستحقّ منّا الاطلاع عليها، مثلًا الإشارة إلى أنّ المؤرّخين الإيطاليّين سابينو موسكاتي  ‘Per una storia dell’antica Shi’a(حول تاريخ المذهب الشيعيّ القديـم،1955، 251 - 67) ولـورا فيتشا فالييري “Sul “Nahj al- balagha” e il suo compilatore ash-Sharif ar-Radi’
(حول نهج البلاغة وجامعه الشريف الرضيّ، 1958، 1 - 46) يقدّمان المزيد من التفاصيل  والعديد من الأبعاد في ما يخص السنوات الأولى للمذهب الشيعيّ[14]. وعلى الرغم من هذه المساهمات ظلّ ثمّة ندرة وشحّ في النصوص التي كانت توضّح المذهب الشيعيّ بصورة دقيقة، وهو الأمر الذي تشدّد عليه الدراسة الواردة في أوّل مجلد من كتاب بارسون Index  Islamicus   الفهرس الإسلاميّ، والذي يُعتبر أهم الفهارس المكتبيّة المتعلّقة بالدراسات الإسلاميّة التي غطّت الأعوام ما بين 1906 حتى 1955. ولكن اللافت هنا يبقى الشحّ في المقالات أو المداخل المخصّصة للمذهب الشيعيّ.
أمّا الفهم الأكثر تعاطفًا مع المذهب الشيعيّ فقد بدأ مع الباحث الفرنسي لوي ماسينيون (توفي عام 1962) والذي كان قد أدّى خدمته العسكريّة برتبة ضابط في العراق، حيث كانت المنهجيّة التي اعتمدها تتّسم بصورة لافتة بالظاهراتيّة، حيث إنّه حاول أن يقدّم المذهب الشيعيّ وفقًا لقواعده هو، فركّز على البعد المبهم في المذهب الشيعيّ الذي يظهر في أعمال على سبيل   Die Ursprunge und die Bedeutung des Gnostizismus im Islam  (أصول ومعاني المذهب العرفانيّ في الإسلام Der gnostische Kult der Fatima im Shiitischen Islam: العبادات العرفانيّة لدى فاطمة في الإسلام الشيعيّ[15]. وفي محاولةٍ منه لفهم المذهب الشيعيّ انطلاقًا من هذا المذهب بذاته، عمد ماسينيون إلى الكتابة عن العديد من المواضيع التي تمسّ المذهب، حيث اتّسمت معالجته لهذه المواضيع بالمزيد من الدقّة على نحوٍ فاق سابقيه. علمًا أنّ ماسينيون ساهم بدوره في تطوير الدراسات حول المذهب الشيعيّ، وذلك عن طريق تسليط الضوء على أهمّ نواحي الأخلاقيّات ذات الطابع الروحيّ التي تميّز المذهب الشيعيّ. كما لا بدّ من الإشارة إلى أنّ مساهمته في الدراسات الشيعيّة تعتبر ذات أهمّيّة قصوى؛ إذ إنّه مهّد الطريق أمام هنري كوربن (توفي عام 1978) في مجال الروحانيّات الشيعيّة، حيث كان كوربن أوّل الأمر على تماس مع المذهب الشيعيّ الإيرانيّ، بينما كان في جامعة السوربون شابًّا يتبع المدرسة الظواهريّة، وفي طهران أيضًا باعتباره مديرًا للمعهد الفرنسيّ للدراسات الإيرانيّة، ومؤسس سلسلة المكتبة الإيرانيّة. ومن جانبه فقد جمع أهمّ الأعمال التي تختصّ بالجوهر والفلسفة والعرفان لدى المذهب الشيعيّ إلى جانب تحرير وترجمة بعضها الآخر[16]. وبالنظر إلى تركيزه في المذهب الشيعيّ وما شاع من ميل مزعوم تجاه هذا المذهب فإنّ موضوعيّته وحياديّته كانتا موضع التشكيك في بعض الأحيان.

الدراسات الغربيّة حول المذهب الشيعيّ في الستينيّات
في تلك الحقبة كانت غالبيّة الدراسات الغربيّة التي تعنى بالمذهب الشيعيّ تتمّ على يد مؤرّخين من أمثال دوايت دونالدسون، ومونتغومري واط، ومارشال هودغسون. ومن أهم مساهمات دونالدسون التي ساهمت في شهرة كتاباته في أعوام العشرينيات في المذهب الشيعيّ، كتابه The Shi’te Religion  الدين الشيعيّ، والذي صدر في عام 1923. كما صاغ العديد من المقالات التي نشرت على صفحات The Muslim World  (العالم الإسلاميّ)، بحيث تضمّنت عناوين على شاكلة «Salman the Persian» (سلمان الفارسي) (1929)، و «The Idea of Imamate (Spiritual Leadership) according to Shi’i Thinking»  (فكرة الإماميّة والقيادة الروحيّة في الفكر الشيعيّ) (1921 /31)، و«The New Iranian Law»  (القانون الإيرانيّ الجديد) (1934). علمًا أنّ كتاب الدين الشيعيّ اعتبر آنذاك بمنزلة مساهمة بارزة؛ إذ إنّه وللمرة الأولى، يجري توثيق حياة جميع الأئمة الشيعة، بحيث باتت متاحة أمام جمهور المناهج الغربيّة، إلى جانب أنّ هذا العمل كان يناقش أيضًا مواضيع أخرى على شاكلة التاريخ السياسيّ الشيعيّ، والمراجع الشيعيّة، والفرق المتطرّفة داخل المذهب الشيعيّ، وأهم السجالات الدينيّة. والأهمّ من هذا أيضًا، هو أنّ هذا العمل الذي قدّمه دونالدسون، وعلى الرغم من كونه وصفيًّا في الغالب، إلّا أنّه سرد حياة الأئمة وتجاربهم من وجهة نظر الشيعة، لا استنادًا إلى المراجع السنّيّة، ما جعل هذا الكتاب يبدو أكثر تعاطفًا مع قضيّتهم.
ومن الممكن تمييز الاهتمام المتزايد في الدراسات الشيعيّة مع الستينيات، نظرًا إلى أنّ كبار الباحثين الغربيّين من أمثال مونتغومري واط ومارشال هودغسون، قدموا عددًا من المقالات المهمّة التي تناولت المذهب الشيعيّ في ذلك الوقت. من جانبه، فإن واط استخدم مقاربة استشراقيّة واضحة، وبالتالي يمكن القول إنّ كتاباته على سبيل «Shi’ism under the Umayyads»  (المذهب الشيعيّ في ظلّ حكم الأمويّين) (عام 1960)، و«The Rafidites: A Preliminary Study»  (الرافضة: دراسة أوّليّة) (1970)، تعتبر ذات أهمّيّة من حيث إنّها كانت تطرح على بساط البحث أولى مراحل التاريخ الشيعيّ، وتسلّط الضوء على بعض الأسباب المحتملة التي قادت إلى اعتبار المذهب الشيعيّ هرطقة. أمّا مارشال هودغسون، فقد أصدر في عام 1955 مقالًا لا يقلّ أهمّيّة تحت عنوان «How Did the Early Shi’a Become Sectarian?»  (كيف أصبح الشيعة الأوائل مذهبيّين؟)، حيث يسلّط الضوء على الدور الذي قام به (الإمام جعفر الصادقQ (توفي عام 765)، وهو الإمام السادس، في خلق هويّة وروحيّة شيعيّة متباينة.
وبالنظر إلى مختلف الاعتبارات السياسيّة والاقتصاديّة، فإنّ رقعة الإطلاع على المذهب الشيعيّ في العالم الغربيّ اتسعت بصورة ملحوظة منذ أعوام السبعينيّات. ومن بين هؤلاء نذكر كتاب السيد حسين م. الجفري The Origins and Early Development of  Shia Islam  (أصول المذهب الإسلاميّ الشيعيّ وأولى تطوّراته (1979)، الذي يناقش تاريخ العقائد والقوانين الشيعيّة وحقبتها التأسيسيّة؛ ذلك إلى جانب كتاب موجان مؤمن An Introduction to Shi’i  Islam  (مدخل إلى المذهب الإسلاميّ الشيعيّ (1985)، والذي يقدّم شرحًا للتاريخ الشيعيّ منذ بدايات العصر الحديث. كما لا بدّ من الإشارة إلى كتاب هاينز هالم Die Schia الشيعة (1988)، الذي يغوص في تاريخ المذهب الشيعيّ ومعتقداته وممارساته. إضافة إلى أنّ الترجمة التي قدّمها أي. كاي. هاورد لمؤلف الشيخ المفيد كتاب الإرشاد، كانت ذات أهمّيّة بالغة، وتعدّ إنجازًا كبيرًا في تلك الحقبة؛ لأنّه وللمرة الأولى بات في متناول القارئ الغربيّ سيرة أحد علماء القرن العاشر، وفي بعض الأحيان السيرة التقديسيّة لحياة الأئمة.
وانطلاقًا من التسعينيات، بدأت الدراسات تسلّط الضوء على الأزمة التي واجهت المجتمع الإسلاميّ الأوّل، ومنها على سبيل المثال: كتاب ويلفريد مادلونغ Succession to Muhammad خلافة محمّد، وكتاب محمود أيوب The Crisis of Muslim History أزمة التاريخ الإسلاميّ، إلى جانب العديد من العوامل الاجتماعيّة والدينيّة والسياسية التي ساهمت في زيادة حدّة التوتّرات داخل المجتمع الإسلاميّ الذي كان لا يزال وليدًا في تلك الحقبة. أمّا كتاب أندرو نيومان Twelver Shi’ism  المذهب الشيعيّ الاثني عشريّ، فيؤرّخ لتطوّر المذهب الشيعيّ ويغوص في العديد من التحدّيات والخلافات الداخليّة حتى حلول القرن الثامن عشر. ثم إنّ كتاب كولين تورنير  Islam Without Allahالإسلام من دون الله، يطرح مسألة بروز المذهب الشيعيّ في العلن على حساب المذهب الشيعيّ الباطنيّ في إيران في ظلّ الحكم الصفويّ. وبدوره فإنّ كتاب رزينا لالاني Early Shi’i Thought: The Teachings of    Imam Muhammad al-Baqirبدايات الفكر الشيعيّ: تعاليم الإمام محمّد الباقر، يناقش تبلور العقائد الشيعيّة وتفسيرها في فترة الإمام الشيعيّ الخامس.
وهنا لا بد من الإشارة إلى أنّ دراسة المذهب الشيعيّ، خلال الفترة الممتدة بين عقدي السبعينيّات والثمانينيّات قد امتازت بالأسلوب التسلسليّ التاريخيّ بصورة لافتة، إلى جانب التحليلات النصّيّة النقديّة للمصدر. أمّا المقاربة التي اعتمدتها هذه الكتب، فقد اتّسمت بالتحدّي بسبب التحيّز السائد في المصادر الإسلاميّة التي تتضمّن مفارقات تاريخيّة غالبًا. فضلًا عن ذلك فإنّ هذه الكتب عكست في الغالب السجالات والمُثل الدينيّة والسياسيّة التي انتشرت في وقت لاحق، علمًا بأنّ النصوص التي تضمّنتها هذه المصادر، تقدّم لنا صورة أوضح عن الجدالات التي دارت ضمن الدائرة الإسلاميّة أكثر مما تخبرنا عن التاريخ الإسلاميّ في أولى مراحله.

تأثير الثورة في إيران
في العقود الأخيرة أرخت التغييرات التي شهدتها الساحة في الشرق الأوسط على الصعيد الجغرافيّ والسياسيّ بظلالها على العلوم الإسلاميّة في العالم الغربيّ، ويمكن القول إنّ الثورة الإيرانيّة التي اندلعت خلال عامي  1978 و79، والتي تمّ على إثرها تأسيس الجمهوريّة الإسلاميّة القائمة على مبدأ ولاية الفقيه، وقد استطاعت أن تلفت الأنظار نحو المذهب الشيعيّ وتزيد من الوعي تجاهه، أضف إلى ذلك أنّ هذه الثورة حملت الباحثين الغربيّين على إعادة تقويم نظرتهم تجاه هذا المذهب من أجل تبنّي التحليلات الأكثر موضوعيّة حول الطريقة التي كانت القضايا الإسلاميّة تُعالج بها حتى ذلك الوقت، فضلًا عن أنّها تصدّت للاعتقاد العام الخاطئ والشائع بأنّ المذهب الشيعيّ هو عبارة عن انحراف عن المذهب السنّيّ الذي يشكّل الغالبيّة على الساحة الإسلاميّة. علمًا بأنّ باحثين من أمثال باتريسيا كرون ومارتن هيندس في كتاب God’s Caliph خليفة الله يشيرون إلى أنّ المفهوم الذي يتبنّاه المذهب الشيعيّ والقائل بالقيادة السلطويّة التي تحظى بالإرشاد الإلهيّ كانت في بادئ الأمر هي الشكل الطبيعيّ للحكم السياسيّ، بما يتعارض مع النظريّة التقليدية الغربيّة التي تحاجج بأنّ النظام السنّيّ للخلافة كان قد تبلور من حيث الطابع سريعًا بعد وفاة النبيّ. ينخرط هؤلاء الكتّاب في عمليّة تأريخيّة استرجاعيّة تقول إنّ طبيعة الخلافة الأمويّة (661 - 750 ميلادي) كانت أقرب ما يكون إلى التصوّر الذي يبنيه المذهب الشيعيّ حول الإمامة، من حيث إنّها تشكّل تجسيدًا للسلطة الدينيّة والسياسيّة. كما إنّ كرون وهيندس يزعمان أنّ لقب خليفة الله الذي منحه الخلفاء لأنفسهم كان ينطوي على نوع من الشرعيّة الإلهيّة من ناحية السلطة التي كان يُمارسها الخليفة باعتباره مكلّفًا عن الله بدل النبيّ[17].
وانطلاقًا من السبعينيّات وصاعـدًا لم يجرِ تكريس المزيد من الدراسات للمذهب الشيعيّ وحسب، بل إنّ صورة هذا المذهب تغيّرت جذريًا أيضًا، حيث بات التركيز الآن ينصبّ على طريقة فهم المذهب الشيعيّ نفسه لتاريخه الخاصّ، إلى جانب الاجتهاد والفقة، ولا سيّما أنّ المصادر الشيعيّة باتت متاحة بصورة أكبر أمام الباحثين الغربيّين. وهو الأمر الذي أدّى إلى كرّ سبحة الكثير من الكتابات التي تعالج المذهب الشيعيّ؛ إذ إنّ باحثين على طراز إيتان كولبيرغ، وكولين تورنيرر، وأندرو جي نيومان، ونورمان كالدر، وخوان كول، وروبيرت غليف، وليندا كلارك، كانوا قد تناولوا في كتاباتهم العديد من أبعاد المذهب الشيعيّ، حتى أنّ كتاباتهم هذه كانت ترفض كثيرًا من سوء الفهم واللغط من جانب مصادر السنّة والمصادر الغربيّة على حدٍّ سواء، وخاصّة فيما يتعلّق بولادة المذهب الشيعيّ، بما في ذلك الإدعاء الذي يقول إنّ أصول المذهب الشيعيّ قد ترجع إلى عبد الله بن سبأ، وهو يهوديّ مزعوم، أو الإدعاء القائل بأنّ أصول المذهب تعود إلى بلاد فارس. كما استنكر هؤلاء الكتّاب ما يواجهه المذهب الشيعيّ من الغلوّ، وذلك من خلال تمييزهم للمذهب الشيعيّ الاثني عشريّ عن بعض المجموعات كالغرابيّة والدروز والنصيريّة.
وفي الثمانينيات برز جيل من الباحثين الشيعة ممن استوطنوا الدول الغربيّة ودخلوا مجال العلوم والأبحاث. علمًا أنّ العديد من هؤلاء الباحثين كان قد تلقّى التدريب في المعاهد الحوزويّة الشيعيّة. وعليه، فإنّهم مع انتقالهم إلى الغرب قدّموا ما يمكن القول بأنّه مقاربة «من الداخل» أو «من الخارج» لمن أراد دراسة المذهب الشيعيّ إذّاك. وبينما عمدوا إلى التوليف ما بين التدريب الذي تلقّوه في المعاهد الشيعيّة وبين الدراسات الأكاديميّة التي تلقوها في الغرب، فإنّ باحثين من أمثال حسين المدرس (الأزمة والترسيخ في المرحلة التأسيسيّة من المذهب الإسلاميّ الشيعيّ)،  Crisis and Consolidation in the Formation Period of Shi’ite Islam   وعبد العزيز ساشدينا  Islamic Messianism  (الميسيانيّة الإسلاميّة) ومحمود أيوب Redemptive Suffering in Islam  (المعاناة التحرّريّة في الإسلام) قد ساهموا جميعًا وبصورة ضخمة في الدراسات الغربيّة حول المذهب الشيعيّ. وفي هذا المجال لا بدّ من أن نأتي على ذكر واحد من أهم الأعمال للكاتبة ليندا كلارك الذي قامت بتحريره تحت عنوان The Shi’ite Heritage  التراث الشيعيّ، حيث ساهم العديد من المتخصّصين بالشأن الشيعيّ، إن من الغربيّين أو ممن تلقوا التعليم في الحوزات التقليديّة، بمقالات لهم تُعنى بالدراسات الشيعيّة. وشيئًا فشيئًا باتت أصوات العلماء في حوزات قم الشرعيّة مسموعة في الغرب.
علمًا أنّه بإمكاننا القول إنّ الاهتمام الغربيّ تزايد بالدراسات الشيعيّة انطلاقًا من كتاب كولن تورنير وبول لوفت Shi’ism المذهب الشيعيّ (2007)، حيث إنّ هذا المؤلَّف الذي يتضمن أربعة مجلدات يقدّم مجموعة ممتازة من المقالات التي تُعنى بالعديد من جوانب المذهب الشيعيّ والتي جاءت بقلم العديد من الباحثين في الأعوام الخمسين المنصرمة. كما برزت كتابات أخرى على هذا المنوال على سبيل كتاب إيتان كولبيرغ Shi’ism المذهب الشيعيّ، وكتاب فرهاد دفتري وغوردوفريد مسكنزودا تحت عنوان The Study of Shi’i Islam  (دراسة المذهب الإسلاميّ الشيعيّ). أما كتاب راينير برونير ووارنر أند المحرّر تحت عنوان The Twelver Shia in Modern Times  (الشيعة الاثنا عشريّة في العصر الحديث)، فيستعرض العديد من جوانب المذهب الشيعيّ انطلاقًا من القرن الثامن عشر، ويشتمل على دراسة للمؤسّسات العلميّة التقليديّة، والتمرّد الشيعيّ، والتطوّرات السياسيّة في القرن العشرين، وأهمّيّة الثورة في إيران في تحديد معالم المذهب الشيعيّ في العصر الحديث.

الدراسات الغربيّة حول المذهب الشيعيّ في العصر الحديث
في هذا القسم من بحثي استعرض الدراسات الحديثة المتعلّقة بالمذهب الشيعيّ، علمًا بأنّه لا بدّ من التأكيد على أنّني لا أقدّم لائحة شاملة أحاديّة حول هذا الموضوع، بل هو نموذج عن العديد من الأعمال التي انتشرت منذ مطلع التسعينيّات. ويمكن القول إنّ الأبحاث الغربيّة حول المذهب الشيعيّ قد شهدت توسّعًا تصاعديًّا، وتشعّبت إلى عدّة اتجاهات على مدى العقود القليلة المنصرمة، وهي الفرضية التي يعززها الواقع القائل بأنه على مدى السنوات العشرين الماضية جرى نشر كثير من الأعمال الأكاديميّة التي تعالج مختلف العناوين الشيعيّة، وهو ما يشمل  الدراسات المتعلّقة بفقه المذهب الشيعيّ وتاريخه وأدبه المتعلّق بسيرة رموزه، وصولًا إلى الدراسات التي تعالج فلسفة المذهب وعقائده، والتقيّة في المذهب، والنظريّات الشرعيّة، وعليه فإنّ الأمر لم يقتصر على مجرّد دراسات في مختلف نواحي المذهب الشيعيّ، إنما أيضًا تطورّت المقاربات والمنهجيات التي تعتمدها الدراسات الشيعيّة، حيث بات هذا المذهب يُدرس من النواحي التاريخيّة والسياسيّة والاجتماعيّة والشعائريّة والإثنيّة والأنثروبولوجيّة والتأويليّة.
ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ مراسم الحداد وشعائره في المذهب الشيعيّ كانت موضع دراسة العديد من الباحثين من أمثال فيرنون شوبيل Religious Performance in Contemporary Islam  (الشعائر الدينيّة في الإسلام المعاصر) ودافيد بينو The Shiites, Horse of  Karbala  (الشيعة، جواد كربلاء) والسيد أكبر حيدر (Reliving Karbala (إحياء كربلاء) وكامران سكوت آقايي (The Martyrs of Karbala: Shi’i Symbols and Rituals in Modern Iran  (شهداء كربلاء: الرموز والشعائر الشيعيّة في إيران المعاصرة) وطوبي هاوارث The Twelver Shi’a as a Muslim Minority in India (الشيعة الاثنا عشرية باعتبارهم أقلّيّة إسلاميّة في الهند). تعمّق هؤلاء الكتّاب في كربلاء والطريقة التي تستحث فيها هذه المعركة الحزن والمعاناة لدى كلّ فرد من أفراد المذهب الشيعيّ. أضف إلى أنّهم درسوا أنماط الاستمراريّة والتغيير الكامنة في شعائر شهر محرم ورموزه، حيث إنّ هذه النظرة المعمّقة تظلّ ذات قيمة ما دامت تبرز للقارئ وجهة النظر التي من خلالها يرى المجتمع الشيعيّ بنفسه سلطة الأئمة والوفاء لقادته وكيف يسعى إلى التبين عن طريقهم. كما أنّ هذه الدراسات تظهر كيف ترصد مختلف الجماعات مسألة استشهاد الحسين انطلاقًا من اعتباره مناسبة حداد فرديّ وجماعيّ، وصولًا إلى عدّها منطلقًا للاحتجاج والصراع الذي يقود إلى المطالبة بالإصلاح الاجتماعيّ والدينيّ. كما أنّ هذه الأبحاث تستعرض تأثير معركة كربلاء في الساحة الثقافيّة والأدبيّة في مناطق جنوب آسيا، وهو ما يُثبت كيف استطاع النصّ الكربلائيّ مع الوقت أن يتأقلم ويتعايش مع المحتوى الثقافيّ للمسلمين وغير المسلمين في جنوب آسيا وفي ذاكرتهم في العديد من الأوقات. وأثناء إجراء دراساتهم عمد بعض الباحثين إلى اعتماد نظريّة فيكتور تورنير حول وظائف الشعائر وتأثيرها في قولبة حياة المؤمنين بها.
في الفترة الممتدّة قبل الثمانينيّات كانت الدراسات الغربيّة بشأن المذهب الشيعيّ لا تكاد تأتي على ذكر النظريّة السياسية الشيعيّة، وعلى الأغلب فإنّ السبب في ذلك يعود إلى أنّه في غياب الإمام الثاني عشر، لم يقم الفقهاء الشيعة بإنشاء أيّ شكل من أشكال الحكومات التي تعوّض أثناء فترة الغيبة. وعليه فإنّ الثورة الإيرانيّة وما أرساه (السيد) الخمينيّ من قواعد مبدأ حكم ولاية الفقيه قد شجّع كثيرًا من الباحثين على الخوض في هذا المضمار، حيث إنّ واحدًا من أهم الإسهامات في هذا المجال هو كتاب يعود لحامد الكار تحت عنوان Islam and Revolution  (الإسلام والثورة)، والذي يتضمّن مقابلة مع آية الله روح الله الخميني حول نظريّته المتعلقة بالحكومة الإسلاميّة. علمًا أنّ الثورة الإيرانيّة لم تكن قد حثّت على تزايد الوعي تجاه المذهب الشيعيّ شيئًا فشيئًا وحسب، بل إنّها أدّت أيضًا إلى الربط ما بين المذهب الشيعيّ وإيران. من جهة أخرى فإن إسهامًا كبيرًا آخر برز من جانب سعيد أرجمند في كتابه The Shadow of God on Earth  (ظلّ الله على الأرض). أمّا المؤلّفات الأخرى التي لا تقلّ أهمّيّة فتأتي من كتّاب على منوال فانيسا مارتين وكتابها Creating an Islamic State  (إنشاء الدولة الإسلاميّة)، ونيكي كيدي Religion and Politics in Iran  (الدين والسياسة في إيران)، وحامد الكار Religion and State in Iran 1785 - 1906 (الدين والدولة في إيران 1785 - 1906)، وروي متحدة The mantle of the Prophet (عباءة النبيّ)، والكتاب الذي حرّرته صابرينا ميرفين تحت عنوان The Shi’a Worlds and Iran  (العوالم الشيعيّة وإيران). ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ العديد من الأعمال درست المذهب الشيعيّ ضمن إطار الصراع السياسيّ الذي دار حول الإصلاح والديمقراطيّة في إيران، ومن ضمن هذه الأعمال نورد كتاب بيهروز غماري تبريزي تحت عنوان Islam and Dissent in Postrevolutionary Iran  (الإسلام والتمرّد في إيران ما بعد الثورة)، ومجيد محمّدي Political Islam in Post-Revolutionary Iran  (الإسلام السياسيّ في إيران ما بعد الثورة، والدراسة الحديثة التي أصدرتها أورليك فون شوارين) The Dissident Mulla الملا المتمرد، وزينا مير حسيني وريتشارد تابير Islam and Democracy in Iran الإسلام والديمقراطية في إيران.
ومع بروز مبدأ ولاية الفقيه، صبّ العديد من الباحثين جهدهم في التركيز على مسألة السلطة الشرعيّة في المذهب الشيعيّ المعاصر، حيث نجد أنّ الدراسات التي تتركّز في تاريخ مبادئ المرجعيّة[18]  والتقليد والأعلميّة[19]  وتطوّر هذه المفاهيم قد تجلّى بصورة خاصّة في أعمال من قبيل كتاب عبد العزيز ساشدينا The Just Ruler   (الحاكم العادل)، وأحمد كاظمي موسوي   Religious Authority in Shi’ite Islam  (السلطة الدينيّة في الإسلام الشيعيّ). علمًا أن هذه الدراسات تنظر إلى تطوّر سلطة الفقهاء في التاريخ الشيعيّ على أنّه منعكس في الأعمال الفقهيّة، حيث إنّ دراساتهم تتصدّى للنظريّة القائلة إنّ سلطة الفقهاء متجذّرة في جذور الإسلام القائم على مبدأ الوحي، كما أنّهم يُظهرون أنّ الفقهاء الشيعة اكتسبوا المزيد من السلطة مع مرور الوقت، وهي التي راحت تتراكم حتى وصلت إلى شكل السلطة المطلقة التي نادى آية الله الخميني بها.
حتى إنّ السنوات الأخيرة شهدت دراسة للقيادة الدينيّة الشيعيّة من مختلف الزوايا، حيث نجد أنّ ألفير كوربوز في كتابها Guardian of Shi’ism (حماة التشيّع) تغوص في استخدام المجتهدين للعديد من الشبكات من أجل بناء سلطتهم وتوسعة نطاقها خارج حدود بلدانهم، علمًا بأنّ كتابها يطرح خرائط لشبكات العلماء والتقائها مختلفَ المجتمعات في شتى أصقاع الأرض. أمّا شاوول ميشال وأوري غولدبيرغ في كتابهما Understanding Shiite Leadership  (فهم القيادة الشيعيّة)، فيطرحان الطرائق التي استطاعت نظرة القيادة الشيعيّة من خلالها أن تغيّر الشيعيّة السياسيّة في لبنان وإيران، من مجرّد مجتمع مهمّش إلى كيان قويّ اجتماعيًّا وسياسيًّا قادر على إثبات نفسه، وعلى تشكيل الجغرافيا السياسيّة في الشرق الأوسط بطريقه.
كما أن العديد من الباحثين غاصوا في مبدأ سلطة الأئمة وتلامذتهم والفقهاء، وذلك بالاستناد إلى مفهوم السلطة الملهمة. في حين أنّ مؤلفات أخرى من قبيل Authority in Islam (السلطة في الإسلام) للكاتب حميد دباشي، وThe Charismatic Community  (المجتمع الملهم)  للكاتبة ماريا دكاك، وظلّ الله للكاتب أرجمند، وThe Heirs of the Prophet  (خلفاء النبيّ) كتابة لياقت تاكيم، جميعها أسهمت إسهامًا بارزًا في مجال دراسة السلطة الملهمة في المذهب الشيعيّ، حيث إنّ أبحاثهم التي أجروها بشأن هذا المذهب إنّما نجدها بارزة ضمن الإطار الاجتماعيّ الذي تطرحه نظريّة ماكس فيبر حول السلطة الدينيّة الملهمة. كما أنّهم غاصوا في مسائل أخرى ذات صلة، على سبيل تنميط الكاريزما النبوية وأهمية الكاريزما المتوارثة في زيادة سلطة الأئمة.
بالإضافة إلى بعض الدراسات الأخرى المتعلّقة بالنظريّة السياسيّة الشيعيّة أجريت بالاستناد إلى مبدأ سلطة الفقهاء، وفي هذا المجال لا بدّ من القول إنّ كتاب حميد مواني Religious Authority and Political Thought in Twelver Shi’ism  (السلطة الدينيّة والفكر السياسيّ عند الشيعة الاثني عشريّة)، الذي صدر منذ مدّة ليست ببعيدة يُعدّ ذا أهمية بالغة ولا سيّما أنّه يتطرق إلى نظريّات السيّد محمّد باقر الصدر والسيد محمّد حسين فضل الله والشيخ محمّد مهدي شمس الدين حول أنواع السلطة السياسيّة التي يجب أن تميّز الدولة الشيعيّة المعاصرة، وفي حين أنّه يستشهد بأقوال للعديد من الفقهاء الإيرانيّين والعراقيّين واللبنانيّين، فإنّه يفصّل مختلف وجهات النظر حول السلطة السياسيّة ونظام الحكم. كما أنّ بعض الأعمال الحديثة من قبيل كتاب أورليك فون شوارين (الملا المتمرّد)، فيناقش براهين آية الله منتظري حول أشكال الحكم البديلة التي تقوم على أساس مشاركة العامّة وموافقتهم. كما أنّ كتاب محمود دواري The Political Thought of Ayatullah Murtaza Mutahhari  (الرؤى السياسيّة) لدى آية الله مرتضى مطهريّ يوّضح نظريّات هذا الأخير حول السلطة السياسيّة.
إشارةً إلى أنّ ثمّة مواضيع تتداخل بشكل كبير مع مسألة سلطة المرجعيّة التي جرى التغاضي عنها فترة طويلة، وهي مسألة الجدال الفقهيّ الداخليّ بين الفقهاء الشيعة أنفسهم، حيث شكّل الصراع بين الأخباريّين (التقليديّين) والأصوليّين (العقلانيّين) موضوعّا لكثير من التأمّل والتعمّق من جانب باحثين من طراز روبيرت غليف في Scripturalist Islam (الإسلام والنصوص المقدّسة)، ونيومان   ‘The Nature of Akhbari/ Usuli Dispute in late Safavid Iran’  (طبيعة الجدال الأخباريّ الأصولي في أواخر الحقبة الصفويّة في إيران) ودايفين ستيوارت (Islamic Legal Orthodoxy (التشدّد الإسلاميّ الفقهيّ)، حيث نجد أنّ هؤلاء الباحثين يُظهرون أنّه وفي إطار النظريّة السياسيّة الإخباريّة كان ثمّة العديد من الاختلافات والتباينات الفقهيّة، كما أنّهم يؤكدون على أنّ الإخباريّين لم يكونوا يعتمدون على النصوص بحرفيّتها وحسب؛ بل إنّهم برهنوا ثقافة فكريّة وحنكة في بناء قضيّة الدفاع عن النظام الفقهيّ المتماسك.
كما ذكرنا آنفًا، انهمك الباحثون الغربيّون في دراسة مختلف مجالات الدراسات الشيعيّة في العقود الأخيرة المنصرمة، ولكن حتى وقت قريب ظلّت الأبحاث الغربيّة تتجاهل بشكل كبير النظريّة الفقهيّة الشيعيّة أو أصول الفقه الشيعيّ، وهو المجال الذي بدأ حديثًا يُطرح على طاولة البحث بصورة مطوّلة من قبل باحثين من طراز روبيرت غليف Inevitable Doubt (الشك المحتّم)، وأمير حسن بوزاري Shi’i  Jurisprudence and Constitution  (الفقه الشيعيّ والدستور)، ومؤخرًا علي الرضا بوجاني Moral Rationalism and Shari’a  (العقلانّية الأخلاقيّة والشريعة)، وزاكري هيرن The Emergence of Modern Shi’ism  (صعود المذهب الشيعيّ المعاصر)، وهم جميعًا ممن استفاضوا في مجال المبادئ التي تقف في صف الفقه الإسلاميّ وأبرزوا المنهجيّة التي يلجأ الفقهاء المسلمون إليها عند استخلاص الأحكام المعنويّة الفقهيّة. كما تلاحظ الدراسات التي تناولت أصول الفقه الشيعيّ كيف بات التخلّي عن التيقّن والقبول بالتخمين شيئًا فشيئًا هو العلامة الفارقة التي تميّز المذهب الشيعيّ في القرن التاسع عشر. وهم أصرّوا على أنّ انتصار الأصوليّة مع بداية القرن التاسع عشر إضافة إلى المستجدّات التي طرأت على الساحة عزّزت الدور الذي أدّاه المنطق العقلانيّ في إطار المذهب الشيعيّ، وهو ما لم يكتفِ بتثبيت موقف المجتهدين داخل المجتمع وحسب؛ بل إنّه أيضًا أدّى إلى وضع مبدأ الاجتهاد في صلب هيكليّة السلطة الفقهيّة الشيعيّة التي بات في الإمكان بناء المؤسّسة المرجعيّة على عمادها.
كما خرجت الأصوات المنادية بإجراء الإصلاحات داخل العالم الشيعيّ، إذ إنّ باحثين شيعة مثل: محسن كاديفار، ومحقق داماد، ومجتهد شبستري، وعبد الكريم سروش، وعبد العزيز ساشيندا، وحميد مواني، ولياقت تكيم، وغيرهم قد ألّفوا كثيرًا من المقالات والمداخل الموسوعيّة حول الاجتهاد والحاجة إلى تطوير الأدوات التأويليّة والحثّ عليها عند تطبيق الشريعة الإسلاميّة، ولا سيّما بالنسبة إلى المسلمين الذين يعيشون في دول الانتشار. كما نذكر في هذا المجال بعض الأعمال الأخرى المهمّة في هذا المجال مثل: Shi’i Reformation in Iran  (الإصلاح الشيعيّ في إيران لعلي رحنيما)، وReligious Secularity  (العلمانيّة الدينيّة لناصر غوبدزاده)، وIran’s Intellectual Revolution  (الثورة الفكريّة في إيران لمهران كمرافا). علمًا أنّ هذا الأدب الإصلاحيّ يتصدّى للسمة القدسيّة التي يلصقها المسلمون بمصادر الأحاديث ويدعو إلى عدم التغاضي عن العنصر التاريخيّ في المحور الإسلاميّ التقليديّ، فبالنسبة إلى الإصلاحيّين، إنّ الإدعاء بأنّ الأدب الفقهيّ ينطبق على مختلف المجتمعات الإسلاميّة بغض النظر عن الزمان والمكان، هو بمنزلة إضفاء الصفة القدسيّة على جميع النتاجات الفكريّة الإنسانيّة التاريخيّة. فضلًا عن أنّ هؤلاء الإصلاحيّين يحاججون بالقول إنّه من الممكن اللجوء إلى مختلف الإستراتيجيّات التأويليّة من أجل العودة إلى القوانين التقليديّة ومراجعتها، إلى جانب كون هذه الإستراتيجيّات قادرة على تشكيل الأوساط الاجتماعيّة والدينيّة التي يعيش فيها أكثر من مليار إنسان.
وهنا نذكر أحد المجالات الأخرى التي استحوذت على كثير من الاهتمام في السنوات الأخيرة، ألا وهي التجربة الشيعيّة في أميركا. وليس جديدًا القول إنّه حتى وقت قريب كانت غالبيّة الدراسات تساوي ما بين الإسلام في أميركا والمذهب السنّيّ في أميركا، حيث إنّ هذه النظرة الأحاديّة ساهمت في إعاقة الإدراك والفهم الفعليّين للتجربة الدينيّة للأقليّة الشيعيّة في أميركا. علمًا أنّ باحثين من أمثال ليندا والبريدج Not Without the Imam  (ليس من دون الإمام)، وفيرنونن شوبيل (في العديد من المقالات)، ولياقت تاكيم Shi’ism in America  (المذهب الشيعيّ في أميركا) قد أسهموا بصورة كبيرة في هذا المجال، في حين أنّ آخرين على سبيل أوليفر شاربروتت قد ركّزوا في دراساتهم على المذهب الشيعيّ في المملكة المتحدة. وتجدر الإشارة إلى أنّ بعض هذه الدراسات انتهج المقاربة الإثنوغرافيّة في معرض دراسة المجتمعات الشيعيّة في ميشيغان ولندن، أما آخرون فقد تتبّعوا الخيوط التاريخيّة التي تؤرّخ لوجود المجتمعات الشيعيّة في أميركا، بحيث توغلوا في التحدّيات التي تواجه هذا المجتمع، بينما يحاول تخطي حاجز الأقلّيّة المزدوجة إلى جانب تحدّيات العيش في العالم بعد أحداث الحادي عشر من أيلول. كما أنّ هذه الدراسات جاءت على إثر الانقسام العرقيّ داخل المجتمع الشيعيّ الأمريكيّ، وتعمّقت في الطريقة التي استطاع الشيعة من خلالها أن يعدّلوا مراسم الحداد التي يمارسونها حتى تتناسب والوسط الأمريكي. أما هذه النسخة المعدلة فقد مكّنت الجيل الجديد من الشعور بالانتماء تجاه هذه الشعائر ومن إيجاد هويّة شيعيّة متباينة في أميركا.
أمّا الأعمال الصوفيّة التي كتبها الملا صدرا كانت موضع دراسة الباحثين الشيعة من أمثال سجاد رضوي Mulla Sadra and the Later Islamic Philosophical Tradition  (الملا صدرا والتقليد الفلسفيّ الإسلاميّ، Mulla Sadra and Metaphysics (الملا صدرا والميتافيزيا)، ومحمّد رستم The Triumph of Mercy   (انتصار الرحمة)، علمًا بأن نقطة الارتكاز في كتاب رستم تقوم عند نهاية العمليّة المعقّدة التي استغرقت ما يقارب تسعمئة عام من التأثير المشترك والتبادل الفكريّ والتطوّرات المستجدّة في الفلسفة والعقيدة والتصوّف، وهو ما يشكّل بالتالي نقطة القمّة بالنسبة إلى تاريخ الفكر الإسلاميّ في حقبة ما بعد ابن سينا. علمًا أنّ هذه الدراسة هي الأولى في دائرة العلوم الحديثة التي تغوص في العلاقة المركّبة بين الفلسفة والتفسيرات القرآنيّة في العصور الإسلاميّة الوسطى.
ومن الباحثين القلائل الذين تجرأوا على الخوض في مسألة التفسيرات الشيعيّة مئير بار آشر Scripture and Exegesis in Early Imami Shi’ism  (النصوص والتفسيرات لدى أوائل الشيعة الإمامّية)، حيث يناقش النصوص التفسيريّة الشيعيّة في القرنين التاسع والعاشر ويغوص في تطور الفكر والعقائد الشيعيّة في أثناء الفترة التأسيسيّة للمذهب الشيعيّ. كما أنّه يتطرق إلى تأثير الطرائق التفسيريّة الرمزيّة والنموذجيّة التي كان يتمتع بها هؤلاء العلماء الأوائل في أعمالهم التفسيريّة، وهو ما يتضمّن مختلف القراءات القرآنيّة وافتراض أنّ بعض الآيات القرآنية تتضمن المعاني المبطنة. وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أنّ ساشيندا قام بترجمة كتاب آية الله أبو القاسم الخوئي البيان في تفسير القرآن (The Prolegomena of the Qur’an)، حيث يشدد الخوئي على أهمية فهم القرآن في الإطار التاريخيّ من أجل التمكّن من تطبيق أحكامه في المجتمع الإسلاميّ المعاصر. وبعد التعمّق الدقيق في المصادر خلص إلى أنّ النص القرآنيّ الحاليّ، على الرغم من احتوائه على العديد من القراءات التي لا تضرّ بالرسالة الأساسيّة، هو نفسه الذي نقله النبيّ بذاته، وبالتالي فهو يوجد فرقًا بين عملية النقل التي جرت في ظلّ التوجيه المباشر من النبيّ، وبين عملية الجمع اللاحقة التي جرت ضمن سبع قراءات في ظلّ الخلفاء الأوائل. ومن خلال رفضه الرؤية التقليديّة في ما يخصّ نقل القرآن، يتمكن الخوئي من إثبات موقفه القائل إنّ جمع القرآن ونقله قد جرى تحت إشراف النبيّ وفي أثناء حياته.
علمًا بأنّ بعض الباحثين من أمثال زيبا مير حسيني قد تعمّقوا في المذهب الشيعيّ وفي الدراسات الجنسانيّة، فمؤلَّفاتها تضمّ Men in Charge? Rethinking Authority in Muslim Legal Tradition  (هل يتولّى الرجال زمام الحكم؟ إعادة التفكير بالسلطة في التقليد الفقهيّ الإسلاميّ) و Islam and Gender: The Religious Debate in Modern Iran  (الإسلام والجنس: الجدال الدينيّ في إيران المعاصرة). إضافةً إلى أنّ مؤلَّفات مطهري حول المرأة في الإسلام قد تُرجمت على يد العديد من الأعلام، حيث إنّ التشريعات الشيعيّة حول المرأة كانت موضع نقد العديد من المؤلفات مثل:Law of Desire  (قانون المتعة) لشهلا حائري، وAn Enchanted Modern  (الحاضر الساحر) بقلم لارا ديب، إلى جانب المؤلَّف من مجلدين Women in Iran from the Rise of Islam to 1800 المرأة في إيران منذ فجر الإسلام حتى عام 1800 (تحرير غويتي ناشات ولويس بيك) و Women in Iran from 1800 to the Islamic Republic  (المرأة في إيران منذ عام 1800 حتى الجمهوريّة الإسلاميّة) (تحرير لويس بيك وغويتي ناشات). هذه الدراسات تحاجج بالقول إنّ التفسير الأحاديّ الطرف للتبعيّة في الشريعة إلى جانب تزمّت بعض تيارات الفكر الإسلاميّ قد ساهمت في الماضي في إخضاع المرأة لنوع من الحياة الاستسلاميّة أو التبعيّة، ونجد إصرارًا في هذه الدراسات على أنّ الأهم بالنسبة إلى الفهم الصحيح للإسلام هو ليس حرْفيّة النصّ؛ بل روحيّة القرآن والتقليد النبويّ.
وعليه فإنّ الدراسات الجنسيّة تحدّت الموقف الفقهيّ المعياريّ بشأن المرأة، وطالبت بأن تُظهر الأحكام الشرعيّة الشيعيّة المزيد من المساواة، ويتجلّى هذا الوضع من خلال رفض العلماء التكلّم عن حالات التمييز ضدّ المرأة وضدّ الأقليّات في الهيئات الشرعيّة، وعدم نيتهم مراجعة الإسلام التقليديّ بصورة معمّقة ودقيقة كما هو وارد في هذا النوع من النصوص. كما وتعمّق الباحثون في دراسة الشخصيّات النسائيّة الشيعيّة الرمزيّة مثل فاطمة وزينب، وفي هذا المجال نأتي على ذكر ماري ثيركيل ومؤلَفها Chosen Among Women   (المختارة بين النساء) وناديا أبو زهرة في The Pure and Powerful (النقيّة والقويّة)، وديان  Partners of Zaynab  (شركاء زينب)، وكريستوفر كلوهيسي Fatima, Daughter of Muhammad  (فاطمة بنت محمّد). يجمع هؤلاء الباحثون بين التحليل التاريخيّ وبين أدوات الدراسات الجندريّة من أجل تقويم أهمّيّة هذه الرموز النسائيّة في تشكيل الهويّة والروحيّة الشيعيّة، إلى جانب دراسة سلطتهنّ وصراعهنّ الإنقاذيّ في رفع القيم الإسلاميّة على سبيل العدالة والمساواة.
علمًا أنّ ثمّة باحثين آخرين قد تعمّقوا في الصوفيّة والروحانيّة الشيعيّة، ونذكر منهم محمّد علي أمير معزي في مؤلَفه The Spirituality of Shi’i Islam (الروحانيّة لدى المذهب الإسلاميّ الشيعيّ)، ومؤلَّف ويليام شيتيك The Psalms of  Islam (التراتيل الإسلاميّة)، وهي عبارة عن ترجمة لمناجاة الإمام الرابع عند الشيعة. ومن جانبه فإنّ محمّد علي أمير معزي، الذي يستند في مؤلّفه  The Devine Guides(الهدي الإلهيّ) على كتاب بصائر الدرجات للحسن الصفار (توفي عام 902م) الذي عاش بين القرنين التاسع والعاشر الميلاديين والذي كان يتبع المذهب التقليديّ، يستعرض الطريقة التي يرى من خلالها الشيعة القوى الغيبيّة التي يعتقدون بأنّ الأئمة يتمتّعون بها إلى جانب التفرّع الاجتماعيّ والدينيّ لقدراتهم الإعجازيّة.
كما نلحظ وجود اهتمام أكبر في مجال الخوض في الدراسات المناطقيّة في إطار المذهب الشيعيّ، وهنا نشير إلى مجموعة من المؤلَّفات مثل:The Shi’a of Samarra  (شيعة سامراء)، تحرير عمران علي بنجواني، وShi’ite Lebanon  (شيعة لبنان) لشيري إيزنلوهر، و The Shi’a of Lebanon (الشيعة في لبنان)، لروجير شانهان، وThe Shi’ite Movement in Iraq  (الحركة الشيعيّة في العراق) لفالح جبار، و The Shi’is of Iraq  (شيعة العراق) لييتزاك نقاش،The Arab Shi’a: The Forgotten Muslims  (الشيعة العرب: المسلمون المنسيّون) لغراهام فولير وراند فرانك، وتعتبر هذه المؤلَّفات إسهامات مهمّة في هذا المجال. علمًا بأن هذه الدراسات تنظر في العوامل الاجتماعيّة والدينيّة والسياسيّة التي أسهمت في تطوّر المذهب الشيعيّ وتوسّعه، وبالتالي فإنّها تساهم بصورة كبيرة في فهمنا للتفاعل في ما بين الدين والسياسة والحضور المتجذّر للشيعة في العديد من أصقاع الشرق الأوسط.
في المقابل صبّ باحثون آخرون تركيزهم على الجانب العسكريّ من المذهب الشيعيّ، ولا سيما على حزب الله في لبنان، وعلى الرغم من صعوبة أن نذكر جميع المؤلَّفات التي صدرت في هذا المجال، إلا أنّه من المهم جدًا أن نذكر بعض المؤلِّفين الذين تناولوا شؤون حزب الله، مثل: نعيم قاسم، وأوغوستوس نورتون، وجوديث بالمر حريق. بينما نجد أنّ آخرين على منوال: جمال سنكاري فضّلوا التركيز على الرموز الدينيّة الشيعيّة ذات التوجّه السياسيّ من أمثال: محمّد حسين فضل الله. وفي سياق مشابه نجد مسألة تصاعد الصراع المذهبيّ انطلاقًا من أعوام الثمانينيّات، وفي هذا المجال يمكن أن نذكر كلًّا من: والي نصر The Shia Revival  (النهضة الشيعيّة)، وييتزاك نقاش Reaching for Power (البحث عن السلطة)، وبريجيت مارشال وسامس زمني The Dynamics of Sunni-Shia Relationships (ديناميّات العلاقات السنّيّة - الشيعيّة)، وفريديريك ويري Sectarian Politics in the Gulf (السياسة المذهبيّة في الخليج)، وأليشيفا ماكليس Shi’i Secterianism in the Middle East  (المذهبيّة الشيعيّة في الشرق الأوسط)، ونيكولاس بيلهام A New Muslim Order (النظام الإسلاميّ الجديد)، وتشكّل هذه المؤلَّفات مراجع وافية بشأن الصراع المذهبيّ والكفاح الشيعيّ للحصول على السلطة السياسيّة في الدول الشرق أوسطيّة المعاصرة.
كما أنّ بعض الباحثين ركّزوا أبحاثهم على التفسيرات الشيعيّة، وهنا نشير إلى أنّ أشك دالين في كتابه Islamic Law, Epistemology and Modernity  (الفقه الإسلاميّ والمعرفيّات والحداثة) يناقش التفسيرات الحديثة لدى كلّ من عبد الكريم سروش ومجتهد شبستري، علمًا بأنّ هذا الأخير يصرّ على ضرورة الحاجة إلى أسلوب جديد للنقد التاريخيّ الذي يرى أنّ النصّ نتاج حالة تاريخيّة معيّنة بذاتها، ويحاول إعادة موضعتها في سياقها الأصليّ، وهو يصرّ على أنّ هذه المقاربة لن تقوم إلا بالقضاء على المعتقدات والتقاليد الخاطئة داخل المذهب، ولكنّها لن تمسّ بالدين ولا بالتدين. أمّا الباحثون الذين يشجّعون على آليّات التفسير الحديثة للنصوص الشيعيّة، فيعتقدون أنّه على المسلمين بين الفينة والأخرى أن يراجعوا النصوص ويعيدوا تأويلها وفقًا لمتطلَّبات العصر الحاضر؛ ذلك أنّ التأويل بذاته هو عبارة عن عمل إنسانيّ؛ أي إنّ الإنسان يبنيه بذاته، وبالتالي هو يتأثّر بالمحيط الذي يقيم فيه هذا المؤوّل أو المفسّر. وعليه فإنّ لجوء بعض الإصلاحيّين مثل: كديور وسروش وشبستري إلى النمط الحديث في التفسير باعتباره أداة نظريّة لا بدّ منها جاء تحدّيًا للرؤية التقليديّة التي تحيط بالقراءة المعياريّة والأحاديّة للنص الإسلاميّ المقدّس.

الدراسات الشيعيّة في عالم ما بعد أحداث أيلول والتحدّي الشيعيّ في تمثيل الذات
لا شكّ في أنّ الهجمات الإرهابيّة في الحادي عشر من أيلول 2001 قد أعادت إحياء سلسلة الأحكام المسبقة التي أُطلقت حول الإسلام باعتباره دينًا يشجّع على قتل الأبرياء، وحول المسلمين باعتبارهم ميليشيات بالفطرة وجماعات لا عقلانية. لقد عمدت الوسائل الإعلاميّة إلى توصيف «الآخر المسلم الغائب»، وسعت إلى خلق صورة نمطيّة تقدّم الإسلام والمسلمين من خلالها، وهي الصورة التي ما عاد بالإمكان التغاضي عنها. كما أنّ الحرب العالميّة التي قادتها الولايات المتحدة على الإرهاب إلى جانب غزو العراق، ساهمت بدورها في تعزيز هذه الصور النمطيّة والشكوك تجاه المسلمين، وخاصّة في مناطق الشرق الأوسط.
ومنذ أحداث 11 أيلول سعى الشيعة أكثر من ذي قبل إلى جعل أنفسهم أكثر بروزًا وفهمًا في الأوساط الأمريكيّة، وذلك من أجل كسر حاجز الخرافات والأعراف التي نشأت حول الإسلام، وكذلك من أجل الوقوف في وجه من يحاول تقديم الإسلام بشكل سلبيّ. فضلًا على أنّ أحداث 11 أيلول أثبتت للمجتمع الشيعيّ الأمريكيّ- هذا إذا ما افترضنا الحاجة إلى إثباته - أنّ التعدديّة في أميركا هي حقيقة اجتماعيّة لا مجال أبدًا للهروب منها. في الواقع، لقد شهدت الساحة تزايدًا في أعداد الشيعة ممن باتت أسماؤهم بارزة وأصواتهم مسموعة وطباعهم منفتحة، في حين أنّ آخرين أصرّوا على انتمائهم للهويّة الأمريكيّة عوضًا عن هويّة موطنهم الأساس.
تمامًا كما غيرهم من المسلمين، بات الشيعة أكثر وعيًا لضرورة الحاجة إلى منح المزيد في المقابل للمجتمع الأمريكيّ، إذ إنّهم باتوا مدركين أنّ من الأجدى لهم التكلّم مع الآخر عوض التكلّم عنه؛ لذا نجد أنّهم راحوا ينخرطون في الحوارات والمسؤوليّات المدنيّة وغيرها العديد من حملات توزيع الطعام ومساعدة المشردين الأمركيّين في مختلف أنحاء البلاد[20].
أضف إلى ذلك أنّهم باتوا يبرزون أنفسهم أكثر وأكثر في المجالات الأكاديميّة، وهنا نجد أنّ الاهتمام المتزايد بالدراسات الشيعيّة انعكس من خلال الواقع الذي يقول إنّه انطلاقًا من أحداث 11 أيلول تزايدت المشاريع والمؤتمرات والمراكز التي تصبّ تركيزها على المذهب الشيعيّ بشكل عامّ أو على بعض النواحي داخل هذا المذهب بشكل كبير. إشارةً إلى تزايد عدد اللوائح المتعلّقة بالمذهب الشيعيّ التي تقدّمها الأكاديميّة الأمريكيّة حول الأديان في مؤتمرها السنويّ أكثر من أيّ وقت سابق؛ بل إنّ أحد المشاريع الذي جاء بتمويل من إحدى الأكاديميّات البريطانيّة تحت عنوان: «السلطة في المذهب الشيعيّ» كان يهدف إلى إنشاء شبكة واسعة من الباحثين الذين ينشغلون في هذا الموضوع، وإلى تطوير وضع الأبحاث حول المذهب الشيعيّ. علمًا أن تزايد الاهتمام بالمذهب الشيعيّ ليس محصورًا بالأبحاث والدراسات والمقالات[21]، حيث إنّ الشيعة في شمال  أميركا عمدوا إلى رقمنة بعض أهمّ نصوصهم ومصادرهم.
إشارةً إلى أنّ مشروع مكتبة أهل البيت الرقميّة (al-islam.org) وهي ذات إدارة شيعيّة، يتضمّن العديد من المصادر الشيعيّة الأصليّة القيّمة، فضلًا عن الروابط والمقالات البحثيّة وغير البحثيّة والكتب الإلكترونيّة. كما تمّ إصدار صحيفتين شيعيّتين منذ أحداث 11 أيلول، The Journal of Shi’a Islamic Studies  (صحيفة الدراسات الإسلاميّة الشيعيّة) وInternational Journal of Shi’i  Studies  (الصحيفة الدوليّة للدراسات الشيعيّة)، دون أن ننسى العديد من الأقراص المدمجة التي تتناول الفقه والحديث والأصول والأخلاق والتفسير عند الشيعة والتي باتت الآن متوافرة لعامّة الناس، علمًا بأنّ هذه السلسلة جاءت بترويج وإنتاج من مؤسّسة نور للبرمجيّات في إيران. ولكن يبقى أنّ أيًّا من متون الشيعة الأربعة العائدة للكلينيّ أو الطوسيّ أو الصدوق لم يترجم بعد إلى الإنكليزيّة، كذلك الأمر بالنسبة إلى بعض أهمّ الأعمال التي تتعلّق بالفقه والتاريخ والسيرة والفلسفة والعرفان لدى المذهب الشيعيّ، فهي لا تزال غير مترجمة. وفي هذا المجال لا بدّ من الإشارة إلى أنّ مؤسسة أنصاريان للنشر في مدينة قم في إيران عمدت إلى ترجمة عدد من النصوص الشيعيّة ونشرها، وعلى الرغم من أنّ هذه الأعمال تعتمد النبرة التبريريّة والجدليّة، إلا أنّها تبقى بمنزلة مصادر قيّمة في دراسة مختلف مجالات المذهب الشيعيّ.
علمًا أنّه جرى إنشاء بعض المقاعد لأسماء إسلاميّة في بعض الجامعات في شمال أميركا على سبيل مقعد الأمير الوليد، ومقعد عمر بن الخطاب، ومقعد الشارقة في غلوبال إسلام (في كندا)، ومقعد الملك فيصل، وغيرها. وحتى وقت قريب، لم يكن قد أنشئ أي مقعد من هذا النوع للدراسات الشيعيّة، وعندما عرضت المسألة أمام آية الله السيستاني في عام 2013، أشار إلى أنّ هذا المقعد يجب أن يُنشأ بشرط أن يكون المنهاج المدرّس مستندًا إلى المعتقدات والممارسات الشيعيّة «الصحيحة»، ولا شكّ أنّ تعليق آية الله السيستاني يشير بوضوح إلى ما يتوقّع أن ينشأ على الأغلب من خلاف بين العديد من الأجندات المتضاربة لمختلف السلطات الدينيّة في الإسلام الشيعيّ، وذلك في إطار الترويج للدراسات الأكاديميّة والمقاربات التي تعتمدها الدراسات الأكاديميّة الغربيّة غالبًا. وهذا الأمر يضع الأكاديميّين الشيعة في موقف متزعزع؛ إذ المطلوب منهم أن يُرضوا الآمال التي تتوقّعها منهم مجتمعاتهم وقياداتها الدينيّة من جهة والمجتمع الأكاديميّ من جهة أخرى.
في عام 2016 جرى استحداث مقعد الإمام عليّ للدراسات الشيعيّة في معهد هاتفورد في كونيكتيكت، ووفقًا للموقع الإلكترونيّ لهذا المعهد، فإنّ مقعد الإمام عليّ للدراسات الإسلاميّة الشيعيّة والحوار بين المدارس الفقهيّة الإسلاميّة يقدّم الفرصة الأكاديميّة للإسلام الشيعيّ كي يتكلّم عن نفسه. ولتشجيع الحوار بين مختلف المدارس الفقهيّة الإسلاميّة، بما في ذلك السنّة والشيعة. من جانبه، فإنّ معهد هاتفورد يرى أنّ الفهم والقيادة الدينيّين المعاصرين لا بدّ من أن يتضمّنا التقاليد الشيعيّة والسنّية في إطار الإسلام[22].
لا شكّ أنّ ثمّة نقلة نوعيّة قد حصلت منذ أحداث 11 أيلول، على مستوى الانخراط الشيعيّ العام، حيث إنّ الرقابة الحكوميّة المتزايدة إلى جانب غيرها من الإجراءات جعلت الشيعة يدركون أنّها المشاركة في النظام الشمال أمريكيّ الاجتماعيّ والسياسيّ هي التي ستساعدهم على رفع الستار الذي يبقيهم في الخفاء في أميركا الشماليّة. وعليه فإنّ الانخراط في المجتمع الشمال أميركيّ والحاجة إلى إسماع مخاوفهم الاجتماعيّة والسياسيّة يتطلّب من الشيعة أن يصبحوا أكثر نشاطًا في مختلف قطاعات المجتمع.
لقد منحت أحداث 11 أيلول المجتمع الشيعيّ الفرصة للوقوف في وجه أسطورة الإسلام المتجانس والأحاديّ والتصدي لها؛ إذ شهد الشيعة على نقلة نموذجيّة  تمثّلت في انتقالهم من كونهم هم الآخر داخل المجتمع الإسلاميّ الذي يشكّلون فيه أيضًا صورة الآخر، وباتوا  أقلّيّة قادرة على إيصال صورتها وصوتها في أميركا الشماليّة. كما يشعر الشيعة بحاجتهم إلى أن يمثّلوا أنفسهم بأنفسهم بدل أن تمثّلهم الأغلبيّة السنّيّة، ولا سيّما على خلفيّة الغزو الأمريكيّ للعراق واحتلال هذا البلد، وزيادة الوعي لدى الشيعة بشأن التبعيّة، حيث شعروا بضرورة التصدّي للصورة السلبيّة التي تقدّمها الوسائل الإعلاميّة عن الإسلام.

الخاتمة
لقد غاص هذا المقال في الأعمال الأكاديميّة الغربيّة التي كُتبت حول الإسلام الشيعيّ، حيث قدّمنا في القسمين الأول والثاني من هذة الورقة لمحة عامّة تكشف النقاب عن التضارب الصارخ؛ إذ شهدت المراحل الأولى ندرة في النصوص التي تدرس المذهب الشيعيّ. علمًا بأنّ المستشرقين الذين تناولوا في كتاباتهم المذهب الشيعيّ قبل الستينيات كانوا يستندون في ذلك على المصادر السنّيّة، وأظهروا المذهب الشيعيّ باعتباره متفرّعًا خرج مع مضي الأزمنة عن المجتمع السنّيّ السائد. وفي الثمانينيّات شهدت الساحة طفرة في الأعمال التي راحت تتناول المذهب الشيعيّ والتي تصدّت لهذه النظريّة. ومع مرور الوقت، بدأ الباحثون الغربيّون يدركون أنّ ثمّة حاجة لسماع الصوت الشيعيّ في المعاهد الأكاديميّة، وعليه فقد حصلت نقلة جليّة من مجرد الكلام عن الشيعة إلى محاورتهم. كما أنّ الباحثين من الشيعة شعروا بضرورة تقديم إيمانهم إلى العلن؛ لذا فقد أسهموا في الدراسات الأكاديميّة حول المذهب الشيعيّ، متسلّحين بالأدوات المنهجيّة التي يستخدمها الغرب إلى جانب المعرفة التي اكتسبوها في حوزاتهم، واستطاعوا أن يطرحوا الدوافع والمواضيع والشخصيات الشيعيّة البحتة في خطابهم، واستطاع هؤلاء الباحثون أن يحدِثوا تغييرًا في طريقة تدريس المذهب الشيعيّ حتى فهمه في الغرب.
في عالم اليوم، باتت البيانات تتسرّب في أحجام أكبر وبسرعات أقصى على طول المسافات الطويلة لكي تصل إلى متناول الجمهور أسرع من ذي قبل، ومع ذلك يبقى أنّ النتيجة لم تتحسّن لناحية التنوّر والتعرّف؛ بل إنّ النتائج تأتي عكسيّة في الغالب. فالانفجار المعلوماتيّ قد ساهم نوعًا ما في خلق المزيد من الكراهية والتعصّب، ومن خلال عقد الندوات ودخول المجال الأكاديميّ ونشر الكتب والمقالات في الصحف والبروز أكثر على شبكة الإنترنت وتقديم المحاضرات في العديد من المؤتمرات وورش العمل، بدأ الشيعة يغيّرون نمط تفكيرهم حول أميركا الشماليّة وحول أنفسهم أيضًا. وفي حين أن عقليّة «العالم القديم» و«الموطن الأمّ» بدأت تتلاشى شيئًا فشيئًا، كما جرى على نحوٍ واسع في منتصف أعوام الثمانينيّات وبداية التسعينيّات؛ حيث إنّ المنظّمات بدأت تغيّر الدراسات والخطابات المدنيّة الشيعيّة في الولايات المتحدة، وبات همّهم هو كيفيّة التواصل مع غيرهم من الشمال الأمريكيّ دون أن يتخلّوا عن الهويّة الخاصّة التي تميّزهم.
----------------------------------------
[1] لياقت تكيم: بروفسور في جامعة مكماستر في هاملتون ومختصّ في الشؤون الإسلاميّة، عنده كتب عدة من بينها «المذهب الشيعيّ في أميركا».
تمّ طرح هذا البحث في مؤتمر «Shi’i Studies: Past and Present» (الدراسات الشيعيّة: بين الماضي والحاضر)، في المعهد الإسلاميّ، لندن، المملكة المتحدة، أيار 2015.
[2]    فيرنون شوبيل، Religious Performance in Contemporary Islam: Shi’i Devotional  Rituals in South Asia  (الممارسات الدينيّة في الإسلام المعاصر: الشعائر العباديّة الشيعيّة في جنوب آسيا)، (كولومبيا: منشورات جامعو جنوب كارولينا)ix.  هذا المقال هو عبارة عن نسخة مطوّلة عن مقالي السابق «Western Studies of Shi’i Islam» (الدراسات الغربيّة حول المذهب الإسلاميّ الشيعيّ) في آمريكان جورنال أوف إسلاميك سوشال ساينش، XXXIII، الرقم 2 (2016)، ص 133 - 144.
[3] العلّامة السيد محمّد حسين الطبطبائيّ،Shi’ite Islam  الإسلام الشيعيّ، (ألباني: صاني، 1975)، ص1.
[4]  مينو ريفس، Muhammad in Europe: A Thousand Years of Myth-Making  (محمّد في أوروبا: الف عام من صناعة الخرافات) (نيويورك: منشورات جامعة نيويورك، 2000)، ص84.
[5]  المصدر السابق، ص87.
[6] جون تولان، Cambridge Companion to Mohammad  زميل كامبريدج لدى محمّد. (كامبريدج، 2013). راجع أيضًا لياقت تاكيم، «Western Depictions of Muhammad»  صورة محمّد لدى الغرب في Muhammad in History, Thought, and Culture: An Encyclopedia of the Prophet of God محمّد في التاريخ والتفكير والثقافة: اسنكلوبيديا حول نبيّ الله (المجلد الثاني)، تحرير سي. فيتسباتريك وأي. واكر (سانتا بربارا، كاليفورنيا: أي بي سي – كليو، 2014).
[7] إيتان كولبيرغ، «Western Studies of Shi’a Islam»  «الدراسات الغربيّة عن المذهب الإسلاميّ الشيعيّ»، في مارتن كرايمر تحرير المذهب الشيعيّ، Resistance and Revolution  المقاومة والثورة (بولدير: واستفيو، 1987) ص 2 – 31.
[8] المصدر السابق، ص32.
[9]  الأب رافيال دو مانس، Etat de la  Perse en 1660  الدولة الفارسيّة في العام 1660 (باريسك شيفير، 1890)، ص58.
[10]  إيتان كولبيرغ، «الدراسات الغربيّة عن المذهب الإسلاميّ الشيعيّ» راجع أيضًا عباس أحمد واند، «An Iranian Point of View of Shi’i  Studies in the West»  «وجهة النظر الإيرانيّة حول الدراسات الشيعيّة في الغرب»، في انترناشونال جورنال أوف شيي ستاديز، العدد الخامس رقم 1 (2007)، ص15.
[11]  إيتان كولبيرغ، «الدراسات الغربيّة عن المذهب الإسلاميّ الشيعيّ»، ص35.
[12]  راجع إدوار سعيد، Orientalism  الاستشراق (لندن: روتلادج آند كيغان بول، 1978)، ص 12 - 14.
[13]  إيتان كولبيرغ، «الدراسات الغربيّة عن المذهب الإسلاميّ الشيعيّ»، ص36.
[14]  أليساندرو كانسيان «Shi’im»  «المذهب الشيعيّ»، في Handbook of Medieval Studies: Terms – Methods – Trends  دليل دراسات العصور الوسطى: المصطلحات - الطرق - التيارات، ثلاث مجلدات، تحرير أي كلاسن (بيرلين ونيويورك: دو غرويتير، 2010) ص97.
[15]  لوي ماسينيون، Die Ursprunge und die Bedeutung des Gnostizismus im Islam   أصول ومعاني المذهب العرفانيّ في الإسلام (دوسيلدورف: راين – فيرلج، 1938)؛ Der gnostische Kult der Fatima im Shiitischen Islam: العبادات العرفانيّة لدى فاطمة في الإسلام الشيعيّ  (دوسيلدورف: راين – فيرلج، 1939).
[16]  المصدر السابق.
[17]  باتريسيا كرون ومارتن هيندس، God’s Caliph: Religious Authority in the First Centuries of Islam  خليفة الله: السلطة الدينيّة في العصور الأولى من الإسلام، (كامبدريدج: منشورات جامعة كامبدريدج، 1986)، ص 33 – 36.
[18]  تقوم القيادة الدينيّة الشيعيّة على نظام هيكليّ عالي التكامل يسمّى مرجع التقليد أو المرجعيّة. يُطلق هذا المصطلح على أعلى سلطة عالمة في المجتمع الشيعيّ بحيث يتبع أحكام هذا الشخص المتعلّقة بالشريعة الإسلاميّة من هم محيطون به باعتباره المصدر الذي يرجعون إليه، ومن هنا جاء لقب مرجع. يقوم المقلّدون بالاستناد إلى المرجع في ممارساتهم الدينيّة بما يتوافق مع أحكامه وآرائه الفقهيّة. يكون المرجع مسؤولًا عن إعادة تأويل النصوص الفقهيّة الإسلاميّة بما يتناسب مع العصر الحديث، وهو يتمتّع بسلطة إصدار الفتاوى الشرعيّة، وهو ما يمنحه النفوذ الدينيّ على الحياة الاجتماعيّة لمقلِّديه في جميع أنحاء العالم.
[19]  يطلق على عمليّة اتباع الفتاوى الشرعيّة للفقيه الأعلم التقليد. في الفقه الشيعيّ، يعتبر التقليد التزاما بقبول جميع الأحكام الشرعية كما يراها الفقيه المؤهّل لهذا المنصب وللتصرّف وفقًا لهذا الالتزام.
[20]  راجع لياقت تاكيم، Shi’ism in America المذهب الشيعيّ في أميركا (نيويورك: منشورات جامعة نيويورك، 2009)، الفصل الخامس.
[21]  أليساندرو كانسيان «المذهب الشيعيّ»، ص104.
[22]    http://www.hartsem.edu/2015/12/fundraising-goal‑reached-for-imam-ali-chairfor-shii-studies-and-dialogue-among-islamic-legal‑schools.