البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

صورة العالم العربيّ في الأدبين الفرنسيّ والإيطاليّ

الباحث :  د. فاليريو فيتو ريني
اسم المجلة :  دراسات استشراقية
العدد :  20
السنة :  خريف 2019 م / 1441 هـ
تاريخ إضافة البحث :  January / 21 / 2020
عدد زيارات البحث :  1080
تحميل  ( 1.129 MB )
المقدّمة
صورة العالم العربيّ اليوم في فرنسا وفي إيطالياالمثقّفون الأوروبيّون أمام الثورات العربيّة:
تسبّبت الثورات العربيّة التي قامت في العديد من الدول العربيّة (تونس، مصر، ليبيا) بسقوط أنظمة ديكتاتوريّة كانت حاكمة منذ عقود، في عدّة أشهر. وقد فاجأ انهيار أنظمةٍ -كانت تبدو متماسكةً- الدبلوماسيّات والحكومات والرأيّ العام الغربيّ، ما زاد من تأزيم صورة العالم العربيّ المنتشرة في فرنسا وإيطاليا وفي جزءٍ كبيرٍ من أوروبا الغربيّة، سواء أكان بين المثقّفين أم عند الرأي العام.

تساءل حكيم بن حمودة في مقالٍ له نُشر في شباط/فيفري 2011:
«أين اختفى المثقّفون الفرنسيّون المعروفون بمساندتهم للنضالات والمعارك الديمقراطيّة، أين اختفوا خلال ثورتي تونس ومصر؟ لِمَ لا نراهم يجوبون قنوات التلفزيون، ولا نجدهم يضاعفون من «اللقاءات» (interviews) لمطالبة «الغرب» بمساندة ثورة تقوم على أساس «المبادئ الكونيّة لحقوق الإنسان، والمثال الغربيّ للحرّيّة»؟ لِمَ لا يرفعون أصواتهم، في الوقت الذي تكسر الشعوب العربيّة فيه نير الطغيان الذي سيطر على هذه المنطقة، ما مثّل «استثناءً»، بما تحقق من كسرٍ لجدار الخوف، ودخولٍ في ربيع الحرّيّات في الوطن العربيّ؟ لِمَ لا نراهم يتجنّدون، كما فعلوا لمساندة الثورات الديموقراطيّة في «الديموقراطيّات الشعبيّة السابقة» بعد سقوط جدار برلين؟ لِم يلتزمون موقفًا منخفض المستوى تجاه هذا التحوّل التاريخيّ في العالم العربيّ بينما كانوا يُظهرون «روحيةً قتاليّةً» لا سابق لها خلال حرب يوغوسلافيا السابقة، ومساندةً قويّةً للمقاومة البوسنيّة قادتهم إلى تأليف قائمة دعمٍ للبوسنة في الانتخابات الأوروبيّة؟ لِم لا نراهم يحشدون لدعم هذا السعي للحرّيّة عند الشباب العربيّ؟ لِم هذا الإحجام  الآن، بينما نجدهم في ما مضى قد تجنّدوا ومارسوا ضغوطًا قويّةً على الحكومات الغربيّة، مطالبين إيّاها بالتّدخل لإنهاء القمع الذي تمارسه الأنظمة الاستبداديّة على شعوبها؟ كيف نفسّر هذا الصمت المذهل وهذه اللامبالاة (apathie) تجاه هذه الحماسة الثوريّة الأولى التي أتت من الوطن العربيّ؟»[1].
بعد تحليل المواقف التي عبّر عنها كلٌّ من ألكسندر آدلر ((Adler وبرنار-هنري ليفي (Levy) وآلان فِنْكِلْكروت (Finkielkrault)، استنتج حكيم بن حمودة أنّ ما ساد عند المثقّفين الفرنسيّين، بمناسبة الثورات العربيّة هو الخشية من الخطر «الإسلامويّ» (danger islamiste) أي الخشية من ألّا تقود تلك الثورات إلى إرساء ديموقراطيّات حديثة وتحرّريّة؛ بل إلى استبداديّة جديدة وفق النموذج الدينيّ، غلبت عليهم تلك الخشية أكثر مما كان يُنتظر منهم، منطقيًّا، من حماس لثورات تحرّريّة ذات قيمة تاريخيّة.
في الوقت الذي تتقدم فيه المجتمعات المعاصرة إلى الأمام، تفتح الثورات لحظات الانتقال من السّلطويّة نحو الديموقراطيّة، لكن العالم العربيّ، وفق «أساتذتنا في الفكر»، يشهد فجر انحدارٍ جديدٍ ينبغي أن يقوده نحو شموليّة دينيّة (totalitarisme religieux)، إنّ السبب الحقيقيّ لهذا الانحدار هو غياب التقاليد الديمقراطيّة في تلك المساحة الجغرافيّة، وندرة في وجود الشخصيّات الكاريزماتيّة القادرة على أن تفتح له الطريق نحو الحرّيّة والحداثة[2].

هذا النوع من الخشية شاركهم فيها العديد من المفكّرين الإيطاليّين:
«[...] إنّ اليقظة العربيّة الثانية لن تُترجم بعمليّة دمقرطة، بل بتغيير في قمم (رؤوس) الطبقة الحاكمة، وفي بعض الحالات، بتغيير الأنظمة. عمومًا، مع ذلك، هم لن يتغيّروا. المصالح الداخليّة والخارجيّة التي تحميهم قويّة جدًّا. وفق هذا التفسير، فإنّه من المرجّح أنّ قدر «الربيع العربيّ» هو أن يصبح، بسرعة، خريفً قاسيًا (hiver rigide)، دون المرور بصيف أو خريف. الإصلاحات التي ستجرى لن تكون إلّا شكليّة، سيتمّ إرساء ديموقراطيّات معادية لليبراليّة شبيهة بسابقاتها. ويرى بعض المعلّقين الأكثر تشاؤمًا، أنّها يمكن أن تكون الجديدة أسوأ، نظرًا للتأثير الذي ستمارسه الأصوليّة الدينيّة، كما حدث في إيران»[3][4].
إنّ خطر وقوع انتكاسة تسلّطيّةٍ هو، بكل تأكيد، حاضرٌ في الثورات العربيّة، ولا يمكن استبعاده سلفًا (a priori)، لكن خلال كلّ ثورة تاريخيّة، سواء أكانت أوروبيّة أم غير أوروبيّة، توجد فترات للشكّ والتردّد والفوضى تتفاوت في طولها، كما أنّه قد تجلّى، واقعًا، خطر الثورة المضادّة. إنّ خطر الانتكاسة التسلّطيّة أو الثورة المضادّة ليس ميزةً خاصّةً حصرًا بالثورات العربيّة، ولتجنّب مثل هذا الخطر سيكون دعم المثقّفين والرّأي العام الأوروبيّيْن نافعًا جدًّا.
«بدل هذا التردّد وهذا الاحتياط، ربما حان الوقت لهؤلاء المثقّفين [الغربيّين] ليحيوا ذاك الأمل القادم من الجنوب وليحبّوا تلك الثورات العربيّة خاصّةً عبر دعمها وتقديم المساعدة الضروريّة من أجل أن تؤدّي إلى إقامة مجتمعات ديموقراطيّة وتعدّديّة حقيقيّة على شاكلة الثقافة والقيم التي يحملها الجيل الجديد»[5].
فضحت الثورات العربيّة، إجمالًا، النقص في المعارف حول العالم العربيّ، المحتكرة تقليديًّا من قِبل المثقّفين الأوروبيّين. يقول بنيامين ستورا (Stora) في هذا المجال:
«[...] منذ الاستقلالات السياسيّة في ستينيّات القرن العشرين، تنصّل مثقّفو الشمال من التزامهم ومن اهتمامهم بالجنوب العربيّ والمتوسّطيّ. في حين أنّه إلى حدود حرب الجزائر، أغلب المثقّفين الفرنسيّين كانوا يحرصون على الاستعلام ويتناقشون حول معرفة تلك المجتمعات، من رايمون آرون إلى بيار بورديو، من بيار نورا -الذي ألّف كتابه الأول حول الجزائر- إلى جان -بول سارتر، وبيار فيدال- ناكيه... في عالم الأفكار، كانت توجد رغبة مشتركة للتعرّف، لمعرفة الآخر، في ما يتعلّق بالتاريخ الفرنسيّ، وبالتاريخ الاستعماريّ، وبتاريخ تصفية الاستعمار، حبّ الاطّلاع ذاك وتلك الإرادة للتعرّف كانت نوعًا من التوبيخ للنّزعة القوميّة الفرنسيّة. في أواخر الخمسينيّات وبداية ستينيّات القرن العشرين، كان المثقّفون الفرنسيّون يتساءلون عن القوميّة العربيّة، وما الذي كانت تعد به؟ ثمّ، في السبعينيّات، تراجع الاهتمام، وانحسر التفكير شيئًا فشيئًا. يذكر أنّه في ذلك التاريخ (1978) نشر إدوارد سعيد كتابه الاستشراق. وبالتالي أصبحت البحوث وجهود التفكير حول الشرق (Orient)، السلبيّة منها والإيجابية، نادرةً»[6].
نظرًا لفقدان المعارف العميقة والمُحيَّنة حول العالم العربيّ كان من البديهيّ أن تستمرّ الصور النمطيّة القديمة في عملها، خاصّة وفق ما كان معروفًا عند ميكيافيلي في كتابه الأمير، الذي يوفر لنا الصياغة المتكاملة الأولى التي تفيد أنّ «الطغيان» هو شكل الحكم الملازم للشعوب «الشرقيّة».

سجل تاريخ حكم الممالك طريقتين للحكم: إمّا أن يكون الحكم متمثّلًا في أمير وأتباعه الذين يعملون كوزراء بجانبه، ويشاركون في السلطة بدعم وتأييد منه، أو يكون الحكم لأمير ومعه عدد من البارونات الذين لا يعتمدون في قوّتهم على الأمير، وإنّما على أصالة عائلاتهم القديمة. ولهؤلاء البارونات دويلات ورعايا خاصّين بهم، ويعتبرهم رعاياهم أسيادًا لهم، ويرتبطون بهم ارتباطًا وثيقًا. وفي الدول التي يحكمها الأمير وأتباعه، يكون للأمير سلطات أكثر، حيث لا يوجد في الدولة من هو أعلى منه مقامًا، والآخرون الذين يأتمرون به هم مجرّد وزراء ومسؤولون بدولة الأمير، ولا يوجد من يعطيهم أكثر من حقّهم.
وفي عصرنا الحالي يوجد مثالان لهذين النوعين، وهما الأتراك وملك فرنسا. فالمملكة التركيّة يحكمها حاكم واحد، والباقون هم خدّامه، وقد قسّم المملكة إلى سنجقيّات يرسل إليها العديد من الإداريّين، ويغيّرهم، أو يستدعيهم حسب هواه. لكن ملك فرنسا محاط بعدد كبير من قدامى النبلاء. ومكانتهم معروفة جيّدًا لرعايا الدولة، وهم أيضًا محبوبون منهم. ولهم امتيازات لا يستطيع الملك أن يحرمهم منها، وإلّا عرّض نفسه للخطر. إنّ من ينظر إلى هاتين الدولتين سيجد أنّه من الصعب جدًا الاستيلاء على الدولة التركيّة، لكن السيطرة عليها سهل جدًا لأسباب عديدة وذلك في حالة هزيمتها. أمّا مملكة فرنسا فمن السهل جدًا إسقاطها لكن السيطرة عليها أمر شديد الصعوبة.
إنّ أسباب صعوبة احتلال المملكة التركيّة هي أنّ الغازي لن يجد ترحيبًا من الأمراء الموجودين بالمملكة، ولا يأمل في أن تساعده في حملته حركات تمرّد بزعامة هؤلاء الذين كانوا مقرّبين من الملك للأسباب المذكورة سابقًا.... مع مراعاة هذا الأمر، فإنّه لو تفحّصتم طبيعة حكومة داريوش ((Darius، فسوف تجدونها شبيهة بحكومة الأتراك. وقد اضْطُرّ الإسكندر [المقدونيّ] أن يهاجم بعنفٍ ومن جميع الجهات، لمنعهم من الصمود في المعركة. لكن بعد موت داريوش، بقيت تلك المملكة [فارس] للإسكندر، من دون الخشية من خسارتها، للأسباب نفسها[7]/[8].
وهذه الفكرة القديمةعن الشرق -الطبيعة الثابتة لشعوبه- تعني أنّه لا يمكن أن يسود سوى شكل الحكم الطغيانيّ المطلق الأكثر تعسّفًا، تمّ التصريح بها منذ ميكيافيليّ بصيغٍ مختلفة، ومن البديهيّ أنّها لم تمح تمامًا من المخيال الأوروبيّ. إنّ الصّيغة الأشدّ «حداثةً»، لهذه الصورة النمطيّة التي يتمّ ترسيخها شيئًا فشئيًا، تعرض اليوم من خلال الغياب التّام للثّقة في حصول تطوّر ديمقراطيّ وتحرّريّ للمجتمعات العربيّة. إنّه رأي مسبق أدّى، في العديد من الحالات، إلى التقليل أو التجاهل التّام لما كان يجري إعداده منذ سنوات في العالم العربيّ: الحاجة المتفشّية للحرّيّة السياسيّة والاقتصاديّة، المطالبة باحترام حقوق الإنسان، مطالبات طبقة سياسيّة أكثر يقظةً وكفاءةً، الفكر الحداثيّ والتجدّديّ للعديد من الفلاسفة (مثل: أحمد الموصلّلي، وفؤاد زكريّا، وسعيد العشماوي، وحسن حنفي، وبسّام الطّيبي، وصادق العظم، ومحمد أركون، ومحمد عابد الجابريّ)، الذين يضعون منذ سنوات عديدة مواضيع الديمقراطيّة في صلب الجدل الفكريّ، وتحرير النساء، والدولة العلمانية وخاصّةً موضوع الحوار[9]؛ والعديد من الأعمال تصفّ بشكل دقيق، مثلًا، الوضع الاجتماعيّ الصّعب جدًّا في مصر[10]؛ وتطوّر المجتمع التّركيّ، والتقاليد العمّاليّة والديمقراطيّة في تونس؛ والتّطوّر البطيء والصّامت والثّابت لكلّ المجتمعات المدنيّة العربيّة؛ والثورة الكبرى التي أحدثتها التكنولوجيّات ووسائل الإعلام الجديدة التي حوّلت... «جمهورًا سلبيًّا، متلقّيًا للخطابات التي تفرضها الحكومات، إلى جمهور يشارك بهمّة في عمليّات الاتّصال والتّواصل، مغيّرًا بالكامل التصوّر التقليديّ لِمَقولة الجمهور/المنتج»[11].

قصر نظر الحكومات والديبلوماسيّات:
كان فقدان الثقة في تطوّر المجتمعات العربيّة نحو الديمقراطيّة، وبالتّالي، الخشية من بروز أنظمةٍ شموليّةٍ دينيّةٍ جديدة، سبباً للدّعم الذي وفّرته، ديبلوماسياتُ العديد من الدّول الغربيّة وحكوماتُها لأنظمةٍ ديكتاتوريةٍ غيرِ مقبولةٍ، سواء أكان وفق المعايير الديمقراطيّة أم وفق معايير حقوق الإنسان، لكنّها كانت تعتبرها، بشكلٍ خاطئٍ تمامًا، بمثابة الحصن الأخير أمام النّزعة الإسلاميّة[12]. لمّا اندلعت الانتفاضة الأولى في تونس، تجاهل الديبلوماسيّون الأوروبيّون، طويلًا، ما كان يجري، لكونهم يجهلون طبيعته الحقيقيّة. وصلت وزارة الخارجيّة الفرنسيّة، وقتها إلى حدّ توفير مظلّة «تعاونٍ بوليسيٍّ» مع الحكومة التونسيّة[13]، ثلاثة أيّام قبل أن يُجبَر [الرئيس[ بن علي، الممسِك بالحكم منذ 23 سنة، على الفرار على عجلٍ من تونس.
تفاجأت إيطاليا بدورها بانطلاق الحرب الأهليّة في ليبيا؛ لأنّ تلك الحرب كانت تعرّض أمنها الطّاقوي [أمن الطاقة] وسياسة الحدّ من موجات الهجرة [من إفريقيا] التي انتهجتها منذ سنواتٍ للخطر.
«لم توفّق السلطة التنفيذيّة الإيطاليّة إلى التجاوز التّام للأزمة الأوّليّة. إنّ ما غيّب بلدَنا عن المشهد، أيضًا، هو الوقاحة التي أظهرتها فرنسا بانقلابها، خلال بضعة أيام، عن هندسةِ استراتيجيا كانت قد اتّبعتها خلال بضعة عقود، في ما يتعلّق بالمواقف التي كانت قد اتّخذتها سابقًا، بسبب نوع من الهشاشة على الصّعيد الدّاخليّ، وبسبب الخشية من أن تجد نفسها في صفّ الخاسرين، ومن نجاحات الحملة الإعلاميّة الماهرة التي قادها المنتفضون، أظهرت إيطاليا تذبذبًا باقتصار ردّ فعلها على مجرّد متابعة تطوّر الوضع، وتخلّيها عن التأثير في الأحداث وفق رغباتها الخاصّة»[14].

انتقلت إيطاليا، إذًا، من الحياد الأوّليّ، إلى تدخّل عسكريٍّ مباشر:
«لا بسبب إرادتها الفعليّة لإسقاط النّظام في طرابلس، إنّما بسبب الحاجة لاحتواء مسلك التّموضع (theatralisme) الجديد لكلٍّ من فرنسا وبريطانيا العظمى في البحر المتوسّط»[15].
لقد باغتت الثورات العربيّة الجارية الحكومات إضافةً إلى المثقّفين والرّأي العامّ الغربيّين؛ إنّ الصّورة التي كوّنوها عن ذلك الفضاء الجيوسياسيّ وشبكة القراءة التي تمخّضت عنها لم تكن، بالتّالي، متطابقةً مع واقع كان يشهد تغيّرًا كبيرًا منذ عدّة سنوات. صرّح المنصف المرزوقيّ في مقال له نُشِر في جريدة لوموند (le monde) يوم 02/04/2011:
«إن كان [الغربيّون] يرغبون بالمشاركة في صناعة التّاريخ الذي يُكتب في حدودهم الجنونيّة، وعدم الاكتفاء بتلقّي صدمات إرتداداته، فإنّ الأوروبيّين -والأمريكيّين كذلك- يتوجّب عليهم إبداع مفاهيمَ جديدة، ومقاربة جديدة، ورؤية للعالم العربيّ تقطع نهائيًّا مع التّمثيلات القديمة التّالية. إنّ الشّعوب العربيّة طبيعيّةٌ. وثوراتها دفنت للأبد تلك الوصمة المزعومة التي يقول أصحابها بأنّها جعلتهم مجرّدين من الأهليّة للديموقراطيّة، وأنّ قدرهم الثّقافي هو الإطاعة، وأن أفقهم غير القابل للتّخطّي، [...] هو أن يُحكموا من قِبل طغاةٍ متنوّرين.
الثّورة العربيّة ثورةٌ طبيعيّةٌ، وكما كلّ الثورات، فإنّها تنتج فوضى، وثورة مضادّة وصراعات داخليّة واضطرابات تتضاءل تدريجيًّا مع الشّكل المتواصل للبنى السياسيّة والاجتماعيّة وخاصّةً العقليّة (mentales)»[16].

رهاب الإسلام لدى الرأي العامّ:
إذا كان مثل هذا القصور في النظر يميّز المثقّفين البارزين، والديبلوماسيّين البارعين، والحكومات في الدّول الغربيّة، فلا شيء يدعو للعجب من أن ينتشر الرّهاب من الإسلام لدى الرأي العامّ، في كامل أوروبا المتحضّرة، ومن أن يصبح التّنديد بهجرة المسلمين (نحو أوروبا) الورقة الرّابحة المشتركة لجميع حركات اليمين المتطرّف في أوروبا من «حزب الشّعب» الدّنماركيّ، إلى «الحزب من أجل الحرّيّة» الهولّندي، إلى الـ ««FPO والـ«BZO» النّمساويَّيْن، وإلى «الفنلنديّين الحقيقيّين»، وإلى «حزب التّقدّم» النّرويجيّ، وإلى «Vlaams Belang» الفلامينديّ [بلجيكا]، وإلى «القانون والعدالة» في بولونيا، وإلى «Ataka» في بلغاريا، وإلى «رابطة الشمال» في إيطاليا، وإلى «الديموقراطيّين» في السويد، وإلى «الاتحاد الديمقراطيّ للوسط» (UDC) في سويسرا، وإلى «الجبهة الوطنيّة» (FN) في فرنسا. قدّم لنا خريديرك جوانيو (Joignot)، في مقال نُشر له في جريدة لوموند (le Monde) يوم 26/05/2012، قدّم جدولًا شاملًا لهذا الصّعود المتنامي للرّهاب من الإسلام:
«الكثير من المثقّفين، في مؤلّفاتهم، وفي محاضراتهم، وعلى الانترنت، يتبنّون هذه الحركة المعادية للإسلام الأصوليّ (الراديكاليّ). إنّ الذي فتح الطّريق لذلك، سنة 1996، هو عالم السّياسة الأمريكيّ صمويل هانتنغتون، بكتابه «صدام الحضارات» الذي نُشر سنة 1997 (دار Odile Jacob)، والذي عرض فيه الثقافة الإسلاميّة كمجموعٍ موحّدٍ، لا يتطوّر، ومستعصٍ على الانفتاح على التأثيرات الخارجيّة. على أثر هانتنغتون، ظهرت العديد من الكتابات تصوّر صدامًا مباشرًا بين الغرب والعالم العربيّ-الإسلامي. أغلبها يتحدّث عن حرب قيم وذكاء، يجسّد فيها الإسلام اللاتسامح وماضيًا رجعيًّا مقابل غربٍ ديمقراطيّ. أكّد بعضهم على أنّ الإسلام يمثّل تهديدًا لأوروبا. سنة 2006، صدر في مجلّة «Eurabia» المحور الأورو-عربيّ (جان-سيريل كودفروا/Jean-Cyrille Godefroy) أنّ الاتّحاد الأوروبيّ سيلتهمه قريبًا عالمٌ عربيّ توسّعيٌّ بفعل هجرةٍ عربيّةٍ مكثّفةٍ أرادتها النخبة المناصرة للتعدّديّة الثقافيّة. نجد هذا التّوصيف لإسلامٍ غازٍ، تسلّطيٍّ، مجتاحٍ لأوروبا، عند العديد من الكُتّاب: دنيال بايبز، وآيان هيرسي علي(Ayaan hirsi ali)، وميلاني فيليبز، ومارك ستَيْن، وبرنارد لويس، وبروس باور، وروبرت سبنسر، مدير موقع «مرصد الجهاد» (Jihad watch). صرّحت النّاشطة النّسويّة الإيطاليّة أوريانا فالّاسي (Oriana Fallaci)، مؤلّفة كتاب (La Rage et l’ Orguei) (منشورات 2002،Platon)، صرّحت  لجريدة «بريد المساء» (Corriera della sera):
«مرّت أربع سنوات على بداية حديثي عن النّازيّة الإسلاميّة، والحرب على الغرب، وعن ثقافة (Culte) الموت، وعن انتحار أوروبا. إنّها أوروبا جديدةٌ، ليست أوروبا التي نعرفها، بل أورابيا (Eurabia)، التي، بسبب رخاوتها، وجمودها، وسلبيّتها الدّفاعيّة، وخضوعها للعدوّ، هي في طور حفر قبرها بيديها».
كلّ هذا الفكر هضمه أندرس برايفيك (Anders Breivik)، الذي صرّح بأنّه يريد تحذير العالم من القدوم الحتميّ (القريب) لأورابيا (Eurabia)، عبر ارتكابه لهجماته، سنة 2011، والتي خلّفت 77 قتيلًا و151 جريحًا. إنّ الكتاب الأكثر تركيبًا حول خطورة الإسلام يظلّ التحقيق الذي قام به الصحفيّ الأمريكيّ كريستوفر كادويل (Christopher caldwell)، بعنوان: «ثورة تحت أنظارنا». كيف سيغيّر الإسلام فرنسا وأوروبا (منشورات: 2011،Toucan). والذي صار إنجيل اليمين الجديد. ويقول في هذا السياق: يجتاح المسلمون أوروبا بفضل نسبة الولادات المرتفعة بينهم، في حين انحدرت النّسبة بين الأوروبيّين إلى «1.3 طفل لكلّ امرأة». هو يتوقّع أنّ إيطاليا ستفقد، من الآن إلى سنة 2050، نصف عدد سكّانها الأصليين: كما يتوقّع أنّ 17% إلى 20% من سكّان هولندا سيصبحون مسلمين، وأنّ «الأجانب» سيمثّلون ما بين 20% إلى 32% من سكّان أوروبا.
العديد من الدّراسات، التي أُجريت في بلدان مختلفة، شكّكت في هذه الأرقام. مركز الدّراسات الأمريكيّ (Pew Researsh Center) يعطي نسبة 6% لعدد المسلمين المفترضين  في أوروبا سنة 2010، أي 44.1 مليون مسلم. وبالتالي يتوقّع أنّهم سيبلغون 8% سنة 2030. يؤكّد التقرير أنّ جميع التّوقّعات حول أوروبا ذات أغلبيّة مسلمة (أورابيا/Eurabia) لا أساس لها[17].
بسبب الجهل المتفشّي بقوّة في الواقع السياسيّ والثّقافي الحقيقيّ لتلك البلدان، على الرّغم من قربها الجغرافيّ والتّاريخيّ، نفهم كيف يمكن أن يسيطر الخوف من «الآخر» في مخيال قسمٍ كبيرٍ من الشّعوب الأوروبيّة، هو خوف تغذّيه أفكارٌ مسبقةٌ قديمةٌ وأخبارٌ مجهولة [المصدر]. ومن ّ أهمّ الأسباب المغذّية لذلك الخوف، في فرنسا خاصّةً، ظاهرتا التّطرّف الإسلامويّ والسّلفيّة الجهاديّة اللّتين، على الرّغم من كون أصحابها يمثّلون أقلّيّةً صغيرةً جدًّا[18]، وتسخّر تغطيةٌ إعلاميّةٌ خارقةٌ للعادة، كلّما حدثت عمليّة معزولةٌ مثل عمليَّتَي الدّهس في تولوز ومونتوبان، حيث ارتكبهما محمّد مراح الّذي عرّف نفسه كـ «سلفيٍّ».
أعرب رئيس الإدارة المركزيّة للاستخبارات الداخليّة برنار سكارسيني، (DCRI)، عن شكوكٍ حول وجود شبكةٍ سلفيّةٍ فرنسيّةٍ عنيفة. وطبق هذا الكلام على محمّد مراح، فقال: «إن حالته صحّيّة نفسيّة أكثر مما هي منتمية إلى مسارٍ جهاديٍّ». والأرجح أنّه «ذئبٌ منفردٌ». وجلّ ما حصل هو جريمةٌ واحدةٌ، حتى وإن أدانها المسلمون الفرنسيّون، فإنّها تُضاف إلى تلك الأخبار التي تتعلّق بالمكانة التي تحتلّها الأصوليّة في بلدان «الرّبيع العربيّ»، جريمةٌ واحدةٌ تسمح لليمين المتطرّف بإشاعة شعورٍ بالخوف، واستمالة طائفةٍ من الرّأي العامّ -كانت شعبيّة ماري لوبان عند 13% حسب العديد من عمليّات سبر الآراء قبل عمليّة مراح. لكنها صرّحت بعد العمليّة بقليل، يوم 25 مارس، في نانت: «ما حصل لم يكن مسألة جنون رجلٍ؛ ما حصل هو بداية زحف الفاشيّة الخضراء في بلدنا»[19]. على خلاف ما يمكننا أن نُؤمّله في عصرٍ نشهد فيه تطوّرًا لا سابق له في وسائل التّواصل الجماهيري، وفي الأسفار، وفي المبادلات الدّوليّة، على خلاف ذلك، نجد أنّ الآراء المسبقة لا تمحى؛ بل تتحوّل وتنمو على أصلها المتجذّر، آراء جديدة ستصبح على الأرجح مثل القديمة، عصيّةً على الاستئصال. حسب التّقرير الأخير للّجنة الاستشاريّة لحقوق الإنسان (CNCDH) حدثت سنة 2012 «زيادة بنسبة 30% في عمليّات الاعتداء ضدّ المسلمين  سنة 2011»[20]. وفق ما أفادت رئيسة اللّجنة كريستين لازارج، فإنّ الاعتداءات على المسلمين، المحصاة كما هي منذ 2010، تبعث على الانشغال: «نحن أمام ظاهرة أكثر بنيويّةً [بالمقارنة مع العمليّات العنصريّة الأخرى]، لأنّنا نشهد حصول هذه الزّيادة منذ 3 سنوات متتالية من الآن[21]. كشف تقرير اللّجنة (CNCDH) أيضًا استقصاء للرّأي العامّ أجراه معهد (CSA).
عمليّة سبر الآراء هذه، التي أُجريت على عيِّنةٍ من 1026 شخص، بين يومَيْ 6 و12 ديسمبر/كانون الأّول 2012، أكّدت أنّ الفرنسيين لديهم نظرةٌ سلبيّةٌ عن الإسلام تزداد مع مرور الأيّام. 55% من الأشخاص المستجوَبين يعتبرون أنّه «يجب عدم تسهيل إقامة الشّعائر الإسلاميّة في فرنسا» (بزيادة 7 نقاط عن 2011). هذا الموقف العدائيّ غير موجود تجاه الأديان الأخرى[22]. هذا التضليل (desinformation) الجوهريّ للرّأي العامّ الغربيّ، بل أيضًا لقسمٍ من الطّبقة المثقّفة أكثر، وحول العالم العربيّ، من المرجّح ألّا يكون مجرّد تجاهلٍ، أو نتيجةً لحظٍّ تعيسٍ، بل هو على الأرجح، عمليّة ممنهجةٌ ضمن خطّةٍ محدّدةٍ، من المرجّح أنّها جزءٌ من ذلك «النّموذج الإرشاديّ» (paradigme) لثقافةٍ كونيّةٍ ذات طبيعةٍ «طاغوتيّةٍ» يسمّيها رافائيل سيمون الوحش النّاعم الذي يتمثّل في نظام تديره تكتّلات متعدّدة الجنسيّات ومراكز قوّة ماليّة عالميّة، يركّز على الاستهلاك، في كلّ مكان من وسائل الإعلام والترفيه، عبر النداءات المستمرّة لإرادة الناس والحاجة العامّة للدين والروحانيّة.
إنّ التجاهل والعمى تقريبًا تجاه هذه الظّاهرة، من قبل اليسار وزمرته المثقّفة ناشئ من الكفاية (suffisance) التي ينظرون بها إلى الثّقافة الجماهيريّة، باعتبارها دائمًا هامشيّةً بالمقارنة مع ما يُفترض أنّه السّلطة الحقيقيّة: السّلطة السياسيّة والسّلطة الاقتصاديّة. عكست الأحداث تذكيرًا صادمًا بهذا الشأن: في انقلابٍ ذي طاقةٍ خارقةٍ للعادة، أثبتت الأحداث أن الثّقافة الجماهيريّة ليست هامشيّةً البتّة، بل إنّ السّياسة والاقتصاد وحتى الحرب تُخاض، اليوم بالتّحديد، عبر الثّقافة الجماهيريّة التي تحكم الأذواق، والمستهلكين، والمُتع، والرّغبات، وعمليّات ملء الوقت؛ كما تحكم المصطلحات والتّمثيلات، والتّطلّعات، وأنماط التّصوير لدى الأفراد، حتّى قبل أفكارهم السياسيّة، والانتخاب يأتي بعد ذلك، ويبدو أنّه من الصّعب أن يكون مخالفًا لما يُتوقّع»[23]/[24]. حسب رفائيل سيمون، السّلطة الحقيقيّة، في عصرنا، لا تختلف عن تلك التي توقّعها (صوّرها) توكفيل في كتابه «الديمقراطيّة في أمريكا»[25].
لكن، وباختلافٍ يسيرٍ؛ إنّ مكانة «الحاكم المطلق» ليست (كما كان يُخشى) بيد ملك، بل بيد كائنٍ (entite) لا مادّيٍّ (immaterielle) وخفيٍّ (invisible). إنّه كائنٌ بلا جسمٍ وبلا عنوانٍ بريديٍّ، لا محلّ إقامةٍ له، لكن له مكانةٌ غامضةٌ، لأنّها مكوّنةٌ من كلّ ما يحكم الثّقافة الجماهيريّة للعالم»[26]/[27]. كلّ الذين «يحكمون الثقافة الجماهيريّة للعالم» ليس من مصلحتهم، يقينًا، أن يُنقِص ازدياد المعرفة خوفنا غير العقلانيّ من الآخر.

الدّراسات ما بعد الاستعماريّة:
لم تظهر المراجعة الجدّيّة والعميقة والمؤثّرة لشروط المركزيّة المعرفيّة للفكر الأنثروبولوجيّ والفلسفيّ والسياسيّ، إلّا في العقود الأخيرة من القرن العشرين، في ما يُسمّى بـ «الدّراسات ما بعد الاستعماريّة» (Etude postcoloniale)[28].
بالتّوازي مع التّغيّر الجيوسياسيّ الذي عرفه العالم، بدأ في الدّراسات ما بعد الاستعماريّة إسقاط مقولاتنا (nos categories) على الثقافات، مقولاتنا المتعلّقة بالموضوعيّة، والتّاريخ، والسّيادة، والمواطنة، والتّحرّر إلخ... يتمثّل مجال الدّراسات ما بعد الاستعماريّة (postcolonial studies)، الذي وُلد في الولايات المتّحدة الأمريكيّة والمملكة المتّحدة (بريطانيا) وبلدان الكارييبي، في مقاربةٍ نقديّةٍ تغطّي اختصاصات مختلفة (الأدب، والتّاريخ، والاقتصاد، والأنثروبولوجيا، والعلوم السياسيّة)، وأصبحت مذّاك لا غنى عنها في الدّراسات «الإنسانويّة» (humanistes)، إلى درجة أنها أدّت إلى نشأة اختصاص دراساتٍ جديدٍ، يدرس في أقسام خاصّة، في الجامعات «الإنكلوسكسونيّة» الاستعماريّة والإمبرياليّة الأوروبيّة، بل قامت أيضًا بتخريبٍ حقيقيٍّ (veritable subvertion) لنسيج الهويّة الأوروبيّة نفسه، من خلال الكشف أن الشكل الاستعماريّ ليس مجرّد حادثٍ عابرٍ في تاريخ الغرب؛ بل هو كامن، في قلب الحداثة الأوروبيّة نفسها، وفي فكرة الحضارة الأوروبيّة.
تبدو المستعمرات بالتالي بوصفها «لا مكانًا مؤسّسًا» لعمليّة النظريّة السياسيّة (theorico-politique)، والتاريخاغرافيّة (historigraphique) الغربيّة: تمثّل «اللامكان»، باعتباره نقطة الزّمن صفر (منذ هيغل وماركس،) بشرط إمكان تاريخيّ (historisation) عبر تصوير كلّ السّرديّة التّاريخيّة المصبوغة بالمركزيّة الأوروبيّة باعتبارها شكل الكتابة العاكس للواقع (en miroir)[29]. إنّ إعادة التّفكير، بروحٍ نقديّة، في الصورة التي يُعرض بها العالم العربيّ في المخيال الغربيّ، والتي ما زالت منتشرة اليوم، لا تعني إبدال صورةٍ بأخرى جديدةٍ ومحيّنةٍ فقط، إنّ ذلك يعني أيضًا وربّما بشكلٍ خاصٍّ إعادة التفكير في هويّتنا الغربيّة الخاصّة بروحٍ نقديّةٍ، وفي كيفيّة تشكُّلها، وفي علاقتها الحميميّة بالسّلطة وبالسّيطرة على «الآخر»؛ إنّ ذلك يعني إعادة صياغة النّموذج الإرشاديّ للزّمن التّاريخي، لا باتّجاهٍ تراكميٍّ وخطّيٍّ (lineaire) (وهو الذي أدّى إلى إنكار الزّمانيّات (temporalites) المستقلّة والأصيلة لـ«الآخر» غير الأوروبيّ)؛ بل عبر تصوّر «التّعايش الحركي (dynamique)، في حاضرٍ اجتماعيٍّ وثقافيٍّ واحدٍ، لتعدّديّة أزمنةٍ تاريخيّةٍ مطبوعةٍ بأشكالٍ مميّزةٍ من السّيطرة، وذات صلةٍ بأعمالٍ تحرّريّةٍ»[30]؛ إنّ ذلك يعني إعادة التّفكير في وضعيّة أوروبا في العالم، والقبول، بوعيٍ تامٍّ، أنّ أوروبا لم تعد هي المركز[31]. إنّنا نشهد، كما هو واضحٌ، خطًّا بيانيًّا شاملًا، وغير مطمئنٍّ، خصوصًا وأنّ هذه «الثورة الكوبرنيكيّة» تتأكّد في حقبة تدهورٍ موضوعيٍّ للقدرة الاقتصاديّة والسياسيّة للغرب، حيث تميل بنى «السّيطرة» الرّأسماليّة أو الاستعماريّة الجديدة (neo-coloniale) للانتقال، متشابكةً (ensentrecroisant)، من الغرب إلى الشّرق ومن الشّمال إلى الجنوب، مع التّجربة (المأساويّة أحيانًا) للهجرات العابرة لحدود الدّول، وإعادة تشكيل النّسيج الحَضَري [الأوروبيّ] عبر الحركات التي تهزّ الضّواحي، وعمليّة إعادة تكوين الهويّة الأوروبيّة بشكل عام انطلاقًا من جدلٍ حول قيودها وحدودها (الجغرافيّة، والجيوسياسيّة، والجيوثقافيّة)[32].

مسألة ما بعد الاستعمار في فرنسا وإيطاليا:
في فرنسا، لم يظهر الجدل حول مسألة «ما بعد الاستعمار» إلّا مؤخّرًا، مع غياب التّرجمات إلى الفرنسيّة لأعمال أهمّ منظّري ما بعد الاستعمار الانكلوساكسونيّين غالبًا. وأحد أهمّ الكتب في النّقد ما بعد الاستعماريّ، هو كتاب «موقع الثّقافة» (The Location of Culture) لـ «هومي بهابها» (Homi Bhabha)، لكنّه لم يترجَم وينشر إلّا في سنة [33]2007.
في بعض الحالات لم يظهر (ستيوارت هول Stuart Hall)، لم يظهر سوى بعد حوالي 40 سنة من ظهور هذه التساؤلات النّظريّة، وبعد ثلاثين سنة من إضفاء الطابع المؤسّسي في المملكة المتّحدة. ثمّ بعد ذلك في العالم الانكلوفونيّ لخطوط القمّة (lignes de crête) العلميّة، المتميّزة بالهيمنة التي فرضتها على المجالات التّقليديّة، لم يتحقّق «أن اكتشفت فرنسا»، في لغتها الخاصّة، قواعد ذلك التيّار الفكري. لكن تجدر الإشارة، أنّ ذلك الاكتشاف عبر التّرجمة كان ناقصًا جدًّا، وترافق، بل حتّى أنّه كان مسبوقًا، بحذرٍ فاقدٍ للصّبغة النّقديّة. لقد ظهر هذا الحذر عند باحثين كانوا يرومون التّفكير في «الما بعد استعماريّ» انطلاقًا من القواعد التّأسيسيّة لعلومٍ هي ذاتها من النّوع الذي يمكن إعادة النّظر في أسسها من قِبل تلك النّظريّات الجديدة [ما بعد الاستعماريّة]: إنّها بالخصوص حالة الدّراسات الفرنكوفونيّة والانثروبولوجيّة. وإضافةً إلى ذلك، فإنّ كتبًا مهمّةً في النّقد ما بعد الاستعماريّ لا زالت شبه مجهولةٍ في فرنسا: إنّها حالة الكتاب الذي لا غنى عنه «ما بعد الاستعمار» لـ روبرت ج. س. يونغ، [...] وكذلك [...] كتاب هومي بهابها [مواقع الثّقافة]، الذي يبدو أنّه قد أُستقبل إمّا باستخفاف أو بلامبالاة، أو بذهولٍ: نظرًا لعدم إثارته سوى القليل من التّعليق والتّحقيق، كما لو أنّ الدّوائر العلميّة القادرة على الإمساك بخفايا تلك الإضافات النّظريّة كانت متطابقةً مع الدّوائر القادرة على تلك الخفايا في النّصّ في لغته الأصليّة: دوائر علميّة مكوّنة أساسًا من أنكليزاويّين (anglisistes)، وربّما من بعض الإسبانياويّين الانكلوفونيّين (hispanistes anglophones)[34].
يبدو أنّ فرنسا المعاصرة يشقّ عليها التّفكير في «الما بعد استعماريّ»، في حين أنّ بعض الكتّاب الفرنكوفونيّين هم بمثابة مكبّرات صوتٍ لأفكارٍ شديدة الشّبه به، باعتبار أنّ [أدبيات ما بعد الاستعماريّة] تدين [في نشأتها] إلى روّادٍ فرنكفونيّين (إيمي سيزار، وفرانز فانون، وجان-بول سارتر، وأقرب إلينا زمنيًّا: إدوارد غليسّان، وليلى صبّار، أو ماريز كويدي)، وإنّ وجود بعض الوجوه المعزولة الملتزمة بمسيرةٍ مشابهةٍ كعبد المالك السّيّد في فرنسا، لا يمنع من أن تلاحظ أنّ ذلك التّيّار قد دُفع به دومًا إلى هامش المجال الأكاديميّ[35].
إنّ الأسباب التي دفعت الباحثين الفرنسيّين إلى تهميش النّظريّات ما بعد الاستعماريّة وعدم الثقة بها، يجب على الأرجح البحث عنها «في المشكلة السياسيّة التي تطرحها دومًا الإحالة إلى النّزعة الاستعماريّة  في فرنسا»[36].
لقد أعادت الدّراسات ما بعد الاستعماريّة فتح ورشة التّفاعلات بين المركز والمستعمرات. وقد أعادت بذلك إدراج الحالة الاستعماريّة باعتبارها ظاهرةً مهمّةً، إن لم تكن هيكليّةً (structurante)، في تاريخ مجتمعات المراكز الاستعماريّة (المستعمِرة) والمجتمعات المستعمَرة.
لقد تمّ إهمال هذا البعد تمامًا في حالة فرنسا، لقد كان يُنظر للتاريخ الاستعماريّ كـ«خارجٍ» (ailleurs)، «كمُلحَقٍ» (appendice)، ذي مغزًى بالتأكيد في ما يتعلّق بعلاقات القوّة بين الإمبراطوريّات، وبالأرباح والتكاليف المنتظَر جَنْيها من المِلكيّات في ما وراء البحار، لكن ببساطةٍ من دون التفكير في تداعياته على الحياة الاجتماعية، وفي أنظمة التمثيلات (les systèmes de représentations)، وفي الخطابات أو حتى في الممارسة السياسيّة[37].
إنّ هذا يشير إلى «الصّدْع الاستعماريّ» (fracture coloniale) الذي تحدث عنه ن. بانسال و ب. بلانشار و س. لومار، ما يعني استمرار الامتناع، في فرنسا، عن التفكير بوضوحٍ وبلا انفعالٍ في الميراث الاستعماريّ.
إنّ وضعية فرنسا إزاء ماضيها الاستعماريّ فريدةٌ، في الواقع، لقد تأمّلت كل المراكز (الدول) الاستعماريّة الأخرى ووضعت، قيد التنفيذ، برامج (بحوث، وتعليم، وأماكن لجمع الوثائق...) تتعلّق بتاريخ تلك الإمبراطوريّات، في وجهة نظرٍ تهدف إلى تخطّي التبسيطيّة المزدوجة لـ«مقاومة الاستعمار» (anticolonialisme) وللسيرة المعظِّمة (hagiographie). قرّر آخرون تعليم تلك المسائل، أو أنهم، بكل بساطةٍ، قد «ابتذلوا» (ont banalise) المسألة الاستعماريّة عبر إدماجها -بل عبر إغراقها، كما في إيطاليا- في سجلّات التاريخ الاستعماريّ. فرنسا، على العكس من ذلك، هي عمليًّا البلد الأوروبيّ الوحيد، الذي يُصنَّف بقصدٍ، في خانة «الحنين الاستعماريّ» والإهمال المُمأسَس، الساعي للفصل بين التاريخ الاستعماريّ والتاريخ القومي. الحالة الوحيدة التي تشبهها يمكن أن نجدها في اليابان، وكذلك بمستوًى أدنى، في «مملكة بلجيكا» التي قامت، من خلال مبادرتها بإقامة معرض حول «ذاكرة الكونغو» (La mémoire du Congo) في المتحف الملكيّ لوسط إفريقيا في مدينة تارفيران أوائل سنة 2005، فقامت بإثارة تفكيرٍ، ظلّ طويلًا محظورًا حول تاريخها الاستعماريّ[38].
في حين أنّ «الأدبيّات الحديثة قد بيّنت أنّ الاستعمار قد تغلغل بعمقٍ في مجتمعات المراكز الاستعماريّة، في الثقافة الشعبيّة والعلميّة] ...[ وفي الخطابات والثقافة السياسيّة، وفي القانون وفي أشكال الحكم ]...[، نشهد ]في فرنسا[ بروز «سياسة ذاكرة»[39] حقيقيّة. هذه السياسة، التي تقودها الدولة، قد وصلت إلى حدّ:
تقنين حكم تقويميّ» (jugement de valeur) حول العمليّة الاستعماريّة من خلال إصدار قانون 23 شباط / فيفريه2005 ، الذي لا يوجد له نظيرٌ في أوروبا منذ الاستقلالات. يعبّر هذا القانون عن الموقف الرسميّ لفرنسا حول تاريخها الاستعماريّ، حيث ينصّ في مادته الأولى على أنّ: «الأمّة ]الفرنسيّة[ تعبّر عن عرفانها للجميل للنساء والرجال الذين شاركوا في المهمة المنجَزة من قبل فرنسا في المقاطعات [المستعمَرات] الفرنسيّة القديمة في الجزائر والمغرب وتونس والهند الصينيّة، كما في الأقاليم التي كانت سابقًا تحت السيادة الفرنسيّة». هذه المادّة تكشف بوضوح الرضوخ أمام مجموعات الضغط التي وضعت ثقلها لإصدار هذا القانون، لأنّ هذا القانون يمجّد «عملهم»، و«عمل» فرنسا من خلالهم. باختزال التعقيد الاستعماريّ (complexité coloniale) في «زمنٍ جميلٍ» (bon temps)، وبإنكاره، بل أيضًا بإنكار جوانب لامساواته البِنيويّة (inégalités structurelles)، وعنفه وجرائمه، بكلّ ذلك لا يتمّ ببساطةٍ القيام بعرفان الجميل لعمل المستعمِرين (colons)، بل يتمّ، تقديم رؤيةٍ خاطئةٍ للتاريخ لا أكثر ولا أقلّ، بل نجرؤ على القول بأنّه مراجعةٌ (تعديليّةٌ) استعماريّةٌ (révisionnisme colonial)[40].
إنّ هذا «الصدع الاستعماريّ»، هذا الرفض للتاريخ ليس بالضرورة بلا تداعيات، لأنّه يُحدث في مِخيال الرأي العام الفرنسيّ، الشعبيّ والعلميّ، نوعًا من الاستمراريّة بين الحقبة الاستعماريّة والحاضر. ربّما ليس الأمر اعتباطيًّا أنّ السكان في الأحياء الحسّاسة، يعيشون «كمستعمَرين» بالمعنى الذي قدّمه لهذه الكلمة كلٌّ من فرانز فانون وألبار مِمِّي أو فيديادهار سوراجبرازاد نايبول (Vidiadhar Surajprasad Naipaul): إنّهم [المستعمَرون] يُعرَّفون بالنظرة [نظرة الغير لهم] وبالأصناف الخارجيّة المسيطرة، وينتهي بهم المطاف إلى استبطان تلك النظرة وتلك الأصناف، وإلى أن يجدوا أنفسهم «غرباء عن الواقع» (déréalisés) بسبب الطريقة التي يُعامَلون بها. وهكذا فإنّ الصدع الاجتماعيّ يتغذّى من «الصدع الاستعماريّ» الذي يمنحه المعنى ويُؤسّسه كنظام معياريّ، كما لو أنّ الهجرة تندرج في سياق استمراريّة العلاقة الاستعماريّة لما بعد الاستقلالات[41].
وسائل الإعلام هي الموجِّهات (vecteurs) الأساسيّة المسؤولة عن نقل الصّور النمطيّة (stéréotypes) والصور المتراكمة خلال الحقبة الاستعماريّة إلى الرأي العام المعاصر.
إنّ فحص التمثيلات الإعلاميّة لـ«العربيّ» في فرنسا منذ الثمانينيّات [من القرن العشرين] تبيّن، إذًا، وجود قوّتين عاملتين مؤثّرتين في الخطابات المهيمنة:
 الأولى، وهي المرتبطة مباشرةً بالظرف العالميّ الجديد، تتمثّل بإعادة التركيب لصور العدو في إطار مرجعيّةٍ دوليّةٍ، حيث يُنظر للإسلام الأصوليّ باعتباره التهديد الأعظم.
 والثانية، والتي تُحيل بوضوح إلى المِخيال الاستعماريّ، تختزل مسألة العلاقة بـ«الآخر» في «فرنسا المركز الاستعماريّ»، تختزلها في إدارة ذلك «التهديد» باستعمال الأدوات والتمثيلات الموروثة من الإمبراطوريّة السالفة (ex-empire).
هاتان القوّتان الإعلاميّتان توظّفان العديد من التقنيّات الإقناعيّة (discursives) -خليط [من الأفكار] (amalgames)، والإنكار، والمجانسة، واستعمالٌ لصورٍ «إيجابيّة» ونقدٌ ذاتيٌّ للخطاب في مزاوجة، وذلك في الربط بين الخطاب الأمنيّ والخطاب الهويّتي. إنّ هذا الأسلوب، الراسخ اليوم بإحكام، تساهم آثاره التمييزيّة في تعميق الصّدع المادّيّ والرّمزي الذي يشبه كثيرًا «الصّدع الاستعماريّ»[42].
ويمكننا أن نضيف أيضاً إلى أمثلة التقنيّات المستعملة بكثرة، خليط [الأفكار]، والإنكار، والمجانسة إلخ. تقنيّات الرقابة، مع أنّه قد يكون من المفاجئ أن نجدها في دول يدّعى أنّها الحاملة الكونيّة لمشعل الحرّيّة والديمقراطيّة. كما قالت فرانسيسكا ماريا كارّاوْ:
في الغرب، في سنوات السبعينيات [من القرن العشرين] كانت أسطورة إمكانيّة نشر معلومة «صحيحة» و«حرّة» لا تزال بعدُ شائعةً. في زمن التحقيقات الصحفيّة (الريبورتاجات) المتعلّقة بحرب فيتنام، كانت الصحافة والصحفيّون يمثّلون الفاعلين من المستوى الأول في التوثيق التاريخيّ للنزاع. لقد ساهم فيلم [المخرج الإيطاليّ] جيلّو بُونيكورفو، «معركة الجزائر العاصمة» (la bataille d`alger) في ذلك أيضًا: لقد عرّف للإيطاليّين التاريخ المأساويّ للاحتلال الفرنسي للجزائر، جالبًا لصناعتنا السينمائيّة (cinématographie) تقدير العديد من المثقّفين العرب واحترامهم. على الرغم من ذلك، لم يُعرض الفيلم أبدًا في فرنسا، وبالطريقة نفسها فإنّ الفيلم الأميركيّ حول البطل الليبيّ عمر المختار، والذي يروي جرائم المستعمر الإيطاليّ، لم يُعرض في إيطاليا. لقد تبدّدت أوهام مساهمة الصحافة الحرّة مع حرب الخليج [الأولى] سنة 1991، لمّا حصلت قناة (CNN) من القيادة العسكريّة الأميركيّة امتياز احتكار الصور المبثوثة في الغرب وفي الدول العربيّة[43].
يوجد أيضًا، في الثقافة الإيطاليّة أمرٌ شبيهٌ بـ«الصّدع الاستعماريّ». بخلاف ما حصل مع فرنسا وانجلترا، البلدين الذين، في أغلب الحالات، قد منحا الاستقلال لمستعمراتهما، في أوقات وبأشكال مختلفةٍ، بخلاف ذلك فإنّ إيطاليا قد فقدت جميع مستعمراتها خلال الحرب العالميّة الثانية: أثيوبيا، والصومال، وإيريتريا سنة 1941، وليبيا سنة 1943، بعد انهزامها [في معركة] العَلَمَيْن. جنّب ذلك إيطاليا المآسي والتمزّقات اللاحقة من جهة، ومن جهةٍ أخرى منع من أن تُجرى بعد الحرب، في إيطاليا، مراجعةٌ نقديّةٌ جادّةٌ لظاهرة الاستعمار ومحاكمة صريحة لجوانبها الأشدّ انحرافًا. يُفسّر لنا دَلْ بوكا (Del Boca) ذلك بشكلٍ شديد الوضوح:
في إيطاليا، لم يحدث أبدًا أيّ جدلٍ حادٍّ ومتناغم ونهائيّ حول ظاهرة الاستعمار، وذلك على العكس مما حصل في بلدان أخرى ذات ماضٍ استعماريّ (انظر مثلًا فرنسا بعد «حرب الجزائر» القذرة). بل لقد حصل أنّ بعض المؤسّسات الحكومية قد عكّرت المياه بهدفٍ جليٍّ يتمثّل في منع ظهور الحقيقة. إنّ الجهد المخادع، الأضخم والأعلى كلفةً يتمثّل في الواقع في الموسوعة التي أصدرتها وزارة الشؤون الخارجيّة في 50 مجلّدًا، حول ملحمة إيطاليا في إفريقيا، التي ينبغي لها، في نيّة الذين يقفون وراء المبادرة، أن تؤرّخ حصادًا شاملًا للحضور الإيطاليّ في المستعمرات في إفريقيا الغربيّة والشماليّة. إنّ الأمر على العكس من ذلك، يتعلّق بحصادٍ مزيّفٍ، بشكلٍ فاقدٍ جدًا للإتقان، وبوقاحةٍ، لأجل هدفٍ وحيدٍ هو إبراز فضائل الاستعمار الإيطاليّ ومزاياه، وأيضًا طابعه «المختلف» و«الفريد» إذا ما قارنّاه ببقيّة الاستعمارات في الحقبة نفسها[44].
يجب أن نضيف أيضًا أنّ المسؤولين الإيطاليّين الأساسيّين عن جرائم الحرب، مثل المارشال بادوغليو (Badoglio) والجنرال غرازياني (Graziani)، لم ينالوا أيّ عقاب، بفضل الحماية التي نجحوا في نيلها من الحلفاء بعد نهاية الحرب [العالمية الثانية]، وبالتالي فإنّ [ما نلحظه] في ثقافة بلدنا، من تعتيمٍ على ظاهرة الاستعمار، وما حدث من مظالم وتجاوزات، ومن جرائم وعمليّات إبادة، هو، بالفعل، شاملٌ [...] وإيطاليا الجمهوريّة والديموقراطيّة لم تتوصّل بعد إلى التحرّر من الأساطير والخرافات التي اُختُلقت في القرن الأخير[45].
إحدى تلك الأساطير، الأشدّ رسوخًا في مخيال الإيطاليّين، هي في الواقع الأسطورة المعزِّية للذات (mythe auto-consolateur) التي تُصوّر «الإيطاليّين الناس الطيّبين» (Italiens braves gens):
إنّها صورةٌ عن أنفسهم، تلك التي أحبّ إيطاليو ما بعد الحرب [العالمية الثانية]، كديموقراطيّين، ملقّحين ضدّ داء القوميّة التي عمل النظام البائد [الفاشي موسليني] على نشرها بقوّةٍ على أوسع نطاقٍ، صورةٌ أحبّ الإيطاليّون نشرها في السياسة، وفي السينما، وفي الموضة، وفي المطبخ، وفي أنماط السلوك. الإيطاليّون... الناس الطيّبون، كما يُقال. إنّها درعٌ من ... طيبة القلب، ومن روح المرح، ومن الخضوع الفطريّ لحسن الأدب ومن الروح الاجتماعيّة الودّيّة غير المتكلّفة... إنّها درعٌ كفيلةٌ بحمايتنا من العداوة الشرسة... إنّه مصدٌّ قادرٌ على تخفيف الصدمة المأساويّة التي أورثنا إيّاها التاريخ... والوحشيّة[46].
بالمقابل، أكّد دلْبوكا أنّ هذه الأسطورة قد وُلدت في القرن التاسع عشر، لا بعد الحرب العالميّة الثانية: لكي أكون دقيقًا في كلامي، إن [هذه] الأسطورة بدأ [الإيطاليّون] في فرضها مع السياسة الاستعماريّة التي دشّنها باسكوال ستانسلاو منشيني. لقد وصلت إيطاليا متأخرةً إلى أفريقيا، بعد أن تمّ تقاسم الكعكة. لكنّها، كما وضّح منشيني يوم حزيران/جوان 1885، «ما كان بإمكانها أن تستمرّ في البقاء متفرّجةً بلا حراك إزاء المعركة الدائرة بين الحضارة والبربريّة». منذ البداية، حاولت إيطاليا فرض وجودها، مع قلّة إمكانيّاتها وفقرها على مستوى الأفكار، وذلك من خلال التفاخر بإشراقها الماضي كأمّةٍ ذات حضارةٍ عريقةٍ، وعبر إبراز تنوّعها، في جميع المناسبات. بعبارةٍ أخرى، لقد عُمل على التأسيس، فورًا، لفكرة أنّ الإيطاليّين مختلفون، لكونهم شعبًا أكثر إنسانيّةً، وأشدّ تسامحًا، وأكرم من بقية الشعوب المستعمِرة[47].
هذه الأسطورة خاطئةٌ كما يُثبت دلْبوكا نفسه: لقد عامل الإيطاليّون الشعوب المستعمَرة، تمامًا، كما عاملهم المستعمرون الآخرون، لا أكثر ولا أقل، بالقدر نفسه من العنف ومن الجرائم ومن الفظاعات، بل إنّ إيطاليا هي القوّة الأوروبيّة الوحيدة التي استخدمت في افريقيا الإبيريت (l`yperite)، الغاز السام القاتل الذي منعت استخدامه اتفاقيّة جينيف منذ سنة 1925. إنّ التعتيم على الاستعمار، وإخفاء الحقيقة التاريخيّة، والتلاعب بالحقائق حول الأخطاء والتجاوزات التي طالت الشعوب الأصليّة في المستعمرات، قد أرخت بثقلها، حتى لاحقًا، على السياسة الإيطاليّة إزاء ليبيا وأثيوبيا والصومال... «إنّها سياسةٌ غير عادلة، ولا مصلحيّة، ولا بعيدة النظر»[48].
إنّ غياب «الحقيقة» والوعي التاريخيّ لا يزال ربّما يُؤثّر اليوم على الصورة، المشوّهة غالبًا، التي يملكها الرأي العام حول العالم غير الأوروبيّ عمومًا، وحول العالم العربيّ خصوصًا. لأجل ذلك اختصرت الدراسات ما بعد الاستعماريّة في إيطاليا على مجالات متخصّصة مثل المجالين التاريخيّ والفلسفيّ[49] ومجال الآداب وثقافات اللّغة الإنكليزيّة. وذلك على الرغم من أنّ أحد روّاد الدراسات ما بعد الاستعماريّة هو الإيطاليّ أنطونيو غرامشي الذي رجع إليه [إدوارد] سعيد بشكلٍ صريحٍ عند صياغة نقده للاستشراق. لا زال المؤلّف الأساسيّ لأنطونيو غرامشي «دفاتر السجن»[50] ونظريّته حول «الهيمنة»، لا زالتا تمثّلان القاعدة لتفكير العديد من المؤرّخين المتخصّصين في المسائل ما بعد الاستعماريّة.
إنّ هذا الأثر العظيم لغرامشي في القرن العشرين منحنا مادّة للتأمّل العميق حول إخفاق الثورات في أوروبا، وحول طريقة تجاوز النكسة التي منيت بها الحركة العمّاليّة في سنوات العشرينيّات والثلاثنيّات من القرن العشرين. بعد ثلاثة أرباع القرن من موت غرامشي يستمرّ أثره في مخاطبة كلّ أولئك الذين لم يتنازلوا في مسيرة البحث عن سُبلٍ لعالم مختلف ممكن التحقّق[51].

أصل إنشاء صورة العالم العربيّ:
على الرغم من التطوّر الهائل لوسائل الإعلام، ومن الانتشار الخارق للعادة للأسفار والرحلات في دول العالم وقارّاته، ظلّت معرفة أغلب المواطنين الأوروبيّين بالعالم العربيّ مرتكزةً ربّما على صورٍ قد ثُبّتت في مِخيالنا في القرن الثامن عشر، لمّا كان أدب الرحلات الأوروبيّ الكبير، المدوّنة الموسوعيّة لـ«رحلات في الشرق» وللدراسات «الشرقيّة»، خاصّة باللّغتين الفرنسيّة والإنكليزيّة، لمّا كان كلّ هذا قد سبق وصاحب وشجّع التوسّع الاستعماريّ الفرنسيّ والإنكليزيّ، وبعد ذلك الإيطاليّ، في شمال إفريقيا وفي الشرق الأوسط. كما سجّل إدوارد سعيد، خلال تلك الفترة التاريخيّة، حيث تمّ تثبيت فكرة معيّنةٍ في المِخيال الأوروبيّ، وهو مفهومٌ جمعيٌّ يُحدّد هويّتنا «نحن» الأوروبيّين كنقيضٍ «لأولئك» الذين ليسوا أوروبيّين، بل إنّه لمن الممكن أن يطرح المرء منظومة تقول: إنّ المكوّن الرئيسيّ للثقافة الأوروبيّة هو بالضبط ما جعل تلك الثقافة متسلّطة داخل أوروبا وخارجها على حدٍّ سواء: فكرة كون الهويّة الأوروبيّة متفوّقةً بالمقارنة مع جميع الشعوب والثقافات غير الأوروبيّة[52].
في الوقت فسه، وبسبب هذه الوضعيّة المسلّم بها من التفوّق الأوروبيّ، يجري التأكيد أيضًا على الهيمنة الدائمة للأفكار الأوروبيّة حول الشرق.
وتحت العنوان العام للمعرفة بالشرق وتحت مظلّة التسلّط الغربيّ على الشرق منذ نهاية القرن الثامن عشر، برز شرقٌ معقّدٌ ملائمٌ للدراسات الأكاديميّة، وللعرض في المتاحف، وللاستبناء في المكاتب الاستعماريّة، وللإيضاح النظريّ في أطروحات علم الإنسان الإنثربولوجيا، وعلوم الحياة، والألسنيّة، والأعراق، والتاريخ حول الإنسان والكون، ولتقديم أمثلة على النظريّات الاقتصاديّة والاجتماعيّة في التطوّر، والثورة، والشخصيّات الثقافيّة، والخصائص القوميّة أو الدينيّة. وإضافةً إلى ذلك، فإنّ الاكتناه التخيّليّ للأشياء الشرقيّة كان يقوم، بصورةٍ حصريّة نوعًا ما، على وعيٍ غربيٍّ ذي سيادةٍ، برز من مركزيّته التي لم يكن ثمّة ما يتحدّاها، عالمٌ شرقيٌّ، أوّلًا تبعًا لأفكارٍ عاميّةٍ حول من وما كان شرقيًّا، ثمّ تبعًا لمنطقٍ مفصّلٍ ليس محكومًا ببساطةٍ بالواقع التجريبيّ؛ بل بمجموعة من الرغبات، والمقموعات، والاستثمارات، والإسقاطات[53].
تشكّلت ما بين القرن الثامن عشر والنصف الأوّل من القرن العشرين صورة الشرق التي تظهر اليوم محفورة بعمق «في ثقافة الجماهير عالميًّا». إنّ حيويّتها المستمرّة طويلًا ليست راجعةً إلى التخلّف الثقافيّ «للجماهير» بقدر ما هي راجعةٌ إلى قوّتها التي لا جدال فيها، وإلى تماسكها الذاتيّ، إنّها صورةٌ ما أمكن ولن يمكن إبدالها بصورةٍ أخرى تماثلها في الحيويّة حتى وإن كانت أصحّ. وكما يؤكّد [إدوارد] سعيد، بالفعل:
ولذلك، فإنّ الاستشراق ليس مجرّد موضوع أو ميدان سياسيّ ينعكس بصورةٍ سلبيّة في الثقافة، والبحث، والمؤسّسات؛ كما أنّه ليس مجموعة كبيرة ومنتشرة من النصوص حول الشرق؛ كما أنّه ليس معبِّرًا عن، وممثّلًا لمؤامرة امبرياليّة «غربيّة» شنيعة لإبقاء العالم «الشرقيّ» حيث هو. بل إنّه، بالحريّ، توزيع للوعيّ الجغراسيّ إلى نصوص جماليّة، وبحثيّة واقتصاديّة، واجتماعيّة، وتاريخيّة، وفقه لغويّة؛ وهو إحكام لا لتمييز جغرافيّ أساسيّ وحسب (العالم يتألف من نصفين غير متساويين، الشرق والغرب)؛ بل كذلك لسلسلة كاملة من «المصالح» التي لا يقوم «الاستشراق» بخلقها فقط، بل بالمحافظة عليها أيضًا بوسائل كالاكتشاف البحثيّ، والاستبناء فقه اللغويّ، والتحليل النفسيّ، والوصف الطبيعيّ والاجتماعيّ؛ وهو إرادة، بدلًا من كونه تعبيرًا عن إرادة، معيّنة أو نيّة معيّنة لفهم ما هو، بوضوح، عالم مختلف (أو بديل طارئ) والسيطرة عليه أحيانًا والتلاعب به، بل حتى ضمِّه؛ وهو قبل كلّ شيء، إنشاء ليس على الإطلاق على علاقة تطابقيّة مباشرة مع القوّة السياسيّة في شكلها الخام، بل إنّه لينتج ويوجد في وضع تفاعل غير متكافئ مع مختلف أنماط القوّة، مكتسبًا شكله إلى حدّ ما من تفاعله مع القوّة السياسيّة (كما هي الحال «في تفاعله» مع مؤسّسة استعماريّة أو امبرياليّة)، والقوّة الفكريّة (كما هي الحال مع علوم تحتلّ مركز الصدارة مثل الألسنيّة المقارنة، وعلم التشريح المقارن، أو أيٍّ من علوم السيّاسة الحديثة)، والقوّة الثقافيّة (كما هي الحال مع المذاهب «الأرثوذكسيّة»، وشرائع الذوق، والنصوص، والقيم)، والقوّة الأخلاقيّة (كما هي الحال مع أفكار تدور حول ما نفعله «نحن» وما يعجزون «هم» عن فعله أو فهمه كما نفعله “نحن”)[54].
من البديهيّ أنّ صورةً منشأةً خلال ما ينوف عن قرنٍ من الزمن من النّموّ الاقتصاديّ، والتطوّر الثقافيّ والمدنيّ الخارق للعادة بجهود عددٍ ضخمٍ من الفنّانين، والأدباء، والمثقّفين، والكتّاب، والعلماء، والفلاسفة، ورجال السياسة، من البديهيّ أنّ هذه الصورة تملك رسوخاً وتماسكاً ذاتيّاً، من الصعب المساس به.
إنّ دراسة صورة العالم العربيّ التي يعرضها الأدبان الفرنسيّ والإيطاليّ المكتوبان في القرن التاسع عشر، يمكنها المساهمة في الإضاءة على الآليّات (mécanismes) التي تمرّ عبر البناء والتركيب لعمليّة «إدراك الآخر»، والتي لا تزال اليوم، الأكثر انتشاراً في أوساط الرأي العام في إيطاليا وفي فرنسا، والتي لا تزال ترخي بثقلها في أزمة الهويّة التي يشهدها البَلَدان، ليس كثيراً لأنّ العربيّ يمثّل، بالنسبة للثقافتين الإيطاليّة والفرنسيّة، الآخر بامتياز، لكن بالذات، كما سنلحظه كثيراً في الأدب الإيطاليّ؛ لأنّه لم يحصل سوى مع بداية القرن التاسع عشر أن أُنشِأت شرقنة (orientalisation) عالَم، لم يعايش طيلة قرونٍ، بتطرّفٍ كآخر؛ بل كطرفٍ كانت العلاقات والتبادلات معه كبيرة وكثيرة.
إنّ دراسة نصوص أدب الرحلات الفرنسيّ والإيطاليّ، المكتوب في القرن التاسع عشر، وبشكلٍ عام دراسة تلك النصوص التي أُنشأت فيها تلك الصورة، ورُسّخت ونُشرت في أوروبا وفي كلّ العالم الغربيّ، إنّها صورةٌ للعالم العربيّ بإمكاننا تعريفها بأنّها «نموذجيّةٌ» (إرشاديّة/ paradigmatique)، مع أنّها لا تكتسي أيّ قيمةٍ على المستوى الأدبيّ. إنّها نصوصٌ في أغلبها لا قيمة فنّيّةً كبيرةً لها واقعًا، ومجردةٌ من هالة السحر والجمال والغرابة، التي كان كلّ ما يرتبط بالشرق يُؤثّر من خلالها على خيال أوروبيّي القرن التاسع عشر، لقد فقدت قسطًا وافرًا من قيمتها، ودخلت تقريبًا في طيِّ النسيان. مع ذلك، فإنّ دراستها يمكن أن تكون نافعةً ومهمةً، لا كثيراً في جانبها اللّغوي أو الشكليّ، بل أكثر في جانبها الإناسيّ (anthropologique)[55].
الأدب، في الواقع، لا يكتسب قيمته من الجانب الفنّيّ فقط؛ مع أنّه لا يعطي أدلّة وحقائق ذات طابعٍ عامٍّ، إلّا أنّه يوفّر معرفةً خاصّةً، ويمارس بالتالي نوعًا من التأثير على العالم لا يتناقض مع الأدلّة ومع النظريّات، لكنّه يجعلها أكثر وضوحًا أشدّ بداهةً بفضل المساهمة العاطفيّة. إنّ المادّة التاريخيّة الملموسة التي وفّرها الأدب، وأدب الرحلات بالخصوص، لجمهورٍ أكبر بكثير من الجمهور الذي يقرأ النصوص النظريّة، هذه المادّة التاريخيّة تدين بما لها من قوّة تأثيرٍ ومن انتشارٍ أكبر إلى المساهمة العاطفيّة التي تمتلك في ذاتها قوّةً معرفيّةً متميّزةً ولا بديل لها[56]، كما يؤيّد سولانج شافيل:
العواطف تحكي لنا شيئاً ما عن العالم: إنّها وسائل معرفةٍ لكائنٍ بشريٍّ متوقّفٍ على العالم. قراءة روايةٍ هي إذًا، تكوين معرفةٍ عن الخاص عبر العواطف التي يقترح علينا الكاتب الإحساس بها. إن المعرفة المكتسبة هي بالتالي ليست معرفةً موضوعيّةً، بقدر ما هي معرفة «الأثر الحاصل» من الكون في هذه الحالة أو تلك. لكن، حول هذه النقطة بالخصوص، فإنّ العمل [الروائيّ] ليس مهمًّا بالنسبة لعلم الأخلاق فقط؛ فهو ضروريّ بالنسبة للفلسفة السياسيّة أيضًا. يؤكّد نوسباوم (Nussbaum) بالتالي على أنّ الأدب هو أداة مفضّلة لصناعة مجتمع سياسيّ. لا تقتصر وظيفة الرواية على منحنا رؤية أدقّ عن وضعيّتنا الأخلاقيّة، إنّها أيضاً وسيط مهمّ في القضايا السياسيّة؛ لأنّها تجعلنا حسّاسين تجاه التنوع في وضعيّات حياتنا[57].
لقد لعب أدب القرن التاسع عشر بالتأكيد، دوراً جوهريّاً في إنشاء هذا «المجتمع السياسيّ» الأوروبيّ. الذي لكونه قد أُشرِبَ اليقين بتفوّقه الموضوعيّ الخاصّ به، قد ساند وعبر اليقين نفسه الإمبرياليّة والاستعمار على حدٍّ سواء. دراسة تلك النصوص كفيلةٌ بتمكيننا اليوم، من أن نكون أكثر وعيًا بالكيفيّة التي انصبّ بها النظر «الأوروبيّ» والغربي على العالم العربيّ، وبشكلٍ أعم على العالم غير الأوروبيّ خلال تلك الفترة الحسّاسة. ويمكن لهذه الدراسة بالتالي أن تقودنا لأن نعيَ أكثر الأخطاء التي ارتكبها الغرب، في الزمن الذي دخل فيه في علاقة مع الآخر وسعى إلى تمثيله. بإمكاننا أن نلمس الخيال «الأوروبيّ»، اليوم أيضاً بشكلٍ حاسمٍ من خلال هذه الصورة التي تستمدّ قوّتها أكثر من كونها قد أُنشأت في زمنٍ لم يكن لأدب الرحلات الأوروبيّ منافسون جدّيون في عمليّة تمثيل العالم ونشر ذلك التمثيل. إنّ وعينا بتلك الأخطاء يمكنه أن يُساعدنا على تعديل هذه الصورة المحرّفة عن العالم العربيّ، وأعمّ من ذلك عن «الآخر» غير الأوروبيّ، والتي لا تزال اليوم تُلوّث تمثيلنا للعالم لتنفذ إلى ساحة تعايشنا المدنيّ في مجتمعاتنا التي تزداد يومًا فيومًا تعدّدًا عِرقيًّا. وفي الوقت نفسه، وسط هذا الكمّ من الآراء المسبقة، والصور النمطيّة والأفكار العامّة (المبتذلة)، لا زال من الممكن العثور، في هذا الركام الأدبيّ على بصمات لانشغال صادقٍ، لبحثٍ يضمّ معرفةً موثوقةً وغير نفعيّةٍ، لمحاولة إحراز فهمٍ غير مُحرّفٍ. وعلى الرغم من كون لمعات الحقيقة هذه، التي يُمكننا بفضلها سماع صوت «الآخر» المجهول والبعيد، على الرغم من كونها نادرةً، فإنّ بمقدورها أن تُوفّر لنا اليوم، الإرشادات النافعة حول كيفيّة مقابلة «الآخر»، الذي يعيش «بيننا» و«فينا»[58]. وكما يُؤكد سولانج شافيل: «الأدب [...] هو مغامرةٌ للإدراك وللتخيّل: وفي هذا، إنّه فوق ذلك، مسعًى أخلاقيّ»[59].
إنّ التعريف الدقيق لما يُسمّى بـ«العالم العربيّ» يطرح إشكالات عديدةً يصعب حلّها. يجدر التذكير بأنّ العالم العربيّ لم يكن، في القرن التاسع عشر، يمثل كيانًا سياسيّا موحّدًا؛ حتى إنّ سلطة الخلافة، السلطة العليا، السياسيّة والدينيّة للعالم الإسلاميّ، التي كانت منذ قرونٍ بيد العائلة التركيّة العثمانيّة في اسطنبول (لا بيد عائلة عربيّة). تلك السّلطة كانت سلطة نظريّةً: كانت هناك كيانات تؤكّد استقلاليّتها مع مرور السنوات في كلّ من مصر، وتونس، والجزائر، بينما لم يخضع المغرب [الأقصى] أبدًا، ولو شكليًّا، لسلطة الخليفة في اسطنبول. لكن، إن كان المعيار السياسيّ والمؤسّسيّ غير كافٍ لتعريف العالم العربيّ، فإنّ المعيار الدينيّ غير كافٍ بالمقدار نفسه. إنّ الدين الإسلاميّ الذي ظهر في القرن السابع الميلاديّ، والذي انتشر منذ قرونٍ على مساحةٍ واسعةٍ من هذا العالم تمتدّ من المغرب إلى أندونيسيا، ومن البلقان إلى القرن الإفريقيّ، إنّ هذا الدين هو بالتأكيد عاملٌ أساسيٌّ في تكوين الهويّة. لكن مع ذلك يجب التذكير أنّه دينٌ منقسمٌ إلى مذهبين كبيرين متمايزين، وغالبًا في صراع في ما بينهما (الشيعة والسنّة)، وأنّه ليس دينًا أغلبيًّا في منطقة واسعة من المناطق التي كان قد انتشر فيها (مثلًا: في شبه جزيرة البلقان، وفي إفريقيا السوداء... ما تحت الصحراء الكبرى إلخ.)، وحتى في المناطق التي هو أغلبيّ فيها، توجد أقلّيات مسيحيّة ويهوديّة متجذّرة منذ زمن بعيد. إنّ المعيار العرقيّ غير كافٍ أيضًا: العِرق العربيّ، أصيل شبه الجزيرة العربيّة كان منذ القرن السابع، على رأس عمليّة توسّع خارقة للعادة، وكوّن طيلة قرون عديدة طبقة حاكمة للبلدان المغزوّة [المفتوحة]. لكن في القرن التاسع عشر، اختلط العرق العربيّ، بالسكّان الأصليّين وذاب فيهم، وكطبقةٍ حاكمةٍ، أبدل في كلّ مكان بالأتراك. العامل الوحيد، القويّ والموحّد، الذي صمد بالنسبة للهويّة، هو اللّغة العربيّة، التي انتشرت كلغةٍ مقدّسةٍ للقرآن في كلّ أرجاء الوطن العربيّ. لكن اللّغتين الفارسيّة والتركيّة، على الرغم من كتابتهما بالحرف العربيّ، إلا أنّهما مختلفتان جدًّا عنها (اللّغة الفارسيّة ذات أصول هنديّة-أوروبيّة، والتركيّة ذات أصول ألطيّة altaique)، كما أنّ اللّهجات المحليّة، التي يستعملها أغلب السكان غير المتعلّمين بسهولةٍ، هي أيضًا بعيدة جدًّا عن اللّغة العربيّة الفُصحى.
إنّ صعوبة تعريف العالم العربيّ بدقّة، وهو بذلك الاتساع والتعقيد، أو على الأقل صعوبة تشخيص مختلف العوامل المكوّنة لنسيجه (لغات وأعراق، وأديان، وثقافة، إلخ)، تلك الصعوبة التي هي اليوم بعدُ كبيرة، كانت لاعتبارات عديدة، غير قابلة للتدليل بالنسبة لأوروبيّي القرن التاسع، حتى المثقّفين منهم. لأجل ذلك نلاحظ أنّ كلمات مثل «عرب» و«أتراك» و«مسلمون» كان لها، في أدب الرحلات للقرن التاسع عشر، معانٍ متغيّرة أو كانت تُستعمل كمترادفات. كمثال: يستعمل فيليس كارونّى كلمات «عرب» و«أتراك» و«مسلمون» كمترادفات تامّة؛ وكما سنرى، فإنّ شاتوبرييَان (Chateaubriand) يُميّز بوضوح بين «أتراك» و«عرب»، بينما على العكس منه، يُشير لامارتين، بكلمة «أتراك» لا إلى الذين ينتمون إلى عرقٍ محدّد، بل إلى جميع المسلمين من الطبقة العليا والذين لهم صفات ثقافيّة وأخلاقيّة خاصّة. بينما كلمة «عرب» في نصّ لامارتين، كما في نصوص العديد من الكتّاب الآخرين، تُشير بشكلٍ أدقّ، في تفريق محقّرٍ، إلى الرّحّل. كلمة موري (Maure- من الكلمة اللاتينية «Maurus»، أي الإفريقيّ)، والتي كانت تشير في العصر الرومانيّ إلى بربر شمال غرب إفريقيا، غالباً ما أبدل معناها: في العصور الوسطى، أصبحت الكلمة مرادفة «للمسلم الذي يعيش في الأندلس»، سواء أكان بربريًّا، أم عربيًّا أم إيبيريًّا؛ بعد ذلك استعملها بعض الكتّاب للإشارة إلى مسلمي الصحراء السّود. كما سنرى، يستعمل فيلبيو بانانتي، هذه الكلمة «موري» ليشير إلى ذلك القسم من سكّان تونس التي لا تندرج تحت أيّ صنف مثل «السود» أو «العرب» إلخ... لأنّها ناتجة عن خليط من أعراقٍ شتّى.
إنّ عبارة «العالم العربيّ» لا تشير إذًا إلى كيانٍ حقيقيّ يمكننا تعريفه ووصفه في خصائصه وحدوده بسهولة. إنّنا نستعمل هذه العبارة للإشارة إلى المنطقة، التي كانت وقتها معروفةً بشكلٍ محدودٍ، والمحاطة بالغرابة، والمدرَكة كثيرًا عبر الخيال، والتي كان أوروبيّو القرن التاسع عشر يُشيرون إليها كما هي.
في الصفحات التالية، سوف أسعى لبيان كيفيّة تطوّر صورة العالم العربيّ خلال التاريخ الألفيّ. في الواقع إنّ صورة العالم العربيّ في القرن التاسع عشر لا تبرز من فراغ (ex nihilo). في القسم الأوّل سوف أحاول بشكلٍ تحليليٍّ جدًّا بيان، إنّ الأدبين الفرنسيّ والإيطاليّ المكتوبان من القرون الوسطى إلى القرن التاسع عشر، لم يكن العالم العربيّ يظهر فيهما البتة بشكل متطرّفٍ، «كآخر» بالنسبة للغرب. في القسم الثاني، سوف أحاول بيان أنّ فكرة «غيريّة متطرّفة» (attérite radicale) لم تظهر في الثقافة الأوروبيّة إلّا خلال القرن التاسع عشر، حيث أبدلت علاقةٌ تتسم بألفةٍ عريقةٍ مغذّاة بتبادلات، وبزيارات متبادلة لا تنقطع، وأيضًا بنزاعات، أبدلت بعلاقة معقّدة، ومنظّمة، ومتميّزة بالتقسيم إلى جبهتين كبيرتين متقابلتين (متناقضتين) ومتكاملتين (الغرب والشرق).

----------------------------------
[1] Hakim Ben Hammouda, « L’Orientalisme et les révolutions tunisienne et égyptienne: pourquoi ne l’ont-ils pas aimée la révolution?» Confluences Méditerranée, Paris, L’Harmattan, n° 77, 2/2011, pp. 63-74.
[2]     Ibid.
[3]  Carlo Jean, «Il secondo risveglio arabo e le lezioni della Libia», Limes, Rivista italiana di geopolitica, Gruppo editoriale L’Espresso, 04/2011, p. 57 (notre trad.).
[4] Carlo Jean, «Il secondo risveglio arabo e le lezioni della Libia», Limes, Rivista italiana di geopolitica, Gruppo editoriale L’Espresso, 04/2011, p. 57 (notre trad.).
[5] Hakim Ben Hammouda, «L’Orientalisme et les révolutions tunisienne et égyptienne: pourquoi ne l’ont-ils pas aimée la révolution?» Confluences Méditerranée, Paris, L’Harmattan, n° 77, 2/2011, pp. 63-74.Web 2.0
[6] Benjamin Stora, Les 89 arabes - Dialogue avec Edwy Plenel, Paris, Stock, 2011, p. 55.
[7] Niccolò Machiavelli, Il principe [1532], IV - 1, Milano, Rizzoli, 1980, p. 98-99.
[8]  Nicolas Machiavel, Le Prince, dans Œuvres complètes, par J. A. C. Buchon, Paris, Garnier, 1867, p. 609.
[9]  Voir: Francesca Maria Corrao, «Il mondo arabo. Due secoli di storia e cultura» in Le rivoluzioni arabe - La transizione mediterranea, par Francesca Maria Corrao, Milano, Mondadori, 2011.
[10] Voir par exemple: Khaled al-Khamissi, Taxi, trad. M. Fauchier Delavigne H. Emara, Arles, Leméac, 2011; Alaa el-Aswani, L’immeuble Yacoubian, trad. G. Gauthier, Arles, Actes Sud; Alaa el Aswany, Chicago, trad. G. Gauthier, Arles, Actes Sud, 2007; Alaa el-Aswany, Automobile Club d’Égypte, Arles, Actes Sud, 2014.
[11] «trasformato una audience passiva, destinataria di messaggi calati dall’alto, in un pubblico protagonista attivo sul piano della comunicazione e dell’informazione, ribaltando la concezione tradizionale della categoria audience/produttore» Simone Sibilio «La rivoluzione dei (nuovi) media arabi» dans Le rivoluzioni arabe - La transizione mediterranea, par Francesca Maria Corrao, Milano, Mondadori, 2011, p. 98 (notre trad.).
[12]  توجد، اليوم، دراسات «كثيرة» تبيّن الدور الذي تلعبه هذه الأنظمة في إعادة أسلمة مجتمعات جنوب البحر الأبيض المتوسط. بحجّة محاربة الحركات الإسلامية، التي تتهمها بأنّها قد همّشت الدين، تقف الأنظمة الاستبداديّة خلف نشر ثقافة محافظةٍ رسّخت بشكلٍ قوي الأسلمة الجارية في تلك المجتمعات. وهكذا شهدنا تقويةً لدور الدين في المجتمعات ومضاعفةً للرموز والمرجعيات الخاصّة بالإسلام. لقد تمّ الاكثار من البرامج الدينيّة على القنوات التلفزيزنية والإذاعات الرسمية، ونمت البنوك الإسلامية، وتضاعفت المساجد والمصلّيات، بل وصل الأمر إلى حدّ قطع البرامج التلفزيونية لبثّ الأذان. الأمر واضح، لم تساهم الأنظمة الاستبداديّة في علمنة المجتمعات العربيّة، بل إنّها على العكس لم تكتف بالرضى بتقوية دور الدين، بل لقد ساهمت بشكل كبير في حصول ذلك. 
Hakim Ben Hammouda, «L’Orientalisme et les révolutions tunisienne et égyptienne: pourquoi ne l’ont-ils pas aimée la révolution?» Confluences Méditerranée, Paris, L’Harmattan, n° 77, 2/2011, pp. 63-74.
[13]  يوم الثلاثاء 11 جانفي [2011]، بينما كانت الاحتجاجات تتوسع في تونس العاصمة، أثارت تصريحات وزيرة الخارجيّة الفرنسيّة ميشال آليوت-ماري، أمام الجمعيّة الوطنية [البرلمان الفرنسيّ]، أثارت ذهولًا، حتى داخل وزارتها نفسها. كانت الحكومة التونسيّة قد صرّحت أن 21 مدنيًّا قد قتلوا بالرصاص منذ بداية الاضطرابات والسيّدة آليوت-ماري تقترح... تعاونًا بوليسيًّا. فرنسا تريد أن «تساعد تونس بخبرة قوّتها الأمنيّة»، لأجل «معالجة الحالات الأمنيّة من هذا النوع»، وتوضح الوزيرة أنّ ذلك لأجل «ضمان الحقّ في التظاهر، وفي الوقت نفسه، ضمان تحقيق الأمن». «التهدئة يمكن أن تقوم على تقنيّات حفظ النظام»، كما تقدّر السيّدة آليوت-ماري.  
Natalie Nougayrède, «La diplomatie française a défendu jusqu’au bout le régime tunisien» Le Monde, 16/01/2011, p. 5.
[14] 4 Germano Dottori, «La drôle de guerre all’italiana», Limes, Rivista italiana di Geopolitica, Gruppo editoriale L’Espresso, 04/2011, p. 17 (notre trad.).
[15]   Ibid.
[16] Moncef Marzouki, «Regarder autrement les révolutions arabes», Le Monde, 20 04 2011.
[17]Frédéric Joignot, «Pourquoi la phobie de l’islam gagne du terrain», Le Monde, 26 mai 2012.
[18]  قدّر كريم أمغار، في كتابه «سلفيّة اليوم: الحركات المتعصّبة في الغرب» (نشر: باريس (2011) دار Michalon)، قدّر أنّه يوجد اليوم في فرنسا ما بين 12 إلى 15 ألف سلفيّ، 95% منهم غير مسيّسين ووجودهم شرعيّ، أتباع عقيدةٍ متشدّدةٍ، بخصوص الذبح الحلال والحجاب (الحجاب التّقليديّ، لا البرقع). السّلفيّون الثوريّون يمثّلون أقليّة مُراقَبةٌ من قِبل أجهزة الأمن.
[19]    Frédéric Joignot, «Pourquoi la phobie de l’islam gagne du terrain», Le Monde, 26 mai 2012.
[20]    Elise Vincent, «Les actes antimusulmans progressent pour la troisième année consecutive» Le Monde, 21 03 2013.
[21]  Ibid.
[22]   Ibid
[23] Raffaele Simone, Il mostro mite - Perché l’Occidente non va a sinistra, Milano, Garzanti, 2008, pp. 100-101.
[24] Raffaele Simone, Le monstre doux: l’Occident vire-t-il à droite?, trad. de l’italien par Katia Bienvenue et Gérard Larché, Paris, Gallimard, 2010, pp. 101-102.
[25]  Alexis de Tocqueville, Œuvres complètes. De la démocratie en Amérique, par H. Laski, Tome I, Paris, Gallimard, 1951.
[26] Raffaele Simone, Il mostro mite - Perché l’Occidente non va a sinistra, Milano, Garzanti, 2008, p. 103.
[27] Raffaele Simone, Le monstre doux: l’Occident vire-t-il à droite?, trad. Katia Bienvenue et Gérard Larché, Paris, Gallimard, 2010, p. 104.
[28]Pour une introduction au domaine des études post-coloniales voir: Emanuela Fornari, Linee di confine, Torino, Bollati Boringhieri, 2011; Ania Loomba, Colonialism/postcolonialism, London - New York, Routledge, 1998; Bill Ashcroft, Garreth Griffiths et Helen Tiffin, The post-colonial studies reader, London - New York, Routledge, 1995; Jean-Loup Amselle et Elikia M’Bokolo, Au cœur de l’ethnie, Paris, Éditions La Découverte, 1985; Iain Chambers et Lidia Curti, The post-colonial question, London - New York, Routledge, 1996; JeanMarc Moura, Littératures francophones et théorie postcoloniale, Paris, Presses Universitaires de France, 1999; Paolo Capuzzo, Anna Curcio, Miguel Mellino, Sandro Mezzadra et Gigi Roggero, Saperi in polvere - Una introduzione agli studi culturali e postcoloniali, Verona, Ombre corte, 2012; Michele Cometa, Dizionario degli studi coloniali, par Roberta Coglitore et Federica Mazzara, Roma, Meltemi, 2004; Bill Ashcroft, Gareths Griffiths e Helen Tiffin, The Empire Writes Back: Theory and Practice in Post-Colonial Literatures, London and New York, Routledge, 1989.
[29]    Emanuela Fornari, Linee di confine, Torino, Bollati Boringhieri, 2011, p. 22 (notre trad).
[30]    «coesistenza dinamica, in uno stesso tempo presente sociale e culturale, di una pluralità di tempi storici segnati da specifiche forme di dominio e corrispondenti pratiche di liberazione», Ibid. p. 41 (notre trad.).
[31]    Voir à ce propos: Dipesh Chakrabarty, Provincializing Europe: postcolonial thought and historical difference, Princeton, Princeton University Press, 2000.
[32]    2 Emanuela Fornari, Linee di confine, Torino, Bollati Boringhieri, 2011, p20 (notre trad.).
[33]    Homi Bhabha, Les lieux de la culture [1994], trad. par Françoise Bouillot, Paris, Payot, 2007
[34]    Émilienne Baneth-Nouailhetas, «Enigmes postcoloniales: des disciplines aux institutions» Littérature, Armand Colin, n. 154, 2/2009, pp. 24-35.
[35]    Jim Cohen, «Dossier. Le tournant postcolonial à la française» Mouvements, La Découverte, n. 51, 3/2007, pp. 7-12.
[36]    Émilienne Baneth-Nouailhetas, «Enigmes postcoloniales: des disciplines aux institutions» Littérature, Armand Colin, n. 154, 2/2009, p. 24-35.
[37]  Nicolas Bancel, «Que faire des Postcolonial Studies? Vertus et déraisons de l’accueil critique des postcolonial studies en France» Vingtième Siècle. Revue d’histoire, Presse de Science Po, n. 115, 3/2012, p. 129-147.
[38]    Pascal Blanchard, Nicolas Bancel et Sandrine Lemaire, «La fracture coloniale, une crise française» dans La fracture coloniale - La société française au prisme de l’héritage colonial, Paris, La Découverte, 2005, p. 14.
[39]    Ibid. p. 16.
[40]    Ibid. p. 18.
[41]    Didier Lapeyronnie, «La banlieue comme théâtre colonial, ou la fracture coloniale dans les quartiers» dans La fracture coloniale - La société française au prisme de l’héritage colonial, par Pascal Blanchard, Nicolas Bancel et Sandrine Lemaire, Paris, La Découverte, 2005, p. 210.
[42]    Thomas Deltombe et Mathieu Rigouste, «L’ennemi intérieur : la construction médiatique de la figure de l’«Arabe»» dans La fracture coloniale, par Pascal Blanchard, Nicolas Bancel et Sandrine Lemaire, Paris, La Découverte, 2005, p. 202.
[43]    Francesca Corrao, L’identité et le problème de la décodification des langages dans la communication, dans La nouvelle Méditerranée, conflits et coexistence pacifique, Torino-Paris, L’Harmattan, 2009, p. 129.
[44]    Angelo Del Boca, L’Africa nella coscienza degli italiani, Bari, Laterza, 1992, p. 114 (notre trad.)
[45] Ibid. p. 113 (notre trad.).
[46]  P. Battista «Italiani brava gente. Un mito cancellato» La Stampa, 28 08 2004 dans Angelo Del Boca, Italiani, brava gente? Un mito duro a morire, Vicenza, Neri Pozza, 2005. 
[47] Angelo Del Boca, Italiani, brava gente? Un mito duro a morire, Vicenza, Neri Pozza, 2005, p. 51 (notre trad.). 
[48]    «una politica non giusta, non riparatrice e non lungimirante», Ibid. p. 127 (notre trad.). 
[49] Voir par exemple: Emanuela Fornari, Linee di confine,Torino, Bollati Boringhieri, 2011. 
[50]    Antonio Gramsci, Cahiers de prison [1948-1951], ed. Robert Paris, Paris, Gallimard, 1978-1992. 
[51] Razmig Keucheyan, «Gramsci, une pensée devenue monde», Le Monde diplomatique, 7/2012. 
[52] Edward W. Saïd, L’Orientalisme, trad. de l’américain par Catherine Malamoud, Paris, Édition du Seuil, 1980, p. 19. 
[53]    Ibid. p. 20. 
[54] Edward W. Saïd, L’Orientalisme, trad. de l’américain par Catherine Malamoud, Paris, Édition du Seuil, 1980, p. 25. 
[55]  إنّ هذه القابليّة لأن نصبح الآخر لفهمه أحسن، هي بلا شك المقياس الذي يمكنننا بواسطته تحديد قيمة التجربة الأدبيّة: أليست القيمة الفنّيّة لأيّ عمل يتحدّد بمدى قابليّته لجعلنا نفرّ من أنفسنا؟ أليس تفرّده يكمن في غرابة المساحات الذهنيّة التي يجعلنا نردعها؟ أليست قيمته الأخلاقيّة غير منفكّةً عن قدرته على جعلنا نرى الآخر، وعلى إظهاره كآخر بدون إلزام تبرير ذلك بقانونٍ عام؟ إنّ كلّ أدبٍ هو علم إنسان (إناسة)، أي إنّه تحقيق حذرٌ و صعبٌ حول الاختلاف،
Alexandre Gefen, «Ce que la littérature sait de l’autre» Magazine Littéraire, Sophia Publications, déc. 2012. 
[56]    Voir à ce propos: Martha Craven Nussbaum, Upheavals of thought: the intelligence of emotions, Cambridge, Cambridge University Press, 2001. 
[57]    Solange Chavel, «Martha Nussbaum et les usages de la littérature en Philosophie morale», Revue philosophique de la France et de l’étranger, P.U.F., 137, janv. 2012. 
[58]    Paul Ricoeur, Soi-même comme un autre, Paris, Édition du Seuil, 1990. 
[59]    Solange Chavel, «Martha Nussbaum et les usages de la littérature en Philosophie morale» Revue philosophique de la France et de l’étranger, P.U.F., 137, 1/2012.