البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

منهج الدكتور محمد خليفة حسن في دراسة الاستشراق

الباحث :  د/أحمد البهنسيّ
اسم المجلة :  دراسات استشراقية
العدد :  20
السنة :  خريف 2019 م / 1441 هـ
تاريخ إضافة البحث :  January / 21 / 2020
عدد زيارات البحث :  2057
تحميل  ( 992.917 KB )
يعدّ «الاستشراق» من المجالات البحثيّة المثيرة لكثير من الإشكاليّات سواء أكانت متعلّقة بتعريفه أم بالبحث في جوانبه واهتماماته ومجالاته المختلفة والمتنوّعة التي شملت كثيرًا من العلوم والمجالات البحثيّة وتنوّعت ما بين دينيّة واجتماعيّة وتاريخيّة وجغرافيّة...
ولمّا كان «الاستشراق» ملامسًا ومتداخلًا مع كثير من العلوم والتخصّصات الدقيقة أو البينيّة، نظرًا لشموليّته وعمومه -أي الاستشراق- في دراسة جميع البُنى الثقافيّة والاجتماعيّة والدينيّة... للشرق وشؤونه المختلفة[1]، فإنّه لم يكن من الغريب أن ينال «الاستشراق» حظًّاً مهمًّا ولافتًا من جوانب الاهتمامات البحثيّة والنقديّة لعدد من الباحثين العرب المتخصّصين به في عالمنا العربيّ، ومن أبرزهم الأستاذ الدكتور محمد خليفة حسن المصريّ الجنسيّة، الذي تمكّن من خلال رحلته ومسيرته العلميّة الطويلة من الإسهام بشكل قويّ بعدد غير قليل من المؤلَّفات والكتابات في كثير من المجالات والتخصّصات البحثيّة والتي كان من أبرزها وأهمّها ما كتبه حول «الاستشراق» دراسة ونقدًا. 
انطلقت دراسة الاستشراق عند الدكتور خليفة حسن، من منطلقات لا تنفصل البتّة عن التزامه القوميّ والوطنيّ والدينيّ بقضايا أمّته، إضافة لالتزامه العلميّ الذي يفرض عليه ضرورة دراسة أو نقد المجالات ذات الصلة بتخصّصه العلميّ، أو حتى بتخصّصات «بَيْنيّة» تربط بين تخصّصه وتخصّصات أخرى؛ فمن المعروف أن «الاستشراق» من المجالات البحثيّة التي تجمع في دراستها أكثر من تخصّص علميّ في آن واحد.   
فوفقاً لتصوّر الدكتور محمد خليفة حسن، فإنّ دراسة الاستشراق ونقده، هو بمثابة وسيلة مهمّة من وسائل الذود عن المقدّسات الإسلاميّة والموروثات التاريخيّة والعلميّة واللغويّة العربيّة، والدفاع عن أصالتها وخصوصيّتها في مواجهة محاولات التشكيك والتسفيه والتهميش؛ بل السطو الاستعماريّ الذي لبس ثوبًا علميًّا ليأخذ مُسمى «الاستشراق». 
وتأتي المقولة الشهيرة للدكتور «خليفة» (إنّه إذا كان هناك من يقولون إنّ إسرائيل هي بنت الاستعمار، فأنا  أقول «إنّ إسرائيل هي بنت الاستشراق»)[2]، لتعبّر تعبيرًا قويًّا ومباشرًا عن تلك الدوافع سواء أكانت علميّة أو وطنيّة أو حتى قوميّة التي تقف وراء تخصيص الدكتور خليفة حسن، حيّزًا كبيرًا ومهمًّا من مجهوداته العلميّة والبحثيّة لدراسة الاستشراق ونقده، الذي رأى فيه -أي في الاستشراق أحد العوامل العلميّة والفكريّة المهمّة التي أدّت لزرع إسرائيل في المنطقة، وهو ما استوجب دراسة الاستشراق ونقده بكلّ جدّيّة واهتمام.
فقد بات من المعروف أنّ الاستشراق حاول تقديم رواية مُختلقة أو مُزيفة حول تاريخ الشرق الأدنى القديم عامّة وتاريخ فلسطين القديم خاصّة، تلك الرواية التي تثبت حقّ بني إسرائيل في هذه الأرض، وتنزع أيّ حقّ تاريخيّ أو دينيّ للعرب فيها[3]، وهي عمليّة يمكن تسميتها بـ«تهويد التاريخ»، وهي التي «شَرْعَنت» قيام إسرائيل، وأوجدت المبرّرات العلميّة والتاريخيّة لزرعها بالقوّة في المنطقة. 
يضاف إلى الدوافع والعوامل السابقة التي وقفت وراء توجّه الدكتور محمد خليفة حسن نحو دراسة الاستشراق ونقده، دافع أو عامل «الالتزام العلميّ»؛ إذ يتقاطع الاستشراق بشكل مباشر مع دراسات الشرق الأدنى القديم، وتاريخ الأديان، والديانة اليهوديّة، إضافة إلى تخصّص اللغات السامية، وكلّها تخصّصات علميّة كان للاستشراق باع وذراع فيها، وهي في الوقت نفسه تخصّصات ومجالات علميّة تمثّل المجال البحثيّ الرئيس للدكتور محمد خليفة حسن في مسيرته العلميّة الطويلة. وكان لتقاطع الاستشراق مع هذه التخصّصات سواء أكان ذلك بشكل مباشر أم غير مباشر حيّزًا مهمًّا، جعل من الضروريّ جدًّا -بالنسبة للدكتور خليفة- أن تتمّ دراسة الاستشراق بشكل منفصل وأكثر عمقًا ودقّة.
لقد كان لسطوة الرؤية الاستشراقيّة العلميّة على المجالات والتخصّصات التي درسها الدكتور محمد خليفة حسن، أكبر الأثر والدافع نحو محاولته تقديم رؤية علميّة موازية تقوم على أسس موضوعيّة وعلميّة، تلك الرؤية التي لم يكن من الممكن تقديمها دون دراسة الاستشراق وكلّ ما يتعلّق به ومحاولة نقده في البداية.
كلّ العوامل والدوافع السابقة كان لها أكبر الأثر في أن يكون توجه الدكتور محمد خليفة حسن لدراسة الاستشراق ونقده توجّهًا علميًّا رصينًا يحمل في طيّاته الفهم العميق لأهمّيّة وضرورة التصدّي للأعمال الاستشراقيّة بكلّ موضوعيّة بعيدًا عن أيّ تحيّزات أو تعصّب غير موضوعيّة.  
رغم تنوّع وكثرة الإنتاج الفكريّ للدكتور خليفة حسن فيما يتعلّق بدراسة الاستشراق ونقده، إلا أنّ الباحث قدّم من خلال هذا البحث هذه المجهودات وأهمّ السمات التي تميّزها وتسِمها، وذلك من خلال نماذج محدّدة ومختارة من أهمّ وأبرز كتابات الدكتور محمد خليفة حسن حول الاستشراق، مستعرضًا أهمّ هذه الكتابات ورؤاها وأفكارها وموضوعاتها، وأهمّ الجوانب التي ميّزت منهج الدكتور محمد خليفة حسن فيها. 

أوّلًا: نشأته وتكوينه العلميّ:
ولد الدكتور محمد خليفة حسن بمدينة طنطا (شمال غرب) مصر عام 1943م، إلّا أنّه نشأ وترعرع في قرية الدير الشرقيّ بمحافظة قنا بصعيد (جنوب) مصر. وتخرّج من جامعة القاهرة قسم اللغات الشرقيّة - فرع اللغات السامية القديمة عام 1964م، وتخصّص في اللغة الحبشيّة وحصل على درجة الماجستير في هذا التخصّص عام 1968 م في رسالة موضوعها (النص الأثيوبيّ في تاريخ أثيوبيا 1769-1840م: ترجمة ودراسة وتعليق) من الجامعة نفسها[4].

حصل في عام 1969م على منحة دراسيّة في مقارنة الأديان مقدّمة من جامعة تيمبل الأمريكيّة بولاية بنسلفانيا، وحصل منها على درجة الماجستير في الأديان عام 1972م، ودكتوراة الفلسفة في الأديان عام 1976م في موضوع (الإسهام اليهوديّ الإسلاميّ في الدراسة العلميّة للدين في العصر الوسيط: دراسة في منهج سعديا الفيومي ومحمّد الشهرستانيّ)، بإشراف الأستاذ الفلسطينيّ الأصل إسماعيل راجي الفاروقي أستاذ الدراسات الإسلاميّة ومقارنة الأديان بالجامعة نفسها[5].       
 شهدت المسيرة العلميّة للدكتور محمّد خليفة حسن عدّة مراحل تكوينيّة ساهمت في تأسيس شخصيّته العلميّة وتكوين منهجه العلميّ، والتي يمكن تقسيمها إلى مرحلتين أساسيّتين، وهما:

1 - مرحلة الدراسة والعمل في جامعة القاهرة:
تأهّل الدكتور محمد خليفة حسن في عدّة تخصّصات سامية ولغويّة واستشراقيّة مهمّة ودقيقة؛ حيث درس اللغات العبريّة القديمة والسُريانيّة والحبشيّة، إضافة إلى النقوش العربيّة الجنوبيّة والشماليّة، كما درس علم اللغة العربيّة وآدابها، وذلك من خلال الدراسة المشتركة في قسم اللغة العربيّة. ودرس بالجامعة نفسها أيضاً عدّة لغات أوروبيّة قديمة وحديثة؛ فدرس اليونانية واللاتينية والألمانية والإيطالية والأسبانية وواصل بعد تخرجه دراسة الإنجليزية والفرنسية[6].
وبعد تعيينه مدرّسًا بجامعة القاهرة، ساهم في إنشاء مدارس علميّة متنوّعة مرتبطة بتخصّص الاستشراق والديانات التوحيديّة والسامية، وفي مجال الدراسات الشرقيّة بمفهومها الشامل، مركّزًا في ذلك على استخدام المنهج العلميّ الموضوعيّ البعيد عن أيّ تحيّزات أو تعصّب، كما أشرف على عدّة رسائل علميّة في مجال الدراسات الصهيونيّة والإسرائيليّة والأدب العبريّ الحديث، إضافة إلى تأسيسه مدرسة علميّة لها بعدها العربيّ والإسلاميّ في مجال دراسة نقد أسفار العهد القديم، ومدرسة أخرى في مجال دراسات الشرق الأدنى القديم وحضارته[7].
لم يقتصر جهده العلميّ على تأسيس هذه المدارس العلميّة والإشراف على رسائل علميّة متعلّقة بهذه التخصّصات وحسب؛ بل أسس عددًا من الإصدارات في مجالات هذه المدارس والاتجاهات والتخصّصات العلميّة والفكريّة، وذلك بعد تولّيه منصب مدير مركز الدراسات الشرقيّة بمصر، من أهمّها سلسلة الدراسات التاريخيّة والحضاريّة، وسلسلة فضل الإسلام على اليهوديّة، وسلسلة حوار الحضارات، وسلسلة قضايا إيرانيّة[8]، علاوة على تطويره لمجلة (رسالة المشرق) العلميّة التي يصدرها المركز؛ إذ جعلها مرجعًا رئيسًا لطلبة وباحثي الدراسات الشرقيّة في مصر والعالمين العربيّ والإسلاميّ.        

2 - مرحلة الدراسة بالولايات المتحدة:
درس الدكتور محمد خليفة حسن في الولايات المتّحدة عددًا من التخصّصات المتعلّقة بالأديان، سواء أكانت من الديانات التوحيديّة أو الهنديّة أو حتى الديانات البدائيّة، كما درس علاقة الدين بالأدب[9].
وإدراكًا منه لأهمّيّة الدراسات اليهوديّة بصفة خاصّة والدراسات الاستشراقيّة والحضاريّة بصفة عامّة بسبب الاحتلال الصهيونيّ لفلسطين من جانب، وما يثيره بعض المستشرقين المتعصّبين من شبهات حول الإسلام من جانب آخر، فقد التحق بكلّيّة دوربسي كوليج بالولايات المتحدة الأمريكيّة، وهي كلّيّة يهوديّة متخصّصة في الدراسات اليهوديّة والسامية، حيث درس فيها الديانة اليهوديّة على أيد كبار المتخصّصين الأجانب[10].
أما الاستشراق، فقد بدأ التخصّص فيه بقسم الأديان بجامعة تيمبل الأمريكيّة؛ حيث درس الإسلام داخل إطار الدراسات الإسلاميّة في الغرب، وداخل إطار علم تاريخ الأديان، وتيسّر له التعرّف على عدد كبير من المستشرقين الأمريكيّين والأوروبيّين، وبعد عودته من الولايات المتحدة بدأ تدريس الاستشراق ومدارسه بكلّيّة الدعوة بالمدينة المنورة التي أسّس فيها قسمًا خاصًّا بالاستشراق فيما بعد، وترأسه خلال سنوات 1993-1995م[11]. 

ثانيًا: جهوده في دراسة الاستشراق ونقده
تنوّعت المجهودات العلميّة والبحثيّة للدكتور محمد خليفة حسن في دراسة الاستشراق ونقده بين المقالات وعروض الكتب ومراجعاتها النقديّة، والبحوث والدراسات العلميّة المُحكمة، علاوة على الكتب الكاملة، وقد شملت كثيرًا من جوانب دراسة الاستشراق، سواء أكان فيما يتعلّق بإشكاليّات دراسته، أم فيما يتعلّق بالقضايا والموضوعات المختلفة التي تعرّض لها الاستشراق، لا سيّما فيما يتعلّق منها بالمصادر الأساسيّة للإسلام (القرآن الكريم، السُنة النبوية الشريفة).
وقد وقع اختيار الباحث على ثلاثة أعمال للدكتور خليفة حسن في مجال الاستشراق (كتابان ودراسة علميّة مُحكَّمة)، مثّلت من وجهة نظر الباحث أبرز وأهمّ أعمال الدكتور محمد خليفة حسن حول الاستشراق عرضًا ونقدًا، وكانت هذه الأعمال هي:
 - محمد خليفة حسن: المدرسة اليهوديّة في الاستشراق، مجلّة رسالة المشرق، الأعداد 1-4، المجلد 12، القاهرة 2003.
- أزمة الاستشراق الحديث والمعاصر، جامعة الإمام محمد بن سعود، الرياض 2000.
- آثار الفكر الاستشراقيّ في المجتمعات الإسلاميّة، دار عين للبحوث والدراسات، القاهرة 1997.
ويمكن استعراض جهود الدكتور خليفة حسن في مجال دراسة الاستشراق ونقده، على النحو الآتي: 

1. إشكاليّات الاستشراق وأزماته
اتخذت قضيّة «إشكاليّات الاستشراق وأزماته» حيّزًا كبيرًا ومهمًّا جدًّا من مؤلّفات الدكتور محمد خليفة حسن حول دراسة الاستشراق ونقده، فقد كان لافتًا أن يخصّص لها مؤلَّفًا كاملًا حمل عنوان «أزمة الاستشراق الحديث والمعاصر»[12] وقع في 470 صفحة من القطع الكبير. وهو من أبرز وأهمّ مؤلفات الدكتور خليفة في هذا المضمار.
ولم يكن غريبًا أن يقوم الدكتور خليفة حسن بتخصيص كتاب كامل لمناقشة تلك الإشكاليّات التي يثيرها الاستشراق وما وقع فيه من أزمات مختلفة؛ إذ إنّ الاستشراق من أكثر المجالات المثيرة للإشكاليّات العلميّة والبحثيّة، فعلى سبيل المثال لا يوجد اتفاق بين الباحثين والدارسين حول تعريف محدّد له، أو حتى لتحديد مناهج وطرق بحثيّة معيّنة لدراسته ونقده، إضافة إلى أن تداخله مع كثير من العلوم والمجالات البحثيّة جعل من الصعب الفصل بين اهتماماته وموضوعاته وبين موضوعات واهتمامات هذه العلوم والمجالات البحثيّة، وهو ما يثير كثيرًا من الصعوبات والإشكاليّات البحثيّة في دراسة الاستشراق ونقده[13].
علاوة على ما سبق، فإنّ غياب  الموضوعيّة في كثير من الأعمال الاستشراقيّة، وسيطرة أيديولوجيّات وآراء مسبقة على الأفكار والرؤى التي يطرحها تهدف إلى خدمة أهداف استراتيجيّة وعلميّة غربيّة، أدى إلى أن يمثّل «الاستشراق» في حدّ ذاته «إشكاليّة كبيرة» لدى الباحث أو الدارس العربيّ المسلم، ما استوجب توجيه النقد لمناهج وموضوعات الاستشراق من جانبه.
كما استخدم الاستشراق عددًا من المناهج والأدوات البحثيّة المختلفة، إمّا بشكل خاطئ أو من أجل إثبات فرضيّات علميّة خاطئة بحاجة للنقد والتدقيق، وهو في حدّ ذاته يعدّ أزمة حقيقيّة من أزمات الاستشراق تتعلّق بمنهجيّته وأدواته البحثيّة والعلميّة .
يرصد الباب الأوّل من هذا الكتاب للدكتور خليفة حسن، أسباب أزمة الاستشراق الحديث والمعاصر ومظاهره وإشكاليّاته المختلفة؛ إذ تحدّدت أسباب أزمة الاستشراق في تبعيّته لحركات الاستعمار والتنصير والصهيونيّة، فقد نشأ الاستشراق في كنف وأحضان هذه الحركات التي استخدمته وطوّرته من أجل خدمة أهدافها السياسيّة والامبرياليّة المختلفة، وهو ما أدّى إلى فقدانه استقلاليّته وخضوعه دائمًا لجهات وحركات توجّهه حسب أغراضها وأهدافها[14].
كما عمّق من أزمة الاستشراق -وفقا للكتاب تطوّر العلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة، والتي ظهرت جميعها تحمل مناهج وأدوات بحثيّة تخصّها لدراسة الدين وما يتعلّق به، وكان من أهمّها وعلى رأسها علم تاريخ الأديان History Of Religion  وعلم فينومينولوجيا الدين Of ReligionPhenomenolog، إلّا أنّ اهتمام هذه العلوم بالمجتمعات الشرقيّة وما يتعلّق بها من أديان وآداب وحضارات ولغات... أدّى لوقوع منافسة قويّة بينها وبين الاستشراق الذي يدخل كلّ ما سبق في إطار صميم اهتماماته، لا سيّما وأنّ هذه العلوم سابقة الذكر أحدثت ثورة منهجيّة علميّة كان الاستشراق وما زال يفتقر لها[15].
ويضيف الكتاب أنّه كان لسقوط الأيديولوجيّات الغربيّة كبير الأثر على وتعميق أزمة الاستشراق، نظرًا لارتباطه بهذه الأيدلوجيّات التي وجّهته ونشأ بالأساس لخدمتها وإثباتها وفقًا لديباجات علميّة[16].
يُفصّل الكتاب كذلك في استعراض الأزمات المختلفة للاستشراق ونقدها، سواء أكانت تتعلّق بهُويّته أو بأخلاقيّته أو بمنهجه، وذلك من حيث أسباب ومظاهر كلّ أزمة بشكل مستقلّ.
أمّا بالنسبة لأزمة «هُويّة» الاستشراق؛ فقد ركّز الكتاب على ذلك الاختلاف القوي والبارز حول تحديد وتعريف هويّة محدّدة للاستشراق، مُرجعًا أهمّ أسباب ذلك إلى اختلاط عمل المستشرق ومهمّته بعمل ومهمة المستعمر أحيانًا، وعمل ومهمة المُنصّر أحيانًا أخرى، محدّدًا تجليّات هذه الأزمة في الاختلاف حول اعتبار وتعريف الاستشراق كعلم لاهوتيّ أو كأسلوب غربيّ لفرض السيادة على الشرق، أو كأيديولوجيّة أو كاتجاه بحثيّ يجمع بين العلم والأيديولوجيّا[17].
ويبرز من بين أهمّ أزمات الاستشراق التي ناقشها الكتاب بإسهاب تلك الأزمة المتعلّقة بـ«منهجيّة الاستشراق»، والتي حدّد أسبابها في طغيان الأيديولوجيا على العلم، والخضوع للايديولوجيّات الغربيّة، والارتباط بالعلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة علاوة على اتساع مجالات الدراسات الاستشراقيّة[18].
ومن القضايا المهمّة والمفيدة جدًّا للدارسين في مجال الاستشراق في هذا الصدد، تلك القضيّة المتعلّقة بمشكلة «فهم» الاسلام عند المستشرقين؛ إذ ناقشت تجاهل المستشرقين استخدام نظريّة «الفهم» المستخدمة في علم الأديان لصاحبها المؤرخ وعالم الأديان الألمانيّ يواكيم فاخ  Y.Wach وذلك رغم أهمّيّتها، إلّا أنّ الغالبيّة العظمى من المستشرقين تخصّصوا في الدراسات القرآنيّة دون محاولة منهم لفهم الإسلام من داخله، أو فهمه كما يراه أهله من المسلمين، ومحاولة تفسيره وتحليله من خلال مصادره الأصليّة والمعتمدة، وذلك إلى الحدّ الذي يمكن القول معه إنّه بات هناك نوعان من الفهم للقرآن الكريم، الأوّل: فهم إسلاميّ يتبعه المسلمون، والثاني: فهم استشراقيّ مغاير طوّره المستشرقون[19].
 أمّا فيما يتعلّق بـ«أزمة الاستشراق الأخلاقيّة»، فيبرز من بيانها تركيز الكتاب على ما اعتبره بالأهداف غير الأخلاقيّة للاستشراق، والتي تمثّلت في محاولة تخريب الثقافة الشرقيّة والإسلاميّة، والقضاء على أصالة الشعوب الشرقيّة والإسلاميّة، ونكران فضل الحضارة الشرقيّة والإسلاميّة، علاوة على محاولة استلاب العقل المسلم[20].
في هذا الجزء كذلك، ذكر الكتاب بعض السلوكيّات غير الأخلاقيّة للاستشراق والمستشرقين، ومنها سرقة المخطوطات والاتجار فيها، وطمس ما تحتويه من معلومات مهمّة تعكس حقائق تاريخيّة ولغويّة ضروريّة، إضافة إلى نهب الآثار الشرقيّة، وانتحال الأعمال والنظريّات الإسلاميّة، وكذلك عمليّات التجسّس وجمع المعلومات تحت ستار المهمّات العلميّة والدبلوماسيّة[21]. 

2. الاستشراق والمجتمعات الإسلاميّة
لم يكن غريبًا أن يخصّص الدكتور محمد خليفة حسن مؤلَّفًا كاملًا حول الآثار السلبيّة الكبيرة للاستشراق في المجتمعات الإسلاميّة، وذلك انطلاقًا من وعيه التامّ لما تمثّله المجهودات الاستشراقيّة من خطورة على المجتمعات الإسلاميّة على كلّ المستويات الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة وحتى العلميّة.
مع ذلك، فإنّ الموضوعيّة التي تتميّز بها كتابات الدكتور محمد خليفة حسن حول الاستشراق، دفعته لرصد ومناقشة تلك الآثار الإيجابيّة للاستشراق على المجتمعات الإسلاميّة المختلفة، علاوة على طرحه رؤية كاملة لمحاولة مواجهة الفكر الاستشراقيّ بما يحمله من سلبيّات ومحاولات لهدم بنية المجتمعات الإسلاميّة المختلفة.
يناقش كتاب الدكتور محمد خليفة حسن المعنون بـ«آثار الفكر الاستشراقيّ في المجتمعات الإسلاميّة» الذي يقع في 157 صفحة من القطع الصغير، خطورة الاستشراق على المجتمعات الإسلاميّة، فعلى مستوى الجانب الدينيّ، يرصد الكتاب محاولات الاستشراق إثارة الشكوك في العقيدة الإسلاميّة وتشويه صورة الإسلام[22]، وهي من وجهة نظر الباحث منطلقات اتخذها الاستشراق لنفسه منذ بداية نشأته؛ نظرًا لأنّ نجاحه في ذلك يعني في النهاية نجاحه في القضاء على الدين الإسلاميّ وعلى الثقافة الإسلاميّة بشكل عامّ.
كما سلّط الكتاب الضوء على محاولات الاستشراق التركيز على الفرق الدينيّة الإسلاميّة والتعظيم من شأن بعضها، وهو ما يهدف بطبيعة الحال إلى تأصيل الفُرقة والتشتّت والتشرذم في صفوف المسلمين، ومحاولة إثارة النعرات الطائفيّة والقوميّة داخل المجتمعات الإسلاميّة، وقد اتضح ذلك من خلال مناقشة الكتاب للآثار السياسيّة السلبيّة للاستشراق في البلدان الإسلاميّة؛ إذ لعب الاستشراق دورًا مهمًّا في التمكين للاستعمار والتنصير فيها، وبعث القوميّات بما يفتّت الكتلة السياسيّة الإسلاميّة الواحدة وما ترتّب على ذلك من إسقاط الخلافة وظهور دول قوميّة متأثّرة بالنظم السياسيّة الغربيّة[23].
ركّز الكتاب أيضًا على مناقشة الآثار السلبيّة للاستشراق في المجتمعات الإسلاميّة، لا سيّما فيما يتعلّق بوضع المرأة الإسلاميّة التي نالت هجومًا حادًّا وكبيرًا من الاستشراق ومحاولة لوضعها تحت تأثير القيم الغربيّة ونزع أيّ قيم إسلاميّة أصيلة عنها وعن سلوكها ومظهرها، متّخذين من ادعاءات نشر قيم المساواة بين الرجل والمرأة ذريعة لدفع المرأة نحو التمرّد والثورة على وضعها داخل المجتمع الإسلاميّ[24].
من أهم ما ناقشه الكتاب كذلك، تلك الآثار السلبيّة للاستشراق في المجتمعات الإسلاميّة على المستويين الثقافيّ والعلميّ، وذلك بهدف تشتيت الجهود الثقافيّة والفكريّة الإسلاميّة والتشكيك في أصالة كلّ المصادر الدينيّة والفكريّة الإسلاميّة، بل والتشكيك في قدرة اللغة العربيّة، وهي لغة القرآن الكريم على مجاراة ظروف العصر الحديث ومتطلّباته[25].
وكان لافتًا في هذا الصدد، تركيز الكتاب على لجوء الدراسات الشرقيّة لمناهج النقد الغربيّة من أجل تطبيقها على القرآن الكريم والسنة النبويّة الشريفة للتشكيك في أصالتهما[26]، وهي من وجهة نظر الباحث «سقطة منهجيّة» في أعمال المستشرقين انطلقوا منها جميعًا حينما اعتبروا أن القرآن الكريم عمل إنسانيّ مثله في ذلك مثل العهدين القديم والجديد، فطبّقوا عليه مناهج نقدية وعلميّة لا تتلاءم مع طبيعة وخصوصيّة النصّ القرآنيّ، وذلك دون الأخذ في الاعتبار أيّ حيثيّات علميّة، مثل اختلاف مواد العهدين القديم والجديد من جانب، والمادة القرآنيّة من جانب آخر، إضافة إلى اختلاف البيئة والظروف التي نشأت فيها كلّ من هاتين المادّتين[27].
يتوقف الباحث في هذا السياق عندما أثاره الدكتور محمّد خليفة حسن في الكتاب بالتفصيل نسبيًّا حولها، وذلك حينما أشار إلى أنّ طبيعة العهدين القديم والجديد تختلف عن طبيعة القرآن الكريم، فالعهدان القديم والجديد مرّا بكثير من المراحل التاريخيّة والأدبيّة، بل ومراحل التدوين وجمع وتثبيت النصوص وصلت إلى ما يقارب الألف سنة بالنسبة للعهد القديم، وحوالي أربعة قرون بالنسبة للعهد الجديد، وهي المراحل التي لم يمرّ بها القرآن الكريم[28].
ولعلّ ما ذكره الدكتور خليفة في هذا الصدد، يعدّ -من وجهة نظر الباحث-  من أهمّ أنواع النقد العلميّ الذي يمكن توجيهه لأيّ كتابات استشراقيّة تحاول التشكيك في أصالة القرآن الكريم ومصدريّته، وذلك من خلال ردّ الآيات الكريمات لمصادر يهوديّة ونصرانيّة، فتلك الكتابات الاستشراقيّة للقرآن الكريم التي خرجت من رحم دراسات نقد الكتاب المقدّس في الغرب كما ذكر الدكتور خليفة حسن[29]، تحاول تطبيق نفس المناهج والأساليب العلميّة على نصوص مرّت بظروف نزول وجمع وتدوين مختلفة تمامًا، فالقرآن الكريم نصّ مقدّس نزل وتمّ تدوينه وجمعه في كتاب واحد في حياة وعهد مؤسّس الدين محمّد عليه الصلاة والسلام، وهي فترة لم تتجاوز أربعين عامًا، في حين أنّ العهدين القديم والجديد مرّا بمراحل جمع وتدوين فرّقتها عن مؤسّس الدين أجيال كاملة؛ ما جعل من الطبيعيّ أن تبتعد كلّ البعد عن النصّ الأصليّ الذي جاء به مؤسّس الدين[30].
أمّا الآثار الإيجابيّة للاستشراق التي رصدها الدكتور خليفة حسن في كتابه، فلعلّ من أبرزها تأثير الفكر الاستشراقيّ في الغرب، وتأثير الإسلام في المستشرقين الذين درسوه، ما أدّى إلى ما يمكن أن نسميه «انقلاب السحر على الساحر»؛ فقد أدّت دراسة الإسلام من قِبل عدد من المستشرقين إلى التأثّر به؛ بل أعلن بعضهم ترك عقائدهم والدخول في الإسلام، وكان من أبرزهم المستشرق الفرنسي ايتين دينيّه (1861-1929م)[31].
كما أنّ دراسة الإسلام في الغرب أدّت إلى نقل كثير من المعارف الإسلاميّة إلى الدوائر العلميّة والبحثيّة والأكاديميّة الأوروبيّة والأمريكيّة عن طريق الترجمة أو تحقيق المخطوطات، ما أدّى لظهور أثر واضح للفكر الإسلاميّ في الحركة الفكريّة والعلميّة الغربيّة؛ إذ اعتبر بعض الباحثين أنّ ظهور المذهب البروتستانتيّ في النصرانيّة عكس تأثّرًا بالإسلام وبالنقد القرآنيّ للنصرانيّة[32]. 
قدَّم الدكتور خليفة حسن في نهاية كتابه ما يشبه «الاستراتيجية» لمواجهة الآثار السلبية للاستشراق في المجتمعات الإسلاميّة، والتي تأتي في مقدمتها وأهمّها ضرورة الدراسة العلميّة الواعية للفكر الاستشراقيّ، واضعًا يده على سبب الخلل الرئيس في مواجهتنا العلميّة للاستشرق، وهو (قلّة أو عدم وجود أقسام علميّة متخصّصة لدراسة الاستشراق داخل الجامعات والمؤسّسات العلميّة العربيّة والإسلاميّة). إضافة لقلّة وجود مراكز أبحاث متخصّصة في دراسة الاستشراق ومتابعة أعماله بالبحث والتحليل والنقد والترجمة والمراجعة[33].
في هذا الصدد، أثار الدكتور خليفة حسن نقطة مهمّة جدًّا، وهي ضرورة التخلّص من «الإسرائيليّات والاستشراقيّات»، واللذين اعتبرهما جسمين غريبين تغلغلًا في الفكر الإسلاميّ وتسبّبا في كثير من التشويه له، مشيرًا إلى أنّ الإسرائيليّات هي تلك الأفكار اليهوديّة والنصرانيّة التي دخلت التفاسير والفكر الإسلاميّ المبكر، في حين أنّه طرح «الاستشراقيّات» كمصطلح بديل لما يسمى بالغزو الفكريّ الحديث، معتبرًا أنّ الاستشراق هو مصدر كلّ الأفكار الأجنبيّة المنحرفة والشبهات في الفكر الإسلاميّ الحديث[34].

3 - الاستشراق اليهوديّ
يعدّ بحث الدكتور خليفة حسن الذي حمل عنوان «المدرسة اليهوديّة في الاستشراق» المنشور في مجلّة رسالة المشرق في نحو 75 صفحة، بمثابة «حجر الأساس» في مجالات دراسات الاستشراق اليهوديّ بمراحله الثلاث المتعاقبة والمختلفة (الاستشراق اليهوديّ، الاستشراق الصهيونيّ، الاستشراق الإسرائيليّ).
فقد تمكّن الدكتور خليفة حسن من خلال هذا البحث المعمّق والمطوّل من إرساء قاعدّة معلوماتيّة شاملة وكاملة حول المدرسة اليهوديّة في الاستشراق، إضافة إلى تقديم رؤية تحليليّة حول أهداف هذه المدرسة وأبعادها وتوجّهاتها، وما تأثّرت به من مدارس استشراقيّة أخرى، إضافة إلى سرده تلك الأسباب والعوامل التي تقف وراء تكوّن هذه المدرسة الاستشراقيّة وتفوّق اليهود تحديدًا في مجال الدراسات الاستشراقيّة، مستعرضًا أهمّ مراحل تطوّر المدرسة اليهوديّة في الاستشراق[35].
تتركّز أهمّية هذا البحث، في كونه من الدراسات القليلة والنادرة جدًّا التي تناقش المجهودات الاستشراقيّة اليهوديّة بشكل علميّ وموضوعيّ، بعيدًا عن أيّ تحيّزات أو أساليب انطباعيّة في البحث؛ بل إنّه يبلور للدارس أو للباحث تلك الجهود الاستشراقيّة اليهوديّة، ويحدّد له تاريخها وماهيّتها وأهدافها وموضوعها بشكل متكامل ومُمنهج، وهو ما يُسهّل على الباحث التعرّف عن قرب على ما أطلق عليه الدكتور خليفة «المدرسة اليهوديّة في الاستشراق».
فقد تمكّن الدكتور خليفة من خلال هذا البحث من فكّ الاشتباك الحاصل لدى الدارس أو الباحث بين الاستشراق اليهوديّ والاستشراق الغربيّ من جانب، وبين الاستشراق اليهوديّ ومراحله المختلفة المتعلّقة بالاستشراق الصهيونيّ والاستشراق الإسرائيليّ من جانب آخر، وذلك من خلال تصنيفه -أي تصنيف الدكتور خليفة حسن وترتيبه للجهود الاستشراقيّة اليهوديّة وفق ما اعتبره تصنيفًا وترتيبًا يهوديًّا بحتًا، بحيث قسَّم هذه المراحل إلى ثلاث مراحل هي الاستشراق اليهوديّ، ثم الاستشراق الصهيونيّ، وأخيرًا الاستشراق الإسرائيليّ، وهو ترتيب يتّسم بالموضوعيّة، نظرًا لاعتماده على معايير تاريخيّة وعلميّة دقيقة[36].
فمن المعروف أنّ اليهود قبل ظهور الحركة الصهيونيّة في شرق أوروبا عام 1881 ميلاديّة، كان من الصعب وضعهم وفق تصنيف علميّ وموضوعيّ محدّد، نظرًا لتشتّتهم في جميع أنحاء العالم، بحيث بات من الصعب إطلاق لفظة «الشعب اليهوديّ» على تلك الجماعات والطوائف التي تعتنق الديانة اليهوديّة في بلدان وأنحاء مختلفة لها ثقافات وحضارات مختلفة ومتباينة، إلا أنّه مع ظهور الصهيونيّة بدأت تظهر كتابات استشراقيّة بأقلام مفكّرين وعلماء وباحثين يهود لها أغراض ترتبط بأهداف الحركة الصهيونيّة الرامية لإنشاء وطن قوميّ لليهود في فلسطين، ومن هنا ظهر الاستشراق الصهيونيّ، ومع قيام إسرائيل عام 1948، أصبح من الممكن إطلاق مصطلح «الاستشراق الإسرائيليّ» على تلك الكتابات التي يكتبها علماء وباحثون ينتمون لمؤسّسات علميّة وبحثيّة وأكاديميّة في إسرائيل عن الشرق والشؤون الإسلاميّة والعربيّة[37].
وعن أسباب تفوّق اليهود في مجال الدراسات الاستشراقيّة، ما أدّى لتكوّن ما أسماها الدكتور خليفة حسن بـ«المدرسة اليهوديّة في الاستشراق»، فإنّه يحدّد أهمّ تلك الأسباب في قدم الكراهية اليهوديّة للإسلام والمسلمين[38]، وهو العداء الذي يعود تاريخه لتاريخ ظهور البعثة المحمّديّة في شبه الجزيرة العربيّة، فقد احتكّ اليهود بالرسول الكريم عليه الصلاة والسلام، وكان له معهم صولات وجولات وتباين في المواقف الدينيّة والسياسيّة، وثار بينه وبين اليهود ما يمكن أن نسمّيه بالجدل الدينيّ، وهو الجدل الذي رصدته بعض آي القرآن الكريم[39].
وأضاف الدكتور خليفة حسن، أنّ أحد أهمّ أسباب تفوّق اليهود في الدراسات الاستشراقيّة هو انتشارهم في عدد من البلدان الإسلاميّة، نظرًا لسيطرة ظاهرة الشتات على تاريخهم، وتوزّعهم كأقليّات في بلدان عربيّة وإسلاميّة تمكّنوا خلالها من معرفة شؤون هذه البلدان والكتابة عنها بدقّة، علاوة على ازدهار الثقافة اليهوديّة بين ظهراني الثقافة الإسلاميّة خلال العصر الوسيط تحديدًا، بشكل أهّل اليهود دون غيرهم للقيام بدور «الوسيط» بين الغرب اللاتينيّ المسيحيّ والشرق الإسلاميّ العربيّ[40] .
كما أشار الدكتور خليفة حسن إلى أنّ من الأسباب الأخرى حُسن استغلال اليهود للمرحلة الاستعماريّة الحديثة، وذلك من خلال استفادتهم ممّا قدّمه الاستعمار من ثروة معلوماتيّة وأرشيف مخطوطات كبير سرقه من الشرق إبان استعماره له خلال القرنين الـ18 و19 ميلاديّة، إضافة للتغلغل اليهوديّ والصهيونيّ داخل المجتمعات العربيّة والإسلاميّة بشكل سهّل للمستشرقين اليهود الحصول على المعلومات اللازمة في كتاباتهم[41].
يختتم البحث بطرح عدّة مقترحات لسبل مواجهة الاستشراق اليهوديّ، من أهمها ضرورة تنشيط العمل العلميّ الإسلاميّ والعربيّ لمواجهة آثار الاستشراق اليهوديّ وخطورته، والتوسّع في إنشاء مراكز الأبحاث المختصّة في الدراسات اليهوديّة والإسرائيليّة، إضافة إلى التوسّع في إنشاء أقسام الاستشراق في الجامعات الإسلاميّة والعربيّة، والاهتمام بدراسة الحضارة الغربيّة والتعرّف على سلبيّاتها وإيجابيّاتها، وتوجيه المؤرّخين والدارسين العرب والمسلمين نحو الاهتمام بقضايا التأصيل والدفاع عن الوجود العربيّ والإسلاميّ[42].  

ثالثًا: منهجه في دراسة الاستشراق ونقده

1.   المزج بين الوصف والنقد
يعدّ المزج أو الموازنة بين الوصف والنقد من أهمّ السمات المميّزة لمنهج الدكتور خليفة حسن في دراسة الاستشراق ونقده، فنظرًا لأنّ الاستشراق من المجالات العلميّة التي لم تحظَ بكثير من الاهتمام من جانب الدارسين والباحثين العرب، فإنّنا نجد الدكتور خليفة حسن في كثير من المؤلّفات حوله يحاول إعطاء وصف مفصّل للمجهودات الاستشراقيّة، ويقدّم للقارئ ثروة ملعوماتيّة مهمّة جدًّا حول الكتابات الاستشراقيّة وتاريخها وظروف كتابتها وأصحابها من المستشرقين وخلفيّاتهم الفكريّة والثقافيّة.
يتبدّى ذلك المنهج والأسلوب واضحًا في بحث الدكتور خليفة حسن «المدرسة اليهوديّة في الاستشراق»، فبعد حديث الدكتور خليفة حسن عن كلّ مرحلة من مراحل المدرسة اليهوديّة في الاستشراق، وهي مرحلة الاستشراق اليهوديّ، ومرحلة الاستشراق الصهيونيّ، ومرحلة الاستشراق الإسرائيليّ، يعطي كمًّا معلوماتيًّا وصفيًّا عن أعلام هذه المراحل من المستشرقين، وعن أهمّ القضايا والموضوعات التي اهتمّت بها كلّ مرحلة من مراحل هذا الاستشراق وأهمّ الكتابات والجهود الاستشراقيّة التي كتبت خلالها[43].
أمّا الجانب النقديّ للاستشراق في كتابات الدكتور خليفة حسن، فيتبدّى بشكل أبرز وأوضح في كتابه «أزمة الاستشراق الحديث والمعاصر»؛ إذ أسهب بكلّ تفصيل، ومن خلال استخدام منهج «نقديّ» علميّ وموضوعيّ، في رصد وتحديد الأزمات التي وقع فيها الاستشراق، والإشكاليّات التي تثيرها الدراسات الاستشراقيّة وما يعتريها من ضعف علميّ وموضوعيّ، وما تتّسم به من خلل أخلاقيّ وأيديولوجيّ.
وقد تمكّن الدكتور خليفة حسن من وضع يده على مظاهر «الأزمة الاستشراقيّة»، موجّهًا سهام نقده العلميّة للظاهرة الاستشراقيّة التي وصفها بالضعف الفكريّ واللغويّ والتكوينيّ والأيديولوجيّ[44].
كما يشير الدكتور خليفة حسن في هذا الصدد أيضًا، إلى عشرة مظاهر مختلفة من مظاهر ضعف الاستشراق، والتي يأتي في مقدّمتها الضعف العلميّ واللغويّ والفكريّ للمستشرقين، وذلك بسبب غياب المستشرق التقليديّ المتعمّق في الدراسات الإسلاميّة وصاحب المعرفة الموسوعيّة الشموليّة[45]، إضافة لغياب مراكز استشراق تقليديّة يتلقّى فيها المستشرق المُستجد المعرفة الإسلاميّة التقليديّة والأصيلة، وبهذا فقد المستشرق المعاصر الدور الذي كان يلعبه المستشرق القديم في توجيه الدراسات الإسلاميّة، كما فقد سلطان المستشرق القديم والقيمة العلميّة والسياسية الكبيرة التي كان يتمتّع بها في الدوائر العلميّة والسياسيّة، وأصبح أقصى ما يمكن أن يقوم به المستشرق المعاصر هو القيام بدور الخبير السياسيّ أو الاقتصاديّ، وذلك دون التأثير في إدارة وتوجيه الدوائر التي يعمل بها[46].   
من أهمّ ما رصده الدكتور خليفة حسن في هذا المضمار كذلك من مظاهر ضعف الاستشراق، هو تطوّر نقد استشراقيّ للاستشراق، وهو ما أسماه الدكتور خليفة بـ«النقد الذاتيّ للاستشراق»، والذي أدّى لوضوح أزمة الاستشراق أكثر وأكثر من خلال استبيان أخطائه ونقد مناهجه وأساليبه في معالجة الموضوعات الإسلاميّة والعربيّة، مشيرًا إلى أنّ أهمّ الدراسات النقديّة في هذا الصدد هي تلك التي حرَّرها المستشرق والسياسيّ الأمريكيّ  ليونارد بايندر ونُشرت تحت عنوان «دراسة الشرق الأوسط»، وهي عبارة عن مجموعة دراسات ناقدة لكلّ مجال من مجالات الدراسات الإسلاميّة والغربيّة، وقد سلّطت هذه الدراسة الأضواء على سيطرة الدافع السياسيّ على مسيرة دراسات الشرق الأوسط، والتي حوّلت الدراسات الاستشراقيّة إلى مجرّد عمليّة لجمع المعلومات عن بلدان العالم العربيّ والإسلاميّ، وأبعدتها عن الصبغة العلميّة الأكاديميّة[47]. 
ولا شكّ أن تطوّر هذا «النقد الذاتيّ أو الداخليّ للاستشراق»، إضافة إلى تطوّر النقد الخارجيّ الإسلاميّ للاستشراق بواسطة علماء وباحثين مسلمين، أدى إلى ظهور نوع من الشكّ في صفة «مستشرق»؛ خاصّة في ظلّ تصريح بعض المستشرقين بكراهيّتهم لهذه الصفة أو التسمية، ورغبتهم في أن يُسمّوا تسمية أخرى لائقة لا يرقى إليها الشكّ، وتعبر عن عملهم العلميّ الحقيقيّ، ومنهم المستشرق المعاصر كلود كاهن[48] الذي دعا إلى إعادة النظر في الدلالة التاريخيّة لمصطلح «استشراق»، مقترحًا حذف هذا المصطلح؛ لأنّه لا يدلّ على علم قائم بذاته[49].
لفت الدكتور خليفة حسن كذلك إلى أنّ ذلك الشكّ في لفظي استشراق ومستشرق، تجاوز حدود الأفراد إلى حدود بعض المؤسّسات الاستشراقيّة التي رأت الاستغناء عن مصطلح «استشراق» بتسميات أخرى مناسبة، ومنها على سبيل المثال تغيير مسمّى مؤتمر المستشرقين العالميّ الذي ينعقد منذ العام 1973 في باريس إلى مسمّى المؤتمر العالميّ للعلوم الإنسانيّة في آسيا وشمال أفريقيا. واعتبر الدكتور خليفة أنّ هذا حدث مهمّ في حدّ ذاته يحتاج إلى البحث عن الأسباب الحقيقيّة التي دفعت المستشرقين إلى التخلّي عن المسمى القديم لمؤتمرهم العالميّ[50].

2-  الالتزام بالموضوعيّة العلميّة
تعدّ مشكلة غياب «الموضوعيّة» من أكثر المشكلات التي تعتري كثيرًا من الكتابات العربيّة والإسلاميّة عن الاستشراق، والتي لا تتصف بـ«الموضوعيّة» في عرضها ونقدها عادة، وتتحوّل إلى ما يشبه الخطب الدينيّة الوعظيّة في الردّ على الفرضيّات والشبهات والافتراءات الاستشراقيّة. ما يجعلها تفتقد قيمتها وفائدتها؛ نظرًا لأنّها لا تعتمد على لغة العقل والفهم، وهي تلك اللغة التي يمكن مخاطبة الغرب وأصحاب الكتابات الاستشراقيّة بها.
وثمّة كثير من الكتابات العربيّة والإسلاميّة حول نقد الاستشراق والردّ على شبهاته وفرضيّاته، لكن لا يتقن أصحابها من الباحثين والدارسين العرب والمسلمين اللغة الأجنبيّة الأصليّة (الانجليزيّة، الفرنسيّة، الألمانيّة، العبريّة...) لهذه الكتابات الاستشراقيّة التي يقومون بالردّ عليها؛ بل يعتمدون على ترجماتها إلى العربيّة، وهو أمر يزيد من حالة الضعف العلميّ والموضوعيّ لهذه الكتابات.
أمّا فيما يتعلّق بكتابات الدكتور خليفة حسن حول الاستشراق، فقد كان من أهمّ سماتها هو التزامها بالموضوعيّة العلميّة، وعدم التحيّز والميل إلى التعصّب والانفعالات دينيّة وقوميّة أو حتى أيديولوجيّة من شأنها أن تخلّ من قيمة العمل العلميّ أو موضوعيّته وفائدته، بل كان واضحًا التزامه بكلّ جوانب الموضوعيّة والحياديّة.
من أبرز الأمثلة التي اتضحت من خلالها الموضوعيّة العلميّة للدكتور خليفة حسن في كتاباته حول الاستشراق، ما أورده في كتابه «آثار الفكر الاستشراقيّ في المجتمعات الإسلاميّة»، حيث لم يتوقّف الدكتور خليفة عند ذكر الآثار السلبية للاستشراق وعدّها وحصرها وحسب؛ بل إنّه تمكّن أيضًا من عدّ تلك الآثار الإيجابيّة للاستشراق وحصرها، اعتمادًا على معايير وأسس علميّة وموضوعيّة[51].
فقد دأبت الكتابات النقديّة العربيّة والإسلاميّة للاستشراق على تصويره -أي تصوير الاستشراق- على أنّه شرّ مستطير ولا يرجى من ورائه الخير أبدًا، وأنّه ليس له أيّ آثار أو جوانب إيجابيّة مهما كانت، ومع ذلك نجد الدكتور خليفة ينحاز للموضوعيّة العلميّة، برصده تلك الجوانب الإيجابيّة للاستشراق.
فقد أكّد الدكتور خليفة حسن في هذا الصدد، على أنّه لا شك في أنّ معظم المسلمين ينظرون للاستشراق نظرة سلبية جدًّا، نظرًا لارتباطه بالاستعمار وحركات التنصير كذلك، وهي نظرة يعتبرها الدكتور خليفة حقيقيّة، نظرًا لاستغلال الحركات المعادية والمستعمرة للعالمين العربيّ والإسلاميّ له لتحقيق أهدافها[52].
مع ذلك يرى الدكتور خليفة حسن، أنّه مع زوال الاستعمار في صورته التقليديّة، ومع استقلال الاستشراق عن التنصير بعد أن أصبحت للتنصير مؤسّساته المستقلّة ومراكزه الخاصّة وتزايد ارتباطه العضويّ بالكنيسة وحسب، فإنّه يمكن تكوين تصوّر أكثر إيجابيّة عن الاستشراق، بحيث يمكن رصد بعض الجوانب الإيجابيّة للاستشراق والتي أثّرت في المجتمعات الإسلاميّة دون قصد، مشيرًا إلى أنّه من أجل رصد هذه الجوانب الإيجابيّة للاستشراق، فإنّه من الضروريّ إجراء بعض العمليّات الفكريّة على الظاهرة الاستشراقيّة والتي من أهمّها عزل الاستشراق عن الاستعمار والتنصير، وتوسيع دائرة النظرة الإسلاميّة للاستشراق، علاوة على تركيز النظر لتأثير الاستشراق في المجتمعات الغربيّة[53].
كما رصد الدكتور محمد خليفة حسن، عددًا من الإيجابيّات للاستشراق، والتي لا يمكن -من وجهة نظر الباحث- أن يغفلها أو ينكرها أحد له رؤية موضوعيّة، فقد كان الفضل للاستشراق في اكتشاف وتحقيق كمٍّ كبير من المخطوطات الإسلاميّة وترجمة بعضها ونشره، وعمل فهارس لبعضها وترميم المتهالك منها وحفظه، إضافة إلى تصنيف المعاجم اللغويّة في لغات الشعوب الإسلاميّة والشرقيّة، وهي جميعًا أعمال ذات قيمة علميّة كبيرة ساعدت في إحداث نهضة علميّة في العالم الإسلاميّ[54].
كما ساعد المستشرقون في تطوير منهج نقديّ للبحث في التراث الإسلاميّ، نتج عنه إيقاظ الوعي المنهجيّ لدى المسلمين، كما كان للاستشراق دور كبير في تحديد مكانة التراث الإسلاميّ بين تراث الشعوب الأخرى، وذلك لاهتمامهم بالمنهج المقارن بين الإسلام والأديان الأخرى، إضافة لدور الاستشراق في تعريف الغرب بالإسلام وحضارته وتراثه من خلال ترجمة مئات الأعمال الإسلاميّة المهمّة للغات الأوروبيّة، كما أنّ الاستشراق دفع المسلمين إلى ضرورة تطوير نظامهم التعليميّ والعلميّ؛ مما أدّى لظهور نظم تعليميّة وتربويّة جديدة تعتمد على الوسائل العلميّة الحديثة[55]. 

3. الالتزام بالقضايا الدينيّة القوميّة
لم يمنع الالتزام بالموضوعيّة الذي ميّز كتابات الدكتور خليفة حسن عن الاستشراق، من التزامه أيضًا بالأبعاد والقضايا القوميّة العربيّة والدينيّة الإسلاميّة والدفاع عنها، وردّ الافتراءات الاستشراقيّة حولها.
تبدّى الالتزام بالبعد الدينيّ الإسلاميّ وقضاياه في كتاب الدكتور خليفة «آثار الفكر الاستشراقيّ في المجتمعات الإسلاميّة»؛ إذ تمّ تخصيص الجزء الأوّل من الكتاب الذي حمل عنوان «الآثار السلبيّة للفكر الاستشراقيّ في المجال الدينيّ»، لاستبيان المحاولات الاستشراقيّة الهدَّامة للدين الإسلاميّ، والتي من أهمّها محاولة إثارة الشكوك في العقيدة الإسلاميّة وتشويه صورة الإسلام في الغرب، والأخطر من ذلك هو التركيز والتعظيم من شأن الفرق الدينيّة الإسلاميّة، بما يساعد على إشاعة الفرقة والتشتت داخل المجتمعات الإسلاميّة الواحدة[56].
برز في هذا الصدد، تنبّه الدكتور خليفة حسن لأمر مهم جدًّا فيما يتعلّق بدراسة الاستشراق للقضايا الإسلاميّة، وهو أنّ هذه الدراسات الاستشراقيّة التي هدفت للتشكيك في الإسلام ومصادره الأساسيّة، أدّت إلى انشغال المسلمين بها بشكل أبعدهم عن الدراسة العلميّة المعمّقة والحقيقيّة لدينهم، وأصبحت معظم الدراسات الإسلاميّة ذات «صبغة دفاعيّة»، وابتعد المسلمون عن مناقشة قضايا دينهم الحقيقيّة، وعن التأمّل العميق في تراثهم الإسلاميّ[57].
كما لفت الدكتور خليفة حسن لحقيقة مهمّة جدًّا فيما يتعلّق بخطأ الدراسات الاستشراقيّة حول الإسلام ومصادره، فقد استخدم الاستشراق المناهج الغربيّة التي طبقها على العهدين القديم والجديد لنقد الإسلام، وفي هذا الصدد يرى الدكتور خليفة أنّ الاستشراق ارتكب عدّة أخطاء، الأول يكمن في أخذ منهج غربيّ صلح للتطبيق على اليهوديّة والنصرانيّة وتطبيقه بشكل متعسّف على الإسلام ومصادره، والخطأ الثاني يتضح في تجاهل طبيعة الأسباب التي أدّت إلى تطوّر المنهج النقديّ العقليّ في الغرب، وأنّ هذه الأسباب لم يكن لها وجود بالنسبة للإسلام. والخطأ الثالث هو عدم اعتراف الاستشراق بالاختلافات الجوهريّة بين الإسلام من جانب وبين اليهوديّة والنصرانيّة من جانب آخر، أمّا الخطأ الرابع والأخير، فيظهر في سوء استخدام المنهج العلميّ النقديّ من جانب المستشرقين في تطبيقهم إيّاه على الإسلام[58]. 
أمّا فيما يتعلّق بالقضايا والأبعاد القوميّة العربيّة في كتابات الدكتور خليفة حسن حول الاستشراق، فحقيقة الأمر أنّه برز في كثير من هذه الكتابات، لكن نقتطف منها ما أشار إليه الدكتور خليفة حسن  في بحثه بعنوان «المدرسة اليهوديّة في الاستشراق» حول هدف الاستشراق اليهوديّ بتحقيق الأطماع اليهوديّة والصهيونيّة في أرض فلسطين العربيّة، لافتًا إلى أنّ اليهود استفادوا فائدة عظيمة من الصلة التي ظهرت بين الاستشراق عامّة، وبين حركة الاستعمار العالميّ، فاتجه المستشرقون اليهود وغيرهم من المستشرقين النصارى إلى توظيف الاستشراق وتوجيه نشاطه لخدمة الهدف الصهيونيّ الأكبر، وهو إنشاء ما يُسمّى بالوطن القوميّ لليهود على أرض فلسطين[59].
ويحذر الدكتور خليفة في هذا الصدد من خطورة ما أسماه بتزييف التاريخ العربيّ والإسلاميّ في فلسطين الذي قام به المستشرقون اليهود، وهو ما هدف إلى تغيير الوجه العربيّ والإسلاميّ لفلسطين وتحقيق التهويد الكامل لها تاريخيًّا وواقعيًّا، بحيث لعب العمل العلميّ المزيّف دورًا مهمًّا جدًّا إلى جانب العمل السياسيّ والعسكريّ من أجل تسهيل عمليّة احتلال فلسطين واستيطانها من قبل المستوطنين اليهود وطرد سكّانها العرب الأصليّين، بحيث قدّم الاستشراق اليهوديّ المبرّر العلميّ والدفاع التاريخيّ للأعمال العسكريّة والسياسيّة الصهيونيّة واليهوديّة[60].
4 صكّ مصطلحات ومفاهيم علميّة جديدة
تميّزت كتابات الدكتور خليفة حسن حول الاستشراق بصكّ مصطلحات ومفاهيم علميّة جديدة تتسم بالعمق العلميّ والاحاطة المعرفيّة والوعي بكلّ ما يحمله الاستشراق من أبعاد فكريّة وأيديولوجيّة وأهداف سياسيّة واستعماريّة مختلفة، وهي المصطلحات والمفاهيم التي مثَّلت في حدّ ذاتها إضافة علميّة مهمّة لكلّ الباحثين في مجال الاستشراق يمكنهم الاعتماد عليها في الدراسة أو تتبّعها ودراستها وفحصها بشكل علميّ وموضوعيّ.
من أبرز تلك المصطلحات التي صكّها الدكتور خليفة حسن هو مصطلح «الاستشراقيّات» والذي ذكره في كتابه «آثار الفكر الاستشراقيّ في المجتمعات الإسلاميّة»، إذ أشار الدكتور خليفة حسن، إلى أنّ هذا المصطلح قد يبدو غريبًا لأوّل وهلة، لكنّه يعبّر تعبيرًا حقيقيًّا عن مصدر الغزو الفكريّ الحديث، ألا وهو الاستشراق، وإذا كان العلماء المسلمون قد استقرّوا على تسمية الغزو الفكريّ القديم بالإسرائيليّات، فيصحّ تسمية هذا الغزو الفكريّ الحديث بـ«الاستشراقيّات»، فهو مصطلح مناسب؛ لأنّ الاستشراق هو مصدر كلّ الأفكار الأجنبيّة المنحرفة والشبهات في الفكر الإسلاميّ الحديث[61].
وأضاف الدكتور خليفة حسن، أنّ هذا المصطلح له علاقة دلاليّة بمصطلح «الإسرائيليّات»؛ إذ تعدّ الاستشراقيّات بمثابة امتداد طبيعيّ للاسرائيليّات من حيث الدلالة، وفيها من الشموليّة ما يجعلها متضمّنة للاسرائيليّات. ومن هنا يجب تخليص الفكر الإسلاميّ من الاستشراقيّات، كما أنّه يجب تخليصه من الإسرائيليّات تمامًا[62].      
أما المصطلح أو المفهوم الآخر الذي دشّنه الدكتور خليفة حسن، فهو «المدرسة اليهوديّة في الاستشراق»، وذلك في بحث له يحمل نفس العنوان بمجلّة رسالة المشرق[63]، ويعدّ هذا -من وجهة نظر الباحث- مفهومًا أو مصطلحًا علميًّا جديدًا طرحه الدكتور خليفة سابقًا به غيره من المختصّين والباحثين في مجال الاستشراق.
فمن المعروف أنّ الكتابات الاستشراقيّة اليهوديّة كان يتمّ تصنيفها ضمن الكتابات والمدارس الاستشراقيّة الأوروبيّة الغربيّة المختلفة والمتنوّعة؛ إذ كان هناك مستشرقون يهود نشأوا ودرسوا في مؤسّسات وهيئات استشراقيّة أوروبيّة وغربيّة مختلفة، في حين أنّ الدكتور خليفة حسن، عدَّد كثيرًا من الخصائص والسمات، بل ورصد التطوّرات التاريخيّة لتلك الكتابات والمجهودات الاستشراقيّة اليهوديّة، مؤكّدًا أنّها تمثّل في حدّ ذاتها «مدرسة استشراقيّة» مختلفة عن المدارس الاستشراقيّة الأوروبيّة (الغربيّة)، وهي «المدرسة اليهوديّة في الاستشراق»[64].
ويمكن القول إنّه بإرساء الدكتور خليفة وصكّه لهذا المصطلح، فقد أرسى معه القواعد الأساسيّة لتخصّص جديد، سواء أكان في مجالي الدراسات الشرقيّة والدراسات اليهوديّة عمومًا أم في مجال الدراسات الاستشراقيّة خصوصًا؛ إذ أكّد بالبراهين والدلائل العلميّة وجود مدرسة استشراقيّة يهوديّة مستقلّة بذاتها، لها جذورها الضاربة في التاريخ وسماتها وخصائصها التي تميّزها، إضافة إلى أنّ لها موضوعاتها وأهدافها الخاصّة، وهو ما يعني أنّ هذه المدرسة من الممكن أن تمثّل تخصّصًا مستقلًّا بذاته يتبارى في دراسته المختصّين والباحثين المهتمّين بالدراسات الشرقيّة والدراسات الاستشراقيّة، وكذلك المهتمّين بالدراسات اليهوديّة بمختلف مجالاتها.
في ضوء ما سبق، فإنّه من الممكن القول إن إرساء الدكتور خليفة لهذا المصطلح هو بمثابة إيجاد لـ«حلقة وصل» مهمّة جدًّا كانت مفقودة بين الدراسات الاستشراقيّة والدراسات اليهوديّة، فغالبًا ما كانت الكتابات الاستشراقيّة اليهوديّة تُدرس في إطار تخصّصات أخرى بعيدة عن الدراسات اليهوديّة، كما أنّ الاستشراق كان وما زال من التخصّصات المهملة نسبيًّا والضئيلة في مجال الدراسات اليهوديّة. وتنحصر معظم الجهود البحثيّة المتعلّقة به من جانب الدارسين في مجال الدراسات اليهوديّة في نقد الترجمات العبريّة لمعاني القرآن الكريم وحسب.

قائمة المراجع
1- أحمد صلاح أحمد البهنسيّ، التعليقات والهوامش لترجمة «روبين» العبريّة معاني القرآن الكريم... دراسة نقديّة، رسالة ماجستير (غير منشورة)، جامعة القاهرة، يونيو 2012.
2- أحمد صلاح البهنسيّ، الاستشراق الإسرائيليّ، الإشكاليّة، السمات والأهداف، مجلّة الدراسات الشرقيّة، العدد 38، القاهرة 2007.
3- أحمد صلاح البهنسيّ، ترجمة معاني القرآن الكريم إلى العبريّة التاريخ الأهداف والإشكاليّات، بحث ألقي في المؤتمر العالميّ للقرآن الكريم، السودان، ديسمبر 2011.
4- إدوارد سعيد، الاستشراق، المعرفة، السلطة، الإنشاء، تعريب: كمال أبو ديب، مؤسّسة الأبحاث العربيّة، بيروت 1988.
5- إشكاليّة المنهج في دراسة الأديان - دراسات مهداة لمحمّد خليفة حسن، تحرير: أحمد محمود هويدي، دار الثقافة العربيّة، القاهرة، 2018.
6- محمد خليفة حسن: المدرسة اليهوديّة في الاستشراق، مجلّة رسالة المشرق، الأعداد 1-4، المجلد 12، القاهرة 2003.
7- محمد خليفة حسن: أزمة الاستشراق الحديث والمعاصر، جامعة الإمام محمّد بن سعود، الرياض 2000.
8- محمّد خليفة حسن: آثار الفكر الاستشراقيّ في المجتمعات الإسلاميّة، دار عين للبحوث والدراسات، القاهرة 1997.
9- محمّد خليفة حسن: ندوة الاستشراق اليهوديّ وتأثيره على الصراع العربيّ - الإسرائيلي، مركز بحوث الشرق الأوسط، جامعة عين شمس، بتاريخ  6/12/2005.
10- محمّد خليفة حسن، رؤية عربيّة في تاريخ الشرق الأدنى القديم وحضارته، بدون ناشر، القاهرة، 1995.
11- عبد الرحمن بدوي، موسوعة المستشرقين، دار العلم للملايين، بيروت، 1993.
12- موقع الأزهر الشريف على شبكة الإنترنت http://www.alazhr.com/books2/book.jsp?bid=g1b2&id=4.
13 - موقع مركز الدراسات الشرقية/ جامعة القاهرة على الرابط http://www.oriental.cu.edu.eg/faculty/index.htm

-------------------------------------
[1]    للمزيد حول تعريف الاستشراق، يمكنك العودة على سبيل المثال لـ: إدوارد سعيد، الاستشراق، المعرفة، السلطة، الانشاء، تعريب: كمال أبو ديب، مؤسّسة الأبحاث العربيّة، بيروت 1988، ص 37.
[2]    محمد خليفة حسن (د): ندوة الاستشراق اليهوديّ وتأثيره على الصراع العربيّ - الإسرائيليّ، مركز بحوث الشرق الأوسط، جامعة عين شمس، في 6/12/2005.
[3]    انظر: محمد خليفة حسن (د)، رؤية عربيّة في تاريخ الشرق الأدنى القديم وحضارته، بدون ناشر، القاهرة، 1995، ص 27.
[4]    إشكاليّة المنهج في دراسة الأديان... دراسات مهداة لمحمد خليفة حسن، تحرير: أحمد محمود هويدي، دار الثقافة العربيّة، القاهرة، 2018، ص 21.
[5]    أنظر السيرة العلميّة الذاتيّة للدكتور محمد خليفة حسن على موقع مركز الدراسات الشرقيّة/جامعة القاهرة على الرابط http://www.oriental.cu.edu.eg/faculty/ca02.htm
[6] إشكاليّة المنهج في دراسة الأديان... دراسات مهداة لمحمد خليفة حسن، المرجع السابق، ص 22.
[7]  المرجع نفسه، الصفحة نفسها.
[8]   أنظر موقع مركز الدراسات الشرقيّة/ جامعة القاهرة على الرابطhttp://www.oriental.cu.edu.eg/faculty/index.htm
[9]  إشكاليّة المنهج في دراسة الأديان... دراسات مهداة لمحمد خليفة حسن، المرجع السابق، ص 25.
[10]  المرجع نفسه، الصفحة نفسها.
[11]  إشكاليّة المنهج في دراسة الأديان... دراسات مهداة لمحمد خليفة حسن، المرجع السابق، ص 23.
[12]  محمد خليفة حسن: أزمة الاستشراق الحديث والمعاصر، جامعة الإمام محمد بن سعود، الرياض 2000.
[13]  للمزيد حول إشكاليّة تعريف مصطلح استشراق، يمكنك العودة على سبيل المثال إلى: أحمد صلاح البهنسيّ، الاستشراق الإسرائيليّ، الإشكاليّة، السمات والأهداف، مجلّة الدراسات الشرقيّة، العدد 38، القاهرة 2007، ص 458-459.
[14]  محمد خليفة حسن: أزمة الاستشراق الحديث والمعاصر، مرجع سابق، ص 21-32.
[15]  محمد خليفة حسن: أزمة الاستشراق الحديث والمعاصر، مرجع سابق، ص 46-47.
[16]  المرجع نفسه، ص 51.
[17]  المرجع نفسه، ص 137-141.
[18]  المرجع نفسه، ص 194.
[19]  محمد خليفة حسن: أزمة الاستشراق الحديث والمعاصر، مرجع سابق، ص 255-269.
[20]  المرجع نفسه، ص 283.
[21]  المرجع نفسه، ص 298.
[22]  محمد خليفة حسن: آثار الفكر الاستشراقيّ في المجتمعات الإسلاميّة، دار عين للبحوث والدراسات، القاهرة 1997، ص 11-33.
[23]  محمد خليفة حسن: آثار الفكر الاستشراقيّ في المجتمعات الإسلاميّة، مرجع سابق، ص 21-42.
[24]  المرجع نفسه، ص 63-65.
[25]  المرجع نفسه، ص 119-120.
[26]  المرجع نفسه، ص 101.
[27]  انظر: أحمد صلاح أحمد البهنسيّ، التعليقات والهوامش لترجمة «روبين» العبريّة لمعاني القرآن الكريم. دراسة نقديّة، رسالة ماجستير(غير منشورة)، جامعة القاهرة، يونيو 2012، ص 74.
[28]  محمد خليفة حسن: آثار الفكر الاستشراقيّ في المجتمعات الإسلاميّة، مرجع سابق، ص 102. 
[29]  المرجع نفسه، ص 103.
[30]  للمزيد حول هذا الموضوع، انظر: موقع الأزهر الشريف على شبكة الانترنت http://www.alazhr.com/books2/book.jsp?bid=g1b2&id=4، والذي خصّص جزءًا مميّزًا عن الردود على الفرضيّات الخاصّة بتدوين وجمع القرآن الكريم، تحت اسم «شبهات المشكّكين».
[31]  محمد خليفة حسن: آثار الفكر الاستشراقيّ في المجتمعات الإسلاميّة، مرجع سابق، ص 135.
[32]  المرجع نفسه، ص 129-131.
[33]  المرجع نفسه، ص 141.
[34]  المرجع نفسه، ص 144.
[35]  انظر: محمد خليفة حسن(د): المدرسة اليهوديّة في الاستشراق، مجلّة رسالة المشرق، الأعداد 1-4، المجلد 12، القاهرة 2003.
[36]  محمد خليفة حسن (د): المدرسة اليهوديّة في الاستشراق، مرجع سابق، ص 29-53.
[37]  المرجع نفسه.
[38]  المرجع نفسه، ص 13.
[39]  أحمد صلاح البهنسي، ترجمة معاني القرآن الكريم إلى العبرية التاريخ الأهداف والإشكاليّات، بحث ألقي في المؤتمر العالمي للقرآن الكريم، السودان، ديسمبر 2011، ص 11.
[40]  محمد خليفة حسن (د): المدرسة اليهوديّة في الاستشراق، مرجع سابق، ص 19-24.
[41]  المرجع نفسه، ص 25.
[42]  المرجع نفسه، ص 78-79.
[43]  محمد خليفة حسن: المدرسة اليهوديّة في الاستشراق، مرجع سابق.
[44]  محمد خليفة حسن: أزمة الاستشراق الحديث والمعاصر، مرجع سابق.
[45]  المرجع نفسه، ص 70.
[46]  المرجع نفسه، ص 70-73.
[47]  محمد خليفة حسن: أزمة الاستشراق الحديث والمعاصر، مرجع سابق، ص 122-123.
[48]  كلود كاهن: مستشرق فرنسي متخصّص في تاريخ الشرق الأدنى في فترة الحروب الصليبيّة، وله كثير من الإسهامات العلميّة من أهمّها مقالاته في دائرة المعارف الإسلاميّة (للمزيد انظر: عبد الرحمن بدوي، موسوعة المستشرقين، دار العلم للملايين، بيروت، 1993، ص 212-217).
[49]  محمد خليفة حسن: أزمة الاستشراق الحديث والمعاصر، مرجع سابق، ص 123-125.
[50]  المرجع نفسه، ص 127.
[51]  محمد خليفة حسن: آثار الفكر الاستشراقيّ في المجتمعات الإسلاميّة، مرجع سابق، ص 129-136.
[52]  المرجع نفسه، ص 129-136.
[53]  محمد خليفة حسن: آثار الفكر الاستشراقيّ في المجتمعات الإسلاميّة، مرجع سابق، ص 129-130.
[54]  المرجع نفسه، ص 137.
[55]  المرجع نفسه، ص 137-138.
[56]  محمد خليفة حسن: آثار الفكر الاستشراقيّ في المجتمعات الإسلاميّة، مرجع سابق، ص 11-31.
[57]  المرجع نفسه، ص 32.
[58]  المرجع نفسه، ص 17-18.
[59]  محمد خليفة حسن: المدرسة اليهوديّة في الاستشراق، مرجع سابق، ص 45.
[60]  محمد خليفة حسن: المدرسة اليهوديّة في الاستشراق، مرجع سابق، ص 45-47.
[61]  محمد خليفة حسن: آثار الفكر الاستشراقيّ في المجتمعات الإسلاميّة، مرجع سابق، ص 144.
[62]  المرجع نفسه، ص 144.
[63]  محمد خليفة حسن: المدرسة اليهوديّة في الاستشراق، مرجع سابق.
[64]  محمد خليفة حسن: المدرسة اليهوديّة في الاستشراق، مرجع سابق، ص 5-8.