البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

المرجعية الهندية للتصوف الإسلامي في دراسات المستشرقين

الباحث :  د.خالد إبراهيم المحجوبي
اسم المجلة :  دراسات استشراقية
العدد :  21
السنة :  شتاء 2020م / 1441هـ
تاريخ إضافة البحث :  April / 11 / 2020
عدد زيارات البحث :  1241
تحميل  ( 374.234 KB )
مدخل:
من خلال حفريات وجدت في حوض نهر السند، اتضح شهود تلك المنطقة حضارةً متقدمةً منذ القرن التاسع والعشرين قبل الميلاد (2900 ق.م). وكان أصحاب تلك الحضارة هم سكانَ الهند الأصليين المسمَّيْن (الدرافيين)، وذلك ضمن منطقةٍ منعزلةٍ جغرافيًّا، وقد شهدت حوالي سنة (1500 ق.م) غزوًا من الآتين من آسيا الصغرى، وإيران ممن كانت حياتهم قائمةً على الرعي والغزو. وشكلوا في الهند جملةً من الممالك المتنافسة، وكانت لغتهم (السنسكريتية)، وعند قومهم كانت الديانة الطوطمية سائدةً في شبه جزيرة الهند.
وقد سمي العصر الذي شهد الوجود الآري بعصر الفيدا، وتوجهت الديانة الفيدية الأولى إلى تقديس المظاهر الطبيعية كالشمس والنار، ثم شهدت تطورًا من خلال جهود البراهمة وهم الكهنة المشرفون على أداء طقوس هذه الديانة .
وخلال القرن السادس ق.م ظهرت البوذية في مواجهة ممارسات البراهمة وجمودهم الطقوسي وترسيخهم لنظام الطوائف والطبقات.
ثم شهدت الهند غزو الإسكندر سنة (325 ق.م)، ولم يدم البقاء للمقدونيين فيها طويلًا حتى طردهم (شاندراجوبتا) سنة (317 ق.م)[1].
وفي عهد المملكة الأموية تمكن المسلمون من دخول الهند سنة 93 هـ، وصارت بلاد السند ولايةً أمويةً تابعةً لدمشق، وقد استقوى الاتصال مع الهند بعد أن اتخذ المسلمون موانئ (الملتان) و(الديبل)، واعتمدوا عليها بعد الإزعاج الذي أصاب موانئ البحر المتوسط بسبب المضايقات الرومانية في تلك المنطقة[2].

بوادر التواصل بين الثقافة الهندية والإسلامية:
وقد أمكن الاتصال بثقافة الهند منذ بداية النشاط الترجمي في عهد الخليفة المنصور[3].
كما قد أتيح لبعض الهنود المميزين التوغل في بناء المملكة العباسية من خلال مناصبَ هامةٍ، ومن ذلك تولي (ابن شاهك السندي) منصب رئيس الحرس بعهد (هارون الرشيد) وكذا كان أمينًا لسره. كذلك تولى (ابن يحي الحرشي) في عهد (هارون) ولاية اليمامة والبحرين وعمان[4]. 
تنطلق أغلب الدراسات الاستشراقية من فرضيةٍ تبناها أكثر الدارسين للإسلام والتصوف، وهي أن التصوف الإسلامي قد نشأ وتطور بناءً على اقتباساتٍ وتأثُّراتٍ من مصادرَ خارجيةٍ، من أهمها المصدر الهندي الماثل في الفلسفة الهندية والممارسات الشائعة بين زهاد الهنود. وما يستحق الإشارة هنا هو التنبيه إلى أن كثيرًا من المستشرقين يميزون في دراساتهم بين الزهد وبين التصوف. والتمييز بين التصوف والزهد هو ما تنحو إليه توضيحه الدراسات الاستشراقية المعاصرة بعامةٍ، ومن ذلك ما نجده عند (نيكلسون) حيث جعل الزهد ناشئًا عن عوامل «قوية داخل الإسلام في القرن الأول) [أما التصوف فنشأ عن] عواملَ خارجيةٍ ابتداءً من القرن الثالث»[5] وهذا ما يؤكد عليه (آلفرد بل) أيضًا في قوله: إن التصوف تلا ظهور الزهد بداية القرن الثاني.
لقد لحظ بعض المستشرقين، في سياق بحثهم في مرجعية التصوف، عدم خلوصه من التأثيرات الهندية، وقد كان المستشرق (ثولك) (THOLCK) أول من نبّه إلي وجود تلك المؤثرات في التصوف الإسلامي.[6]
ويذهب المستشرق (ماكس هورتن) إلى أن تصوف القرن الثالث الهجري كان مشبعًا بالأفكار الهندية أو ما عبر عنه بالخصائص السنسكريتية، كذلك (هيرتمان) الذي جعل من أدلة التأثير الهندي اتخاذ السبح والمخلاة من طرف بعض زهاد المسلمين [7].
وقد قام (نيكلسون) بتوسعة مجال التأثير الهندي فقال بشموله للناحيتين «النظرية والعملية على السواء» [8]، وأنّه لم يكن جزئيًّا إنما كان حسب تعبيره كبيرًا[9]. كما أنه لم يستبعد وقوع ذلك التأثير بطريقٍ مباشرٍ، أي بالتلقي الشخصي بواسطة رهبان البوذية حيث يرى أن «لهم الأثر الكبير في تشكيل الحياة الصوفية وما وصلت إليه من تطور»[10].
لقد كان (نيكلسون)  بعيدًا عن الدقة عندما ما قال بشمول التأثير الهندي للجانب العملي في التصوف فضلًا عن النظري، لا سيما عند استدلاله باستعمال زهاد المسلمين للسبحة، وتطبيقهم عملية حبس الأنفاس المعروفة عند الهنود.
إن استعمال السبحة، وحبس الأنفاس ليس مما انصبغت به التجربة الصوفية حتى يعدَّا عمليًّا من معالمها لذلك فتمثيل (نيكلسون) بهذين المظهرين لا قيمة له في التدليل على تحقيق  التأثير الهندي في المستوى العملي للتصوف.
إن (نيكلسون) هنا يقع في ما سبق أن وقع فيه  (جولد زيهر) و(ألفرد بل) حين قالا بحدوث التأثير الصوفي في العهد الأول على مستواه العملي من خلال أنموذج الزهد المسيحي، الذي عدّاه موجّهًا للسلوك الصوفي في بدايات نشأته وهذا الرأي فيه تغييبٌ للدور الذي قامت به الموجهات الداخلية الإسلامية المتشكلة في سلوكيات النبي وزهاد الصحابة، علاوةً عما حوته النصوص المقدسة من دعوات للصفاء والزهادة، بقدرٍ كان يغني عن أي ارتفاقٍ بمصدرٍ خارجيٍّ مسيحيٍّ، أو بوذيٍّ في ذلك الوقت.
أما ما يقرره (نيكلسون) من حدوث التأثير في المستوى النظري فهو قولٌ فيه قوةٌ، وله وجاهةٌ لما يتمتع به من شواهدَ تُرسخّه، وذلك من خلال تبني بعض متصوفة المسلمين -ضمن التصوف النظري- نظرياتٍ ثابتةً في التراث الهندي ولا شاهد لها في النصوص الإسلامية من كل وجهٍ قويمٍ.
وقد كان (جولد زيهر) من أهم من رسخ وقوى القول المؤكد للتأثير الهندي في التصوف الإسلامي وبخاصةٍ في عنصر الزهد، ومما بنى عليه (جولد زيهر) رأيه هذا ما شاهده من اتفاقٍ بين ما عرفه صوفية المسلمين من تنظيم لنظام الطريق الصوفي الذي يسلكه المريد، وبين ما وجد من قبل في البوذية حيث يتخذ السالك فيها طريقًا يمر بمراحلَ ثمانيةٍ مشابهةٍ لما عرف عند صوفية المسلمين [11] مما اصطلح على تسميته بالمقامات.
ولا يتردد في وصف المؤثرات الهندية بأنها «ذات أثرٍ نافذٍ»[12]ولا جرم في أن أثرها كان نافذًا في طروح التصوف النظري .
لكننا سنلحظ بوضوحٍ انحراف رأيه في نظرته للزهد الإسلامي بوصفه كاشفًا عن «تسرب المثل الأعلى للحياة عند الهنود»[13]  ولعل نقطة الضعف الأظهر في كلام (جولد زيهر) ماثلةٌ في طريقته الاستدلالية التي تنمّ عن خللٍ معياريٍّ في الأحكام، بمعنى سوء تقييم القيمة البرهانية في الأدلة، وهذا ما يمكن أن نلمسه في وصفه لتشابه قصتيْ (اأبن أدهم)  و(بوذا) بأنه (دليلٌ قاطعٌ) على تأثير التصوف الهندي . 

نظرية الفناء:
إن نظرية (الفناء) هي أهم ما دخل من طرف التراث الهندي، وليس يمكننا إنكار مرجعيتها الهندية، على الرغم من محاولات المتصوفة كسوتها بأكسيةٍ إسلاميةٍ وهي محاولات أول ما تتصف به أنها غير موفقة.
إن المعلم الأساس للفناء هو زوال الإحساس بالمدركات الحسية، وهو ما عبّر عنه (الجرجاني) في تعريف الفناء بأنه «عدم الإحساس بعالم الملك والملكوت بالاستغراق في عظمة الباري ومشاهدة الحق»[14].
وقد وجدت نظرية الفناء بوضوحٍ في التصوف الهندي القديم [15] حيث نجدها ماثلةً في طريقة تسمى (الباكتي) وتدعى طريقة الحب، يبدأ فيها الصوفي برحلته عبر مراتب الوصول باختيار أحد مظاهر الإله يراه مثلًا أعلى له، ثم يركّز حبه وتركيزه في ذلك المظهر الذي اصطفاه وانغمس فيه، ثم يسمو شيئًا فشيئًا حتى ينكشف له الإله المشتمل على كل المظاهر الإلهية، وعند هذه المرحلة تغلب تلك الانكشافات المظهرية ما عداها، فتحجب عنه العالم الظاهري والمحسوسات الخارجية في غيبوبةٍ شبهِ تامةٍ، منع من تمامها بقاء العقل في حالةٍ يدرك بها العلم الباطني، ويستدل على ذلك بإحساس الصوفي بمتعة الاتحاد مع الإله، ثم يمكن الارتقاء إلى مرحلةٍ أعلى تسمي (سامادي) وهي الغيبوبة التامة عند قطع تيار الفكر والذهول عن الذات ظاهرًا وباطنًا، عندها يكون الصوفي الهندي قد تحقق له الفناء[16].
وقد وجدت هذه النظرية لها مكانًا في التصوف الإسلامي من لدن  (البسطامي)  الذي وجدت بعض تعابيره حرفيًّا في اللغة السنسكريتية مثل قوله «تكون أنت ذاك» [17]، كذلك كان  (الجنيد البغدادي) من أوائل من تبنى هذه النظرية لا على النحو الذي صدرت به عن (البسطامي)، حيث إن (الجنيد) لم تظهر عنده ابتداءً وإنشاءً إنما جاءت من باب الاقتضاء وأعني بباب الاقتضاء أن توجيهاته وشروحه لشطحات (البسطامي) اقتضت أن يكون هو أيضًا قابلًا لها، معتقدًا ما صدر منها وذلك ما لا يعسر القول به عند مطالعة كلام (الجنيد) في تعريفه للفناء، حيث سيبدو مدى الحضور الهندي، فهو يقول عن الفناء: إنه «ذهاب القلب عن حس المحسوسات بمشاهدة ما شاهد ثم  يذهب عن ذهابه... يعني قد غابت المحاضر وتلفت الأشياء فليس شيءٌ يوجد، ولا يُحسُّ بشيءٍ يفقد»[18].
ويمكن بسهولةٍ تامةٍ أن نلمح حضور طريقة (الباكتى) الهندية في كلام (الجنيد) السابق الذي يكاد يكون شرحًا لها، لا سيما في ذكر عنصر غياب المحسوسات الذي يعبّر عنه في (الباكتي)  بانحجاب العالم الظاهري، إن ذلك يحصل عند الهنود عند انكشاف الإله المشتمل على كل مظاهر الإلهية، وهذا المعنى هو ذاته الذي عبر عنه (الشبلي) ببدوّ الشاهد، عندما سئل: متى يكون العارف بمشهدٍ من الحق؟ قال:إذا بدا الشاهد وفني الشواهد، وذهب الحواسّ، واضمحل الإحساس)[19]، وهذا ما عبر عنه (ابن القيم)  بتسميته بـ«الفناء عن شهود السوى»[20])، ولدفع ما قد يحدث من التباسٍ مصطلحيٍّ يجب أن تنتبه إلى أن الفناء قد حل بمعناه في قوالبَ لفظيةٍ متعددةٍ ضمن استعمالات المتصوفة المسلمين، من ثم نجد (ابن عربي) يسميه أحيانا بالصعق[21])  كما يسوّغ (الغزالي)  أن يسمى بالاتحاد [22])  ويجعل من علاقاته بلوغ الحال التي يشطح صاحبها فيها[23]) .
ونجد من أساميه عند (الجرجاني)  اسم المحو[24]  ويورد  (ابن القيم) من أساميه «السُّكْر، والمحو، والاصطلام، والجمع» [25] .
وقد تميز الفناء عند المتصوفة المسلمين بعنصرٍ لا نجد له مكانًا في النظرية الهندية وهو ما سموه بالبقاء وهو «الحال التي يتحقق فيها الصوفي من اتحاده الذاتي بالحق... إذا تم الفناء على وجهه الأكمل). وليس يرقى هذا التمييز غير المؤثر إلى درجةٍ تدفع ظاهر الأثر الهندي في نظرية الفناء، على الشكل الذي برز فيه طروح التصوف النظري.

-------------------------------
[1] انظر للتوسع (قصة الحضارة) ديورانت 3/ 30 وبعدها و(الحضارات) لبيب عبد الساتر ص 304 ـ 305 و(التيارات الحضارية في شبه القارة الهندية) إسماعيل العربي ص 11 وما بعدها و(عالم الأديان بين الأسطورة والحقيقة) فوزي محمد حميد ص 171 ـ 172 .
[2] ينظر (التيارات الحضارية) إسماعيل العربي ص 29 .
[3] انظر (قراءاتٌ وتحليلاتٌ في الفلسفة العربية الإسلامية) محمد مرحبا ص 301 .
[4] ينظر مقدمة الدكتور أبي العلا عفيفي لكتاب (في التصوف الإسلامي وتاريخه) لنيكلسون ص (هـ) .
[5] (في التصوف الإسلامي وتاريخه) ص 45 ـ 48 ـ 113 ونظر (العقيدة والشريعة في الإسلام) جولد زيهر، ترجمة محمد يوسف موسى وآخرين، دار الرائد العربي، بيروت مصورة عن طبعة دار الكتاب المصري 1946 . ص 151 .
[6] ينظر (دائرة المعارف الإسلامية) مادة ـ تصوف ـ ماسينيون 9/ 237 .
[7] ينظر (التيارات الحضارية ...) إسماعيل العربي ص 32 ـ 33 .
[8] ينظر (مقدمة عفيفي لكتاب نيكلسون (في التصوف الإسلامي ...) ص (ح) وص (ط)
[9] ينظر (في التصوف الإسلامي وتاريخه) نيكلسون ص 62 .
[10] ينظر (الصوفية ولإسلام) نيكلسون ص 21 وما بعدها .
[11] ينظر (في التصوف الإسلامي) نيكلسون ص 62 .
[12] انظر (العقيدة والشريعة في الإسلام) جولد زيهر ص 145 ـ 146 .
[13] نفسه ص 141 ـ 142 ـ 143 .
[14] ينظر (التعريفات) الجرجاني ص 192 وقد يعرف الفناء بتعريفٍ أخلاقيٍّ هو«سقوط الأوصاف المذموم» ينظر المصدر نفسه ص 192 . 
(*) استجب التفرقة بين التصوف الهندي القديم وبين المتاخر وأعني بالقديم ما حوته الفيدنتا، والمتأخر ما طرحته البوذية.
[15] ينظر (التصوف المقارن) محمد غلاب مكتبة هضة مصر ـ القاهرة ط(1) ص 144 وما يتلوها .
[16] ينظر (الإسلام والتيارات الحضارية) إسماعيل العربي ص95 وانظر شطحاته التي سجلها الطوسي مشفوعةً بتوجهات الجنيد في (اللمع) ص459 وبعدها
[17] ينظر (اللمع) للطوسي ص 468 .
[18] ينظر (التعرف لمذهب أهل التصوف) الكلاباذي ص169 وهذا ما يجعله ابن القيم في النوع المذموم من الفناء خلاف النوع المحمود الذي هو الفناء عما سوى الله ينظر مدراج السالكين...) ابن القيم 1/174 ـ175 وينظر (المعجم الفلسفي) محمود قاسم وآخرين  ص 141 .
[19] (مدارج السالكين) ابن القيم 1/173 وأورد قبل هذا ما سماه الفناء عن وجود السوى ووصفة بأنه قول الملاحدة وأهل الوحدة انظر 1/ 173 .
[20]ينظر (الفتوحات المكية) ابن عربي 2/ 130 وقد فسر هذا المصطلح بأنه «الفناء عند التجلي الإلهي» .
[21] ينظر (مشكاة النوار) الغزالي تحقيق بديع السيد اللحام دار قتيبة دمشق وبيروت ط(1) 1990 ، ص57 ويقول عنه أنه «بلسان الحقيقة توحيد»
[22]نفسه ص 54 .
[23] حيث عرف الفناء بذهاب الصفات المذمومة من القلب وقال «وسموا ذهاب المذمونة بالفناء والمحو وحصول المحمودة بالإثبات والبقاء» انظر (التعريفات) الجرجاني ص 202 .
[24] (مدارج السالكين) ابن القيم) 1/ 174 .
[25] انظر تعليقات الدكتور أبي العلا عفيفي على كتاب (فصوص الحكم) لابن عربي 2/ 72 .