العدد 38

العدد 38

محتويات العدد :

■ الغرب يُشرِّق؛ التلاقح بين الاستشراق والاستعمار

حسن أحمد الهادي

■ مآخذ تتعلّق بسلامة منهج البحث عند ريجي بلاشير

عبد الله عمّار الحموي

■ الغلوُّ والتَّقيَّة عند الشِّيعة؛  تحليل ونقد رؤى المستشرقين

السيد محمد موسوي مقدِّم - علي راد - علي حسن نيا

■ نقد ومناقشة مقالة العصمة من دائرة معارف ليدن للقرآن في ضوء آراء الشِّيعة ومبانيهم

نرجس جواندل- بي بي سادات رضي بهابادي

■ أثر الاستشراق اليهوديِّ في الدَّرس اللُّغوي الحديث

أ.د. محمد رباع ـ فريد نصار

■ البشر والحجر في الإيالة التُّونسيَّة

خالد رمضاني

■ المستشرقون الألمان وأعلام المذهب الأشعري

أ. محمد مجدي السّيد مصباح - د. عادل سالم عطيَّة جاد الله

■ القرآن في الفكر الإستشراقي المعاصر وهم الاستشراق وضلالاته في موسوعة ليدن

نعيم تلحوق

■ ترجمة ملخصات المحتوى

 

 

الافتتاحية

بسم الله الرحمن الرحيم

الغرب يُشرِّق

 التلاقح بين الاستشراق والاستعمار

إذا كان الاستشراق (Orientalism) في أصل منطلقه، وهويَّته يعبِّر عن توجُّه فكري يُعنى بـ«علم الشَّرق، أو علم العالم الشَّرقي»[1]، ويتغيَّ الدِّراسة، والبحث في المكوِّنات الحضارية للشَّرق؛ والَّتي شملت حضارته، وأديانه، وآدابه، ولغاته، وثقافته، إذ هو «ذلك العلم الَّذي تناول المجتمعات الشَّرقيَّة بالدِّراسة، والتَّحليل من قبل علماء الغرب»[2]. فإنَّ حركة الاستشراق قد تطوَّرت تدريجيًّا من توجُّه فكري معرفي عامٍّ، إلى حركة ارتبطت في الكثير، بل في أغلب مشاريعها، وأهدافها بدول الاستعمار، وأهدافها الاستيلائيَّة على مقدَّرات الشُّعوب ومواردها؛ ولا سيَّما عندما دُرِست من قبل الأكاديميِّين بخلفيَّات كنسيَّة في أروقة الجامعات، والمعاهد العلميَّة بصورة أكثر عمقًا ومنهجيَّة.

فقد حجزت الدِّراسات الاستشراقيَّة مكانةً استثنائيَّة لها في سلَّم الأولويَّات في مشاريع دول الاستعمار السَّاعية إلى الهيمنة على هذا القسم من العالم، أعني الشَّرق. ولهذه الغاية فقد عمد جماعة من كبار الباحثين، والعلماء في العالم الغربي إلى إعطاء الدِّراسات المعنيَّة بالشَّرق -بمعناها الواسع- أولويَّة، وأهمِّيَّة استثنائيَّة، وللغاية نفسِها أُدخلت إلى المناهج الأكاديميَّة، وأسَّست مراكز الأبحاث العلميَّة المتخصِّصة. ولتحقيق هذه الغاية فقد أقرَّ مؤتمر فيينا مشروع تعلُّم اللُّغات الشَّرقيَّة في الجامعات الخمس الكبرى في الغرب حينها، وهي: «باريس، وأكسفورد، وبولوينا، وسلمنكا، وجامعة الإدارة المركزيَّة للبابا»، ليضطلع الأساتذة فيها بمهمَّة تعليم الطُّلَّاب اللُّغات الشَّرقيَّة من قبيل: اللُّغة العربيَّة، والعبريَّة، واليونانيَّة، والكلدانيَّة وما إلى ذلك[3].

ومع التَّسليم بأنَّ المنطلقات، والغايات الأولى للاستشراق قد ترتبط بأهداف بحثيَّة، وعلميَّة نزيهة، وهو ما تحقَّق على يد نفرٍ من المستشرقين، دفعهم حبُّ الاستطلاع، والانبهار بالإسلام، وبتعاليمه إلى أن يبحثوا فيه، ويكتبوا عنه متجرِّدين من الهوى، والأغراض، والأحكام الجاهزة، وتذكر لنا المصادر المختلفة العدد الكبير ممَّن اهتدى، وكتب عن الدِّين الإسلاميِّ، والدِّيانات الأخرى كتاباتٍ كانت في تراجع بعض المستشرقين عن أهدافهم المرسومة مسبقًا[4].

وبالمقابل لم تغب غايات الاستشراق، وأهدافه عن نصوص، ومشاريع أعلام المستشرقين، وأرباب الكنيسة، والَّتي ارتبط عنوانها العاُّم بطابع استعماري استعلائي، ولم تفرِّق بين الاستعمار السِّياسي، والأمني، والمعرفي، والثَّقافي، والاقتصادي في المراحل التَّاريخيَّة كلِّها، وعلى امتداد الجغرافيا الموضوعة ضمن أهداف الاستعمار. وليس من الغلوِّ القول إنَّ الشَّرق الَّذي اهتمَّ الغرب بدراسته، والتَّخصُّص في ثقافته، وتراثه، ليس هو الشَّرق الجغرافي الطَّبيعي، وإنَّما هو «الشَّرق الهويَّة»، وهو محور ما استهدفه علم الاستشراق، ومصدر العناية، والاهتمام، فهدف الاستشراق هو معرفة «الشَّرق الهويَّة، والتَّاريخ» المتمثِّل في الإسلام، والمسلمين، وأنَّ الاستشراق هو إسقاط من الغرب على الشَّرق بهدف السَّيطرة عليه[5].

فإنَّنا نقرأ في الكثير من المصادر أنَّه عندما تطلَّعت الدُّول الأوروبيَّة إلى استعمار العالم الشَّرقي، احتاج هؤلاء إلى الكثير من المعلومات الَّتي تساعدهم في تحقيق تطلُّعاتهم الاستعماريَّة، وقد وجدوا في المستشرقين والدراسات قوالب جاهزةً ذات علاقةٍ قويَّةٍ بالشَّرق، وعلى درايةٍ كافيةٍ بالكثير من المعلومات الَّتي تمهِّد لحركة الاستعمار، ومن هنا تمَّ التَّلاقح بين الاستشراق، والاستعمار، ودخل المستشرقون في مرحلةٍ جديدةٍ هي المرحلة الاستعماريَّة[6].

وبغض النَّظر عن التَّقسيمات الَّتي اعتمدها الباحثون في مراحل الاستشراق[7]؛ بين استشراق استعماري، الاستشراق ما بعد الاستعماري، الاستشراق الجديد
(New Orientalism) ، وغيرها من أشكال التَّقسيم. فإنَّ كلَّ مرحلة تعبِّر عن هويَّة، وخلفيَّات الدُّول القائمة عليها، وفكر روَّادها من العلماء، والباحثين، والقائمين عليها، والأنظمة الاستعماريَّة الَّتي توجِّه الأمور وفق الرُّؤية الاستراتيجيَّة الَّتي تحقِّق مصالحها، وأهدافها في هذا العالم، والَّتي عبَّر عنها  المستشرق المسيحي يوهان فوك، بقوله: «عندما يعمد الغرب إلى التَّعرُّف إلى الشَّرق «الاستشراق» بدافع استعادة المستعمرات، وإعادة التَّمدُّد المسيحي، فمن الطَّبيعي ألَّا تكون دراسته هذه واقعيَّة، أو حياديَّة. وإنَّما الهدف، والغاية منها هي العثور على الخواصر الرَّخوة في الشَّرق، ومن الطَّبيعي أن لا تكون هذه الغاية علميَّة، ولا واقعيَّة. وفي مثل هذه الظُّروف المتشنِّجة لن تقوم معرفة كلِّ واحد من الفريقين للآخر دقيقة، ولا حقيقيَّة. لقد كان الدَّافع التَّبشيري، وتنصير المجتمعات الشَّرقيَّة أهمَّ عنصر لترجمة القرآن، والكتب العربيَّة. فكلَّما استمرَّت الحروب العسكريَّة، والقتاليَّة ضدَّ المسلمين، لن تفشل في تحقيق النَّصر، وتغيير الدِّين، وإضعاف الإيمان فحسب، بل كان يُشاهد تأثُّر الكثير من المقاتلين الصَّليبيِّين بالحضارة، والفكر الإسلامي أيضًا»[8].

بل إنَّ النَّشاط الاستشراقي -كما ذكر الباحثون في تاريخه وأدواره-  إنَّما هو متمِّم لتحقيق الأهداف النِّهائيَّة من الحملات، والحروب الصَّليبيَّة؛ إذ إنَّ الحرب قد يمكِّنها أن تغير القوى، فتحلُّ السُّلطة الكافرة محلَّ السُّلطة الإسلاميَّة، في حين أنَّ المخطَّطات، والمشاريع الثَّقافيَّة الَّتي يضطلع بها المستشرقون، تؤدِّي إلى إخراج الفكر الإسلامي حتَّى من أذهان المسلمين، لتحلَّ محلَّه الأفكار، والقيم الغربيَّة[9].

ومن المعلوم أنَّ أشكال، وصور التَّعاون، والارتباط بين المستشرقين، والدُّول الاستعماريَّة تعدَّدت، وتنوَّعت، منها لا على سبيل الحصر تقديم معلوماتٍ موسَّعة، ومفصَّلة عن الدُّول الَّتي رغبت الدُّول الغربيَّة في استعمـارها، والاستيلاء على ثرواتها، وخيراتها، تشمل عناصر القوَّة، والضُّعف، والمشارب الدِّينيَّة للشُّعوب، والقراءات الديموغرافيا، والاختلافات المذهبيَّة الدِّينيَّة، والقوميَّة، والعشائريَّة، كلُّ ذلك شكَّل مادَّة دسمة للمستعمرين للبناء عليه في خطط، ومشاريع الهيمنة، والاستعمار.

وبهذا يتبيَّن لنا وجهة الاستشراق الحقيقيَّة، وجانب من أثر عمليَّة التَّلاقح بين الاستشراق والاستعمار، وكيف شرَّق الغرب منذ القدم، وما زال مشرِّقًا، وإن تبدَّلت الأدوات، والأساليب، والأولويَّات.

والاستشراق في الحقيقة، والواقع خادمٌ لمشاريعَ، وأفكار،ٍ وسياساتٍ دينيَّةٍ، وتبشيريَّةٍ، واستعماريَّةٍ، وأنَّ هذه المشاريع لم تكن يومًا بمعزلٍ عن المواقف الأيديولوجيَّة الَّتي تسرَّبت إلى تلك المنهجيَّة؛ وذلك لأنَّ المستشرق يبقى متأثِّرًا ببيئته العلميَّة، والحواضن الفكريَّة، والحضاريَّة، والسِّياسيَّة الَّتي أسهمت في تشكيل عقليَّته، أي إنَّه يبقى أمينًا لتوجُّهاته الذَّاتيَّة، وخلفيَّاته الدِّينيَّة، أو السِّياسيَّة، وهو يتَّخذ من دراسة التُّراث الشَّرقي وسيلةً لذلك، وهذا ما تؤكِّده الكثير من الدِّراسات الكنسيَّة في أنَّ محاربة الإسلام لا تتمُّ إلَّا بعد الإلمام بحقيقة هذا الدِّين، وفهم أصوله العقديَّة، ومبانيه التَّشريعيَّة.

 

--------------------------------

[1]- محمود حمدي، زقزوق: الاستشراق والخلفيَّة الفكريَّة للصِّراع الحضاري، ص 18.

[2]- ساسي سالم الحاج: نقد الخطاب الاستشراقي، ج1، ص20.

[3]- يوهان فوك، تاريخ حركة الاستشراق، ص31.

[4]- محمد عبد الفتاح عليان، أضواء على الاستشراق، ص 37.

[5]- ينظر: إدوارد، سعيد: الاستشراق المفاهيم الغربيَّة للشَّرق، ص 120.

[6]- محمد فتح الله الزيادي، الاستشراق أهدافه ووسائله، ص38-39.

[7]- يراجع: المبروك المنصوري، الدِّراسات الدِّينيَّة المعاصرة من المركزيَّة الغربيَّة إلى النِّسبيَّة الثَّقافيَّة: الاستشراق، القرآن، الهويَّة والقيم الدِّينيَّة.

[8]- يوهان فوك، تاريخ حركة الاستشراق: الدِّراسات العربيَّة والإسلاميَّة في أوروبا حتَّى بداية القرن العشرين، ص14-15.

[9]-  قطب، محمد: المستشرقون والإسلام، ص12.