البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

نقد ترجمة القرآن عند المستشرق جاك بيرك

الباحث :  د. فاطمة علي عبُّود
اسم المجلة :  دراسات استشراقية
العدد :  33
السنة :  شتاء 2023م / 1444هـ
تاريخ إضافة البحث :  March / 20 / 2023
عدد زيارات البحث :  1206
تحميل  ( 1.141 MB )
الملخّص
امتازت ترجمة المستشرق الفرنسيِّ جاك بيرك للقرآن الكريم بغياب الموضوعيّة والمنهجيّة العلميّة، كما اتَّسمت بالطابع الأيديولوجي الذي حاول بيرك من خلاله تمرير غاياته الذاتيّة، ويظهر ذلك مِن خلال تشكيكه في حقيقة نزول القرآن ومصدره، والتشكيك في حقيقة نزوله على العرب أو على الرسول الكريم محمّد (عليه الصلاة والسلام)، وذلك بإرجاعه لحضارات وأديان سابقة، كما زعم بيرك وجود اختلاف في القرآن بين مرحلة التنزيل ومرحلة التدوين، وبالتالي شكَّك في مرحلة الجمع ومصداقيّتها، كما شكَّك في ترتيب السور القرآنيّة زاعمًا بأنَّها غير منسجمة لا في موضوعاتها ولا في محاورها، ممَّا دفعه للتدخُّل في النصّ المترجَم والتغيير فيه بغية نزع طابع القداسة عنه وإضفاء الطابع البشري عليه؛ وبذلك افتقد بيرك أهمّ سمة يجب أنْ يتَّصف بها المترجِم، وهي الأمانة العلميّة بعدما فعله مِن تعديل وتغيير على أسماء السور ومعانيها، وسعيه لإثارة الشكّ ونزع طابع الألوهيّة عنه.

لقد لجأ بيرك إلى التغيير داخل السور القرآنيّة مِن خلال تغيير المعاني والتراكيب بشكل أظهر غاياته الذاتيّة مِن الترجمة، حيث تتَّضح تلك الذاتيةّ في التشويه المتعمَّد للقرآن الكريم لتكون مدخلًا للتشكيك في صحّته، كما كان في ترجمته يعتمد الانتقائيّة والتركيز على أمور يفضّلها ويرغب بإظهارها، وقد ظهر منهج بيرك الإسقاطي عبر رمي القرآن بالنقص والتحريف، وزعمه بأنَّ تاريخ القرآن بعد وفاة النبي الكريم غير واضح، ويصعب التأكيد على صحّته.

يتَّضح من شخصيّة بيرك بأنَّها مغايرة تمامًا لما حاول الظهور به مِن تسامح ومحبّة للإسلام والمسلمين، وأنَّه في تجاوزاته لا يقصد الإساءة، في حين أنَّه كان مؤمنًا بشكل قد يصل إلى التطرُّف بوطنه فرنسا وبكاثوليكيّته، حتّى أنَّه لا يكاد يخرج مِن دائرة المشاريع الفرنسيّة الاستشراقيّة والفكريّة، التي اتبعتها فرنسا لتحقيق الهيمنة الاقتصاديّة والثقافيّة، إضافة للسيطرة العسكريّة على بلاد المسلمين.

كان بيرك يزعم بأنَّ التقدُّم العلمي والتطوّر اللغوي وعلم الصوتيّات تتطلَّب تأويلًا عصريًّا للنصّ القرآني، في الوقت الذي يمكن لهذا النصّ التأويل دون تحريفه عن معناه الحقيقي بشكلٍ يجعله خاليًا مِن المعنى، متجاوزًا للمنهجيّة التاريخيّة في قراءة النصّ، إلّا أنَّ ذلك لم يكن إلّا بابًا من أبواب التمويه التي تبرِّر تدخّله في النصّ، وتمريره لأيديولوجيّته ولفكره الذي يؤمن به.

الكلمات المفتاحيّة
جاك بيرك – ترجمة القرآن – الاستشراق الفرنسي – التّشكيك – نقد – المنهجيّة.

التمهيد
طال مدرسة الاستشراق الفرنسيّة الكثير من النقد، وذلك لما قدَّمته مِن دراسات متنوِّعة حول القرآن الكريم، كما قدَّمت نُسَخًا مِن الترجمات المختلفة التي اتَّسمت بالتحريف والتلفيق الصريح، والذي جعل مِن النصّ المترجَم إلى اللغة الفرنسيّة مختلفًا كلَّ الاختلاف عن النصّ الأصلي المقدَّس. ويعدُّ جاك بيرك من أبرز المستشرقين الفرنسيّين الذين قاموا بترجمة القرآن الكريم، وقد نال هذا المترجِم النقد بشكلٍ خاصٍّ، إذ قام بالتشكيك في حقيقة نزول القرآن وفي جمع سوره وترتيبها، التي ادَّعى بأنَّها لم تتم بالشكل الصحيح، كما ادَّعى أنَّ النصّ القرآني طالته يد المسلمين، فتلاعبوا به، وغيَّروا فيه وفقاً لغاياتهم الشخصيّة، كما أنَّ ترجمة بيرك منحت أسماء جديدة للسور القرآنيّة، وغيَّرت في أسباب تسميتها، وفي معانيها الحقيقيّة، كما امتدَّ تغيير المعاني إلى متن السور القرآنيّة بتراكيبها ومفرداتها، وقد مارس بيرك وصايته على النصّ المقدَّس مِن خلال نقله إلى لغة جديدة، فمنحه طابعًا فكريًّا مؤدلجًا، وموجَّهًا لغايات محدَّدة مسبقًا.

امتازت ترجمة بيرك للقرآن الكريم بغيابٍ كاملٍ للمنهجيّة، فلم يَسِرْ بترجمته وفقًا لمنهجيّة محدَّدة تحكم عمليّة الترجمة مِن بداياتها إلى نهايتها، فنجده يلجأ للترجمة التفسيريّة تارةً، ثمَّ يلجأ للترجمة الحرفيّة تارةً أخرى، ويعلِّق في الحواشي للدسِّ والتلفيق، كما أنَّ النسخة المترجمة تُظهر جهلًا واضحًا في معرفة اللغة العربيّة ومعانيها ودلالاتها في النصّ القرآني، ممَّا تسبَّب في أخطاء في الترجمة ناجمة عن نقص في إدراك المعنى الحقيقي للنصّ الأصلي، وليس ذلك فحسب، فقد عمد بيرك إلى الحذف حينًا، والإضافة حينًا آخر على النصّ القرآني المقدَّس، متعاملًا معه على أنَّه نصّ عادي، يمكنه التصرُّف به كيفما شاء دون أيِّ إشارة أو توضيح لهذا السلوك.

يرتكِز البحث على محاور نقديّةٍ رئيسةٍ هي:

أوّلًا- التَّشكيك في حقيقة نزول القرآن وجمعه وترتيب سوره
أبدى جاك بيرك امتعاضه مِن حقيقة التفرُّد النحوي الذي يمتاز به القرآن على اللغة العربيّة، مبيِّنًا أنَّ المتن القرآني متفرِّدٌ في الإعراب ومتجاوزٌ لقواعد النحو الموضوعة في اللغة العربيّة، وأنَّه مختلفٌ عمَّا يَرِد في الشعر العربي والكلام المكتوب عند العرب، فمثلاً يرجع لقوله تعالى في سورة القصص: (إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَىٰفَبَغَىٰ عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ)، حيث يذهب بيرك إلى أنَّ استخدام النصّ القرآني «إنَّ» بعد حرف «ما» يثير جدلًا عنيفًا، إذ إنَّ المُسَلَّم به من قِبَل علماء النحو في البصرة مرفوض عند علماء النحو في الكوفة بسبب وجود جملة موصولة، وهذا ما يسمّيه بالتفرُّد النحوي مخالفًا تسمية المستشرق تيودور نولدكه عندما يطلق عليها تسمية (انعدام الانتظام)[2].

وعلى الرغم مِن أنَّ بيرك لم يكن قد أوضح موطن التباين النحوي بشكل موسَّع وحقيقي، نراه يتَّكئ على سجال البصريين والكوفيين حول بعض الحالات الإعرابيّة مثل «إنَّ» التوكيديّة و«ما» النافية، من دون أيِّ مرجعيّة في فقه اللغة، متَّبعًا بذلك منهجيّة نولدكه على الرغم مِن اختلافه معه في التسمية، ولكنْ مع الإبقاء على النتيجة أو الهدف الذي أراده نولدكه، والمتمثِّل بالإشارة لتشكيكه بحقيقة القرآن ومصدره، وهل هو فعلًا منزَّل على العرب، أو على رسولهم؟ أم أنَّه كلام غير عربي وتمَّ نحته وتعديله وقولبته بقالب عربي اللحن والبلاغة؟

يشير بيرك إلى أنَّ القرآن قد تطوَّر لغويًّا بين مرحلتي التنزيل وفترة التدوين، وهذا ما يشير إلى شكوكه في صدق مرحلة الجمع وموضوعيّتها، وكأنَّه يريد القول بأنَّه على افتراض أنَّ نزول القرآن كان صحيحًا، وقد حدث ذلك بالفعل، فإنَّ ذلك لا يمنع من أنَّه قد طاله التغيير والتبديل بين مرحلتي النزول والجمع أو التدوين، مِن دون أن يعبِّر عن ذلك بطريقة فجَّة، فهو أكثر لباقة وحرصًا على تمرير مفرداته واختيارها عبر كتاباته التي يقرؤها العرب بشكل كبير، لذلك فهو يحيطها باهتمامه، فنجد بيرك يقول: «مَنْ يدري كيف كان الأداء القرآني في أصله؟ كان محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) حريصًا على تخصيصه. يقول أحد الأحاديث إنَّ الله تعالى لم يسمح له سوى بالتغنّي بالنصّ. هل يجب أنْ تفهم شيئاً بالتغنّي؟ أحاديث أخرى تقيس التغنّي بأنشودة الجمال، وهناك افتراض يقول إنَّ النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) شجِّع دخول كلام في الكتاب حتّى نجعل الله حاضرًا في إيقاعات الحياة الرعويّة والحربيّة»[3]، وهذا النصّ يشير إلى عدم الإقرار بصحّة تجميع القرآن والإخلال بأصل الترتيب القرآني. وبيرك ممَّن يلجأ للتشكيك بأسلوب هادئ قد يختلف عن الكثير مِن المستشرقين المشكّكين بالقرآن والتاريخ الإسلامي، ولكنَّه في جوهر الأمر أو في غاياته ينهل مِن المنهل ذاته.
لقد أطلق بيرك أحكامه على النصّ القرآني وعلى ترتيبه وترتيب أفعاله وأزمنتها وصيغتها اللغويّة دون أيِّ استناد فعلي إلى مصدر، أو مبرّر علمي لسلوكه هذا، كما استنكر ورود بعض الأسماء بصيغة الجمع تارة، وبصيغة المفرد تارة أخرى، كما ذهب إلى أنَّ ترتيب سورة البقرة -مثلًا- غير منسجم لما فيها مِن محاور وموضوعات متباينة، وقد أطلق عليها تسمية (أم القرآن)، ذلك لزعمه أنَّها تجمع أهمّ أحكام الشريعة، والدعوة للجهاد، وتفاصيل عن الجنّة، وتوصيفًا لها، وحديثًا عن النار وعذاباتها. واستمرَّ نقده لأصل وجود القرآن عندما ربط بينه وبين بقيّة الكتب المقدّسة والتشابهات الحاصلة فيما بينهم، حيث ذهب إلى أنَّها كلّها تستعين بحديثها عن الأساطير عبر قصص الأنبياء، إلا أنَّ النصّ القرآني يذهب للتأويل أكثر في الأحداث، ويزيد مِن عدد الشخصيّات ويعطيها بُعدًا تخويفيًّا أو مُرعبًا؛ ليرهب الناس بهدف كسب إيمانهم به.

إنَّ عدم قناعة بيرك بترتيب الآيات القرآنيّة دفعه لممارسة ترجمة غريبة، وهي ترجمة الآيات منقوصة، حيث كان يذهب أحيانًا إلى ترجمة بعض الآيات بعد أنْ يقتصَّ منها ما يجده غير ضروري -حسب قناعته- فقد فعل ذلك على سبيل المثال في ترجمته للآية (110) من سورة المائدة، «إذ أهمل ترجمة ثلاث كلمات (فتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْني)، واكتفى المترجم بترجمة (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَ)، ويُفهم مِن هذه الترجمة أنَّ عيسى(عليه السلام) كان يخلق مِن الطين كهيئة الطير بإذن الله فقط، ولم يستوِ ذاك الخلق طائرًا بإذن الله، وهذه خيانة للنصّ الأصلي، سواء أكانت مقصودة أم لا»[4]، وهي ممارسة مِن ممارسات بيرك وتدخُّله في النصّ القرآني، حيث لم يكتفِ بالحذف الذي يُنقص من المعنى ويحرِّفه ويغيِّر ما هو مراد مِن النصّ، بل ذهب للإضافة على هذا النصّ، وهذا تدخُّل كبير في الكلام المنزل، فنذكر مثلًا، في ترجمته لسورة الصافات أضاف بيرك كلمات للآية (109)، حيث «أضاف (في العالمين) universau sein des ولا ندري على أيّ أساس أضاف ذلك، قال تعالى: (سَلَامٌ عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ) (109)، salutsur Abrahamau sein des univers»[5]. كما أضاف في سورة التوبة على الآية (112)، كما فعل الأمر ذاته في سورة الصافات الآية (147)، وفي سورة آل عمران في الآية (81)، وفي الكثير مِن السور والآيات معبِّراً عن رفضه لترتيبها ولطريقة جمعها، ومشكّكًا بصحّة طريقة النزول التي تمَّت بها، فكان يعدل عليها بالحذف حينًا، وبالإضافة حينًا آخر، من دون أنْ يعير أيَّ اهتمام للنصّ الذي بين يديه، الذي هو في الحقيقة نصّ مقدَّس، وليس نصًّا أدبيًّا أو فنيًّا أو رواية يختلف مع كاتبها في معناها ومرادها؛ إذ لا يجوز إحداث أيِّ تغيير فيه، وإنْ لم يكن ذلك بسبب قدسيّته، فليكن للأمانة العلميّة في الترجمة التي افتقدها بيرك وابتعد عنها كلَّ البعد، وقد استمرَّ هذا التطاول مع بيرك عبر التغيير والتعديل على أسماء السور وترجمته لمعانيها، وهذا ما سنتحدث عنه الآن.

ثانيًا- التَّغيير في أسماء سور القرآن ومعانيها
إنَّ مسألة تسمية سور القرآن الكريم مسألة ناقشها عددٌ مِن المستشرقين، وقد اقتصر نقاشهم على أسباب تسمية كلٍّ منها، ومحاولة إيجاد التشابه بينها وبين بقيّة الكتب السماويّة السابقة لها عبر التسمية أو عبر الأحداث أو الموضوعات التي تتناولها، أمَّا بيرك فقد ذهب إلى أبعد مِن ذلك، حيث لم يكتفِ بمناقشة أصل التسمية أو سببها، وما تضمَّنته كلُّ سورة، بل حاول تغيير أسماء السور ومنحها أسماء جديدة، متجاهلاً أنَّ التسمية والترتيب وما قد تناولته هذه السور مِن موضوعات ليس عملًا بشريّاً؛ إنَّما هو أمر صادر من الله (عزّ وجل) حيث كان ينزل الوحي جبريل عليه السلام ليمنح اسمًا لكلِّ سورة، فبعضها جاء باسم نبيّ معيّن؛ لأنَّ موضوعها عنه، وبعضها الآخر أخذ اسم حادثة معيّنة أو قصة محدَّدة تمَّ تناولها في الآيات، فالتسمية ليست مزاجيّة كما قد يتصوَّر بيرك أو يتجاهل أصلها.

إنَّ ترجمة بيرك وتغيير الصياغات اللغويّة للقرآن عبر هذه الترجمة، وإضافة بعض الكلمات حينًا وحذف بعضها حينًا آخر، قد دفعه لمحاولة تغيير أسماء السور القرآنيّة، مع العلم بأنَّ تسمية السور القرآنيّة في أغلبها يتمُّ ضمن السياق اللغوي للسورة كاملة، فتكون ترجمتها الصحيحة والدقيقة مِن فهم هذا السياق العام اللغوي لها، إلَّا أنَّ بيرك لم يرغب بفعل ذلك، محاولًا منح السور أسماء جديدة، كانت في معظمها نتاجًا لفهمه لها، أو تعبيرًا عن ترجمة حرفيّة للاسم الأصلي، حيث ذهب لتسمية سورة الفرقان بالمعيار أو الميزان، في حين أنَّ معنى الفرقان قد ورد في النصّ القرآني بمعنى القرآن، يقول تعالى في سورة الفرقان (1) (تَبَارَكَ ٱلَّذِى نَزَّلَ ٱلْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِۦ لِيَكُونَ لِلْعَٰلَمِينَ نَذِيرًا)، فالترجمة الصحيحة التي يمكن ترجمتها هي القرآن، فالفرقان هو القرآن الذي يفرّق بين الحقّ والباطل، أي الفارق بينهما. كما أنَّ بيرك قد ترجم سورة القلم بـ(le calame)، بدل أنْ يترجمها (la pume)، على الرغم مِن وضوح معناها[6].

كما أنَّ بيرك ذهب لترجمة سورة الزمر بالموجات، وهذا المعنى غير صحيح بالمطلق، فقد ورد في سورة الزمر في الآية (73) قوله تعالى: (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّىٰ إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ)[7]، وهنا كلمة الزمر تعني الجمع، وتعني لغويًّا الجماعة المتجانسة في المرتبة والمبادئ، أي إنَّها تعني مجموعة واحدة؛ زمرة أخيار أو زمرة أشرار، وهنا أراد الله (عزّ وجل) ترتيب الطوائف حسب الدرجات إمَّا الايمان أو المعصية، أي جماعة إيجابيّة أو جماعة سلبيّة.

أمَّا سورة الذاريات فقد «ترجم معناها بـ(venner) بمعنى (ذرى) الفعل أو (الذرو) المصدر، وليس هذا معنى اسم السورة الذي جاء في صيغة صفة مجموعة كما في الآية: (وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا)، الذاريات (1)، فجاءت الصفة في الآية متعدّية إلى المصدر مِن مادّتها الواقع مفعولًا مطلقًا للتوكيد، وهناك فرق بين التعبير بالمصدر أو الفعل أو الصفة التي قامت مقام الموصوف في الآية وهو (الرياح)، ولهذا كان الصحيح أنْ يترجم معنى الذاريات بـ(Les “vents” vanneurs)»[8]، وفي سورة النازعات لم يغيِّر بيرك معناها الوارد في السياق فحسب، بل أثار الشكوك في مهمّة سيدنا موسى(عليه السلام) وصحّة إرساله مِن الله (عزّ وجل) إلى مصر، فقد سمَّى السورة بـ(الإطلاق)، أو بمعنى هناك مَنْ يطلق أمرًا، ويسمح له أنْ يتحرّك بحريّة، في حين أنَّ الأمر متعلّق بالملائكة وليس بالأشياء، وذهب إلى «أنَّ موسى هنا لا يقدّم بوصفه نبيًّا مرسلًا إلى مصر لإخراج بني إسرائيل منها كما في سفر (الخروج) وعدد مِن النصوص القرآنيّة، بل لدعوة فرعون إلى الإيمان»[9]، وقد أراد بيرك الوصول إلى الادّعاء بأنَّ موسى لدعوة فرعون للإيمان، فتلك هي المهمّة التي أوكلها له الله (عزّ وجل) وأرسله مِن أجل تنفيذها، وقد ورد ذلك في العهد القديم، فمَنْ آمن به مِن أهل مصر، لم يكن لموسى أنْ يرفض إيمانه.
كما ذهب بيرك في ترجمة سورة العاديات فقد ترجمها بـ(galopent)، في حين أنَّ ترجمتها وفقًا لمعناها الصرفي وحسب ورودها في السياق القرآني بـ(Les chevaux qui galopent)، فالعاديات تعني الفرس التي تجري، وقد أريد بها الجهاد في سبيل الله، لأنَّها تضبح، أي تصدر صوتًا أي تحمحم[10]، وكذا الحال في عدد مِن السور القرآنيّة، حيث استمرّ بيرك في إحداث تغيير في ترجمة أسماء السور بشكل مثير للريبة؛ لأنَّ بيرك ليس جاهلًا باللغة العربيّة ومعانيها وبلاغتها، وهو الذي تعلَّمها وعلَّمها، حتَّى أصبح عضوًا في مجمع اللغة العربيّة في القاهرة، فضلًا عن ولادته في الجزائر التي عاش وتعلَّم فيها، بالإضافة إلى إقامته لأكثر مِن عشرين سنة وتنقلِّه بين بلدان المغرب العربي والعمل فيها في فترة الانتداب الفرنسي على هذه المنطقة.

في ترجمة بيرك لسورة الفتح، ذهب لترجمتها إلى اللغة الفرنسيّة «بـ(ouvre’s Tout)؛ أي ما معناه (كلّ شيء ينفتح)، ولا شكَّ أنَّ معنى اسم السورة هو النصر والتمكين بدليل أنَّ السورة تتحدَّث عن صلح الحديبيّة الذي تمَّ بين الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)وبين المشركين سنة ست مِن الهجرة، والذي كان بداية للفتح الأعظم (فتح مكّة)، وهو المراد باسم السورة ومستهلها»[11]. إنَّ الترجمة الحرفيّة لبيرك لمستهل هذه السورة يجعل الإنسان يشعر بأنَّ بيرك قد تقصَّد ترجمة النصّ القرآني بهذا المستوى البسيط، فقد ترجم الفتح بأنَّنا نحن مَنْ يستطيع أنْ يفتح لك ويحقِّق لك الانفتاحات كافّة، وكذا الحال في ترجمته لسورة الروم، فقد قام بترجمتها بلفظة (Rome)؛ أي يقصد مدينة روما في إيطاليا، في حين أنَّ المراد بالروم هم الرومان، أي الإمبراطوريّة الرومانيّة، خاصّة وأنَّ الآيات داخل السورة توضِّح ذلك، حيث جاء قوله تعالى: (غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ)[12]، كما لجأ بيرك لإعطاء بعض السور اسمين بدلًا مِن اسمها الحقيقي أو شرحه، فيطلق على سورة غافر اسمين (المؤمن أو غافر)، وكذلك (التوبة أو براءة)، و(الإسراء أو بنو إسرائيل)، وغيرها مِن السور، وهذا أمر مِن شأنه إثارة الشكّ وعدم تصديق هذا الكتاب الذي يبدو على ترجمته الطابع البشري لا الإلهي، وهذا ما سنقوم بتوضيحه بشكلٍ أكبر عندما سنتحدَّث عن التغيير في ترجمة المعاني والتراكيب القرآنيّة فيما يلي.

ثالثًا- نقد ترجمة المعاني والتراكيب القرآنيّة
لم يكتفِ بيرك بتغيير أسماء السور القرآنيّة خلال ترجمتها؛ إنَّما ذهب إلى التغيير داخل النصّ القرآني من خلال التغيير في معاني القرآن وتراكيبه، فذهب إلى التلاعب بمفردات حسَّاسة، وأعطاها معنى مغايرًا للمعنى الحقيقي لها، ممَّا شكَّل التباساً على القارئ الأجنبي، ويبدو أنَّ بيرك كان يعي تمامًا ما كان يترجمه، فلم يحدث هذا الأمر سهوًا، ولم يكن خطأ غير مقصود، ولو أراد تصحيح هذا الخطأ، كان بالإمكان الإشارة للتصحيح في أيِّ ملحق أو هامش كما جرت العادة.

فمثلًا ذهب إلى ترجمة «معنى كلمة (مسّ) في الآية: (لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) الواقعة (79) بـ: (touchent seulement que les purifiés)، بمعنى لا يلمسه إلا المطهّرون، وهذه ترجمة لا تراعي لا السياق الخاصّ ولا العام للفظة (مسّ) في القرآن، فالسياق اللغوي الذي وقعت فيه الكلمة لا يشير إلى معنى اللمس، إذ ورد قبل الآية قوله تعالى: (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُوم وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظيم إِنَّهُ لَقُرآنٌ كَرِيم فِي كِتابٍ مَكْنُون لا يَمَسُّهُ إِلاّ المُطَهَّرُون)، الواقعة (76-79)، فالتأمُّل في هذه الآيات التي ابتدأت بالقسم بمواقع النجوم، التي تنتمي معرفتها إلى عالم الفلك الذي هو مِن أرقى العلوم العقليّة وأعظمها شأنًا»[13]، فهناك ترابط بين القسم والمقسوم، وأنَّ السياق الوارد لكلمة (مسّ) لا تعني أبدًا اللمس، ولا تتّصل بالحواس، ومعناها ليس حسيًّا، إنَّما قد أراد به الله (عزّ وجل) أنَّ نفعه وطعمه المعنوي لا يتذوَّقه أو يناله إلّا مَنْ كان قد آمن به، فلا يفسِّره إلّا مَنْ أدرك حقيقته.
كما ترجم بيرك معنى كلمة (الذِّكْر)، في الآية: (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْـَٔلُونَ)، الزخرف (44)، حيث جاءت الترجمة مختلفة عن معنى السياق الذي يعني الموعظة والاعتبار، كما في سياقات الآيات في قوله تعالى: (وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ)، في سورة ص الآية (1)، وكذلك في قوله: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ) في سورة القمر، الآية (54)، وكذلك في قوله: (وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ) في سورة يس، الآية (69)، وغيرها مِن الآيات التي وردت بها، فبيرك لم يترجم كلمة الذِّكْر كما جاءت في سياقها، إنَّما ذهب لترجمتها الحرفيّة على أنَّها تذكير[14]، من دون أيِّ توضيح أو تفسير، ممَّا أفقد النصّ معناه المراد إيصاله عبر هذه الترجمة الحرفيّة الجامدة، ومِن دون أيِّ اعتبار للمعنى المجازي، فنراه لم يلتفت لأيِّ معنى بلاغي.

كما ترجم بيرك عبارة (روح الله) الواردة في سورة يوسف، في الآية (87)، حيث قوله تعالى: (يَٰبَنِىَّ ٱذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَاْيْـَٔسُواْ مِن رَّوْحِ ٱللَّهِ إِنَّهُ لَا يَاْيْـَٔسُ مِن رَّوْحِ ٱللَّهِ إِلَّا ٱلْقَوْمُ ٱلْكَٰفِرُونَ)، حيث جاءت ترجمة بيرك لتعني (نفس مهدّئ)، وهي ترجمة لا تأتي بالمعنى الوارد في السياق، وبعيدة عن معناها الحقيقي، حيث منح الله صفات بشريّة، وأسقط على الله (عزّ وجل) صفات موجودة في الكائنات التي خلقها، والله منزَّه عن تلك الصفات والأفعال، وكذا الحال في ترجمته لمعنى كلمة (شعائر)، والتي وردت في عدد من الآيات القرآنيّة، ومنها قوله تعالى في سورة البقرة، الآية (158): (إِنَّ ٱلصَّفَا وَٱلْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ ٱللَّهِ فَمَنْ حَجَّ ٱلْبَيْتَ أَوِ ٱعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ ٱللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ)، حيث ترجم بيرك لفظة (شعائر) بـ(مَعْلَم)، في حين أنَّ حقيقة كلمة الشعائر تشير إلى المناسك الدينيّة، ويقابلها في اللغة الفرنسيّة كلمة (rites)، في الوقت الذي ترجمها بيرك بـ(repérages) ومشتقّة هي مِن كلمة (repére)، والتي تعني مَعْلَم.

وقد ترجم بيرك عبارة (إنَّ الله لا يخلف الميعاد)، في سورة آل عمران في الآية (9) حيث قوله تعالى: (رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَّا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ)، بمعنى مختلف عن الحقيقة والسياق الوارد في السورة والآية، حيث ترجمها بمعنى أنَّ الله لا يخلف الموعد، والمقصود بالميعاد هو الوعد وليس الموعد[15]، وغيرها الكثير مِن الكلمات والتراكيب والعبارات التي ترجمها بيرك وأعطاها معنى جديدًا في اللغة الجديدة، فصحيح أنَّ بيرك قد تميَّز عن أقرانه المستشرقين بعدم التهجُّم الواضح والصريح على القرآن والعرب، إلا أنَّ أثره في الكتابة كان تهجميًّا، وقد بدا ذلك واضحًا في مقدّمة كتابه في الترجمة، وفي منهجيّته في التعامل مع النصّ القرآنيِّ، حيث طغت السمة الأيديولوجيّة الغائيّة على الترجمة، وهو ما سيكون محور حديثنا التالي.

رابعًا- غائيّات التَّرجمة القرآنيَّة عند بيرك
يحمل النصّ القرآني خصوصيّة وحساسيّة خاصّة في الترجمة، فهو ليس نصًّا أدبيًّا أو فنيًّا عاديًّا، إنَّما هو نصٌ مقدَّس، وفي النصوص المقدَّسة كانت الترجمة عبر التاريخ دقيقة، وفي أغلبها كانت ترجمة تفسيريّة؛ لأنَّ الترجمة الحرفيّة قد لا تعطي المعنى الحقيقي المراد، كما أنَّ الترجمة التفسيريّة تكون موضَّحة بشروحات وتعليقات حتّى لا يقع القارئ الجديد بالخطأ أو سوء الفهم، وهذا ما لم يحرص عليه جاك بيرك؛ بل ربَّما حدث العكس، حيث كان بيرك يتدخَّل في النصّ الأصلي بالحذف تارةً والإضافة تارةً أخرى، ويغيِّر أسماء السور القرآنيّة، ويضع لها اسمين مزدوجين أحيانًا، وهذا ما عبَّر عن مرجعيَّة تتحكَّم ببيرك، وغائيّة أيديولوجيّة تحرِّك عمليّة الترجمة للنصّ المقدَّس، ممَّا جعل ترجمته تتعرَّض لكثير مِن النقد رغم محاولته أو زعمه بأنَّه أخٌ للعرب، في حين أنَّ علمه لم يكن كذلك، حتّى وإن كان عربيًّا.

تتمثَّل الغائيّة في ترجمات بيرك بعدِّة مسائل تتعلَّق بترجمته للنصّ القرآني، نذكر منها، أوّلها، تشويه ترجمة القرآن، حيث اتّسمت عمليّة التشويه بالقصديّة، وليس الخطأ غير المقصود، ولو كان الأمر ناتجًا عن خطأ لما عدَّ ذلك مِن التشويه، حيث تحاشت ترجماته ترجمة كلِّ اسم أو فعل يوجد فيه معنى التسليم والإسلام، مثال على ذلك مسلمون، مسلمًا، وإنَّ الدين عند الله الإسلام، ونجد هذه الترجمة قد أسقطت الكثير وحرَّفت الكثير، فكانت ترجمة بيرك إلى اللغة الفرنسيّة مدخلًا للتّشكيك وهدم المبادئ والقيم الدينيّة عبر التحريف في الترجمة ومنحها طابعًا بشريًّا بعد نزع سمة القداسة عنها، وترافق هذا السلوك بتضليل واسع للحقائق الدينيّة، يتَّضح ذلك عبر ترجمته الحرّة، والتي سبق وأنْ تحدّثنا عن أمثلة عنها، وما ترتَّب عليها مِن تحريف للمعنى وتبديل في الأصل، بحيث يغدو النصّ الجديد مغايرًا للنصّ الأصلي، إضافة إلى لجوئه إلى منهجيّة التأخير والتقديم والحذف والإضافة، وإزاحة بعض الآيات وإبعادها عن معناها الحقيقي.
ثانيها، الترجمة الانتقائيّة، والتي تقوم على التَّنقّي والتَّخيّر، وهي نزعة استشراقيّة اتّبعها بيرك عبر اختيار بعض الآيات وتأويلها وترجمتها بالشكل الذي يراه مناسبًا، كمعالجته لبعض القضايا التاريخيّة ليمرّر مِن خلالها بعض الأفكار الخاصّة والمعتقدات التي يفضِّلها خلال عمليّة الترجمة.

ثالثها، الترجمة باتّباع منهج الإسقاط، وهي أنْ يقوم الباحث المترجِم بحيلة لا شعوريّة، تتلخَّص في أنْ ينسب عيوبه ونقائصه ورغباته والمخاوف المتستّر عنها التي لا يرغب بحضورها في ساحة الفعل الإنساني إلى غيره؛ لأنَّه يشعر بالقلق منها والنقص تجاهها، وهو أمر انطبق على بيرك الذي يحاول الظهور بمظهر الصديق والأخ للعرب والمسلمين، والذي عاش بينهم طويلًا، إلا أنّه مارس عمليّة الإسقاط عبر رمي القرآن بالنقص والتحريف خلال عمليّة الترجمة للنصّ القرآني، محاولًا تمرير عدم صحّة السور القرآنيّة، والتشكيك في نزولها وجمعها، وتغيير ترجمة أسمائها بشكل يغيِّر معنى السورة والمراد منها، كما عمل على التدخُّل في ترجمة الآيات والتغيير فيها، وكلُّ ذلك لم يكن مبرِّرًا لا منطقيًّا ولا أخلاقيًّا له.

رابعها، الترجمة المتعصِّبة للميول الذاتيّة، إنَّ الأساس في الترجمة هو أنْ تقوم على الأمانة العلميّة، فلابدّ لذهن المترجِم أنْ يكون خاليًا مِن المؤثّرات السابقة، وألَّا يكون تحت تأثير الهوى والتحيُّز، فيصدِّق ما يرغب بتصديقه أو ما يحتاجه، فالتعصُّب للديانة أو المذهب أمر مِن شأنه جعل المترجم منحازًا، لا يخرج مِن منظومته الفكريّة الاعتقاديّة، وقد ظهر ذلك بالنسبة لبيرك خلال ترجمته معاني القرآن، حيث قام بالتدليس والتشويه، وهو في ذلك يحاول الرفض غير العلني للقرآن ومضمونه الحقيقي ونزع طابع القداسة عنه[16]، وخلال عمليّة الترجمة التي قام بها بيرك، اعتزل بيرك العالم والعالم العربي والإسلامي الذي أقام فيه فترة طويلة، واستقرَّ في الريف الفرنسي، وهي طريقة اختلف فيها عن المستشرقين الآخرين الذين غالبًا ما كانوا يكتبون ما يشاهدونه ويتعلَّمونه في فترة إقامتهم في البلاد الإسلاميّة، وقد برَّر بيرك ذلك بأنَّه لم يصل سابقًا للمستوى الذي يسمح له بالترجمة، وقد كان حريصًا على التفرُّغ للعمل في ترجمة القرآن بعيدًا عن الناس، وأنَّ اللغة العربيّة بحاجة إلى التعمُّق بها على الرغم مِن معرفته الدقيقة بها.

لم يكن بيرك مِن المستشرقين الفجّين الذين هاجموا النصّ القرآني، ولكن الذي يظهر بوضوح عند التمعُّن في ترجمة بيرك أنَّه كان لبقًا -إنْ لم نقل متحايلًا- عندما مزج بين أسلوب الطعن وأسلوب الإعجاب ببعض القضايا القرآنيّة، فعلى سبيل المثال كتب عن سبب اختيار عنوان الترجمة (محاولة لترجمة معاني القرآن) قائلًا: هذا التواضع يرجع بالدرجة الأولى إلى صعوبة العمل على النصّ القرآني، فالقرآن الكريم يجمع بين التعقيد الشديد والبساطة المتناهية، ممَّا يجعل الترجمة شبه مستحيلة دون إضافة التفسيرات التي توضِّح بعض المعاني. وهذه التفسيرات قد تؤثِّر بدورها في القيمة الجماليّة للعمل، لذلك لاقيت صعوبةً شديدةً في محاولة توصيل المعنى دون إضافات قد تؤثِّر في غرابة الآيات القرآنيّة وجمالها. ثمَّ يذهب بيرك للقول: بأنَّ المصحف لم يراعِ الترتيب الزمني لنزول الآيات، وكثيرًا ما نجد بداخل السور نفسها آيات نزلت في أوقات متباعدة، ولكنَّ العلماء والفقهاء لا يرون أيَّ مشكلة في ذلك. مشكِّكًا في آليّة الترتيب والجمع، كما يضيف قائلًا: بأنَّ القرآن يحرِّف في قصص الأنبياء حيث يحوِّل القرآنُ الأساطيرَ إلى نوع مِن الحوار المشوِّق لتبدو القصص حكائيّة ودراميّة.

كما يواصل بيرك تشكيكه في أصالة القرآن بادّعائه أنَّ تاريخ القرآن بعد وفاة محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) لا يزال غير واضح، وإنَّ إعداد النسخة الرسميّة أو الصحيحة للقرآن قد مرَّ بثلاث مراحل مِن التطوُّر، وقد يصعب وضع تاريخ محدَّد لكلِّ مرحلة منها، وإنَّ عمليّة نقله تمَّت مِن حالة الخطاب الشفهي ثمَّ انتقل ليُكتب، ولم تنتهِ عمليّة الكتابة في حياة محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) لتظهر النسخة الأولى منه في عهد الخليفة عثمان بن عفّان، وأنَّ هذه الفترة كانت فترة خلافات بين المسلمين، وليس مِن الغريب أنْ أصاب النسخة القرآنيّة بعض التغيير[17]. لذا فإنَّ بيرك يشكّك في صحّة عمليّة الجمع التاريخيّة للنصّ المكتوب، ومتَّهماً المسلمين بالتهاون والتسليم لآليّة الجمع التي تمَّت في فترة زمنيّة لا نعرف عنها الكثير، على الرغم مِن أنَّ أصل الإشكالات بين المسلمين أنفسهم تعود إلى تلك الفترة التي يخشى الكثيرون مِن نقدها ومعالجتها، فترة يطلق عليها بيرك اسم الصندوق الأسود، وقد أظهر بيرك في بعض الأحيان عجزه عن الترجمة لبعض أسماء السور، مثلاً الحجرات والأحقاف، بهدف التشكيك بصحّة التسمية، ونكرِّر بأنَّ بيرك يفتعل ذلك على الرغم مِن درايته الدقيقة باللغة العربيّة، وهذا ما سيدفعنا للحديث عن موضوعيّة بيرك التي باتت موضع شكِّ في الفقرة التالية.

خامسًا- غياب المنهجيّة الموضوعيّة
يبدو أنَّ مولد بيرك وحياته التي عاشها في البلاد الإسلاميّة جعلت مِن شخصيّته تنحو منحى تقبُّل المسلمين والتَّعايش معهم، كما يبدو للوهلة الأولى، وهذا ما يردِّده مَنْ لم يقرأ لبيرك، خاصَّة فيما قام به من ترجمة للقرآن الكريم، حيث يظهر بشخصيّة أخرى؛ شخصيّة المؤمن بفرنسا وطنه وبكاثوليكيّته ودينه، فبيرك لم يخرج مِن دائرة المشاريع الفرنسيّة المقامة في الجزائر بشكل خاصّ، وفي البلاد العربيّة بشكل عام، لا سيّما مشاريعها الاستشراقيّة والفكريّة، التي أولتها رعاية خاصّة، وأدارتها كبار الشخصيّات السياسيّة والدينيّة، وكثيرًا ما صرَّح الفرنسيّون بأنَّ مشاريعهم في البلاد التي لهم قوَّات عسكريّة بها، لا تقتصر على القوّة العسكريّة، إنَّما تتعدّاها لجملة من المشاريع الاقتصاديّة والثقافيّة، فكان فَرْض فرنسا سياسة الفَرْنَسَة على البلاد التي تسيطر عليها وتستعمرها أكبر دليل على ذلك، وقد كان عرّابو هذه السياسة هم المستشرقون والمفكِّرون الذين تعتمد فرنسا عليهم.

لقد ذهب بيرك للقول بعدم قدرته على مقاربة النصّ المقدَّس مِن داخله، فبيَّن أنَّه قام بدراسة القرآن وترجمته مِن الناحية الخارجيّة فقط، مبرِّرًا ذلك بأنَّه ليس لديه القدرة على مواجهته مِن الداخل؛ لأنَّ ما بداخله هو الإيمان بعينه، فيبدو أنَّ بيرك درس القرآن وترجم معانيه مِن خلال ثقافة مجتمعه بناءً على سلوكاتهم وأفكارهم، معتذرًا عن عدم قدرته على مقاربة النصّ القرآني مِن أعماقه، لأنَّ عمق القرآن هو الإيمان بكلِّ حقيقته، وهذا أيضًا ما نقله منذر عيّاشي عن جاك بيرك حين ذكر أنَّ هذا النصّ الأصولي الذي يوحي بالاحترام ويشعُّ بالقدرات لن أقاربه مِن موقف الإيمان، ولكن مِن موقف البحث والموضوعيّة النقديّة، راجيًا أحيانًا أنْ يكون هذا الأمر مشاركة بكلِّ تأكيد، ولكنَّها مشاركة متباعدة، فهي متباعدة زمنًا[18]. تبدو تبريرات بيرك بسيطة جدًّا، وكأنَّه يريد القول أو إيهام الناس بأنَّ ما يفعله مِن تجاوزات ليست سوى تجاوزات وتعدٍ بريء على النصّ بدعوة أنَّه لا يبحث إلّا فيما هو خارجيٌ حسب تعبيره، حتّى إنَّ مصطلح (خارجي) هو مصطلح غير مفهوم، فكيف يمكن لمترجم يتقن اللغة العربيّة بشكلٍ مشابهٍ أو مساير للغته الفرنسيّة أنْ يقول هذا القول ما لم يكن يخفي خلفه نوايا مبيَّتة؟ كيف يمكن لمترجم أنْ يقول هذا الكلام، وهو يقرُّ بتفرُّغه الكامل مِن أجل إنجاز الترجمة، ويقول بحساسيّة ترجمة النصّ المقدّس، حيث بيَّن أنَّ دروسه في باريس نشأت عن تخمُّر بطيء للفكر، وعن معاشرة طويلة للنصّ والسياق الاجتماعي، وصرّح بأنَّ العمل قد أخذ منه ستّ عشرة سنة، انقضت عشر سنوات منها في التحضير، وخمس سنوات كاملة تقريبًا في العناية[19]، ثمَّ يتابع ذاكرًا حرصه على الإسلام والدين ومشاعر المسلمين في ترجمته.

لقد اتَّبع بيرك في ترجمته منهجيّة الدمج بين الرواية الإسلاميّة والمسيحيّة في حديثه عن القصص الواردة في القرآن الكريم، وهي منهجيّة يهدف مِن خلفها إلى توحيد النظرة، وهذا ليس مِن باب التوحيد أو المقارنة بين الأديان، بل مِن أجل الوصول إلى فكرة، مفادها بأنَّ الدين الإسلامي لم يأتِ بجديد، فعلى سبيل المثال خلال ترجمته لسورة الكهف، بيَّن أنَّ «سورة الكهف تقوم في جزئها الأوّل على معالجة للزمن ذات صبغة تعليميّة عالية. إنَّ هذه السورة، مِن منظور أدبي، تُعدّ واحدة مِن أجمل السور، خاصّة وأنَّنا نستطيع أنْ نطبّق نعوتًا جماليّة على نصوص مِن هذا النوع، وإنَّكم لتعرفون الحكاية التي يرويها الجزء الأوّل، وإنَّها على كلِّ حال لحكاية مشتركة بين المسلمين والنصارى، فهؤلاء يحتفلون بها في مئات الأمكنة، ويعدِّون لها مسيرات حجّ، واحتفالات سنويّة. ونجد مِن ذلك مثلًا ما يجري في منطقة البروتان في فرنسا، ولقد كان المأسوف عليه لوي ماسنيون يهتمُّ بمثل هذه التظاهرات اهتمامًا بالغًا»[20]. ويستطرد في شرح القصة في الرواية غير الإسلاميّة، وفي ترجمته للقرآن يستمرّ بالربط بين هذه القصص المذكورة بطابع إسلامي مع ذكرها في الدين المسيحي أو غيره، ولكنْ بطابع آخر.
يحاول بيرك عبر ترجمته وكتاباته أنْ يشيع فكرة الأخذ مِن العالم الحديث والاقتداء بالأخلاق، وكأنه يريد بذلك أنْ يرسل رسائل لا شعوريّة للقارئ الفرنسي لتبيان النقص أو الخلل في المنظومة الأخلاقيّة في النصّ الديني الإسلامي، وقد دعا لذلك في عدّة مناسبات، حيث بيَّن أنَّ «دور التعليم السياسي والاجتماعي يجب أنْ يكتمل بالجانب الأخلاقي، إنَّ التعليم يُلزم المواطنين أنْ يؤمنوا بالمساواة في أفعالهم، كما يصرِّحون بذلك في أقوالهم»[21]، مؤكِّدًا ضرورة العودة للحضارة الغربيّة، ففيها منظومة أخلاقيّة ومرجعيّة عقليّة يفتقدها الواقع في المجتمعات الإسلاميّة.

ويبيِّن بيرك في ترجمته أنَّ النصّ القرآني يعاني مِن مشكلة منهجيّة في الترتيب والجمع، جعلت مِن السور متعدّدة الموضوعات بشكل لا يجعله متقبَّلًا مِن قبل القارئ الغربي، فلا شكَّ أنَّ ذلك مِن منهجيّة بيرك في الطعن بآليّة الجمع، فيذهب للقول: «لقد لاحظنا منذ وقت مبكّر أنَّه تهيمن مقدّمًا في كلِّ سورة هذه الفوضى الشائعة التي تكلَّمت عنها، والتي تثبط جداً همَّة القرَّاء الغربيّين، أجل إنَّ كلَّ سورة هي سورة متعدّدة الموضوعات.. ثمَّ إنَّ كلَّ جزءٍ مِن سورةٍ ما نجده متعدِّد المستويات ويتكرَّر غالبًا»[22]، وغيرها مِن الوسائل التي لجأ إليها بيرك في تبرير غائيّته واتّباع منهجيّة بعيدة عن الموضوعيّة، بل وفي كثيرٍ من الأحيان يقع في التناقض بين ما يقوله وما يطبِّقه مِن آليّة في دراسته القرآنيّة، وهذا سيفتح الباب لنا للحديث عن تأويل جاك بيرك للنصّ القرآني، محاولين الردَّ على تأويلاته خلال ترجمته.

سادسًا- تأويل النصّ القرآني والردّ عليه
لقد اعتمد بيرك اعتمادًا رئيسًا على المناهج اللغويّة في قراءة النصّ القرآني وترجمته، إذ اكتفى بالنصّ كبنية بحدِّ ذاتها مِن دون العودة إلى ماهو وخارج عنه، فالنصّ القرآني عند بيرك على الرغم مِن صعوبته اللغوية إلّا أنَّه قادرٌ على تفسير نفسه بنفسه، وربَّما يكون ذلك السبب الذي جعل بيرك يؤجِّل عمليّة الترجمة لسنوات طويلة، ويتأخَّر في عمليّة الإنجاز لسنوات أطول، لأنَّه يدرك بأنَّ النصّ القرآني مكتفٍ بذاته ولغناه لغويًّا وبلاغيًّا، فبيرك كان يرغب بدراسة النصّ دراسة منطقيّة وسيميائيّة وفينولولجيّة ليتمكَّن مِن ترجمته بشكلٍ صحيح.

«وحين تناول بيرك القرآن واللغة العربيّة تطرَّق إلى مفهومي البيان والتفصيل، أمَّا التفصيل فلم يظهر إلّا مع (سوسير) بحسبه، أمَّا البيان فقد ظهر قديمًا مع ظهور البلاغة العربيّة، وقد مارس قراءة النصّ القرآني بوسائل لسانيّة، سواء كانت هذه الأدوات قديمة (البلاغة – البيان) أو أدوات حديثة (اللسانيّات - التفصيل)»[23]، فبيرك يدرك بأنَّ العقليّة العربيّة تنبهر بالمنهجيّات العلميّة الحديثة، وتسعى لتطبيقها على الأدب، لذا فإنَّنا نجد بيرك يسعى لتطبيق هذه المناهج في قراءة النصّ القرآني، مبيِّنًا ضرورة اعتماد هذه المناهج بغية تجاوز القراءات التفسيريّة التقليديّة، والتي باتت تعاني مِن صعوبة في التأقلم مع التطوّرات المنهجيّة والعلميّة الجديدة، فنجد بيرك يؤيّد المنهج البنيوي التكويني في قراءة النصّ الديني، لا سيّما بعد ضعف الوجوديّة وعدم قدرتها على مواكبة التحوّلات، وتصلّب مفاهيمها التي أبعدتها عن الواقع.

إنَّ تأويل النصّ القرآني برأي بيرك يتطلَّب منه أنْ يكون التحليل قائمًا على التقدُّم الراهن في علوم اللغة عمومًا، وعلوم الصوتيّات خصوصًا، والتي بدونها يظلُّ فهمنا ناقصًا وغير مكتمل. وحقيقة القول إنَّ هذا النوع مِن التحليل يفترض اللجوء إلى تقنيّة ليس مِن السهل امتلاكها، وإنَّ سور القرآن تقدِّم تنوُّعًا وتحرُّكًا كالترابط النسبي بين السور الصغرى حيث الآيات متناغمة مع الفكرة والتعبير، كما ينقسم خطُّ سير السور إلى آيات يبعد طولها عن التقاطع الدائم مع الوحدة الدلاليّة، وهو الأمر العادي، ويفسح المجال بترابطاته أمام مظاهر لم تستعدّها اللغة العربيّة إلّا مع الشعر الحرّ، كما أنَّ هناك تعارضًا بين البساطة والتواضع، إنْ جاز التعبير، فكثيرًا مِن الشعراء يثقلون مسامعنا بالبحث عن كلمات قوّية حتّى ولو لم تؤدِ وظيفتها العقليّة، لكنَّهم يصرُّون على استعمالها، وهذا خلاف النصّ القرآني الذي يمتاز بالبساطة مع القدرة على إيصال الفكرة للعقول بشكلٍ سريع وأكثر سلاسة، فالقرآن تأويليًّا لا يمكن أنْ يكون متجاوزًا للمعقولات، فالقارئ ليس بحاجة للبحث المعقَّد ولا السعي لحلِّ ألغازه[24].

إنَّ الاستشراق حسب رأي بيرك قد درس النصّ القرآني مسلِّمًا بعاداته في المنهج التاريخي، حيث أسَّس نفسه على التسلسل التاريخي، وهذا إفراط مِن الاستشراق ومنهجيّته، وإنَّ الحلَّ المناسب للنصّ القرآني هو أنْ يأخذ نظام هذا المجتمع مأخذ الجدِّ، فهو النظام الذي تبنَّاه الوحي الإسلامي، وفي التأويل الأوّلي يخبرنا عن التصنيف الأوّلي للإسلام، وبأنَّ الحكمة تقتضي ألَّا يقام نظام بديل عنه، وهي نظرة قطعيّة كانت في التأويلات القرآنيّة محدّدة بنهايات النزول بشكل أكثر مِن أوّل النزول[25]، فالمنهجيّة التأويليّة سمحت لبيرك بالوقوف على السور ومحتوياتها بشكل أكبر مِن المنهجيّة التاريخيّة التي رأي بأنَّها غير جديرة بدراسة النصّ القرآني لا استشراقيًّا ولا بنيويًّا، وفي ذلك كان يتجوَّل داخل النصّ القرآني زاعمًا المنهجيّة التأويليّة للنصّ، في حين أنَّه كان يتدخَّل في النصّ الأصلي ويغيِّر فيه، مبرهنًا بأنَّ الصواب المنهجي يتطلَّب ذلك التبديل، وفي حين آخر يذهب إلى أنَّ التبديل ضرورة جوهريّة في الترجمة وفي المنهجيّة التأويليّة، وفي مواطن أخرى لم يرَ أنَّ التغيير عبر التأويل أو بحجّة التأويل يؤثِّر في الأصل، ولا داعي للقلق مِن بعض التأويلات الجزئيّة.

لقد زعم بيرك أنَّه قدَّم قراءة تطوريّة تنطلق مِن الرؤية الواضحة البسيطة لتعيد تنزيل معاني تلك الآيات في عصرنا، مراعية معاني الآيات أكثر مِن مراعاة الألفاظ التي تتغيّر عبر سيرورة التاريخ وتطوّره، وأنَّها قراءة تراعي معاني النصّ القرآني ولا تخرج عن مقاصده، لاشكَّ أنَّها كفكرة جيّدة وتخدم النصّ القرآني، ولكنَّها عند بيرك كانت بابًا لإقحام فكره الأيديولوجي وتبريرًا لترجماته الغائيّة المغايرة للنصّ الأصلي.

- الخاتمة والنتائج
خلص البحث إلى جملة مِن النتائج، يمكننا أن نذكر أهمَّها فيما يلي:

1. حاول جاك بيرك إثبات وجود تباين لغوي وبلاغي في النصّ القرآني بين مرحلة التداول الشفهي وبين مرحلة التدوين، ليشكِّك بحقيقة جمع النصّ القرآني ونزاهة عمليّة الجمع، واعتقد أنَّ ترتيب السور والآيات كان غير دقيق إطلاقاً، ممَّا قد يجعلنا -حسب تعبيره- نشكِّك بالقرآن، لا سيّما تشابهه الكبير مع الكتب المقدّسة السابقة، في حين أنَّ حقيقة الأمر تتبدَّى في أنَّ بيرك سمح لنفسه بأنْ يتدخَّل في النصّ القرآني، وأنْ يجري تعديلات على آليّة الجمع وترتيب السور والآيات، وذلك بالحذف تارة، والإضافة تارة أخرى، ممَّا جعله يعتمد نسخته المعدَّلة، وكأنَّها هي الأصل، فيطلق أحكامه على نصّ قام بالتدخُّل فيه والتصرّف بتركيبه بشكل لا يمكن أنْ يقوم به المترجم الذي يتّصف بالأمانة العلميّة.

2. إنَّ الترجمة التي قدَّمها بيرك، والتي سمح لنفسه فيها بالتغيير والحذف والإضافة، والتي رفض فيها ترتيب السور القرآنيّة والآيات، وشكَّك في آليّة الجمع والتدوين، دفعته إلى تغيير كبير في تسمية السور القرآنيّة، حيث أطلق على بعضها أسماء غير متّصلة بالترجمة السياقيّة للسورة، وبعضها ترجمها ترجمة حرفيّة، ممَّا أفقدها المعنى الحقيقي لها، الأمر الذي يجعل القارئ الأجنبي يقف أمام نصّ فيه تدخُّل بشري كبير، ممَّا سيشكّكه بمصداقية النصّ وبقدسيّته.

3. تدخَّل بيرك عبر ترجمته في تغيير معاني القرآن وتراكيبه، ممَّا أوجد كلمات جديدة في اللغة الجديدة المترجّم لها بمعنى جديد ومختلف عن معناها الوارد في السياق القرآني، بشكل أظهر حجم التدخُّل التغييري مستنداً إلى مرجعيّة فكريّة اعتقاديّة، وبذلك لم يخرج بيرك من إطار الفكر الاستشراقي التهجّمي أو غير البريء على الرغم مِن أنَّه عدَّ نفسه أخاً للعرب والمسلمين نتيجة إقامته لفترة طويلة، إضافة إلى ولادته في البلاد الإسلاميّة.

4. لقد غلبت غائيّة بيرك وأيديولوجيّته على عمليّة الترجمة، ممَّا أوجد ترجمة مشوِّهة للنصّ بشكل قصدي، فكانت ترجمة انتقائيّة مزاجيّة تتوافق مع منظومته الاعتقاديّة التي لم يتخلَّ عنها في عمليّة الترجمة، إضافة إلى منهجيّة الإسقاط التي مارسها في عمليّة الترجمة، إذ جاءت متعصّبة للميول والآراء الذاتيّة الضيّقة، بذلك كان بيرك مراوغًا ماهرًا، لا سيّما عندما كان يبدي إعجابه ببعض المعاني والتراكيب القرآنيّة ليبرر تدخُّله غير العلمي في النصّ المقدَّس.

5. إنَّ إيمان بيرك بوطنه فرنسا وبدينه ومذهبه الكاثوليكي وإخلاصه له لم يجعله يلتزم بالموضوعيّة العلميّة بوصفه مترجمًا أمينًا، فيحاول دائماً عبر ترجماته إيصال رسالة، مفادها أنَّ النصّ القرآني لا يتجاوز النصوص الدينيّة السابقة، ولا يضيف عليها شيئًا جديدًا، ويحاول أنْ يوظِّف تدخّلاته بالنصّ ليبرّر ما يصبو إليه، متجرِّدًا مِن موضوعيّة المترجم.

6. بحجّة التقدُّم العلمي والتطوّر اللغوي وعلم الصوتيّات يلجأ بيرك إلى سياسة تأويل النصّ القرآني، ولا شكّ أنَّ النصّ القرآني يمكنه أن يتقبَّل التأويل الحقيقي الموضوعي، إلَّا أنَّ ترجمة بيرك وحجّة تأويله حوَّلته لنصّ جديد خالٍ مِن المعنى، وهو بذلك يزعم تجاوز المنهجيّة التاريخيّة في قراءة النصّ، موهماً بمخالفة المستشرقين في منهجيّته، إلّا أنَّ ذلك لم يكن إلّا بابًا مِن أبواب التمويه التي تبرِّر تدخّله في النصّ وتمريره لأيديولوجيّته ولفكره الذي يؤمن به.

لائحة المصادر والمراجع
القرآن الكريم.
إبراهيم عوض، ترجمة جاك بيرك للقرآن الكريم بين المادحين والقادحين، منشورات مكتبة زهراء الشرق، القاهرة، ط1، 2000م.
جاك بيرك، إعادة قراءة القرآن، ترجمة: وائل غالي شكري، مركز النديم للأبحاث والمعلومات، القاهرة، 1996م.
جاك بيرك، القرآن وعلم القراءة، ترجمة: منذر عيّاشي، منشورات مركز الإنماء الحضاري، حلب، ط2، 2005م.
جاك بيرك، مصر إمبرياليّة وثورة، منشورات الهيئة المصريّة العامّة للكتاب، القاهرة، ط1، 1998م.
حسن بن إدريس عزّوزي، ملاحظات على ترجمة معاني القرآن الكريم للمستشرق الفرنسي جاك بيرك، فاس المغرب، د.د.ن، 2012م.
سجيّة حمليل، منهج جاك بيرك في ترجمة معاني القرآن - دراسة تحليليّة نقديّة، رسالة ماجستير، جامعة الجزائر، 2011م.
عائشة رقاقبة، النصّ القرآني في الخطاب الاستشراقي البيركي، رسالة دكتوراه، جامعة جيلالي ليابس، سيدي بلعباس (الجزائر)، 2016م.
عبد الجبار توّامة، نقد ترجمة القرآن إلى الفرنسيّة في ضوء المنهج السياقي «ترجمة جاك بيرك نموذجًا»، مجلّة المترجم، الأغواط (الجزائر)، المجلّد الثامن، العدد الثاني، ديسمبر 2008م.
لبنى فرح، ترجمة القرآن بين النصّ والأيديولوجيا، مجلّة إيقان، المجلّد 4، العدد الأول، ديسمبر 2021م.
مليكة سريسر، القراءات القرآنيّة وأثرها في ترجمة معاني القرآن الكريم، رسالة دكتوراه في الترجمة، جامعة وهران، الجزائر، 2018م.
نهاري الشريف، ترجمة معاني القرآن الكريم بين الممكن والمستحيل «ترجمة جاك بيرك وريجيس بلاشير أنموذجًا»، مجلّة فصل الخطاب، جامعة ابن خلدون، تيارات (الجزائر)، 2014م.


------------------------------------------
[1][*]- ناقدةٌ سوريّةٌ، حاصلة على الدكتوراه في اللُّغة العربيَّة وآدابها، أستاذة اللغة العربيّة في جامعة سلجوق في تركيا.
[2]- أنظر: جاك بيرك، إعادة قراءة القرآن، ترجمة: وائل غالي شكري، مركز النديم للأبحاث والمعلومات، القاهرة، 1996م، ص95 وما بعدها.
[3]- جاك بيرك، إعادة قراءة القرآن، ترجمة: وائل غالي شكري، مركز النديم للأبحاث والمعلومات، القاهرة، 1996م، ص89.
[4]- نهاري الشريف، ترجمة معاني القرآن الكريم بين الممكن والمستحيل «ترجمة جاك بيرك وريجيس بلاشير أنموذجًا»، مجلّة فصل الخطاب، جامعة ابن خلدون، تيارات (الجزائر)، 2014م، ص122.
[5]- نهاري الشريف، ترجمة معاني القرآن الكريم بين الممكن والمستحيل «ترجمة جاك بيرك وريجيس بلاشير أنموذجًا»، مجلّة فصل الخطاب، جامعة ابن خلدون، تيارات (الجزائر)، 2014م، ص122-123.
[6]- أنظر: عبد الجبار توّامة، نقد ترجمة القرآن إلى الفرنسيّة في ضوء المنهج السياقي «ترجمة جاك بيرك نموذجًا»، مجلّة المترجم، الأغواط (الجزائر)، المجلّد الثامن، العدد الثاني، ديسمبر 2008م، ص52 وما بعدها.
[7]- أنظر: عبد الجبار توّامة، نقد ترجمة القرآن إلى الفرنسيّة في ضوء المنهج السياقي «ترجمة جاك بيرك نموذجًا»، مجلّة المترجم، الأغواط (الجزائر)، المجلّد الثامن، العدد الثاني، ديسمبر 2008م، ص53.
[8]- عبد الجبار توّامة، نقد ترجمة القرآن إلى الفرنسيّة في ضوء المنهج السياقي «ترجمة جاك بيرك نموذجًا»، مجلّة المترجم، الأغواط (الجزائر)، المجلّد الثامن، العدد الثاني، ديسمبر 2008م، ص53.
[9]- إبراهيم عوض، ترجمة جاك بيرك للقرآن الكريم بين المادحين والقادحين، منشورات مكتبة زهراء الشرق، القاهرة، ط1، 2000م، ص103.
[10]- أنظر: عبد الجبار توّامة، نقد ترجمة القرآن إلى الفرنسيّة في ضوء المنهج السياقي «ترجمة جاك بيرك نموذجًا»، مجلّة المترجم، الأغواط (الجزائر)، المجلّد الثامن، العدد الثاني، ديسمبر 2008م، ص54.
[11]- حسن بن إدريس عزّوزي، ملاحظات على ترجمة معاني القرآن الكريم للمستشرق الفرنسي جاك بيرك، فاس المغرب، د.د.ن، 2012م، ص57.
[12]- القرآن الكريم، سورة الروم، الآيتان 2-3.
[13]- عبد الجبار توّامة، نقد ترجمة القرآن إلى الفرنسيّة في ضوء المنهج السياقي «ترجمة جاك بيرك نموذجًا»، مجلّة المترجم، الأغواط (الجزائر)، المجلّد الثامن، العدد الثاني، ديسمبر 2008م، ص55-56.
[14]- أنظر: عبد الجبار توّامة، نقد ترجمة القرآن إلى الفرنسيّة في ضوء المنهج السياقي «ترجمة جاك بيرك نموذجًا»، مجلّة المترجم، الأغواط (الجزائر)، المجلّد الثامن، العدد الثاني، ديسمبر 2008م، ص57.
[15]- أنظر: نهاري الشريف، ترجمة معاني القرآن الكريم بين الممكن والمستحيل «ترجمة جاك بيرك وريجيس بلاشيرأنموذجًا»، مجلّة فصل الخطاب، جامعة ابن خلدون، تيارات (الجزائر)، 2014م، ص125.
[16]- أنظر: لبنى فرح، ترجمة القرآن بين النصّ والأيديولوجيا، مجلّة إيقان، المجلّد 4، العدد الأول، ديسمبر 2021م، ص9 وما بعدها.
[17]- أنظر: مليكة سريسر، القراءات القرآنيّة وأثرها في ترجمة معاني القرآن الكريم، رسالة دكتوراه في الترجمة، جامعة وهران، الجزائر، 2018م، ص97 وما بعدها.
[18]- سجيّة حمليل، منهج جاك بيرك في ترجمة معاني القرآن - دراسة تحليليّة نقديّة، رسالة ماجستير، جامعة الجزائر، 2011م، ص45.
[19]- أنظر: جاك بيرك، القرآن وعلم القراءة، ترجمة: منذر عيّاشي، منشورات مركز الإنماء الحضاري، حلب، ط2، 2005م، ص25.
[20]- جاك بيرك، القرآن وعلم القراءة، ترجمة: منذر عيّاشي، منشورات مركز الإنماء الحضاري، حلب، ط2، 2005م، ص60-61.
[21]- جاك بيرك، مصر إمبرياليّة وثورة، منشورات الهيئة المصريّة العامّة للكتاب، القاهرة، ط1، 1998م، ص364.
[22]- جاك بيرك، القرآن وعلم القراءة، ترجمة: منذر عيّاشي، منشورات مركز الإنماء الحضاري، حلب، ط2، 2005م، ص41.
[23]- عائشة رقاقبة، النصّ القرآني في الخطاب الاستشراقي البيركي، رسالة دكتوراه، جامعة جيلالي ليابس، سيدي بلعباس (الجزائر)، 2016م، 241
[24]- أنظر: جاك بيرك، إعادة قراءة القرآن، ترجمة: وائل غالي شكري، مركز النديم للأبحاث والمعلومات، القاهرة، 1996م، ص90 وما بعدها.
[25]- أنظر: جاك بيرك، القرآن وعلم القراءة، ترجمة: منذر عيّاشي، منشورات مركز الإنماء الحضاري، حلب، ط2، 2005م، ص35.