العدد 32

العدد 32

محتويات العدد 

■ الفعل الترجمي الاستشراقي للقرآن الكريم مقاربة نقديّة في ضوء ترجمة جاك بيرك

أ.د. حمداد بن عبد الله

■ الرسالة المحمّديّة وارتباطها بالقرآن الكريم في عيون رودي بارت

د. سارة دبوسي

■ منهج المستشرق الألماني برجستراسر في الدراسات القرآنيّة

عائشة جنان

■ تمثُّلات صورة النبي محمّد -ص- في كتاب "عظماء رجال الشرق" للامرتين مقاربة في تصوّرات التّنوير الغربي للغيريّة  

د. مكّي سعد الله

■ النَّقد الذَّاتي للخِطَاب الاسْتِشْراقِي؛ جُورج مَقْدِسِي نموذجًا

محمّد مجدي السيّد مصباح

■ صورة المغرب في الخطاب الرحلي النسوي الفرنسي "رحلة رينولد لادريت دو لاشاريير أنموذجًا"

قاسم الحادك

■ المصور المستشرق ديفيد روبرتس وجهوده في توثيق الآثار الإسلاميّة (دراسة آثاريّة تحليليّة)

د. ربيع أحمد سيّد أحمد

■ ترجمة ملخّصات المحتوى

 

افتتاحية العدد 

الاستشراق ومنظومة الفكر الغربي

الحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله على نبيّ الإسلام محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) وعلى آل بيته الطيّبين الطاهرين(عليهم السلام)، وبعد.

لا نجافي الحقيقة عندما نقول بأنّ حركة الاستشراق العلميّة؛ بحثًا، وتحقيقًا، وتصنيفًا، وترجمةً، وطباعةً ونشرًا للتراث، وتعلّمًا وتعليمًا، ورحّالة...، لم تكن حركةً عفويّةً تهدف إلى «التعرُّف على العرب والمُسلمين؛ من حيث ثقافتهم ومعتقداتهم وآدابهم وقيمهم وجغرافيّة أراضيهم؛ وتسعى وراء المعرفة العلميّة الهادفة إلى تكاون الفكر الإنسانيّ وتكامله، أو المساهمة في تشييد وتعزيز عناصر القوّة والثبات والاستمرار للحضارات على امتداد جغرافيا العالم، ما يُضفي عليها بُعدًا أخلاقيًّا وقيميًّا يجعل من حضورها القوي والفاعل حصنًا منيعًا في خدمة الإنسان والمجتمع واحتياجات الإنسانيّة.

بل إنّ الاستشراق يشكّل منظومةً متكاملةً عملت على مدى قرون طويلة من الزمن مشاريع علميّة وبحثيّة كبيرة من الدّراسات والبحوث حول الشرق، متعدّدة الأهداف والمضامين؛ الفكريّة، والاجتماعيّة، والدينيّة...، بالاستناد إلى الخلفيّات الفكريّة والفلسفيّة والاقتصاديّة والسياسيّة الغربيّة التي تضع في لائحة أولوياتها السيطرة على عناصر القوّة والمنعة في حضارة العرب والمسلمين، وهو ما يُفسّر التعاون الواضح للمستشرقين مع بعضهم البعض من مختلف المدارس الاستشراقيّة، بل مثّل التعاون العلميّ بين العديد من المستشرقين الركيزة الأساسيّة ضمن مجموعة عوامل ظهور إنتاجهم العلمي الغزير عن التاريخ العربي والإسلامي، وكانت هذه السّمة هي الصفة الغالبة في كثير من الأحيان وأبرز مؤثّر نحو إخراج أعمالهم المحقّقة والمترجمة ودراساتهم المتنوّعة[2].

وقد «بذل بعضهم جهودًا كبيرةً في جمع المخطوطات، ونشر بعضها نشرًا علميًّا دقيقًا»[3]؛ وساهم «ظهور المَطْبَعَة الغَرْبِيَّة في عناية الاستشراق بهذا التُّرَاث حتى أخذت مطابع الغَرْب المختلفة تطبع ما يُلقى إليها من كنوز التُّرَاث العَرَبِي والإسلامي -خاصّة طِبَاعَة القُرْآن الكَرِيمِ- وقام بهذا الجهد الشاق المستشرقون من إيطاليا وفرنسا وإسْبَانيَا وبريطانيا وألمانيا وروسيا وهولندة والنمسا وأمريكا»[4]. هذا إلى جانب عمل فهرس للألفاظ الواردة في أمهات كتب الحديث، ثم دراسة جغرافيّة البلاد الإسلاميّة، وعمل الخرائط لها، ثم نشر المخطوطات محقّقة، ثم دراسة الفنون الإسلاميّة بشكل عام، ولم يغب عن اهتمامهم فنّ عمارة المسجد في بلاد الإسلام. ولهذا أطلقوا لاحقًا -على الاستشراق- أنّه «علم يدرس لغات شعوب الشرق، وتراثهم وحضارتهم، ومجتمعاتهم وماضيهم وحاضرَهم»[5].

وقد تجلّت هذه المنظومة، وأنها ذات طابع فكريّ له فلسفته وغاياته وأطماعه، مبكّرًا في مدارس الاستشراق الفرنسيّة، والبريطانيّة، والألمانيّة، حيث اهتمَّت المدرسة الفرنسيّة باللغة العربيّة، والقرآن الكريم، وإنشاء كراسي اللغات الشرقيّة في أهمّ جامعاتها، كالسوربون التي عنى معهد الآداب فيها بتاريخ وحضارة وفن الشعوب الإسلاميّة. وجامعة (بوردو) التي تحتوي على معهد الآداب للغة العربيّة والتمدين الإسلامي...، هذا إلى جانب العديد من الإصدارات التي تُعنى بالعرب وتاريخهم وأديانهم وأنسابهم وأخلاقهم وجغرافيّتهم وثقافتهم وحضارتهم. وألّفت بمجموعها مكتبة موسوعيّة شاملة لجهود وأعمال المستشرقين الفرنسيّين[6]. حيث جمعت في طيّاتها بين التاريخ والجغرافيا والأديان والحضارة وثقافات الشعوب...

كما غلب على المدرسة البريطانيّة اهتمامها المبكّر باللغة العربيّة أيضًا، وتراث الشرق، واهتمّ باحثوها بالذهاب مباشرة إلى إسبانيا وصقليّة؛ لينهلوا من مناهل العلوم العربيّة، واستحداث منصب للأستاذيّة في اللغة العربيّة في الجامعتين المعروفتين عندها، وهما: كمبريدج، وأكسفورد، وصولاً إلى تدريس اللغة العربيّة من قبل الإنكليز أنفسهم، وطباعة الكتب العربيّة في انكلترا لأوّل مرة. وأصبحت بين أيدي الطلبة الذين اهتمّوا بدراسة الآداب والعلوم العربيّة الإسلاميّة، ساعدهم في ذلك معرفتهم باللغة العربيّة[7].

ولم تختلف المدرسة الألمانيّة عن سابقتيها بالعناية الخاصّة بتعلّم وتعليم اللغة العربيّة وذلك بتخصيص كراسي لتدريس اللغات السامية في جامعات ألمانيا، إلى جانب الترجمات وجمع المخطوطات العربيّة والإسلاميّة وتحقيقها، والاهتمام بالقرآن والدراسات القرآنية. وازدهرت الدراسات الاستشراقية في ألمانيا بفضل إنشاء كراسي عديدة لتعلم اللغة العربية في ألمانيا وازدياد المكتبات الشرقية التي اكتظت بالآلاف من المخطوطات والمؤلفات العربية النادرة، وإنشاء المطابع وتأسيس الجمعيات[8].

وبنظرة تفحصيّة موضوعيّة، يتّضح أنّ مجال التعاون والركيزة الأساسيّة الأولى التي اعتمدتها المدارس الاستشراقيّة الثلاث وغيرها قد تمثّل بتعلّم اللغة العربية وإتقانها، للدخول العلمي الجدّي والمركّز إلى التراث العربي والإسلامي وتقديمه إلى العالم الغربي وغيره وفق الفهم واللغة والمنهجيّة الخاصّة بهم، وهذه مسألة لم تكن سهلة، وقد احتاجت إلى جهود كثيرة ليست بالسهلة من كبار المستشرقين والمدارس الاستشراقية في الشقّ الغربي من العالم. وهو ما عبّرت عنه المستشرقة الألمانية «زيغريد هونكة» بقولها: «إنَّ كلّ الشعوب التي حكمها العرب اتّحدت بفضل اللغة العربيَّة والدين الإسلامي، بتأثير قوّة الشخصيّة العربيَّة من ناحية، وتأثير الروح الإسلاميَّة الفذَّة من ناحية أخرى، في وحدة ثقافية ذات تماسك عظيم»[9].

وفي هذا السياق، ينبغي أن لا يغيب عن بال الباحث المتفحّص أنّ اللغة العربية هي لغة القرآن، ولغة نبي الإسلام محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) الذي أنزل الله عليه الوحي بدين الإسلام الحنيف، فقد اختار الله تعالى اللغة العربيّة لتكون لغة للقرآن الكريم، قال تعالى: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾[10]، وقال تعالى: ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾[11]. هاتان الآيتان تكشفان عن حقيقة أنّ إكساء القرآن باللغة العربيّة مُسنَد إلى الله تعالى، وهو الذي أنزل معنى القرآن ومحتواه بقالب اللفظ العربيّ، ليكون قابلًا للتعقّل والتأمّل. وفي الآية الواردة في سورة الزخرف، يقول تعالى -بعد بيان أنّ لغة القرآن هي العربيّة-: ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾. وفي ذلك دلالة ما على أنّ لألفاظ الكتاب العزيز من جهة تعيّنها ونظمها على مستوى الحروف والألفاظ والجُمل والعبارات والآيات والسور، بالاستناد إلى الوحي، وكونها عربيّة، دخلاً في ضبط أسرار الآيات وحقائق المعارف ما لا يمكن إيصاله عبر لغة أخرى غير اللغة العربيّة، ولا يمكن تحقّقه عبر ناظم آخر لكلامه غير اللّه تعالى. ولو أنّه تعالى أوحى إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بمعناه، وكان اللفظ الحالي له هو لفظ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، كما في الأحاديث القدسيّة -مثلًا-، أو تُرجِم إلى لغة أخرى، لخفي بعض أسرار آياته البيّنات عن عقول الناس، ولم تنله عقولهم وأفهامهم[12].

وهذا ما يوجّه البحث إلى جانب منهجيّ مهمّ يرتبط بدراسات المستشرقين وآرائهم في النص القرآن وحجم الشبهات التي أسقطوها على القرآن الكريم ونصوصه. حيث إنّ غالبيّة المستشرقين إمّا لا يعرفون اللغة العربية، أو يعرفونها لكن ليس بمستوى التخصّص والإتقان، وفي كلا الحالتين لا يتسنّى لهم دراسة النصّ القرآنيّ بالاستناد على أسسه وأصوله اللغوية، أعني العربيّة. وهو ما اضطرّهم إلى الاعتماد على نسخ مترجمة من مستشرقين آخرين في دراسة النصّ القرآنيّ وبناء آرائهم في ضوء ما أسّس أسلافهم، وهذا بعيدٌ غاية البُعد عن العلميّة والمنهجيّة فضلًا عن الأمانة العلميّة التي تبرّئ ساحة الباحث من الخلفيات بغضّ النّظر من مشربه الفكري أو الديني. وعليه، لمّا كانت لغة القرآن الكريم هي العربيّة، فإنّ الدّراسات المرتبطة بالنّصّ القرآنيّ يجب أن تستند ليس فقط إلى لغة عربيّة بل إلى خبراتٍ عاليةٍ جداً في فهم قواعد اللغة وتراكيبها واشتقاقاتها واستعمالاتها...، وكما يقول الجاحظ: ولا بدّ للترجمان من أنْ يكون بيانه في نفس الترجمة، في وزن علمه في نفس المعرفة، وينبغي أنْ يكون أعلم الناس باللغة المنقولة والمنقول إليها، حتّى يكون فيهما سواء وغاية...»[13].

ختامًا -ولا ختام للبحث مع المستشرقين- لا بدّ من أن يولي الباحثون ومراكز الدّراسات المتخصّصة بدراسة الفكر الغربي ونقده، في دراساتهم وبحوثهم القراءة المنظوميّة، بمعنى قراءة الاستشراق كمنظومةٍ متكاملة الأهداف والغايات، والمتّحدة في المنطلقات والخلفيّات الفلسفيّة؛ كي لا نقع في اجترار الأفكار والبحوث التجزيئيّة والموضعيّة، التي لا توضّح الصورة الكاملة لمشروع الاستشراق بكلّ مداليله الغربيّة.

الحمد لله رب العالمين

 

------------------------------

[1](*) مدير التحرير الشيخ حسن أحمد الهادي.

[2] عبد الله المشنوق: التعاون الثقافي، (مجلة الأديب، لبنان، العدد 2، الأول من فبراير، 1945م)، ص3.

[3] صالح أحمد العلي: «مشاكل تتطلب الحل في إعادة كتابة التاريخ العربي»، (مجلة الباحث، بيروت، السنة الثالثة، العدد الثالث، يناير- فبراير، 1981م)، ص43.

[4] د. أنور محمود زناتي: «تاريخ طـباعة القرآن الكريم لدى المستشرقين»، (مجلة دراسات استشراقية «محكمة»، السنة: الخامسة، 1439هـ/ 2018م)، ص15.

[5] د. فاروق عمر فوزي: الاستشراق، والتاريخ الإسلامي، القرون الإسلامية الأولى، جامعة أل البيت الأهلية، طـ1، 1998م، ص39.

[6] العقيقي: المستشرقون، ج1 ص161-164.

[7] م.ن، 17.

[8] نقد الخطاب الاستشراقي، ص130.

[9] شمس العرب تسطع على الغرب، تعريب: إبراهيم بيضون، ص13-14.

[10] سورة يوسف، الآية 2.

[11] سورة الزخرف، الآية 3.

[12] الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج11، ص75. (بتصرّف)

[13] الجاحظ، عمرو: كتاب الحيوان، تحـقيق: محمد عبد السلام هارون، لا ط، بيروت، دار الجيل، 1955م، ج1، ص75-79.