محتويات العدد
■ الافتتاحيّة
حسن أحمد الهادي
■ المدرسة الاستشراقيّة الألمانيّة في الدراسات القرآنيّة والنقد الداخلي للاستشراق من خلال النظريّات الغربيّة في جمع القرآن الكريم
د. الشيخ محمد حسن زماني ـ د. الشيخ حيدر الساعدي
■ "القرآن في شعره وقوانينه" للمستشرق الإنجليزي ستانلي بول مقاربة في تفكيك ضبابيّة الرؤية والتصوّر والاضطراب المعرفي
د. مكّي سعد الله
■ التأريخ للعلوم العربيّة بين المنظورين العربي والاستشراقي
ياسين زواكي
■ علي سامي النشّار ومنهجه النقديّ في دراسة آراء المستشرقين
د. عادل سالم عطيّة جاد الله ـ أ. محمد مجدي السيد
■ فيديريكو كوريينتي كوردوبا (قرطبة) قمّة الاعتدال في الاستعراب الإسباني
د. عيسى الدودي
■ منهج الشنقيطي في الردّ على شبهات الغربيّين من خلال كتابه "طهارة الغرب"
د. بوها ولد محمد عبد الله سيدي
■ الجزائر في أدبيّات الرحّالة الفرنسي ألفونس دوديه Alphonse Daudet
أ.د. بغداد عبد الرحمن
■ ترجمة ملخّصات المحتوى
افتتاحية العدد
القيم...وتحدّيات الاستشراق
الحمد للّه ربّ العالمين، وصلّى الله على سيّدنا محمّد وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين، ... وبعد
لقد حظي موضوع القيم باهتمام بالغ من قبل الباحثين والمتخصِّصين والعلماء في مختلف ميادين البحث العلمي، فتصدّى لهذه الأبحاث والدراسات نخبٌ من العلماء والباحثين والمفكّرين. وعكفت العديد من الدول والمؤسّسات التربويّة والاجتماعيّة على صياغة البرامج والرؤى والخطط الإستراتيجيّة، التي تهدف إلى تربية المجتمعات على القيم[1]، لكن كلّ بحسب رؤيته الفلسفيّة والعقَديّة. وما يميّز الفكر الإسلامي من بين كل هذه الأفكار والفلسفات، إستناده إلى خلفيّة عقديّة وإيمانيّة وروحيّة مستمدّة من وحي السماء، التي كفلت في تشريعاتها النظام القيمي الجامع والأكمل للمجتمع البشري؛ ولهذا فإنّ إيماننا ودعوتنا إلى الالتزام والتربية على القيم الإسلاميّة الأصيلة لا يحيد عن كونها منظومة فكريّة وعقديّة وحقوقيّة وأخلاقيّة تتمثّل في الدين الإسلامي، وتستمدّ رسوخها في النفس وتمظهرها في السلوك منه، هذا مع الإشارة إلى أنّ التربية الأخلاقيّة الإسلاميّة هي منهج متداخل ومترابط مع جوانب التشريع كافّة، وفي جميع مجالات الحياة؛ لأنّ التربية الأخلاقيّة في الإسلام إنّما تقوم على تزكية النفس، والتحلّي بمكارم الأخلاق؛ ما ينعكس عملاً صالحاً في سلوك المجتمعات وحياتها.
وذلك على أساس أنّ النظام القيمي متداخل مع مناحي الحياة ومجالاتها المختلفة، وتبرز على شكل اتّجاهات ودوافع وتطلّعات، وتتمظهر في السلوك الظاهري الشعوري واللاشعوري، وفي المواقف التي تتطلّب ارتباط هؤلاء الأفراد والمجتمعات فكريّاً وعمليّاً ـ على امتداد الحياة. وبكلّ تحدّياتها ـ بمرجعيّة لا يمكن الحياد عنها، «وهي بمثابة الأصول المعياريّة التي نحكم بها على الأفكار، والأعمال، والموضوعات، والمواقف الفرديّة والجماعيّة، من حيث حسنها وقيمتها والرغبة بها، أو من حيث سوئها وعدم قيمتها وكراهيّتها، أو في منزلة معيّنة بين هذَين الحدّين»[2].
وعندما نتحدَّث عن القيم بهذا المفهوم الواسع والرحب، لا نحصرها بالقيم الأخلاقية، وإن شكّلت القيم الأخلاقية أحد أهمّ غايات بعثة النبي الأعظم؛ وذلك لأنّ المحتوى التشريعي للنظام الإسلامي، وهو أحكام الشريعة الإسلاميّة؛ يهدف إلى التربية الشاملة للإنسانيّة في جميع مجالات حياتها ونشاطها[3]، وهذا أعمّ وأشمل من القيم الأخلاقيّة.
وليس ثمّة شكّ في أنّ الإسلام كدين يحمل معه، منذ ظهوره، نظاماً متكاملاً للقيم مختصّاً به، وهو «مجموعة من المعتقدات والتشريعات والغايات والوسائل والضوابط والمعايير لسلوك الفرد والجماعة مصدرها الله عزّ وجلّ»[4]. وهذه القيم هي التي تحدّد علاقة الإنسان مع الله تعالى، ومع نفسه، ومع البشر، ومع الكون. ومن خصوصيّات النظام القيمي في الإسلام أنّه مضمون ومحفوظ من خلال أصل الوجود الفكري والعقدي، والمنظومة التشريعيّة والقانونيّة الواسعة في الدين الإسلامي، إلى حدّ أنّه لا يوجد تشريع إسلامي غير ممزوج بالقيم، بلا فرق بين التشريعات ذي المضمون القيمي الذاتي، والتشريعات ذي البعد الآلي والتطبيقي، التي تلحظ آلية التطبيق والممارسة.
بل إنّ الشرائع السماوية كلّها عبر التاريخ ترتبط بغاية مركزيّة واحدة وهي تربية البشر وتوجيههم نحو قيم السماء، من خلال عقيدة التوحيد، وكلّ التشريعات الأخرى التي تنظّم حركة المجتمع الإنساني وسلوكه بما ينسجم مع هذه العقيدة، إذ لا مجال لفهم التشريعات التفصيليّة بمعزل عن قيمتها الأمّ المتمثّلة بالبعد العقدي السماوي، الذي نستمد منه رؤيتنا للكون والإنسان؛ وذلك أنّ مصدر رسالة الإسلام وحي الله تعالى، والله تعالى هو صاحب هذا الدين، ولهذا يضاف إليه، فيقال : «دين الله»، وإضافته إلى الله تعني أنّ الله –جلّ شأنه– هو واضعه ومحدّده، وإنّ كون دين الإسلام ربّاني المصدر يجعله منزّهاً عن الخلل والاضطراب والمحاباة والتحيّز.
نحن الآن وأكثر من أي وقت مضى أمام عظمة الوظيفة الملقاة على عاتقنا، في مواجهة تحدّيات العولمة وما تنتجه من آثار سلبيّة مدمّرة لهويّتنا الثقافية. وبجانب كل هذا فإنّ الغرب يعمل منذ القدم على محاولة إلغاء النّسق الفكري الإسلامي، ومحاولة تشكيل الفكر والثقافة والقيم، وفق النّسق الغربي الأوروبي، وإنجاب تلامذة من أبناء العالم الإسلامي؛ لممارسة هذا الدور والتقدّم باتّجاه الجامعات والمعاهد، ومراكز الدراسات، والإعلام، والتربية، في العالم الإسلامي، لجعل الفكر الغربي والنّسق الغربي هو المنهج، والمرجع، والمصدر، والكتاب. وذلك من خلال السعي والعمل الدؤوب للعقليّة الأوروبيّة الاستشراقيّة، في فرض شكليّتها وآليّاتها على التّحقيق، والتّقويم، والنّقد والسيطرة على مصادر التّراث العربي الإسلامي[5]. وهذا ما يفسّر كثرة وتنوّع مراكز البحوث والدراسات المتخصّصة بالتراث الإسلامي والعربي لديهم، والأقسام الدراسيّة التخصّصيّة في الجامعات العلميّة، وما يوضع تحت تصرّفها من الإمكانات الماديّة، أو المبتكرات العلميّة، والاختصاصات الدراسيّة.
ولهذا فقد آن الأوان لندرك بأنّ الحرب على الجبهة الثقافيّة والقيميّة ـ الفكريّة هي الأهمّ في الوقت الراهن؛ وأنّ المستهدف بالدرجة الأولى اليوم هو نظام القيم الإسلاميّة، ومقوّمات شخصيّتنا الثقافيّة «الدين، اللغة، السمات، التاريخ، الذات، حتى العادات والتقاليد والأشكال والصور».
وتخاض هذه المعركة بأساليب وتقنيّات متطوِّرة جداً في التوجيه الفكري والإعلامي والنفسي والتربوي والفنّي... والهدف بات واضحاً ومعلوماً؛ وهو تجويف نظام القيم الإسلاميّة الذي يعبّر عن أصالة الفكر والثقافة والممارسة. ولهذا فالمسؤوليّة على ذوي الأفكار السليمة كلّهم، من خلال القيام بحركة واعية في ثقافة التغيير، أو التغيير بالثقافة والوعي المعرفي والقيمي. فقد استخدم المستشرقون عدّة مناهج في دراساتهم للدين الاسلامي حيث شمل النواحي القرآنيّة، والعقديّة، والفقهيّة والاجتماعيّة وغيرها.
وحتّى نكون في مستوى الحوار الفكري، والتبادل المعرفي، ونوقف فعلًا الغزو الفكري والاختراق الاستشراقي، لابدّ أن نكون قادرين على امتلاك الشوكة الفعليّة... أن نكون قادرين على الإنتاج الفعلي لمواد ثقافيّة تمثّل ثقافتنا، وتأتي استجابة لها، وتغري الناس بها، وبذلك وحده نكون في مستوى الحوار، والتبادل المعرفي، فالمواجهة لا تكون بإدانة الآخرين، والنظر إلى الخارج دائماً، وإنّما تبدأ حقيقة من النظر إلى الداخل أوّلاً لملء الفراغ، بعمل بنائي مستمر، وتحصين الذات[6].
وقد لا يكون المرء مجانباً للصواب إذا قال: إنّنا إذا لم نتصدَّ للتيّار الاستشراقي بكل قوّة، فسوف نتعرّض للانسلاخ والذوبان لا محالة، والمعركة بين الاستشراق والإسلام معركة فكريّة هائلة جنّد لها المستشرقون أعداداً كبيرة من الباحثين المتخصّصين، والمؤسّسات؛، فمكتبات العالم مليئة بإنتاج المستشرقين، وبشتّى اللغات الإنسانيّة، وهناك عشرات المجلّات، ومئات المؤسّسات التي ترعى الاستشراق، وتعمل لخدمة المستشرقين، وهناك أيضاً آلاف العلماء، والباحثين، من المستشرقين، الذين يتفرّغون لبحوثهم ودراساتهم، وهناك المؤتمرات الاستشراقيّة العالميّة، التي تعقد حسب الحاجة في العواصم العالميّة[7].
وفي سياق الجهود العلميّة والفكريّة المبذولة في نقد المستشرقين والفكر الاستشراقي، وبيان نقاط الضعف المنهجي والمضموني، ورفع الغطاء عن الشبهات والافتراءات على التراث الإسلامي والعربي وتفنيدها...، تستكمل مجلة دراسات استشراقيّة في هذا العدد (25) - ربيع 2021م- أطروحتها العلميّة المتخصّصة في مجال الدراسات الاستشراقيّة، وتفتتح بحوث هذا العدد ببحثين قرآنيين، الأوّل بعنوان: (المدرسة الاستشراقيّة الألمانيّة)... والثاني بعنوان: (القرآن في شعره وقوانينه) للمستشرق الإنجليزي ستانلي بول، مقاربة في تفكيك ضبابيّة الرؤية والتصوّر والاضطراب المعرفي. ثم تركّز على مناهج نقد المستشرقين من خلال دراسة بعنوان: علي سامي النشار ومنهجه النقدي في دراسة آراء المستشرقين، والتأريخ للعلوم العربيّة بين المنظورين العربي والاستشراقي، فيديريكو كوريينتي كوردوبا: قمّة الاعتدال في الاستعراب الإسباني، الجزائر في أدبيّات الرَّحَّالة الفرنسي ألفونس دوديه Alphonse Daudet . ثم منهج الشنقيطي في الردّ على شبهات الغربيين من خلال كتابه «طهارة العرب».
مع الإشارة إلى أنّنا قد خصّصنا ابتداءً من هذا العدد باباً خاصّاً بالأبحاث القرآنيّة، التي تعمل على الدراسة والنقد والتحليل للعديد من الشبهات والإشكالات التي أثارها المستشرقون حول القرآن الكريم وما يتعلّق به، بالإضافة إلى البحوث الأخرى المتعلّقة بالتراث الاستشراقي.
مدير التحرير
حسن أحمد الهادي
----------------------------------
[1]- القيمة مفرد قيم، من قوم، وقام المتاع بكذا أي تعدّت قيمته به، والقيمة الثمن الذي يقوم به المتاع؛ أي يقوم مقامه، مثل: سدرة وسدرة. شيء قيمي، نسبة إلى القيمة على لفظها؛ لأنّه لا وصف له ينضبط به في أصل الخلقة حتى ينسب إليه. الفيومي، أحمد بن محمد بن علي: المصباح المنير، ط6، القاهرة، المطبعة الأميريّة، 1992م، ص714.
[2]- بتصرّف عن: الكيلاني، ماجد عرسان: فلسفة التربية الإسلاميّة، ط2، مكّة المكرّمة، مكتبة هادي، 1988م.
[3]- الصدر، محمد باقر: ومضات (مجموعة من محاضرات السيد محمد باقر الصدر(قده) ومقالاته، ط1، قم المقدّسة، مركز الأبحاث والدراسات التخصّصيّة للشهيد الصدر(قده)، 1428هـ.ق، ص105.
[4]- سعد الدين، د. محمد منير: من أبحاث مؤتمر القيم المنعقد في بيروت عام 2006، ط1، بيروت، جمعية التعليم الديني، 2010م.
[5]- أحمد عبد الرحيم السابح، الاستشراق في ميزان نقد الفكر الإسلامي، ص 59-60، بتصرّف، الدار المصريّة اللبنانيّة، القاهرة ط:أولى 1417هـ
[6]- عمر عبيد حسنة، مقدّمة كتاب الأمّة، العدد رقم 27، ص 29.
[7]- الاستشراق في ميزان نقد الفكر الإسلامي، مرجع سابق.