العدد 40

العدد 40

محتويات العدد

■ الاستشراق وتشكيل مخيّلة الغرب

حسن احمد الهادي

■ مزالق المستشرقين في دراسة القرآن الكريم

محمود علي سرائب

■ قرآن الشيعة في الدراسات الغربيّة

جونا وينتر

■ التراث بين الدّراسة الخبريّة، المعرفيّة ودراسات المستشرقين الإنشائيّة

د. عثمان ويندي انجاي

■ ظهور الشيعة والتشيّع عند المستشرقين

أحمد بهشتي مهر، السيدة منى موسوي

■ الإمام الصادق(عليه السلام) في الرؤى الاستشراقية

محمد رضا الخاقاني (بيگ)

■ الاستشراق مشكلة معرفة أم مشكلة اعتراف بالآخر؟

د. خليل أحمد خليل

■«مناهج المستشرقين في الدراسات العربيّة الإسلاميّة» الجزء الأول

محمد بن عمارة

 

 

الافتتاحية

بسم الله الرحمن الرحيم

الاستشراق وتشكيل مخيّلة الغرب

تثبت الوقائع التاريخيّة، فضلًا عن الكثير من الدراسات والتحقيقات الصادرة في الغرب عن الشرق، أو تلك الصادرة في الشرق في مواجهة المدّ الفكري الغربي، أنّ الرؤية الاستراتيجيّة للاستشراق التي كوّنتها مراكز الأبحاث والدراسات الغربّية والاستشراقيّة تقوم على فكرة إعادة صياغة الشرق معرفيًّا، وسياسيًّا، واجتماعيًّا، وعقائديًّا، وعلميًّا...، بغية السيطرة على العقول والأفكار والتراث، فضلًا عن المكوّنات الحضارية للشعوب، والجغرافيا والبشر والحجر، وبهذا فقد أنتج المستشرقون منظومة متكاملة من الأفكار والرؤى حول الشرق والإسلام، نسج بموجبه الخيوط الأولى للمخيّلة الغربية حول الإسلام كدين سماوي، وحول كل ما يتعلّق بالتراث العربي والإسلامي، وهو ما كرّس صورة نمطية للشرق لا تعكس سوى الجهل والهمجية وعبادة الشهوات، وتركّز على نقاط الضعف التي تمكّن الغرب من التسلّل منها للاستحواذ على مواردنا وإرادتنا وقرارنا بصور خادعة، زخرفها بمنمنمات فنية تحرف النظر عن خبث تلك الصور وواقعية تلك النظرة الغربية الظالمة والمتعالية. ولا فرق هنا بين الاستشراق الجديد والاستشراق القديم، فكلاهما قدّم نسخة عن الشرق والإسلام أحط وأبشع من الأخرى.

النزعة الاستعلائية في الفكر الاستشراقي

وهذا يرتبط بثوابت الغرب قديمًا وحديثًا وذات صِلة «بالنزعة الاستعلائية في الفكر الغربي، وهي صفة متأصّلة في هذا الفكر، حيث مسّت بل طبعت أدباء وفلاسفة الغرب بطابع استعلائي، فأعلام الفكر الغربي من الفلاسفة وغيرهم لم يخرجوا من قبضة هذه الأيدولوجيا الاستعلائية والنظرة الفوقية...، فإنّ أمثال هوبز ولوك ورسو وهيوم وغيرهم كانوا يرون أنّ الحضارة من صنعهم وحدهم ومقتصرة عليهم، وهيجل كان ينظر للشرق على أنّه في أدنى درجات سلّم الرقي، وقد ترتّب على ذلك جنون القوّة وهاجس التوسّع وقهر الشعوب، وإنّ هذه النزعة لم تغيّرها الأيام بل هي متوارثة بين أجيال الغربيين، وتشكّل اليوم أحد الأهداف المهمّة في صلب الإستراتيجية الغربية، والتي تقوم على ضرورة ضمان التفوّق الغربي على العالم، ومن أجل تحقيق ذلك لا بدّ من تبنّي سياسة هجومية غير اعتذارية، وانفرادية وغير متردّدة تعتمد على القوّة العسكرية[2]، ونقرأ أيضًا تأصيل هذه النزعة في ملامح السياسة الغربية للقرن الحالي والمتمثّلة بـ: «ضرورة نشر القوات العسكرية والاستعمارية في أغلب بقاع الأرض، والتدخّل في أيّ قضية مها كانت إقليمية، وتفرض الحل الذي تراه، ويجب أن تكون المقوّم الوحيد لجميع أنظمة الحكم في العالم، والسيطرة على النظام المالي العالمي، كما أنّ هذه السياسة تحمل في ثناياها جعل الثقافة الغربية معياراً للذوق في جميع أنحاء العالم[3]. ولم تفلح كل المحاولات العربية والإسلامية من خلال التواصل والتحاور مع الغرب بعد ذلك في تغيير تلك الصورة، التي التصقت في وعي ولا وعي الغرب، وصارت مُسَلَّمة لا تُدحَض.

وفي تأييد هذا المنحى المتطرّف يقول أليكسي جورافيسكي: «إن الأغلبية المطلقة من المستشرقين لم يتخلّصوا من المواقف المعادية للإسلام»[4]. وتقوم بيانكا سكارسيا بتحليل عميق لهذه الفئة فتقول: «عمل الاستشراق لصالح الاستعمار بدلًا من إجراء التقارب بين الثقافتين. إن إنشاء هذا العلم لم يكن إلا من أجل تقديم أدوات للاختراق أكثر براعة، فهناك فعلًا عملية ثقافية مستترة ماكرة ومرائية، وهذا ما يفسّر ريبة المسلمين حيال كل ما يُقال عنهم في الغرب»[5]، ويقول برناردشو متأسّفًا: «مضت على الغرب القرون وهو يقرأ كتبًا ملأى بالأكاذيب على الإسلام» ويقول توماس كارليل في سياق حديثه عن افتراءات المستشرقين حول نبي الإسلامs: «إن أقوال أولئك السفهاء من المستشرقين في محمد، إنما هي نتائج جيل كفر، وعصر جحود وإلحاد، وهي دليل على خبث القلوب وفساد الضمائر، وموت الأرواح»[6]...

كما يشير إلى هذه الحقيقة إدوارد سعيد في كتابه «الاستشراق» بقوله: «لقد كُدِّست فوق محمدs في العصور حزمة من الخصائص التي تطابقت مع شخصية أنبياء «الروح الحرة» الذين ظهروا في أوروبا في القرن الثاني عشر، وادّعوا أنهم صادقون، وجعلوا وراءهم أتباعًا. وبطريقة مشابهة، فما دام محمّد قد اعتبر ناشرًا لوحي زائف، فقد أصبح هو كذلك تجسيدًا للشبق، والفسق، والشذوذ الجنسي، وسلسلة كاملة من الخيانات المتنوّعة التي اشتقّت جميعًا بصورة منطقين من انتحالاته المذهبية[7].

الفكر الإقصائي

إنّ المتتبّع بوعي لمسيرة الغرب المُعاصِر يجد أنّها جنين مشوّه لحضارات سبقتها والتي كانت تسعى للتخلّص من أي حضارة مقاربة لها، كيف لا وقد انفرد الغربيون عبر تاريخهم الطويل -وما زالوا- بالإقصائيّة التي لا ترى الآخر من منظور تشاركي بقدر ما تراه منافسًا لدودًا وعدوًّا محتملًا. والتاريخ شاهد لا يكذب، ترى ذلك واضحًا عند وصول الأوروبيين إلى أستراليا مثلًا؛ إذ لم يبقَ فيها سوى آثار من الشعوب الأصل،ية حتى باتوا يدرسونهم على أنّهم فلكلور وإنثروبولوجيا. ويُمكنك قول ذلك عن الهنود الحمر في أمريكا أيضًا عندما تمّت إبادتهم إبادةً تامّة ودموية، وعن العبوديّة والعنصريّة يُمكن أن تقرأ مئات التقارير التي تتحدّث عن عدد الأفارقة الذين تم استعبادهم ونقلهم من إفريقيا إلى أمريكا يُقال إنّعدد هم وصل إلى أكثر من 13 مليون شخص. وكذا عندما نقرأ تاريخ الإبادة التي تعرّض لها المسلمون الأندلسيون على يد الحضارة الأوروبية في محاكم التفتيش لتكشف بما لا يدع مجالًا للشك بأنّها حضارة كانت تعيث في الأرض فسادًا واستعمارًا، وقامت على الدماء والإقصاء وطرد الآخر أو إعدامه.

ولهذا من غير المفاجىء أن يتقمّص الإنسان الغربي الفردانية ويجعلها محور سلوكه وحكمه على الأشياء من حوله، والفردانية تعني في حدها الأدنى تمحور الفرد حول مصالح ذاته[8]، وهي كما وصّفها كثيرون تعود في أصلها إلى الأنانية. أو هي «الإنكار لأي مبدأ أعلى من الفردية» على حد تعبير الفرنسي رينيه غينون، والذي يرى «أن الفردانية هي السبب الحاسم للانحطاط الراهن للغرب»[9]. وبسيطرة الفردانيّة على السلوك الفردي والاجتماعي تعمّقت المشكلة الأخلاقيّة التي فتكت في كل شيء، فوفق المنطق الفرداني أصبح الإنسان معنيًّا بمصالحه الخاصة، دون أي مبالاة بالصالح العام.

وعلى سبيل المثال لا الحصر لم تكن الوحشية التي تتمتع بها القوى العسكريّة الفرنسيّة شيئًا جديدًا على العرب وخاصة في مصر وبلاد الشام، فحملة نابليون بونابرت على مصر وبلاد الشام (1798-1801م) لا تزال ماثلة في الأذهان فقد أعدم نابليون آلاف من الجنود الذين استسلموا له بحجة عدم وجود طعام يكفيهم.

اتجاهان في مواجهة الغرب

وبالمقابل عندما ننظر نظرة موضوعية متجرّدة إلى «الاستغراب» كمشروع علمي وفكري وثقافي لمعرفة الغرب ودراسة حضارته وأفكاره وفهمها وهضمها ونقدها، وتفكيك ثقافته وتوجّهاته، فإنّنا سنجد مكوّنات هذا الطرف تنقسم إلى اتجاهين كلاهما لا يعتمد المنهجيّة الغربيّة اللاعلميّة والاستعلائيّة والاستعماريّة في النظرة والتعامل مع تراث الآخر.

الاتجاه الأول: حيث حرص مؤيّدو هذا الاتجاه –بغضّ النظر عن موقفنا السلبي منه- على امتلاك آليات إيجابية فاعلة للتعامل مع الغرب لا تقوم على تشويه قيمه وأفكاره والتعامل السلبي مع تراثه، بل تنطوي في أغلبها على الإعجاب به، ومحاولة تمثّله، والاقتداء بما أنجزه في المعارف التطبيقية والإنسانية والفنون، وفي العمران البشري، لا سيّما في مجال الديمقراطية وحقوق الإنسان.

الاتجاه الثاني: بينما ينطلق أصحاب الاتجاه الثاني من منهج بحثي وعلمي شفاف ورزين يقوم على عمليّة دراسة المباني والنظريات والأفكار والمناهج الغربية وفحصها، وبيان مواطن ضعفها وعثراتها وثغراتها، وتسليط الضوء على تناقضاتها الداخلية وتهافتها وعدم تماسكها، وضعف انسجام أفكارها، وإبراز النتائج غير المنسجمة مع المقدِّمات فيها، ولوازمها الفاسدة، والآثار السلبية التي تترتّب عليها، ونقد المباني والمرتكزات العامة من حيث المنهج والمضمون والمحتوى، إضافةً إلى نقد الأفكار الفرعيّة الناتجة عن هذه المباني والمرتكزات. أو من خلال القراءة التوصيفيّة التي تتضمّن بيان السلبيات والأفعال المتعارضة مع القيم والأخلاق الإنسانيّة، خصوصًا في الأبحاث التاريخيّة. وذلك من قبيل بيان وتوصيف الحروب العسكريّات والاستعماريّة الغربيّة في مختلف أنحاء العالم، سواء الداخليّة بين الدول والمجتمعات الغربيّة، أو الخارجيّة، فلا بد في مثل هذه الموارد أن تكون أدبيّات التوصيف تقريعيّة تكشف همجية الغرب وتوحّشه وماديّته.

إضافة إلى تسليط الضوء على العوامل والظروف والمبادئ المؤسِّسة والجذور الاجتماعيّة والنفسيّة التي ساعدت على وجود عثرات وضعف في المباني والأفكار الفرعيّة، والكشف عن تحيّزات المُفكِّر، والسياقات الحياتية الخاصة به التي انعكست على كيفيّة معالجته الأفكار التي هي مورد العرض والنقد.

ولا بدّ من انطلاق النقد من المباني العقليّة السليمة، وبيان عدم انسجام النظرية المنقودة مع هذه المباني، والاستناد إلى الأسس الدينيّة الصحيحة، وبيان الموقف الديني من الموضوع المبحوث، وبالتالي تضمُّن النقد قراءة مقارنة مع الأطروحات والنظريات الفكريّة الإسلامية الأصيلة، مُبدِيًا قوّتها ومتانتها مقابل الفلسفة الغربية والأطروحات غير الدينيّة. وهو ما يتطلّب تدعيم النقد بالأدلة والبراهين والشواهد والقرائن، بعيدًا عن إبداء التعصّب والانسياق وراء العواطف والميول الشخصية. والأهم من كل ذلك الالتزام بالآداب الإسلاميّة في نقد الآخر ومناقشته، باجتناب العبارات التي توحي بالإساءة الشخصية.

الاستشراق وصناعة المخيلة الغربيّة

لا نشكٌّ عندما نقلّب صفحات تاريخ الاستشراق والمستشرقين من القرن الثامن عشر وحتى تاريخنا الحديث أنّ المخيلة الغربيّة التي صنعها وأرساها الخطاب الاستشراقي متلبّسة بالعدائية والفوقية، والفكر الاستعماري، والنظرة الدونية للشرق وللإسلام ولحضارته وشعوبه...، بغية الاستحواذ على الشرق وثرواته وموارده بأخس الأساليب والمناهج، حتى لو اقتضى الأمر تزوير الحقائق أو تفسيرها بما يوافق أغراضهم أو ما يسعون إليه. ولهذه الغاية دخل الغرب من خلال الاستشراق -ببعديه الكلاسيكي والمستحدث- بمؤسّساته الفلسفيّة والأكاديميّة واللاهوتيّة والإيديولوجيّة والسياسيّة في اختصام عميق مع الإسلام بكل ما يحمل من هوية حضارية راسخة وممّتدة على امتداد الزمكان؛ إذ من المؤسف أن يُسخِّر هؤلاء العلمَ الذي يسمو به الإنسان؛ لإذلال الإنسان أو استعباده أو الطعن في تراثه وعقيدته بغير حق. بل ويعتبر نفسه هو المعني في إعادة تشكيل وعي الشرق وثقافته وفي طريقة تفكيره حيال نفسه وحيال الغرب في آن.

ولهذا لا يُرجى من هذا الغرب الذي بنى أيديولوجياته على أفكار المستشرقين الجدد أن يعود إلى صوابه في رسم معايير علمية شفافة يقوم عليها خطابه ومخّيلته الملّوثة بأفكار المستشرقين الأخطبوطية تجاه الآخر الشرقي والمسلم.

والحمد لله رب العالمين

 

---------------------------

[1]- مدير التحرير.

[2]- الطحان، مصطفى، «الطريق إلى العصر الأمريكي»، مجلة المجتمع، الكويت، العدد (1547)، 2003م، ص24.

[3]- بن محمد القرني، عوض، «الحرب الإعلامية الأمريكية ضد السعودية وسبل مواجهتها»، مجلة المجتمع، الكويت، العدد (1516)، 2002م، ص31.

[4]- جورافيسكي، أليكسي، الإسلام والمسيحية، ص105.

[5]- سكارسيا، بيانكا، العالم الإسلامي وقضاياه التاريخية، ص214.

[6]- الجندي، أنور، آفاق جديدة للدعوة الإسلامية في الغرب، ص51.

[7]- سعيد، إدوارد، الإستشراق، المعرفة، السلطة، الإنشاء. نقله إلى العربية: كمال أبو ديب. مؤسسة الأبحاث العربية. الطبعة العربية الرابعة 1995 ص 99-100.

[8]- يراجع: أودار، كاترين، «ما الليبرالية»، ص44 وما بعد.

[9]- غينون، أزمة العلم الحديث، ترجمة: عدنان نجيب الدين (النجف، المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية، ط1، 2016) ص77.