العدد 44

العدد 44

محتويات العدد 

■ الاستشراق وحمولته التّاريخيّة المؤدلجة

حسن أحمد الهادي 

■ مناهج المستشرقين في دراسة القرآن الكريم مناهج التّشكيك ، والإسقاط ، والانتقاء

الشيخ د. لبنان حسين الزين

■ أطروحة المستشرق الإنجليزيّ برنارد لويس ومنهجه في ميزان التّحليل والنّقد

أ. معروفي العيد

■ إشكاليّة خطاب الاستشراق خطابا بلفور وكرومر نموذجان

لغزال محمد، إشراف الدكتور: عبد النور الحضري

■ الإمام الحسن(عليه السلام)في كتاب (الشّيعة)للمستشرق المعاصر هاينس هالم دراسة نقدية

أ.م.د أركان التّميمي

■ الرّحلة ما بعد الكولونياليّة بين رهانات التّعايش الإنسانيّ وإكراهات التّعالي الاستشراقيّ

د. عبد الفضيل ادراوي

■ ترجمة مقدّمة كتاب: «القصائد السّبع» الفصل الأول: في الأدب العربي

عزّ الدين بلقاسم كِبْسي

■ مصدريّة القرآن عند المستشرق تيسدال  قراءة نقديّة في المنهج والفكر

التحرير

 

الافتتاحية 

بسم الله الرحمن الرحيم

الاستشراق وحمولته التّاريخيّة المؤدلجة

تمتاز العمليّة البحثيّة بأنّها عمليّة هادفة منظّمة، تخضع لمناهج البحث العلميّ في ميادين العلوم الإنسانيّة، والتّطبيقيّة كافّة، وهو ما يفرض على الباحثين «التّحلّي بالاستقامة، والنّزاهة العلميّة، وسلوك الطّرق القويمة للوصول إلى هدفه، أو غايته...». والاستناد العلميّ الدّقيق، والكامل؛ لأنّ المنهج «هو فنّ التّنظيم الصّحيح لسلسة من الأفكار العديدة، إمّا من أجل الكشف عن الحقيقة، حين نكون بها جاهلين، وإمّا من أجل البرهنة عليها للآخرين، حين نكون بها عارفين». وهذا ما يلزم الباحث الّذي يعمل للوصول إلى الحقيقة، وتحقيق الأهداف البحثيّة، بالتّجرّد عن الخلفيّات الفكريّة اتّجاه القضيّة موضوع البحث، وإلّا لأدّى ذلك إلى نقض الغرض؛ ولأنّ ذلك نوع من التحكّم غير المتّصف بالموضوعيّة الّتي تّعدُّ عمدة العمليّة البحثيّة.

ونحن عندما نتتبّع الجنبة المنهجيّة للاستشراق سنجد أنّه يستند إلى البحث العلميّ، ومناهج العلوم البحثيّة، إذ كيف يمكن لمستشرق أن يدرس الآخر بتراثه، وفكره، وعاداته، وخصوصيّات مجتمعه من دون الاعتماد على هذه الأدوات، والمناهج. فالاستشراق يعني في بعض تعريفاته؛ «علم الشّرق، أو علم العالم الشّرقيّ»، بل وذكروا أنّ منشأ الاستشراق إنّما كان بهدف «إیجاد فرع متخصّص من فروع المعرفة لدراسة الشّرق». وقال آخرون: الاستشراق هو «ذلك التّيّار الفكريّ الّذي تمثّل في الدّراسات المختلفة عن الشّرق الإسلاميّ، والّتي شملت حضارته، وأديانه، وآدابه، ولغّاته، وثقافته». ووصفه البعض بالعلم، فقال: الاستشراق هو «ذلك العلم الّذي تناول المجتمعات الشّرقيّة بالدّراسة، والتّحليل من قبل علماء الغرب».

وبتحليل هذه التّعريفات، وغيرها، يتّضح وجود قاسم مشترك بينها جميعًا يتمحور حول كونه علمًا لدراسة الشّرق، يتقوّم بالدّراسة، والتّحليل من قبل علماء الغرب للشّرق. وهذا ما يؤدّي بوضوح، وبداهة إلى أنّه لا تقوم للاستشراق قائمة من دون عمليّة بحثيّة، وتحقيقيّة نظريّة، وميدانيّة معمّقة تقوم على الموضوعيّة العلميّة. وهذا ما يكشف عن أنّ الاستشراق قائم على غايات مشبوهة تتحكّم به أهداف استعماريّة كبرى، وشاملة، وعلى حدّ تعبير بعضهم «الاستشراق هو إسقاط من الغرب على الشّرق بهدف السّيطرة عليه».

التّاريخ وصناعة الأحداث

تطلق لفظة تاريخ على الماضي البشري ذاته تارة، وعلى الجهد المبذول لمعرفة الماضي، ورواية أخباره أخرى، والتّاريخ علم يبحث فيه عن حوادث البشر في الزّمن الماضي، وهو من أهمّ العلوم الّتي يفتقر إليها الإنسان، لأنّه بمعرفته أمور جنسه يعرف نفسه، وقد قال أحد الفلاسفة القدماء: «أعظم أمر يبحث عنه الإنسان هو الإنسان»، ومن الواضح للباحث في مفردات هذا العلم، ومضامينه، أنّ هدفه الأسمى هو استحضار الأحداث، والتّجارب الماضية كما وقعت تمامًا، وهذا يعني بالضّرورة أنّ التّاريخ يجب أن يعبِّر عن مسيرة البشر، ويحمل أخبار الماضين بشفافيّة، ووضوح تامّين.

ولهذا وصف علم التّاريخ بأنّه علم (متزمِّن)، أي هو الوحيد بين العلوم الّذي يقوِّم الزّمن ، أو هو مرآة الزّمن، ومعرفة الماضي الإنسانيّ، وتصوير أحداثه كما وقعت، وحدثت بالضّبط، ولأن سلَّمنا بأنّ التّاريخ الإنسانيّ في سَيره يتأثّر كثيرًا بنموِّ المعرفة الإنسانيّة، لكنّنا لا يمكن أن نسلّم بالكثير من الأحداث، والمضامين التّاريخيّة، والدّينيّة، والسّياسيّة، الّتي دُسّت على صفحات هذا التّاريخ، لأنّها لا تتّسم بالموضوعيّة، والدّقّة، والأمانة العلميّة، ولا تنسجم مع التّاريخ كعلم يستحضر تجارب الماضين بدقّة، فضلًا عن عدم مراعاة الأصول العلميّة، والمنهجيّة لصياغة الحدث، أو الواقعة التّاريخيّة بوصفها وثيقة شفّافة تعكس الواقع للبشريّة.

فالتّاريخ -كما نفهمه- هو عمليّة ضبط الحوادث الكلّيّة، والجزئيّة بالنّقل، والحديث في حياة الأمم، والشّعوب، سواء تلك الّتي تتعلَّق بمعتقداتهم الدّينيّة، أم الّتي تتناول حياة الملوك، والقادة، والحكّام، وغيرها...، فهو وعاء للزّمن، وما يقع فيه.

وقد اهتمّ الإنسان منذ عهود حياته الأولى، وأزمان وجوده على الأرض بتفاصيل هذا التّاريخ، ففي كلّ عصر، ومصر، يوجد مجموعة من حفظته، وكتّابه، والمؤلّفين فيه، ومن المفترض حسب الأصول العلميّة، والمنطقيّة، والثّوابت الإنسانيّة، فضلًا عن الأخلاق، والدّين، ألّا يكون التّاريخ إلّا ذلك الوعاء النّظيف، والمحصَّن ضدّ كلّ التّأثيرات الخارجيّة، الّتي غالبًا ما تكون وليدة الشّهوات، والأطماع السّياسيّة، وغيرها عند طبقة الحكّام، والسّلاطين، وأعوانهم .

وفي الواقع إنّ الّذي ينظر نظرة موضوعيّة فاحصة إلى الكثير من الأحداث، والوقائع التّاريخيّة الّتي عمل المستشرقون عليها في التّاريخ، والتّراث العربيّ، والإسلاميّ، يجد بأنّها قد وقعت تحت تلك التّأثيرات، والخلفيّات الفكريّة، والأحكام المسبقة، ممّا أفقد الكثير من الحقائق التّاريخيّة موضوعيّتها، وواقعيّتها، فضلاً عن حقيقتها، ومصداقيّتها.

ويعود السّبب في ذلك إلى أن كلَّ مستشرق، أو مدرسة استشراقيّة له صلة ارتباط، ووصل بالسّلطة المسيطرة، وبمنظومة الأهداف المرحليّة، والاستراتيجيّة الّتي يعمل الغربيّون على تحقيقها، والوصول إليها في سفينة الاستشراق المعرفيّة. علمًا بأنّ «الاستشراق لم يقم على أهداف نبيلة، ونوايا حسنة منذ نشأته، إذ كانت دراسة المستشرقيـن للإسلام في معظمها، تهدف لأخذ المعلومات عنه لاستخدامها في إضعافه مـن جهّة، ولحجب حقائق الإسلام عن المجتمعات الأخرى مـن جهّة أخرى، ومنع انتشار المفاهيم الصّحيحة عن الإسلام في المجتمعات الأوروبيّة، حيث تركّزت الهجمة الاستشراقيّة على تشويه أحكام الإسلام، والافتراء عليه للحدّ مـن انتشاره في أوروبّا، وإضعاف قيمته، وتصويره للرّأي الأوروبيّ، والأميركيّ بصورة مشوّهة بعيدة عن المستوى الحضاريّ، كما ركّزت تلك الدّراسات على ضرورة إحلال مفاهيم الصّداقة بيـن الدّول الغالبـة، والمغلوبـة، تحت اسم الحضارة، والإخاء الإنسانيّ، ونحو ذلك من مسّميات، لتفكيك عرى الوحدة الإسلاميّة.  حتّى إنّ أبرز المستشرقين الأوروبيّين جعلوا من أنفسهم فريسة التّحزّب غير العلميّ في كتاباتهم عن الإسلام. ويظهر في جميع بحوثهم على الأكثر، كما لو أنّ الإسلام لا يمكن أن يعالج على أنّه موضوع بحت في البحث العلميّ، بل على أنّه متّهم يقف أمام قضاته...».

وهنا نتساءل

 لماذا يجب أن يكون التّاريخ أسيرًا، أو تابعًا في الكثير من معطياته لتلك الدّول، ومنظومات أهدافها، وسياساتها، والمصالح الذّاتيّة، والمذهبيّة، والعصبيّة، والقوميّة في الكثير من مراحله، وأوراقه، ولئن وجدت بعض الأوراق الصّافية في تاريخ البشريّة، فلأن للحقّ، والصّدق، والواقعيّة أنصارها في کلّ زمان، ومكان، وقد أرْخت هذه الأمور، والسّياسات سدولها على كتابة، وتأليف، وجمع أغلب أحداث التّاريخ الإسلاميّ.

ولماذا سعى الكثير من المستشرقين في دراستهم للتّاريخ الإسلامي إلى تشويه، أو تطويع أكثر صفحات التّاريخ الإنسانيّ إشراقًا في حياة البشريّة جمعاء، وهي صفحات التّاريخ الإسلاميّ الحنيف، الّذي بزغ نوره في قلب ذلك المتعبّد في غار حرّاء، ليشعَّ من ذلك القلب على البشريّة جمعاء، وليرسم معالمًا جديدة للحياة الإنسانيّة، تحكمها روح البِّرّ، والتّقوى بدلًا من روح الإثم، والعدوان، والتّخلّف، والجهل في الزّمان الماضي المسمّى العصر الجاهليّ، والحاضر المسمّى «العصر الحديث»، فالمبدأ واحد، والفارق في الأسلوب، والوسيلة فقط .

ولماذا يجب أن تتداخل السّياسة، وأهواء السّاسة، وتلاحق كلّ الأحداث، والتّفاصيل اليوميّة لترسمها بالكيفيّة الّتي تتناسب مع سياساتهم، ومصالحهم على حساب إلغاء تاريخ الأمم، والشّعوب، وحضاراتها .

أما آن لنا أن نعرف أنّ المعركة بين الاستشراق، والإسلام معركة فكريّة هائلة جنّد لها المستشرقون أعدادًا  كبيرة من الباحثين المتخصّصين، والمؤسّسات؛ فمكتبات العالم مملوءة بإنتاج المستشرقين، وبشتّى اللّغّات الإنسانيّة، وهناك عشرات المجلّات، ومئات المؤسّسات الّتي ترعى الاستشراق، وتعمل لخدمة المستشرقين، وهناك أيضًا آلاف العلماء، والباحثين، من المستشرقين، الّذين يتفرّغون لبحوثهم، ودراساتهم، وهناك المؤتمرات الاستشراقيّة العالميّة، الّتي تعقد بحسب الحاجة في العواصم العالميّة.

أما آن الأوان لندرك حقيقة الرّؤية الغربيّة، ومنطلقاتها اتّجاه الدّين الإسلاميّ، والمجتمعات الإسلاميّة بكلّ ما تحمل من حضارة، وفكر إنسانيّ أصيل، وحضاريّ، وقيميّ، وتشريعيّ!

أما آن الأوان لنفهم، ونعي أنّهم يشوّهون مكوّنات الهوّيّة الإسلاميّة، تمهيدًا لسقوطها، وحرفها عن قيمها السّامية!

أما آن لمفكّري المسلمين، ومؤسّساتهم العلميّة، والبحثيّة أن تستيقظ من كبوتها، وتبادر إلى إعادة إحياء المرجعيّة المعرفيّة الشّرقيّة، وعدم التّسليم المطلق بجعل نسق الفكر الغربيّ هو المرجعيّة المعرفيّة، والكتاب المعتمد في فهم الإسلام على مستوى الفكر، والثّقافة، والقيم.

نعم آن لنا أن نتّخذ القرار الحكيم بالمواجهة الفكريّة، والفلسفيّة، والثّقافيّة، والتّاريخيّة... لاستراتيجيّات الغرب القائمة على عقدة استعمار الآخر، وسعي المركزيّة الغربيّة للسّيطرة المطلقة؛ فكرًا، وثقافةً، ومعارفًا، وجغرافيا، وحضارة...، عليه، ولا سيّما الشّرق الإسلامي؛ للوصول إلى غاياتهم المتمثّلة بسلب سيادته، وإعادة بنائه، وإنتاجه سياسيًّا، وعقائديًّا، وعلميًّا.