محتويات العدد
■ اللغة العربية؛ بوابة الغرب إلى الشرق
حسن أحمد الهادي
■ ترجمة ونقد مقالة "الفرعون القرآني"
السيِّد عبد الكريم الحيدري | حمزة جعفر
■ الاتّجاه الاتّحاديّ في التفسير الموضوعيّ عند المستشرقين والمسلمين
الشيخ لبنان حسين الزين
■ التصوّر اللغويّ عند موريس غلوتن وأثره في ترجمة القرآن الكريم
نذير بوصبع
■ أثر الاستشراق في الدراسات النحويّة الحديثة
م.د. آلاء شفيق وهاب
■ مخطّط إحلال العاميّة عند الاستشراق المنطلقات والأهداف والأثر
د. محمود كيشانه
■ المستشرقون وعصمة أئمة أهل البيت(عليه السلام)
خلدون أبو عيد
■ إدوارد سعيد ودورهُ في نقد الاستشراق رؤية جديدة
الأستاذة هبة حسن الرماحي
■ ترجمة ملخّصات المحتوى
افتتاحية العدد
اللغة العربيّة
بوابة الغرب إلى الشرق
الحمد لله رب العالمين، وصلّى الله على سيّدنا محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) وعلى آله الطاهرين(عليهم السلام)، وبعد...
بُعِثت اللغة العربيَّة في فضائها العالميّ الرحب مع بعثة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بدين الإسلام، وأضحت لغة العالمين بعد أن كانت لغةً مقيّدة في حدود قبليَّة ضيّقة وتمتاز بالفصاحة والبيان في حدودها الجغرافيّة، حتى تزيّنت بلغة الإسلام ولسان القرآن الكريم، كما نزل الوحي في قوله تعالى: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)[2]، وقال تعالى: (إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)[3]، وهاتان الآيتان تكشفان عن حقيقة أنّ إكساء القرآن باللغة العربيّة مُسنَد إلى الله تعالى، وهو الذي أنزل معنى القرآن ومحتواه بقالبِ اللفظ العربيّ، ليكون قابلًا للتعقّل والتأمّل. وهكذا أصبحت لغة الإسلام الرسميّة، ولا سيّما بعد أن بلَّغَ الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) رسالة ربّه بهذه اللغة المختارة للناس كافَّة؛ وبذلك تجاوزت اللغة العربيَّة حدود القبيلة والقوم وارتبطت بالإسلام، فكانت لغة عقيدته وشريعته وخطابه إلى جميع البشر، وانتشرت بانتشار الإسلام في العالم، وصولًا إلى بلاد الأندلس وصقلية وبلدان البلقان وغيرها.
وعندما ندرس قضيّة المستشرقين واللغة العربيّة، نلاحظ وجود اتجاهين بحثيَّين لدى الباحثين في هذا المجال:
ففي الوقت الذي كرّس فيه أصحاب الاتجاه الأوّل جهودهم في الدراسات النظريّة والاستقصائيّة والفنّيّة، وكان مفرطًا في الإيجابيّة والمدح والإثراء على ما أنتجه وصنّفه المستشرقون في اللغة العربيّة؛ حيث كتبوا في دور المستشرقين في نهضة اللغة العربيّة وفي إحياء آدابها ودرسها، ونشر كتبها، والتنقيب عن تلك الكتب في مظانّها. وإنّ اهتمامهم بالآداب العربيّة ليس حديثًا، بل يرجع إلى الأجيال الوسطى واشتغالهم باللغات الشرقية وآدابها؛ إذ بدأ المستشرقون يهتمّون باللغة العربيّة من القرن العاشر للميلاد؛ ليطَّلعوا على ما فيها من العلم الطبيعيّ والطب والفلسفة، وقد نقلوا أهمّ تلك الكتب إلى اللاتينيّة...، ويبدو أنّ هذا الاتجاه مع إفراطه في الإيجابيّة والمدح كان موضوعيًّا في تصوير الواقع من حيث دراسة نتاجهم، لكن قد انحصرت دراساته وتحقيقاته في النواحي التاريخيّة والوصفيّة للقضيّة دون التوقّف والتدقيق في الأهداف والغايات الاستعماريّة التي ركّز عليها أصحاب الاتجاه الثاني، حيث توقّف أصحابه أوّلًا وبشكل مريب مع التوجّه والاهتمام الكنسيّ والغربيّ المبكّر بدراسة اللغة العربيّة وما يتعلّق بالدين والحضارة الإسلاميّة والعربيّة، إذ لا يمكن بعد التفحّص والتدقيق وقراءة الخلفيّات التماهي الإيجابيّ مع هذا الاهتمام الواسع بدراسة اللغة العربيّة وتعلّمها وترجمة آدابها وقواعدها وتراثها إلى عدّة لغات عالميّة، وتخصيص مراكز تعليميّة لها في مراكزهم العلميّة، وهو ما فتح الباب واسعًا لاحقًا أمام حركة ترجمة التراث العربيّ والإسلاميّ ولا سيّما القرآن الكريم إلى اللغات المختلفة.
فقد أثبت التاريخ أنّ الغربيين بشكل عامّ، والمستشرقين بشكل خاصّ، قد أدركوا مبكّرًا أهمّيّة اللغة العربيّة ومكانتها، ووقفوا على أثرها في وحدة الأُمَّة الإسلاميَّة وثباتها ومنعتها، فقد نُقل عن المستشرق والفلكيّ والنحويّ والدبلوماسيّ الفرنسيّ (غيوم بوستل) قولـه عن اللغة العربيّة: (... إنَّها تفيد بوصفها لغة عالميَّة في التعامل مع المغاربة والمصريّين والسوريّين والفرس والأتراك والتتار والهنود، وتحتوي على أدب ثريّ، ومن يجيدها يستطيع أن يطعن كلّ أعداء العقيدة النصرانيّة بسيف الكتاب المقدّس، وأن ينقضهم بمعتقداتهم التي يعتقدونها، وعن طريق معرفة لغة واحدة (العربيّة) يستطيع المرء أن يتعامل مع العالم كلّه)[4].
هذا الكلام وغيره الكثير في هذا السياق يكشف بوضوح عن الأهداف والخلفيّات التي تغنّى المستشرقون لأجلها باللغة العربّية. وليس بعيدًا عن هذا الكلام ما ذهب إليه أمثال المستشرق دوغلاس دنلوب[5] (Douglas Dunlop - (1861-1937)، وهو معلّم ومبشّر اسكتلنديّ)، حيث سعى إلى وضع نظام تعليميّ لخدمة أهداف الاحتلال البريطانيّ في مصر، فدعا إلى تكريس سياسة التعليم على أساس الحيلولة بين اللغة العربيَّة وبين أن تبقى الأداة الثقافيّة لأبناء الأُمَّة الإسلاميَّة ولغة العلوم والتقنية؛ (فحلّت مصطلحات أجنبيّة في جوانب: الحكم، والقضاء، والتعليم، ولغة الحياة العامَّة والسلوك، وغيرها. وبذلك يستحكم الانفصام بين المسلم وتراثه، ليكون رسمًا لا معنى له، وصورة لا حقيقة له).
وهو ما عبَّرَ عنه المستشرق الإنجليزيّ (جيب) بقوله: (إنَّ من أهمّ مظاهرها الحروف العربيَّة التي تستعمل في سائر العالم الإسلاميّ واللغة العربيَّة التي هي لغته الثقافيّة الوحيدة، والاشتراك في الكلمات والاصطلاحات العربيَّة الأصل).
وأوضح من ذلك كلّه ما أشار إليه المستشرق الألمانيّ (كامغماير) من سرور حينما رأى غياب السمت الإسلاميّ، وذهاب اللغة العربيَّة والحرف العربيّ من تركيا، فقال: (إنَّ قراءة القرآن العربيّ، وكتب الشريعة الإسلاميَّة قد أصبحت الآن مستحيلة بعد استبدال الحروف اللاتينيَّة بالحروف العربيَّة)[6].
وإلى ذلك كلّه فقد أثار المستشرقون لاحقًا الشبهات تحت شعارات وعناوين تطويريّة جذّابة، وكأنهم هم أهل اللغة وأصحابها، وهي في حقيقة الأمر شبهات وإشكالات طُرحت بهدف إضعاف اللغة العربيّة والعمل على إسقاطها وإقصائها تدريجيًّا كلغة علم ومعرفة وحضارة...، ولهذا طالب بعضهم بإصلاح قواعدها، وطالب بعضهم الآخر بالتحوّل عنها إلى العاميّة، وعمل آخرون على تطوير كتابتها فدعوا إلى إصلاح قواعدها، أو التحوّل عنها إلى الحروف اللاتينيّة، وتفرّغ فريق منهم للأدب، فدعا إلى العناية بالآداب الحديثة، وما يتَّصل منها بالقوميّة خاصّة، والتأكيد على العناية بِما يُسمّونه «الأدب الشعبيّ» ويَقْصِدُون به كُلَّ ما هو مُتداول بِغَيْرِ العربيَّة الفصيحة، مِمَّا يختلف في البلد الواحد باختلاف القرى وبتعدّد البيئات..
ومهما يكن من جدّيّة هذه الدراسات والبحوث والأعمال التي تصدّى لها عدد كبير من المستشرقين، ومهما يكن لها من إيجابيّات فإنَّه قد شاع من بينها شبهات أحاقت باللغة العربيّة، وكادت أن تقتلها بتضافر تلك الدراسات الاستشراقيّة مع الخطط الاستعماريّة والتنصيريَّة والتغريبيَّة التي جنّدت أفرادًا من المستشرقين لإشاعة تلك الشبهات على أنَّها مِمَّا يعوق تطوّر اللغة العربيّة، وبالتالي فإنَّها عوائق في مسيرة العرب الحضاريَّة.
وينبغي أن نلفت هنا إلى أنّ الموقف من المستشرقين في قضيّة اللغة العربيّة لا يستند إلى خلفيّات إيديولوجيّة أو قوميّة، بقدر ما يرتبط بمنطلقات وأهداف المستشرقين أنفسهم والتي أشرنا إلى بعضها، والذي لم يعط أيّ قيمة للجانب المعرفيّ في دراسة لغة الآخر، بل صوّب على قضيّة أيديولوجيّة وقوميّة ونحوها...، فالاستشراق في نهاية المطاف لا يتخطّى كونه منهجًا واتجاهًا فكريًّا غربيًّا في رؤية الأشياء والتعامل معها، يقوم بدراسة حضارة الشرق من جوانبها الثقافيّة والفكريّة والدينيّة والاقتصاديّة والسياسيّة ...كافّة، لغرض التأثير فيها، دون مراعاة الموضوعيّة والشفافيّة، بل بملاحظة أنّ ثمّة اختلافًا جذريًّا على المستويَيْن المعرفيّ والحياتيّ الواقعيّ بين الغرب والشرق، وأنّ الغرب يتفوّق معرفيًّا وتقنيًّا على الشرق، ومن منطلق التفوّق العنصريّ والثقافيّ على الشرق ولهدف السيطرة والهيمنة. والأخطر من هذا وذاك أنّ الاستشراق -كما يعبّر إدوارد سعيد- «أسلوب غربيّ للهيمنة على الشرق، وإعادة صياغته وتشكيله، وممارسة السلطة عليه»[7].
ولهذا يبرز عنصر الهيمنة الغربيّة على الشرق بإنسانه وموارده الأخرى لتحقيق التبعيّة الطوعيّة أو القسريّة، كون التبعيّة بمظاهرها المختلفة أحد المقوّمات، بل والمنطلقات الرئيسة لإعادة صياغة الإنسان الفرد بما هو جزء مكوِّن للمجتمع، للوصول إلى الغاية القصوى في إعادة صياغة المجتمع الشرقيّ، بل وتشكيله وفق المنظومة الفلسفيّة والقيميّة الغربيّة، وبهذا لن يحتاج الغرب إلى بذل جهد إضافيّ في ممارسة السلطة عليه، بل سيأتي الكثيرون طوعًا إلى أحضان الفكر الغربيّ وسلطاته.
ويبدو أنّ المخيلة الغربيّة تعتبر أنّ دراسة الدين الإسلاميّ وإسقاط ثوابته وأصوله أو تشويهها هي المدخل الأهمّ الذي ربّما يحقّق السيطرة على المسلمين. ولهذا كان العمل الجادّ والسعي الدائم للفصل بينهم وبين دينهم عن طريق الغزو الفكريّ الذي كان الاستشراق أحد مظاهره، ونتيجة لهذه القناعة تولّت الكنيسة هذا العمل وقامت برعاية ودعم كلّ الجهود الهادفة إلى تعلّم العربيّة وفهم الدين الإسلاميّ، وهي الجهود التي تطوّرت بعد ذلك لتكوّن حركة الاستشراق الكبيرة والواسعة[8].
يمتاز هذا العدد بتنوّع البحوث ذات الطابع اللغويّ المرتبط باللغة العربيّة ولغة القرآن الكري؛ لذا كان حديث الافتتاحيّة مدخلًا لتلك البحوث، آملين الاستفادة من مضامينها، وإن كان ما ذكرناه هنا لم يتجاوز الإشارة إلى حركة المستشرقين باتّجاه اللغة العربيّة، والأدوار التي قاموا بها تجاه الأدب العربيّ واللغة العربيّة كنظام لغويّ.
ولله الحمد والمنّة
----------------------------------
[1](*) مدير التحرير.
[2]- سورة يوسف، الآية 2.
[3]- سورة الزخرف، الآية 3.
[4]- محمود حمدي زقزوق: الاستشراق والخلفيّة الفكريّة، ص30.
[5]- راجع: محمود محمّد شاكر: أباطيل وأسمار، ص 166، 171، 227، 257، 258 259، 442، 443، 444، 558، 559، 560، (مرجع سابق)، وانظر: محمد قطب: واقعنا المعاصر، ص217-222.
[6]- السيّد رزق الطويل: اللسان العربيّ والإسلام، ص103.
[7]- إدوارد سعيد، الاستشراق.
[8]- الزيادي، الاستشراق أهدافه ووسائله ص24، ط1، بتصرف.