العدد 34

العدد 34

محتويات العدد

■ الاستشراق بين تنوّع الأدوار  ووحدة الأهداف

حسن أحمد الهادي

■ إعادة بناء أفق توقّعات المستشرقين عند التلقّي الجمالي للقرآن الكريم

أنجيليكا نويفرت أنموذجًا

زهراء دلاور ابربكوه |  كبرا روشنفكر

■ المنهج الفيلولوجي عند المستشرقين؛ من النقد الكتابي المتعالي إلى الإجراء التدخّلي في الدراسات القرآنية

محسن فتحي

■ ترتيب المستشرقين للسور القرآنيَّة؛ مقاربات تحليليَّة في التفكير الدلاليّ

أ.د. محمد جعفر العارضي

■ صورة الشرق النمطيّة.. تَركَةُ الاستشراق الكبرى؛ تأمّلات في التشكّل والأثَر والتصدّع

علي الصالح مولى

■ الفكر الاستشراقي في مدوّنات المؤرّخين اليهود؛ حول العلاقات اليهوديّة بالحُكم الإسلامي

د. حاتم محاميد

■ دور الدراسات الاستشراقيّة في خدمة الدراسات الآثاريّة والحضاريّة

د. ربيع أحمد سيد أحمد 

د. لبنى صالح سليمان

■ «حياة محمّد أو حين نكتشف الحقيقة الكاملة للدجل»

La vie de Mohamet où l’ondécouvreamplement la verité de l’imposture

مقاربة في كشف انحراف الفكر والتصوّر ومزالق التأويل

د. مكّي سعد الله

■ ترجمة ملخصات المحتوى

 

افتتاحية العدد

الاستشراق

بين تنوّع الأدوار ووحدة الأهداف

الحمد للّه رب العالمين، وصلّى الله على سيّدنا محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) وعلى آله الطاهرين(عليهم السلام)، وبعد...

تتعدّد أساليب الغربيّين وأدواتهم في قراءة الإسلام كدين، ودراسة واقع المسلمين كمجتمع وأمّة، وفهم التراث الإسلامي كمرجعيّة دينيّة معرفيّة. وتتنوّع أدوارهم ومشاريعهم ورؤاهم في مقاربة قضايا الإسلام وأصول الفكر الإسلامي ومبانيه. ولهذا تجدهم تارةً يسلكون طريق الاهتمام الأكاديمي المتمثّل باستقطاب النخب العربيّة والإسلاميّة إلى الجامعات الغربيّة، بهدف استلهام النموذج الفكري والثقافي والقيمي الغربي، وصناعة الشخصيّات المسلمة شكلًا، والغربيّة فكرًا ومضمونًا؛ تمهيدًا لنشر فكرهم وقيمهم وثقافتهم أكاديميًّا وثقافيًّا وتربويًّا في العالم الإسلامي عن طريق المسلمين أنفسهم، بحمل لواء الحريّة والديمقراطيّة والتسلّح بالدعوة إلى المدنيّة والحضارة التي يفتقدها غير الغربي، ولا يوجد سبيل إليها إلّا عن طريق الغربي نفسه. وأخرى يعتمدون طريق الاستشراق تحت عناوين بحثيّة ومعرفيّة وتقديم الخدمات للتراث الإسلامي وفق المناهج والأدوات الغربيّة.وثالثة يعتمدون سياسة الاستعمار المباشر وفرض الهيمنة والتسلّط بالقوّة والعنف.

وبغضّ النظر عن التقييم الإيجابي أو السلبي لهذه الأساليب والأدوات والأدوار والمشاريع، يمكننا فصلها عن الخلفيّة الفكريّة والفلسفيّة للغرب، كما لا يمكننا تجريدها عن الغايات والأهداف التي يستهدفها الغربيّون، ويعمل على تحقيقها المستشرقون والمدارس الاستشراقيّة في العالم الإسلامي؛ معرفيًّا، وتقنيًّا، وسياسيًّا، واقتصاديًّا، واجتماعيًّا، وتربويًّا، وثقافيًّا...، فلا يوجد فرقٌ جوهريّ بين المستشرقين على تنوّعهم الفكري وتوزّعهم الجغرافي وانتمائهم القومي على مستوى غايات دراسة الإسلام وفهمه كدين سماوي يجمع بين العقيدة والشريعة، وقد أنزله الله تعالى على نبيّه محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) لهداية البشريّة إلى عقيدة التوحيد التي يلازمها الإيمان والعمل الصالح في ممارسة الشريعة وتطبيقها في الحياة الفرديّة والاجتماعيّة للناس.

ولهذا، ينبغي أن لايغرنّ أحدٌ مِن المسلمين ببعض الآراء أو الأفكار الإيجابيّة أو اللاسلبيّة الواردة عن مستشرق هنا ومسشرق هنالك، يمتدح فيها بعض جوانب دين الإسلام، أو يثني على بعض آيات القرآن الكريم والحديث الشريف، أو يعبّر عن إعجابه بشخصيّة نبيّ الإسلام محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) أو شخصيّة أحد الأئمّة...، فهل يُريد الغربيّون أو بعض الكتّاب المستغربين والباحثين المسلمين إقناعنا بأنّ الاستشراق حركة علميّة شفّافة ذات أهداف معرفيّة وأكاديميّة محضة، لا هدف لها إلّا دراسة التراث الشرقي والإسلامي في معتقداته وآدابه واجتماعه وثقافته؟!.

الجواب: لا، وذلك واضح؛ لأنّنا، ومن خلال التتبّع، وإمعان النظر في مناهجهم ودراساتهم، والتدقيق في الأولويّات البحثيّة والتحقيقيّة عند الكبار والمرجعيات منهم، سنجد أنّ التصويب على المصادر الرئيسة للتشريع الإسلامي هو العمدة لديهم، وإلّا بمَ نفسّر كلّ هذه التأويلات للوحي وللنصّ القرآني، وهذا الفهم السطحي للسنّة وللحديث الشريف، وكلّ تلك التحليلات غير الموضوعيّة والزائغة، التي صدرت عن كبار منهم، وتمسّ شخصيّة النبي محمّدر وسيرته المباركة، والعمل على إسقاطها بوصفها بأوصاف ما تغيّرت كثيرًا عن نعوت أهل الجاهليّة بحقّ نبيّ الرحمة محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم)؟.

أضف إلى أنّ ما جاء في كتبهم وعلى ألسنتهم، لا يشكّل قيمةّ إضافيةً لا على الدين، ولا على القرآن الكريم، ولاعلى شخصيّة النبي محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم). بل إنّ هذه الأمور وغيرها، ذاتيّة القيمة والمكانة والخصوصيّة، ولا تزداد أو يظهر بريقها أكثر بالمدح والثناء ونحوهما من أساليب المدح والتفخيم والتعظيم.

وفي حقيقة الأمر، وخلافًا لما يدّعون، هم على المستوى المعرفي، ومِن الناحية المنهجيّة، يعتمدون خلفيّاتهم الفلسفية، وقيمهم المادية في الثقافة الغربيّة والتي تربط الظواهر الإنسانيّة بالمادة والجنس واللغة القوميّة والبيئة في حدود وتحت حاكميّة المفهوم المادّي القائم على المحسوس. ولهذا، فإنّ الاستشراق في الحقيقة والواقع خادمٌ للاستعمار وأهدافه، وهو يتّخذ من دراسة التراث الشرقي وسيلة للتشكيك في مصادره؛ ليصرف المسلمين عن دينهم، ويغرقهم في التبعيّة للغرب، وتقليد واتّباع كلّ ما في بلادهم من ألوان الفساد والانحلال والميوعة والغرق في عالم الماديّات والشهوات.

ويجب أنْ لا يغيب عن بالنا ـ هنا ـ فاعليّة وحضور العامل الديني في قيام الاستشراق ونشاطه؛ إذ كان الاستشراق في بدايته عبارة عن دراسات وأبحاث قام بها قساوسة ولاهوتيّون تدعمهم الكنيسة أو الدولة، وسرعان ما امتدّت هذه الدراسات إلى الجامعات لتأخذ شكلًا مغايرًا للبحث العلمي من قِبل أشخاص تتلمذوا على أيدي المستشرقين، تدفعهم أهواء الاستعمار للسيطرة على العالم. فقد -كما يؤكّد محمّد البهي- "دخل الاستشراق الآن مَنْ ليسوا قساوسة أو لاهوتيّين، وإنَّما متخرّجون في الجامعات ومسيّرون في بحوثهم طبقًا لمنهج الاستشراق العام".

وقد استطاع الكثير مِن الباحثين المتخصّصين في تاريخ حركة الاستشراق أنْ يثبتوا بما لا يدع مجالًا للشكّ، أنّ الهدف الديني كان وراء نشأة الاستشراق، وقد صاحب الاستشراق طيلة مراحل تاريخيّة، ولم يستطع أنْ يتخلّص منه بصورة نهائيّة. وأنّ هناك نوعًا مِن التكامل بين الاستشراق والتبشير ابتداءً، كلّ ما في الأمر، أنَّ الاستشراق أخذ صورة البحث ذات الطابع العلمي الأكاديمي المتمثّل بالتدريس في الجامعة، والمناقشة في المؤتمرات العلميّة. بينما بقيت دعوة التبشير في حدود طريق التعليم المدرسي في دور الحضانة ورياض الأطفال والمراحل الابتدائيّة مِن التعليم، كما سلك العمل الخيّر الظاهري في المستشفيات ودور الحضانة ودور اليتامى وملاجئ المسنين، في سبيل الوصول إلى غايته.

ولا نقصد بهذا الكلام حصر أهداف الاستشراق بالبعد الديني المحض؛ لأنّ الاستشراق حركة ذات تاريخ طويل، وتعمل على أهداف كثيرة ومتعدّدة، تختلف بحسب المراحل التاريخيّة، وربَّما يغلب عامل أو أكثر في مرحلة معيّنة على غيره مِن العوامل. ولكنَّ الأمر الذي يجمع عليه جمهور الباحثين في موضوع الاستشراق، أنَّ الاستشراق قام لتحقيق هدف معيّن، سواء أكان دينيًّا أم سياسيًّا أم اقتصاديًّا أم عسكريًّا أم علميًّا. ورغم اختلاف هذه الأهداف، إلَّا أنَّها تسعى إلى الإفادة مِن بعضها في تحقيق غاياتها، فالهدف الديني يتداخل مع الأهداف الأخرى؛ كالهدف السياسي أو الهدف العلمي. بل وإنّ الهدف الأساسي والمباشر للاستشراق هو هدف دينيّ في أساسه، استعماريّ في مضمونه، علميّ في ظاهره..، وهو ما يفسّر قضيّة الاهتمام المبكّر عند المستشرقين والدول التي تدعمهم وتوجّههم، بدراسة اللغة العربيّة والقرآن الكريم والحديث الشريف، وقد جاءت كمنطلق للاستشراق بسبب فكرة التبشير التي تقارنت أو شكّلت أحد منطلقات حركة الاستشراق.

والحمد لله ربّ العالمين