العدد 41

العدد 41

محتويات العدد

■ الاستشراق والاستعمار.. وجهان لتغريب الهوية

حسن احمد الهادي

■ قرآن الشيعة: مراجعة في تفسيرات «جولدزيهر»

جوزيف إلياس

■ الترجمة اللاتينيّة الأولى للقرآن الكريم

الحسن أسويق

■ أوري روبين ونظرية الإمامة الوراثيّة عند الشيعة

السيد رسول الهاشمي، علي راد

■ دراسة نقديّة لرأي المستشرقين حول سيرة  حكم الإمام الحسن المجتبى(عليه السلام)

 محمد حسن زماني ـ محمد رضا أحمدي ندوشن

■ مكتبة سيرة «محمد(صلى الله عليه وآله وسلم)» الاستشراقية

د. مكي سعد الله

■ «نظرة الاستشراق للرواية العربيّة عند جاك بيرك وأندريه ميكال وروجر ألن»

د. إيمان «محمد ربيع» خميس بالو

■ الأهداف الاستعماريّة للاستشراق الفرنسي في الجزائر

محمد تونسي

■ «مناهج المستشرقين في الدراسات العربيّة الإسلاميّة» الجزء الثاني

محمد بن عمارة

 

 

الافتتاحية

بسم الله الرحمن الرحيم

 الاستشراق والاستعمار.. وجهان لتغريب الهوية

لقد أدرك الساسة مبكّرًا الدور الكبير للاستشراق والمستشرقين في خدمة الاستعمار؛ ولهذا لم تنقطع الصِلات الوثيقة بين المستشرقين وغرف إدارة الاستعمار والتخطيط له، وهذا ما أوجد روابط قويّة وعزّز التعاون بين المستشرقين ومراكز القرار السياسي الاستعماري، إذ تثبت الدراسات والتجارب أنّ الاستعمار لا يمكنه تحقيق أهدافه المتنوّعة بالحملات العسكرية والسيطرة على الجغرافيا، أو بالقتل والترهيب ونحوها من وسائل العنف وأساليبه التي اشتُهر بها تاريخ الحروب عند الغربيّين... دون دراسة واقع البلدان والأوطان والشعوب من الداخل؛ ولهذا هم بحاجة إلى جمع معلومات حسيّة موثّقة من النواحي الثقافيّة والعرقيّة والدينيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والديموغرافيّة...، وكل ما يساهم في معرفة نقاط القوّة والضعف عند هذه البلدان والشعوب والمجتمعات. 

ونظرًا لتعذّر قيام الجيوش بهذه المهمّة بشكل مباشر، وقع الخيار على المستشرقين لتقديم هذه الخدمة، لأنّ العنوان العامّ لوجود المستشرقين في الشرق قد قُدّم إلى الناس والعالم بعناوين ذات طابع علمي بحثي تنموي اجتماعي ونحوها من العناوين الإيجابيّة التي تتقبّلها المجتمعات، إذ «يستطيع المستشرق أن يحاكي الشرق دون أن يكون العكس صحيحًا، وهكذا فإنّ ما يقوله عن الشرق يجب أن يفهم على أنه وصف حصل عليه في تبادل يسير في اتجاه واحد، فكانوا هم يقولون ويفعلون، وهو يراقب ويكتب، وكانت سلطته تكمن في قدرته على أن يعيش بينهم مثل أبناء اللغة نفسها تقريبًا، وأن يكتب ما يكتبه سرًّا، وكان المقصود بما يكتبه أن يصبح معرفة مفيدة، لا لمن يكتب عنهم بل لأوروبا ولشتى مؤسّسات النشر فيها»[2].

وعلى هذا الأساس فقد قدّم المستشرقون خدمات جليلة للمستعمرين في أغلب البلدان، إذ ساهمت دراساتهم وتقاريرهم ورحّالاتهم  بإزاحة العقبات الإيديولوجيّة والفكريّة والنفسيّة...، في سبيل تمكين المستعمر الغربي من السيطرة على العقول والأفكار والإرادات من خلال التسلّل التدريجي الهادىء والناعم إلى مكوّنات الهويّة ومقوّماتها وعناصرها المختلفة، وبهذا يتوسّع الاستعمار من السيطرة على الجغرافيا والموارد الطبيعيّة إلى السيطرة على الإنسان من خلال تغيير هويّته وثقافته، «...إنّ القيمة الكبرى للاستشراق تكمن في كونه دليلًا على السيطرة الأوروبيّة الأمريكيّة على الشرق أكثر من كونه خطابًا صادقًا حول الشرق، وهو ما يزعمه الاستشراق في صورته الأكاديميّة أو البحثيّة»[3].

والدافع الأوّل للاستشراق عند الغربيّين كان دينيًّا، حيث بدأ بالرّهبان، ومن أشهر الرُّهبان الذين اهتموا بالدراسات العربيّة والإسلاميّة الراهب أدلارد أوف باث (1070-1135م)، وكذلك الراهب الشهير بطرس المبجل. وهذان الراهبان وغيرهما قاموا بتشويه الإسلام من خلال المس بثوابته ومقدّساته عن طريق الاستشراق والتبشير. ذهَب رودي بارت (Rudi Paret) إلى أن ّالهدف الرئيس من أعمال المستشرقين وجهودهم في بدايات الاستشراق في القرن الثاني عشر الميلادي وفي القرون التي تلت ذلك: هو التبشير (heraldin)، وعرَّفه بأنّه: «إقناع المسلمين بلغتهم ببُطلان الإسلام، واجتذابهم إلى الدين المسيحيّ، ...»[4].  ويمكن إبراز هذا الدافع الديني في أمور ثلاثة وهي: دراسة الإسلام بأنّه دين معادٍ للمسيحيّة[5]؛ ودراسة الإسلام بتأثير حركات الإصلاح الديني الكنسي المعروفة بالحركة «اللوثرية» التي ولّدت المذهب البروتستانتي؛ ودراسة الإسلام بهدف تنصير المسلمين»[6].

ولكن بعد أن اجتاح الفكر الاستعماريّ الأوروبيّ العالم الشرقيّ واستعمرت فرنسا وبريطانيا وإيطاليا وغيرهم من الدول الغربيّة العالم الشرقي والإسلاميّ، احتاجت هذه الدول الغربيّة إلى دراسة واقع الدول الشرقيّة التي استعمرتها، فوجدت في الحركة الاستشراقيّة ضالّتها المنشودة التي تساعدها على تحقيق أهدافها الاستعماريّة، فاستعانت بهم في هذا المجال، فقدّم المستشرقون خدمات جليلة للمستعمرين من أبناء جلدتهم، ومن هنا تحقّق التلاقي بين الاستعمار والاستشراق، ودخلت الحركة الاستشراقيّة في مرحلة جديدة وهي المرحلة الاستعماريّة. وكما يقول العقيقي: «فلما أرادت معظم دول الغرب عقد الصلات السياسيّة بدول الشرق والاغتراف من تراثه، والانتفاع بثرائه، والتزاحم على استعماره، أحسنت كل دولة إلى مستشرقيها فضمّهم ملوكها إلى حاشياتهم أمناء أسرار وتراجمة، وانتدبوهم للعمل في سلكي الجيش والدبلوماسيّة إلى بلدان الشرق، وولّوهم كراسي اللغات الشرقيّة في كبرى الجامعات والمدارس الخاصة، والمكتبات العامّة، والمطابع الوطنيّة، وأجزلوا عطاءهم في الحلّ والترحال، ومنحوهم ألقاب الشرف وعضويّة المجامع العلميّة»[7].

هكذا اشتغل فريقٌ من المفكّرين بمجال الاستشراق مدفوعين من قبل حكوماتهم التي دعتهم إلى مساعدتها على استعمار الشرق، فكانوا عونًا لها مخلصين في تقديم المعلومات التي احتاجت إليها وهي في طريقها إلى اجتياح الشرق، معلنةً الهيمنة عليه لفترةٍ من الزمن تعين على امتصاص خيراته، وعلى إيجاد البديل عند الخروج، وعلى إضعاف مكامن الخطر بالنسبة لهم[8].

ولقد انبثق الدافع الاستعماري للاستشراق من رحم الحروب الصليبيّة، فعندما انتهت الحروب الصليبيّة بهزيمة الصليبيّين وفشلهم، -وهي في الحقيقة حروب استعماريّة دينيّة- اتّجهوا إلى دراسة هذه البلاد، وجنّدوا لها علماء بارزين يبحثون عن كل الشؤون من عقيدة وتقاليد وعادات وأخلاق وثروات وغيرها، ولهم باع طويل في ميدان الدارسات الاستشراقيّة لكي يتحمّل هؤلاء مهمّة الاتصال برجال الفكر والثقافة للامتزاج بهم وبثّ الاتجاهات السياسيّة المختلفة بينهم، حتى يكونوا أداة منفّذة لكل مخطّطات الاستعمار وأساليبه[9]، ويمكن جمع هذه المهمّات التي قام بها المستشرقون لصالح ساسة الاستعمار «بالاتصال بالسياسيين والتفاوض معهم لمعرفة آرائهم واتجاهاتهم، وفتح حوارات مع رجال الفكر والصحافة للتعرّف على أفكارهم وواقع بلادهم، وبثّ الاتجاهات السياسية التي تريدها دولهم، فيمن يريدون بثّها فيهم، وإقناعهم بها»[10].

وتشترك  الغاية الرئيسة لأغلب الدراسات الاستشراقيّة التي عمل المستشرقون والمستعمرون على تحقيقها بـ«تغريب الهويّة الإسلاميّة والعربيّة»، بحيث تتمظهر حالات التعلّق والانبهار والإعجاب والتقليد والمحاكاة للثقافة الغربيّة والأخْذ بالقيم والنُّظم وأساليب الحياة الغربيّة؛ حتى يصبح الفرد أو الجماعة يَنظر إلى الثقافة الغربيّة وما تشتمل عليه من قِيم ونُظم ونظريّات وأساليب حياة نظرةَ إعجابٍ وإكبار، ويرى في الأخذ بها الطريقة المُثلى لتقدُّم بلده، وهو ما يساهم كثيراً في نشر قيم وثقافة الحضارة الغربيّة في البلاد الواقعة تحت سيطرتهم عن طريق إسقاط عناصر القوة أو إضعافها، في سبيل التسلّل السهل إلى كيان المجتمعات في لبلاد ولا سيّما الدين واللغة، وفي زوال هذه القوى ضمان لاستمرار السيطرة الغربيّة السياسيّة والاقتصاديّة حتى بعد إعلان استقلال هذه البلاد وتحرُّرها من نير الاستعمار الغربي ظاهريًّا.

وبهذا تتفكّك هوية الشعوب تدريجيًّا حتى الذوبان بأفكار الآخر وقيمه وفلسفته، وتتآكل الثّوابت الفكريّة والروحيّة والقيميّة والثقافيّة للمجتمع والناس، بلا فرق بين الهويّة الفرديّة بمعنى شعور الشخص بالانتماء إلى إطار إنساني أكبر يشاركه في منظومة من القيم والمشاعر والاتجاهات والرؤى والتصوّرات. والهويّة الاجتماعيّة بل والوطنيّة أحيانًا، لأنّه عندما تمتدّ يدُ المستشرقين إلى التراث، فهذا يعني المسّ بالمصدر الثابت والأساس للهوية والذي يكون بمثابة النبع الفيّاض للهويّة الأصيلة التي يحياها الناس وتعيشها كل الأجيال؛ بمعنى تمظهر الهوية بكلّ مقوّماتها في البنية الثقافيّة والتربويّة والاجتماعيّة والسياسيّة... في المجتمعات.

وحتى لا يبقى الكلام نظريًّا نشير إلى نموذج من نماذج التعاون بين الاستشراق والاستعمار يشير إليه جوزيف مسعد في كتابه «اشتهاء العرب» حيث يبيّن أنّ المستشرقين اعتمدوا على أسلوب محدّد عند وصف الشرق معالمًا وسكّانًا وحضارةً حيث عمدوا إلى ترسيخ الشّهوة تجاه هذا الفضاء الحضاري مثيرين الرغبة والغريزة الغربيّة تجاهه[11]. وهذا يعني أن المستشرقين -من ضمن المشروع الاستعماري- وبخطوة ذكية وماكرة قد قدّموا الصور الإيجابيّة والساطعة عن أوطاننا وبلداننا من النواحي الحضاريّة والثقافيّة، وتعايش الأديان، وكرم الشعوب وعاداتها وتقاليدها الجميلة...، وبهذا يحقّقون هدفين؛ يثمثّل الهدف الأول في استرضاء واستقطاب أهل البلد المنوي استعماره أو السيطرة عليه، إذ ما يقدّم عن بلدهم من المدح والصور الجميلة من الأمور المرضيّة عند العموم من الناس. وأمّا الهدف الثاني وهو الأهم فيعمل على استقطاب المؤسّسات والتجار والسواح والجهات المؤثّرة إلى هذا البلد ليتداخلوا مع النسيج الاجتماعي ويؤثّرون تدريجيًّا في ثقافته وقيمه ونمط الحياة العام فيه، ولو لم يكن سوى تشييد المؤسّسات التربويّة كالمدارس لتعليم أبناء القرى والأرياف بهدف نبيل وحسن وهو محو الأمية، والجامعات لتعليم وتخريج أجيال من المتخصّصين لخدمة بلدهم...، لكفى، إذ بداية تغيير الهويّة يبدأ في هذه المؤسّسات ليتوسّع لاحقًا ويتغلغل في كل مفاصل المجتمع والحياة. والسيطرة على الموارد البشريّة والطبيعيّة. هكذا تتكامل عناصر الاستعمار والهيمنة الغربيّة على مقدّراتنا، وللأسف! قد استعان الغربي بأبنائنا علينا بعد أن مسّ مكوّنات الهويّة وعناصرها ومصادرها.

والحمد لله ربّ العالمين

 

-------------------------------

[1]- مدير التحرير.

[2]- سعيد، إدوارد، الاستشراق، المفاهيم الغربية للشرق، ترجمة: محمد عناني، رؤية للنشر والتوزيع، 2006، ص262.

[3]- م.ن، ص50.

[4]- انظر: الصغير، المستشرقون والدراسات القرآنيَّة، ص13.

[5]- انظر: بارت، الدراسات الإسلاميَّة والعربيَّة في الجامعات الألمانيَّة المستشرقون الألمان منذ تيودور نولدكه، ص15.

[6]- انظر: زقزوق، الاستشراق والخلفيَّة الفكريَّة للصراع الحضاريَّ، ص31.

[7]- العقيقي، نجيب، المستشرقون، ج3، ص1149.

[8]- انظر: النملة، الاستشراق في الأدبيَّات العربيَّة، ص40.

[9]- بخيت، الإسلام في مواجهة الغزو الفكريّ الاستشراقيّ والتبشيريّ، ص71.

[10]- انظر: الميدانيّ، أجنحة المكر الثلاثة وخوافيها، ص131. بتصرّف.

[11]- مسعد، جوزيف، اشتهاء العرب، ترجمة: إيهاب عبد الحميد، دار الشروق، مصر، 2013م.