البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

مآخذ تتعلّق بسلامة منهج البحث عند ريجي بلاشير

الباحث :  عبد الله عمّار الحموي
اسم المجلة :  دراسات استشراقية
العدد :  38
السنة :  ربيع 2024م / 1445هـ
تاريخ إضافة البحث :  April / 13 / 2024
عدد زيارات البحث :  1580
تحميل  ( 705.821 KB )
الملخّص
تُعتبر المؤلَّفات الَّتي كتبها المستشرق الفرنسي «ريجي بلاشير» واحدة من أكثر الكتابات مرجعيَّة في عالم الاستشراق، حيث اكتسبت مؤلَّفات هذا الرَّجل عن القرآن الكريم، والتَّفسير قيمتها وسط دوائر المستشرقين الغربييِّن، وممَّا زاد أيضًا من أهمِّيَّة كتابات «بلاشير» هو دخوله للمجامع العلميَّة العربيَّة الَّتي نشر فيها عشرات الأبحاث، والدِّراسات الَّتي تناولت العرب والمسلمين. وقد أثار «بلاشير» في ترجمته للقرآن الكثير من الأفكار السَّلبيَّة، والشُّبهات السَّيِّئة الَّتي عمل جاهدًا على أن تطال كلَّ ما يتعلَّق بنزول القرآن، وبداية تدوينه، وعلومه، وتفسيره، ومن بين ما سعى «بلاشير» إلى إثباته بوسائل مختلفة عنوانها التَّحريف، والتَّدليس هو إشاعة الاعتقاد بأنَّ القرآن الكريم كتابٌ من عند «محمَّد» ومن تأليفه، بل ذهب «بلاشير» إلى أبعد من ذلك بقوله أنَّ النَّبيَّ(صلى الله عليه وآله وسلم) كان يأخذ قرآنه من أشخاص معيَّنين سواءً كانوا يهودًا، أو نصارى، أو غير ذلك، وله في هذا الشَّأن جملة من الافتراءات منها على سبيل المثال لا الحصر قوله: «كانوا وقتئذ في الأوساط الكنسيَّة، يتصوَّرون دعوة محمَّد عملٌ منشق يدَّعي بأنَّه ملهمٌ من الله، بينما كان في الواقع قد تلقَّى تعاليمه من راهبٍ خارجٍ عن العقيدة القويمة»[2].
وهذا ما يبرز أهمِّيَّة القراءة المنهجيَّة النَّقديَّة للمستشرق الفرنسي بلاشير في كتاباته حول القرآن والإسلام، إذ كغيره من كبار المستشرقين، لم يتمكَّن من تقديم قراءة موضوعيَّة منصفة للدِّين الإسلامي.

الكلمات المفتاحيَّة: بلاشير، ترجمة القرآن، منهج.

النَّظرة الاستشراقيَّة إلى القرآن من نافذة بلاشير
لمّا كان «بلاشير» ينظُرُ إلى القرآن الكريم باعتباره كِتابٌ من عندِ «محمَّد» ومن تأليفه، فإنَّه لا يتوقَّف عن الإشارة بين الحين، والآخر إلى مصادر مختلفة لأخذ النَّصِّ القرآني عنها، والتَّأسيس عليها لإنكار المصدر الإلهي للوحي، ففي الصَّفحة 45 من كتابه «القرآن نزوله تدوينه ترجمته وتأثيره»، يحاول «بلاشير» بشكل مباشر الإشارة بزعمه إلى حال الاضطراب النَّفسي الَّتي كان يعيشها النَّبيِّ(صلى الله عليه وآله وسلم) فيقول: «كان محمَّد مضطربًا متردِّدًا في قواه، قريبًا إلى اليأس أمام ضخامة رسالته»[3]، وقد سعى «بلاشير» من خلال هذه الجملة إلى إنكار المصدر الإلهي للوحي، وإرجاعه إلى حال من الاضطراب النَّفسي العاطفي الَّتي يزعم أنَّ النَّبي محمَّد(صلى الله عليه وآله وسلم) كان يعيشها، ومدى تأثير ذلك في ما سيقوله محمَّد بعد ذلك على أنَّه وحيٌ من عند الله، فما يبتغيه «بلاشير» من وراء هذه الفكرة السَّلبية هو القول بأنَّ خيال محمَّد الواسع، وإحساسه العميق بالمسؤوليَّة، وعقله الكبير، وذكاءه الوقَّاد وذوقه السَّليم، وغير ذلك ممَّا كان له من تأثير تجلَّى في ذهنه، حتَّى بات يُحدِثُ في عقله الباطن الرُّؤى، والأحوال الرُّوحيَّة، فيتصوَّر أنَّ ما يعتقده إلهيًّا نازلًا عليه من السَّماء من دون واسطة، أو عن طريق رجل يتمثَّل له يلقِّنه ذلك، أو يسمعه يقول له شيئًا في المنام بأنَّه وحيٌ. فالقرآن كما يحاولُ «بلاشير» ترسيخه هنا في ذهن القارئ هو شيء من هذا الَّذي كان محمَّدٌ يراه، ويتخيَّله، وأنَّ كل ذلك نابع من نفسه، ومن عقله الباطن، وصورةٌ لأخيلته الَّتي انطبعت في نفسه بما يحيط بها من شائعات في بيئته، فامتلأ بها عقله، ففاضت بذلك نفسه ثمَّ صاغها بأسلوبه المؤثِّر، وخياله الخصيب، نتيجة لخلواته الخاصَّة بالغار، وتأمُّلاته العميقة فيه.

إلَّا أنَّ الحقيقة غير ذلك طبعًا، إذ إنَّ الأدلَّة النَّقليَّة، والعقليَّة الَّتي تؤكِّد بطلان هذه الفريَّة كثيرةٌ جدًا، ومنها قوله سبحانه: ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ (النجم: 3-4)، وقوله تعالى: ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ﴾ (الحاقة: 44-47)، وكذلك قوله عَزَّتْ آلاَؤُهُ: ﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ﴾ (النساء: 163).

وكذلك وصفه(صلى الله عليه وآله وسلم) لكيفيَّةِ إتيان الوحي إليه عندما سأله الحارث بن هشام عن ذلك، فقال(صلى الله عليه وآله وسلم) : «أحيانًا يَأْتيني مِثلَ صَلصلةِ الجَرسِ، وهوَ أَشَدُّ عليَّ، فيَفصِمُ عنِّي وقد وَعَيتُ عنهُ ما قالَ، وأحيانًا يتمثلُ ليَ الملَكُ رجُلًا، فيكلِّمُني، فأَعي ما يقولُ»[4].
أمَّا الأدلَّة العقليَّة فكثيرة كذلك، ومنها أنَّ «بلاشير» بنى هذه الشُّبهة على مقدِّمةٍ مبناها أنَّ فكرة الوحي تكوَّنت نتيجة تشبُّع العقل الباطن بما في البيئة الَّتي نشأ فيها النَّبيُّ من ثقافات، وعقائد، وغير ذلك ممَّا جعل نفسه الصَّافية تفيض بما فيها من ذخائر، وقد فصَّلت القول في كلِّ ما زعمه «بلاشير»، بوصفها ركائزَ للوحي النَّفسي من ثقافة يهوديَّةٍ، ونصرانيَّة،ٍ ووثنيَّةٍ وغيرها، وغير ذلك من المصادر الَّتي زعمها للقرآن الكريم.

ولا شكَّ أنَّ الواقف على ذلك كلِّه يجدُ أنَّ الوحي كان يأتي على رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) في أوقاتٍ عدَّة، وبأشكال مختلفة، فقد كان يأتيه في ظروفٍ اعتياديَّة، وأحيانًا أخرى ينقطع عنه في ظروفٍ عصيبةٍ حتَّى وإن كان بأشدِّ الحاجةِ إليه ليمتحِن الله رسوخ إيمان عبيده، وهذا كلُّه يدلُّ على أنَّ الوحي كان خارجًا عن ذاته، وليس له فيه أدنى تدخُّل. كما أنَّ النَّاظر لهذا الدِّين، وحقيقته يجده فريدًا متميِّزًا صافيًا بكلِّ ما جاء من عقائد، وشرائع عمَّا كان موجود في الوسط الَّذي كان يعيش فيه النَّبيُّ(صلى الله عليه وآله وسلم)، فقد جاء هذا الدِّين عامًا شاملًا لكلِّ نواحي الحياة، سهلًا في عبادته، دقيقًا في معاملاته، رادعًا في حدوده، فذًا في نُظُمه الاقتصاديَّة، والسِّياسيَّة، وغيرها، عظيمًا في أخلاقه، وآدابه، إلى غير ذلك من المزايا، والفضائل. أفكُلُّ هذه العقائد، والنُّظُم، والتَّشريعات كانت مذكورة مدَّخرةً في نفس النَّبيِّ محمَّد(صلى الله عليه وآله وسلم)، وهو ابن البيئة المختلفة العقائد، والفقيرة الموارد، المختلفة الأنظمة، والمضطربة الأخلاق والآداب؟

فهذا الإسلام بعظمته، والقرآن بربَّانيَّته يُبطِلُ كُلَّ مزاعم «بلاشير» الطَّاعنة في المصدر الإلهي للوحي، كما أنَّ العلم الحديث يكشف كلَّ يومٍ لنا أسرار آياتهٍ في الأنفس، والآفاق ما يؤكِّد أنَّه من تنزيل إلهيٍّ، وليس فيه أدنى شيء لعقلٍ بشري، لأنَّه أعجز من أن يؤلِّف شيئًا مثل آياته.

ولا يكادُ يُنهي «بلاشير» حديثه عن الاضطرابات النَّفسيّة الَّتي يدَّعي أنَّ النَّبيَّ كان يعيشها، وأثرها في (ظاهرة الوحي)، حتَّى يُتبِعها بحديثه عن مصادر أخرى للوحي؛ يهوديَّة كانت، أو نصرانيَّة، أو وثنيَّة. ويسوِّق لأفكار لا غرض له من ورائها إلَّا التَّشكيك في إلهيَّة القرآن الكريم، فعند حديثه عن اليهوديَّة بصفتها مصدرًا للوحي يحاول أن يستدلَّ على ذلك من خلال تشابه القرآن، والكتب اليهوديَّة في بعض القصص، كقصَّة ابنَي آدم (عليه السلام)، وقتل أحدهما للآخر، وقصَّة إبراهيم الخليل(عليه السلام)، وإنقاذه من نار النَّمرود، وقصَّة سليمان(عليه السلام) مع ملكة سبأ، وقصَّة هاروت، وماروت، وقصَّة موسى(عليه السلام)، وبعض المواقف له، وغيرها من قصص. أو عند حديثه عن النَّصرانيَّة بوصفها إحدى مصادر الوحي حين يقول: «كانوا وقتئذ في الأوساط الكنسيَّة، يتصوَّرون دعوة محمَّد عملٌ منشق يدَّعي بأنَّه ملهمٌ من الله، بينما كان في الواقع قد تلقَّى تعاليمه من راهبٍ خارجٍ عن العقيدة القويمة»[5]، وهي شبهات سيأتي الردُّ عليها خلال هذا البحث إن شاء الله.

كما أنَّ أسلوب القرآن الكريم الَّذي سعى «بلاشير» إلى الطَّعن فيه، والقول ببشريَّته باعتباره كتاب من تأليف محمَّد، إنَّما جاء بأسلوبٍ مخالف لأسلوب حديث النَّبيِّ محمَّد(صلى الله عليه وآله وسلم) المروي في المجاميع الحديثيَّة، وهذا ممَّا أغفله «بلاشير» في ترجمته، بينما سلَّم به في كتابه «تاريخ الأدب العربي»[6]، ولو رجع كلُّ ذي فكر إلى كتب، ومجاميع السُّنَّة النَّبويَّة، وقارنها بأسلوب القرآن الكريم لوجد بونًا شاسعًا بينهما، إذ نجد الأحاديث النَّبويَّة نتاج شخصيَّة بشريَّة، وذاتيَّة تعتريها الخشية، والمهابة، والضُّعف، والإنكسار أمام الله تعالى، وحديثه صلى الله عليه وآله وسلَّم يتجلَّى فيه لغة المحادثة، والتَّفهيم، والتَّعليم، والخطابة بخلاف القرآن الَّذي نجد فيه ذاتيَّة جبَّارة عادلة حكيمة، فضلًا عن روعة الشَّكل، والموج اللُّغوي المتدفق، والمتموِّج بإيقاع مسجوع أكثر رهافة، وسحرًا من الشِّعر العربي القديم.

ثمَّ إنَّ اختلاف أسلوبه في السُّورة الواحدة، أو من سورة إلى أخرى كان تبعًا للمناسبة الَّتي نزلت فيها، إذ إنَّ لكلِّ مقام كلامًا، فضلًا عن إعجازه، وعدم قدرة البلغاء على مجاراته، ولمّا حاول بعضهم معارضته كمسيلمة الكذَّاب الَّذي أخذ يقلِّده بمجموعة من مفترياته فجاء بشيء لا يشبه الكلام نفسه، فأخطأ الفصاحة من كلِّ جهَّاتها، وصار أضحوكة بين العرب، الَّذين تحدَّاهم الله تعالى قائلًا: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ (البقرة: 23)، وقد تنبَّه المستشرق «إميل درمنغم» إلى هذا التَّحدي والإعجاز، فقال: «والقرآن معجزة محمَّد الوحيدة، فأُسلوبه المعجز، وقوَّة أبحاثه الَّتي لا تزال لغزًا مذبذبًا إلى يومنا يثيران ساكن من يتلوَّنه، ولو لم يكونوا من الأتقياء العابدين، وكان محمَّدٌ يتحدَّى الأنس، والجن لأن يأتوا بمثله، وكان هذا التَّحدِّي أقوم دليل لمحمَّد على صدق رسالته»[7]، فهذا المستشرق المنصف، وغيره ممَّن اعتقد بإلهيَّة القرآن الكريم، لم ينطلق أصلًا من كونه بشريًّا بل حكَّم مجمل المثيرات العقليَّة في النَّصِّ المبارك فوصل إلى نتيجة صحيحة.

أمَّا «بلاشير» الَّذي انطلق في دراساته القرآنيَّة من مبدأ الاعتقاد ببشريَّة القرآن، وأنَّه كتابٌ من عندِ محمَّد، ومن تأليفه فقد راح يتلمَّس لنفسه من هنا، وهناك مصادر آخرى غير الوحي الإلهي، فتارةً يردُّه إلى البيئة الجغرافيَّة، والحياة الاجتماعيَّة، والدِّينيَّة، والثَّقافيَّة لدى العرب، وتارةً أخرى يردُّه إلى الاضطرابات النَّفسيَّة، والعاطفيَّة، وثالثة إلى اليهوديَّة، والنَّصرانيَّة، ومعتقدات الشُّعوب المجاورة، وعاداتها، وغير ذلك من مصادر مزعومة، وهذا كلُّه من أجل غرض واحد هو الطَّعن في قدسيَّة القرآن الكريم، وإنكار المصدر الإلهي للرِّسالة المحمَّديَّة. وفي هذا السِّياق يقول «بلاشير»: «فضلًا عن إننا نجد في بعض المفردات المستعملة أثرًا للعلاقة الوثيقة بين الظُّروف الَّتي كان يتخبَّطُ فيها محمَّد، وبين صيغة الرِّسالة الَّتي كان يتلقَّاها من الله»[8]، وكدليلًا على دعوى المستشرقين بأنَّ تأثُّر الوحي بالبيئة الاجتماعيَّة، والظُّروف المحيطة بمحمَّد، ومحاولته محاباة المشركين، والتَّودُّد إليهم، نجد أنَّ عددًا منهم، وعلى رأسهم «بلاشير» حاولوا الاستدلال على دعواهم من خلال التُّهمة الَّتي وجَّهوها إلى القرآن الكريم، وخصَّصوا لها سورة افتروها، وسمُّوها (سورة الغرانيق) في إشارة منهم إلى ما زعموا من أنَّ سورة النَّجم كانت تحتوي في البداية على آيتين تمدحان الأصنام الثَّلاثة: «اللَّات والعُزَّى ومَنَاة»، ثم حُذِفتا منها فيما بعد! حيث يرى «بلاشير» بأنَّ محمَّدًا(صلى الله عليه وآله وسلم)، كان يتمنَّى أن يصالح القرشيِّين حتَّى يكسبهم إلى صفه بدلًا من استمرارهم في عداوتهم لدعوته، وإيذائهم له، ولأتباعه، ولذلك أقدم على تضمين سورة «النَّجم» تلك الآيتين عقب قوله تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى﴾ (النَّجم: 19-20)، وذلك على النَّحو التَّالي: «إنهنُّ الغرانيق العُلا * وإنَّ شفاعتهن لَتُرْتَجَى». والمقصود من وراء ذلك طبعًا هو الإساءة للرَّسول الكريم بالقول بأنَّه لم يكن مخلصًا فى دعوته، بل لم يكن نبيًّا بالأصل، وإلَّا لما أقدم على إضافة هاتين الآيتين من عند نفسه.
ولأنَّنا نتكلَّم عن «بلاشير»، فإنَّنا نسأل: أيصحُّ فى نظر العلم أن يُقْدِم هذا (الباحث الحذق) على إضافة تلك الجملتَين إلى ترجمته لسورة النَّجم؟[9] وهما الجملتان اللَّتان تمدحان أوثان قريش، والجملتان قال عنهما «بلاشير» إنَّ الشَّيطان قد ألقاهما في القرآن ثمَّ حُذِفَتا في الحال؟

لكن على كلِّ حال، وقبل أن نناقش في مدى صحَّة هاتين الجملتين، ونردُّ عليهما من النَّاحية القرآنيَّة، فإنَّنا سنفترض أنَّهما كانتا فعلًا جزءًا من القرآن لكن، ألم يحذف مؤلِّف القرآن (كما يسمِّي بلاشير النَّبي محمَّد) هاتين الجملتين من كتابه؟ وعلى هذا ألم يكن من الواجب الالتزام بالنَّصِّ كما انتهى إلينا؟ أليس هذا هو المنطق وما يطالب به العلم؟

ثمَّ إذا كان «بلاشير» لا يطيق سكوتًا على هذه المسألة، ويرى أنَّ الدُّنيا لن يصلح حالها إلَّا بالإشارة إلى ما كان، رغم أنَّه ليس إلَّا نتاج رواية واحدة موضوعة ممَّا روي في هذا الصَّدد، فضلًا عن أنَّها رواية لا تدخل العقل كما سيتَّضح حالًا، فلقد كان له في الهامش أن يقول فيهما ما يشاء، وأن يعلِّق بما يريد من دون أن يسيء إلى النَّص، أو إلى أمانة العلم! هذا إن كان هدفه من البحث علميًّا كما ادَّعى.

ورغم أنَّ هذه القصَّة قصَّة مكذوبة من ألفها إلى يائها إلى أنَّ «بلاشير» أراد من خلال ترجمته أن يعيد القيام بالدَّور المنسوب إلى الشَّيطان، فدسَّ العبارتين الشَّركيَّتين الدَّخيلتين بالرَّقم نفسه في هذا الموضع، ومن دون أيِّ إشارة منه تنبه القارىء على أنَّهما مقحمتان، وليستا من القرآن! ومع أنَّه لا يترك فرصة من دون أن يدَّعي زورًا وجود دخيل مقحم يقطع تسلسل الآيات، وارتباطها، ليشوِّه بذلك صورة القرآن، فإنَّه هنا ترك الأمر بدون تعليق مع وضوح تناقض العبارتين مع ما قبلهما، وما بعدهما من الآيات القاطعة بإنكار عبادة الأصنام، وتقبيح أمرها كلَّ التَّقبيح!

أمَّا من النَّاحية القرآنيَّة فقد تناول عدد من علماء المسلمين قديمًا، وحديثًا الرِّوايات الَّتي تتعلَّق بهاتين الآيتين المزعومتين، وبينوا أنَّها روايات ذات أسانيد موضوعة لا تتمتَّع بأيِّ مصداقيَّة. ذلك أنَّ النَّظر في سورة «النَّجم» يؤكِّد هذا الحكم، فهذه السُّورة من أوَّلها إلى آخرها عبارة عن حملة مُدمدمة على المشركين، وما يعبدون من أصنام بحيث لا يُعْقَل إمكان احتوائها على هاتين الآيتين المزعومتين، وإلَّا فكيف يمكن أن يتجاور فيها الذَّمُّ العنيف للأوثان، والمدح الشَّديد لها في نفس السُّورة؟

كما أنَّ وقائع حياته(صلى الله عليه وآله وسلم) تجعلنا نستبعد تمام الاستبعاد أن تكون عزيمته قد ضعفت يومًا، فقد كان مثال الصَّبر، والإيمان بنصرة ربِّه له، ولدعوته. ومواقفه من الكفَّار طوال ثلاثة وعشرين عامًا، ومقارعته لهم بالحجَّة، ومناضلته لهم بالدَّليل، وعدم استجابته للوساطة بينه، وبينهم في مكَّة، وكذلك رفضه المتكرر لكلِّ ما عرضوه عليه من المال، والجاه، والرِّئاسة، والملك، لهي أقوى برهان على أنَّه ليس ذلك الشَّخص الَّذي يمكن أن يقع في مثل هذا الضُّعف والتَّخاذل!

مناقشة المنحى المنهجي عند بلاشير في دراسته للقرآن
لقد تعدَّدت طرق المستشرقين، وتنوَّعت مناهجهم في دراسة القرآن الكريم، كما تداخلت مع بعضها أحيانًا، وتناقضت أحيانًا أخرى إلى حدٍّ لا يمكن الاعتماد على أيٍّ منها بشكل دقيق، ومع ذلك فإنَّها اتَّفقت في مجملها على كونها دراساتٌ مُنحازة ذات أهدافٍ واضحة، ومحدَّدة سلفًا، ألا وهي الطَّعن في القرآن الكريم، والغضِّ من قيمة التُّراث الإسلامي، من خلال إظهار الفكر الإسلامي على أنَّه فكرٌ متناقض من داخله، وذلك بتقديمه تقديمًا سطحيًّا للمتلقِّي الغربي، أو المستغربين من العرب، والمسلمين الدَّارسين في جامعتهم عبر استعمال مناهج صُبِغت بصبغة غربيَّة، وفق مضامين، ورؤى مسيحيَّة قديمة، أو متنوِّرة.

ومن المستشرقين الَّذين عملوا على ذلك بلا شكٍّ كان الفرنسي «ريجي بلاشير» الَّذي لم يتوانَ عن استخدام أساليب التَّحريف، والتَّضليل، والحذف المتعمَّد لمقاطع معيَّنة من الآيات القرآنيَّة، من دون أن يلقي بالًا بأنَّ مثل هذه البحوث الَّتي تتعلَّق بكتاب يُعتبر مصدر التَّشريع الأوَّل عند أمَّة من أكبر الأمم الَّتي تعيش على سطح الأرض لا بدَّ للباحث فيها أن يكون متجرِّدًا من خلفيَّته الدِّينيَّة، والقوميَّة، وملتزمًا بالأمانة العلميَّة، وأصول البحث العلمي، فمن المعروف أنَّ العالِم المخلص يتجرَّد عن كلِّ هوى، وميل شخصي في ما يريد البحث فيه، ويتابع النُّصوص والمراجع الموثوق بها، فما أدَّت إليه بعد المقارنة والتَّمحيص كان هو النَّتيجة الَّتي ينبغي له اعتمادها، والأخذ بها، غير أنَّنا نجد «بلاشير» فيما كَتَب يضع في ذهنه فكرة سلبيَّة معيَّنة، ثمَّ يحاول تصيُّد الأدلَّة من هُنا، وهناك لإثباتها حتَّى لو كانت أدلَّته الَّتي يسوقها من مصادر مجهولة، أو من مصادر أدبيَّة لا علاقة لها بعلوم القرآن، كما أنَّه لا يُلقي بالًا في أبحاثه لصحَّة الأدلَّة إلَّا بمقدار ما يهمُّه، أو بحسب إمكانيَّة الاستفادة منها لدعم آرائه الشَّخصيَّة، ويعمد لتفسير النُّصوص، والحوادث، والوقائع، والنِّيَّات، والغايات تفسيرات لا تتَّفق مع دلالاتها، وأَماراتها الحقيقيَّة، ولا مع نتائجها المثبتة، والمُسلَّم بها في الأمَّة الإسلاميَّة.

كما أنَّ «بلاشير» في أبحاثه حول القرآن نراه يفرض نفسه حَكَمًا يتصدَّى للاعتراض على نصوصه، متجاوزًا بذلك الحدود المتعارف عليها في التَّرجمة، ليقوم بدور النَّاقد، والمفسِّر للقرآن الكريم، مُصدرًا بذلك أحكامه الخاطئة، وآراءه المغرضة، ونظريَّاته الفاسدة الَّتي تعتمد على أهوائه الشَّخصيَّة، وموقفه العدائي المتعصِّب، فهو كما قالت د. هداية مشهور الباحثة المتخصِّصة في دراسة ترجمات القرآن بالفرنسيَّة: «يتدخَّل بشكل متحامل متحكِّم في محتوى النّصِّ القرآني من خلال الحديث عن ترتيب سور القرآن بحسب تاريخ النُّزول، ويطعن في ترابط الآيات، وتسلسلها، وفق تصوُّره الخاصِّ، ومزاعمه، كما يطعن في صلاح كلمات، وعبارات للموضع الَّذي جاءت فيه، أو يصرِّح بتخطئتها، واقتراح غيرها في موضعها إلى غير ذلك من صور التَّدخُّل المغرض بقصد الإساءة، وإحاطة القرآن بدعاية منفِّرة كاذبة، وهذا ما يدلُّ على قصور واضح في الوعي، والمعرفة بلغة القرآن، ومعاني القرآن»[10]، ويؤكِّد وجود دوافع، وأهداف مشبوهة وراء ترجمته للقرآن يشهد على ذلك كثرة الأخطاء، وفداحة التَّحريفات، والمغالطات الَّتي تضمَّنتها ترجمته للقرآن.
ومن أهمِّ الأسباب الَّتي أوقعته في هذه الأخطاء، والمغالطات سواءً كانت متعمَّدة وهو ما نَظن، أو أنَّها ناتجةٍ من قلَّة اعتماده على ما صحَّ من السِّيرة العطرة لنبيِّ الإسلام(صلى الله عليه وآله وسلم)، وسنَّتة الشَّريفة، وضعفه في التَّفريق بين الصَّحيح منها والضَّعيف؛ وكذلك ضعفه في اللُّغة العربيَّة، وتجدر الإشارة هنا إلى أنَّه ما من شكٍّ في تمكُّن بلاشير من اللُّغة الفرنسيَّة. أمَّا ما يخصُّ اللُّغة العربيَّة، فالمفروض، بصفة كونه عضوًا في المجمَّع العلمي العربي بدمشق، أن يكون متمكِّنًا منها. إلَّا أنَّ ترجمته لكثير من الآيات تؤكِد عكس ذلك، فالأخطاء متفشِّية في جُلِّ صفحات ترجمته[11]، وكان من نتاج ذلك أنَّه لم يفهم بعض الموضوعات الَّتي تدور حولها الآيات، وفشله في ربطها بما قبلها، وما بعدها، وكذلك فشله في معرفة الموضوع الرَّئيس الَّذي تدور حوله بعض الآيات ظاهر لكلِّ باحث[12].

وفي ما يلي سنستعرض بعض النِّقاط الَّتي يتبيَّن من خلالها للقارئ مكامن الخلل المنهجي الَّذي نتحدَّث عنه، قبل أن نبدأ بدراسة نقديَّة لأفكار «بلاشير» الَّتي أثارها حول القرآن الكريم، ونردُّ على شبهاته بشكلٍ تفصيلي، مع بيان أهمِّ مآخذنا على التَّرجمة، وذلك من خلال تقسيم البحث إلى فصلين؛ الأوَّل نتناول فيه أبرز النِّقاط الَّتي تتعلَّق بسلامة منهج البحث العلمي «لبلاشير»، والثَّاني نناقش فيه الدِّراسات، والموضوعات القرآنيَّة الَّتي تناولها بالبحث، ومن ثمَّ نتولَّى الرَّدَّ على شبهاته الَّتي أثارها حول القرآن الكريم.

أوَّلًا- الخطأ في ترجمة معاني الألفاظ وطمس دلالاتها وإساءة فهم النَّصَِّ عمدًا
لما كان لدى «بلاشير» رغبة جامحة للتَّدليل على تحريف القرآن الكريم، فلا مانع عنده من التَّحريف في الكلام، ومحاولة إساءة فهمه عمدًا حتَّى يوافق هواه، ومردُّ ذلك طبعًا هو تأثُّره بخلفيَّته الدِّينيَّة الَّتي ترى أنَّ القرآن الكريم كتابٌ من عند محمَّد(صلى الله عليه وآله وسلم) ومن تأليفه، ولذلك نجده يلجأُ غالبًا إلى استعمال المعاني المباشرة للألفاظ، وهدر الدَّلالات المجازيَّة، والسِّياقيَّة لها، ففي بعض الأحيان قد توجد للكلمة العربيَّة الواحدة ألفاظًا عدَّة ذات معانٍ مختلفة في اللُّغة الثَّانية، إلَّا أنَّ «بلاشير» يستعمل منها ما يوافق اتِّجاهه الفكري، لا ما يوافق السِّياق العامَّ للنَّصِّ، فهو على سبيل المثال يترجم قوله تعالى في سورة آل عمران: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا...﴾ (آل عمران: 64)، فإنَّه يترجِمُها بما يَجعَل معناها: «كلمة سواء بيننا وبينكم هي أننا -مثلكم- لن نعبد إلا الله...»[13]، وكأنَّ أهلَ الكتابِ هنا هم الأصل الَّذي يَنبَغِي احتذاؤه في التَّمسُّكِ بالوحدانيَّةِ، فيَعِدُهم المسلمون بأن يتمسَّكوا بالتَّوحيدِ كما تمسَّكوا به -يقصد أهل الكتاب من يهود ونصارى-!

وفي هذا قلبٌ للحقائقِ التَّاريخيَّةِ، فإذا كان قُصارَى جهد النَّبيِّ(صلى الله عليه وآله وسلم)، وأتباعِه أن يَسِيروا على دربِ أهلِ الكتابِ، فلِمَ كان الدِّينُ الجديدُ إذًا؟ كما أنَّ الضَّمير في قوله: ﴿نَعْبُدَ﴾، و﴿لَا نُشْرِكَ﴾ يعودُ على الطَّرفينِ: المسلمينَ وأهلِ الكتابِ، وطبعًا ليس معنى دخول المسلمين تحت هذا الضَّمير أنَّهم كانوا يَعبُدونَ غيرَ الله، وإنَّما هو لونٌ من ألوانِ الحِجاجِ المهذَّب الرَّقيقِ الَّذي لا يُرادُ به إفحامُ الخصمِ، بل كسبُ قلبِه باللِّين والحسنى، وهو أسلوبٌ يتَّبعه القرآنُ الكريم كما في قوله تعالى: ﴿قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ (سبأ: 24)، وذلك بدلًا من تنفيرِ الخصم منذ الوهلةِ الأولى بكشف عوارِ منطقِه؛ إذ يلجأُ المجادِلُ اللَّبقُ إلى الإبهامِ باستخدامِ ضمير المتكلِّمين وإدخالِ نفسِه من ثَمَّ في الأمرِ؛ فلا يتعيَّن بذلكَ المخطئُ تعيُّنًا صريحًا.

وفضلًا عن هذا الخطأ الفاحش نَرَاه في تعليقِه على هذه الآيةِ نفسِها في الهامشِ يَشرَحُ المقصودَ بـ﴿أَهْلَ الْكِتَابِ﴾ هنا، فلا يُورِد إلَّا رأيينِ: أنَّهم يهودُ المدينةِ وحدَهم، أو أنَّهم اليهود والنَّصارى معًا، ثمَّ يضعِّف الرَّأي الثَّاني متجاهلًا الرَّأيَ الثَّالثَ، الَّذي يقرِّر أنَّ ﴿أَهْلَ الْكِتَابِ﴾ في هذه الآية هم النَّصارى فقط، ومتجاهلًا أيضًا أنَّه إذا كان اليهودُ داخلينَ في ﴿أَهْلَ الْكِتَابِ﴾ في هذه الآيةِ، فمن بابِ الأولى يَنبَغِي أن يكونَ النَّصارى مندرجينَ فيها هم أيضًا؛ لأنَّ الشِّركَ في عقيدتِهم أظهرُ!

أمَّا في قوله تعالى: ﴿وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ...﴾ (البقرة: 102). نجده يحرِّف نصَّ الآية الكريمة، ويترجمها في سياق النَّفي على الشَّكل التَّالي: «ويتعلَّمون ما لا يضرُّهم»[14]، وهو مُراد مغايرٌ تمامًا للمُراد الَّذي وردت فيه الآية.
وكذلك الأمر في ترجمته لهذه الآية من سورة البقرة: ﴿أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا﴾ (البقرة: 148)، فإنَّه يحرِّفها إلى معنى آخر فيترجمها: «أينما تكونوا يسِرِ الله معكم جميعًا»[15]؛ ثمَّ يدَّعي أنَّها لا تناسب هذا الموضع، وإنَّما أُدخلت هنا لمجرد معنى كلمة وِجهة -أي قِبلة- المذكورة أوَّل الآية!

ولا يتوانى «بلاشير» عن الاستمرار في هذا التَّحريف المنهجي للمُراد بالآيات القرآنيَّة لينتقل إلى سورة مريم فيترجم قوله تعالى الَّذي حكاه عن السَّيِّدة العذراء: ﴿وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا﴾ (مريم: 20) بطريقة عجيبة ليصير المُراد بالآية عنده «وإنَّني لست امرأةً أبدًا»[16]؛ مع أنَّ هذا تحريفٌ غريبٌ ومريبٌ جدًا! ورغم أنَّ «بلاشير» لم يُقدم على ترجمةِ القرآنِ إلَّا وقد تدرَّع بترسانةٍ من المعاجمِ، والتَّفاسيرِ، ودوائرِ المعارفِ كما كان يدَّعي، إلَّا أنَّه لم يقدِر على الانتفاع بها في أحيان كثيرة، فهو يَعجَزُ عن فهمِ قولِه تعالى: ﴿فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ﴾ (آل عمران: 13)، ومع إشارته في الهامش إلَّا أنَّه يترجم النَّصَّ حرفيًّا بحسب زعمه، فقد ترجمها بهذا المعنى: «هو أنَّ الطَّائفتين تتراءيان متماثلتين»[17]، وهذا معنى خاطئٌ تمامًا، ولا يقبله النَّصُّ على أي وجه من الوجوه.

وعلى ذات النَّحو يفسِّر قوله جلَّ وعلا: ﴿...إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ﴾ (آل عمران: 44)، فيقول عن هذه الآية أنَّها تظلُّ من دون بيان، أو شرح لها، وأنَّ المفسِّرون لا يذكرون عنها شيئًا يستحق الذِّكر![18]، وهو بذلك يتعمَّد تجاهل معناها المعروف، وهو إجراء القرعة بواسطة الأقلام -أي السِّهام- لمعرفة من هو المستحق الَّذي سيكفل مريم.
والحقيقة أنَّنا إذا استثنينا غايات بلاشير، وأهوائه المضلَّة، فإنَّ كلَّ ذي فكر لَيَحارُ في معرفة المصدر الَّذي استقى منه «بلاشير» هذا الفهم الغريب، وبخاصَّة وأنَّ كتب التَّفسير واضحة في هذا الشَّأن.

وما هذه الأمثلة الَّتي أوردناها إلَّا عيِّنة صغيرة من أُسلوب «بلاشير»، وأمانته العلميَّة في ترجمة القرآن، والَّتي إن دلَّت على شيء فإنَّما تدلُّ على أنَّه كان خاضعًا لأهوائه الشَّخصيَّة، وأهدافه السِّياسيَّة، والدِّينيَّة فأعماه ذلك عن الحقِّ، وأضلَّه عن السَّبيل.

ثانيًا- الحذفُ المتعمَّد لمقاطع من الآيات بشكل يؤدِّي إلى تغيير المعنى وإضفاء حالًا من الغموض عليها
لا ينفكُّ «بلاشير» أن يلجأ إلى أساليبه الملتويَّة في ترجمة القرآن طالما أنَّها تخدم أهدافه الخبيثة المُتمحوِرة أساسًا حول الحطِّ من شأن كتاب الله وإظهاره للقارئ بشكل مشوَّش وغير مفهوم، فلا رجوع عنده لأسباب النُّزول، ولا تعمُّق في تحليل دلالات الاختيارات المعجميَّة، أو الصِّيغ الصَّرفيَّة، أو التَّراكيب النُّحويَّة الَّتي رُوعِيَتْ فى كلمات السُّورة، وبناء جُملها، وما فيها من تقديم وتأخير، وحذف وذكر، وتكرير، وما إلى ذلك، ولا التفاتٌ لما تريد السُّورة أن تغرسه في عقل الإنسان وقلبه من عقائد ومشاعر ومفاهيم.

وبناءً على ذلك يعمدُ «بلاشير» هنا إلى «البتر المتعمَّد» لمقاطع، أو كلماتٍ من الآيات، أو حذف البعض منها واستبدالها بكلماتٍ أخرى يراها ملائمةً أكثر حسب زعمه، في تعدٍّ فاضح منه على قدسيَّة النَّصِّ القرآني، فمثلًا يترجم ﴿وخاتم النبيّين﴾ في قوله تعالى: ﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ﴾ (الأحزاب: 40) إلى «ختم النَّبيِّين»[19]، وينوِّه بأهمِّيَّة ذلك في العقيدة، ثمَّ يشير إلى الآية السَّادسة من سورة الصَّف: ﴿وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ﴾ (الصف: 6)، فيغيِّر نصَّ الآية ويترجمها بهذا الشَّكل: «وأعلن لكم عن نبيٍّ أمَّته آخر الأمم وبها يضع الله الختم على الأنبياء والحواريين»![20]، وهنا حذف اسم «أحمد» من النَّصِّ بشكل متعمَّد، وزاد عبارة مريبة لعلَّه نقلها من كتبهم وادَّعى أنَّها من نسخة «أُبي»، وهكذا يلجأ صراحةً إلى كلِّ هذا الالتواء، والتَّدليس في نصٍّ قاطع ومحكم!
وكذلك الأمر في قوله تعالى: ﴿وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ﴾ (البقرة: 267)؛ حيث يقول: «إنَّ عبارة (أن تغمضوا) غامضة وملتبسة جدًّا ويجب إضافة عبارة إليها لتوضيحها» والعبارة الَّتي يقترحها «بلاشير» هي «بينما إذا أعطيتموها صدقة»[21]، وهي عبارة لا توافق سياق الآية، وتؤدِّي إلى تغيير المُراد، وتضفي عليه نوعًا من الإبهام، والغموض وهو ما يسعى إليه «بلاشير».
ومثال آخر حول هذا العبث الصَّريح الَّذي يتمادى فيه «هذا المستشرِق الحَذِق» حيث يذكر الآية نفسها من سورة البقرة، ويزيد على ما قال بأنَّها آية «مبهمة جدًا»[22]؛ دون أن يوضِّح للقارئ موضع الإبهام ولا سببه! وحتَّى لو جاريناه في هذه الفريَّة الَّتي تفتقر إلى الدَّليل والبرهان، وقلنا إنَّه أعجمي، وغير ملمٍّ باللُّغة العربيَّة الإلمام الكافي، فأين ذهبت كتب التَّفسير إذًا؟ أوليس من باب أولى على من يقدِّم نفسه باحثًا علميًّا أن يسعى لإيضاح مكامن الغموض؟ ألم يجد «بلاشير» في كُتُبِ التَّفسير ما يُذهبُ ما في الآية من غموض، وبخاصَّةٍ وأنَّها ليست من الآيات الَّتي تختلفُ فيها آراء أهل التَّفسير كما يحدث أحيانًا في بعض آيات القرآن؟!

وهو تمامًا ما وقع فيه «بلاشير» الَّذي لم يعجبه المنهج الَّذي يتَّبعه المفسِّرون المسلمون، أو الَّذي يستعينون به في النَّحو، والصَّرف، والبلاغة، عندما ظنَّ أنَّه وقع على كنزٍ ثمين يستطيع من خلاله الطَّعن في القرآن الكريم، والشَّماتةَ به، وذلك حين تطرَّق إلى الآية التَّاسعة من سورة الكهف: ﴿أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا﴾ (الكهف: 9). إذ سعى إلى تحليلها على منهجه الَّذي تبجَّح أنَّه يختلف عن منهج المستشرقين السَّابقين، حيث قال: «إنَّ (أَمْ) هذه لا تستعمل إلَّا للتَّناوب، أو المفاضلة بين شيئين، لكن الملاحَظ أنَّها في هذه الآية لا يسبقها شيء يمكن أن يشكِّل الطَّرف الآخر في عمليَّة التَّناوب، ومن ثمَّ فإنَّ الآيات قد تعرضت لعمليَّة تلاعب، وهذا التَّلاعب يدلُّ عليه غياب الطَّرف الآخر للتَّناوب»؟[23].

ورغم أنَّ «بلاشير» يلمِّح هنا إلى وقوع التَّحريف في كتاب الله بقوله إنَّ الآية تعرَّضت لعمليَّة تلاعب، إلَّا أنَّه تجاهل عمدًا أنَّ (أم) لا تنحصر في هذه الوظيفة فقط -أي وظيفة المفاضلة بين أمرين-، بل لها وظائف أخرى كما في قوله تعالى: ﴿سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ (البقرة: 6)، أي أنَّه لا فائدة في هذا أو ذاك، لأنَّ النَّتيجة ستكون واحدة في الحالتين، وكذلك عندما نقول: أفلان عندك أم أخاه؟ فهي في هذه الحال تدلُّ على الرَّغبة في تحديد الموجود من الشَّخصين، وتسمَّى في هذا التَّركيب «أم المتَّصلة» لأنَّها متَّصلة بما قبلها، وهذا ما ظنَّ «بلاشير» أنَّه كلَّ مهمَّتها! ففاته أنَّ هناك (أم) أخرى هي (أم المنقطعة) الَّذي ليس للاسم الَّذي بعدها مناوبٌ قبلها، بل تنشئ كلامًا جديدًا كما هو الحال في الآية موضع البحث، والَّتي يقول المفسِّرون عنها إنَّ معناها (بل).

ومع ذلك كله كان ينبغي على «بلاشير» ألَّا يتمادى كثيرًا في غيِّه وتدليسه، فالنَّبي الَّذى جاء بالقرآن أو «اخترعه» من عنده كما يدَّعي هذا المستشرق هو عربي سلَّم له العرب أنَّه أفصح من نطق بضادهم، ومن ثمَّ فإنَّ ما يقوله هو الصَّواب لا ما يردِّده بلاشير، وإخوانه من المستشرقين، وحتَّى لو قلنا إنَّ المسلمين قد غيَّروا في القرآن من بعده صلى الله عليه وآله وسلَّم، فالَّذين غيَّروا فيه هم أيضًا عرب، ومن ثمَّ فإنَّ ما يقولونه هو الصَّواب حيث اللِّسان لسانهم. أليس هذا ما يمليه المنطق؟ ويسلِّم بلاشير به بعد سنين[24]، وإذا كان الشَّيء بالشَّيء يذكر، فإنَّ «بلاشير» نفسه يقول: «إنَّ وحدة اللُّغة العربيَّة هي وحدة أخلاقيَّة، ودينيَّة قبل كلِّ شي‏ء، مؤسَّسة على وحدة تاريخ اللُّغة، وإنَّنا كلَّما درسنا اللُّغة الفرنسيَّة لاحظنا أنَّها تطوَّرت عبر العصور بحيث نجد لها أطوارًا، فإذا قارنَّا حال اللُّغة الفرنسيَّة في العصور الوسطى وجدنا أنَّها مغايرة للُّغة المستعملة في القرن السابع عشر، وهذه أيضًا مختلفة عن لغتنا اليوم؛ هذه الوحدة في اللُّغة الفرنسيَّة لا تتَّضح إلَّا بالبحث والمقارنة، في حين أنَّ وحدة اللُّغة العربيَّة تتَّضح للقارئ ولو كان أجنبيًّا لأوَّل وهلة»[25].

ليت شعري فلم لم يتَّضح له هناك ما أقر به هنا؟ أم أنَّه ينسى نفسه فلا يهتمُّ بعقل، ولا منطق حين يتعلَّق الأمر بالقرآن الكريم، فتشغله أحقاده، ومعتقداته، وتُذهِلهُ عن كلِّ شيء!

ثالثًا: الذَّاتيَّة وعدم التَّجرُّد من الخلفيَّة الدِّينيَّة المسيحيَّة (ترجمة معاني القرآن في ضوء المفاهيم اليهوديَّة والنَّصرانيَّة):
تعدُّ صفة «الموضوعيَّة» إحدى أهمِّ الصِّفات الَّتي ينبغي للباحث أن يتحلَّى بها، فهي تحتِّم على الباحثين ألَّا يتركوا مشاعرهم وآرائهم الشَّخصيَّة، ومعتقداتهم تؤثِّر على النَّتائج الَّتي يمكن التَّوصُّل إليها خلال الدِّراسة، وهي عكس الذَّاتيَّة الَّتي سعى من خلالها «بلاشير» إلى توجيه بحثه نحو أفكار، وعقائد، وخلاصات محدَّدة سلفًا، خصوصًا ما يتعلَّق منها بتحريف عقيدة الإسلام وتعاليمه، من خلال ترجمة الكثير من معاني القرآن الكريم بشكل يوافق عقيدته التَّبشيريَّة يهوديَّةً كانت، أو نصرانيَّة.

ففي سورة البقرة يورد نصَّين لترجمة قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ (البقرة: 62)، وذلك بدعوى عدم انضباط عبارة الآية، ويحرِّف في إحداهما ترجمة عبارة ﴿مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ إلى «هم الذين آمنوا...»![26]، ويزعم في الحاشية أنَّ الآية تقرِّر مبدأ التَّساوي بين الأديان الأربعة، وهو بتخليطه، وكلامه هذا يحرِّف معنى هذه الآية، والآية المماثلة لها في سورة المائدة: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ (المائدة: 69)، فيزعم أنَّها إقرارٌ لدين اليهوديَّة، والنَّصرانيَّة بعد بعثة النَّبيِّ محمَّد(صلى الله عليه وآله وسلم)![27]، مع أنَّ الآيتين صريحتين في اشتراط الإيمان بالله، واليوم الآخر، وذلك لا يتحقَّق إلَّا بالإيمان بالرَّسول الَّذي بعثه الله، والكتاب الَّذي أنزله، وقد أنكرَ الله عليهم عدم إيمانهم بذلك بقوله: ﴿فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ * بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ (البقرة: 89-90). وغير ذلك من الآيات المحكمة الَّتي تبيِّن ما في عقيدتهم من شرك، وقولهم نؤمن ببعض، ونكفر ببعض.

وعندما يأتي إلى قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ...﴾ (النساء: 171)؛ يكتب «بلاشير» ﴿روح﴾ بالفرنسيَّة بالحرف الكبير كما هو معروفٌ في الأسماء، وكما يفعل المسيحيِّون عند الكلام عن عيسى، وروح القدس، ثمَّ ترجم ﴿وروح منه﴾ فجعل التَّقدير: «وروحٌ منبثقة منه»[28]؛ هكذا بشكل يتوافق مع عقيدته الباطلة في تأليه عيسى(عليه السلام)، وجعله منبثقًا من الله! بل ويحتال «بلاشير» في الحاشية للتَّغطية على التَّقدير الَّذي دسَّه في النَّصِّ فيقول: «هذه آية مهمَّة جدًا ولذلك التزمت في ترجمتها الحرفيَّة التَّامَّة الَّتي تقتضيها»![29]، بينما الحقيقة أنَّه دسَّ هذه الكلمة الشِركيَّة على النَّصِّ، وأخرجه بذلك عن حرفيَّته، لا سيَّما وأنَّ الثَّابت شرعًا التَّقدير بكلمة «مخلوقة منه» لا فرق بين عيسى(عليه السلام) وغيره في ذلك، كما قال الله في حقِّ آدم(عليه السلام): ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾ (الحجر: 29)، بل وفي حقِّ الإنسان عمومًا ﴿وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ﴾ (السَّجدة: 9). فليست الرُّوح منبثقة عن الله كما يدَّعي، وكما يستند النَّصارى إلى ذلك في دعوى ألوهيَّة المسيح(عليه السلام).

وأمَّا عن قوله تعالى: ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ...﴾ (المائدة: 73) فيقول عنها «بلاشير» في الحاشية: «بالمقابلة بين هذه الآية والآية 116 الآتية ﴿أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ (المائدة: 116)؛ يتبيَّن لنا أنَّ التَّثليث المنفي يتركَّب من الله، وعيسى، ومريم الَّتي حلَّ محلَّها روح القدس، فالإنكار الَّذي يقرِّره القرآن يقصد به نِحلةً أخرى أخذت على أنَّها نِحلة المسيحيِّين عامَّة، وقد ذكر سايوز أنَّ الأمر يتعلَّق بطائفة، وثنيَّة تؤمن بآلهة ثلاثة يظنُّ أنَّها تأثَّرت بأفكار جان فيلوبون من القرن السَّادس الميلادي»![30]، ولا ندري حقيقةً كيف أمكن «لبلاشير» أن يميِّز بين تثليثٍ، وتثليث آخر خصوصًا، وأنَّ كليهما شركٌ بيِّن!
والأعجب من ذلك هو قيام «بلاشير» بجعل الإنجيل مرجعًا في تفسير القرآن!، إذ يقول عن تفسير الآية السَّابعة من سورة مريم: ﴿لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا﴾ (مريم: 7) نقلًا عن إنجيل لوقا: «إنَّه أعطي أوَّلًا اسم زكريا مثل اسم أبيه ولكن أمَّه قالت: كلَّا إنَّه سيسمَّى جان (يحيي) فقالوا: ليس ثمَّة أحد في الأسرة بهذا الاسم»[31]، وذلك كلُّه تكذيبٌ منه لما جاء في القرآن من البشارة به(عليه السلام)، وتكذيبٌ لنصِّ هذه الآية.

وكذلك في قوله سبحانه: ﴿وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ﴾ (المائدة: 48)، يترجمه بـ«ومعلنًا توثيقه»![32]، ويقول في الحاشية إنَّ هذا المعنى محلَّ اعتراض؛ ولا يورد التَّرجمة الصَّحيحة؛ لأنَّها تجعل للقرآن الهيمنة، وسلطة الحكم على ما سبقه من الكتب المُنزلة، وذات الأمر في ترجمته لكلمة التَّابوت في قوله تعالى: ﴿إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ﴾ (البقرة: 248)، فيترجم كلمة التَّابوت بما ذكر عنه في التَّوراة بأنَّه «تابوْت العهد»[33]، فيزيد كلمة «العهد» على النَّصِّ القرآني في محاولة منه لإضفاء هذا المفهوم اليهودي على القرآن!؟

كما قام «بلاشير» بترجمة كلمة «الأمِّيِّ» الَّتي وصف الله بها النَّبيَّ محمَّد صلَّى الله عليه وآله وسلَّم بـ«نبي الوثنيَّة»، وذلك في ترجمته المنشورة في باريس سنة 1966م. مع أنَّه من المعلوم أنَّ كلمة الأميِّ تعني «الشَّخص الَّذي لا يقرأ ولا يكتب»[34]، وهذا المعنى لم يكن خافيًا على «بلاشير» الَّذي لا بدَّ، وأنَّه مرَّ على قوله تعالى: ﴿وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ﴾ (البقرة: 78)، كما أنَّه كان على علمٍ بأميَّة الرَّسول صلى الله عليه وآله وسلَّم من خلال قوله تعالى: ﴿وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ﴾ (العنكبوت: 48)، غير أنَّه تعمَّد ترجمة كلمة «الأميِّ» الواردة في نصِّ الآية إلى «Prophète des gentils»، ويعني ذلك نبيٌّ غير اليهود أي نبيِّ الوثنيَّة- كما نقف عليها لدى دينيسي ماسون بمعنى «Prophète des infidèles» وهي «نبيُّ الكفرة»[35]- وهذه التَّرجمات الغربيَّة لكلمة «أميّ» إلى معاني الوثنيَّة، أو الشِّرك، أو الكفر، أو ديانة غير الكتابيين في تضاعيف كتب المستشرقين، إنَّما تخدم إلى جانب ربط الإسلام، والقرآن الكريم، والنَّبيِّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، باليهوديَّة، والنَّصرانيَّة من جهَّة التَّعلُّم، والاقتباس، منها قضيَّة -نحسبها- محوريَّة تمثَّلت في نفي عالميَّة الإسلام، وشمول دعوته اليهود، والنَّصارى، إذ كانت الآية المقرِّرة عالميَّة الإسلام هدفًا آخر لعمليَّات التَّحوير الاستشراقي في التَّرجمة.

لاشكَّ أنَّ هذا التَّصرُّف في المعنى لدى «بلاشير» كان بتأثير الخلفيَّة العقيديَّة، «ففي ترجمته لكتاب الله العزيز، وما اتَّصل بالأسماء فيه ألفيناه يترجم اسم النَّبيَّ موسى عليه السّلام مثلًا مبقيًا على لفظه العربي مع كتابته بالحرف اللَّاتيني (Mussasa) عوضًا عن الاسم الفرنسي أي (Moise)، فإنَّ هذا المستشرق يترجم الذَّات الإلهيَّة في بعض المواطن لا بـ«الله»، أو «الرَّبِّ» كما ترجم اسم «موسى» أي بكتابة الاسم العربي بالحرف اللَّاتيني بل بلفظة (Seigneur)، وقد رأى بعض الدَّارسين في ذلك قصدًا من بلاشير إلى نفي الإطلاق عن الله (أي إله المسلمين الَّذي هو إله الكون أيضًا)، بجعله إلهًا بالذَّات، وهو في هذه الحال «إله العرب»، وفي معرض ترجمة بلاشير للفظ الذَّات الإلهيَّة تجد الاختلاف من سياق إلى آخر، فمثلًا في سياق يتعلَّق بالنَّبيِّ موسى عليه السلام يترجم بلاشير «الله» بـ (Allah)، وذلك في نحو قوله تعالى: ﴿قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا﴾ (الكهف: 69)، فيترجمها بما يلي:

Mais Moise répondit: s’il plait à Allah tu me trouveras patient[36].
أمَّا في قوله تعالى: ﴿قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ﴾ (مريم: 21)، فيترجمها بما هو آت:
Aussi sera-t-il dit l’ange «ton seigneur a dit cela est pour moi facile»[37].

فهل يكون ما يتَّصل بأمور العقيدة المسيحيَّة دافعًا ببلاشير إلى ترجمة ما يحيل على الذَّات الإلهيَّة بـ (seigneur)، وما عدا ذلك لا يرى فيه بأسًا من ترجمته بـ(Allah)؟ وهو منهج التَّأويل نفسه الَّذي تأولَّه المستشرقون عن كلمة «أميٍّ»، وهذا بفعل العقيدة المسيحيَّة ليس إلَّا»[38]، وبخاصَّة وأنَّه سادت بين النَّصارى عقيدة مفادها أنَّ الإسلام ما هو إلَّا فرقة مارقة من النَّصرانيَّة، ومرتدَّة عنها إلى الوثنية، وهذه العقيدة هي الَّتي روَّج لها الرَّاهب بطرس الكلوني الَّذي لقبوه بالمبجَّل[39] أوَّل مرَّة حين أشرف على أوَّل ترجمة معاني القرآن الكريم إلى اللُّغة اللُّاتينية عام 1143م، وقد تأثر المترجمون لمعاني القرآن الكريم إلى اللُّغات الأوروبيَّة بهذه العقيدة، وأسقطوها على ترجمتهم لكلمة «الأُمِّيّ» ومن هؤلاء طبعًا كان «بلاشير».

رابعًا- تأثُّره بـ(نولدكة) في إعادة ترتيب الآيات زمنيًّا (ادِّعاؤه بأن ترتيبه بشكل متدرِّج في الطُّول شبيه ببعض العادات الخاصَّة بالساميِّين)!
يقول «بلاشير» في كتابه القرآن نزوله تدوينه ترجمته وتأثيره: «إنَّ المائة والأربع عشرة سورة الَّتي يتألَّف منها هذا النَّص ُّترِدُ إجمالًا وفقًا لتدرُّجٍ هبوطيٍّ في الطُّول، هذا التَّرتيب يبدو مطابقًا لبعض العادات الخاصَّة بالسَّاميِّين»[40]؛ ثمَّ يضيف: «إنَّنا نقرأ القرآن بتاريخ معكوس»[41]! وعليه لم يعتمد «بلاشير» في تقسيمه للسُّور، والآيات على السِّيرة النَّبويَّة ولا الرِّوايات الصَّحيحة، وإنَّما قام على بحسب زعمه بإعادة ترتيب القرآن الكريم بحسب تاريخ نزوله، في تعدٍّ صارخٍ منه على قدسيَّة النَّصِّ القرآني، متَّبعًا بذلك سلفيه ويل ونولدكه، إذ اعتبر أنَّ هذه الطَّريقة هي الوحيدة، والمستمرَّة حقًّا في فهم القرآن بحسب رأيه! وفي ذلك يقول: «إنَّ إعادة ترتيب السُّور الَّذي اقترحه نولدكي ومدرسته، ينال هنا كامل أهمِّيَّته. إنَّه يلقي على المصحف أضواء مُطمئنة، ويرد وضع النُّصوص إلى آفاق سهلة الإدراك لكونها مقرونة إلى السِّياق التَّاريخي المعقول. ثمَّ إنَّه يعيد إلى محاولة القارئ الغربي معناها، ويلبِّي الرَّغبة في الفهم الَّتي لا يمكننا بدونها أنَّ حرز أيِّ تقدّم»[42]، ومع ذلك فإنَه خالف «نولدكه» في بعض المواضع، حيث كان أسلوبه في تقسيم القرآن يعتمد على طريقتين أساستين أراد من خلالهما إضفاء حالٍ من الشَّكّ ِفي مصدر الوحي.

الأولى: كانت من خلال محاولة تجميع النُّصوص القائمة على خاصيَّات غالبًا تكون موضوعات سائدة في الوعظ، أو الأسلوب، أو اللُّغة، أو مرتبطة ببعض المسلَّمات التَّاريخيَّة الَّتي أوردها القرآن الكريم.
والثَّانية: إرجاع الوحي إلى تطوُّر تجربة محمد الدِّينيَّة على ضوء الشَّهادات القرآنيَّة، فإذا اختلط عليه الأمر كان ينظر إلى الأسلوب بوصفه معيارًا حاسمًا، وذلك من خلال المسلَّمات التَّاريخيَّة من جهَّة، أو الاستعانة بالرِّوايات الحديثيَّة من جهَّة أخرى، مع مراعاة الحالات النَّفسيَّة الَّتي نزل فيها القرآن بحسب زعمه.

لكن المنطق يقول: حتَّى لو كان «بلاشير» مقتنعًا فعلًا بهذا الَّذي يدَّعيه، فإنَّ الأمانة العلميَّة الَّتي يتمترسُ خلفها هذا (الباحث) كانت تقتضي منه أن يورِد النَّصَّ القرآني كما هو بما وقع فيه من عبثٍ، أو اضطرابٍ بحسب قوله، ثمَّ فليُعلِّق في الهامش بما يعتقده؟ هذا إن كان هدفه علميًّا، ونزيهًا فعلًا كما ادَّعى؟، لكن ليس هذا ما يبتغيه، بل المقصود هنا إيقاع الشَّكِّ، والارتياب في النَّصِّ القرآني لإفقاده قدسيَّته، وجلاله، فيتعوَّد القارئ على أن يتعامل معه على أنَّه نصٌّ عادي شأنهُ شأن أيَّ نصٍّ آخر من النُّصوص الَّتي يصنعها البشر، وما يمكن أن يصيبه من عبث، أو نسيانٍ، أو إضافة، أو حذف، أو تقديم أو تأخير إلخ.
فعلى سبيل المثال يقول عن الآية التَّالية من سورة البقرة: ﴿أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ...﴾ (البقرة: 75)؛ أنَّ هناك احتمال لأن تكون هذه الآية، وما بعدها حتَّى رقم 82 قد أُدخلت فيما بعد فقطعت الاتِّصال[43]، مستدلًّا على ذلك بأنَّها معاصرة للقطيعة مع اليهود مع أنذَ الآيات التَّالية ابتداءً من رقم 83 تعود إلى محاولة كسب يهود المدينة عبر تذكيرهم بالمواثيق، والعهود الإلهيَّة الَّتي أخذت عليهم، وأقرُّوا، وشهدوا بها!

وهذا العبثُ لا يَقِف عند عدمِ احترامِ تقسيمِ الآيات القرآنيَّة الَّذي يلتزمه المسلمون، بل جَاوَزه إلى تقديمِ بعضِ الآياتِ، أو تأخيرِها عن مواضعِها في المصحفِ الشَّريفِ؛ بناءً على تعليلاتٍ واهيةٍ كما حدَث عندما أوردَ الآيةَ الحاديةَ عشرةَ -وهي الثَّانيةَ عشرةَ عنده- من سورة النِّساء: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ...﴾ (النِّساء: 11)، عقبَ الآيةِ السَّابعةِ -وهي الثَّامنةِ حسبَ تقسيمِه- الَّتي تَنتَهِي بقولِه تعالى: ﴿نصيبًا مَفْرُوضًا﴾ (النساء: 7).
أمَّا التَّاسعةُ والعاشرةُ -وهما عنده العاشرةُ والحاديةَ عشرةَ- فمكانُهما في ترجمتِه متتابعتينِ بين السَّادسةِ والسَّابعةِ. وهو لا يكلِّف نفسَه أن يشرحَ لنا سببَ هذا التَّلاعبِ المخلِّ إلَّا في جملةٍ قصيرةٍ حاسمةٍ، كأنَّها القدَر الَّذي لا يناقشُ، ولا يُردُّ؛ فهو يقولُ عن هاتينِ الآيتينِ الأخيرتينِ: «هذه الآيةُ والَّتي بعدها تَرتَبِطانِ بالآيةِ السَّابقة»[44]، وهذا كلُّ ما هنالك!

كما أنَّ أوَّل ما يَنبَغِي ذكرُه من مغالطات «بلاشير» هو أنَّه لا يَحتَرِم أمانةَ العلمِ في ما يختصُّ بالنَّصِّ القرآني الَّذي بين يديه؛ فهو يَعبَث أحيانًا بتقسيمِ الآياتِ على حسبِ ما يَحلُو لهواه، مثلما فَعَل بآيةِ: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ... لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ (البقرة: 221)؛ إذ قسَّمها إلى آيتينِ: الأولى: تبدأ من أوَّل الآيةِ، وتنتهي بقولِه تعالى: ﴿وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ﴾[45]، والثَّانيةُ: من بعد ذلك إلى آخرِ الآيةِ!

والسَّببُ طبعًا؟ لا سببَ! هكذا فقط والسَّلام! لا غرض له من وراء ذلك إلَّا أن يَنتَهِك عمدًا قداسةَ الوحيِ الإلهيِّ، ويكون عمله مقدِّمة يُرسِّخُ عبرها في ذهنِ القارئ الغربي بأنَّ القرآن كان عُرضةً للتَّلاعبِ، والتَّبديل، والتَّغيير!
وهذا طبعًا أفضل ممَّا فعله بالآيات الـ62، 63، 64 من سورة «طه» الَّتي جعلها عنده الـ65، 66، 67 إذ نزعها من موضعها، وأقحمها بين الآية 60 الَّتي هي عنده 61، وذلك دون أن يكلِّف نفسه عناءً ليشرح للقارئ سبب قيامه بذلك!
أمَّا الآيتانِ 14–15 من سورةِ لقمان: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ *...* فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾، فيرى أنَّهما تَعتَرضانِ سياقَ وصايا لقمانَ لابنِه، ولذلكَ يَنبَغِي أن تنتقلا من مكانِهما[46]؛ بحيث تأتيانِ قبلَ هذه الوصايا!
والحقيقة أنَّ «بلاشير»، في غمرةِ تنقيبِه عن الأخطاء الموهومةِ، وأخذِه الأمورَ مأخذًا سطحيًّا، قد غَفَل عن الرِّباطِ الوثيقِ الَّذي يشدُّ هاتينِ الآيتينِ إلى موضعِهما في المصحفِ الشَّريف، فوصايا لقمانَ هي نصائحُ أَبَويَّة استَخلَصَها الوالدُ من تجاربِ حياتِه، وأوَّلها:

عدمُ الشِّركِ باللهِ؛ لأنَّه ظلمٌ عظيم.
وهنا نَسمَع توجيهًا إلهيًّا للأبناءِ أن يُحسِنوا إلى آبائهم، وأن يردُّوا لهم الجميل، ومعنَى ذلك: أنَّ على الأبناءِ -إذا ما نصحهم آباؤهم كنصيحةِ لقمانَ لابنِه- أن يُصْغُوا بآذانِهم وقلوبِهم إلى ما يقولونَ، ولكن قد يكونُ الآباءُ هم أنفسُهم الكفرةَ المشركين، كما كان الحالُ أحيانًا في بدايةِ الدَّعوة الإسلاميَّة، فماذا يَفعَل الأبناءُ حينئذٍ؟ إنَّ عليهم -كما توضَّح الآيةُ الثَّانيةُ من هاتينِ الآيتينِ- أن يفرِّقوا بين احترامِهم لآبائهم، وإحسانِهم إليهم جزاءَ ما فَعَلوه لهم، وبين مشايعتِهم إيَّاهم في آرائهم ومواقفِهم.

وبعدَ ذلك يعودُ القرآنُ، فيستأنفُ وصايا لقمانَ لابنِه الَّتي تدورُ حولَ: الإيمانِ باللهِ، ووجوبِ الخضوعِ له، والتَّواضعِ للنَّاس؛ ممَّا يَنسَجِم مع ما دَعَت إليه الآيتانِ اللَّتانِ يَرَاهما «بلاشير» مُقحَمَتينِ على السِّياقِ من الشُّكرِ للهِ والتَّواضعِ للآباءِ.
وفي عبثِه الَّذي يَهدِف إلى إطفاءِ هالةِ القداسةِ المحيطة بالنَّصِّ القرآني - لا يَرعَوِي عند هذا الحدِّ، بل تسوِّل له نفسُه أحيانًا أن يُضِيف إلى القرآنِ ما ليس منه، كما فَعَل في الآية (52) من سورة الشُّورى؛ إذ أضاف كلمة: “antérieurement” قبلًا بعد قول الله تعالى: ﴿مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ﴾. بذريعة أنَّ معنى الآية غير واضح[47].
ومع هذا يتظاهر «بلاشير» بأنَّه رجلٌ موضوعيٌّ رغم كلِّ هذا العبث، والتَّحامل على النّصِّ القرآني المقدَّس، ومحاولة إضفاء الطَّابع البشريِّ عليه، ليتسنَّى له فيما بعد القول ببشريَّة القرآن الكريم، والطَّعن في كونه كتاب مقدَّسٌ مَصونٌ من عند الله تعالى، لا سيَّما وأنَّ هذه المصونيَّة من التَّحريف الخاصَّة بالقرآن هي ما تفتقر إليه نصوص الأناجيل، ونُسَخِه المختلفة الَّتي يعتقد ويؤمن بها «بلاشير» هو وجُل المستشرقين والنُّخبة الَّتي تنظمهم، وتديرهم، وتوجِّههم.

خامسًا- اعتماده على ما هو مُترجم دون الرُّجوع إلى المصادر الإسلاميَّة الأصيلة
من الأخطاء المنهجيَّة الَّتي وقع بها «بلاشير» -كما وقع بها غيرهُ-، هو اعتماده بشكلٍ أساسٍ على دراسات، وترجمات غيره من المستشرقين الَّذين سبقوه بوصفهم مراجع رئيسةً في أبحاثه، حيث أصبحت هذه الظَّاهرة منهجًا قائمًا بحدِّ ذاته بالنِّسبة للدَّارسين الغربيِّين الَّذين تناولوا القرآن الكريم، وعلومه بالدِّراسة، والنّضقد.

فأمَّا ترجمة القرآن الكريم فكانت في كثيرٍ من الأحيان عملًا يجانبه النَّقص، والقصور لأسباب كثيرة، ذلك «إنَّ الاختلاف، والتَّنوُّع في التَّرجمة فضلًا عن المترجم، كان له أثره الكبير في تنويع المُنْتَج المُتَرجم، بين البعد، والقرب من معاني النَّصِّ، أو بين السَّلب والإيجاب، فضلًا عن إرادة الجهَّة الَّتي تسعى للتَّرجمة، وموقفها من النَّصِّ الَّذي يُراد له التَّرجمة»[48].

وعليه فإنَّ هناك من التَّرجمات ما لم تُتَرجِم القرآن من اللُّغة العربيَّة الأم بشكل مباشر، وإنَّما كانت من لغاتٍ أخرى، وإذا أخذنا بالاعتبار تفاوت قدرة المُترجِم في معرفة اللُّغتين، فإنَّه قد يُخلط عليه الأمر فيقصُرُ في معرفة الدَّلالة إمَّا في النَّصِّ الأصل أو في التَّرجمة للُّغة الأخرى الَّتي ينقلُ إليها، هذه الأسباب، ويضاف إليها الكثير من الأمور تجعلنا نقف بحذر أمام كلِّ التَّرجمات للقرآن الكريم، وبخاصة ما ترجمه المستشرقون، لما في عملهم من مقاصد ربَّما كان أكثرها ممَّا يسيء للنَّصِّ المبارك، أو للإسلام عامَّة، وهو ما عبَّر عنه «تيرنر» في معرض ردَّه على «كارليل»، والمستشرقين الَّذين أخذوا القرآن من التَّرجمة، -الأمر الَّذي أوقعهم في أوهام لا نهاية لها- حيث يقول: «إنَّ هؤلاء النُّقَّاد ما هم إلَّا مجموعة من الأفراد الَّذين حاولوا قراءة ترجمة القرآن، ولهذا علينا التَّعامل بحذر شديد مع أي ادِّعاء، أو اتِّهام للقرآن مبني على التَّرجمة الإنكليزيَّة، أو في الحقيقة التَّرجمة إلى أيِّ لغة غير اللُّغة العربيَّة الأصليَّة»[49]. فضلًا عن الشَّكِّ في أمانة كثير من المترجمين الَّذين يتَّبعون مؤسَّساتهم الَّتي كان الطَّعن بالقرآن الكريم أكبر العوامل الدَّاعية لإنشائها وإقامتها.
وأمَّا عن مصادر الرِّوايات، والتَّفسير، فيبدو واضحًا منهج «بلاشير»، وزملائه في الاعتماد على مصادر معيَّنة من دون الاكتراث بموثوقيَّتها وأولويَّة بعضها، وتقديمها على غيرها من المصادر والمراجع، كتقديم كُتُب المستشرقين على غيرها من كتب العلماء المسلمين الأوائل في نقل الرِّوايات، والنُّصوص القديمة. حيث نجد أنَّ «بلاشير» عندما يسعى إلى إثباتِ فكرةٍ معيَّنة، وتكريسها فإنَّه لا يُلقي بالًا بغيرها من المصادر الصَّحيحة لأنَّ مضامينها توصل إلى نقيض أفكاره الَّتي بنى عليها آرائه، ففي هذه الحال يعمدُ إلى تقديم كتب ثانويَّة، وغير موثوقة على غيرها من المصادر المعتبرة، والمعوَّل عليها في مثل هذه الدِّراسات.

فعلى سبيل المثال لا يتوانى «بلاشير» في الإحالة إلى كتاب «تاريخ القرآن» للمستشرق الألماني نولدكه عندما يتعلَّق الأمر بأحاديث نبويَّة، أو روايات مأثورة تختصُّ بمسألة جمع القرآن، مع أنَّ العلماء المسلمين قد نقلوها في كُتُبِهم وتوسَّعوا في شرح تفاصيلها؟ والأغرب من ذلك أنَّ «بلاشير» يلجأ في حاشيةٍ واحدة إلى الإحالة على كتاب نولدكه أوَّلًا، ثمَّ يتبعه بكتاب أحد المصادر الإسلاميَّة من الدَّرجة الثَّالثة، أو الرَّابعة في الأهمِّيَّة! وهذا الأسلوب في الإحالة يكاد يكون أمرًا مطردًا في كتابات بلاشير.

إضافة إلى كلِّ هذا فإنَّ التَّرجمة من المصادر الأجنبيَّة كثيرًا ما يغيِّر لفظ الشَّيء المترجم، وبخاصَّة إذا كان اسم مكان، أو اسم شخص غريب لا علم للمترجم به، فلا ينفع في هذه الحال إلَّا الرُّجوع إلى المصادر الأصيلة، وهو ما لا يحدُث أبدًا عند «بلاشير»!

في مقابل ذلك نجده يوجِّه الانتقادات إلى مصادر التُّراث الإسلامي بزعمه قلَّة العلم في اختصاص واضعي تلك المصادر، والشَّك في ما يقولونه، أو يستنتجونه من نتائج وقيم، بل إنَّه في أغلب الأحيان يكتفي بما جاء به نولدكه، إذ كان ذلك أسلوبًا متَّبعًا لديه للكشف عن الترُّاث الإسلامي، وما يروى في دراسة القرآن، فنجده يقتفي أثره، ويأخذ عنه الكثير الكثير، لا سيَّما ما يتعلَّق منه بموضوع إعادة ترتيب آيات المصحف، وجواز قراءته بالمعنى، وفي هذا الشَّأن يتبجَّح «بلاشير» قائلًا: «إنَّ إعادة ترتيب السُّور الَّذي اقترحه نولدكي ومدرسته، ينال هنا كامل أهمِّيَّته. إنَّه يلقي على المصحف أضواء مُطمئنة، ويرد وضع النُّصوص إلى آفاق سهلة الإدراك لكونها مقرونة إلى السِّياق التَّاريخي المعقول. ثمَّ إنَّه يعيد إلى محاولة القارئ الغربي معناها، ويلبِّي الرَّغبة في الفهم الَّتي لا يمكننا بدونها أن نحرز أي تقدُّم»[50].
وهنا يصرّحِ «بلاشير» بكلِّ وضوح أنَّ نولدكه هو المقياس والمرجَّح في حال قياس الخطأ والصَّواب، وأنَّه المعيار لقبول، أو رفض أيِّ قضيَّةٍ، أو فكرةٍ عُرِضتْ عليه من دون الاكتراث بالدِّراسات القرآنيَّة الأصيلة الَّتي تعرَّضت بالشَّرح، والدِّراسة لتلك القضايا والأفكار!

سادسًا- الانتقائيَّة في اختيار المصادر وإخرج التُّراث الشِّيعي من دائرة البحث
إنَّ المتتبِّع لكتابات «بلاشير» يلاحظ بوضوح اعتماده على عدد معيَّن من مصنَّفات علوم القرآن دون غيرها، إذ اقتصر على مصادر بعينها في دراسته للتُّراث الإسلامي مع تعمُّد إهمال المصادر الأخرى، فمن جهَّة نجِدُ أنَّ الدِّراسات الاستشراقيَّة في مجال القرآنيَّات تختلف عن المنهج الإسلامي الَّذي يسعى دائمًا إلى ضرورة اعتماد الموثوق من المصادر والشُّهود، وهي مصادر لا يوجد فيها ما يُسعِفُ «بلاشير» في تسويغِ ما يصبو إليه من تأكيدٍ لاستنتاجاته المُغرضة، وآرائه الخاطئة، ولذلك يلجاُ إلى مصادر أخرى بحثًا على ما يعينهُ في بُلوغِ ما يريد.

ولعلَّ القصد من ذلك هو أنَّ هذه الانتقائيَّة ترمي لديه إلى نقل صورة مشوَّهة عن التًّراث الإسلامي، فالاعتماد على جانبٍ معيَّن دون آخر يعني تفعيل حال، وإهمال حال ثانية هي في الأصل متمِّمة، ومكمِّلة لها، فكانت الانتقائيَّة أسلوبًا، القصد منه عدم تقديم التُّراث الإسلامي بالشَّكل الحقيقي الَّذي هو عليه.
ومن جهَّة أخرى نجدُ أنَّ المصنَّفات الَّتي اعتمدها «بلاشير» هي نفسها الَّتي كان يعتمدها أسلافه من المستشرقين القدامى، ولا سيَّما «نولدكه»، وذلك على الرَّغم من صدور كثير من الكتب الموثوق بها، والمعتمدة في علوم القرآن، وهذا أمر يَسهل التَّأكُّد منه من خلال الاطِّلاع على لوائح المراجع المعتمدة لديه مقارنة بما جاء لدى «نولدكه». وبذلك يمكن القول بأنَّ حصر المصادر، ونوعيَّتها يرمي إلى الإبقاء على الشُّبهات، والافتراءات الَّتي نسجها المستشرقون الأوائل، عن طريق الإشارة إلى الاقتباسات، والإحالات ذاتها ثمَّ الاستنتاجات، والافتراضات نفسها، وهذا ما يلاحظ من خلال مراجعة مادَّة «قرآن» في دائرة المعارف الإسلاميَّة الاستشراقيَّة في طبعتها الثَّانية. وهي مادَّة مطوَّلة، وجامعة لأبرز علوم القرآن الَّتي درج المستشرقون على الخوض فيها ودراستها. والشَّيء نفسه يمكن ملاحظته في كتاب نولدكه «تاريخ القرآن»، وكتاب جفري «مواد من أجل دراسة تاريخ النَّصِّ القرآني»، وكتاب جون بورتون «جمع القرآن»، وبلاشير طبعًا في كتابه «مدخل إلى القرآن».

ففي مجال جمع القرآن مثلًا نجدُ أنَّ «بلاشير» في دراساته لا يتجاوز كتاب المصاحف لابن أبي داود، والإتقان للسيوطي، والفهرست لابن النديم. وهي في معظمها كتب لم تتحرَّ الصِّحَّة، والنَّقد، والرِّواية السَّليمة، ولم يشترط أصحابها هذه الشُّروط لما صنفوها، في حين لا نجد «بلاشير» يأتي على ذكر الرِّوايات الصَّحيحة الواردة في كتب المسلمين المعتبرة! وهدفه من وراء ذلك بلا شكٍّ هو افتعال نوعٍ من البلبلة، والتَّشويش في الأذهان، كما فعل في معرض حديثه عن عدد السُّور المكِّيَّة والمدنيَّة؛ حيث أحال في أحد الحواشي إلى كتاب «الإتقان» للسيوطي ثمَّ قال بعد ذلك: «حسب رواية يقدمها لنا ابن النديم في كتابه (الفهرست) فإنَّ عدد السُّور المكِّيَّة 85، وعدد السُّور المدنيَّة 28»، ثمَّ يعقب بقوله: «لاحظوا فالمجموع 113 سورة!!» وهنا نجد أنَّه لم يجرؤ على أن يقول: ربَّما وقع سهو في كلام ابن النديم، أو أنَّ العدد 86 تحوَّل إلى 85 خطًا أثناء النَّسخ، أو شيء من هذا القبيل ما دام إجماع الأمَّة الإسلاميةَّ قائم على أنَّ عدد سور القرآن 114 سورة، وكذا ما تنطق به الملايين من المصاحف المطبوعة المنتشرة في جميع البلدان!

نقطة أُخرى لا بدَّ من الإشارة إليها هنا وهو أنَّ «بلاشير» وحين اتِّصاله بالعالم الإسلامي وجدَ أنَّ فيه سيادة (عدديَّة) لأتباع المذاهب السُّنِّية الأربعة على المذاهبِ الأخرى، فظنَّ أنَّ تراث تلك المذاهب يمثِّلُ كلَّ التُّراث الإسلامي، وعليه قام باتِّخاذه مصدرًا للدِّراسة، والبحث والتَّقصِّي! وأهمل ما جاء في كُتُبِ شيعة آل محمد(صلى الله عليه وآله وسلم) وهم نصف المسلمين في المعنى، وإن لم يكونوا كذلك في التِّعداد، فلم يستمع إلى صوتهم فضلًا عن أن يعتمد شيئًا من مصادرهم، فَوُصِمَ منهجه البحثي نتيجة لذلك بالقصور في البحث! وكذلك أيضًا أهمل تراث الصُّوفيَّة، وغيرهم من الفرق الإسلاميَّة الأخرى.

وإذا أخذنا في الحسبان الحقيقة التَّاريخيَّة المتمثِّلة بغلبة مذهب السُّلطان على غيره من المذاهب (النَّاس على دين ملوكهم)، وهو ما وقف المستشرقون بشكلٍ عامٍّ على حقيقته الَّتي وجدوها ماثلةً في معظم التَّفكير السَّائد على مستوى الأفراد والجماعات، نجد أنَّهم قد بنوا تصوُّراتهم فعلًا على هذا الواقع الثَّقافي، والعقائدي العام، وعن ذلك يقول بلاشير: «إنَّ مبدأ التَّفسير الدَّائم للوحي القرآني، هو كما نراه ملازمٌ للسُّلطة المرتبطة بهذا الوحي»[51]، ثمَّ يعقِّب «بلاشير» على ذلك بقوله: «إنَّ العالم الإسلامي لم يقر بسلطة جبريَّة مشترعة في الحقل الدِّيني، ولم يشعر بحاجة إلى جمع ديني يسدُّ غياب هذه السُّلطة، بل اعترف بقيمة رأي كثير الانتشار يستند إلى إجماع العلماء»[52]. والحقيقة أنَّ هذه مغالطة تاريخيَّة كبرى وقع بها «بلاشير»، ذلك أنَّ التَّاريخ يثبتُ وجود معارضةٍ شديدة من قبل عددٍ لا يستهان به من رجالاتِ الإسلام، وفي مقدِّمهم الإمام عليٍّ بن أبي طالب(عليه السلام)، وأبو ذرٍّ الغفاري، وعمار بن ياسر، وعبد الله بن مسعود، وريحانتي رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) الحسن والحسين وذريتهماc، وغيرهم من الأحرار الَّذين كانوا يمثِّلون ثقلًا موازيًا لمذهب السُّلطان والحاكم، إذ وقفوا بحزمٍ ضدَّ تفسيرات السُّلطة الَّتي لم تنسجم في كثير من الأحيان مع روح الإسلام المحمَّدي، وقد لمّح «بلاشير» إلى ذلك عندما قال: «إنَّ كلَّ بناء تفسيري إذًا، يستمدُّ قيمته على العموم من الضَّمانة الَّتي يتلقَّاها من الإجماع، لقد كان المراد دائمًا أن يُصار إلى تجنُّب الشُّروحات الزَّائغة، أو الرَّافضة، وبطبيعة الحال فقد كان هم المبتدعة الدَّائم، أو ذوي الفكر الجريء الَّذين يستندون هم أيضًا إلى مراجع حجَّة مُعترف بقدرها على الأقل في نظرهم»[53]! ومع ذلك لم يكلِّف «بلاشير» نفسه عناء البحث، أو الاطِّلاع على مصادر «ذوي الفكر الجريء» رغم كونها تشكِّل منظومةً فكريَّةً قائمةً بحدِّ ذاتها فيها الغنى، والثَّراء لكلِّ باحثٍ مُتجرّدٍ وُمنصِف. وبالتَّالي تخلَّى المستشرق الفرنسي عن الموضوعيَّة في مناقشته لعلوم القرآن، وللسِّيرة النَّبويَّة، والتَّشريعات الإسلاميَّة الَّتي جاءت في تلك المصادر، لما في هذا التَّخلِّي من مُلاءمةٍ لمنهجه الطَّاعن في الكتاب المجيد، والسُّنَّةٍ النَّبويَّة المباركة.

الخاتمة
نحن لا ننكر أنَّه قد كان لبعض الَّذين ترجموا القرآن الكريم من المستشرقين هدف اطَّلاعي بغير شكٍّ، ولكنَّ ذلك لا يعفيهم من مسؤوليَّة ما حمَّلته ترجماتهم من تخليط، فأنت لا تكاد تجد ترجمة حتَّى عند سليمي النِّيَّة منهم تصلح في تأدية المعاني، بل إنَّ كلَّ ترجمة هي عبارة عن وجهة نظر تؤدِّي ما فهمه المترجم من عبارات القرآن الكريم العليا، وأسلوبه المعجز، والمستشرقين في الغالب يدرسون قضايا الإسلام -لغته، وتاريخه، وشريعته، وتراثه- بروحٍ تقوم إمَّا على سوء الفهم، وإمَّا على سوء النِّيَّة، وجُلُّهم لا يتصوَّرون أيَّ شيءٍ إلَّا في حدود خلفيَّاتهم الدِّينيَّة، أو عقليَّتهم الغربيَّة، الَّتي اعتادت على حصر الظَّواهر الإنسانيَّة في حدود المفهوم المادِّي الغربي! ومن شأن هذا التَّصوُّر أن يؤدِّي إلى إنتاج رؤًى، وأحكامٍ، وآراءٍ تنسجم مع هذا الفكر، ممَّا يعني أنَّها لا تتَّصف بالعلميَّة، والموضوعيَّة.
ونحن لم نجد في متناول يد ‌بلاشير دليلًا تامًّا، وصحيحًا فيما ذهب إليه سوى أقوال أرسلها على عواهنها، وتكهُّنات صاغها بأسلوب أدبي، أو دعاوى قالها قبله عدَّة من أسلافه، وكان قد سبقهم إليها مشركو مكَّة، الَّذين لم يتركوا وسيلة يمكنهم عبرها القضاء على النَّبيِّ(صلى الله عليه وآله وسلم)، ودعوته إلَّا اعتمدوها، وهم في أثناء ذلك سعوا سعيهم لتشويه سمعته، وإلصاق التُّهم به، والتَّشويش عليه، وتحذير النَّاس منه، والصَّدِّ عنه، وقد كان من أشهر مسالكهم الَّتي طعنوا من خلالها في رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، تكذيبه، وادِّعاء أنَّه افترى هذا القرآن، فمرَّة نسبوه إليه، ومرَّة آخرى كذَّبوا، وقالوا أنَّه افتراه من عند نفسه، ونسبه إلى الله تعالى زورًا وبهتانًا. قال تعالى: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ﴾ (هود: 35).

وفي ميادين ترجمة معاني القرآن وعلومه تؤكِّد حقائق التَّاريخ، ووقائعه أنَّ أكثر المستشرقين -ومنهم بلاشير- ادَّعوا لأنفسهم أنَّهم يريدون الحقيقة العلميَّة لا غير، وادُّعي لهم أنَّهم أهل تدقيق، وتحقيق، وأنَّهم قد بحثوا، ودقَّقوا في حال خاتم النَّبيِّين صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، ودعوته، والكتاب المنزل عليه، وكذا سيرته، وسنَّته، وشريعته، ولا ريب أنَّ كلَّ ذي فكر سليم منهم مطَّلع على ذلك سيصل إذا سلم من الهوى، والحقد إلى حقيقة أنَّ محمَّدًا(صلى الله عليه وآله وسلم) مرسل من عند الله، وأنَّ ما جاء به من عند الله هو الحقُّ، ويدرك أنَّ البراهين الدَّالة على ذلك في الإسلام لا يوجد عند أصحاب، وعلماء بقيَّة الأديان عشر عُشيرها. إلَّا أنَّ أكثرهم لما اطَّلعوا على دلائل الصِّدق في الإسلام، وعرفوها، وتيقَّنوها، صاروا بين أمرين:
إمَّا أن يقبلوا، ويصدِّقوا النَّبيَّ(صلى الله عليه وآله وسلم) بأنَّه رسول الله، وأنَّ ما جاء به الحقُّ، وهذا يلزمهم بالإيمان به وإتباعه، لأنَّه صرَّح بأنَّه رسول الله إلى النَّاس كافَّة، وأنَّه لا نجاة لأحد بعد بعثته إلَّا بالإيمان به.

وإمَّا أن يكذِّبوه، ويردُّوا دعوته، ولكن كيف ذلك؟ وهم يدَّعون أنَّهم يبغون الحقيقة، وأنَّهم أهل العلم، فلم يجدوا بدًّا من التَّكذيب، والرَّدِّ لدعوته، والتَّشويه لسمعته، شأنهم في ذلك شأن أسلافهم من اليهود والنَّصارى، ويعلِّلوا تكذيبهم ذلك بالتَّعليلات الَّتي علَّل بها أسلافهم، حتَّى يظهروا أمام النَّاس أنَّهم إنَّما ردُّوا دعوته للعلَّة الَّتي يدَّعون، إلَّا أنَّهم لم يستطيعوا أن يتَّفقوا على رأي فيه، سوى أنَّهم غير قابلين لدعوته، فنتج عن دراساتهم الَّتي تتعلَّق بالقرآن نتائج مجافية للحقيقة والواقع؛ قائمة على محض خيالهم وأوهامهم.

ونحن معنيُّون بدراسة الاستشراق والمستشرقين، مفهومًا، وتاريخًا، وأهدافًا، ومدارس، ومناهج؛ واتِّجاهاتٍ، وتقديم معالجاتٍ علميَّةٍ معرفيَّةٍ ونقديَّةٍ لأطروحاتهم في الدِّين الإسلامي ومصادره، والعلوم الإسلاميَّة، والتُّراث العربي ككلٍ، بالاستفادة من باحثين متخصِّصين، وتشكيل فرقٍ بحثيَّةٍ، ومؤسَّساتٍ بحثيَّةٍ، ومراكز دراساتٍ متخصِّصةٍ؛ ليقوم الباحثون، والمفكِّرون المسلمون بواجباتهم بشكلٍ علميٍّ، ونقديٍّ متخصِّصٍ يغطِّي كلَّ المجالات الَّتي طرقها المستشرقون، بالبحث، والنَّقد، وإثارة الشُّبهات، والإشكاليَّات، ليس من باب ردَّة الفعل على نتاجٍ معرفيٍّ غربيٍّ، بل من باب تصويب الأمور، وتقديم تراثنا إلى الآخر كما نقرؤه ونفهمه نحن، لا كما يؤوِّله، ويفهمه، أو يريد أن يفهمه غيرنا، وهذا من الحقوق الطَّبيعيَّة لأهل التُّراث أنفسهم»[54].

وآخر دعوانا ‌أَنِ ‌الحمدُ لِلَّهِ رَبِّ العَلَمِين.

لائحة المصادر والمراجع
القرآن الكريم
علي، أبو الفضل جمال الديِّن محمَّد بن مكرم، ابن منظور الأنصاري الرويفعي الأفريقي المصري، لسان العرب، ج12، طبعة 3، دار صادر، بيروت.
الجندي، أنور، الفصحى من لغَّة القرآن، طبعة دار الكتاب اللُّبناني ومكتبة المدرسة، بيروت، 1982م.
ترجمات القرآن إلى أين؟ (وجهان لجاك بيرك)، طبعة 1، مكتبة وهبة، القاهرة.
مشهور، د. هداية عبد اللَّطيف، حديث مع مجلَّة زهرة الخليج، العدد (737) بتاريخ 16/ 11/ 1413هـ، باب الدِّين والحياة.
بلاشير، ريجي، القرآن نزوله وتدوينه وترجمته وتأثيره، ترجمة: رضا سعادة، طبعة 1، دار الكتاب العربي – بيروت، 1974م.
النَّصراوي، عادل عباس، أساسيَّات فهم النَّصِّ القرآني ومصادر دراسته عند المستشرقين، مجلَّة دارسات استشراقيَّة، العدد 7، اصدار مركز الدِّراسات الإسلاميَّة الاستراتيجيَّة، بيروت.
تيرنر، كولين، الإسلام، الأسس، ترجمة: نجوان نور الدِّين، طبعة الشَّبكة العربيَّة للأبحاث والنَّشر، بيروت.
المدني، مالك بن أنس بن مالك بن عامر الأصبحي، موطأ مالك، ج1، طبعة دار إحياء التُّراث العربي، بيروت.
الحنظلي، إسحاق بن إبراهيم بن مخلد بن راهويه، مسند إسحاق بن راهويه، ج2، طبعة 1، مكتبة الإيمان، المدينة المنوَّرة.
البخاري، محمَّد بن إسماعيل، صحيح البخاري، ج1، طبعة 3، دار ابن كثير، اليمامة – بيروت.
عوض، إبراهيم، المستشرقون والقرآن، طبعة: مكتبة زهراء الشَّرق، القاهرة، مصر.

--------------------------------------------------
[1](*)- باحث في الفكر الإسلامي - سوريا.
[2]- بلاشير، ريجي، القرآن نزوله وتدوينه وترجمته وتأثيره، ص12.
[3]- م.ن، ص45.
[4]- المدني، مالك بن أنس بن مالك بن عامر الأصبحي، موطأ مالك، ج1، ص202؛ الحنظلي، إسحاق بن إبراهيم بن مخلد بن راهويه، مسند إسحاق بن راهويه، ج2، ص252؛ البخاري، محمد بن إسماعيل، صحيح البخاري، ج1، ص4.
[5]- بلاشير، ريجي، القرآن نزوله وتدوينه وترجمته وتأثيره، ص12.
[6]- بلاشير، ريجي، تاريخ الأدب العربي، المجلَّد الأوَّل، ص93-95.
[7]- حياة محمَّد، إميل درمنغم، E.Dremenghem: مستشرق فرنسي، عمل مديرًا لمكتبة الجزائر، من آثاره: (حياة محمَّد) (باريس 1929)، وهو من أدقِّ ما صنَّفه مستشرق عن النَّبيِّ صلى الله عليه وآله وسلَّم، و(محمَّد والسُّنَّة الإسلاميَّة) (باريس 1955)، ونشر عددًا من الأبحاث في المجلَّات الشَّهيرة مثل: (المجلَّة الافريقيَّة) ، و(حوليَّات معهد الدِّراسات الشَّرقيَّة)، و(نشرة الدِّراسات العربيَّة) ... إلخ.
[8]- بلاشير، ريجي، القرآن نزوله وتدوينه وترجمته وتأثيره، ص59.
[9]- بلاشير، ريجي، ترجمة القرآن، ص561.
[10]- مشهور، د. هداية عبد اللَّطيف، حديث مع مجلَّة زهرة الخليج، العدد (737) بتاريخ 16/ 11/ 1413هـ، باب الدِّين والحياة، ص92-94.
[11]- وهذا يؤكِّد صحَّة ما كتبته أستاذة الحضارة الدُّكتورة زينب عبد العزيز من أنَّه: «… أثبتت الدِّراسات الَّتي قام بها العلماء العرب، والمسلمون بأنَّ أولئك المستشرقين الَّذين يدعون فهم العربيَّة، هم في الحقيقة لا يحسنونها. وعلى الرَّغم من هذا الجهل الواضح بالعربيَّة –مع أنَّها أداة العمل العلمي الَّذي يزعمونه-، فهم يصدرون أحكامًا مغرضة من حيث الشَّكل، والمضمون، وأمانة تنـزيه القرآن، وذلك في ما يكتبونه من مقدِّمات علمية ليست في الواقع سوى معاول هدم متعدِّدة الأوجه، تدور حول محور أساس واحد هو: زعم أنَّ القرآن عقبة في سبيل ارتقاء الأمم الإسلاميَّة! وذلك بعينه هو ما كان يردِّده اللُّورد كرومر في كتابه في مطلع هذا القرن (أي: القرن الماضي)، وبناء على آراء مستشاريَّه من المستشرقين: «أنَّ القرآن هو المسؤول عن تأخُّر مصر في مضمار الحضارة الحديثة»، أو «لن يفلح الشَّرق ما لم يرفع الحجاب عن وجه المرأة ويغطَّى به القرآن»؛ راجع: ترجمات القرآن إلى أين؟ (وجهان لجاك بيرك)، ص10.
[12]- راجع على سبيل المثال لا الحصر ما أثبته الشَّيخ فودي سوريبا كمارا في كتابه «دراسة ترجمة معاني القرآن الكريم إلى اللُّغة الفرنسيَّة الَّتي أعدَّها ريجيس بلاشير».
[13]- بلاشير، ريجي، ترجمة القرآن، ص84.
[14]- بلاشير، ريجي، ترجمة القرآن، ص42.
[15]- م.ن، ص49.
[16]- بلاشير، ريجي، ترجمة القرآن، ص330.
[17]- م.ن، ص77.
[18]- م.ن، ص81.
[19]- بلاشير، ريجي، ترجمة القرآن، ص450.
[20]- م.ن، ص593.
[21]- بلاشير، ريجي، ترجمة القرآن، ص71.
[22]- م.ن.
[23]- بلاشير، ريجي، ترجمة القرآن، ص148.
[24]- في كتابه تاريخ الأدب العربي، طبع 1973م.
[25]- الجندي، أنور، الفصحى من لغة القرآن، ص16.
[26]- بلاشير، ريجي، ترجمة القرآن، ص36–37.
[27]- بلاشير، ريجي، ترجمة القرآن، ص36–37.
[28]- م.ن، ص130.
[29]- م.ن.
[30]- بلاشير، ريجي، ترجمة القرآن، ص144.
[31]- م.ن، ص329.
[32]- م.ن، ص140.
[33]- م.ن، ص67.
[34]- علي، أبو الفضل جمال الدِّين محمَّد بن مكرم، ابن منظور الأنصاري الرويفعي الأفريقي المصري، لسان العرب، ج12، ص24.
[35]- ينظر: د. عبد الراضي محسن، ماذا يريد الغرب من القرآن؟، ص98- 99.
[36]- Régis Blachère, Le Coran, traduit de l’arabe, Paris, G.P Maisonneuve et la rose, 1966, p 325
[37]- Régis Blachère, Le Coran traduit de l’arabe, pp 330- 331
[38]- أ.د. حمداد بن عبد الله، الفعل التَّرجمي الاستشراقي للقرآن الكريم مقارنة نقديَّة في ضوء ترجمة جاك بيرك، مجلَّة دراسات استشراقيَّة، العدد (32)، المركز الإسلامي للدِّراسات الإستراتيجيَّة، بيروت.
[39]- هو: Pierre le Venerable (1094-1156)، رئيس دير كلوني Cluny الَّذي زار الأندلس مرتين ليقف على الإسلام هناك، وعندما عاد بدأ بمشروع ترجمة القرآن، وتولَّى التَّرجمة له الرَّاهب الإنجليزي روبرت (روبرتوس كيتينيسيس) الكلوني، وكان هو والرَّاهب الآخر هيرمان الدالماتي، الَّذي ترجم النَّبذة المختصرة، ملمَّين باللُّغة العربيَّة، وفي ذلك يقول يوهان فوك: «لقد كانت فكرة التَّبشير هي الدَّافع الحقيقي خلف انشغال الكنيسة بترجمة القرآن واللُّغة العربيَّة؛ فكلَّما تلاشى الأمل في تحقيق نصر نهائيٍّ بقوَّة السِّلاح، بدا واضحًا أنَّ احتلال البقاع المقدَّسة لم يؤدِّ إلى ثني المسلمين عن دينهم، بقدر ما أدَّى إلى عكس ذلك، وهو تأثُّر المقاتلين الصَّليبيين بحضارة المسلمين، وتقاليدهم، ومعيشتهم في حلبات الفكر، وقبل حدوث واقعة (إيديساس) في شهر ديسمبر من سنة 1143، وهي السَّنة الَّتي رُدَّ فيها الصَّليبيِّون على أعقابهم، ظهرت أوَّل ترجمة لاتينيَّة للقرآن في سنة 1143»، وكانت «تزخر بأخطاء جسيمة، سواء في المعنى، أو في المبنى، ولم يكن أمينًا؛ إذ أغفل ترجمة العديد من المفردات، كما لم يتقيَّد بأصل السِّياق، ولم يُقم وزنًا لخصوصيات الأدب»؛ يراجع: فوك، يوهان، تاريخ حركة الاستشراق، ص16-17.
[40]- بلاشير، ريجي، القرآن نزوله تدوينه ترجمته وتأثيره، ص37.
[41]- م.ن، ص38.
[42]-م.ن، ص43.
[43]- بلاشير، ريجي، ترجمة القرآن، ص38–39.
[44]- بلاشير، ريجي، ترجمة القرآن، ص105.
[45]- م.ن، ص61–62.
[46]- بلاشير، ريجي، ترجمة القرآن، ص437.
[47]- د. إبراهيم عوض، المستشرقون والقرآن، ص 54-55، والدُّكتور إبراهيم عوض الغرباوي المصري هو أستاذ النَّقْد الأدبي بجامعة عين شمس، ناقش ترجمة بلاشير لمعاني ألفاظ القرآن الكريم بأسلوبٍ نافعٍ ماتعٍ، وقد استفدنا فوائد جمَّةً ممَّا خطته يداه، فجزاه الله عن القرآن الكريم وعن جميع المسلمين خير الجزاء.
[48]- النَّصراوي، عادل عبَّاس، أساسيَّات فهم النَّصِّ القرآني ومصادر دراسته عند المستشرقين، مجلَّة دارسات استشراقيَّة.
[49]- تيرنر، كولين، الإسلام، الأسس، ص120.
[50]- تيرنر، كولين، الإسلام، الأسس.
[51]- بلاشير، ريجي، القرآن نزوله تدوينه ترجمته وتأثيره، ص106.
[52]- م.ن، ص110.
[53]- م.ن، ص11.
[54]- أ. الشَّيخ حسن أحمد الهادي العاملي، مجلَّة دراسات استشراقيَّة، المركز الإسلامي للدِّراسات الاستراتيجيَّة، بيروت، مقدِّمة العدد (28).