البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

الفكر الإصلاحي والوعي بقضايا الاستشراق مصطفى السباعي (1915-1964) نموذجاً

الباحث :  د. حسان عبد الله حسان
اسم المجلة :  دراسات اسشتراقية
العدد :  23
السنة :  صيف 2020م / 1442هـ
تاريخ إضافة البحث :  October / 20 / 2020
عدد زيارات البحث :  1429
تحميل  ( 449.786 KB )
مقدمة

يمثّل الفكر الإصلاحي الإسلامي في العصر الحديث نقاط ارتكاز المقاومة الفكريّة للتيّارات الدخيلة، ومن ثم فإنّ البحث عن البدايات الأولى لمواجهة الأفكار الوافدة، ومسارات الغزو الفكري والثقافي لأمّتنا، لا يمكنه تجاوز هذه المرحلة المهمّة من مراحل الفكر الإسلامي الحديث.
والاستشراق هو تلك الحركة البحثيّة التي أطلقها الغرب، وجعل من الشرق وعقائده وعاداته وثقافته واجتماعه وأخلاقه موضوعًا لهذه الحركة البحثيّة، والناتج من هذه الحركة البحثيّة هو نتاج معرفيّ بالأساس ظهر في صورة دراسات وأبحاث ومؤتمرات وندوات ودوريات كلّها تناولت موضوع «الشرق»، تحديدًا «الشرق الإسلامي» بالدرس والبحث، وبأدوات بحثيّة غربيّة خالصة من ابتكار العقل الغربي وإيديولوجيته وتحيّزاته الفكريّة.

 وهذه المقالة تتناول بالرصد والتحليل المعرفي، مسألة الوعي باتّجاه الاستشراق في واقع العالم الإسلامي، من خلال أحد نماذج الفكر الإصلاحي في العصر الحديث، وهو المفكّر مصطفى السباعي[2]، وحاولنا تحديد عدد من القضايا من خلال القراءة الاستطلاعيّة للكتابات الخاصّة بالاستشراق لديه.

تناقش هذه المقالة البحثيّة ستّة محاور؛ نكتشف بها الوعي بحالة الاستشراق عند نموذج الفكر الإصلاحي الحديث «مصطفى السباعي»، وهذه المحاور هي:

أوّلًا: تاريخ الاستشراق
ثانيًا: ميدان الاستشراق
ثالثًا: دوافع الاستشراق
رابعًا: أهداف الاستشراق ووسائله
خامسًا: نقد منهجيّة الاستشراق
سادسًا: مصطفى السباعي مع المستشرقين وجهًا لوجه في أوروبا

أوّلًا: تاريخ الاستشراق
يرى السباعي أنّه لا يُعرف بالضبط من هو أوّل غربيّ عُني بالدّراسات الشّرقيّة ولا في أيّ وقت كان ذلك، ولكن المؤكّد أنّ بعض الرّهبان الغربيين قصدوا الأندلس في إبّان عظمتها ومجدها، وتثقّفوا في مدارسها، وترجموا القرآن والكتب العربيّة إلى لغاتهم، وتتلمذوا على علماء المسلمين في مختلف العلوم وبخاصّة في الفلسفة والطب والرياضيات... ومن أوائل هؤلاء الرهبان، الرّاهب الفرنسي «جربرت» (Jerbert) الذي انتخب بابَا لكنيسة روما عام 999م بعد تعلّمه في معاهد الأندلس وعودته إلى بلاده، «وبطرس المحترم» (1092 – 1156 Pierre le Vénérable) وجيرار دي كريمون» (1114–1187 Gerard de Gremone).
ويؤكّد دور هؤلاء الرّهبان الطليعي في التأسيس للاستشراق وفكرة الدّرس الغربي للعرب والمسلمين فبعد أن عاد هؤلاء الرّهبان إلى بلادهم نشروا ثقافة العرب ومؤلّفات أشهر علمائهم، ثم أسّست المعاهد للدّراسات العربيّة أمثال مدرسة «بادوي» العربية، وأخذت الأديرة والمدارس العربيّة تدرس مؤلّفات العرب المترجمة إلى اللاتينيّة -وهي لغة العلم في جميع بلاد أوربا يومئذ- واستمرّت الجامعات الغربيّة تعتمد على كتب العرب وتعتبرها المراجع الأصليّة للدّراسات قرابة ستة قرون.

ولم ينقطع منذ ذلك الوقت وجود أفراد درسوا الإسلام واللّغة العربيّة، وترجموا القرآن وبعض الكتب العربية العلميّة والأدبيّة حتّى جاء القرن الثامن عشر وهو العصر الذي بدأ فيه الغرب في استعمار العالم الإسلامي والاستيلاء على ممتلكاته، فإذا بعددٍ من علماء الغرب ينبغون في الاستشراق، ويصدّرون لذلك المجلّات في جميع الممالك الغربيّة، ويغيرون على المخطوطات العربيّة في البلاد العربيّة والإسلاميّة، فيشترونها من أصحابها الجهلة، أو يسرقونها من المكتبات العامّة التي كانت في نهاية الفوضى، وينقلونها إلى بلادهم ومكتباتهم، وإذا بأعدادٍ هائلةٍ من نوادر المخطوطات العربيّة تنتقل إلى مكتبات أوروبا، وقد بلغت في أوائل القرن التاسع عشر مئتين وخمسين ألف مجلّدًا، وما زال هذا العدد يتزايد حتى اليوم. وفي الربع الأخير من القرن التاسع عشر عُقد أوّل مؤتمر للمستشرقين في باريس عام 1873، وتتالى عقد المؤتمرات التي تتلقّى فيها الدّراسات عن الشّرق وأديانه وحضاراته وما تزال تعقد حتّى هذه الأيّام.

ثانيًا: ميدان الاستشراق
يحدّد السّباعي الميدانين الأكثر أهميّةً في بدء الدّرس المعرفيّ للاستشراق، وهما اللّغة العربيّة والعقيدة الإسلاميّة ثمّ عقائد الشّرق جميعًا «حيث بدأ الاستشراق بدراسة اللّغة العربيّة والإسلام، وانتهى -بعد التوسّع الاستعماريّ الغربيّ في الشّرق- إلى دراسة جميع ديانات الشّرق وعاداته وحضاراته وجغرافيّته وتقاليده وأشهر لغاته، وإن كانت العناية بالإسلام والآداب العربيّة والحضارة الإسلاميّة هي أهمّ ما يُعنى به المستشرقون حتّى اليوم؛ نظرًا للّدوافع الدّينيّة والسياسيّة التي شجّعت على الدّراسات الشّرقيّة كما سنذكره فيما بعد».

ثالثًا: دوافع الاستشراق
يحدّد السّباعي دوافع الاستشراق وبواعثه ما بين دينيّة وعلميّة وتجاريّة وسياسيّة استعماريّة وهي كما يلي:

1. الدّافع الدّيني: لا نحتاج إلى استنتاج وجهد في البحث لنتعرّف إلى الدافع الأوّل للاستشراق عند الغربيين وهو الدافع الديني. فقد بدأ بالرهبان -كما رأينا- واستمرّ كذلك حتّى عصرنا الحاضر -كما سنرى- وهؤلاء كان يهمّهم أن يطعنوا في الإسلام ويشوّهوا محاسنه ويحرّفوا حقائقه ليثبتوا لجماهيرهم التي تخضع لزعامتهم الدينيّة أنّ الإسلام -وقد كان يومئذ الخصم الوحيد للمسيحيّة في نظر الغربيين- دين لا يستحقّ الانتشار، وأنّ المسلمين قوم همج لصوص وسفاكو دماء، يحثّهم دينهم على الملذّات الجسديّة، ويبعدهم عن كلّ سموّ روحيّ وخلقيّ. ثمّ اشتدّت حاجتهم إلى هذا الهجوم في العصر الحاضر بعد أن رأوا الحضارة الحديثة قد زعزعت أسس العقيدة عند الغربيين، وأخذت تشكّكهم بكلّ التعاليم التي كانوا يتلقّونها عن رجال الدين عندهم فيما مضى، فلم يجدوا خيرًا من تشديد الهجوم على الإسلام لصرف أنظار الغربيين عن نقد ما عندهم من عقيدة وكتب مقدّسة، وهم يعلمون ما تركته الفتوحات الإسلاميّة الأولى ثمّ الحروب الصليبيّة ثمّ الفتوحات العثمانيّة في أوروبا بعد ذلك في نفوس الغربيين من خوف من قوّة الإسلام وكره لأهله، فاستغلّوا هذا الجوّ النّفسي، وازدادوا نشاطًا في الدّراسات الإسلاميّة.

2. الدّافع التبشيري: الذي لم يتناسوه في دراساتهم العلميّة، وهم قبل كلّ شيء رجال دين، فأخذوا يهدفون إلى تشويه سمعة الإسلام في نفوس روّاد ثقافتهم من المسلمين؛ لإدخال الوهن إلى العقيدة الإسلاميّة، والتشكيك في التّراث الإسلامي والحضارة الإسلاميّة وكلّ ما يتّصل بالإسلام من علم وأدب وتراث.

3. الدّافع الاستعماري: لما انتهت الحروب الصليبيّة بهزيمة الصليبيين، وهي في ظاهرها حروب دينيّة وفي حقيقتها حروب استعماريّة، لم ييأس الغربيون من العودة إلى احتلال بلاد العرب فبلاد الإسلام، فاتّجهوا إلى دراسة هذه البلاد في كلّ شؤونها من عقيدة وعادات وأخلاق وثروات؛ ليتعرّفوا إلى مواطن القوّة فيها فيضعّفوها، وإلى مواطن الضّعف فيغتنموها، ولما تمّ لهم الاستيلاء العسكريّ والسّيطرة السّياسيّة كان من دوافع تشجيع الاستشراق إضعاف المقاومة الروحيّة والمعنويّة في نفوسنا، وبثّ الوهن والارتباط في تفكيرنا وذلك عن طريق التشكيك بفائدة ما في أيدينا من تراث، وما عندنا من عقيدة وقيم إنسانيّة، فنفقد الثّقة بأنفسنا، ونرتمي في أحضان الغرب نستجدي منه المقاييس الأخلاقيّة والمبادئ العقائديّة، وبذلك يتمّ لهم ما يريدون من خضوعنا لحضارتهم وثقافتهم خضوعًا لا تقوم لنا من بعده قائمة.

يرمي الاستشراق أيضًا إلى معاضدة الاستعمار في تفتيت وحدة الأمم والشعوب، كما حدث في العالم الإسلامي حيث طرحوا نظريّة وأفكار القوميات والوطنية «... أنظر إليهم كيف يشجّعون في بلادنا القوميات التاريخيّة التي عفا عليها الزمن، واندثرت منذ حمل العرب رسالة الإسلام، فتوحّدت لغتهم وعقيدتهم وبلادهم، وحملوا هذه الرسالة إلى العالم، فأقاموا بينهم وبين الشعوب روابط إنسانيّة وتاريخيّة وثقافيّة ازدادوا بها قوّة، وازدادت الشعوب بها رفعة وهداية. إنّهم ما برحوا منذ نصف قرن يحاولون إحياء الفرعونيّة في مصر، والفينيقيّة في سوريا ولبنان وفلسطين، والآشوريّة في العراق وهكذا؛ ليتسنّى لهم تشتيت شملنا كأمّة واحدة، وليعرقلوا قوّة الاندفاع التحرّريّة عن عملها في قوّتنا وتحرّرنا وسيادتنا على أرضنا وثرواتنا ودعوتنا من جديد إلى قيادة ركب الحضارة، والتقائنا مع إخوتنا في العقيدة والمثل العليا والتاريخ المشترك والمصالح المشتركة».

4. الدّافع التّجاري: ومن الدوافع التي كان لها أثرها في تنشيط الاستشراق، رغبة الغربيين في التعامل معنا لترويج بضائعهم وشراء مواردنا الطبيعية الخام بأبخس الأثمان ولقتل صناعتنا المحليّة التي كانت لها مصانع قائمة مزدهرة في مختلف بلاد العرب والمسلمين.

5. الدّافع السياسي: وهنالك دافع آخر أخذ يتجلّى في عصرنا الحاضر بعد استقلال أكثر الدول العربية والإسلامية، ففي كلّ سفارة من سفارات الدّول الغربيّة لدى هذه الدول سكرتير أو ملحق ثقافي يحسن اللّغة العربيّة؛ ليتمكّن من الاتّصال برجال الفكر والصحافة والسياسية فيتعرّف إلى أفكارهم، ويبثّ فيهم من الاتّجاهات السياسّية ما تريده دولته، وكثيرًا ما كان لهذا الاتّصال أثره الخطير في الماضي حين كان السّفراء الغربيّون -ولا يزالون في بعض البلاد العربيّة والإسلاميّة- يبثّون الدّسائس للتفرقة بين الدّول العربيّة بعضها مع بعض، وبين الدّول العربيّة والدّول الإسلاميّة، بحجّة توجيه النّصح وإسداء المعونة بعد أن درسوا تمامًا نفسيّة كثيرين من المسؤولين في تلك البلاد، وعرفوا نواحي الضّعف في سياستهم العامّة، كما عرفوا الاتّجاهات الشعبيّة الخطيرة على مصالحهم واستعمارهم.

6. الدّافع العلمي: ومن المستشرقين نفر قليل جدًا أقبلوا على الاستشراق بدافع حبّ الاطّلاع على حضارات الأمم وأديانها وثقافاتها ولغاتها، وهؤلاء كانوا أقلّ من غيرهم خطأ في فهم الإسلام وتراثه؛ لأنّهم لم يكونوا يتعمّدون الدّس والتّحريف، فجاءت أبحاثهم أقرب إلى الحقّ وإلى المنهج العلمي السليم من أبحاث الجمهرة الغالبة من المستشرقين، بل إنّ منهم من اهتدي إلى الإسلام وآمن برسالته. على أن هؤلاء لا يوجدون إلا حين يكون لهم من الموارد الماليّة الخاصّة ما يمكّنهم من الانصراف إلى الاستشراق بأمانة وإخلاص؛ لأنّ أبحاثهم المجرّدة عن الهوى، لا تلقى رواجًا، لا عند رجال الدين، ولا عند رجال السياسة، ولا عند عامّة الباحثين، ومن ثمّة فهي لا تدرّ عليهم ربحًا ولا مالًا؛ ولهذا ندر وجود هذه الفئة في أوساط المستشرقين.

رابعًا: أهداف الاستشراق ووسائله

تنقسم أهداف المستشرقين -كما يراها السباعي- في جملتهم من الدّراسات الاستشراقيّة إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأوّل: هدف علمي مشبوه، ويهدف إلى:
التشكيك بصحّة رسالة النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ومصدرها الإلهي، فجمهورهم ينكر أن يكون الرّسول نبيًّا موحى إليه من عند الله -جل شأنه- ويتخبّطون في تفسير مظاهر الوحي التي كان يراها أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم أحيانًا، وبخاصّة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، فمن المستشرقين من يُرجع ذلك إلى «صرع» كان ينتاب النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) حينًا بعد حين، ومنهم من يرجعه إلى تخيّلات كانت تملأ ذهن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، ومنهم من يفسّرها بمرض نفسيّ، وهكذا، كأنّ الله لم يُرسل نبيًّا قبله حتّى يصعب عليهم تفسير ظاهرة الوحي، ولما كانوا كلّهم ما بين يهود ومسيحيين يعترفون بأنبياء التوراة، وهم كانوا أقلّ شأنًا من محمد(صلى الله عليه وآله وسلم) في التّاريخ والتأثير والمبادئ التي نادى بها، كان إنكارهم لنبوّة النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) تعنّتًا مبعثه التّعصّب الدّيني الذي يملأ نفوس أكثرهم كرهبان وقسس ومبشّرين.

ويتبع ذلك إنكارهم أن يكون القرآن كتابًا منزّلًا عليه من عند الله عز وجل، وحين يفحمهم ما ورد فيه من حقائق تاريخيّة عن الأمم الماضية ممّا يستحيل صدوره عن أمّيٍّ مثل محمد(صلى الله عليه وآله وسلم)، يزعمون ما زعمه المشركون الجاهليون في عهد الرسول من أنّه استمدّ هذه المعلومات من أناس كانوا يخبرونه بها، ويتخبّطون في ذلك تخبّطًا عجيبًا، وحين يفحمهم ما جاء في القرآن من حقائق علميّة لم تعرف وتكتشف إلّا في هذا العصر، يرجعون ذلك إلى ذكاء النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، فيقعون في تخبّط أشدّ غرابة من سابقه.

 ويتبع إنكارهم لنبوّة الرسول وسماويّة القرآن، إنكارهم أن يكون الإسلام دينًا من عند الله، وإنّما هو ملفّق -عندهم- من الديانتين اليهوديّة والمسيحيّة، وليس لهم في ذلك مستند يؤيّده البحث العلمي، وإنّما هي ادّعاءات تستند على بعض نقاط الالتقاء بين الإسلام والدينين السابقين.

ويلاحظ أنّ المستشرقين اليهود -أمثال جولد تسيهر وشاخت- هم أشدّ حرصًا على ادّعاء استمداد الإسلام من اليهودية وتأثيرها فيه، أمّا المستشرقون المسيحيون فيجرون وراءهم في هذه الدعوى؛ إذ ليس في المسيحيّة تشريع يستطيعون أن يزعموا تأثّر الإسلام به وأخذه منه، وإنّما فيه مبادئ أخلاقيّة زعموا أنّها أثّرت في الإسلام، ودخلت عليه منها، كأنّ المفروض في الديانات الإلهيّة أن تتعارض مبادؤها الأخلاقيّة، وكأنّ الذي أوحى بدين هو غير الذي أوحى بدين آخر، فتعالى الله عمّا يقولون علوًّا كبيرًا.
التشكيك في صحّة الحديث النّبوي الذي اعتمده علماؤنا المحقّقون: ويتذرّع هؤلاء المستشرقون بما دخل على الحديث النّبوي من وضع ودسّ، متجاهلين تلك الجهود التي بذلها علماؤنا لتنقية الحديث الصحيح من غيره، مستندين إلى قواعد بالغة الدّقّة في التثبّت والتّحرّي، مما لم يعهد عندهم في ديانتهم عشر معشاره في التأكّد من صحّة الكتب المقدّسة عندهم.
 يُعلّل السباعي حملة الاستشراق على السّنّة النّبويّة بما تحتويه على ثروة فكريّة وتشريعيّة قادرة إلى بعث الأمّة من جديد وهو ما يناقض مطامع الغرب ومطامحه «...والذي حملهم على ركوب متن الشطط في دعواهم هذه، ما رأوه في الحديث النبوي الذي اعتمده علماؤنا من ثروة فكريّة وتشريعيّة مدهشة، وهم لا يعتقدون بنبوّة الرّسول، فادّعوا أنّ هذا لا يعقل أن يصدر كلّه عن محمد الأمّيّ بل هو عمل المسلمين خلال القرون الثلاثة الأولى، فالعقدة النفسيّة عندهم هي عدم تصديقهم بنبوّة الرّسول، ومنها تنبعث كلّ تخبّطاتهم وأوهامهم».
التشكيك بقيمة الفقه الإسلامي الذاتيّة: ذلك التشريع الهائل الذي لم يجتمع مثله لجميع الأمم في جميع العصور، لقد سقط في أيديهم حين اطّلاعهم على عظمته وهم لا يؤمنون بنبوّة الرّسول، فلم يجدوا بدًا من الزعم بأنّ هذا الفقه العظيم مستمدّ من الفقه الروماني، أي أنّه مستمدّ منهم -الغربيين- وقد بيّن علماؤنا الباحثون تهافت هذه الدعوى، وفيما قرّره مؤتمر القانون المقارن المنعقد بلاهاي من أنّ الفقه الإسلامي فقهٌ مستقلٌّ بذاته وليس مستمدًّا من أيّ فقه آخر، ما يفحم المتعنّتين منهم ويقنع المنصفين الذين لا يبغون غير الحق سبيلًا.

التشكيك في قدرة اللّغة العربيّة على مسايرة التّطوّر العلمي: لنظلّ عالة على مصطلحاتهم التي تشعرنا بفضلهم وسلطانهم الأدبي علينا، وتشكيكهم في غنى الأدب العربي، وإظهاره مجدبًا فقيرًا لنتّجه إلى آدابهم، وذلك هو الاستعمار الأدبي الذي يبغونه مع الاستعمار العسكري الذي يرتكبونه.

القسم الثاني: الأهداف الدينيّة والسياسيّة
وتتلخّص فيما يلي:
تشكيك المسلمين بنبيّهم وقرآنهم وشريعتهم وفقههم، ففي ذلك هدفان: ديني واستعماري.

تشكيك المسلمين بقيمة تراثهم الحضاري، يدّعون أنّ الحضارة الإسلاميّة منقولة عن حضارة الرومان، ولم يكن العرب والمسلمون إلّا نقلة لفلسفة تلك الحضارة وآثارها، لم يكن لهم إبداع فكريّ ولا ابتكار حضاريّ، وكان في حضارتهم كلّ النقائص، وإذا تحدّثوا بشيءٍ عن حسناتها -وقليلًا ما يفعلون- يذكرونها على مضض مع انتقاص كبير.
إضعاف ثقة المسلمين بتراثهم، وبثّ روح الشّكّ في كلّ ما بين أيديهم من قيم وعقيدة ومثل عليا؛ ليسهل على الاستعمار تشديد وطأته عليهم، ونشر ثقافته الحضاريّة فيما بينهم، فيكونوا عبيدًا لها، يجرّهم حبّها إلى حبّهم أو إضعاف روح المقاومة في نفوسهم.
إضعاف روح الإخاء الإسلامي بين المسلمين في مختلف أقطارهم عن طريق إحياء القوميات التي كانت لهم قبل الإسلام، وإثارة الخلافات والنعرات بين شعوبهم، وكذلك يفعلون في البلاد العربية، يجهدون لمنع اجتماع شملها ووحدة كلمتها بكلّ ما في أذهانهم من قدرة على تحريف الحقائق، وتصيّد الحوادث الفرديّة في التاريخ؛ ليصنعوا منها تاريخًا جديدًا يدعو إلى ما يريدون من منع الوحدة بين البلاد العربيّة والتّفاهم على الحقّ والخير بين جماهيرها.
القسم الثالث: أهداف علميّة خالصة: لا يقصد منها إلّا البحث والتمحيص، ودراسة التّراث العربي والإسلامي دراسة تكشف لهم بعض الحقائق الخافية عنهم، وهذا الصّنف قليل عدده جدًا، وهم مع إخلاصهم في البحث والدراسة لا يسلمون من الأخطاء والاستنتاجات البعيدة عن الحق، إمّا لجهلهم بأساليب اللّغة العربيّة، وإمّا لجهلهم بالأجواء الإسلاميّة التّاريخيّة على حقيقتها، فيحبّون أن يتصوّروها كما يتصوّرون مجتمعاتهم، ناسين الفروق الطبيعيّة والنفسيّة والزمنيّة التي تفرّق بين الأجواء التاريخيّة التي يدرسونها، وبين الأجواء الحاضرة التي يعيشونها.
وهذه الفئة أسلم الفئات الثلاث في أهدافها، وأقلّها خطرًا؛ إذ سرعان ما يرجعون إلى الحقّ حين يتبيّن لهم، ومنهم من يعيش بقلبه وفكره في جوّ البيئة التي يدرسها، فيأتي بنتائج تنطبق مع الحقّ والصّدق والواقع، ولكنّهم يلقون عنتًا من أصحاب الهدفين السابقين؛ إذ سرعان ما يتّهمونهم بالانحراف عن النّهج العلمي، أو الانسياق وراء العاطفة، أو الرغبة في مجاملة المسلمين والتّقرّب إليهم، كما فعلوا مع «توماس أرنولد» حين أنصف المسلمين في كتابه العظيم «الدعوة إلى الإسلام» فقد برهن على تسامح المسلمين في جميع العصور مع مخالفيهم في الدّين، على عكس مخالفيهم معهم، هذا الكتاب الذي يعتبر من أدقّ المراجع وأوثقها في تاريخ التّسامح الديني في الإسلام، يطعن فيه المستشرقون المتعصّبون وخاصّة المبشّرين منهم، بأنّ مؤلّفه كان مندفعًا بعاطفة قويّة من الحبّ والعطف على المسلمين، مع أنّه لم يذكر فيه حادثة إلا أرجعها إلى مصدرها.
ومن هؤلاء من يؤدّي بهم البحث الخالص لوجه الحقّ إلى اعتناق الإسلام والدفاع عنه في أوساط أقوامهم الغربيين، كما فعل المستشرق الفرنسي الفنّان «دينيه» الذي عاش في الجزائر، فأعجب بالإسلام وأعلن إسلامه، وتسمّى باسم «ناصر الدين دينيه» وألّف مع عالم جزائريّ كتابًا عن سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وله كتاب «أشعة خاصّة بنور الإسلام» بيّن فيه تحامل قومه على الإسلام ورسوله، وقد توفّي هذا المستشرق المسلم في فرنسا، ونقل جثمانه إلى الجزائر ودفن فيها.

وسائل المستشرقين لتحقيق أهدافهم:  
لم يترك المستشرقون وسيلة لنشر أبحاثهم وبثّ آرائهم إلا سلكوها، ومنها:
تأليف الكتب في موضوعات مختلفة عن الإسلام واتّجاهاته ورسوله وقرآنه، وفي أكثرها كثير من التحريف المتعمّد في نقل النصوص أو ابتسارها، وفي فهم الوقائع التاريخيّة، والاستنتاج منها.

إصدار المجلّات الخاصّة ببحوثهم حول الإسلام وبلاده وشعوبه.
 إرساليّات التبشير إلى العالم الإسلامي لتزاول أعمالًا إنسانيّة في الظاهر كالمستشفيات والجمعيات والمدارس والملاجئ، ودور الضيافة كجمعيات الشبان المسيحية وأشباهها.

إلقاء المحاضرات في الجامعات والجمعيات العلميّة، ومن المؤسف أنّ أشدّهم خطرًا وعداءً للإسلام كانوا يستدعون إلى الجامعات العربيّة والإسلاميّة في القاهرة ودمشق وبغداد والرباط وكراتشي ولاهور وعلبكرة وغيرها ليتحدّثوا عن الإسلام!
 مقالات في الصحف المحلّيّة عندهم، وقد استطاعوا شراء عدد من الصحف المحليّة في بلادنا، وقد جاء في كتاب «التبشير والاستعمار» للدكتورين عمر فروخ ومصطفى الخالدي وهو من أهم الوثائق التاريخية عن نشاط المستشرقين والمبشرين لخدمة الاستعمار «...يعلن المبشّرون أنّهم استغلّوا الصحافة المصريّة على الأخصّ للتعبير عن الآراء المسيحيّة أكثر مما استطاعوا في أيّ بلد إسلامي آخر، لقد ظهرت مقالات كثيرة في عدد من الصحف المصريّة، إمّا مأجورة في أكثر الأحيان، أو بلا أجرة في أحوال نادرة».

عقد المؤتمرات لإحكام خططهم في الحقيقة، ولبحوث عامّة في الظاهر، وما زالوا يعقدون هذه المؤتمرات منذ عام 1783 حتى الآن.
 إنشاء  الموسوعة «دائرة المعارف الإسلامية»، وقد أصدروها بلغات عدّة، وبدأوا بإصدار طبعة جديدة منها، وقد اطّلعت على الأجزاء الأولى للطبعة الثانية من سكرتير الموسوعة حين زرت أكسفورد عام 1956، وقد بُدئ بترجمة الطبعة الأولى إلى اللّغة العربيّة، وصدر منها حتى الآن ثلاثة عشر مجلّدًا. وفي هذه الموسوعة التي حشد لها كبار المستشرقين وأشدّهم عداءً للإسلام، قد دسّ السّمّ في الدّسم، وملئت بالأباطيل عن الإسلام وما يتعلّق به. 

خامسًا: نقد منهجيّة الاستشراق
اهتمّ السّباعي بالطرح النّقديّ لمنهجيّة الاستشراق وإبراز موازينهم التحيّزيّة ومعاييرهم الذاتيّة حيث «يعتمد جمهرة المستشرقين في تحرير أبحاثهم عن الشريعة الإسلامية على ميزان غريب بالغ الغرابة في ميدان البحث العلمي، فمن المعروف أنّ العالم المخلص يتجرّد عن كلّ هوى وميل شخصي فيما يريد البحث عنه ويتابع النصوص والمراجع الموثوق بها، فما أدّت إليه بعد المقارنة والتمحيص كان هو النتيجة المحتّمة التي ينبغي عليه اعتقادها».
إنّ أغلب هؤلاء  المستشرقين يضعون في أذهانهم فكرة معيّنة يريدون تصيّد الأدلّة لإثباتها، وحين يبحثون عن هذه الأدلّة لا تهمّهم صحّتها بمقدار ما يهمّهم إمكان الاستفادة منها لدعم آرائهم الشخصيّة، وكثيرًا ما يستنبطون الأمر الكلي من حادثة جزئيّة، ومن هنا يقعون في مفارقات عجيبة لولا الهوى والغرض لربأوا بأنفسهم عنها، ويضرب لذلك بعض الأمثلة:
1. محاولة المستشرق جولد تسهير لإثبات زعمه بأنّ الحديث في مجموعه من صنع القرون الثلاثة الأولى للهجرة لا من قول الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)، وادّعى أنّ أحكام الشريعة لم تكن معروفة لجمهور المسلمين في الصدر الأوّل من الإسلام، وأنّ الجهل بها وبتاريخ الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) كان لاصقًا بكبار الأئمّة، وقد حشد لذلك بعض الرّوايات الساقطة المتهافتة.
ولا شكّ في أنّ أقلّ النّاس اطّلاعًا على التاريخ يردّ مثل هذه الرّواية، فأبو حنيفة وهو من أشهر أئمة الإسلام الذين تحدّثوا عن أحكام الحرب في الإسلام حديثًا مستفيضًا في فقهه الذي أثر عنه، وفي كتب تلامذته الذين نشروا علمه كأبي يوسف ومحمد، يستحيل على العقل أن يصدّق بأنّه كان جاهلاً بوقائع سيرة الرسول ومغازيه وهي التي استمدّ منها فقهه في أحكام الحرب، وحسبنا أن نذكر هنا كتابين في فقهه في هذا الموضوع يعتبران من أهمّ الكتب المؤلّفة في التّشريع الدولي، في الإسلام.

أوّلهما:  كتاب الرّدّ على سير الأوزاعي[3] لأبي يوسف رحمه الله. وثانيهما: كتاب السير الكبير لمحمد رحمه الله، وقد شرحه السرخسي، وهو من أقدم مراجع الفقه الإسلامي وأهمّها في العلاقات الدوليّة، وقد طبع أخيرًا تحت إشراف جامعة الدول العربيّة برغبة من جمعيّة محمد بن الحسن الشيباني للحقوق الدوليّة. وفي هذين الكتابين يتّضح إلمام تلامذة الإمام -وهم حاملو علمه- بتاريخ المعارك الإسلاميّة في عهد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وخلفائه الراشدين.
وجولد تسيهر لا يخفى عليه أمر هذين الكتابين، وكان بإمكانه لو أراد الحقّ أن يعرف ما إذا كان أبو حنيفة جاهلًا بالسّيرة أو عالمًا بها من غير أن يلجأ إلى رواية «الدميري» في «الحيوان» وهو ليس مؤرّخًا وكتابه ليس كتاب فقه ولا تاريخ، وإنّما يحشر فيه كلّ ما يرى إيراده من حكايات ونوادر تتّصل بموضوع كتابه من غير أن يعني نفسه البحث عن صحّتها، ولا يخفى ما كان بين أبي حنيفة ومعاصريه ومقلديهم من بعدهم من عداء منهجي فكري، وقد كان هذا العداء مادّة دسمة لروّاة الأخبار ومؤلّفي كتب الحكايات والنوادر لنسبة حوادث وحكايات منها ما يرفع من شأن أبي حنيفة، ومنها ما يضع من سمعته. وأكثرها ملفّق موضوع للمسامرة والتندر من قبل محبّيه أو كارهيه على السواء، مما يجعلها عديمة القيمة العلميّة في نظر العلماء والباحثين.
2. ومثال آخر عن هذا المستشرق أيضًا، فقد أعرض عمّا أجمعت عليه كتب الجرح والتعديل وكتب التّاريخ من صدق الإمام محمد بن مسلم بن شهاب الزهري رحمه الله (50–124هـ) وورعه وأمانته ودينه، وزعم أنّ الزّهري[4] لم يكن كذلك بل كان يضع الحديث للأمويين، وهو الذي وضع الحديث: «لا تشدّ الرحال إلّا إلى ثلاثة مساجد» إلخ... لعبد الملك بن مروان، وكلّ حجّته أنّ هذا الحديث من رواية الزهري، وأنّ الزهري كان معاصرًا لعبد الملك بن مروان!
3. يحاول المستشرقون أن يؤكّدوا تعالي العرب الفاتحين عن المسلمين الأعاجم وانتقاصهم من مكانتهم، وفي ذلك يقول المستشرق «بروكلمان» في كتابه «تاريخ الشعوب الإسلامية»: «وإذا كان العرب يؤلّفون طبقة الحاكمين، فقد كان الأعاجم من الجهة الثانية هم الرعيّة أي القطيع!. وجمعها رعايا كما يدعوهم تشبيه سامي قديم كان مألوفًا حتى عند الآشوريين».
يفنّد السّباعي أغاليط «بروكلمان» الذي أعرض عن جميع الوثائق التاريخيّة التي تؤكّد عدالة الفاتحين المسلمين ومعاملتهم أفراد الشعب على السواء من غير تفرقة بين عربي وغيره، وتعلّق بلفظ «الرعية» تعلّقًا لغويًّا واستنتج منها أنّ المسلمين نظروا إلى الأعاجم نظر القطيع من الغنم، ولو رجعنا إلى مادة «رعي» في قواميس اللّغة وجدناها تقول كما في القاموس المحيط: والراعي كل وليس أمر قوم، والقوم رعية، وراعيته: لاحظته محسنًا إليه، وراعيت أمره: حفظته، كرعاه. فالراعي في اللّغة يطلق على راعي الغنم، وعلى رئيس القوم وولي أمرهم، والرعيّة تطلق على الماشية، وتطلق على القوم، ومن معاني الرعاية: الحفظ والإحسان.

إنّ الإسلام عندما أطلق «الرعية» على القوم لم يخصّ بها الأعاجم ليشير إلى أنّه يراهم كالقطيع من الغنم، وإنّما أطلقها على الأمّة عامّة، والأحاديث في ذلك كثيرة معروفة ومنها قوله(صلى الله عليه وآله وسلم) في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري وغيره: «ألا كلّكم راع، وكلّكم مسؤول عن رعيّته، فالإمام الذي على النّاس راع وهو مسؤول عن رعيّته، والرجل راع على أهل بيته وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية على أهل بيت زوجها وولده وهي مسؤولة عنهم، وعبد الرجل راع على مال سيده وهو مسؤول عنه، ألا فكلّكم راع وكلّكم مسؤول عن رعيّته». قال الحافظ ابن حجر (فتح الباري 13/ 96) في شرح هذا الحديث: والراعي هو الحافظ المؤتمن الملتزم صلاح ما أؤتمن على حفظه فهو مطلوب بالعدل فيه والقيام بمصالحه. وقد جاء في حديث آخر إطلاق الرعيّة على المسلمين في الحديث الذي رواه البخاري وغيره: «وما من وال يلي رعيّة من المسلمين فيموت وهو غاش لهم إلا حرّم الله عليه الجنة».
فكيف أغمض بروكلمان عينيه عن هذا كلّه واستجاز لعلمه أن يدّعي بأنّ المسلمين نظروا إلى الأعاجم نظرة القطيع وأنّهم أطلقوا عليهم وحدهم لفظ «الرعيّة»؟ ليس له سند إلا أنّ لفظ الرّعيّة يطلق على الغنم أيضًا، وقد علمت معانيها اللّغويّة، أمّا تخصيص إطلاقها بالأعاجم فليس له سند ولا شبهة يتعلّق بها، وإنّما هو الهوى والغرض.
4. زعم المستشرق «مايور» كما نقله عنه «مرجليوث» أنّ أهل البدو كانوا كثيري الاهتمام بتعلّم البلاغة وطلاقة اللّسان فلا يبعد أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) مارس هذا الفنّ حتى نبغ فيه.
إنّ ما تقدّم يُعطينا صورةً عن موازين البحث عند هؤلاء، فالمسألة عنده تقوم على استنتاج وهميّ من أمر لم يقع، فلا العرب كانوا يتعلّمون البلاغة، ولا كانت لها مدارس وأساتذة يضعون قواعدها، ولا النّبي صلى الله عليه وآله وسلم عرف عنه قبل النبوّة فعل ذلك، وليس بين أيدينا نصّ واحد يثبّته بل إنّ المؤكّد أنّ الرسول لم ينقل عنه أثر من نثر أو شعر قبل النبوّة وقبل أن يتنزّل عليه القرآن الكريم.
وأمر آخر يكشف لنا عن أساس ثالث من أسس النّقد والبحث عند هؤلاء المستشرقين هو إفراطهم في اختراع العلل والأسباب والحوادث التي يدرسونها اختراعًا ليس له سند إلا التّخيّل والتّحكّم، ويزيد في فساد أسلوبهم هذا أنّهم يتخيّلون أحداث الشّرق والعرب وعاداتهم وأخلاقهم بأوهامهم وخيالاتهم الغريبة عن الشّرق والعرب والمسلمين، ولا يريدون أن يعترفوا بأنّ لكلّ بيئة مقاييسها وأذواقها وعاداتها.

وقد أحسن المستشرق الفرنسي المسلم «ناصر الدين دينيه» في حديثه عن أسلوب المستشرقين وموازينهم في الحكم على الأشياء مما جعلهم يتناقضون فيما بينهم تناقضًا واضحًا في الحكم على شيء واحد؛ كلّ ذلك لأنّهم حاولوا أن يحلّلوا السيرة المحمّديّة وتاريخ ظهور الإسلام بحسب العقليّة الأوروبيّة فضلّوا بذلك ضلالًا بعيدًا؛ لأنّ هذا غير هذا، ولأنّ المنطق الأوروبي لا يمكن أن يأتي بنتائج صحيحة في تاريخ الأنبياء الشرقيين.

ثم قال: إنّ هؤلاء المستشرقين الذين حاولوا نقد سيرة النّبي بهذا الأسلوب الأوروبي البحت لبثوا ثلاثة أرباع قرن يدقّقون ويمحّصون بزعمهم، حتى يهدموا ما اتّفق عليه الجمهور من المسلمين من سيرة نبيّهم، وكان ينبغي لهم بعد هذه التدقيقات الطويلة العريضة العميقة أن يتمكّنوا من هدم الآراء المقرّرة والروايات المشهورة من السيرة النبويّة، فهل تسنّى لهم شيء من ذلك؟
الجواب، إنّهم لم يتمكّنوا من إثبات أقلّ شيء جديد، بل إذا أمعنّا النّظر في الآراء الجديدة التي أتى بها هؤلاء المستشرقون، من فرنسيين وإنجليز وألمان وبلجيكيين وهولانديين.. إلخ، لا نجد إلا خلطًا وخبطًا، وإنّك لترى كلّ واحد منهم يقرّر ما نقضه غيره من هؤلاء المدقّقين بزعمهم، أو ينقض ما قرّره.

ثم أخذ «دينيه» يورد الأمثال على هذه المتناقضات وختم كلامه بقوله:
وإن أردنا استقصاء هذه التناقضات التي نجدها بين تمحيصات هؤلاء الممحّصين بزعمهم يطول بنا الأمر، ولا نقدر أن نعرف أية حقيقة، ولا يبقى أمامنا إلّا أن نرجع إلى السّير النّبويّة التي كتبها العرب، فأمّا المؤلّفون الذين زعموا أنّهم يريدون ترجمة محمد بصورة علميّة شديدة التدقيق فلم يتّفقوا منها ولو على نقطة مهمّة، وبرغم جميع ما نقّبوه ونقّروه، وحاولوا كشفه بزعمهم، فلم يصلوا ولن يصلوا إلّا إلى تمثيل أشخاص في تلك السيرة ليسوا أعرق في الحقيقة الواقعيّة من أبطال أقاصيص فالتر سكوت وإسكندر دوماس، فهؤلاء القصاص تخيّلوا أشخاصًا من أبناء جنسهم يقدرون أن يفهموهم، ولم يلحظوا إلّا اختلاف الأدوار بينهم، أمّا أولئك المستشرقون فنسوا أنّه كان عليهم قبل كلّ شيء أن يسدّوا الهوّة السحيقة التي تفصل بين عقليّتهم الغربيّة والأشخاص الشرقيين الذين يترجمونهم، وأنّهم بدون هذه الملاحظة جديرون بأن يقعوا في الوهم في كلّ نقطة[5].

 ويخلص السّباعي إلى أهمّ خصائص منهجيّة الاستشراق فيما يلي:[6]
 سوء الظّنّ والفهم لكلّ ما يتّصل بالإسلام في أهدافه ومقاصده.
 سوء الظّنّ برجال المسلمين وعلمائهم وعظمائهم.
 تصوير المجتمع الإسلامي في مختلف العصور، وخاصّة في العصر الأوّل، بمجتمع متفكّك تقتل الأنانيّة رجاله وعظماءه.
 تصوير الحضارة الإسلاميّة تصويرًا دون الواقع بكثير، تهوينًا لشأنها واحتقارًا لآثارها.
 الجهل بطبيعة المجتمع الإسلامي على حقيقته، والحكم عليه من خلال ما يعرفه هؤلاء المستشرفون من أخلاق شعوبهم وعادات بلادهم.
 إخضاع النصوص للفكرة، التي يفرضونها حسب أهوائهم، والتحكّم فيما يرفضونه ويقبلونه من النصوص.
 تحريفهم للنّصوص في كثير من الأحيان، تحريفًا مقصودًا، وإساءتهم فهم العبارات حين لا يجدون مجالاً للتحريف.
 تحكمهم في المصادر التي ينقلون منها، فهم ينقلون مثلاً من كتب الأدب ما يحكمون به في تاريخ الحديث، ومن كتاب التاريخ ما يحكمون به في تاريخ الفقه، ويصحّحون ما ينقله «الدميري» في كتاب «الحيوان» ويكذّبون ما يرويه «مالك» في «الموطأ»، كلّ ذلك انسياقًا مع الهوى، وانحرافًا عن الحق.

سادسًا: مصطفى السباعي مع المستشرقين وجهًا لوجه في أوروبا
نوضّح  في هذا الجانب بعض خصائص المستشرقين وسماتهم، الذين تعرّف عليهم -السباعي- في رحلته العلميّة وناقشهم فيما كتبوا عن الإسلام، ومن أهم تلك الخصائص: عدم تأهّل عدد من المستشرقين علميًّا من خلال نماذج عايشها في رحلته العلميّة إلى أوروبا، وكيف أنّهم يصدرون مع ضعف علمهم بالعربيّة وباقي الشروط والقواعد العلميّة المؤهّلة للدّراسة في مصادر الإسلام وعلومه، يؤسّسون لدوريات ويُصدرون مؤلّفات تنقض المفاهيم الإسلامية وتنقدها دون وعي أو دراية حقيقيّة. وفي جانب آخر يذكر غياب الحياد العلمي عند من امتلك القدرة العلميّة للدرس والبحث في العلوم الإسلامية ومصادر الفكر الإسلامي والعقيدة الإسلامية، مستبدلًا ذلك الحياد بالتعصّب والعصبيّة ضدّ الإسلام ومن هؤلاء كما يذكرهم البروفسير «أندرسون».

 يذكر السباعي عن لقاءاته العلميّة مع المستشرقين[7] «... أنّ أوّل من اجتمعت بهم هو البروفسور «أندرسون» رئيس قسم قوانين الأحوال الشخصيّة المعمول بها في العالم الإسلامي -في معهد الدراسات الشرقيّة في جامعة لندن- وهو متخرّج من كليّة اللّاهوت في جامعة كمبردج، وكان من أركان حرب الجيش البريطاني في مصر خلال الحرب العالميّة الثانية -كما ذكر هو ذلك عن نفسه- تعلّم اللّغة العربيّة من دروس اللّغة العربيّة التي كان يلقيها بعض علماء الأزهر في الجامعة الأميركية في القاهرة ساعة في كلّ أسبوع لمدّة سنة واحدة. كما تعلّم العامّيّة المصريّة من اختلاطه بالشّعب المصري حين تولّيه عمله العسكري الآنف الذكر، وتخصّص في دراسته الإسلام من المحاضرات العامّة التي كان يلقيها المرحوم «أحمد أمين» والدكتور «طه حسين» والمرحوم الشيخ «أحمد إبراهيم». ثمّ انتقل من الخدمة العسكريّة بعد الحرب إلى رئاسة قسم قوانين الأحوال الشخصيّة في جامعة «لندن».
ومن أمثلة تعصّبه ضدّ الإسلام أنّه أسقط أحد المتخرّجين من الأزهر أراد نيل شهادة الدكتوراه في التشريع الإسلامي من جامعة لندن؛ لسبب واحد هو أنّه قدّم أطروحته عن حقوق المرأة في الإسلام وقد برهن فيها على أنّ الإسلام أعطى المرأة حقوقها الكاملة، فعجبت من ذلك وسألت هذا المستشرق: وكيف أسقطته ومنعته من نوال الدكتوراه لهذا السبب وأنتم تدّعون حريّة الفكر في جامعاتكم؟ قال: لأنّه كان يقول: الإسلام يمنح المرأة كذا، والإسلام قرّر للمرأة كذا فهل هو ناطق رسميّ باسم الإسلام؟ هل هو أبو حنيفة أو الشافعي حتى يقول هذا الكلام ويتكلّم باسم الإسلام؟ إنّ آراءه في حقوق المرأة لم ينصّ عليها فقهاء الإسلام الأقدمون، فهذا رجل مغرور بنفسه حين ادّعى أنّه يفهم الإسلام أكثر مما فهمه أبو حنيفة والشافعي.

وفي جامعة أكسفورد كان رئيس قسم الدّراسات الإسلاميّة والعربيّة فيها يهوديًّا يتكلّم العربيّة ببطء وصعوبة، وكان أيضًا يعمل في دائرة الاستخبارات البريطانية في ليبيا خلال الحرب العالميّة الثانية وهناك تعلّم العربيّة العاميّة، ثم عاد إلى بلاده إنجلترا ليرأس هذا القسم في جامعة أكسفورد. ويروي السباعي أنّ من عجيب ما رأى في منهاج دراساته التي يلقيها على طلّاب الاستشراق: تفسير آيات من القرن الكريم من الكشاف للزمخشري -وهو لا يحسن فهم عبارة بسيطة في جريدة عادية- ودراسة أحاديث من البخاري ومسلم، وأبواب من الفقه في أمّهات كتب الحنفيّة والحنابلة، وأنّه يستقي مصادره في الفقه من  كتبات المستشرقين أمثال: جولد تسيهر، ومرجليوث، وشاخت!!!

وخلص السّباعي من خلال رحلته ومقابلاته العلميّة مع المستشرقين إلى جملة من الأحكام على حركة الاستشراق أهمّها:[8]

أوّلًا: إنّ المستشرقين -في جمهورهم- لا يخلو أحدهم من أن يكون قسّيسًا أو استعماريًّا أو يهوديًّا، وقد يشذّ عن ذلك أفراد.
ثانيًا: إنّ الاستشراق في الدّول الغربيّة غير الاستعمارية -كالدول السكندنافية-أضعف منه عند الدول الاستعماريّة.
ثالثًا:  إنّ المستشرقين المعاصرين في الدّول غير الاستعماريّة يتخلّون عن جولد تسيهر وأمثاله المفضوحين في تعصّبهم.
رابعًا: إنّ الاستشراق بصورةٍ عامّة ينبعث من الكنيسة، وفي الدّول الاستعماريّة يسير مع الكنيسة ووزارة الخارجيّة جنبًا إلى جنب، يلقي منهما كلّ تأييد.
خامسًا: إنّ الدول الاستعماريّة كبريطانيا وفرنسا ما تزال حريصة على توجيه الاستشراق وجهته التقليديّة من كونه أداة هدم للإسلام وتشويه لسمعة المسلمين.
ويؤكّد من ناحية أخرى أنّ الاستشراق حالة من المواجهة الحضاريّة بين العالم الإسلامي والغرب، وأنّه منذ أن انتهت الحروب الصليبيّة بالفشل من الناحية العسكرية والسياسية، لم ينقطع تفكير الغرب في الانتقام من الإسلام وأهله بطرق أخرى، فكانت الطريقة الأولى هي دراسة الإسلام ونقده، وفي جوّ هذا التفكير الذي ساد البيئة المسيحيّة في الغرب خلال القرون الوسطى نشأت فكرة الاستيلاء على البلاد الإسلاميّة عن طريق القوّة والغلبة حين بدأ العالم الإسلامي يتدهور سياسيًّا وعسكريًّا واقتصاديًّا وثقافيًّا، وأخذ الغرب يسطو مرّة بعد مرّة على بلد بعد بلد في العالم الإسلامي، وما كاد ينتهي للغرب استيلاؤه على أكثر أقطار العالم الإسلامي حتى بدأت الدّراسات الغربيّة عن الإسلام وتاريخه تنمو وتتكاثر بقصد تبرير سياستهم الاستعماريّة نحو هذه الشعوب، وقد تمّ لهم في القرن الماضي دراسة التّراث الإسلامي من جميع نواحيه الدينيّة والتاريخيّة والحضاريّة، ومن الطبيعي أن تكون الدّراسة محجوبة عن إصابة الحقّ فيها بحاجبين: [9]

الأوّل: التّعصّب الدّيني الذي استمرّ لدى ساسة أوروبا وقادتها العسكريين حتى إذا دخلت جيوش الحلفاء في الحرب العالميّة الأولى بيت المقدس، قال اللورد «ألنبي» كلمته المشهورة: «الآن انتهت الحروب الصليبية» أي من الناحية العسكريّة.
أمّا التّعصّب الدّيني فما يزال أثره باقيًا في كثير مما يكتب الغربيون عن الإسلام وحضارته؛ وأكثر ما نجد إنصاف الإسلام ورسوله عند العلماء والأدباء الغربيين الذين تحلّلوا من سلطة ديانتهم، ونضرب لذلك مثلًا بكتاب «حضارة العرب» لمؤلّفه «جوستاف لوبون» فإنّه أعظم كتاب ألّفه الغربيون في إنصاف الإسلام وحضارته. هذا؛ لأنّ «جوستاف لوبون» فيلسوف ماديّ لا يؤمن بالأديان قطعًا، من أجل هذا ومن أجل إنصافه للحضارة الإسلاميّة، لا ينظر إليه الغربيون في أوساطهم العلميّة نظر التقدير الذي يستحقّه علمه. فهو -بلا شكّ- من أعظم علماء الاجتماع والتاريخ في القرن التاسع عشر ومع هذا فقد تحامل عليه الغربيون -وخاصّة الفرنسيين- لما ذكرناه.

الثاني: إنّ القوّة الماديّة والعلميّة التى وصل إليها الغربيون في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر أدخلت في نفوس علمائهم ومؤرّخيهم وكتّابهم قدرًا كبيرًا من الغرور حتى اعتقدوا أنّ الغربيين أصل جميع الحضارات في التاريخ -ما عدا المصرية- وأنّ العقليّة الغربيّة هي العقليّة الدقيقة التأمّل التي تستطيع أن تفكّر تفكيرًا منطقيًّا سليمًا، أمّا غيرهم من الشعوب -وخاصة الإسلاميّة  - فإنّ عقليّتهم بسيطة ساذجة، أو بالأصح «ذرية» كما عبر بذلك المستشرق «جب» في كتابه (وجهة الإسلام) ويقصد بذلك أن العقلية الإسلامية تدرك الأمور بواسطة الجزيئات ولا تدركها إدراكًا كليًا.

ويُبيّن السباعي أيضًا خطورة الاستشراق وأعمال المستشرقين التي أصبحت تهيمن على العقل المسلم، حيث إنّ مؤلّفات الاستشراق أضحت مصدرًا مهمًّا لكثير من المفكّرين والباحثين المسلمين منذ بدء الاتّصال بالغرب ونشاط حركة الاستشراق»...فلمّا بدأ اتّصالنا بالحضارة الغربيّة في أوائل هذا القرن، وانتشرت الثقافة بيننا، لم يجد المثقّفون -من غير علماء الشريعة -أمامهم طريقًا ممهّدًا للحديث عن تراثنا المبعثر في كتب قديمة غير منظّمة تنظيمًا يتّفق وتنظيم الكتب العلميّة عند الغربيين، إلا كتب المستشرقين الذين أفنوا أعمارهم في دراسة ثقافتنا وتتبّع مصادرها في خزائن الكتب العامّة عندهم، حتى ليظلّ أحدهم عشرين عامًا في تأليف كتاب عن ناحية من نواحي ثقافتنا، يرجع فيه إلى كلّ ما وصلت إليه يده من مصادر قديمة من كتب علمائنا الأوّلين. وبهذا الدأب المتواصل عند علمائهم، والتّفرّغ الكامل له، والرغبة الاستعماريّة والدّينيّة التي ألمحت إليها، استطاعوا أن ينظّموا الحديث عن ثقافتنا تنظيمًا بهر أبصار (مثقّفينا) واستولى على ألبابهم، وخاصّة عندما قارنوا بين أسلوبهم وبين أسلوب كتبنا العلميّة القديمة، فاندفعوا إلى الاقتباس من كتب المستشرقين معجبين بعلمهم وسعة إطلاعهم، ظانين أنّهم لا يقولون إلّا الحقّ، وأنّهم -فيما خالفوا فيه الحقائق المقرّرة عندنا- أصح حكمًا، وأصوب رأيًا؛ لأنّهم يسيرون وفق منهج علمي دقيق لا يحيدون عنه».[10]
ولم يُتح لهؤلاء المثقّفين أن يرجعوا إلى المصادر الإسلاميّة التي استقى منها المستشرقون وغيرهم من الباحثين الغربيين، إمّا لصعوبة الرجوع إلى مصادرنا، أو الرغبة في سرعة الإنتاج العلمي، أو لشهوة الإتيان بحقائق مخالفة لما هو سائد في أوساطنا العلميّة والدّينيّة وغيرها.

ويردّ-السباعي- هذا التأثير الكبير للإنتاج الاستشراقي على العقل المسلم إلى الضّعف النّفسي الذي يعانى منه المسلم وشعوره بالتّخلّف الفكريّ والتّراجع الحضاري، وتفوّق الغرب عليه ماديًا وعدم القدرة على ملاحقته «حيث كانت فترة من الزمان طغى علينا هذا الشعور بالنّقص والضّعف وعدم الثّقة بأنفسنا إزاء الباحثين الغربيين، وإعظامهم وإكبارهم وعدم سوء الظّنّ بهم، حتى إذا بدأت حركات الوعي السياسي وبدأ استقلالنا السياسي عن سيطرة الغربيين، ابتدأ عندنا الشعور بوجوب الاستقلال الفكري، الشعور بشخصيّتنا وقيمة حضارتنا وتراثنا، الشعور بالخجل لموقفنا السّابق من اتّكالنا على المستشرقين في معرفة ما عندنا من تراث وعقيدة وتشريع، وانتشر هذا الوعي في أوساطنا المثقّفة من دينيّة وغيرها، فبدأنا نكتشف الحقيقة، حقيقة هؤلاء المستشرفين في أبحاثهم وأهدافهم الدينيّة والاستعماريّة من ورائها».[11] 
ويدعو السباعي إلى ضرورة تحرّي القواعد العلميّة والنّقديّة من قبِل باحثينا عند التعرّض للإنتاج الفكري للمستشرقين ويذكر في ذلك قوله «...ترى لو استعمل المسلمون معايير النّقد العلمي التي يستعملها المستشرقون في نقد القرآن والسنة، في نقد كتبهم المقدّسة وعلومهم الموروثة، ماذا كان يبقى لهذه الكتب المقّدسة والعلوم التاريخيّة عندهم من قوّة؟ وماذا يكون فيها من «ثبوت». ترى لو استعمل المسلمون في المستقبل معايير النقد العلمي التي يزعم المستشرقون أنّهم يأخذون بها عند نقد تاريخنا وأئمتنا في نقد تاريخ هذه الحضارة ومقدّساتها وفاتحيها ورؤسائها وعلمائها، ألا يخرجون بنتيجة من الشّكّ وسوء الظّنّ أكبر بكثير مما يخرج به المستشرقون بالنسبة إلى حضارتنا وعظمائنا؟ ألا تبدو هذه الحضارة مهلهلة رثّة الثياب؟ وألا يبدو رجال هذه الحضارة من علماء وسياسيين وأدباء بصورة باهتة اللّون لا أثر فيها لكرامة ولا خلق ولا ضمير؟»[12].

خاتمة..
وهكذا.. فإنّ التّعامل مع الاستشراق يتطلّب عاملين: الأوّل: الثقة الذّاتيّة فيما يمتلكه الباحث المسلم من مصادر للمعرفة وأبعادها الحضاريّة والإنسانيّة، والثاني: الاقتراب ناحية الاستشراق بامتلاك القوّة الوجدانيّة التي تمكّن الباحث المسلم من اكتشاف اضطراب الأفكار، عند وزنها بميزان الحقيقة القرآنيّة والحضارية الإسلامية. كذلك فإنّ هناك ضرورة للوقوف على تحليل نماذج أخرى من الفكر الإصلاحي من أجل بناء موسوعة عربيّة إسلاميّة نحو الاستشراق القديم والمعاصر.

---------------------------------
[1] اعتمدنا في تحليل هذا الوعي بمشروع الاستشراق على: مصطفى السباعي: الاستشراق والمستشرقون (ما لهم وما عليهم)، لا ط، القاهرة، دار السلام للطباعة والنشر، 1998، ص15-33.
باحث وأكاديمي مصري- جامعة دمياط.
[2] مفكّر إسلامي (سوري المولد)، له كتابات متعدّدة في الأخلاق والتشريع والفقه والاجتماع، كما أصدر مجلة (حضارة الإسلام 1960-1980)، وكانت له مواقفه المشهودة في مناصرة القدس ومواجهة احتلال الصهيوني.
[3] اصطلح الفقهاء على تسمية مغازي الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) بالسير (جمع سيرة).
[4] مع احترامنا لتلك الجهود التأسيسيّة لا نرى أنّ البحث قد التزم بالدّقّة الأكاديميّة في الردّ على جولدتسهير في مسألة توثيق ابن شهاب الزّهري خصوصًا في قوله: «ومثال آخر عن هذا المستشرق أيضًا، فقد أعرض عمّا أجمعت عليه كتب الجرح والتعديل وكتب التّاريخ من صدق الإمام محمد بن مسلم بن شهاب الزهري رحمه الله (50 – 124هـ) وورعه وأمانته ودينه، وزعم أنّ الزّهري لم يكن كذلك بل كان يضع الحديث للأمويين، وهو الذي وضع الحديث: «لا تشدّ الرحال إلّا إلى ثلاثة مساجد» إلخ... لعبد الملك بن مروان، وكلّ حجّته أنّ هذا الحديث من رواية الزهري، وأنّ الزهري كان معاصرًا لعبد الملك بن مروان!» .
فعلاقة الزهري ببني أميّة حقيقة تاريخيّة هذا بعضها من كتب الرجال التي لا يظهر أنّها أجمعت على توثيق الزهري:
قال ابن خلكان في وفيات الأعيان ج4، ص178، في ترجمة الزهري: وكان أبو جده عبد الله بن شهاب شهد مع المشركين بدرًا، وكان أحد النّفر الذين تعاقدوا يوم أُحد لئن رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقتلّنه أو ليُقتلنّ دونه! وروى أنّه قيل للزهري: هل شهد جدّك بدرًا؟ فقال: نعم ولكن من ذلك الجانب يعني أنّه كان في صف المشركين، وكان أبوه مسلم مع مصعب بن الزبير، ولم يزل الزهري مع عبد الملك، ثم مع هشام بن عبد الملك، وكان يزيد بن عبد الملك قد استقضاه.
وفي تهذيب التهذيب ج4، ص225، في ترجمة الأعمش الكوفي: أنّ الزّهري يعمل لبني أمية. وقال ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة، ج4، ص104: وكان الزهري من المنحرفين عن علي (عليه السلام)، روى جرير بن عبد الحميد، عن محمد بن شيبة، قال: شهدت مسجد المدينة، فإذا الزهري وعروة بن الزبير جالسان يذكران عليًّا (عليه السلام)، فنالا منه، فبلغ ذلك علي ابن الحسين (عليه السلام)، فجاء حتى وقف عليهما، فقال: أما أنت يا عروة فإنّ أبي حاكم أباك إلى الله، فحكم لأبي على أبيك، وأما أنت يا زهري، فلو كنت بمكّة لأريتك كير أبيك.
وقال الذهبي في ميزان الاعتدال ج1 ص625، في ترجمة خارجة بن مصعب: قال أحمد بن عبدويه المروزي: سمعت خارجة بن مصعب يقول: قدمت على الزهري وهو صاحب شرط بني أمية، فرأيته ركب وفي يديه حربة وبين يديه الناس في أيديهم الكافركوبات، فقلت: قبح الله ذا من عالم، فلم أسمع منه.
وبكلّ أسف لا يزال أثر السّلطات المستبدّة وخصوصًا الأمويّة مهيمنًا على كلّ مفكّر لا ينظر بعين النّقد الدقيق إلى تلاعب السّلطة بالتاريخ والحديث وكتب الرجال. بل إنّ السّلطات الحديثة أنتجت نماذج جديدة من علماء السلاطين، وهذا من أعظم مصائب الأمّة. المحرِّر
[5] من كتابه الذي ألفه في الرد على الأب لامنس السيوعي بعنوان: «إنك في واد وإنا لفي واد» نقلًا عن مقدمة حاضر العالم الإسلامي للأمير شكيب أرسلان: 1/33.
[6] مصطفى السباعي: السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي، بيروت، المكتب الإسلامي، ص22.
[7]  مصطفى السباعي، الاستشراق والمستشرقون (ما لهم وما عليهم)، م.س، ص63.
[8]  مصطفى السباعي، الاستشراق والمستشرقون (ما لهم وما عليهم)، م.س، ص 72.
[9]  مصطفى السباعي، الاستشراق والمستشرقون (ما لهم وما عليهم)، م.س، ص 72.
[10]  مصطفى السباعي، الاستشراق والمستشرقون (ما لهم وما عليهم)، م.س، ص 80.
[11] م.ن، م.س، ص 82.
[12]   مصطفى السباعي: الاستشراق والمستشرقون (ما لهم وما عليهم)، م.س، ص83.