البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

جماليّة تلقّي القرآن الكريم عند ثيودور نولدكه

الباحث :  زهراء دلاور ابربكوه؛ روشنفكر؛ عيسى متقي زاده
اسم المجلة :  دراسات اسشتراقية
العدد :  30
السنة :  ربيع 2022م / 1443هـ
تاريخ إضافة البحث :  April / 25 / 2022
عدد زيارات البحث :  1479
تحميل  ( 534.943 KB )
الملخّص
إنّ القرآن، من حيث أدبه وجماله، كان وما زال يحتلّ المركز الأوّل لدى المسلمين، ولا سيّما الناطقين بالعربيّة، وقد استقبله الناس طيلة القرون باعتباره النّموذج الأعلى للأدب والأسلوب والبلاغة. فقد كان للقرآن عندهم قيمةٌ جماليّةٌ إيجابيّة، بينما لا تُلاحَظ هذه القيمة الجماليّة في دراسات المسشترقين. ويبدو أنّ هذا الاختلاف في تقييم النّصّ الواحد، يرجع أساسًا إلى آفاق التلقّي وإلى المعايير السّائدة في اللحظة التاريخيّة للتلقي ومكانه الخاصّ. فكلّ جيل يتلقّى النّصّ في أفقٍ خاصّ، وطبقًا لمقاصده وظروفه. بناء على ذلك، تطرّقنا في هذا البحث إلى قضيّة تلقّي القرآن من جانب واحد من كبار المستشرقين ثيودور نولدكه، وسعينا إلى معرفة آفاق التلقّي والمعايير السائدة في اللحظة التاريخيّة لتلقّي القرآن الكريم؛ من أجل فهم كيفيّة تأثير القرآن في بيئةٍ لغويّةٍ أجنبيّةٍ وعند جمهور معيّن، ونوعيّة تأثيره، وإدراك أسباب اختلاف تلقّي القرآن الكريم بين الناطقين بالعربيّة والناطقين بغيرها. ولذلك نعتمد على المنهج الوصفي التّحليليّ بالاستعانة من معطيات نظريّة التلقّي لـ«هانز روبرت ياوس». ويبدو أنّ قيمة القرآن الجماليّة عند نولدكه، تابعة للوظائف العمليّة التي يبحث عنها في دراساته للنصوص.

الكلمات المفتاحية: القرآن الكريم، جماليّة التلقّي، ثيودور نولدكه.

المقدّمة
إنّ الجانب الجماليّ والبيانيّ للقرآن الكريم عند علماء المسلمين، هو أعظم معجزة للنبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، ويكون للقرآن عندهم قيمةٌ جماليّةٌ إيجابيّة. وبما أنّ بواعث التأثير الجمالي ومعايير التقييم الجمالي للنصوص متغيّرةٌ من مجتمع إلى آخر، ولكلّ مجتمع جماليّته الخاصّة وطريقته المختلفة في تذوّق الجمال، نريد أن نتناول في هذه الدراسة، جماليّة تلقّي القرآن الكريم عند واحد من كبار المستشرقين، وهو ثيودور نولدكه، باعتباره متلقيًا للقرآن الكريم بشكلٍ وفهمٍ مختلفين في الأدب والجمال عن فهم المتلقّين العرب، وتشکّل ردود أفعاله تلقّیًا هامًا بوصفه التلقّي الذي دار حول القرآن في غیر مناخ اللغة العربیّة وفي السیاق الثقافي المختلف، لندرك أسباب اختلاف التلقّي الجمالي للقرآن الكريم بين الناطقين بالعربيّة وغير الناطقين بها، وبين الماضي والحاضر، والكشف عن الطريقة التي تمكّن المتلقّين من أن يدركوا أدبيّة القرآن وجماليّته، كما ينبغي أن تُدرك. ولذلك نعتمد على المنهج الوصفي التحليلي مع الاستعانة بنظريّة التلقّي لـ «هانز روبرت ياوس»، ونسعى إلى تحليل القيمة الجماليّة للقرآن عند نولدكه بتحديد نوعيّة آثاره عليه، التي يمكن استنباطها من ردود أفعاله من خلال دراساته النقديّة، ثم نقوم بإعادة تشكيل أفق توقّعاته. إذًا، يتصدّى هذا البحث لاستنطاق ردود فعل نولدكه لنصّ بلغ درجة الإعجاز عند العرب والمسلمين، ويحاول الإجابة على هذين السؤالين: ما مدى قيمة القرآن الجماليّة عند ثيودور نولدكه؟ وما التوقّعات التي أثّرت على تقييمه الجمالي للقرآن الكريم؟ وتأتي أهميّة البحث من أنّه يمكّن من فهم كيفيّة تأثير القرآن في بيئةٍ لغويّةٍ أجنبيّةٍ وعند جمهور معيّن، ونوعيّة تأثيره. وبما أنّ نولدكه من أبرز المستشرقين المتخصّصين في القرآن الكريم، وأنّ جهوده في حقل الدّراسات القرآنيّة ظلّت بارزةً في الدّراسات التي تعرّضت بعده للنصّ القرآني، ولهذا السبب، يتمّ التركيز عليه في هذا البحث.

ويبدو أنّ دراسات نولدكه قد تمّت معالجتها عند الباحثين من المنظورات المختلفة؛ حيث يذهب ماركو شولر في مقالته إلى أنّ الدّراسات القرآنيّة في منتصف القرن التاسع عشر كانت متأثّرةً بدراستي ثيودور نولدكه وجوستاو فايل، وأنّ دراسة نولدكه أصبحت مرجعًا هامًّا وموثوقًا للباحثين. ايمانوئلا ستيفاندز في مقالتها ترى أنّ الترتيب الزّمنيّ لنولدكه يجعل من القرآن نصًّا يطوّر من أسلوبه بشكلٍ تدريجيٍّ، وأنّ برهان نولدكه يبدو متينًا، علاوة على أنّه موضوعيٌّ متجرّد. ويذكر أحمد عمران الزاوي في كتابه بعض ملاحظات نولدكه المبعثرة في تاريخ القرآن ويسعى إلى ردّها. ويذهب مطر الهاشمي في كتابه إلى أنّ نولدكه منذ البداية قد اعترف أنّ محاولته فيها من الوقاحة الصبيانيّة والتسرّع، وعلى هذا، يرى أنّه لا يمكن الاعتماد على مثل هذه المحاولات؛ لأنّها قائمةٌ على الحدس والظّنّ. ويرى رضوان السيّد في كتابه إلى أنّ تقسيم نولدكه للسور القرآنيّة هو أكثر ما أثّر في الدارسين، وكذلك رأيه في أنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) قد اتّخذ في نبوّته أنبياء بني إسرائيل نموذجًا له. ويعتقد عادل عباس النصراوي في كتابه أنّ قضيّة السور المكّيّة والمدنيّة التي طرحها ثيودور نولدكه في كتابه تاريخ القرآن، يعود إلى اعتقاده بـ «بشريّة القرآن». يتّضح ممّا تقدّم أنّ الدراسات حول المستشرق ثيودور نولدكه تمّ تحريرها من منظورٍ نقديٍّ بالتركيز على آرائه حول رفض الوحي، وكون النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) مؤلّفًا للقرآن، وتأثّره بالكتب السّابقة، وقضيّة الترتيب الكرونولجي للسور القرآنيّة، ولم نجد دراسة أو مقالة سعت إلى تطبيق نظريّة التّلقّي على دراساته القرآنيّة وتناولت آفاق توقّعاته، وهذا ما يؤكّد أهمّية هذه الدراسة.

أوّلًا- ردود فعل ثيودور نولدكه
لدراسة ردود فعل نولدكه، نرتكز على اثنين من دراساته؛ الأولى مقالته «القرآن»[2]، والثانية كتابه الشهير «تاريخ القرآن»، الذي كان موضوع أطروحةٍ قدّمها سنة 1858. هو في مستهلّ مقالته يُشير إلى انطباع المتلقّي الأوروبيّ وشعوره نحو القرآن في أوّل قراءة، وهو شعورٌ بالتّحيّر، ويقول «إنّ أوّل تصفّح يترك على الأوروبي انطباعًا بالارتباك الفوضويّ»[3]. ويؤكّد على أنّ الشّعور الجماليّ نحو القرآن لا يُمكن أن يكون ثابتًا بالنّظر إلى تباين أسلوب القرآن في الأجزاء المختلفة، ويذهب إلى أنّ قيمة هذه الأجزاء متغيّرةٌ جدًا من حيث الأسلوب والتّأثير الجماليّ؛ حيث إنّ «الفقرات القليلة جدًا من القرآن تُشبع ميول القارئ الجماليّة بشكلٍ كامل»[4].

منذ البداية، نستطيع القول إنّ ردّ فعل نولدكه بالنّسبة إلى أدبيّة القرآن الكريم وأسلوبه يتراوح بين الخيبة والاندهاش والحيرة وبين الإعجاب والاستحسان. فالقرآن قد يُخيّب أفق توقّعات نولدكه، ونُلاحظ هذا الشّعور بالخيبة في أماكن عدّة من مقالته، مع أنّه استطاع أن يُلامس بعض المظاهر الجماليّة فيه؛ إذ يقول «وعلى العموم، يمتلك الكثير من أجزاء القرآن بلا شكّ قوّة بلاغيّة ملحوظة ومؤثّرة حتّى على القارئ غير المعتقد، إلّا أنّ الكتاب من المنظور الجمالي، ليس عملًا من الدّرجة الأولى بأيّ حال»[5]. وفي موضع آخر، يستنتج أنّه «ليس محمّد ذا أسلوب رفيع بأيّ شكل من الأشكال. إنّ وجهة النّظر هذه سيتبنّاها أيّ أوروبيّ يتصفّحه للكتاب بروحٍ حياديّةٍ وبعض معرفة باللغة»[6]. فهو يبقى مندهشًا حائرًا حيث يعتبر القرآن مؤثّرًا من ناحية وينفي من ناحيةٍ أخرى كونه عملًا ممتازًا.

إنّ نولدكه في كتابه تاريخ القرآن، وعند تقسيمه السور إلى مكيّة ومدنيّة، يقف كثيرًا عند أسلوب القرآن وأدبيّته، وإذا تأمّلنا آراءه في هذا المقام نجد أنّ شعوره بالنسبة إلى القرآن يتّجه نحو الاستنكار والرفض والخيبة في معظم الأحيان، ويميل نحو الإعجاب والاستحسان بعض الأحيان. وقد استخلصنا ردود أفعاله للقرآن في الجدول الآتي:

الموضع
المضمون
نوع ردّ فعل
مرجع ورقم الصفحة
القصص الطوال
الصبغة الفجائيّة في حين كان من اللازم التحلّي بسكون ملحمي
خيبة
مقالة القرآن: 35
القصص الطوال
حذف الروابط التي ذكرها لازمة للحفاظ على تسلسل الأحداث
خيبة
مقالة القرآن: 35
القصص الطوال
الإطناب الزائد عن الحاجة
خيبة
مقالة القرآن: 36
أجزاء غير قصصيّة من القرآن
عدم ترابط الأفكار
خيبة
مقالة القرآن: 36
أجزاء غير قصصيّة من القرآن
زيادة الألفاظ وتكرارها الممل
خيبة
مقالة القرآن: 36
السور المكيّة في الفترة الأولى
النبرة الخطابيّة والاحتفاظ بلونها الشعري الكامل، كلام بأسره محرَّك إيقاعيًّا وذو جرس عفوي جميل
إعجاب
تاريخ قرآن:69
بعض السور
انسجام وحسن التنسيق: البداية جيّدة والخاتمة مناسبة
إعجاب
تاريخ قرآن: 28
سورة الشعراء
الإعجاب لآثار عمل فنّي وأدبي، ذي توزيع دقيق وماهر لمحسّنات الأسلوب الخطابيّة، وقياس متعمَّد لطول المقاطع المفردة
والخيبة للحريّة والعبث في ترتيب النصّ واستبعاد بنية مقاطع شعريّة بالمعنى التقني للكلمة
إعجاب وخيبة
تاريخ قرآن: 41
سورة الزلزلة
ذا تأثير قوي للمطلع الرائع، وكون السورة خطابيًا وإيقاعيًا
إعجاب
تاريخ قرآن: 89
سورة الصافات
التماسك والوحدة التكامليّة لخاتمة جيدة في المقطع الثاني، اشتراك في الأسلوب والفاصلة والإيقاع
إعجاب
تاريخ قرآن: 109-110
سورة الرحمن
تكرار بلا نهاية للآية اللازمة وعدم تكرار اللازمة بين بعض الآيات
خيبة
تاريخ قرآن: 96
السور المكيّة في الفترة الثانية
تضحية الإناقة بسبب التكرار المستمر للأفكار
خيبة
تاريخ القرآن: 105
السور المكيّة في الفترة الثانية
الإطناب والارتباك بسبب عدم ترتيب الأمثلة منطقيًا
خيبة
تاريخ القرآن: 105
السور المكيّة في الفترة الثالثة
اللغة واهية مطنبة ونثريّة، التكرار لا نهاية له، ترداد نفس الكلمات، افتقار البراهين إلى الوضوح وكونها غير مقنعة، والتنوع القليل في القصص
خيبة
تاريخ القرآن: 128
السور المدنيّة
عدم تناسب بين الشكل والمضمون بسبب الكلام النثري المطنب، الطول النامي للآيات، بقاء الفاصلة فقط من القالب الشعري القديم، الفاصلة مشوشة مهمَلة وعلى أسهل الأشكال
خيبة
تاريخ القرآن: 190


ويبدو أنّ نولدكه كلّما ابتعد عن سور الفترة الأولى، ازدادت خيبته حول أسلوب القرآن وأدبيّته شيئًا فشيئًا، وفيما يتعلّق بالسور المكّيّة في الفترة الثالثة، قد استمرّ هذا الشعور بالخيبة عند نولدكه وبلغ الحدّ الأقصى، وقد انتابه هذا الشعور بعدم الرضا في السوَر المدنيّة أيضًا. وإذا تأمّلنا أقوال نولدكه في هذا المقام، نجد أنّ القرآن قد خيّب أفق توقّعاته في معظمها. ويمكن القول إنّه لم يعجب بأسلوب القرآن؛ إذ يستنتج أنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) كان «في أحسن الأحوال ذا أسلوب متوسّط المستوى. وتقوم أهمّيته ككاتب، على أصالته، إذ خلق لوثيقة دينه الجديد أسلوبًا جديدًا ذا لون كتابيّ»[7]. وهو يرى أنّ النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) متوسّط الأسلوب. ويتّضح من ردود فعل نولدكه أنّ أفق القرآن باعتباره عملًا جديدًا قد تصادم بأفق توقّع نولدكه، ولم يكن مطابقًا وموافقًا مع أفقه، ما يؤدّي إلى تخييب أفق توقّعاته مخلّفًا شعورًا بالسّخط وعدم الانشراح. فيجب فحص مدى انزياح القرآن عن أفق توقّعاته حتى نستطيع الجزم بالنّتيجة، لذلك سنقوم بإعادة تشكيل أفق توقّعاته، انطلاقًا من ثلاثة عناصر في كلّ نصّ، كما يقول ياوس «هي معايير جماليّة علنيّة أي «شعريّة» جنسه الخاصّة، ثم العلائق الضمنيّة التي تربط هذا النّصّ بنصوصٍ أخرى معروفة تندرج في سياقه التاريخي، وأخيرًا التعارض بين الخيال والواقع، بين الوظيفة الشعريّة للغة ووظيفتها العمليّة»[8].

ثانيًا- إعادة تشكيل أفق توقّعات نولدكه؛ شعريّة القرآن والنّوع الأدبي
يمكن القول إنّ التّفكيك بين النّظم والنّثر واضحٌ في رؤية نولدكه، ويتّضح ذلك من خلال معالجته لأسلوب السور في الفترات المختلفة، وهو يرى أنّ السّور المكّيّة في الفترة الأولى قد احتفظت بلونٍ شعريٍّ كامل، بينما قد ضعف هذا الروح الشعري في سور الفترة الثانية، ويقول إنّ «آثار الروح الشعريّة التي تبرز بكثافة في السور الأقدم فتضعف، لكنّها لا تختفي تمامًا»[9]. وهو يتحدّث عن غلبة النثر في السور القرآنيّة بقوله «نلاحظ في هذه السور الانتقال من الحماس العظيم إلى قدر أكبر من السكينة في السور المــتأخّرة التي يغلب عليها الطابع النثري»[10]. ويرى أنّ هذا الطابع النّثريّ قد ازداد شيئًا فشيئًا، كلّما ابتعدنا من الفترة الأولى. وعندما يفحص سور الفترة الثالثة، يذهب إلى أنّ اللغة أصبحت مطنبة نثريّة، ويقول: «لا يسع الكلام النثري المطنَب أن يوشِّح الخيال بما يليق به، حيث يجمح الطول النامي للآيات بما له علاقة وثيقة بالأسلوب الذي يصبح أكثر نثريّة. ولا يبقى من القالب الشّعري إلّا الفاصلة»[11]. وتتّضح من هذه العبارات، علاقة النّوع الأدبيّ بطول العبارة، واعتماد الشعر على القافية والخيال عند نولدكه. ونستطيع أن نستنبط أهمّ توقّعات نولدكه عن نوع الشعر في القرآن كما يلي:

أ- ضرورة التشاكل في طول الآيات: إنّ اعتقاد نولدكه بضرورة تشاكل الطول في الآيات ينجلي بوضوح من تناوله سور الفترة المكّيّة الأولى، إنّ التّشاكل في الطول يرتبط بتعداد التفعيلة والبحور العروضيّة التي يتحكّم فيها مبدأ التّشاكل المقنّن، وإنّ ضرورة التّشاكل في الطول هي ميزةٌ تختصّ بالشّعر من دون النثر. وتتّضح أهميّة تشاكل الطول أكثر فأكثر عندما يعتمد عليه نولدكه لتشخيص وحدة السورة والحكم على زيادة الآيات التي لم تتبع قانون تشاكل الطول. وهو عندما يدرس سورة التين يقول: «أظنّ أنّ الآية السادسة من سورة التين قد أضيفت لاحقًا؛ لأنّ طولها يفوق طول أيّ من الآيات الأخرى»[12]. إنّ عدم الالتزام بمبدأ التّشاكل في الطول يؤدّي إلى تشويش الأسلوب في رأي نولدكه؛ حيث يقول عند فحص سورة الطور «توجد في سورة الطور التي تتضمّن وصفًا شاملًا للجنّة بعض الآيات التي تعود إلى الفترة الثانية، أعني الآية 21 التي تشوِّش السياق ويفوق طولها أطول آيات السورة بثلاثة أضعاف؛ وتضاف إليها الآيات 29 وما يليها»[13]. ولهذا المبدأ علاقةٌ وثيقةٌ بإيقاع السورة، ويرى أنّ عدم الاحتفاظ به سببٌ لانقطاع الإيقاع في السورة. ويقول عند دراسة سورة الرحمن: «الآية 33 تفوق في طولها معدّل طول الآيات الأخرى، وتفتقد النبرة الإيقاعيّة»[14]. إنّ مثل هذه النماذج من ضرورة التزام الآيات بالتشاكل في الطول كثيرةٌ في دراسة نولدكه في سور هذه الفترة، وكذلك الفترة الثانية من السور المكيّة، ونكتفي بهذه الأمثال.

ب- ضرورة تشاكل القافية أو الفاصلة: يمكن القول إنّ القافية تكون مدار دراسة نولدكه الأسلوبيّة، وهو بعد أن يتحدّث عن وجهة النّظر الإسلاميّة حول منع تسمية «الفاصلة» بالقافية في القرآن، يتعرّض إلى أهميّة الفاصلة بقوله إنّ «الفاصلة ذات أهميّةٍ بالغةٍ لتحسين بعض المواقع، وسلامة تقطيع الآيات، ومعرفة الصلة بين المقاطع الكبيرة، واكتشاف انتزاع آيات نُقلت من مواضعها إلى مواضع أخرى، علينا أن نأخذها بعين الاعتبار بدقّة وحذر معًا»[15]. وإذا تأمّلنا هذا القول ندرك كم تكون فكرة العروض ووحدة القصيدة واضحة في وعي نولدكه عندما يتحدّث عن تقطيع الآيات والصّلة بين المقاطع. والمعروف أنّهما من اختصاصات الشعر دون النثر. ولا شكّ أنّ الصّلة توجد بين أجزاء النثر، إلّا أنّ هذه الصّلة لا تقع في تشاكل القوافي.

وبناءً على ذلك، يبدو أنّ نولدكه يعتقد بضرورة تشاكل الفواصل في السورة، والتزام جميع الآيات بهذا التّشاكل للحفاظ على وحدة السورة وإيجاد الصلة بين الآيات، وإنّ عدم التبعيّة لهذا المبدأ يعني عند نولدكه زيادة الآية وإضافتها لاحقًا. وعلى الرّغم من أنّه ينبّه إلى أنّ تشاكل الفواصل ليس وحده عاملًا لوحدة السور، قائلًا: «لا يمكن أن يكون تماثل الفواصل دليلًا مطلقًا على وحدة السورة، بل يجوز أخذه فقط بعين الاعتبار كنتيجةٍ مكتسبةٍ من أسباب داخليّة بحتة»[16]، لكنّه عندما يدرس سورة مريم، يرى أنّ النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) قد أضاف الآيات 34-41 لاحقًا حيث تنتهي فواصل هذه السورة عادة بـ «ـِيا» و «ـيَئا» و«ــَيًّا»، ولكن الآيات المذكورة تنتهي بـ «ـون». وتتغير الفواصل كذلك في الآيات 75-78، وبالنظر إلى تشاكل الفاصلة في سائر الآيات ما عدا الآيات المذكورة، يستنتج نولدكه أنّ تلك الآيات تمّت إضافتها متأخّرة، ويقول: «نظرًا لتساوي الفاصلة التام في الآيات 1-34، 41-75 يبُرّر الظّنّ بأنّ تلك الآيات أُلحقت في وقت متأخّر»[17]. وعلى هذا، يمكننا الاطمئنان إلى رسوخ مبدأ تشاكل الفاصلة في وعي نولدكه عندما يقسّم سورة «ص» إلى مقطعين، فالمقطع الأوّل يتكوّن من الفواصل بالردف الألف في الآيات 1-67، أمّا الفاصلة في المقطع الثاني تنتهي بالردف واو أو ياء، ويقول: «ما ينتج عن ذلك من افتراض أنّ جزئي السورة لم يكونا في الأصل معاً»[18].

وانطلاقًا ممّا أسلفنا، يمكن القول إنّ توقّعات نولدكه عن نوعيّة الشعر في القرآن تتّضح في اعتقاده بضرورة تكرار وحدة موسيقيّة معيّنة؛ إذ يعتقد بضرورة التزام جميع آيات السورة بالتّساوي في الطول، وضرورة تشاكل فواصل السورة بتكرار الروي أو الردف الواحد. فالواضح أنّ تتابع الآيات على نحو خاصٍ قد هيّأ ذهنه ليقبل تتابع النمط الخاصّ في الآيات دون غيره، وبذلك تمّ تشكيل نسيج يتألّف من التوقّعات في ذهنه. فهذا أمرٌ طبيعيٌّ للغاية عند قراءة الشعر، فالذهن بعد قراءة بيت أو بيتين مهيّأ لعدد معيّن من التتابع الممكن، وفي الوقت نفسه يضعف من قدرته على تقبّل صنوف أخرى من التتابع، وعلى هذا الأساس، يردّ آي.إي. ريتشاردز[19] (1893-1979) الإيقاع إلى عامل التكرار والتوقّع فآثاره، وفي رأيه يعتمد الإيقاع على «التكرار والتوقع، فآثار الإيقاع والوزن تنبع من توقّعنا، ... وعادة يكون هذا التوقّع لا شعوريًّا»[20].

ج- وحدة القصيدة العضويّة: نلمس ملامح الاعتقاد بضرورة وحدة القصيدة العضويّة في السور لدى نولدكه عندما يتحدّث عن حسن البدء، وبراعة الختام في السورة، ويتعرّض إلى التناسق والارتباط بين المقاطع في السورة الواحدة، حيث يقول: «بعض السور منسَّق تنسيقًا حسنًا وليست له فقط بداية جيدة، بل أيضًا خاتمة مناسبة. خطاب القرآن يقفز على العموم كثيرًا من موضوع إلى آخر، إلى درجة أنّ ترابط المعاني بعضها ببعض لا يتجلّى دائمًا للعيان»[21]. إنّ اعتقاد نولدكه بهذه الوحدة في السور القرآنيّة تتّضح خاصّة عند معالجة بعض السور كالواقعة، والصافّات.
ويمكن استخلاص تحليله عن وحدة في السورة الواقعة كما يلي: إنّ هذه السورة في رأيه تتكوّن من مقاطع عدّة، السورة تبدأ بمدخل قصير من الآيات 1-9، ثمّ تقع المقاطع. تشابه نهاية المقطعين بتكرار العبارة الواحدة فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ العَظيمِ. وهناك العلاقة الواضحة بين الآيات 87 وما يليها والقسم الأول. وإنّ بدء عدّة آيات بتناوب بـ و يقوّي الاتصال. وعلى هذا الأساس يستنتج أنّه «يمكن اعتبار هذه السورة متماسكة، بالرغم من أنّها تضمّ، كما يبدو، قَسَمًا جديدًا يبدأ بالآية 74-75»[22]. أي قَسَم بمواقع النجوم. ويبدو أنّ نولدكه قد عنى بصحّة التّقسيم والاستيعاب ثمّ حسن الختام، وهذا يدلّ على الاهتمام بوحدة الأعضاء في السورة. وهو يؤكّد على فكرة الوحدة العضويّة في سورة الصافّات، ويستنتج أنّ ثمّة ما يربط بين المقاطع، ليس فقط اشتراك المقاطع في بعض الجمل وآيتين فقط، بل «الأسلوب والفاصلة والإيقاع، ما يجعل اعتبار السورة كلّها وحدة متكاملة أمرًا لا ريب فيه»[23]. فيرى أنّ تساوي الأسلوب على المستوى نفسه ضمان لكون الجزء موحّدًا علاوة على الارتباط المعنائي بين المقاطع، وتكثّف الوحدة بواسطة تكرار بعض العبارات أو الآيات الكاملة، ثمّ تشكيل الآيات 167-182 خاتمة جيّدة للمقطع.

د- الخيال: عند التّأمّل في أقوال نولدكه نرى أنّه قد لمس الخيال النّابع من التّصاوير الحيّة التي رسمها النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) ـ حسب تعبيره ـ خاصّة في السور المكّيّة في الفترة الأولى التي كانت مصبوغة بالصبغة الشعريّة، حيث يقول: «ما من سور أخرى في القرآن تضاهي هذه السور في روعتها وفي إبرازها الانفعال الشديد الذي كان يعتري النبي. ألا وكأنّ المرء يرى بأمِّ عينه كيف تنشقّ الأرض وتتفطّر الجبال وتتساقط الكواكب، متداخلًا بعضها بالبعض الآخر. مجموعة أخرى من السور تحمل أوصافًا أكثر هدوءًا ونثريّة، ينبغي أن تعتبر بالإجمال متأخّرة عنها زمنيًّا»[24]. وهو يأتي بنماذج لذلك بسورة الزلزلة التي تولِّد بسبب مطلعها الرائع وإيقاعها أثرًا لا يقاوم، ومثلها سورتا الانفطار والتكوير؛ إذ يقول: «وتشبه هذه السورة أيضًا سورتا الانفطار والتكوير ويتزيّنان بصورٍ أكثر غنًى»[25]. وممّا يلفت هنا، كما يتّضح من عبارات نولدكه المذكورة، أنّ الخيال في رأيه من اختصاصات الشعر ولا النثر، وممّا يؤكّد ذلك قوله في أسلوب السور المكّيّة في الفترة الثالثة؛ إذ يقول: «لا يسع الكلام النثري المطنَب أن يوشِّح الخيال بما يليق به، حيث يجمح الطول النامي للآيات له علاقة وثيقة بالأسلوب الذي يصبح أكثر نثريّة. ولا يبقى من القالب الشّعري إلّا الفاصلة»[26]. ويبدو أنّ التّفرقة واضحة في ذهنه بين الخيال في الشعر والنثر عندما يتحدّث عن جموح الخيال والانفعال الذي هو باعث النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في خلق هذه التصاوير؛ حيث يقول: «حين ضعف الثوران النفسي الهائل مع مرور الزمن صارت السور أكثر هدوءًا. كانت في البداية تحركّها طاقة شعريّة معيّنة، فأضحت لاحقًا، وبشكلٍ تدريجيٍّ، أقوال معلّم ومشرّع لا غير»[27].

وثمّة اختلاف كبير بين نوع الشعر ونوع النثر في مدى إثارتهما توقّع القارئ وتهيّئه؛ فالتوقّع الحاصل عند قراءة النّثر يكون أقلّ تحديدًا ممّا يُثير الشعر. ففي قطعة من النثر لا يتهيّأ القارئ لتكرار وحدة موسيقيّة معيّنة ولا يتوقّع عند قراءة النّصّ النّثريّ نوعًا خاصًّا من الصوت، ولا يفاجأ عند بروز نغمة غير متوقّعة، وبالتالي لا تلعب الألفاظ دورًا حسّيًّا أو شكليًّا عظيمًا في النّثر خلافًا للشعر الذي يكتسب الصوت فيه شخصيّته. وبناء على هذا، لا يتوقّع نولدكه عندما يقرأ سور الفترة الثالثة والسور المدنيّة بحدوث صوتٍ خاصٍ بالنّظر إلى الطبيعة النثريّة والتشريعيّة فيهما. والمواجهة بالفواصل في سياقٍ نثريٍّ لتلك السور، يولّد عنده الشعور بالخيبة والمفاجأة وعدم الإعجاب بأسلوب القرآن، ولذلك يقول: «إنّ خطأ محمّد يقع في التزامه الدّائم والإخضاع للصيغة شبه الشّعريّة التي قام ببنائها في بداية النزول مطابقًا مع أذواق المستمعين. فهو على سبيل المثال يستخدم القافية في المواضع النثريّة، وهكذا يأتي بنتيجةٍ غير مقبولةٍ هي عدم التّناسب بين الأسلوب والموضوع»[28]. وكذلك يؤكّد على الفكرة نفسها في كتابه تاريخ القرآن عندما يتحدّث عن تكاثر إهمال استعمال الفاصلة شيئًا فشيئًا في القرآن؛ إذ إنّه «لا تناسب والنبرة النثريّة الموجودة في القطع المتأخرة؛ ويجب علينا أن نعتبره في الآيات التشريعيّة، وقطع مماثلة لها، قيدًا ثقيلًا لا يزيّن الكلام»[29]. والواقع أنّ هذه الخيبة تنشأ عن توقّعه، ولو لم يوجد التوقّع الخاصّ بنوعٍ أدبيٍّ، فلا توجد خيبة أو مفاجأة. فالسؤال الذي يطرح نفسه هنا: لماذا يتوقّع نولدكه أنّ جميع آيات السورة الواحدة يجب أن تكون متساوية الطول، ومتماثلة الفاصلة، وأن تكون جميع المقاطع في السورة الواحدة ذات صلة؟ هذه التوقعات عندما يقرأ القارئ عملًا شعريًّا طبيعيّةٌ للغاية، أمّا بالنسبة إلى القرآن، فهي موضع تساؤل، لماذا توقّعات نولدكه عن السور القرآنيّة، هي نفس التوقّعات التي توجد في وعي القارئ عند قراءة منظومة الأشعار؟

ثالثًا- النصوص في السياق التاريخي الأدبي
إنّ النّصّ في رأي ياوس لا یمکن أن یُخلق من فراغ، خالیًا من رواسب النّصوص السّابقة التي قد یشترک معها في الجنس والنوع، بل یحمل علامات ظاهرة وخفیّة ویثیر التوقعات، يقول: «إنّ النّصّ الجديد يستدعي بالنّسبة للقارئ مجموعة كاملة من التوقّعات والتدبيرات التي عوّدته عليها النصوص السابقة[30]. وعلى هذا الأساس، إذا اعتبرنا كلّ فترة تاريخيّة أدبيّة بمثابة دائرة، النّصوص الأدبيّة المكتوبة تقع في مركز الدائرة. وإذا رجعنا إلى فترة نزول القرآن نجد أهمّ الأنواع الأدبيّة المعروفة آنذاك هي القصائد، وسجع الكهّان، والخطب. وممّا يلفت في هذا السياق، هو مبدأ التكرار أو التماثل، كما يقول ياوس: «إنّ علاقة النّصّ المعزول بالجدول، أي بسلسلة النّصوص السابقة المؤلّفة للجنس، تتمّ كذلك وفق سيرورة مماثلة، قوامها الدائم هو خلق أفق توقّع وتعديله»[31]. أي التّوقّع الناشئ عن تماثل شكل العمل الجديد بأشكال الأعمال السابقة في السياق التاريخي الواحد.

أ- المماثلة بين القرآن والشعر الجاهلي: نجد عند نولدكه اهتمامًا بالغًا بالتّشابهات الموجودة بين القرآن وتلك النصوص. وهو كثيرًا ما يتحدّث عن القواسم المشتركة بين القرآن والشعر الجاهلي، ويرى في كتابه «تاريخ القرآن» أنّ ما جاء به النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) كان باللّغة الفصحى بطابعها الأدبي والمشترك بعربيّة الشعراء القديمة، ويقول: «إنّ القرآن لم يكتب بأيّة لهجة محليّة أبدًا، بل له لغة مشابهة لما كانت موجودة في قصائد ما قبل الإسلام»[32]. وهو يذهب إلى أنّ لغة الفصحى هي لغة مشتركة وموحّدة بين جميع القبائل، ويستنتج أنّ «الأشعار العربيّة القديمة والقرآن كتبت بلغة فصحى أو مفهومة عمومًا»[33]. إذًا يمكن القول إنّ لغة القرآن في رأي نولدكه لا تختلف عن لغة القصائد الجاهليّة وله الخصوصيّة الأدبيّة بالنظر إلى لغته العربيّة الفصحى.
وبعدما تحدّثنا عن مشابهة لغة القرآن بلغة القصائد الجاهليّة، أوّل ما يستوقفنا هو اعتبار نولدكه الوزن والقافية معيارين أساسيين في القصيدة الجاهليّة، حيث يقول عن الصيغة الفنّيّة للشعر آنذاك إنّها «تشمل عند العرب وزنًا شعريًّا مقيّدًا بالإضافة إلى القافية»[34]. ويُشير إلى كون هذا المعيار عرفًا أدبيًّا عند الجاهليين لشكل القصيدة، إذ إنّ الشعراء «كانوا قد التزموا منذ زمن طويل باستعمال البحر والقافية»[35]. أمّا المعيار الرئيس للسجع في رأيه، فهو أجزاء قصيرة، تبعيّة اثنين من الأجزاء أو أكثر قرينة واحدة باتّباع علامات الوقف. وهناك اختلاف بين الشعر والسجع في تحرّر قرينة السجع أكثر من القافية، ورغم هذا لا يستبعد كون السجع من أنماط شعريّة آنذاك بسبب المشتركات بينهما، إذ يقول: «لكن خصوم محمّد أطلقوا عليه لقب شاعر. هذا يدلّ على أنّ الطريقة التي قدّم بها ما أتاه من الوحي، وهي السجع، كانت تُعتبر آنذاك نمطًا شعريًّا»[36]. ومهما يكن من الأمر، ما يهمّنا في هذا السياق، هو إمكانيّة استنتاج العرف الشعري والأدبي لنصوص تلك الفترة في وعي نولدكه. وهذا العرف هو التزام بتكرار الوزن والقافية في جميع أبيات القصيدة، والحفاظ على تقطيع الجمل وتسجيعها في جميع عبارات السجع، بالإضافة إلى استخدام الأسلوب القسمي في سجع الكهّان. وهذا المبدأ للتكرار والتّشاكل في العرف الأدبي الجاهلي قد أدّى إلى تكوين توقّعات عن النّصّ الأدبيّ والشعريّ في ذهن نولدكه. وبهذه التوقّعات عندما قرأ القرآن وجد مشابهات عدّة بينه وبين النّصوص الأدبية آنذاك، ولا سيّما في سور الفترات الأولى.

وفي هذا الإطار، يتنبّه نولدكه إلى مماثلة شكل النصّ القرآني بالقصائد الجاهليّة، ويرى أنّ الشّبه واضح بين ما ورد في فواصل الآي في سور الأحزاب والانشقاق والمدّثر وبين القافية الشعريّة في مدّ الفتحة، ويقول إنّ النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) «يمدّ الفتحة في نصب الأسماء والأفعال جاعلًا منها ألفًا كما في القافية الشعريّة»[37]. ويأتي بأمثلةٍ أخرى من تلك المشابهات، كعدم تلفّظ الفتحتين في نهاية الآية في سورة المجادلة والبلد والمدّثر، ويرى أنّه يردّ أحيانًا في القافية الشّعريّة، وعلى سبيل المثال بيت لبيد «فلا تَخْمُش وجهاً ولا تَحْلِقا شَعَرْ»، حيث جاء شعرْ بدل شعرًا. وكذلك إخفاء ياء المتكلّم المفرد في سورة الحاقّة، ويقول «يُخفي ياء المتكلّم المفرد تمامًا، أو يحوّلها إلى ـيَه، كما هو معهود في القافية الشعريّة»[38]. وقد يسري اعتقاد نولدكه إلى ضرورة تكرار قوافي الشعر إلى النصّ القرآني، وذلك يستنبط من قوله: «أمّا فيما يتعلّق بترتيب الفواصل، فإنّنا نجد أحيانًا آية بلا فاصلة بين آيات ذات فواصل أو بعدها»[39]. ويأتي بأمثلة عن سورة المعارج حيث تعود الفاصلة السابقة مجدّدًا، وكذلك سورة الانفطار وعبس.

إنّ المماثلة بين القرآن والشّعر الجاهلي في رأي نولدكه لا ينحصر على الالتزام بالفواصل في الآيات واستخدام الفواصل الخاصّة بالشعر، بل يتعدّى إلى بعض أساليب البديع المستعملة في القرآن أي «اللعب بالكلمات»، الذي يقوم بدورٍ كبيرٍ في الخطاب الشعري أو ما يشبهه من أنواع الخطاب الأدبي، ويقول: «أمّا اللعب بالكلمات الذي لم يكثر منه شعراء العرب القدامى، وعرفه اللاحقون الذين جعلوا منه الفتنة الأولى لشعرهم، فهو يرد أيضًا في القرآن»[40]. ويأتي بالأمثلة من ذلك ممّا ورد في أشعار الشعراء الجاهليين كـ «راغبا أو راهبا» في لامية الشنفرى، أو «الحارب الحريب» في شعر لبيد، و «أن يغبطوا يهبطوا» في أبيات الخنساء، و... ويذكر بعض ما ورد في القرآن من تلك الأمثلة التي تدلّ على أنّ استعماله كان معهودًا، وذلك مثل «رغبا ورهبا» في سورة الأنبياء، و«يُسر وعُسر» في سورة البقرة، و«همزة لمزة» في سورة الهمزة، «وأسلمت مع سليمان» في سورة النمل، «يا أسفي على يوسف» في سورة يوسف، وكذلك أسماء متشابهة اللفظ التي عُدّلت جزئيًّا بسبب هذا التّشابه، مثل «هاروت» و «ماروت» في سورة البقرة أو «يأجوج» و «مأجوج» في سورة الكهف والأنبياء، مثلما قد وردت في ديوان امرئ القيس. وقد انتبه إلى القافية في داخل البيت كأنّ البيت تشكّل عن أجزاء عدّة، ولكلّ جزء قافية، ويرى هذا النوع من اللعب بالكلمات يوجد في الشعر بقدرٍ أكبر من التصنّع، كما في ديوان الهذليين، وقد ورد في القرآن أيضًا؛ حيث يقول: «في هذه الحال تقسّم إحدى الآيات إلى أجزاءٍ متعدّدة صغيرة، على سبيل المثال سورة يونس 61-62 (شأن-قرآن)»[41]. ويقصد بذلك وجود الفاصلة في وسط الآية.
ب- المماثلة بين القرآن والسجع: الالتزام بالسجع كان يُلاحظ في الخطب الجاهليّة، وكذلك في نصوص الكهّان، وقد كان هذا السجع موضع اهتمام نولدكه، وهو يتحدّث عنه ويعتبره من القواسم المشتركة بين القرآن والنصوص الأدبيّة آنذاك، قائلًا: «إنّ السجع كان شكلًا محبوبًا من أشكال الأدب بين العرب في تلك الأيام، فتبنّاه محمّد»[42]. ويؤكّد على تمايز الشعر والسجع في تغيير الفاصلة بعد بضعة الأجزاء، وذلك يدلّ على مدى رسوخ معايير القصيدة والسجع في ذهنه، إذ يقول: «وقد اعتاد العرب في النثر الرفيع، بعكس الشعر المعتاد، أن يغيّروا القرينة بعدد قليل من الأجزاء القصيرة، وهذا ما يحدث أيضًا في القرآن بكثرة، خاصّة في أقدم السور»[43]. ويبدو أنّه يجزم بكون السجع شكلًا مستعمَلًا عند الكهّان، ويقول: «هذا الأسلوب الذي هيمن على أقوال الكهّان القدماء استعمله أيضًا محمّد، مُدخلًا عليه بعض التعديلات»[44]. يوضح نولدكه الحروف المستعملة في الأسجاع القرآنيّة، ويذهب إلى أنّ النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) استعمل كلّ حريّة أسلوبيّة تسمح له بالسجع، حيث يقترب بذلك إلى الأساليب الشعريّة.

إنّ هذه المماثلات بين القرآن والشعر الجاهلي والسجع تخلق عند نولدكه أفق توقّعات. هذه التوقّعات تفرض عليه أن يتتابع الآيات بالنظر إلى تشابه الطول وتشاكل الفواصل في آياتٍ عدّة بمعيار الشعر، فعندئذ يتوقّع من السورة أن تلتزم بوحدة القصيدة العضويّة، وكذلك يتوقّع أن يكون جميع آياتها متساوية من حيث الطول ومتّحدة من حيث الفاصلة، وعندما يواجه بعدم تبعيّة بعض آيات عن القانون يحكم على زيادته. كذلك يُلاحظ وجود قواسم مشتركة بين القرآن وسجع الكهّان، وتلك القواسم المشتركة تؤدّي إلى إيجاد أفق التوقّع الخاصّ بسجع الكهّان، خاصّة عندما يواجه باستعمال الأقسام في الآيات القصيرة، وكذلك تغيير الفواصل بعد عدّة آيات، فيتوقّع رعاية تلك المعايير في جميع آيات السورة، وعندما يشاهد في الآيات عدم التطابق بالمعايير المترسّخة في وعيه عن عرف سجع الكهّان، يفاجأ ويشعر بالخيبة. والحقّ أنّ هذه الخيبة تنشأ من توقّع نولدكه الذي كان وليد تجربته عن الأنواع الأدبيّة المعروفة آنذاك. ويتّضح ذلك عندما يرى أنّ النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) استخدم الأسلوب الذي هيمن على أقوال الكهّان القدماء، ولكنّه استعمل كلّ حرية أسلوبيّة يسمح له بها السجع، لا بل يضيف عليها أيضًا من عنده. وأقواله تدلّ على صعوبة قبوله التغيير، وعدم ترحيبه بالعمل الجديد المنحرف عن الأعراف الأدبيّة الموجودة.

والواقع أنّ المفاجأة في شكل القرآن هنا تلعب دورًا هامًا، ويكون لخيبة التوقّعات أهميّة أكثر من تحقّقها، حيث يقول آي. إي ريتشاردز: «والنظم الذي لا نجد فيه غير ما نتوقّعه بالضبط دائمًا بدلًا من أن نجد فيه ما يطوّر استجابتنا الكليّة هو مجرّد نظم رتيب يبعث على الضيق»[45]. ومن هذا المنظور يرى ياوس أنّ العمل عندما يطابق لتوقّع جمهوره بشكل تام هو تافه، وفي هذا السياق يطرح مفهوم «المسافة الجماليّة» التي تقع بين ما تُقدّمه التجربة الجماليّة السابقة من أشياء مألوفة وتحوّل الأفق الذي يستلزمه استقبال العمل الجديد، ويقول «كلّما تقلصت هذه المسافة وتَحَرَّر وعي المتلقّي من إرغام إعادة توجّهه نحو أفق تجربة بعدُ مجهولة، كان العمل أقرب من مجال كتب فنّ الطبخ»[46]. وذلك لأنّ الإنسان بفطرته يميل إلى تحطيم ما هو مألوف من وسائل التعبير، كأنّه بذلك يجد متعة وجمالًا، ربّما لأنّ الطرق التعبيريّة التقليديّة لم تعد ذات تأثير كما كانت فيما مضى.
وإضافة إلى ما قلنا عن جماليّة الانزياح التي ينبغي بموجبها للقارئ والمتلقّي أن يرحّب بالأشكال المغايرة للمألوف بالنظر إلى كون الانزياح عاملًا رئيسًا لتطوّر الأدب والفنون طوال التاريخ، يجب أن لا يُنظر إلى تلك المعايير المستخرجة من العرف الأدبي الموجود كقوانين صارمة يجب اتّباعها ولا يمكن العدول عنها. والواضح أنّه لا غنى للقصيدة الجاهليّة الغنائيّة عن الالتزام التامّ باتحاد القوافي وتكرار الوزن، وأنّنا لا نستطيع أن نهمل طبيعة هذا النوع، كذلك يتعيّن على الخطبة أن تكون أجزاؤها قصيرة وملتزمة على أكثرها بالسجع لكي توّلد في القارئ نفس الأثر المتوقَّع من الخطبة، ونجد أيضًا أنّ نصّ الكهان لايستطيع أن يستغني عن التزام بالسجع إضافة إلى استخدام الأقسام والحفاظ على تساوي الطول في العبارات. ومع ذلك فمن الخطأ أن نصل إلى وصفة عامّة أو قانون عام نحتّم اتّباعه على كل نصّ مشابه بتلك الأنواع، وعندما نواجه نصًّا لم تتحقّق فيه تلك المعايير، نحكم على ضعف المؤلّف وعدم جودة أسلوبه.

ج- أعراف الأدب اليوناني: مما يجب الانتباه إليه للإحاطة بأفق توقّع نولدكه، هو مسألة ترسّخ كتابة ما في ثقافة من الثقافات، بحيث تتوّج نموذجًا أدبيًّا، وبالتالي يصبح معيار الإجادة محصورًا في مدى تطابق سائر النّصوص لذاك النموذج. وبناء على ذلك، بالنسبة إلى فترة منتصف القرن التاسع عشر إلى بدايات القرن العشرين، أي فترة حياة نولدكه، يبدو أنّه لم تترسّخ كتابة أدبيّة في ضمير الألمانيين كما ترسّخ الأدب اليوناني. فقد تمّ الاعتراف بعظمتها وسموّها عند الأدب القومي الألماني، وهو النموذج الأدبي الأعلى لديهم. يتحدّث ياوس عن الأدب القوميّ الألمانيّ وعن أسطورة أدبيّة مفادها أنّ «قدر الألمان الخاصّ هو أن يكونوا ورثة اليونان الحقيقيين، بناء على هذه الفكرة التي لم يوجد الألمان إلّا ليحقّقوا بمفردهم في صفائها الكامل»[47]. وفي السياق نفسه، يبدو عند نولدكه الاهتمام بالتراث اليوناني؛ إذ يقول في كتابه «تاريخ الفرس والعرب في عصر الساسانيين»، الذي تمّ نشره سنة 1879: «إنّما اهتمامي ورغبتي هو في الإنسانيّة الحقيقيّة التي نادرًا ما تظهر في هذه الفترة، وكذلك حبّي يقع في اليونانيّة التي اختفت تمامًا في أوروبا في ذلك الوقت»[48].
ومعروف أنّ علوم اللغة عند أرسطو هي المنطق والخطابة والشعر، وهي الفنون القوليّة. وأمّا بالنّسبة إلى الشعر، فكثيرًا ما تعزى إلى أرسطو والتراث النقدي الإغريقي ثلاثة أنواع للشعر؛ هي المأساة والملهاة والملحمة[49]. وفي هذا السياق، تعدّ آراء أرسطو في المأساة والخطابة ذات علاقة ببحثنا؛ إذ يبدو أنّ هذين النوعين يكوّنان الأشكال المعياريّة الأساسيّة عند نولدكه؛ إذ يحاول أن يميّز عناصر السرد والخطابة في السور القرآنيّة باستخدام معايير وخصائص فنيّة شائعة ومعروفة عند أرسطو والتراث الإغريقي.

ينظر نولدكه إلى النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) كخطيب ومعلّم. ويتناول الصبغة الخطابيّة في القرآن، فيخلق في ذهنه توقّعًا، وهذا التوقّع قد تمّ تكوينه في ذهنه عن معايير الخطابة عند أرسطو، وبهذا التوقّع يستقبل القرآن. وعلى هذا، نجد أنّه يؤكد على صبغة القرآن الخطابيّة قائلًا: «إنّ كيان النبيّ العقليّ كان بمجمله مرتكزًا على ما هو تعليميّ وخطابيّ أكثر منه على ما هو شعريّ بحت»[50]. وممّا يلفت في الخطابة، أنّها كما يعرّفها أرسطو «القوّة تتكلّف الإقناع الممكن في كلّ واحد من الأمور المفردة»[51]. فيجب على الخطيب أن يرتّب أجزاء الخطابة على أساس المنطق، ولكنه لا يحتاج أن يستخدم الأقوال المنطقيّة بالنظر إلى مستوى جمهوره من حيث الثقافة. فيجب أن تلائم العبارات والحجج ملابسات الجمهور، فلا تجب تبعيّة حرفيّة الأقيسة المنطقيّة في البراهين؛ لأنّ «الجمهور الذي يتوجّه إلى الخطابة غالبًا ما يكون على غير حظّ كبير من الثقافة، فيصعب عليه متابعة الأقيسة المنطقيّة الجافّة»[52]. وبالتالي، بما أنّ غاية الخطابة هي الإقناع عن طريق تحريك الأفكار وإثارة المشاعر معًا، إنّها ذات صبغة أدبيّة، فيستعين الخطيب بالإيقاع في صوغ عباراته لإثارة الانفعالات، وكذلك يجب أن يراعي الخطيب في صياغة الخطابة تمثيل المنظر أمام العيون، ووسيلته في ذلك «هي التعبير بصيغة الحاضر، والبحث عن الاستعارات التصويريّة الملائمة للموضوع»[53].

وعلى ضوء ما تقدّم، نجد نولدكه عندما يعالج السور المكيّة يرى أنّ غاية النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) هي دعوة الناس إلى الإيمان بالإله الواحد الحقّ، وما لا ينفصل عن ذلك من الإيمان بقيامة الأموات والحساب في يوم الدين، وبعد ذلك يتحدّث عن حجج النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) التي يستخدمها لإقناع مستمعيه، ويقول: «لكنّه لا يسعى إلى إقناع عقل سامعيه بذلك بواسطة البرهان المنطقي، بل بالعرض الخطابي المؤثّر على الشعور بواسطة المخيلة... وتكتسب أوصاف سعادة الأتقياء الأبديّة وعذاب المخطئين في الجحيم وزنًا خاصًا. هذه الأوصاف ولا سيما الأخيرة منها، تُعتبر من أقوى الوسائل التي ساعدت على نشر الإسلام بواسطة التأثير الهائل الذي مارسته على مخيّلة أولئك الناس البسطاء الذين لم يسبق لهم أن تعرّفوا منذ صباهم على صور لاهوتيّة مشابهة». (نولدكه، 2004، 65) فهو ينظر إلى النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) كخطيبٍ يعرف جمهوره تمامًا، وهو قريب منهم. وبالتالي يدري كيف يقنعهم ويؤثّر فيهم، ولذلك يهاجم خصومه المشركين مباشرة ويهدّدهم بالعقاب الأبدي.

وعلى هذا الأساس، يرى نولدكه أنّ النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لا يستخدم البراهين المنطقيّة لإقناع السامعين، بل يستخدم أنواع المثل؛ لكي يستطيع الإقناع بها. والمطلوب أن نلقي الضوء على تقسيم أرسطو للمثل إلى نوعين؛ «أحدهما ما يورد فيه الخطيب حقائق وقعت في الماضي، وهو المثل التاريخي. والثاني يخترعه الخطيب من نفسه. وهذا الأخير بدوره نوعان: إمّا أن تخترع فيه الأمثلة للمقابلة بين الحالات المتشابهة، وهو المثل التشبيهي، وإمّا أن نحكي فيه القصص على لسان الحيوان»[54]. وبناء على هذا التعريف، من الطريف أن نتطرّق إلى قول نولدكه حول أسلوب النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) في الفترة الثانية من السور المكيّة؛ إذ يقول: «ويحاول النبي أن يوضّح جمله بواسطة أمثلة كثيرة مأخوذة من الطبيعة والتاريخ. لكنه يكدِّس هذه الأمثلة، بعضها فوق بعض، أكثر مما يرتِّبها منطقيًّا، فيجنح إلى الإطناب، ويصبح مرتبكًا، مملًّا. الطريقة التي يتّبعها للخلوص إلى النتائج ضعيفة. وما يستنتجه لا يقنع الخصوم»[55]. فقوله عن استخدام الأمثلة من التاريخ والطبيعة، وكذلك ضرورة ترتيب الأمثلة ترتيبًا منطقيًا، يشير إلى مدى رسوخ معايير خطابة أرسطو في ذهنه، ولذلك، عدم تنظيم أمثلة وفق الترتيب الذي يتوقّعه نولدكه، والذي يعتبره منطقيًا وأكثر عقلانيّة، قد أدّى إلى عدم استحسانه لأسلوب القرآن حتّى يصفه بالمطنب، مرتبك ومملّ. والواقع أنّ عدم إعجابه يعود إلى حدّ كبير بتوقّعاته التي قد كوّنت في ذهنه عن تجربته السابقة عن معايير أرسطو للخطابة. فمن يستطيع أن يدعي أنّ هذا الترتيب أفضل من ذاك، أو هذا أكثر منطقيًّا من ذلك، والحقيقة أنّ هذه الأحكام نسبيّة للغاية، وأنّها ترجع إلى حدّ كبير إلى نفسيّة القارئ وذوقه.
إنّ أرسطو في استخدام المثل كحجّة خطابيّة يعتمد «على إيراد حالاتٍ كثيرةٍ مشابهة للحالة التي يراد الاستدلال عليها، للبرهنة على أنّها نظيرتها»[56]. ومن هذه الحجّة الخطابيّة، يُشير نولدكه إلى استخدام النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) قصص حياة الأنبياء السابقين في السور المكّيّة في الفترة الثانية، ويقول: «وردت قصص طويلة عن حياة الأنبياء السابقين، تستخدم لإثبات التعاليم وإنذار الأعداء ومواساة الأتباع. محمّد يترك رسل الله القدماء يتكلّمون بأسلوبه الخاص»[57]. إنّ إدراك نولدكه عن كون هذه الأمثلة وسيلة عند النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) لإقناع المستمعين وإيجاد التأثير ليس بعيدًا عن الحق. والواقع أنّ القرآن الكريم ما جاء أسلوبه على ما جاء عليه إلّا ليحقّق الغاية من التأثير واللفت والجذب لكلّ من المستمعين والمخاطبين. إلّا أنّه في ضوء هذا الإدراك، عندما يريد أن يناقش أسلوب السور في الفترة الثانية، يشكو من تنوّع القصص القليل، حيث يقول: «التكرار لا نهاية له، ولا يتورّع النبي عن ترداد الكلمات نفسها تقريبًا، البراهين التي تفتقر إلى الوضوح والحدّة ولا تقنع إلّا من يؤمن سلفًا بالنتيجة النهائيّة، والقصص التي لا تأتي إلا بالقليل من التنوع، كلّ هذا يجعل الآيات والسور مملّة في كثير من الأحيان»[58]. كأنّه يتوقّع أن تلك القصص التي هو يعترف بكونها حجّة ووسيلة للنبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) أن تكون متنوّعة، وتكون من حيث الجاذبيّة على مستوى القصص التي أهميتها في ذاتها. إنّ المسألة كما سبق أن رأينا تتعلّق بتوقّعات نولدكه التي يعود رسوخها في ذهنه عن معايير القصّة حسب ما ذكرها أرسطو عن المأساة. إنّ أرسطو عندما يتحدّث عن الوحدة العضويّة للمأساة، يرى أنّها يجب أن تشتمل على فعلٍ تامٍ، أي يجب أن تكون لها بداية ووسط ونهاية. وبهذه الأجزاء تكون المأساة موضوعًا كاملًا أي مستقلًّا بنفسه. ومن الضّروريّ التناسق بين الأجزاء وكون الخاتمة منطقيّة[59]. ويتجلّى رسوخ هذه الفكرة عند نولدكه عندما يبحث عن الوحدة العضويّة في السور، وينظر إلى كلّ سورة كفعلٍ تامٍ، ويتوقّع أن يكون كلّ منها مستقلًا بنفسه، وذلك يتّضح عندما يقول: «بعض السور منسَّق تنسيقًا حسنًا وليست له فقط بداية جيدة، بل أيضًا خاتمة مناسبة»[60]. ومباشرة بعد هذا القول، يتوجّه إلى تناسق أجزاء السورة، ويرى أنّ خطاب القرآن يقفز على العموم كثيرًا من موضوع إلى آخر، إلى درجة أنّ ترابط المعاني بعضها ببعض لا يتجلّى دائمًا للعيان، ما يجعل المرء عرضةً لخطر الفصل بين ما هو متّصل.

وهو كذلك في مقالته عن القرآن الكريم، عندما يتناول كيفيّة الانتقال بين المقاطع، ويقول: «يمكننا أن نلاحظ كيف ينتقل القرآن من فكرة لأخرى لا تخصّص له كثير من العناية، وكيف أنّ كثيرًا ما حذفت الجمل المفيدة، التي تكاد أن تكون لا غنى عنها»[61]. ويبدو مدى اقتراب توقّعات نولدكه بمبدأ الوحدة عند أرسطو، وفي ضوء هذا المبدأ يتوقّع أن يكون لكلّ سورة بداية وخاتمة منطقيّة. وأن يكون لكلّ جزء من السورة ارتباطًا قويًّا ومنطقيًّا بالجزء المجاور. وتتسرّى رؤيته هذه إلى القصص القرآنيّة أيضًا. وعلى هذا، تكون سورة يوسف خير مثال لنا لإظهار مدى توقّعات نولدكه بأن تُطابق السورة معايير أرسطو. إنّ هذه السورة في رأيه لا بدّ أن تكون قد نشأت دفعةً واحدةً، وأنّها تتمتّع بالوحدة الموضوعيّة؛ إذ يقول: «تختلف سورة يوسف عن سواها من طوال السور بأنّها تعالج موضوعًا واحدًا فقط، هو حياة يوسف، باستثناء بضع آيات في النهاية، لكنّها على صلةٍ بالآيات الأخرى» (نولدكه، 2004، 137). وفي هذا السّياق يرى أرسطو أنّ المأساة إذا كانت عن حياة شخص، يجب أن يتناول الشاعر جزءًا من حياته ليكون فعلًا تامًا؛ لأنّ حياة الشخص الواحد تنطوي على ما لا حدّ له من الأحداث التي لا تكون وحدة، فلا يمكن أن يقصّ حياة شخص واحد بجميع أنحائها، وهو من هذه الناحية يعجب بهوميروس؛ حيث إنّه حينما ألّف الأوديسّة لم يقم برواية جميع أحداث أوديسيوس[62]. تنجلي فكرة أرسطو بوضوح عند نولدكه في مقاله «القرآن» عندما يتحدّث عن السور الطوال في القرآن، ويقول: «بعض السور الطوال لا بأس به منذ البداية كسورة يوسف، تحتوي مقدّمة قصيرة، ثمّ تاريخ يوسف، ومن ثمّ ملاحظات استنتاجيّة معدودة، ولذلك هي متناسقة تمامًا. وبنفس الأسلوب تكوّن سورة طه وحدةً متكاملةً؛ إذ يشغل قسمٌ كبير منها تاريخ موسى، الشيء نفسه يمكن أن نلاحظه عن سورة الكهف»[63].

إنّ توقّعات نولدكه، كما لاحظنا، تتّفق مع مبادئ أرسطو، وإنّه يستقبل القرآن وفق معايير التّراث اليوناني، ومن ثمّ أصبحت هذه المعايير شروطًا للحكم على جودة القرآن وقبوله أو رفضه من أيّ نوع كان. فآراء أرسطو أصبحت مبدأ عامًا طُبع فكر نولدكه به، من هنا يتوقّع بإصرار أن يكون هذا المبدأ ظاهرًا في القرآن، وإن اختلفت صيغه ومجالاته وسياقه. والواضح أنّ مبادئ أرسطو ترتبط بواقعها التاريخي، أعني الظروف الاجتماعيّة والثقافيّة التي ظهرت فيها. ومن منظور النّقد الأدبي محاولة إسقاط خصائص النماذج الأدبيّة على سائر النّصوص الأدبية تعتبر من الأخطاء المغرية في النقد، وفي ذلك يقول آي. إي. ريتشاردز: إنّ «افتراض علاقة مُثلى معيّنة يجب أن تتحقّق بين هذه الأجزاء المختلفة من التجربة، والحكم على القصيدة التي تتبع هذه العلاقة بأنّها أفضل وأعظم من قصيدة أخرى لا توجد هذه العلاقة بين أجزائها المختلفة، وهذا مثل آخر لأكثر الأخطاء شيوعًا في النقد»[64].

وفي هذا الشأن، إذا كان التّراث اليونانيّ في الأدب والتفكّر هي النموذج الذي يمثّل بتقاليده الراسخة في الأدب الألماني في القرن التاسع عشر، فقد كانت أناشيد هوميروس مثالًا جيّدًا لنموذجٍ أدبيٍّ عند نولدكه. وقد كانت هذه الأناشيد أعظم الأجناس الأدبيّة عند اليونان وعند الأدب الألماني عامّة وعند نولدكه خاصّة. وبناء على ذلك، كانت الإجادة الأدبيّة في مجال الأدب تعني عنده تطابق سائر النصوص بهذا النموذج الذي صادق نولدكه على نموذجيّته وعظمته؛ حيث يقول: إنّ «أناشيد هوميروس، بالرغم من كلّ ما أصابها من تغييرات، وبرغم كلّ غموض في معانيها، لا يزال يرفّ منها ربيع الإنسانيّة الوضّاء، وسماء هلّاس الزاهرة»[65]. فقد كان ينظر نولدكه إليها بوصفها النموذج الأعلى، وقد وجد في الشعر الجاهلي خاصيّةً فريدةً من ذلك الأدب الرفيع، ولذلك كان يستحسنه. والشعر الجاهلي كما يبدو كان يطابق بمعايير الإجادة والقبول عند نولدكه. ما كانت مطابقة الشعر الجاهلي بالأدب الأمثل في رأي نولدكه محصورةً في الشّكل الشعريّ والتزامًا بالوحدة العضويّة فقط، بل من حيث الوظيفة أيضًا كانت بينهما المماثلة، وفي نفس المجال، كان القرآن مخالفًا لمعايير نولدكه في الشّكل والوظيفة كليهما.

رابعًا- وظيفة اللغة
إنّ العامل الثالث الأساسيّ لإعادة تشكيل أفق توقّع المتلقّي يرتبط بغائيّة الأدب وانطوائه على رسالةٍ اجتماعيّةٍ، ويمتدّ لوصف المتلقّي والكيفيّة التي سيواجه فيها الأدب والمجتمع في الوقت ذاته. وممّا يلفت النّظر هنا أوّلًا التّعارض بين الوظيفة العمليّة والوظيفة الشعريّة، وذلك يعود إلى اكتساب المكوّنات اللغويّة قيمةً مستقلّة أم عدم اكتسابها لها. فإذا كان يُتطلّب من النّصّ الأدبيّ أن يكون وثيقةً اجتماعيّةً أو وثيقة تاريخيّة أو يتطلّب منه أن يكون مدخلًا لمعرفة مبدعه أو... فسينتمي إلى الوظيفة العمليّة التي لا تكون فيها للأصوات والعناصر البلاغيّة أيّة قيمة مستقلّة، والنّصّ الأدبيّ في هذه الحالة يحتفظ بخصوصيّته الشعريّة، وإن كان له الوظائف العمليّة التي تخدم بالدرجة الأولى أهدافًا غير فنّيّة. أمّا إذا تخلَّفت تلك الأهداف إلى المرتبة الثانية وبرز النّصّ الأدبيّ بقيمةٍ مستقلّةٍ لأصواته وعناصره البلاغيّة، فسينتمي إلى الوظيفة الشعريّة.

بناء على ذلك، فالواضح أنّ القرآن له الوظيفة العمليّة؛ حيث إنّه كتاب هداية، وصحيح أنّه بالنّظر إلى لغته الأدبيّة كان على علاقة بالسلسلة الأدبيّة، فبغضّ النّظر عن معناه، كان يثير اهتمام السامع إلى أدبيّته منذ اللحظات الأولى، إلّا أنّ ذلك النّوع من التلقّي لا يتعارض بوظيفته العمليّة. فالوظائف العمليّة تغلب على كثير من النّصوص التي يطلق عليها المتلقّون صفة الشعر، كما هو ملاحظ على سبيل المثال في الأعمال الأدبيّة التي تهتمّ بنقد المجتمع، ولا ينكر أحد أدبيّتها. وبهذه المقدّمة، ننتقل إلى نولدكه حتّى نفهم كيف ينظر إلى علاقة النّصّ الأدبيّ والمجتمع، وإلى وظيفة الأدب في المجتمع.

بشكل عام، يمكن القول إنّ نولدكه كان يتوقّع من الأدب أن يكون ابن عصره وبيئته. وأن يكون تصويرًا صادقًا لمزاج الجيل وروح العصر. إنّ ضرورة كون الشعر مرآة للواقع تتّضح أكثر فأكثر عند أرسطو حين يجعل الشعر على مستوى التاريخ من حيث رواية الواقع، ويقول: «إنّ المؤرخ والشاعر لا يختلفان بكون أحدهما يروي الأحداث شعرًا والآخر يرويها نثرًا، وإنّما يتميّزان من حيث كون أحدهما يروي الأحداث التي وقعت فعلًا، بينما الآخر يروي الأحداث التي يمكن أن تقع»[66]. وعلى هذا الأساس كان أرسطو يعجب بهوميروس من حيث أنّه يصف الأشخاص على حقيقتهم بشكل المسرحيّة التي فيها تصوير الوقائع الحيّة. وفي السياق نفسه، نجد نولدكه بعد أن يبرز إعجابه بأناشيد هوميروس حيث يرفّ منها ربيع الإنسانية، ويستحسن قصائد بيوولف والنيبيلنجن؛ لأنهما تمكّنان من النفوذ بالبصيرة العميقة إلى روح وثنيّة الألمان القديمة، يلحظ في الشعر الجاهليّ مماثلة بتلك النماذج؛ إذ إنّه صورة حيّة للعرب القدماء بفضائلهم وعيوبهم، بعظمتهم ومحدوديّتهم، فإنّه لا يقدّم أساطير متفوّقة أو دائرة غنيّة من الأفكار تمّ التعبير عنها بالشعر، بل هو «شعر جعل مهمّته الرئيسة هي وصف الحياة والطبيعة كما هما في الواقع، مع قليل من التخيّلات»[67]. ويرى أنّه في نطاق حدوده عظيم وجميل. على ضوء هذه الوظيفة العمليّة للأدب قد اتّضح لنا واحد من أسباب إعجاب نولدكه بالشعر الجاهلي من حيث المضمون، وفي ذلك يقول ماركو شولر إنّ «جيله كانوا مفتونين بالأدب القديم -الذي كان يلقي بظلّه على أذهان الفلاسفة الأوروبيين في القرن التاسع عشر- على مدى أصبحوا عاجزين عن الإدراك الحقيقي للنصوص بالخلفيّات الثقافيّة المختلفة. نولدكه كان يقدّر تراث الأدب العربي، وحبّه للشعر الجاهلي كان بسبب المشابهة الأيديولوجيّة بين البدويين والقبائل الألمانيّة القديمة»[68]. إذًا، الأدب في رأيه يجب أن يكون كالأدب الجاهلي في أنّه أثرٌ من آثار روح العصر في نفوس أبنائه. وفي هذا السياق، يمكن لأيّ قارئ أن يلحظ مدى احتواء القرآن على أنباء الجاهليّة وعقائدهم الوثنيّة وكيفيّة تعاملهم مع بناتهم، وحتّى يمكن اعتباره مرآة تكشف عن حياة الجاهليين، وفي ذلك يقول طه حسين: «فحياة الجاهليين يجب أن تلتمس في القرآن لا في الشعر الجاهلي»[69]. إلّا أنّ هذه التصاوير الصادقة التي رسمها القرآن لا تجلب اهتمام نولدكه كما تجلبه في ذلك القصائد الجاهليّة. ولعلّ ذلك يعود إلى نزعاته الليبراليّة التي ترجع أصولها إلى عصر التنوير أو عصر العقلانيّة.

تفسّر نزعة نولدكه الليبراليّة لنا كثيرًا من أحكامه الصّادرة على القرآن والشعر الجاهلي. وقد أشار إلى نزعته هذه إن. إي. نيومن في مقدّمة مقالة نولدكه «القرآن»؛ حيث يقول: «ومن الصّعب للمرء أن يعيش حياته دون أن يكون لديه رأي في موضوع الدين، ...نولدكه من حيث الدين كان ليبراليًّا»[70]. ونستنبط ذلك خاصّة عندما قال نولدكه في مقدّمة كتابه: «ليس لديّ أيّ اهتمام خاص بأيّ من الديانات المتعصّبة التي تسعى لاضطهاد الآخرين، ... اهتمامي الوحيد هو تلك الإنسانيّة الحقيقيّة»[71]. وقد تتّضح نزعته التحرّريّة أكثر فأكثر عندما يشيد بروح الرجولة  المنتشرة في الشعر الجاهلي، ويقول: «وتسري فيه روح الرجولة والقوّة، روح تهزّنا هزًا مزدوجًا إذا ما قارناه بروح العبوديّة والاستخذاء التي نجدها في آداب كثير من الشعوب الآسيويّة الأخرى... هذه الروح الرجوليّة، التي تتجلّى في قصائد الأعراب القدماء ساكني الصحراء، يمكن أيضًا أن تكون قدوةً نحتذي نحن بها»[72]. وإنّ رغبته نحو الحريّة تتّضح أكثر عندما يأتي ببيت من الشاعر الإسلامي السعد بن ناشب، الذي كان أصابه دما حيث هُدمت داره وأحرقت، فقال:

سأغسل عنّي العارَ بالسيف جالبا...........عَليَّ قضاءُ الله ما كان جالبا[73]

وهو يذكر في توضيح البيت أن العربيّ الحرّ بهذه الكلمات يمضي إلى ساحة القتال ولقاء الموت، ويقول: «والآن يبرز أمام الشعب الألماني السؤال عمّا إذا كان قد عقد العزم على أن يغسل بدمه العار القديم»[74]. فالواضح أنّ الأدب الذي يقصده نولدكه لا يكون أدبًا إلّا بمدى اقتداره على تصوير روح العصر وخصوصيّة المجتمع، وبالتالي عندما استحسن نولدكه هذا البيت وبعض مقاطع من القصائد الجاهليّة، فالواقع أنّه لم يستحسنها ولم يعجب بها إلّا لما يظهر فيها من القوّة والحريّة وعدم قبول الحقارة والوقوف بوجه العار، ولا يهتمّ بصحّة البيت أو كونه منحولًا أم لا.

الخاتمة
يتلخّص ممّا سلف أن نولدكه عندما طالع القرآن أصيب بالدهشة والخيبة. هو وجد نفسه أمام نصّ مختلفٍ يكسر أفق توقّعاته، وما إن يبدأ في قراءة القرآن حتّى يصطدم بتغييرات وتعديلات أجراها القرآن على سنن أدبيّة، وانزياحاتٍ ترسم مسارًا جديدًا، ومع أنّه يذكّر بالمسار القديم، لكنّه يحتفظ، في الوقت ذاته، باختلافه وتمايزه. إنّ هذه الانزياحات تؤدّي إلى خيبته وحكمه على الأسلوب القرآني بعدم الرشاقة وضعف الأناقة. إلّا أنّ هذه القيمة التي يسندها نولدكه للقرآن، في الواقع، هي ترجع إلى توقّعاته عن ضرورة تطابق شكل القرآن وأسلوبه مع المعايير الأدبيّة والمقاييس الجماليّة المترسّخة في وعيه. فبالنسبة إلى أدبيّة القرآن، كانت توقّعات نولدكه، عند تلقّيه القرآن تتشكّل عن معايير الشعر الكلاسيكي، وعن معايير الأنواع الأدبيّة السرديّة والخطابيّة القديمة، وكلّ من هذه المعايير ترسّخت في ذهنه عن أعراف الأدب اليوناني والأدب الجاهلي. وبناء على توقّعاته النابعة عن تلك الأعراف وفي ضوء ما يعرف من قوانين الشعر، حين يقرأ الآيات، يتوقّع أولًا أن تتوالى وحدات صوتيّة متماثلة، وأن يتألّف كلّ منها من الطول المتساوي، وثم يتوقّع أن تنتهي كلّ آية بمجموعةٍ من الأصوات المحدّدة التي تمثّل الفاصلة. وفي النهاية، يُصدر حكمًا لزيادة الآية أو الإلحاق بالتأخير للآية الخارجة عن النمط المتتابع. وعندما يرى في القرآن عدولًا واضحًا عن بنية المعايير الفنيّة المترسّخة في وعيه، يُصاب بالخيبة.

والواضح أنّه يُعلي من شأن الشعر الجاهلي؛ لأنّ هذا الشعر يتوافق مع المعايير وتوقّعاته الفنيّة الأرسطيّة التي ألقت بظلالها على المجتمع الألمانيّ في فترة حياة نولدكه وترسّخت في وعيه، وكذلك يتطابق مع نزعته الليبراليّة التحرّريّة، بينما يخالفها القرآن، وذلك أدّى إلى عدم إعجابه بهذا النصّ. ويمكن لأيّ قارئ أن يلحظ أن القرآن لا يبدو متوافقًا مع معايير الحريّة التي يقصدها الليبراليّون، وإنّه بوصفه نصًّا دينيًّا كلاسيكيًّا لا يستجيب لتلك الفكرة، بل لعلّه على النقيض منها. ففي الوقت الذي تلحّ الفكرة الليبراليّة على الحريّة، نرى القرآن يدعو إلى طاعة ربّ العالمين والتسليم لأوامره. ومن هذا المنظور، يُعتبر من النصوص الملحّة على العبوديّة. فإنّ مناخ عصر التنوير والقرن التاسع عشر لم يكن مهيئًا لقبول المفاهيم اللاهوتيّة الكلاسيكيّة بعدما عانوا من ضغوط الكنيسة طوال قرون. ففي عصرٍ طبيعته النفور من التسليم ويرى الأديان عاملًا قويًّا في سلب حريّاته، من الطبيعي أن يُلاقي القرآن ردودًا كردّ فعل نولدكه. فلا يُنتظر من نولدكه الذي تمّ تشكيل توقّعاته في أفقٍ يتأسّس على قيمٍ ليبراليّةٍ تُعلي من شأن الحريّة، أن يألف، أو يعجب، أو يكبر نصًّا يقع على الطرف النقيض من هذه الفكرة. ويبدو أنّ قيمة القرآن الجماليّة لديه تابعة للوظائف العمليّة التي يبحث عنها في دراسته للنصوص الأدبيّة. وقد اتّضح أنّه ينظر إلى الأدب من منظور وظيفته الاجتماعيّة. فما دام المتلقّون ينظرون إلى القرآن من منظور وظائفها العمليّة، فهم لن يقدروا على إدراك جماليّته كما ينبغي له.

لائحة المصادر والمراجع

أرسطو، الخطابة، تر: عبدالرحمن بدوي، دار القلم، بيروت، لبنان، 1979.
أرسطوطاليس، فنّ الشعر، مع الترجمة العربيّة القديمة وشروح الفارابي، ترجمة عن اليونانيّة والتحقيق عبدالرحمن بدوي، مكتبة النهضة المصريّة، القاهرة، 1953.
التبريزي، أبو زكريا، شرح ديوان الحماسة للتبريزي، الجزء 1، موقع المكتبة الإسلاميّة.
حسين، طه، في الشعر الجاهلي، ط3، دار النهر، 1996.
ريتشاردز، أ.أ، مبادئ النقد الأدبي والعلم والشعر، تر: محمّد مصطفى بدوي، الطبعة الأولى، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2005.
الزاوي، أحمد عمران الزاوي، جولة في كتاب نولدكه تاريخ القرآن، الطبعة الأولى، دار طلاس، دمشق، 2008.
السيد، رضوان، 2016، المستشرقون الألمان: النشوء والتأثير والمصادر، الطبعة الثانية، الطبعة الأولى 2007، دار المدار الإسلامي، ليبيا.
شولر، ماركو، پژوهش های قرآنی پس از دوره روشنگری در غرب، تر: علی آقایی، نشریه هفت آسمان، سال نهم، شماره 34، 1386.
عبّاس النصراوي، عادل، إشكاليّة فهم النصّ القرآني عند المستشرقين، الطبعة الأولى، دار الرافدين، بیروت، لبنان، کندا، 2016.
غنيمي هلال، محمّد، النقد الأدبي الحديث، نهضة مصر، القاهرة، مصر، 1997.
مطر الهاشمي، حسن علي حسن، قراءة نقديّة في (تاريخ القرآن) للمستشرق ثيودور نولدكه، الطبعة الأولى، دار الكفيل للطباعة والنشر والتوزيع، العتبة العباسيّة المقدّسة، 2014.
نولدكه، تيودور، تاريخ ايرانيان وعربها در زمان ساسانيان، تر: عبّاس زرياب، سلسلة انتشارات انجمن آثار ملي، 1358.
نولدكه، تيودور، من تاريخ ونقد الشعر العربي القديم، ترجمها عن الألمانية: عبد الرحمن بدوي، في ضمن كتاب دراسات المستشرقين حول صحّة الشعر الجاهلي، الطبعة الأولى، دار العلم للملايين، بيروت، 1979.
نولدكه، تيودور، تاريخ القرآن، نقله إلى العربيّة جورج تامر، الأجزاء الثلاثة في مجلّد واحد، الطبعة الأولى، مؤسّسة كونراد-أدناور، بيروت، 2004.
ياوس، هانز روبرت، جماليّة التلقي من أجل تأويل جديد للنصّ الأدبي، تر: رشيد بنحدو، الطبعة الأولى، المشروع القومي للترجمة، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2004.

لائحة المصادر الإنجليزيّة
Noldeke, theodor, The History of the Quran, translated by Wolfgang H. Behn, Brill, Leiden, 2013.
Noldeke, Theodor, Sketches from Eastern History, translated John Sutherland Black, London, Adam and Charles Black, 1892.
Noldeke, Theodor, The Quran: An Introductry Essay, N.A, Newman, Interdisciplinary Biblical Research Institute, Hatfield, USA, 1992.
Stefanidies, Emmanuelle, The Quran Made Linear: A Study of The ‘Geschichte des Quran’ Chronological Reordering, Journal of Quranic Studies, Volume 10, Issue (2), 2008.

-------------------------------
[1]*- باحثون في جامعة تربية المدرس؛ فرع اللغة العربیّة وآدابها - طهران.
[2]- نشرت لأوّل مرّة في العدد 16 من دائرة المعارف بيريطانيا وتمّ نشرها مرّة أخرى في كتابه «مشاهد من تاريخ الشرق» في سنة 1892 بعد تعديلات قام بها نولدكه.
[3]- Nِldeke, 1982, 21.
[4]- Ibid, 32.
[5]- Ibid, 34.
[6]- Nِldeke, 1982, 35.
[7]- نولدكه، 2004، 128.
[8]- ياوس، 2004، 46.
[9]- نولدكه، 2004، 106.
[10]- م.ن، 105.
[11]- نولدكه، 128.
[12]- م.ن، 2004، 87.
[13]- م.ن، 2004، 94.
[14]- م.ن، 96.
[15]- نولدكه، 34.
[16]- م.ن،  38.
[17]- م.ن، 2004، ، 116.
[18]- نولدكه، 117.
[19]- I.A. Richards.
ناقد أدبي وعالم بلاغة. أثرت كتبه في توجّهات النقد الجديد ككتاب «معنى المعنى» و «مبادئ النقد الأدبي» و «النقد العلمي».
[20]- ريتشاردز، 2005، 185.
[21]- نولدكه، 2004، 28.
[22]- نولدكه، 95.
[23]- م.ن، م.س، 110.
[24]- م.ن، 88.
[25]- م.ن، 89.
[26]- نولدكه، 128.
[27]- م.ن، 25.
[28]- Nِldeke, 1982, 32.
[29]- نولدكه، 2004، 37.
[30]- ياوس، 2004، 45.
[31]- ياوس، 45.
[32]- Noldeke, 2013, 260.
[33]- نولدكه، 2004، 289.
[34]- Nِldeke, 1982, 32.
[35]- نولدكه، 2004، 34.
[36]- نولدكه، 2004، 34.
[37]- نولدكه، 35.
[38]- م.ن.
[39]- م.ن، 36.
[40]- م.ن، 2004، 41.
[41]- نولدكه، 40.
[42]- Nِldeke, 1982, 33.
[43]- نولدكه، 2004، 39-40.
[44]- م.ن، 34.
[45]- ريتشاردز، 2005، 191.
[46]- ياوس، 2004، 47.
[47]- ياوس، 24-25.
[48]- نولدكه، 1358، 4.
[49]- انظر غنيمي هلال، 1997، 121-122.
[50]- نولدكه، 2004، 33.
[51]- أرسطو، 1979، 9.
[52]- غنيمي هلال، 1997، 99.
[53]- غنيمي هلال، 100.
[54]-  م.ن، 1997، 108.
[55]- نولدكه، 2004، 105.
[56]- غنيمي هلال، 1997، 107.
[57]- نولدكه، 2004، 106.
[58]- م.ن، 2004، 128.
[59]- انظر أرسطو، 1953، 26.
[60]- نولدكه، 2004، 28.
[61]- Nِldeke, 1982, 24.
[62]- راجع أرسطو، 1953، 25.
[63]- Nِldeke, 1982, 24.
[64]- ريتشاردز، 2005، 180.
[65]- نولدكه، 1979، 39.
[66]- أرسطو، 1953، 26.
[67]- نولدكه، 1979، 40.
[68]- شولر، 1386، 42.
[69]- حسين، 1996، 57.
[70]- Newman, 1992, 1.
[71]- نولدكه، 1358، 4.
[72]- نولدكه، 1979، 40.
[73]- التبريزي، 1، 53.
[74]- نولدكه، 1979، 40.