البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

صورة المغرب في الخطاب الرحلي النسوي الفرنسي "رحلة رينولد لادريت دو لاشاريير أنموذجًا"

الباحث :  قاسم الحادك
اسم المجلة :  دراسات اسشتراقية
العدد :  32
السنة :  خريف 2022م / 1443هـ
تاريخ إضافة البحث :  October / 12 / 2022
عدد زيارات البحث :  1314
تحميل  ( 490.422 KB )
الملخّص
تعدّدت الرحلات الاستكشافيّة إلى المغرب باختلاف دوافعها وخلفيّاتها وظروفها والتجربة الإنسانيّة التي نتجت عنها. فزار المغرب عدد كبير من الرحّالين الأوروبيّين والفرنسيّين على الخصوص، وعملوا على اكتشاف التراث الثقافي المغربي الذي يتميّز بالتنوّع والغنى، ومعرفة لغاته ومؤسّساته وقبائله وزواياه وأنماط معتقداته وأعرافه. فدوّنوا هذه المعلومات الكثيرة في نصوص رحليّة لاقت شهرة كبيرة.

تروم هذه الورقة تسليط الضوء على واحدة من أبرز النصوص الرحليّة النسويّة إلى المغرب، فقد وفدت الرحّالة والمستكشفة الفرنسيّة «رينولد لادريت دو لاشاريير» إلى المغرب في مناسبتين في بداية القرن العشرين، وغامرت بولوج مناطق بعيدة عن النفوذ المخزني، وتطلّعت إلى مراكمة قدر كبير من المعرفة الميدانيّة. اتّسم متنها الرحلي بالدقّة والتفصيل، من شأنها أن تسهم في رصد أحوال المغاربة وفهم ذهنيّتهم وثقافتهم وواقعهم وأنماط عيشهم. بيد أنّ هذه الرحلة وكغيرها من الرحلات الاستكشافيّة المتأتّية من الأقطار الأوروبيّة المعنيّة بمصير المغرب، ارتبطت ارتباطًا قويًّا بخدمة المشاريع والمخطّطات الاستعماريّة، ولم تستطع الفكاك من إسار الأفكار المسبقة المسيّجة بالإيديولوجيا، أو التحرّر من ربقة النظرة الاستشراقيّة التي أرست رؤى نمطيّة عن الآخر المتمايز ثقافيًّا، والتي تردّدت في مواضع عديدة من ثنايا متنها الرحلي.

كلمات مفتاحيّة: الرحلات النسويّة، المغرب، الصور النمطيّة، الاستعمار، الاستشراق.

مدخل
شرعت الرحلات الأوروبيّة في صيغتها الأنثويّة في شقّ طريقها نحو المغرب منذ القرن الثامن عشر، وإن على نحو محدود جدًّا، بيد أنّ الفترة الممتدّة من النصف الثاني من القرن التاسع عشر إلى بداية القرن العشرين شهدت تراكمًا ملموسًا في الرحلات النسويّة إلى المغرب، حيث تقاطرت على المغرب العديد من الرحّالات الأوروبيّات لدوافع وأغراض مختلفة، راكمن نصوصًا رحليّة متنوّعة دوّنّ عبرها مشاهداتهنّ وانطباعاتهنّ عن المغرب والمغاربة، وإن لم تبلغ كمّيًا ما أنجزه الرحّالون الذكور. ومن أبرز هؤلاء الفرنسيّة رينولد لادريت دو لاشاريير التي وفدت على المغرب برفقة زوجها بحر سنتي1910  و1911 في بعثة لحساب لجنة المغرب، وتمخّضت مغامرتها عن إنتاج نصّ رحلي غاية في الأهمّية، فعلاوة على كونه نصًّا نسويًّا يعكس الفروقات والتمايزات بين الرحلات الذكوريّة والأنثويّة، فقد اتّسمت رحلتها بطابع خاصّ ميّزها عن غيرها، بالنظر إلى السياق الذي تمّت فيه، والمتمثّل في الظروف العصيبة والحسّاسة التي كان يجتازها المغرب آنذاك قبيل فرض الحماية الفرنسيّة، وهو ما أضفى عليها أهمّية استثنائيّة. فجاءت رحلتها ترصد واقع المجتمع المغربي مجالًا وإنسانًا وثقافة، وتقدّم وصفًا دقيقًا لأجواء المغرب مع بدايات الاستعمار، فضلًا عن مشاهداتها وانطباعاتها عن بلد مثير لفضول الأوروبيّين، ورصدها لعدد من المظاهر الاجتماعيّة والطقوسيّة ولكلّ ما أحاطت به خلال رحلتها مشاهدة وسمعًا ومعايشة، لا سيّما أّنها وصلت مناطق متمنّعة واقتحمت أماكن محظورة.

فما هي خصوصيّات هذا النصّ الرحلي النسوي؟ وكيف قدّمت لاشاريير مغرب أوائل القرن العشرين؟ وما الذي يميّز رؤيتها كرحّالة امرأة لأوضاع المغرب وتفاعلها مع عاداته ومظاهره الاجتماعيّة؟ وهل اختلفت انطباعاتها إزاء المجتمع المغربي عن غيرها من الرحّالين السابقين عليها واللاحقين أم تقاطعت معهم بحكم الانتماء إلى المنظومة الحضاريّة نفسها؟

أوّلًا: لاشاريير فرنسيّة في مغرب أوائل القرن العشرين:
المعرفة في خدمة الاستعمار
تندرج رحلة لاشاريير إلى المغرب في سياق سعي المؤسّسات العسكريّة والسياسيّة الفرنسيّة لتوظيف العلم والمعرفة خدمة لأهدافها ومخطّطاتها الاستعماريّة، باعتبارهما أداة فعّالة لاستكشاف المجال المغربي تمهيدًا لاحتلاله وتسهيلًا لغزوه، ولأجل ذلك تمّ تجنيد كوكبة من الرحّالة والأطباء والعسكريّين الذين انطلقوا في سباق محموم للقيام بجولات داخل المغرب واختراقه طولًا وعرضًا، والمغامرة والمخاطرة بولوج مناطق بعيدة عن النفوذ المخزني، متطلّعين إلى مراكمة قدر كبير من المعرفة الميدانيّة، من شأنها أن تسهم في رصد أحوال المنطقة بكل تفاصيلها، وفهم ذهنيّة المغاربة وثقافتهم وواقعهم وأنماط عيشهم. ويعدّ رايمون توماسي Raymond Thomassy من أبرز روّاد الفكر الاستعماري ومنظّريه الأوائل الذين نادوا بضرورة جعل المعرفة بوّابة لاستكشاف المغرب، حيث أكّد في تقرير وجّهه إلى حكومة بلاده «...على فرنسا أن تبادر إلى التعرّف على ساحة المعركة حيث تنتظرها مصائر تزداد مجدًا كلّما كانت أقلّ دمويّة، وانتصارات تزداد رسوخًا كلّما نيلت بأسلحة أكثر سلميّة...إنّ العلم هو أحد هذه الأسلحة وأوّل سلاح ينبغي توظيفه، لأنّه هو الذي سيعمل على تعبيد الأرضيّة التي ينبغي الزحف إليها»[2]. وإذا كانت مواكبة البعثات الاستكشافيّة للتدخّل الاستعماري ظاهرة عامّة تتّصل بعلاقة العلم والمعرفة بالسلطة[3]، فإنّ المسألة في المغرب اتّخذت طابعًا متميّزًا، فقد اتّخذت محاولة التعرّف والاستكشاف بعدًا مؤسّساتيًا يحظى بكلّ أنواع المساندة والدعم عندما تأسّست البعثة العلميّة بالمغرب سنة 1904، وحملت على عاتقها مهمّة رصد الواقع المغربي بكلّ تفاصيله، وأصبحت المعرفة حتّى في مرحلتها الاستكشافيّة الوصفيّة أداة فعّالة للغزو تعكس أطماع فرنسا الاستعماريّة، وهو ما أكّدته لوسيت فالينسي Lucette Valensi بقولها «ليس هناك فرق بين البحث العلمي والعمل العسكري، والاستكشاف هو من بين أدوات الغزو»[4].

وفدت الرحّالة والمستكشفة الفرنسيّة «لاشاريير» على المغرب في مناسبتين، الأولى سنة 1910، والثانية سنة 1911، زارت خلالهما أهمّ المدن ذات الحضور التاريخي والسياسي في مغرب مطلع القرن العشرين. انطلقت في رحلتها الأولى من الدار البيضاء مرورًا بأزمور وصولًا إلى مراكش، فيما قادتها رحلتها الثانية إلى منطقة سوس، وأنهتها في طنجة مرورًا بالرباط وسلا والقنيطرة ومكناس وفاس[5]. ورغم أنّها تنتمي إلى نموذج الرحّالات المستكشفات اللواتي تملكهنّ حسّ المغامرة لولوج المناطق الأكثر استعصاء على الغريب، إذ تعدّ أوّل امرأة أوروبيّة تغامر بالوصول إلى مدينة تارودانت في قلب سوس في ظرفيّة زمنيّة محفوفة بالمخاطر، في ظلّ غياب الأمن وشيوع الفوضى، فإنّه لن يغيب عن المتمعّن في الباعث على رحلتها وغاياتها، أنّها لم تكن مجرّد مغامرة وارتياد للمجهول، بل ارتبطت ارتباطًا قويًّا بخدمة المشاريع والمخطّطات الاستعماريّة الفرنسيّة، فكان الهاجس الاستخباراتي حاضرًا بقوّة، إذ تحمّست بفضول كبير للتعرّف على المغرب، يدفعها حبّ المغامرة بمعيّة فريقها إلى كشف أسراره وإزاحة النقاب عمّا خفي من مجاهله في إطار اتفاق مسبق ودعم واضح. فقد خاضت غمار الرحلة والمغامرة رفقة زوجها في بعثة استكشافيّة لحساب لجنة المغرب، وتمّ توزيع الأدوار بينهما، «فبينما كان الزوج يؤمّن الرحلة ويجمع المعلومات الاستخباراتيّة الهامّة والشاملة تولّت هي تدوين المذكرات...وعندما رجعا سنة 1912 قدّما تقريرًا مفصّلًا عن الرحلة غلّف بستار المحاضرة أمام لجنة المجتمع والجغرافيا»[6].

حاولت لاشاريير إصباغ الفضاء المغربي بصبغة الجمود والبؤس، وتناولته عبر غرائبيّته، وكرّست رؤية إثنوغرافيّة حوله مشبعة بالدهشة والإثارة والغرابة والهمجيّة. ولم تستطع الرحّالة «أن تخفي ازدراءها لكثير من الناس، أو تطمر تدمّرها من العفن والوسخ وقطع الطريق، أو تبتلع سخريتها من ثقافة المغاربة»[7]. كما صوّرت «بكثير من التحرّي المقصود مشاهد الاصطدام الحضاري بين التقدّم والتخلّف على نحو الطريقة التي كان يستقبل بها المغاربة مبتكرات الحضارة الغربيّة»[8]. ودافعت عن المشاريع الاستعماريّة لبلدها التي تقدّم فرنسا دولة حاملة لرسالة حضاريّة تروم إنقاذ المغاربة من أغلال التقليد وإخراجهم من الظلمات، وجلب الحضارة والتمدين والرخاء وقيادتهم للانخراط في العصر، ولذلك لم تخف انشراحها لتوغّل القوّات الفرنسيّة واحتلالها للعديد من المدن قبيل فرض معاهدة الحماية[9]، حيث قالت «وصل الرقّاص المنتظر بأمر من القنصل بالرجوع السريع، لكنّ البريد كان متأخّرًا، فقد جاء في رسالته أنّ الاحتلال عبر الرباط في اتجاه فاس. لم نصدّق هذا الخبر الرائع وغير المنتظر»[10]. 

تركت لنا نصًّا رحليًّا مهمًا عدّه ماركيز دوسيكونزاك في تقديمه «كنزًا إثنوغرافيًّا نادرًا، فمواده دقيقة وواضحة مكّنتنا من التعرّف على خصوصيّة المجتمع المغربي في مرحلة بدأت تهبّ فيها رياح التغيير على روح ثقافة المغاربة والاصطدام بقيم غربيّة تعصف بالأصالة البربريّة، والجمال الفطري...»[11]. تضمّن كمًّا هائلًا ودقيقًا من المعطيات والمعلومات عن فترة حرجة جدًّا من تاريخ المغرب، قبيل سريان عقد الحماية الفرنسيّة بقليل، وما عرفه طيلة هذه الفترة الزمنيّة من أحداث سياسيّة واجتماعيّة متقلّبة ومتسارعة[12]، أسهمت بشكل كبير في توجيه تاريخ المغرب المعاصر والتأثير في بنياته العتيقة. كما سلّطت الضوء في رحلتها على جملة من الظواهر شديدة الأهميّة، يتعلّق أبرزها بتفشّي اللصوصيّة وقطّاع الطرق في تلك الفترة الزمنيّة، علاوة على انتشار المجاعة وتفشّي الأوبئة[13]. بيد أن ما يميّز متنها الرحلي هو طابعه الإثنوغرافي المتّسم بغزارة المعطيات السوسيوثقافيّة وأهميّتها، فقد أولت كغيرها من الرحّالين الوافدين على المغرب اهتمامًا بالغًا بوصف مظاهر وأنماط الحياة الاجتماعيّة، فحبل متنها الرحلي بالكثير من المعلومات المهمّة جغرافيًّا وثقافيًّا، المستندة على الملاحظة الشخصيّة في الوصف والتقصّي وتسجيل المشاهدات. كما نجحت في سبر أغوار المجتمع المغربي وإبراز خصوصيّاته. واستطاعت النفاذ إلى المعيش اليومي للمغاربة، وسجّلت انطباعاتها ومشاهداتها بخصوص ظروف وأنماط عيشهم وأنشطتهم بكلّ تفاصيلها وحيثيّاتها، وأضاءت عليها بجدّية ونجاعة، فضمّنت رحلتها إفادات مهمّة عن وضعيّة الحريم وأدوارهنّ في العلاقات الاجتماعيّة، وظروف عيش اليهود المغاربة، والفوارق الاجتماعيّة[14]، علاوة على بعض الممارسات الاجتماعيّة اللافتة للنظر مثل النخاسة، وقدّمت تفاصيل مهمّة عن عدد من الطقوس والعادات والتقاليد الثقافيّة والرمزيّة، منها ما تعلّق بالأطعمة والأشربة أو باللباس والحلي والتسليات.

ثانيًا: مشاهدات وانطباعات لاشاريير عن المرأة المغربيّة
ضمّت نصوص أغلب الرحّالة الأوروبيّين مضامين سلبيّة كثيرة عن النساء المغربيّات، شابها الكثير من التحامل والتعصّب، وانطوت على اجترار لصور نمطيّة ذات نفس استشراقي لا تغادر خانة اعتبارهنّ أشبه بالسجينات، مسكونات بالغواية والسحر، يعانين الاضطهاد، قياسًا بما تتمتّع به المرأة الأوروبيّة من تحرّر. وكانت هذه الأحكام والمواقف التي انطلقت من تحيّز مسبق نتاج إيمان بتفوّق العنصر الأوروبي بالدرجة الأولى، وتفوّق ثقافته على غيرها من الثقافات. وزاد من حدّة هذه المركزيّة الأوروبيّة التي لم يستطع هؤلاء الرحّالة الفكاك من إسارها أو التحرّر من ربقتها، عجزهم عن الدنو من عالم النساء المغلق أو رؤيتهنّ والاتصال بهنّ، واقتصارهم على استراق النظر إليهنّ من على شرفات المنازل[15]. فقد انتقدت لاشاريير وضعيّة المرأة المغربيّة المزري بطريقة أكثر واقعيّة منفلتة من النظرة الاستشراقية، عكست واقعها بجوانبه السلبيّة والإيجابيّة، وقدّمت صورًا حيّة للمرأة المغربيّة في بيئتها أقرب إلى الواقع، على نحو يغاير كتابات من سبقها من الرحّالة.

خصّصت الرحّالة الفرنسيّة حيّزًا معتبرًا للنساء المغربيّات سواء المسلمات منهنّ أو اليهوديّات، ودوّنت مجموعة من الملحوظات بشأن أوضاعهنّ ونمط زيّهن وأنشطتهنّ، مستفيدة من نجاحها في استكشاف مؤسّسة الحريم المحرّمة على الرحّالة الرجال، حيث استطاعت النفاذ إلى إقامات الحريم في قصور كبار القوّاد والأعيان، ودخلت إلى البيوت المغربيّة واختلطت ببني جنسها في مجتمع محافظ، واطّلعت على أسرار أجواء الحريم وطرق عيشهنّ وتعاملهنّ، وضمّ متنها الرحلي بين طيّاته مشاهدات وصورًا متعدّدة عن واقع المرأة، وأحوالها في الحياة الخاصّة والعامّة. واللافت للانتباه عند لاشاريير هو «تعاطفها الكبير مع النساء المسلمات في مختلف المنازل الاجتماعيّة، سواء كنّ صالحات أو زوجات سلاطين، أو من كانت بهنّ حظوة لدى المخزن، أو زوجات موظّفين كبار أو باشوات، أو إماء في المنازل والقصور أو بدويّات رحّل أو قينات من مختلف الأعمار والديانات»[16].

لم تخف لاشاريير إعجابها بجمال عدد من النسوة المغربيّات، ولم تغفل تدوين مشاهداتها على الصور والمشاهد التي استوقفتها وأثارت إعجابها، فوصفت زوجة خليفة أمزميز بكونها جميلة ودقيقة القسمات، والأمر ذاته بالنسبة لزوجة إدريس المقري ذات «الجمال الفاتن» التي وسمتها بـ»الصغيرة الفاتنة في قفطانها الرائع»[17]... واهتمّت المرأة المغربيّة أيضًا بصنوف أخرى من الزينة على شكل مجوهرات وحلي تصنع من الفضة أو الذهب، مثل العقود والمتبور والخميسة لدرء العين والحماية من الحسد، ويتشكّل العقد «من قطع فضيّة تتوسّطه حجرة كريمة وتزيّن الجبهة قطعة ذهبيّة أو زمرديّة، وغالبًا ما تمتلئ المعاصم بالأساور، ولا توضع في الأرجل مطلقًا، وتكون الحلقات في الأذن دائريّة بأحجام كبيرة. وتفضّل النساء أن يكون بلون أحمر لئلّا يظهر ما يعلق بها من وسخ من جهة، ولتتحمّل كثرة استعمال الماء عند القيام بالأشغال المنزليّة»[18]. ولم تكن مظاهر الزينة خاصّة بالمرأة الحضريّة فقط، بل كانت البدويّات بدورهنّ «يحملن في أعناقهن عقودًا من حجر أحمر مرجاني والعنبر الخام، وأحزمتهنّ من الصوف الأحمر مزيّنة بجواهر وأصداف»[19]. وأشارت الرحّالة إلى أنّ المرأة الأمازيغيّة تبقى عمومًا أكثر عناية بأمور الزينة[20].

 صوّرت لاشاريير المغربيّات مشغولات بالنشاطات اليوميّة في أغلب الأحيان في الحواضر كما البوادي، فبعد الفراغ من أشغال البيت تقضي النساء سحابة يومهنّ منهمكات في نسج الزرابي وصناعة الصوف والحرير، كما كنّ «يصنعن من الطين الأطباق الكبيرة، التي تستعمل لعجن الخبز، ويبعنها في الأسواق. وبعضهنّ يصنع الخيوط المستعملة في صناعة الحقائب الجلديّة، أو يحترفن «ترقيع» الثياب. وكثير منهنّ يشغلن في الحقول، ويقمن بأعمال الرجال من زرع وحصاد، الأمر الذي لا تفعله الفلّاحات في بلداننا إلّا عند الضرورة «[21]. وقد عاينتهنّ الرحّالة في أسواق مدينة الرباط، وهنّ «ينتظرن ما سيسفر عنه المزاد العلني الذي سيحدّد قيمة منسوجاتهنّ إلى جانب بعض الأدوات التقليديّة والسراويل، وكان الدلّالة يصرخون في حركة دائبة واضعين الجلابيب فوق رؤوسهم، ويستحثّون المشترين على الزيادة في الأثمان»[22]. والأمر ذاته في مدينة مراكش، حيث جلست «كثير من النساء بالقرب على أطراف ساحة جامع الفنا يبعن الأمتعة القديمة والجواهر الكبيرة»[23]. أمّا في البوادي فكانت النساء تشتغلن في الحقول، وتنهضن بقسط وافر من أعباء العمل الزراعي، من سقي وجلب الماء وزرع وحصاد وجمع للمحاصيل وغيرها من أعمال الرجال[24]. ولم تغفل الرحّالة عن إبراز الوجه الآخر للمرأة المغربيّة المتمثّل في ارتباطها بأعمال السحر الشعوذة، ومزاولتها لهذه الطقوس والممارسات لفائدة «المهتمّين بالتنقيب على الكنوز المدفونة في باطن الأرض، أو قتل عدوّ، أو ربط حبال المودّة بين العشاق. ويتقاسم معها هذه المهام الطالب الذي يقدّم وصفاته للنساء اللواتي زهد فيهنّ أزواجهنّ بكتابة طلاسم على ورق، ثمّ غمسه في الماء قبل أن يقدّم مشروبًا للمعني بالأمر. وتلجأ المغربيّات أيضًا إلى استعمال ورق التوت بخورًا»[25]. وما تزال هذه الصورة السلبيّة النمطيّة الملتصقة بالمرأة المغربيّة راسخة في أذهان الكثيرين حتّى يومنا هذا.

أمّا فيما يخصّ اللباس، فإن أوّل ما استرعى انتباه الرحّالة لاشاريير بخصوص النساء المغربيّات في الحواضر هو نمط التزيي لديهن، لا سيّما أجسادهن الملفوفة في حايك أبيض كبير عبارة عن قطعة ثوب سميكة تستر أجسامهن من قمّة الرأس إلى أخمص القدمين، ولا تكاد تظهر منه سوى العينين[26]. أمّا النساء اللواتي يعشن في مناطق ريفيّة، فكانت أذرعهن عارية إلى الكتف، ولا يضعن «الحجاب» إلّا نادرًا، وإنّما يضعن على رؤوسهن مناديل قطنيّة حمراء أو صفراء.[27]

كما وقفت الرحّالة على تعدّد وتنوّع أنماط التزيّي والألبسة، وتمايزها حسب المناطق وحسب الفئات الاجتماعيّة، كما هو وارد في جلّ المتون الرحليّة الأوروبيّة السابقة، «فنساء الحواضر يرتدين القفاطين القطنيّة الملونة بألوان فاقعة مع نُطُق تعكس مراتبهن الاجتماعيّة»[28]، وكان زي النساء المنتميات إلى أوساط ميسورة يتكوّن «من القفطان الشبيه بقفطان الرجال، ويضعن فوقه تشامير، وهو عبارة عن قطعة ثوب خفيفة. وتتكوّن «اللبسة» الواحدة من ثلاث أو أربعة ألبسة مختلفة، لكن تكون واحدة منها مميّزة يوم الجمعة»[29]. أمّا النساء الفقيرات فليس لهنّ «سوى لباس واحد يغسلنه للمناسبات والأعياد وقميص الليل يسمّى التشامير، لكن دون إضافات»[30].

كما عاينت الرحّالة في طريقها إلى مراكش بعض النساء يرتدين زيًّا أسود على الطريقة الصحراويّة، يتكوّن من «خنث يجمعن أطرافه إلى الكتفين بقطع معدنيّة، وحبل يوضع على خواصرهنّ قرب الكليتين، ومنديل يغطّي شعرهنّ مع وشم يزيّنهن «[31].

ثالثًا:العبوديّة والنخاسة في ملاحظات ومعاينات لاشاريير
 استأثرت مسألة العبيد السود باهتمام كبير من قبل الرحّالة والمستكشفة الفرنسيّة لاشاريير، حيث أوردت بشأنها إشارات مهمّة على طول متن الرحلة، فأسهبت في وصف أحوال العبيد الزنوج، وسعت إلى التنقيب في تفاصيل حياتهم اليوميّة وإسهاماتهم البارزة أو الخفيّة. وقدّمت صورًا متعدّدة عن الخدمات التي قدّموها، والتي تنوّعت بتنوّع مجالات حضورهم، والأدوار الاجتماعيّة التي اضطلعوا بها. وحسب لاشاريير فقد عكست وظائفهم داخل قصور كبار القوّاد والأعيان مظهرًا من مظاهر التراتبيّة، فبينما اضطلعت الإماء عادة بكل ما يتعلّق بالخدمات المنزليّة، من تنظيف وطبخ و...، استخدمت البقيّة خدمًا في شتّى أنواع الخدمة، لا سيّما تلك التي تستوجب المشقّة، من قبيل الزراعة وأعمال البناء وحفر الآبار، وسجّلت الرحّالة أنّهم امتازوا بفعاليّتهم وإتقانهم للمهام الموكولة إليهم.

وانطلاقًا من هذا المتن الرحلي يتّضح أنّ العبوديّة كانت متفشّية ومألوفة عند المغاربة، وظاهرة مترسّخة في نسيج المجتمع المغربي، صارت معها فئة العبيد عنصرًا متقبّلًا من قبل المغاربة. فحتّى مطلع القرن العشرين ظلّ العبيد والخدم السود كثيري العدد في أغلب المدن المغربيّة. وقد أضاءت الرحّالة على أوضاعهم الاجتماعيّة الهشّة، وما كانوا يعانونه من قسوة ومهانة، وتكفي الإشارة إلى أنّهم كانوا يقتاتون على ما تبقّى من الطعام، فقد «كان الخدم يأكلون في الخارج ما تبقّى، وبعد ذلك يعطون البقيّة للعبيد ثمّ المتسولين...»[32].

بيد أنّ أهمّ الإشارات التي أوردتها لاشاريير في رحلتها بخصوص ظاهرة النخاسة، والتي تؤرّخ لمعاناة العبيد، وتبرز بوضوح الوضعيّة الدونيّة لفئة العبيد السود التي كانت أقلّ شأنًا من الدّواب، تلك المتعلّقة بحضورها لمزاد بيع العبيد ومعاينتها عمليّات بيع وشراء العبيد والإماء بسوق النخاسة في مدينة مراكش، ووصفها التقاليد المعمول بها في البيع والشراء، والتي كانت تتمّ وسط متابعة «الأهالي»، فقد كانت سوق المتاجرة بالعبيد «عبارة عن معرض مفتوح، يأخذ الدلّال الطفل أو المرأة من اليد ويعرض سلعته على المشترين رافعًا صوته بآخر مبلغ قدّم ثمنًا له، أو لها، كان المساكين مشدوهين، وقلوبهم تخفق بقوّة قطعة الثوب التي ألبسوها، ثمّ يأتي الدور على زنجيّة مرتدية قطعة ثوب قطنيّة مزيّنة بورود حمراء...، وزادوا في قيمتها لأنّها تحسن الطبخ...، ومرّت امرأة من «السودان» أمامنا نحيفة... رأسها صغير رقيق وتحمل طفلًا زنجيًّا صغيرًا حولها معقودة بقطعة صوف، وقدّرت ثمنها إحدى الخلاسيات (امرأة لونها بين البياض والسواد) بمائة وستين دورو، والطفل الزنجي الصغير بمائة وخمسين بسيطة»[33].

واستنكرت الرحّالة الطريقة البشعة التي كانت تجري بها عمليّات البيع المباشر للعبيد والإماء، الذين يساقون عنوة دون رحمة إلى سوق النخاسة فاقدين الإحساس بآدميتهم، يبيعونهم كما يبيعون البضائع والماشية تمامًا. وكانت أسعار البيع تتفاوت حسب السنّ والجنس، فكانت الإماء اللائي يبعن بسعر أفضل هنّ المتقنات لأعمال مميّزة، كالإلمام بالخدمات البيتيّة وتربية الأطفال وفنون الطبخ والحرف المنزليّة. ولم يستثن الأطفال أيضًا، بما في ذلك فتيات صغيرات جدًّا في السنّ، حيث تقول الرحالة: «ورأيت أمامي فتاة، من فرط نحافتها، برزت عظام جسمها الصغير، لم يهتم أحد باقتنائها، فلم تساوم بثمن يذكر...أشفقت عليها، وأردت أن أقدّم لها شيئًا تأكله، لأنّ شبح الموت يخيّم على وجهها، لكنّ السي محمّد أكّد لي أنّ البائع لا بدّ أن يبيعها بأيّ ثمن...وفي زاوية كانت تصرخ زنجيّتان بقرحة ومرارة، إحداهما في عمر الورود، لم يتجاوز سنّها السادسة أو السابعة ترتدي قفطانًا قطنيًّا جديدًا»[34].

 ورغم مشاعر الأسى والحزن التي انتابت الرحّالة جرّاء هذا المشهد اللاإنساني[35]، فإنّها لم تتردّد بدورها في النظر إلى العبيد نظرةً دونيّةً، واللجوء إلى قاموس التحقير والقدح في وصفها «لعبد» صغير بقولها: «نظر إلينا «عبد» خادم مرح عمره ثمان سنوات، أو يزيد اشتراه سيّده بمائتي بسيطة، للخادم رأس صغير ومدور كرأس قرد..»[36].

سعت لاشاريير من خلال ما أوردته من إشارات عديدة عن الممارسات الاجتماعيّة اللافتة للنظر ذات الصلة بوضعيّة العبيد والإماء، وأحوالهم ومكانتهم في المجتمع وما يعانونه من قسوة وشظف ومهانة، إلى ترسيخ صورة حالكة عن وضعيّتهم الاجتماعيّة، مدينة سلوك المغاربة وذهنيّتهم. بيد أنّ مقاربتها لموضوع العبوديّة في المغرب لم تشكّل استثناء، فجميع الرحلات المتأتّية من الأقطار الأوروبيّة تجاهلت إسهام الأوروبيّين في فظائع تجارة الرقيق عبر المحيط الأطلسي، وتأثير تلك التجارة على المجتمعات الأفريقيّة[37].

رابعًا: الأسواق والحركة التجاريّة في مشاهدات لاشاريير
أفردت لاشاريير حيّزًا مهمًا في متنها الرحلي للحديث عن الأسواق والمحلّات التجاريّة، ضمّنته مشاهدات وانطباعات وصفيّة دقيقة، أعطت صورة واضحة عن حركيّة الأسواق والبضائع المعروضة، سواء تعلّق الأمر بالأسواق الأسبوعيّة التي تقام في يوم محدّد من أيام الأسبوع وتحمل اسم اليوم الذي يعقد فيه، أو تلك الدائمة التي تتّخذ مكانًا لها داخل المدينة، على غرار سوق مدينة أزمور الذي لم تخف الرحالة متعتها وهي تتجوّل فيه، وتتردّد على دكاكينه الصغيرة المتلاصقة جنبًا إلى جنب، حيث قالت: «كنّا نجد متعة في التجوّل في السوق، حيث كانت السلع معروضة على الأرض، والدكاكين الصغيرة على طول الزقاق»[38]. 

وجدت الرحّالة الأسواق المغربيّة ذات جاذبيّة، ولم تسأم من ضجّة الناس فيها وازدحام المتبضّعين ورؤيتهم يمرّون أمامها جيئة وذهابًا[39]، فاستفاضت في وصف هذا النمط من الأسواق التقليديّة بدقّة، من حيث مرافقها وفضاءاتها، واستعرضت أصناف السلع والمنتجات المحليّة التي تعجّ بها. ومن الأسواق التي زارتها الرحّالة سوق اثنين الشياظمة وشتوكة، حيث وقفت على تنظيم السوق، فكلّ مكان يختصّ بسلعة أو حرفة معيّنة، فالجزّارون يعرضون «البهائم المذبوحة على أوراق الشجر أرضًا ويغسلونها بالمياه بكثرة...، ويوجد في مكان آخر عال بائعو «الجرابات الدوميّة، والحمير والبغال و«الجحوش» والجمال المربوطة تحرّك أشداقها بحيوية. كما يوجد الفخّارة وأواني الكسكس (طعام مغربي) تحت الخيام القديمة. كما أنّ هناك أهالي يجلسون أرضًا لبيع الشموع والحناء وأدوات الطيب والكحل والبخور والتمائم وبعض المساحيق تعلوها رايات صفراء بها معالجون (أطبّاء) للأهالي»[40].

وبالإضافة إلى كونها مكانًا للتبادل التجاري، قامت الأسواق أيضًا بأدوار مهمّة أخرى، حيث شكّلت مجالًا لنقل الأخبار وتبادل المعلومات. وقد أثارت الرحّالة الانتباه مبكّرًا للأهمّية التي سوف تكتسيها الأسواق طيلة مرحلة الحماية الفرنسيّة كآلية أساسيّة من آليّات تجميع المعلومات والتجسّس على القبائل المقاومة، حيث عاينت الضبّاط في سوق اثنين الشياظمة وشتوكة وهم «يقومون بجولة في هذه الأسواق كلّ يوم اثنين، حيث تجمع كلّ المعلومات عن التمرّدات التي تتشكّل لأنّها تعد ملتقى هامًّا للأهالي»[41].
وارتبطت الأسواق التقليديّة حسب الرحّالة بمجموعة من الظواهر الاجتماعيّة والثقافيّة المتجذّرة، والتي ما يزال بعضها منتشرًا إلى يومنا هذا، وفي طليعة هذه الظواهر تقديم خدمات طبيّة تقليديّة من قبيل الحجامة، علاوة على المقاهي التي شكّلت فضاء للأكل والتواصل الاجتماعي. وحفلت الأسواق أيضًا بعبق التاريخ وحكاياته، وشكّلت فضاء لما يعرف في المغرب بفنّ الحلقة، حيث عاينت الرحّالة حلقات لحكواتيين وهم يأسرون المتجمّعين حولهم، ورصدت تفاعلهم مع حالة الفرجة التي يخلقها الراوي بقولها:«تحلّق جمّ غفير حول الحكواتيين الذين يصدرون كلمات متقطّعة مرفوقة بنقرات على آلات إيقاعيّة»[42].

ولما كانت الأسواق مرفقًا ضروريًّا وحيويًّا يتيح للقبائل التزوّد بكلّ ما تحتاج إليه من السلع الاستهلاكيّة الضروريّة، فقد حرص الجميع على توفير الأمن والسلام فيها، والتصدّي لظاهرة اللصوصيّة وعمليّات السرقة التي كانت الأسواق مسرحًا لها، حيث عاينت الرحّالة «إيقاف أحد لصوص الحمير بالسوق، فاجتمع عليه الناس صائحين ومندّدين، وسيتلقّى حكمه من الخليفة المكلّف بالشرطة».[43]

وحظيت القيساريّات بدورها باهتمام الرحّالة، وهي نمط من الأسواق عبارة عن «معرض دائم تزيّنه الحوانيت الصغيرة»[44]، تحتلّ مواقع متميّزة، وغالبًا ما تكون وسط المدينة. وتضمّ القيساريّة مجموعة من الحوانيت والدكاكين المنظّمة حسب المهن والحرف. ومن الأسواق، التي تضمّها القيساريّة في مدينة مراكش والتي زارتها الرحّالة، سوق البلاغي، حيث عاينت الدلّالة وهم «يصرخون بآخر ثمن دفع مقابل بلغة جلديّة جميلة جدًّا، وأخرى ملوّنة أو مزيّنة بخيوط فضيّة أو ذهبيّة»[45]. كما زارت «سوق الخردات المغطّى فوجدنا فيه أزمَّة الجمال والبغال وأغلال العبيد والمسامير التي تباع بالكيلوغرامات، وموازين قديمة، والصدفات الحديديّة لزينة الأبواب والحدّادين»[46]، وسوق الفخارة الذين «يبيعون قربًا تسقي فيها النساء الماء، ومصابيح رومانيّة بثلاث قماقم، ونوعًا آخر من الجرر مزيّنة بالقطران، وجدنا صعوبة في المرور بين سوق الخناجر المعزول وأماكن...وسوق الدجاج والحمام»[47].

وقد اتّسمت بعض الأسواق حسب الرحّالة بغياب النظافة وانتشار الروائح الكريهة والقذارات، مثل «سوق اليهود المغطّى وسط الحي المعزول داخل الأسوار، تعرض محلّات العطارة التوابل، ويفرش على الأرض بائعو العقاقير والمعادن المتّسخين والمنبعثة منهم روائح كريهة... يملأ السوق متسوّلون لهم عاهات مختلفة منهم الأعمى والأعرج، ومن تغطّي جسمه جروح... يتحرّكون وسط الحشود يستدرّون عطف المارّة»[48].

وأثارت لاشاريير الانتباه إلى بعض الظواهر التي عرفتها الأسواق التقليديّة وما تزال سائدة حتّى يومنا هذا رغم التطوّر التكنولوجي، وهي ظاهرة المزاد، وقدّمت إلماعات بسيطة عن فئة الدلّالة التي تقوم بدور كبير في تنشيط الرواج التجاري، من خلال الإعلان عن البضاعة والمناداة عليها بصوت مرتفع، ولفت انتباه المتبضّعين ومرتادي السوق إليها، حيث «يبتدئ الدلّال المزاد بعد أن يصلّي على النبي، ويرفع الآخرون أيديهم ضارعين إلى الله ومتوسّلين إلى سيدي بلعباس ولي المدينة، ويختمون دعواتهم بمسح الأكف على الصدور. وينطلق الدلّالة مسرعين بين الحاضرين، يحمل هذا قفاطين وذلك مجوهرات أو خناجر، ويردّدون بصوت عال آخر ثمن رست عليه السلعة أو البضاعة المعروضة»[49].

خامسًا: لاشاريير راصدة صنوف التسلية والألعاب والاحتفالات
لم تهمل الرحّالة أنماط التسلية والترفيه وأشكال الاحتفال والفرح عند المغاربة، فأفردت لذلك حيّزًا مقبولًا، وكانت التبوريدة أو «الفانتازيا» التسلية الأكثر تردّدًا في متنها الرحلي، باعتبارها ممارسة شعبيّة عريقة، ولها مكانة كبيرة في المجتمع، ترتبط بالاحتفالات الشعبيّة والمناسبات الدينيّة. وحاولت تقريب المتلقّي من الطقوس الاحتفاليّة المرافقة لهذه التسلية وأجوائها بعدما عاينت إحدى عروض الفروسيّة بمناسبة ذكرى المولد النبوي[50]، وقدّمت صورة عن الخيول المزيّنة بـ«سروج مخيّطة بخيوط مذهّبة بجوانب من حرير حمراء وبرتقاليّة»[51]، وألبسة الخيّالة المشكّلة من «جلابيب من صوف أبيض شفّاف جميل»[52]، والبنادق المزيّنة بالفضّة. وترتكز هذه التسلية ذات الطابع الفرجوي على إثبات الفرسان المتمرّسين لقوّتهم ومهارتهم في امتطاء صهوات الجياد والعدو السريع بها في تنظيم محكم، والتعامل مع البنادق المحشوّة بالبارود، وإطلاق النار في تناغم تام، حيث «ينطلق الكلّ في مجرى موحّد ويمرّون أمامنا مسرعين، وملتفتين وراء نحو سروجهم، يمسكون البنادق بيمناهم ويضغطون على الزناد بيسراهم بطلقات موحّدة فيتعالى البارود فوق رؤوسهم»[53].

وأبرزت الرحّالة أنّ ألعاب البارود والفروسيّة، التي قاومت وما تزال صامدة ومنتشرة بقوّة، قد حظيت بإقبال كبير، واجتذبت حشودًا غفيرة من الرجال المتحمّسين المتابعين لما أسمته الرحّالة بـ«لوحات التبوريدة»، التي تعقبها أيضًا زغاريد النساء. ورغم أنّ بعض المتفرجين قد قضوا بطلقات طائشة من بنادق الفرسان، فإنّ «الأسوار كسيت طيلة الأسبوع بحشود المشاهدين تستمتع بطلقات البارود المدوّية»[54]. وأبدت الرحّالة إعجابها بالطقوس الاحتفاليّة المرافقة لعروض الفروسيّة، لا سيّما ألبسة الفرسان وجيادهم المنمّقة بوسائل الزينة، حيث استوقفتها «القطع الفضيّة التي زينت بها سروجهم، تعكس أشعة الشمس فتبدو أكثر لمعانًا، إنّه مشهد رائع فعلًا»[55].

وعدّت لاشاريير لعبة الورق الإسبانيّة المسمّاة «الروندا» اللعبة الأكثر شيوعًا عند المغاربة نساء ورجالًا[56]، كما أشارت إلى ألعاب أخرى مارسها المغاربة مثل العظيمة التي تلعبها الفتيات، ولعبة شيرا التي يلعبها الأطفال بالاعتماد على أغصان النخل المقوّسة لضرب الكرة[57]. ومن جهة أخرى قدّمت الرحّالة إشارات إلى المنحى الجديد الذي أخذته ثقافة الترفيه والتسلية، مع ظهور عدد من الأصناف الرياضيّة الطارئة موازاة مع تنامي الوجود الفرنسي، عندما أشارت إلى إنشاء ناد رياضي لفائدة الضبّاط يضمّ ملاعب التنس ورياضة رمي الصحون الطائرة[58].

تحفل رحلة لاشاريير أيضًا بإشارات غزيرة وثمينة، حول صنوف الاحتفالات عند المغاربة، وقدّمت وصفًا دقيقًا لما يصاحبها من طقوس وعادات تتّسم بالفرادة، أظهرت قدرة على مقاومة التغييرات، وما يزال كثير منها حيًّا وصامدًا حتّى يومنا هذا. وممّا استرعى انتباه الرحّالة هو الحضور القويّ للمرأة في الأعراس، حيث لا يخلو عرس من الأعراس من السهرات التي تؤثثها نساء مغنّيات أو ما يعرفن بـ«الشيخات»، إذ شاهدت «فرقة موسيقيّة تتشكّل من سبع مغنّيات يرتدين قفاطين مزركشة بعضها فوق بعض، ممنطقات بأحزمة فضيّة كبيرة ويضعن حقيبة «شكارة» مربوطة بشريط حريري متين»[59]. ولم يقتصر دورهنّ على الغناء الشعبي، بل كن يجدن الرقص ويعزفن على الآلات الموسيقيّة الإيقاعيّة... ورغم دورهنّ في صناعة الفرجة والفرح في الأعراس، فإنّهن كن وما زلن يعانين من السمعة السيئة الملتصقة بهنّ، والنظر إليهن نظرة قدحيّة، إذ اضطررن حسب الرحّالة إلى الانصراف بعد نهاية الحفلة وهنّ «ملتحفات بالحايك يتستّرن وراء أثواب تغطّي وجوههن لكيلا يعرفن»[60].

واستعرضت الرحّالة تفاصيل بعض هذه الطقوس الاحتفاليّة التي كانت ترافق الأعراس المغربيّة، وأبرزت التنوّع الكبير في أنماط التزيي والأطعمة والأشربة. كما وقفت على التمايزات الموجودة في الأعراس حسب الفئات الاجتماعيّة، وسجّلت التشابه الكبير بين كثير من المظاهر الاحتفاليّة التي يحيي بها اليهود المغاربة مناسباتهم، وتلك التي سادت عند المغاربة المسلمين، حيث يشتركون في كثير من العادات والطقوس التي تميّز حفلات الزفاف، سواء تعلّق الأمر بطقس ليلة الحناء التي تسبق حفل الزفاف، رغم بعض الاختلافات الموجودة والفروقات التي تبرز بجلاء ظهور بوادر تحوّل سريع وعميق في عادات وتقاليد اليهود المغاربة، لا سيّما الأوساط الميسورة، التي بدأت تتأثر بكثير من أنماط الحضارة الغربيّة في اللباس والموسيقا والأثاث، فعند حضورها لزفاف إحدى الأسر اليهوديّة الميسورة في مراكش، استقبلهم «شقيق العروس عند مدخل الدار مرتديًا سترة طويلة كثوب الكهنة الأوروبيّين مغزولة بالصوف، وممنطقًا بحزام جلدي ومنتعلًا بلغة سوداء...، ثم انبعثت الألحان والأنغام من آلات الموسيقيّين الجالسين أرضًا، يمسكون الكمان على الطريقة الغربيّة... ونجحنا أخيرًا في تجاوز الحشود لنصل إلى الغرفة التي بها العريس والعروس الجالسان على منصّة مغطّاة بثوب مذهّب، ومزيّن بقطع ورق صفراء، لكن، للأسف، ارتدت العروس الفستان الأوروبي بدل الزي التقليدي، وجمع شعرها الأسود المصفّف بشكل هرمي مزين بأزهار الليمون»[61]. كما تجلّى هذا التأثير أيضًا في ذيوع عادة توزيع وشرب الخمور في الحفلات، حيث «وضعت آنية لصبّ الخمر بكؤوس مذهّبة، وأخرى بحجم أصغر...»[62].

سادسًا: إفادات لاشاريير بخصوص الأطعمة والأشربة والعادات الغذائيّة
لم تغفل لاشاريير الأطعمة والأشربة ومختلف العادات الغذائيّة التي تميّز بها المغاربة قبل الاستعمار، وأولت هذا الباب أهمّية كبيرة، ورأت في الأكل طقسًا يوميًّا يستحقّ التدوين والتوثيق، وخصّصت حيّزًا مهمًا من متنها الرحلي لمختلف الأطعمة والأشربة التي عاينتها، والتي اندثر بعضها، فيما ما يزال البعض الآخر حاضرًا إلى اليوم. ووقفت على تنوّع المائدة المغربيّة، واهتمام المغاربة بأنواع الأطعمة والأشربة لا سيّما علية القوم.

ويبدو أنّ العادات الغذائيّة التي رصدتها الرحّالة إبّان معاينتها للمغرب ووقفت عليها لا تخصّ مختلف الشرائح المجتمعيّة، إذ لم تهتم بطعام عامّة الناس، بقدر ما ركّزت على موائد الأوساط المترفة، من شيوخ وقوّاد وأعيان، لا سيّما أولئك الذين أوكلت لهم مهمّة استقبالها وحمايتها وتوفير الإقامة والمأكل لها. وسجّلت الرحّالة وجود نوع من البذخ في تغذية هؤلاء، فكانت تتركّب من مجموعة من الوجبات، فقد كانت الوجبة الأولى التي يتناولونها بعد الاستيقاظ مع طلوع الشمس كانت عبارة عن «فطور عصري مكوّن من الحريرة المطبوخة بالبيض والزعفران والزبدة وأحيانًا من اللحم. ويقدّم في الساعة العاشرة فطور الكسرة كما يدل على ذلك الاسم، ويعدّ الخبز المكوّن الغذائي الأساس، ثمّ الزبدة واللحم المفروم و«القطبان» والشاي. وحوالي الساعة الثانية والنصف يقدّم الغذاء «لغذا» من ثلاثة أو أربعة أطباق من لحم الغنم والدجاج والحمام والشاي»[63].

تعبر هذه الاختيارات الغذائيّة بشكل جلي عن التمايز والتراتب الاجتماعيين، حيث يحضر اللحم بشكل بارز في وجبات أغنياء البلد وأثريائه، الذين يستمتعون بمختلف أنواع اللحوم لا سيّما لحم الدجاج والخرفان المشوية، وبما هو نفيس منها كالكبد والملفوف، «أو طبق المشوي والشاي الذي لا يمكن الاستغناء عنه»[64]، في الوقت الذي كانت فيه عامّة الناس تعاني من قساوة البيئة وتواتر المجاعات وتعيش في تقشّف، وكانت تغذيتها أكثر بساطة.

وفي سياق حديثها عن موائد الأعيان وخدّام المخزن، ضمّ متنها الرحلي فقرات همت مجموعة من المآدب والضيافات التي دعيت إلى حضورها، ووصفت بدقّة الأطعمة والأشربة التي قدّمت لها أثناء ضيافتها، والتي تمايزت حسب الأوساط الحضريّة والريفيّة، وحسب الانتماء الاجتماعي للمضيف، وغالبًا ما كانت تتشكّل من عدّة أطباق، ففي ضيافة خليفة منطقة الشياظمة، تقول الرحّالة : «وضع أمامنا أحد العبيد خروفًا مشويًا مع خبز عربي غير مستوي النضج، وضع في جوانب المائدة. وكان الكلّ يجلس أرضًا، ويأخذ اللحم بأصابعه ويضع العظام في أطراف المائدة... بعد ذلك جيء بالبيض المسلوق والزبدة المذابة...وفي المساء قدّم لنا خروفًا مشويًا جديدًا مع بعض الأطباق المختلفة ممّا يستلزم معدة أكثر اتّساعًا»[65]. والأمر نفسه في ضيافة شيوخ إحدى الدواوير في مراكش، «قدّمت لنا وجبات «الإسفنج» المعسّل مصحوبة بكؤوس الشاي و«طاجين» من الدجاج ساخنين جدًّا. وقدّم لنا في الساعة الواحدة والربع في وجبة الغذاء «قطبان» من الكبد ثمّ خروف مشوي في فرن طيني أغلقت فوهته بعروش من الشجر»[66]. وعندما دعيت إلى وجبة العشاء في سطات عند القايد سي علي، قدّم لها أيضًا «المشوي» و«أعقبته طواجين، وأنواع من الكسكس، ثمّ تبع ذلك كلّه عصير الليمون والشاي المنعنع»[67].

وبالنظر إلى كون العادات الغذائيّة تتأثّر بمختلف التغيّرات التي تطرأ على المجتمع، فقد وقفت الرحّالة على بداية تحوّل في أنماط إعداد وتنظيم المائدة، وفي تعدّد وتنوع الأطباق المقدّمة، وهو ما أبرزته بجلاء عند حديثها عن ضيافة عبد السلام القباج في مدينة مراكش، الذي «أعدّ الفطور على الطريقة الأوروبيّة بمنديل وفوطات، وقدّمت لنا لائحة الوجبات المكوّنة من خمسة عشر وجبة...»[68].

وأشارت لاشاريير إلى بعض الطقوس المرتبطة بآداب المائدة في البيوت المغربيّة والتي تلاشت اليوم، فقد جرت العادة أنّ النساء لا يأكلن مع الرجال، رغم دورهنّ في إعداد الطعام وتحضيره، فالرجل المغربي حسب الرحّالة «لا يأكل عادة مع نسائه (مع بعض الاستثناءات) لكن مع أخ أو صديق، في حين أنّ أمّه وأخته ونساءه يتناولن الأكل لوحدهن»[69]. والأمر نفسه بالنسبة للأطفال الذين لا يتناولون الطعام بمعيّة آبائهم حتّى يبلغون سبع أو ثماني سنوات[70].

وضمّت الرحلة إشارات كثيرة بشأن طبق الكسكس الذي كان حاضرًا في كلّ المآدب التي دعيت إليها، لكونه دليلًا على حفاوة الاستقبال والكرم، وبخلاف اللحم الذي كان نخبويًّا لا يتناوله إلّا علية القوم، كان الكسكس طبقًا أساسيًّا شائعًا بين جميع الفئات، ويحضر في جميع البيوت المغربيّة دون استثناء. ممّا يعكس تجذّره في التاريخ والثقافة المغربيتين. كما وقفت على عدد من الطقوس والعادات التي ترافق تحضيره وإعداده من قبل النسوة، حيث قالت «وتكون حبات الكسكس بحجم أعين الغربال الذي مرّت منه. ويطهى الكسكس على البخار في إناء فوق طنجرة يوضع فيها لحم الخروف أو الدجاج أو العنب المجفّف «الزبيب» أو القرع، أو ممزوج بالسكر المدقوق والكمون»[71]. ومن جهة أخرى سجّلت الرحّالة «حبّ المغاربة للبنّ مع أنواع متعدّدة من الكسكس باعتبارها الأكلة الأكثر انتشارًا بين الفقراء والأغنياء»[72].
ومن الأشربة التي أولتها الرحّالة أهمّية كبرى، وأوردت بخصوصها إشارات كثيرة ومتنوّعة مبثوثة في ثنايا رحلتها، مشروب الشاي الذي عدّته «شرابًا وطنيًّا»[73]، احتلّ مكانة متميّزة عند المغاربة لا سيّما الأعيان وعلية القوم، وأضحى المشروب المفضّل لديهم، وأخذت جلساته تفرض حضورها في بيوتهم كطقس يومي ليس بالإمكان الاستغناء عنه، وصار عنوانًا لكرم الضيافة وحسن الاستقبال. وأشارت الرحّالة إلى جملة من الطقوس والتقاليد المميّزة التي ارتبطت بانتشار هذه المادّة الطارئة في مختلف مناطق المغرب، حيث وقفت على طقس إعداد الشاي أمام الضيوف أو الحاضرين، وهي المهمّة التي تسند «لرجال مخصوصين يتقنون تحضيره بطقوس موروثة»[74]. وكانت قوّات الاحتلال واعية بأهميّة مجلس الشاي باعتباره فرصة للاجتماع وتبادل الأحاديث والإقناع، ومظهرًا من مظاهر الكرم والضيافة، حيث أوردت الرحّالة أنّ الجنرال موانيي Moinier أقام مأدبة عشاء على شرفها، «بعد أن قدّم الشاي في الرابعة عصرًا حضرها كلّ زعماء الأهالي»[75].

وأشارت الرحّالة أنّ مجلس تحضير الشاي وإعداده كان يصاحب في أحيان عدّة بجملة من العادات والسلوكيّات التي كانت رائجة مثل تدخين الكيف، حيث تقول «جاء الخليفة ليجلس بالقرب منّا، حيث بدأ العجوزان في إعداد الشاي، في حين شرع شخص آخر نحيف الجسم أصفر اللون بعينين جاحظتين في إعداد قصبة الكيف، وبدأ في التدخين باستمتاع ثمّ مرّر القصبة للشيخ لتقاسم هذه اللحظات الجميلة»[76]. ومقابل ترسّخ الشاي كطقس يومي بات يتسيّد المائدة المغربيّة على نحو متسارع في مستهل القرن العشرين، وقفت الرحّالة على محدوديّة تناول واستهلاك القهوة التي «لا تقدّم إلّا نادرًا، ولكن تقدّم لنا معطرة عند بعض الأعيان وبربر الأطلس»[77]، أو مرفقة «بالحليب الدافئ والمنسّم بالقرنفل»[78]. وقد تكون ندرة تقديم القهوة مردّها إلى الجدل الذي كان ما يزال يدور حولها بين مؤيّد ومعارض.



الخاتمة
تقودنا قراءة هذا المتن الرحلي للمستكشفة الفرنسيّة «رينولد لادريت دو لاشاريير» إلى الخلاصات الآتية:

لا تختلف رحلة لاشاريير كثيرًا عن غيرها من الرحلات الفرنسيّة السابقة واللاحقة عليها، والتي تراكمت ارتباطًا بتعاظم المشاريع الاستعماريّة الفرنسيّة في المغرب، وانبنت على مطامح امبرياليّة، غايتها تزويد القادة العسكريّين الفرنسيّين بالمعلومات اللازمة عن الأرض التي ستطؤها أقدامهم. ولا يخلو هذا المتن الرحلي بدوره من رؤية مسيّجة بنظرة استعلائيّة نمطيّة وأسلوب قدحي، رؤية مبنيّة على تفوّق الذات الأوروبيّة وقوّتها.

تردّدت في ثنايا الرحلة العديد من الصور النمطيّة التي نقلتها الرحّالة إبّان معاينتها للمغاربة، وأضحت من ثوابت أغلب الرحّالين الأوروبيّين إلى المغرب، من أبرزها صورة المغربي الكاره للأجنبي، الذي يعبّر عن تعصّبه ورفضه للآخر بكلّ حقد ووقاحة، حيث تقول في هذا الشأن «الكلّ ينظر إلينا بريب وكره، لا أنسى نظرة الكراهية من ذلك الشخص الذي مرّ أمامنا يتأبّط سجّادته، بينما بصق آخر في طريقي. وضربت نفسي بالسوط حتّى لا أظهر غضبي فقد كنّا في موقف لا نحسد عليه»[79]، ثمّ تضيف في سياق آخر «لما كنّا نعبر سوق آيت نفوق استنكر الناس وجودنا، فتعالت صرخات الاحتجاج في وجوهنا»[80]. بيد أنّ هذه النعوت المرتبطة برفض بعض المغاربة للأجنبي واستبطان العداوة له، أو الدأب على النظر إليه بحسبانه عدوًا أي غازيًا، لا تعزى في مجملها إلى تعصبّهم الديني، بقدر ما يتعلّق الأمر بـ»شعور آخر مشترك بين الأهالي: ففي أعينهم لا يكون الأوروبي المسافر في بلادهم سوى مبعوث أرسل من أجل الاطّلاع على أحوالهم، فهو يأتي لدراسة أرضهم بدافع الغزو، هو جاسوس إذن ولهذه الصفة فهو يقتل لا لكونه كافرًا»[81].

بصرف النظر عن بعض النقائص والعيوب التي اعترت رحلة لاشاريير إلى المغرب، والمرتبطة أساسًا بالظروف التي أحاطت بها، فقد قدّمت لنا معطيات خصبة ومتميّزة عن مظاهر اجتماعيّة وثقافيّة لا نجد نظيرًا لها في مصادر معاصرة، جاءت مزيجًا من الجغرافيا والإثنوغرافيا، فوصفت المجتمع المغربي بشكل دقيق ومسهب وسبرت أغواره، وأماطت اللثام عن أحوال أهله، ونقّبت في بناه الاجتماعيّة والثقافيّة، سعيًا لتفكيكه من الداخل خدمة للسياسات الاستعماريّة الفرنسيّة تمهيدًا للسيطرة عليه وإخضاعه.

لا يمكننا إنكار أو نفي كثير من الملحوظات النقديّة التي أوردتها الرحّالة بشأن طبائع المغاربة وسلوكهم، وكذا الأعطاب وعناصر الخلل والضعف التي جرّدتها، والتي كانت سائدة وقتذاك، نظير غياب الأمن والنظافة والتنظيم، وشيوع الاضطرابات والقلاقل، وتفشّي اللصوصيّة وقطع الطرق، إلى جانب ندرة التجهيزات والبنيات التحتيّة من طرق وقناطر، لمجرّد أنّها متأتّية من رحّالة فرنسيّة أيًّا كانت دوافعها وخلفيّاتها المعلنة منهـا والخـفـيّـة.


لائحة المصادر والمراجع

أحمد المكاوي، المغرب موئلًا ومنطلقًا دراسات في رحلات تمت بين 1791-1958، أكورا للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 2021.
جرمان عياش، دراسات في تاريخ المغرب، الشركة المغربيّة للناشرين المتّحدين، الدار البيضاء، الطبعة الأولى، 1986.
 رينولد لادريت دو لا شاريير، رحلة إلى المغرب 1910-1911 خلال مسالك: الشاوية وسوس والحوز وفاس، ترجمة: محمّد ناجي بن عمر، منشورات كليّة الآداب والعلوم الإنسانيّة – جامعة ابن زهر – أكادير، الطبعة الأولى، 2016.
سعيد بنسعيد العلوي، «صورة المغرب في الاستشراق الفرنسي المعاصر»، مجلة الاجتهاد، العدد 25، السنة السادسة، 1994.
 الهادي الهروي،ا لقبيلة والإقطاع والمخزن، مقاربة سوسيولوجيّة للمجتمع المغربي الحديث 1844-1934، أفريقيا الشرق، الدار البيضاء، 2005م.


-------------------------------
[1] [*] باحث وأستاذ تعليم عال، دكتوراه في التاريخ المعاصر، كليّة الآداب والعلوم الإنسانيّة، الجديدة، المغرب.
[2] جرمان عيّاش، دراسات في تاريخ المغرب، الشركة المغربيّة للناشرين المتّحدين، الدار البيضاء، الطبعة الأولى، 1986، ص13.
[3] شكّل الطب الاستعماري أيضًا وسيلة مهمّة وظّفتها القوى الأوروبيّة لاختراق المغرب، حيث أثارت لاشاريير خلال رحلتها الانتباه إلى دور الخدمات الطبيّة التي كانت تقدّمها البعثة المرافقة لها في النفاذ إلى ضمائر السكّان، واستمالة عقولهم وقلوبهم وتليين مواقفهم وكسب ثقتهم، وتهيئتهم نفسيًّا للتفاعل والتعامل الإيجابي مع مختلف مظاهر وصور التسرّب الاستعماري السلمي. كما بيّنت ثقة المغاربة في العلاجات والأدوية التي كانت تمنحها لهم، حيث قالت: «جاء الأمر بالبحث عنّا من طرف القايد للقيام بحملة التلقيح، ثمّ جاء أخوه وابنه الأصغر البالغ من العمر سنتين، ثمّ بعض الإماء الزنجيّات وأطفال...، وأصبح الفناء غاصًا بالأهالي. لقد سبق أن استفاد ابنا القايد من لقاح الجذري وأخذا حقنة في الفخذ مخلّفة أثرًا كبيرًا في فخذه بحجم الدورو. انطلقت العمليّة الحملة وسط صراخ الأطفال الخائفين»،انظر:
رينولد لادريت دو لا شاريير، رحلة إلى المغرب 1910-1911 خلال مسالك: الشاوية وسوس والحوز وفاس، ترجمة: محمّد ناجي بن عمر، منشورات كليّة الآداب والعلوم الإنسانيّة -جامعة ابن زهر- أكادير، الطبعة الأولى، 2016، ص176.
[4] الهادي الهروي، القبيلة والإقطاع والمخزن، مقاربة سوسيولوجيّة للمجتمع المغربي الحديث 1844-1934، أفريقيا الشرق، الدار البيضاء، 2005م، ص27.
[5] م.ن، ص3.
[6] لاشاريير، رحلة إلى المغرب، ص9.
[7] م.ن، ص4.
[8] م.ن.
[9] تفاقمت المشكلات الداخليّة في المغرب بعد تصاعد الثورة ضدّ السلطان عبد الحفيظ، فتدخّلت فرنسا عسكريًّا بدعوى إقرار الأمن والنظام وحماية جاليتها ومصالحها الاقتصاديّة والسياسيّة، واحتلّت مدينتي الرباط وفاس.
[10] المصدر نفسه، ص188.
[11] لاشاريير، رحلة إلى المغرب، ص12.
[12] تطرّقت الرحّالة إلى الوجود الألماني في المغرب في الجنوب المغربي، الذي عرف زخمًا مهمًا بعد الخطاب الشهير للإمبراطور الألماني في طنجة في عام 1905، والذي كان له وقع إيجابي بين صفوف النخبة المغربيّة التي عدّته إشارة مشجّعة على مواجهة الأطماع الفرنسيّة والإسبانيّة وتحقيق استقلال المغرب، وأبدت ميلها وتقديرها له. وأشارت الرحّالة إلى ربط الألمان لصلات مع بعض الزعامات المحليّة في سوس بغية ضمان أمن الألمان وحماية أنشطتهم في المنطقة، من أمثال باشا تارودانت المعروف «بالكابا» الذي «لا حديث له إلّا عن الألمان الذين جاؤوا إليهم، وكلّ اهتمامهم منصبّ على البحث عن المناجم»، المصدر نفسه، ص166.
وارتكزت أنشطة الألمان حسب الرحّالة على إقامة علاقات تجاريّة مع ساكنة المنطقة، وكسبها سوقًا مهمّة لتصريف منتوجاتهم، التي شملت عدّة سلع وبضائع عاينتها الرحّالة أثناء زيارتها للمنطقة نظير «الجرار» و»الزرابي الألمانيّة الصنع» . كما كان قسم مهمّ من النشاط التجاري الألماني مع المنطقة يتمّ بطريقة سريّة في إطار التهريب، لا سيّما تجارة الأسلحة. وانصبّ اهتمام الألمان أيضًا على البحث والتنقيب عن المعادن في منطقة سوس، التي امتازت بغناها من الناحية المنجميّة، حيث برز في هذا الإطار أصحاب شركة «مانسمان» الذين حصلوا على حقوق التنقيب عن المعادن في كثير من المواقع. المصدر نفسه، ص68-167.
[13] تحدّثت الرحّالة لاشاريير عن آثار المجاعة التي عصفت بمنطقة سوس في مطلع القرن العشرين، وروت ما شاهدته بعينيها من مشاهد وصور صادمة، لجماعة من المشرّدين الجائعين هاربين بحثًا عن الطعام، بعد أن فتك الجوع بأجسادهم وحوّلها إلى هياكل عظميّة، حيث قالت: «وصادفنا بالقرب من إيمين تسكي مجموعات من السوسيين، وقد أنهكتهم المجاعة، فبدوا كالأشباح من شدّة الهزال، يقصدون مراكش للاشتغال في موسم الحصاد، يحملون زادهم على ظهورهم في جلد ماعز مجفّف»، المصدر نفسه، ص152.
[14] من الظواهر الاجتماعيّة التي أثارت انتباه الرحالة، وخصّصت لها حيّزًا في متنها الرحلي، ظاهرة التسوّل التي ما تزال سائدة إلى يومنا هذا، حيث استعرضت الأماكن التي اعتاد المتسوّلون ارتيادها والتجمّع فيها فرادى أو جماعات، سواء تعلّق الأمر بالمساجد والأسواق أو الطرقات، وأشارت لاشاريير إلى أنّ عددهم كان من الكثرة بحيث «لا يكاد يخلو زقاق أو شارع من المتسوّلين، وأكثرهم من العميان، الذين يستدرّون عطف التجّار والمارّين بأذكار رتيبة وحزينة...ويجلسون على جنبات الطرق يفرشون أمامهم قطعة ثوب يرمي المحسنون عليها قطعًا نقديّة نحاسيّة وخضرًا أو فواكه...يتسوّلون وأحيانًا في جماعات. وكان بعض البؤساء شبه عراة يفترشون التراب ويلتحفون السماء يتأوّهون من أمراض شتّى بل يلقى كثير منهم حتفه ليلًا إمّا جوعًا أو مرضًا فتلتقط جثثهم صباحًا»، المصدر نفسه، ص112.
[15] حاول الرحالة البولوني بوتوسكي من شرفة منزله استطلاع ما يتعلّق بالنساء المسلمات في شرفات بعيدة عن مكان وجوده، وسرعان ما أدرك خطورة ما هو بصدده، أي التحديق ولو من بعيد في النساء والبنات، وما يمكن أن يترتبّ عليه من عواقب قد تصل إلى الإخصاء أو الموت بالنظر إلى الغيرة الشديدة للمغاربة في موضوع الحريم، يراجع: أحمد المكاوي، المغرب موئلًا ومنطلقًا دراسات في رحلات تمّت بين 1791-1958، أكورا للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 2021، ص29.
[16] لاشاريير، رحلة إلى المغرب، ص9.
[17] المصدر نفسه، ص252.
[18] لاشاريير، رحلة إلى المغرب، ص252.
[19] لاشاريير، رحلة إلى المغرب، ص74.
[20] م.ن، ص137.
[21] م.ن، ص138.
[22] م.ن، ص89.
[23] م.ن، ص112.
[24] لاشاريير، رحلة إلى المغرب، ص70-138.
[25] لاشاريير، رحلة إلى المغرب، ص137.
[26] م.ن، ص24-89.
[27] م.ن، ص152.
[28] م.ن، ص112.
[29] لاشاريير، رحلة إلى المغرب، ص136.
[30] م.ن.
[31] م.ن، ص45.
[32] لاشاريير، رحلة إلى المغرب، ص29.
[33] لاشاريير، رحلة إلى المغرب، ص121.
[34] لاشاريير، رحلة إلى المغرب، ص121.
[35] م.ن، ص123.
[36] م.ن، ص119.
[37] المكاوي، المغرب موئلًا ومنطلقًا، ص112.
[38] لاشاريير، رحلة إلى المغرب، ص26.
[39] م.ن، ص125.
[40] لاشاريير، رحلة إلى المغرب، ص28.
[41] م.ن، الصفحة نفسها.
[42] م.ن، ص80.
[43] لاشاريير، رحلة إلى المغرب، ص29.
[44] م.ن، ص118.
[45] م.ن، ، ص123.
[46] م.ن، ص125.
[47] م.ن، ص127.
[48] لاشاريير، رحلة إلى المغرب، ص127-128.
[49] لاشاريير، رحلة إلى المغرب، ص118.
[50] لم تنفرد الرحالة لاشاريير بوصف ألعاب البارود والفروسيّة في المغرب، بل نجده حاضرًا في جلّ الرحلات الأوروبيّة إلى المغرب، المكاوي، المغرب موئلًا ومنطلقًا، ص110.
[51] لاشاريير، رحلة إلى المغرب، ص52.
[52] لاشاريير، رحلة إلى المغرب، ص52.
[53] م.ن، الصفحة نفسها.
[54] لاشاريير، رحلة إلى المغرب، ص53.
[55] م.ن، ص51.
[56] م.ن، ص142.
[57] لاشاريير، رحلة إلى المغرب، ص142.
[58] م.ن، ص84.
[59]  لاشاريير، رحلة إلى المغرب، ص54.
[60] م.ن، ص54.
[61] لاشاريير، رحلة إلى المغرب، ص115.
[62] لاشاريير، رحلة إلى المغرب، ص115.
[63] م.ن، ص134.
[64] لاشاريير، رحلة إلى المغرب،ص57.
[65] م.ن، ص29.
[66] م.ن، ص57.
[67] م.ن، ص80.
[68] لاشاريير، رحلة إلى المغرب، ص126.
[69] م.ن، ص136.
[70] م.ن، الصفحة نفسها.
[71] م.ن، الصفحة نفسها.
[72] م.ن، ص135.
[73] م.ن، ص134.
[74] لاشاريير، رحلة إلى المغرب، ص27.
[75] م.ن، ص74.
[76] م.ن، ص31.
[77] م.ن، ص134.
[78] لاشاريير، رحلة إلى المغرب، ص151.
[79] لاشاريير، رحلة إلى المغرب، ص50.
[80] م.ن، ص174.
[81] سعيد بنسعيد العلوي، «صورة المغرب في الاستشراق الفرنسي المعاصر»، مجلّة الاجتهاد، العدد 25، السنة السادسة، 1994، ص106.