البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

المنهج الفيلولوجي عند المستشرقين؛ من النقد الكتابي المتعالي إلى الإجراء التدخّلي في الدراسات القرآنية

الباحث :  محسن فتحي
اسم المجلة :  دراسات استشراقية
العدد :  34
السنة :  ربيع 2023م / 1444هـ
تاريخ إضافة البحث :  May / 21 / 2023
عدد زيارات البحث :  1187
تحميل  ( 454.429 KB )
الملخّص
لقد قام العديد مِن المستشرقين بإعادة قراءة التراث الإسلامي مِن فلسفة، وكلام، وعلوم الحديث، والتفسير...، واستعملوا في ذلك مناهج متعدّدة كالمنهج الاستقرائي، والمنهج التحليلي، والمنهج الجدلي المادي، والمنهج الفيلولوجي. غير أنَّ هذا المنهج الأخير يدعونا لاستكشاف نمط جديد مِن أنماط الاستشراق بحيث أنَّ بدايات تطبيقاته الأولى، كانت أساسًا في مجال الكتابات التوراتيّة والإنجيليّة، ما يجعلنا ننفتح على بعد آخر في الفكر الاستشراقي، وهو كيفيّة تعامله مع المسيحيّة المشرقيّة ليكون ذلك جسرًا يمتدّ نحو استكشاف الفكر الإسلامي بشتّى علومه. لذلك، فإنَّ دراسة تطبيقات المنهج الفيلولوجي مِن قبل المستشرقين، خاصّة منهم الألمان، يجعلنا نستكشف بعضًا مِن الإسقاطات الفكريّة التي تصل إلى حدّ التعسّف المنهجي في الكثير مِن الأحيان، وإنَّ دراسة أصول هذا المنهج وبعض مجالات تطبيقاته الكتابيّة، تميط لنا اللثام عن هذا التعسّف الذي يستند إليه المستشرقون للتوصّل إلى بعض النتائج مِن خلال دراساتهم كتاريخيّة القرآن على سبيل المثال.

الكلمات المفتاحيّة: المنهج الفيلولوجي، تاريخيّة القرآن، اللغة، التراث الإغريقي.

مقدّمة
إنَّ دراسة الفكر الاسشراقي يجعلنا نجلو المرآة التي مِن خلالها أراد لها الغرب أنْ تنقش عليها صورة الهويّة الإسلاميّة في مخياله الجمعي. إذ لم تكن الغاية مِن وراء ذلك الانفتاح على الآخر بوصفه الأنا الكوني الذي تتجلّى فيه الإنسانيّة في كونيّتها اللامتناهية. بل جاء المدّ الاستشراقي للتسلل نحو اللاوعي الإسلامي لاختراق هويّته وإعادة تشكيل ملامحه على النحو الذي يرتضيه الغرب مِن أجل التأكيد على مركزية أوروبيّة تعلي مِن شأن الإنسان الأوروبي بوصفه الكائن الأعلى، ولا يكون ذلك لغيره. مِن أجل ذلك، نجد أمامنا بحرًا سيّالًا مِن المؤلّفات الاستشراقيّة، كان همهّا الوحيد الغوص في أعماق العقل الإسلامي لإعادة تشكيله، أو ربّما السيطرة عليه، لكونه عقلًا أدنى مِن العقل الأوروبي كما تنصّ عليه نظرّيات المركزيّة الأوروبيّة. لذلك، فإنَّ دراسة المناهج التي استند إليها المستشرقون، تكتسي أهميّة قصوى في إبراز الحدود المعرفيّة والعلميّة للآليّات التي تبنّتها الرؤية الاستشراقيّة. مِن هذا المنطلق، ارتأينا إفراد دراستنا هذه للمنهج الفيلولوجي ومجالات تطبيقه، وصولًا إلى لحظة استحضاره وتطبيقه في الدراسات القرآنيّة.

وفي أعقاب ما يتوالى مِن أحداث تاريخيّة وتراكمات معرفيّة، وأزمات فكريّة ووجوديّة تلمّ بالإنسان المعاصر، وفي غياب الحلول في حاضر يغلب عليه تضارب القوى الاقتصاديّة، والسياسيّة، والعسكريّة والإيديولوجيّة، أصبح البحث عن حلول لهذا الواقع مِن أكبر الهموم الفكريّة والفلسفيّة المعاصرة. ومِن ضمن الحلول الممكنة، إعادة ربط الإنسان المعاصر بتراثه كامتداد لهويّته الضاربة في عمق التاريخ. فبعد أنْ أعلنت فلسفة الأنوار والفلسفة الحديثة القطيعة الإبستمولوجيّة مع الماضي بوصفه تراثًا متلاشيًا، قدّمت للإنسان وعودًا باسم الماديّة والعقلانيّة الضاربة في النفعيّة، ليشهد الواقع على انهيار أسس الحداثة ومشروعها الفلسفي، ليصبح بذلك الرجوع إلى التراث أمرًا حتميًّا لتقديم الحلول البديلة.

وبذلك تعالت أصوات مِن داخل المجتمع الأوروبي والعربي بالعودة إلى التراث للإعلان عن مشروع فكري عملاق، يتمثّل في إعادة قراءة التراث وفقًا لمناهج مختلفة.

ونظرًا لقلّة الدراسات وندرتها في مجال المنهج الفيلولوجي في الدراسات الاستشراقيّة، سنفرد دراستنا للوقوف على خصائص هذا المنهج، ونشأته وجذوره، لننكبّ على كيفيّة استخدامه في مجال يرتبط أساسًا بهويّة الإنسان المسلم، ألا وهو تفسير القرآن مِن خلال نموذج المستشرق الألماني تيودور نولدكه في كتابه تاريخ القرآن الذي يبدو أنَّ عنوانه يفصح عن الكثير. لما تبيّن لنا المجال الحقيقي للعمل بالمنهج الفيلولوجي، فإنّنا نقف إذاً أمام إشكاليّة عميقة تتعلّق بالمنهج في العلوم الدينيّة؛ إذ تمّ نقل هذا المنهج المتعلّق بسياق تاريخي ولغوي ولاهوتي خاصّ، مِن سياق الدراسات الكتابيّة اليهوديّة والمسيحيّة لاعتماده في سياق الدراسات القرآنيّة الإسلاميّة. ولدراسة هذه الإشكاليّة، ارتأينا تبويب بحثنا لبابين مرتّبين ترتيبًا نسقيًّا، بحيث أنّنا سنفتتح هذه الدراسة بتوضيح كيفيّة استخدام المنهج الفيلولوجي لدراسة النصوص التوراثيّة والإنجيليّة، وما هي أهمّ النتائج التي توصّلت إليها هذه القراءة، انطلاقًا مِن أعمال المستشرق الألماني يوليوس فلهاوزن مؤسّس الفرضيّة الوثائقيّة. ومِن ثَمَّ ندرس تطبيق هذا المنهج في مجال في التراث الإسلامي، وعلى وجه التحديد الدراسات القرآنيّة مِن خلال نموذج تاريخ القرآن للمستشرق نولدكه. غير أنّنا ارتأينا التعريف بهذا بالمنهج ومجالات تطبيقه قبل دراسة هذا النموذج.

المنهج الفيلولوجي
يعتني علم الفيلولوجيا بدراسة ما يحدث على اللغة مِن تغيّرات ولواحق تراكميّة في تاريخ نشأتها وارتقائها. إذ يعتمد هذا العلم على دراسة النصوص، ليس فقط مِن خلال بنيتها اللغويّة الداخليّة، بل يتعدّى ذلك ليشمل سياق انبثاقها. فاللغة مِن منظور العلم الفيلولوجي تكون خاضعة لسياق إنتاجها، وبذلك يكون منطلق دراسة اللغة ممّا تقترحه اللسانيّات، غير وافٍ بالغرض لاستيفاء معنى الخطاب اللغوي. وهذا الملحظ يتجلّى أساسًا في تركيب كلمة الفيلولوجيا في أصلها اليوناني (Philologie)، «ويتكوّن هذا المصطلح الذي يقابله فقه اللغة عند الغربيّين- مِن لفظين إغريقيين، أحدهما (Philos) بمعنى الصديق، والثاني (Logos) بمعنى الخطبة أو الكلام؛ فكأنَّ واضع التسمية لاحظ أنَّ فقه اللغة يقوم على حبّ الكلام للتعمّق في دراسته مِن حيث قواعده وأصوله وتاريخه[2]».

هذا المصطلح في سياقه التداولي مرتبط بفترة ما بعد سقوط القسطنطينيّة في حوالي القرن الخامس عشر، حيث تمّ اعتماد المنهج الفيلولوجي في الدراسات الكتابيّة التوراتيّة والإنجيليّة على حدّ سواء، فارتبطت أساسًا بالإغريقيّة واللاتينيّة وما تتضمّنه مِن إنتاجات فكريّة شعريّة كانت، أو فلسفيّة أو لاهوتيّة. وبذلك تعود جذور هذا المنهج إلى سقوط القسطنطينيّة. وهكذا صارت الدراسة الكتابيّة غير منحصرة في الانكباب على معاني النصوص، بل تعدّت ذلك لدراسة النصوص والوثائق القديمة، بل ومقارنتها بالنصوص السنسكريتيّة؛ نظرًا لما توصّل إليه الباحثون مِن أوجه التداخل بين اللغتين والحضارتين لتأسيس ما سمّوه الفيلولوجيا المقارنة (Philologie comparative)؛ وذلك لإرساء أوّل منهج في نقد الكتاب المقدّس: «وكانت النصوص الإغريقيّة اللاتينيّة أو ما يعرف بالأدب القروسطوي أوّل النصوص التي خضعت للنقد والتمحيص، فقد أدّى سقوط القسطنطينيّة بكثير مِن علماء بيزنطة إلى اللجوء إلى غرب أوروبا، فأدخلوا معهم طرقهم في قراءة النصوص القديمة، ما دفع كثيرًا مِن الباحثين إلى دراسة هذا الأدب على نحو كبير، عاملين على تكسير قيود التقليد التي جعلت سابقيهم يسلمون بكلّ ما خلّفه الآباء مِن دون فحص أو تحرٍّ، كما أدّى بروز الحسِّ النقدي لدى كثير منهم نتيجة لاطّلاعهم على أبحاث الرحلات الاستكشافيّة للحضارات والأمم في الشرق والغرب، واتّصالهم بالحضارة الإسلاميّة، إلى تلاقح فكري مثمر جدًّا[3]».

المستشرقون والفرضيّة الوثائقيّة في الدراسات الكتابيّة
يرجع تطبيق المنهج الفيلولوجي إلى العناية بالتراث الإغريقي، فلم يقتصر الدارسون على نسخ النصّ المتوفّرة في المجال التداولي الفكري، إنّما اهتمّوا كذلك بتتبّع الوثائق القديمة، والمخطوطات، وإثبات نسبة المؤلّف لصاحبه، لتصبح كلّ هذه العناصر ذات الطابع المادّي مؤثّرة في قيام المعنى، بل ومؤسّسة له. وأوّل مظاهر تطبيق هذا المنهج في الشرق، كان في مدرسة الإسكندريّة، حيث أولت اهتمامًا خاصًّا بدراسة الفكر الإغريقي وتنقيحه انطلاقًا مِن دراسة نصوصه التأسيسيّة؛ كالإلياذة والفلسفة الأفلاطونيّة التي ستجد امتدادها الكامل مِن خلال هذه المدرسة الشرقيّة. وبهذا يتّضح أنَّ المنهج الفيلولوجي في أصله، كان لا يهتمّ إلّا بدراسة النصوص الأدبيّة لتنقيحها وتبويبها. غير أنَّ التحوّلات التاريخيّة أنجبت تعدّدًا في المذاهب الفلسفيّة واللاهوتيّة، فأنتجت بذلك قراءات مختلفة للفلسفات والنصوص الدينيّة، ما جعل المنهج التأويلي يزدهر خصوصًا في المجال اللاهوتي .مِن خلال تاريخ الكتابات التوراتيّة،كان التدخّل الفيلولوجي ضرورة علميّة ينبغي مِن ورائها الضبط المفاهيمي للنصوص العقديّة. وبذلك ظهرت تيّارات فيلولوجيّة في العصر الحديث تنادي بعدم التوقّف على تأويل النصّ، بل ينبغي الرجوع إلى النصوص العليا وإثبات نسبتها لمؤلّفيها، ورصد التغيّرات والطفرات الكتابيّة التي حصلت طيلة فترة التأليف قبل الخوض في عمليّة التأويل، وهو ما تنصّ عليه نظريّة الفرضيّة الوثائقيّة للمستشرق الألماني يوليوس فيلهاوزن.
هذه النظريّة التي أسّسها فلهاوزن تنصّ على أنَّ كتب موسى الخمسة (سفر التكوين - سفر الخروج - سفر اللاويين، سفر العدد، سفر التثنية)، التي وفقًا للتقليد اليهودي قد أملاها الله على موسى ليدوّنها في الألواح،لم تأخذ تكوينها بفعل مصدري وحياني واحد، إنّما هي نتيجة تراكميّة كتابيّة تاريخيّة، تتعدّد فيها المصادر الكتابيّة، بل وحقب التدوين كذلك. غير أنَّ تطبيق المناهج النقديّة الحديثة، وعلى رأسها المنهج الفيلولوجي، اكتشف أنَّ النصّ التوراتي قد تمّ تدوينه على مراحل مختلفة؛ أي إنّه بحسب التعبير الهيغلي، هو نصّ خاضع لديالكتيكيّة التاريخ وتطوّره، وهو ما يثبته المستشرق فلهاوزن مِن خلال تطبيقه للنظريّة الوثائقيّة. يرفض فلهاوزن القول بنظريّة التأليف الموسوي للتوراة ليصبح هذا القول محلّ إجماع للنقّاد خلال القرن الثامن عشر. اعتمد فلهاوزن في تأسيسه وتطبيقه للنظريّة الوثائقيّة على الدراسة المتوازية لأحداث التوراة والتطوّرات التي تطرأ على المفردات والاشتقاقات في البناء اللغوي، ليستنتج أنَّ النصّ الموسوي قد خضع فعلًا لبناء عملي تطوّري ممتدّ طويلًا في التاريخ. بنى فلهاوزن نظريّته الوثائقيّة على أسس نظريّة الوثائق، مستعينًا في ذلك بالنقد الجدلي التاريخي، والنقد الداخلي والخارجي للكتابات التوراتيّة. وبذلك نجد أنَّ فلهاوزن يؤسّس دراسته الفيلولوجيّة الوثائقيّة على سؤال قد يبدو لأوّل وهلة سؤالًا بديهيًّا لكلّ مِن يفتح الكتاب المقدّس لأوّل مرّة، حيث يجد في مقدّمة الكتاب أنَّ النصّ التوراتي هو مِن تأليف موسى، وقد تمّ حفظه مِن طرف المدوّنين. غير أنَّ المنهج النقدي الحديث، عاد لإعادة طرح السؤال عن نسبة النصّ التوراتي لمؤلّفه. وفي هذا الصدد، أنكر فلهاوزن نسبة التوراة لمؤلّف واحد في حقبة زمنيّة واحدة، انطلاقًا مِن تتبّعه لتطوّر البنية المفاهيميّة للتوراة. وهذا ما صاغه يوهان إيكهورن في الفرضيّة الوثائقيّة التي تعدّ الأقدم مِن نوعها فيما يتعلّق بسفر التكوين على وجه الخصوص، بحيث ميّز بين مصدرين أساسيين في تشكّل معالم سفر التكوين، وحدّدهما في النصّ الألوهي، الذي ترمز له نظريّة الفرضيّة الوثائقيّة الألمانيّة بـ(إ) أو (E)، والنصّ اليهوي الذي ترمز له نفس النظريّة بـ(ي) أو (J). وفي هذا الصدد رصد والتر هيوستن في كتابه أسفار موسى الخمسة، طريقة تشكّل سفر التكوين انطلاقًا مِن هاته المصادر اليهويّة والألوهيّة[4]:

Mode of analysis
Role of the redactor
The textis:
Hypothesis
Source criticism
Stitching together the sources unobtrusively
A combination of a small number of continuous sources running through the text
Documentary

الترجمة مع بعض التوسّعات
الفرضيّة
طريقة التكوين
المحرّر/ الجامع/ المؤلّف
طريقة التحليل
الوثائقيّة
عدد صغير مِن الوثائق المستمرّة (عادة أربعة) جمعت لتكوين نصّ نهائي.
جمعت مِن قبل المحرّرين الذين قاموا بتغيير أقلّ قدر ممكن مِن النصوص المتاحة لهم.
Source criticism



هذان المصدران يعتبران دليلًا ملموسًا على تعدّد مؤلّفي التوراة، بحيث أنّنا نجد، وفقًا لهذا التقسيم الوثائقي، أنَّ النصّ التوراتي محكوم بجدليّة تاريخيّة تمرّ مِن آثار الوثنيّة التي تسقط الصفات البشريّة على الذات الإلهيّة كما هو حاضر بقوّة في المصدر اليهوي، غير أنَّ هذا التصوّر يصبح أقلّ حدّة في المصدر الإلوهيمي، وهو مايثبت التطوّر التاريخي لهذا النصّ.
يبدو أنَّ تدخّل المنهج الفيلولوجي انطلاقًا مِن تفعيل أسس النظريّة الوثائقيّة، يضعنا أمام نصّ متحرّك تاريخيًّا. وهذه الحركة ليست حركة تأويليّة على مستوى تطوّر المعنى، إنّما هي حركة بنيويّة تتعلّق بإعادة إحياء النصّ وتجديد بنائه على معطيات تاريخيّة محدّدة، ويظهر ذلك جليًّا مِن خلال تطوّر المفاهيم الإلهيّة بين المصادر اليهويّة والمصادر الإلوهيميّة، وهو المعنى نفسه الذي يشير إليه موريس بوكاي في كتابه التوراة والقرآن والعلم. يرى بوكاي أنَّ سفر التكوين ليس نصًّا ذا مصدريّة واحدة، إنّما تجميع لنصوص مِن مصادر مختلفة، بل ولكتاب ومدوّنين مختلفين؛ إذ إنّ الدراسة الفيلولوجيّة أثبتت أنَّ هذه النصوص تنتمي لأربع حقب مختلفة كما يشير إليه التقسيم الذي يوثقه بوكاي: «كان القرن التاسع عشر مخصّصًا لمزيد مِن البحث الدقيق عن المصادر. في عام 1854 ، تمّ قبول أربعة مصادر، وتمّ إعطاؤهم أسماء: الوثيقة اليهويّة، والوثيقة الألوهيميّة، التثنية والقانون الكهنوتي. وبذلك فقد نجحنا في تحديد أعمار هذه الوثائق:

الوثيقة الألوهيميّة الموجودة في القرن التاسع قبل الميلاد (مكتوبة في بلاد يهوذا).
الوثيقة الألوهيميّة ستكون أحدث قليلًا (مكتوبة في إسرائيل).
يرجع سفر التثنية إلى القرن الثامن قبل الميلاد، وبالنسبة للبعض (أي يعقوب) هو مِن زمن يوسياس (القرن السابع قبل الميلاد).
الوثيقة الكهنوتيّة هي مِن زمن المنفى أو بعد النفي: القرن السادس قبل الميلاد.
وهكذا، فإنَّ ترتيب نصّ أسفار موسى الخمسة، يمتدّ على الأقلّ ثلاثة قرون[5].

من خلال التدخّل الفيلولوجي في الدراسات التوراتيّة تبيّن على ضوء هذه الدراسات الاستشراقيّة تعدّد مصادر تأليف التوراة، ممّا جعل مِن البحث الفيلولوجي سبيلًا لإعادة قراءة النصّ التوراتي وفق مناهج علميّة حديثة تتماشى وطبيعة النصوص ومصادرها. غير أنَّ التدخّل الفيلولوجي لم يتوقّف عند دراسة التوراة، بل تعدّى ذلك ليشمل دراسة الأناجيل القانونيّة الأربعة وفقًا للسياق التاريخي الخاصّ بها. إنَّ تاريخ الأناجيل لا ينفكّ عن تاريخ الكنيسة، ليكون البحث الفيلولوجي في هذا السياق عاملًا حاسمًا في فضّ النزاع التأويلي للأناجيل الذي يعود أصلها إلى الانشقاق الكنسي الكبير الذي كان سببه تحديد طبيعة المسيح إنْ كانت بشريّة وإلهيّة أم إلهيّة فقط.

حقيقة هذا الانشقاق العظيم في العالم المسيحي الذي أعلن عنه في المجمع المسكوني المسمّى بمجمع خلقيدونية، هو في الحقيقة نتيجة الصراعات اللاهوتيّة المترتبة على تعدّد قراءات الكتاب المقدّس. إنَّ القضيّة الجوهريّة التي دار حولها هذا المجمع، هي طبيعة المسيح، لتختلف آراء الأساقفة، فقال أساقفة الغرب المسيحي في حقيقة المسيح بالطبيعتين الإلهيّة والبشريّة مجتمعتين في شخص يسوع المسيح، بينما رفضت الكنائس المشرقيّة القول بالطبيعتين، الإلهيّة والبشريّة، مؤكّدة على مونوفيزيّة المسيح التي تنصّ على مبدأ الطبيعة الواحدة؛ أي إنَّ المسيح ليست له إلّا الطبيعة الإلهيّة، وإنَّ الطبيعة البشريّة قد تلاشت في إلهيّته، وهم بذلك ينفون الطبيعة الناسوتيّة، ولا يثبتون إلّا الطبيعة الإلهيّة. وفي هذا الصدد، نسوق قانون الإيمان الكنسي الذي أقرّه المجمع المسكوني كما ساقه الأب جان كمبي في كتابه: دليل إلى قراءة تاريخ الكنيسة كصيغة نهائيّة للقراءة الآبائيّة للنصوص الإنجيليّة: «فإنّنا جميعًا وبصوت واحد نعلّم ابنًا واحدًا هو ذاته كامل في اللاهوت، وهو ذاته كامل في الناسوت، وهو ذاته الله حقًّا وإنسان حقًّا. صار إنسانًا بنفس عاقلة وبجسد، له وللآب ذات الجوهر بحسب اللاهوت، وله ذات جوهرنا بحسب الناسوت، شبيه بنا في كلّ شيء ما خلا الخطيئة، مولود مِن الآب قبل كلّ الدهور بصفة لاهوته. لكنَّه في الأيام الأخيرة، مِن أجل خلاصنا، ولد مِن مريم العذراء، أمّ الله (الثيوتوكوس) بصفة ناسوته. هو ذاته مسيح واحد، ابن، ربّ، ابن وحيد، نعترف به قائمًا بطبيعتين[6]».

هذا الانشقاق الناتج عن تعدّد قراءات النصّ المسيحي، راجع في الأساس إلى عامل أساسي، وهو العامل اللغوي. إذ باعتراف آباء الكنيسة الحاليين، سواء كانوا كاثوليكًا أو أرثوذكس، يقرّون أنَّ اهتمام الكنيسة الشرقيّة باليونانيّة والغربيّة باللاتينيّة، أدّى إلى هذا الصدام التأويلي للنصّ. هذا الاختلاف في طبيعة المسيح التي تعدّ الركن الأعظم في الإيمان المسيحي، لا يرجع في الحقيقة إلى النزاع التأويلي، بل هو في الحقيقة راجع إلى تداخل المفاهيم والصيغ اللغويّة أثناء عمليّة التدوين. يرى أوسكار كولمان أنّ المصادر الإنجيليّة التي اعتمدها المدوّنون متداخلة فيما بينها، بل ترجع نسبتها في بعض الأحيان إلى مدوّنين مجهولين، اعتمد عليهم مدوّنو الأناجيل القانونيّة. إنَّ إنجيل مرقس الذي اعتمد عليه لوقا ومتّى في تدوين إنجيليهما، هو في الحقيقة عمل تدويني سابق على العمل التدويني لمرقس ممّا يجعل الأناجيل الثلاثة تحيل على عمل تدويني مجهول، وهو ما ينتقده كولمان استنادًا إلى المنهج الفيلولوجي: «لا ينبغي أنْ يكون عمل مرقس الذي استخدمه لوقا ومتّى، إنجيل هذا المؤلّف، بل كتابة سابقة[...] وهكذا نصل إلى هذه الفكرة القائلة بأنَّ الأناجيل كما نمتلكها، قد جلبت لنا انعكاسًا لما تعرفه المجتمعات المسيحيّة البدائيّة عن حياة وخدمة يسوع ومعتقداتهم ومفاهيمهم اللاهوتيّة، التي كان الإنجيليّون المتحدّثين بها»[7].

انطلاقًا مِن العمل الفيلولوجي في دراسة الأناجيل، تبيّن أنَّ عمليّة التدوين لم تكن مطابقة للتعاليم التي أسّسها المسيح، بل حصل تدخّل بشري بحمولته التاريخيّة والاجتماعيّة في تدوين الأناجيل، ما جعل مِن الأحداث التي يسوقها مدوّنو الأناجيل الأربعة خاضعة لعدّة أوجه مِن الاختلاف، بحيث أنَّ في الحدث الواحد، يمكن أنْ نجد أوجهًا مختلفة مِن التناقضات في النصّ الواحد، بل وفي الأناجيل فيما بينها. وهذا ما توقّفت عنده الدراسة الفيلولوجيّة لمحاولة دراسة أصل هذه الاختلافات، لتجد في الأخير أنَّ هذا راجع إلى تعدّد المدوّنين، وتعدّد المصادر، واختلاف أزمنة التدوين، الشيء الذي بدا واضحًا في بنية النصّ التوراتي أو الإنجيلي على حدّ سواء.

المنهج الفيلولوجي في الدراسات القرآنيّة
بعد النتائج الصادمة التي شكّلتها نتائج المنهج الفيلولوجي في الدراسات الكتابيّة في الغرب، حيث تمّت إزالة صفة القدسيّة عن النصوص التوراتيّة والإنجيليّة، تشكّل جيل جديد مِن المستشرقين اتّخذ مِن المنهج الفيلولوجي ونظريّات النقد العالي مصدرًا منهجيًّا لمقاربة النصّ القرآني. وأوّل مَنْ طبّق المنهج الفيلولوجي في الدراسات القرآنيّة، كان المستشرق الألماني فلهاوزن مؤسّس النظريّة الوثائقيّة، حيث أنّه اعتمد التقسيم المرحلي نفسه الذي مرّت به نصوص الكتاب المقدّس، مِن خلال تحديد ثلاث مراحل زمنيّة كبرى تشكّلت مِن خلالها المعالم التاريخيّة الكبرى لنشوء وارتقاء النصّ المقدّس.

المنهج الفيلولوجي في الدراسات القرآنيّة: تاريخ القرآن لنولدكه أنموذجًا

هذا الإسقاط المتعسّف للمنهج الفيلولوجي على الدراسات القرآنيّة، جعل مِن المستشرقين يطلقون على العديد مِن مؤلّفاتهم عناوين؛ كتاريخ القرآن أو تاريخ الأدب العربي، مدرجين بذلك النصّ القرآني ضمن النصوص الأدبيّة، وهو ما يوضّح جليًّا أنَّ المستشرقين يقومون بإسقاط نتائج المنهج الفيلولوجي في الدراسات الكتابيّة على القرآن الكريم، مِن دون أنْ يأخذوا بعين الاعتبار السياق الإسلامي والنسق الفكري والنبويّ الخاصّ بالدين الإسلامي. لذلك عندما تحوّلت الفيلولوجيا مِن دراسة النصوص الأدبيّة اليونانيّة واللاتينيّة إلى دراسة الكتاب المقدّس بوصفه نصًّا أدبيًّا كذلك، أطلقوا على القرآن أيضًا اسم (النصّ الأدبي) كما أشار إلى ذلك إجناتس جولدتسهير في كتابه العقيدة والشريعة في الإسلام، أو كما تبنّاه رجيس بلاشير في كتابه تاريخ الأدب العربي. إنَّ نولدكه في كتابه تاريخ القرآن، لم يخرج عن دائرة المستشرقين الذين أسقطوا كلّ الحمولة المنهجيّة للفيلولوجيا على القرآن الكريم؛ إذ أنّه لم ينطلق مِن مقدّمات موضوعيّة منبثقة مِن الوعي الجمعي الإسلامي وخصائصه الدينيّة، بل كان منطلقه خلاصات البحث الفيلولوجي في ضوء نقد الكتاب المقدّس مِن كونه تجميعًا وتوليفًا لمصادر مختلفة ترجع لمدوّنين مختلفين. ينطلق نولدكه مِن هذا الطرح ويسقطه على النصّ القرآني بدعوى أنّه ينبثق مِن المصادر الكتابيّة السابقة لا كنتيجة للوحي الإلهي، إذ يفتتح نولدكه بداية الجزء الثاني مِن كتابه بطرح نظريّته في التناص في النصّ القرآني: «إنَّ الآيات المنفردة المختلفة التي يتألّف منها كتاب الإسلام المقدّس، تعود، بناء على إشارات كثيرة متضمّنة فيها، إلى كتاب محفوظ في السماء، وذلك في مطابقة دقيقة له، في حين أنَّ كتب المسيحيّين واليهود المقدّسة، تنبثق مِن النموذج الأعلى ذاته، غير أنّها تعرّضت لتشويه كبير. وكذلك الأسماء المختلفة التي أطلقت على هذه الآيات؛ كالقرآن، الكتاب، والوحي، توحي بخلفيّة كتابيّة (تدوينيّة) لها. والحال هذه، يصعب التصوّر أنَّ محمّد لم يكن ينوي، منذ البداية، أنْ ينجز وثيقة للوحي أو أنْ يثبته كتابة[8]».
زعم نولدكه هذا، يبيّن أنّه تجاهل بعمد الأسس التي قام عليها تدوين القرآن الكريم؛ إذ إنّه يصرّح بكلّ وضوح، أنَّ النبيّ محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) لم يشأ تدوين القرآن لغرض تعديله. غير أنَّ هذا القول لا ينسجم مع ما أحال إليه نولدكه في مسألة تدوين القرآن؛ إذ إنّه جعل مِن كتاب الفهرست للنديم معتمده الرئيس لدراسة مراحل تدوينه. غير أنّنا نجد أنَّ نولدكه قد اجتزأ مِن كتاب الفهرست ما شاء وغضّ الطرف عن مسائل جوهريّة تخصّ تدوين القرآن الكريم. نجد في كتابه أنَّه لم يشر إلى أنَّ عمليّة التدوين كانت على عهد النبيّ، وهو ما وجدناه في كتاب الفهرست الذي اعتمده في بحثه، لنجد أنَّ نولدكه يقرّ في صدر كتابه أنَّ النبيّ الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) لم يشأ تدوين القرآن الكريم بغرض تعديله بحسب حالته الوجدانيّة، وهو مناف لأخلاق النبيّ الكريم(صلى الله عليه وآله وسلم)؛ إذ إنّه الرسول الأمين، وهذا نصّ كتاب الفهرست الذي تعمّد نولدكه إخفاءه لكونه يفنّد طرحه المتهافت: «الجامع للقرآن على عهد النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم): عليّ بن أبي طالب. سعد بن عبيد بن عمرو بن زيد، أبو الدرداء عويمر بن زيد، معاذ بن جبل بن أوس، أبو زيد ثابت بن زيد بن النعمان، أُبيّ بن كعب بن قيس بن مالك بن امرئ القيس، عبيد بن معاوية بن زيد بن ثابت بن الضحّاك[9]».

وهذه لائحة طويلة مِن مدوّني القرآن على عهد النبيّ الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم)، اختزلها نولدكه في نسخة أُبيّ بن كعب، التي هي ليست سوى نسخة واحدة مِن نسخ متعدّدة تعود لمطابقة أصل واحد، وهو الأصل النبويّ المحمّدي. الغرض الحقيقي مِن طرح نولدكه بشأن تدوين القرآن، لم يكن إبراز تعدّد مصادره؛ لأنَّه لم يستطع إثبات تعدّد المصادر التدوينيّة للقرآن كما أسفرت عنه نتائج البحث الفيلولوجي في الدراسات الكتابيّة. وبذلك نحا نولدكه منحى آخر في بحثه الفيلولوجي، وهو إنكار النبوّة بقوله إنَّ مصدريّة القرآن هي واحدة، وهي مثبّتة للنبيّ الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم)، غير أنَّه أرجع القول إلى أنَّ القرآن هو مِن تأليف النبيّ، وليست له أيّة علاقة بالوحي. وبذلك، فهو يحاول إثبات أنَّ النصّ القرآني، ليس إلّا مجرّد تعبير عن التغيّرات الوجدانيّة للنبيّ، كما أنَّها مؤسّسة على السياق التاريخي وفقًا للأحداث التي يعيشها النبيّ، سواء في المرحلة المكّيّة أو المدنيّة.
يرى نولدكه أنَّ القرآن ليس له أيّة صلة بالوحي، إنّما هو مِن تأليف النبيّ الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) على حدّ زعمه، ومِن أجل تعزيز هذا الطرح، يرسم نولدكه صورة النبوّة بطريقة ساذجة، حيث أنّه يقدّم شخصيّة النبيّ في صيغتها الأكثر جبنًا وانحطاطًا، فيرى نولدكه أنَّ النبيّ الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) لا يؤسّس لأمر ديني، إلّا مِن خلال حدس واهم، شعور داخلي لا يجد له أيَّ مستند إلهي سوى التقلّبات الوجدانيّة. وهذا الطرح إنّما هو طرح يرسم صورة النبوّة في صيغتها البشريّة الباهتة، حتّى إنَّها أصبحت انعكاسًا للمخاوف والهواجس البشريّة التي طالما أرّقته، ويبدو أنَّ هذا الطرح التبخيسي لسيكولوجيّة النبيّ، يتعارض وحقيقة النبوّة بكونها أسمى درجات الكمال البشري. وبذلك نلاحظ أنَّ طرح نولدكه، هو في الحقيقة إسقاط لمخاوف وتوجّسات الإنسان الأوروبي الذي قطع صلته بالوحي والعالم الإلهي، فصار يرى في العالم بأسره انعكاسًا لتمزّقه الوجودي، وهذا ما يعبّر عنه نولدكه تمامًا حينما يسقط أفكاره التي استنتجها عن ظاهرة النبوّة في بني إسرائيل، وكذا قول الحاخامات اليهود في أنبيائهم وطرق تشريعهم على النبوّة المحمّديّة. وما يفسّر تدخّل الذات الشخصيّة للباحث في الدراسة القرآنيّة، ما أقرّه عن كون النبيّ الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) لم يفصّل بين الدنيويّات والروحانيّات، وهذا في الحقيقة قول ينمّ عن سذاجة فكر، حين يحاول نولدكه أنْ يحصر الشأن الديني في عالم غيبي لا علاقة له بتدبير الواقع والحياة: «وبما أنَّه لم يكن في وسعه أنْ يفصل بين الروحانيّات والدنيويّات، فغالبًا ما استخدم سلطة القرآن، ليفرض أمورًا لا علاقة لها بالدين. لكنْ مِن العدل ألّا نتجاهل، مِن جهة، أنَّ الدين ونظام المجتمع في ذلك الحين كان وثيقَي الارتباط، وأنَّ إنزال الله إلى أكثر الأمور إنسانيّة، إنّما يرفع على العموم مِن شأن الحياة اليوميّة إلى مستوى إلهي، مِن جهة أخرى. وجب على محمّد، وهو مفكّر بسيط، أنْ يعتبر كلّ شيء مباحًا، مالم يتعارض هذا الشيء وصوت قلبه»[10].

يبدو أنَّ قراءة نولدكه في معنى النبوّة، وعلى وجه التحديد نبوّة محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم)، محمّلة بنوع مِن الخيال الشعبي الأوروبي الذي لم يتشكّل إلّا مِن خلال الوثيقة الوحيدة التي كانوا يعتمدونها في دراساتهم، وهي الكتاب المقدّس. إنَّ نظرة نولدكه لماهية النبوّة المحمّديّة مبنيّة في الأساس على عدم الفصل بين الإسلام والعرب كقبائل تستوطن الصحراء، وهذه هي النظريّة الكتابيّة المركزيّة التي يعتمدها: «وإلى هذا ترِد أصول عدم تمكّن الأوروبيّين مِن التمييز بين الإسلام والعرب، ذلك أنَّ هؤلاء الباحثين الإنجيليّين حدّدوا أنفسهم في أطر البحث عن فكرة (مهما كانت أوّليّة وبسيطة) عن العرب الذين كانوا أوّل الأقوام التي احتضنت الإسلام. وظهرت خلاصات البحث الإنجيلي على نحو مبتسر وغير مقنع: فالعرب هم قوم يتحدّرون مِن صلب إسماعيل، الرجل الذي كان يجوب الصحراء. لهذا ظهر العرب للذهنيّة الأوروبيّة بهذه الصفة الوحيدة الجانب فقط؛ أي إنَّهم هؤلاء الذين جاءوا مِن الصحراء محمّلين بتراثها وبتركة جدّهم الكبير، الذي يصفه الكتاب المقدّس بقوله: إسماعيل رجل برّي، وضع يده ضدّ أيادي جميع الرجال»[11].

بناءً على هذه النظرة المحمّلة بالخيالات الأوروبيّة والأساطير الكتابيّة، نجد أنَّ نولدكه يعمّق هذا التصوّر السائد في العقل الجمعي الأوروبي، ويسقطه بتعسّف على مصدر الوحي الإسلامي، إذ إنّه قبل الشروع في دراسة النصّ القرآني، يطنب نولدكه في الحديث عن اليهوديّة والدراسات الكتابيّة مِن دون أيّ فصل أو تحديد مجال الدراسة، فينتقل بصورة مباشرة ودون أيّ وجه اتّساق تاريخي أو معرفي، أو حتّى منطقي، مِن الحديث عن العهد القديم إلى الحديث عن النصّ القرآني، مختزلًا بصورة مبتذلة الإيمان الإسلامي بسطحيّة مبالغ فيها، حيث أنّه يصف ايمان المسلمين بالسذاجة التي يلغى معها أيّ معنى للإنسانيّة: «إنَّ المصدر الرئيس للوحي الذي نزل على النبيّ حرفيًّا، بحسب إيمان المسلمين البسيط وبحسب اعتقاد القرون الوسطى وبعض المعاصرين، هو بدون شكّ ما تحمله الكتابات اليهوديّة. وتعاليم محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) في جلّها تنطوي في أقدم السور على ما يشير بلا لبس إلى مصدرها. لهذا، لا لزوم للتحليل لنكشف أنّ أكثر قصص الأنبياء في القرآن، لا بل الكثير مِن التعاليم والفروض، هي ذات أصل يهودي. أمّا تأثير الإنجيل على القرآن هو دون ذلك بكثير. وسيفضي بنا البحث المتمعّن عمّا هو يهودي ومسيحي في القرآن، إلى الاقتناع بأنَّ التعاليم الأساسيّة التي يشترك فيها الإسلام والمسيحيّة هي ذات صبغة يهوديّة»[12].

وممّا يبرز تهافت قول نولدكه في كون النبيّ الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) يفصل بين الدين والحياة الاجتماعيّة، شهادة المستشرق الألماني المعاصر يوهان كريستوف بيرغل في سياق حديثه عن القدرة المستمدّة مِن القرآن في البيت المقدّس، الذي أسّس على أساس نبوّة النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم)، الذي يرى أنَّ القرآن الكريم كان وما يزال أساسًا تشريعيًّا في الحياة والواقع الإسلامي؛ إذ إنّه ليس نصًّا وجدانيًّا فقط، إنّما هو منطلق وجودي تتأسّس عليه رؤية إسلاميّة خاصّة للوجود والعالم والله: «نودّ التذكير مرّة أخرى بالوظيفة المؤكّدة أعلاه كلام القرآن كمقياس للتصرّفات البشريّة، وبالتالي كأساس لشرعنة أيِّ قرار وأيِّ فعل، وخاصّة عندما يتعلّق الأمر بإدخال تجديدات. وسنرى عندما نتحدّث عن العلوم والفنون،كلّ على حدة، كيف أنَّ القرآن يعتبر معيارًا مؤيّدًا أو مضادًّا لحقّها في الدخول إلى البيت المقدّس، وبالتالي لحقّها في أنْ تحظى بالعناية والتشجيع. لكنّ القرآن يشكّل أيضًا الأساس الذي يستند إليه الشرع الإسلامي والفقه الإسلامي. ولذلك، لا عجب في أنَّ القرآن قد بقي حتّى يومنا هذا موضوعًا للتفسير والتأويل. فالفلسفة والصوفيّة والمعتزلة والاتجاهات الشيعيّة، لجأت إلى المعنى المجازي لتستنبط مِن الآيات القرآنيّة التعليمات اللازمة المناسبة لشرعنة صورتها عن العالم...» [13].

خاتمة
إنّ النظرة الاختزاليّة لمفهوم الوحي والنبوّة الإسلاميّين، والتي كان نولدكه أحّد روّادها، بل ومؤسّسيها في المدّ الاستشراقي الإيديولوجي، اتّضح قصورها وسطحيّتها في مباحث عدّة مِن الدراسات الاستشراقيّة المعاصرة. غير أنَّ هذا لا يلغي الامتدادات الفكريّة لمدرسة نولدكه التي تبنّت المنهج الفيلولوجي، إذ إنَّها فقدت بريقها. إنَّ النظر إلى القدرة المستمدّة مِن القرآن الكريم في كلّ مناحي الحياة، سواء الروحيّة أو الدنيويّة، أثبتت أنَّ النصّ القرآني ليس نصًّا تاريخيًّا متعلّقًا بتراكمات تاريخيّة، بل إنّه نصّ مطلق انبثقت منه مدارس في التفسير والتأويل إلى يومنا هذا، بل وأسّست مِن خلاله معارف ساهمت في بناء الحضارة والمعرفة الإنسانيّة في بعدها الكوني.

ويبدو أنَّ قراءة نولدكه في معنى النبوّة، وعلى وجه التحديد نبوّة محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم)، محمّلة بنوع مِن الخيال الشعبي الأوروبي، الذي لم يتشكّل إلّا مِن خلال الوثيقة الوحيدة التي كانوا يعتمدونها في دراساتهم، وهي الكتاب المقدّس.

لائحة المصادر والمراجع
الأب جان كمبي، دليل إلى قراءة تاريخ الكنيسة،دار المشرق، بيروت، 1994.
أبو الفرج محمّد بن إسحاق النديم، كتاب الفهرست، مؤسّسة الفرقان للتراث الإسلامي، المجلّد الأوّل.
تيودور نولدكه، تارخ القرآن، دار نشر جورج ألمز هيلدسهايم -زوريخ- نيويورك، 2000.
صبحي صالح، دراسات في فقه اللغة، دار العلم للملايين، بيروت، لبنان، 2009.
محمّد الدعمي، الاستشراق الاستجابة الثقافيّة الغربيّة للتاريخ العربي الإسلامي، مركز دراسات الوحدة العربيّة، 2008.
يوسف الكلام، تاريخ وعقائد الكتاب المقدّس بين إشكاليّة التقنين والتقديس، دار صفحات للدراسة والنشر، سورية، دمشق، 2009.
يوهان كريستوف بيرغل، القهر والسلطة القدرة الإلهيّة والقوّة المستمدّة منها الدين والعالم في الإسلام، دار الورّاق، بيروت.

لائحة المصادر الأجنبيّة
Maurice Bucaille, La Bible, le Coran et la Science, Les Ecritures saintes examinées à la lumière des connaissances modernes, SEGHERS, Paris, 1976.
Walter J. Housten, The Pentateuch, SCM Press, 2013.


-----------------------------------
[1][*]- دكتوراه في اللغة الفرنسيّة وآدابها.
[2]- صبحي صالح، دراسات في فقه اللغة، دار العلم للملايين، بيروت، لبنان، 2009، ص20.
[3]- يوسف الكلام، تاريخ وعقائد الكتاب المقدّس بين إشكاليّة التقنين والتقديس، دار صفحات للدراسة والنشر، سورية، دمشق، 2009، ص23.
[4]- Walter J. Housten, The Pentateuch, SCM Press, 2013, p.93.
[5]- Maurice Bucaille, La Bible, le Coran et la Science, Les Ecritures saintes examinées à la lumière des connaissances modernes, SEGHERS, Paris, 1976, p.25.
[6]- دليل إلى قراءة تاريخ الكنيسة، الأب جان كمبي، دار المشرق، بيروت، 1994، ص129-130.
[7]- Maurice Bucaille, La Bible, le Coran et la Science, Les Ecritures saintes examinées à la lumière des connaissances modernes, op.cit., 1976, p.25.
[8]- تيودور نولدكه، تارخ القرآن، دار نشر جورج ألمز هيلدسهايم - زوريخ - نيويورك، 2000، ص237.
[9]- أبي الفرج محمّد بن إسحاق النديم، كتاب الفهرست، مؤسّسة الفرقان للتراث الإسلامي، المجلّد الأوّل، ص69.
[10]- تيودور نولدكه، تارخ القرآن، دار نشر جورج ألمز هيلدسهايم -زوريخ- نيويورك، 2000، ص6.
[11]- محمّد الدعمي، الاستشراق الاستجابة الثقافيّة الغربيّة للتاريخ العربي الإسلامي، مركز دراسات الوحدة العربيّة، 2008، ص34-35.
[12]- تيودور نولدكه، تارخ القرآن، ص7.
[13]- يوهان كريستوف بيرغل، القهر والسلطة القدرة الإلهيّة والقوّة المستمدّة منها الدين والعالم في الإسلام، دار الوراق، بيروت، ص167.