البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

ترتيب المستشرقين للسور القرآنيَّة؛ مقاربات تحليليَّة في التفكير الدلاليّ

الباحث :  أ.د. محمد جعفر العارضي
اسم المجلة :  دراسات استشراقية
العدد :  34
السنة :  ربيع 2023م / 1444هـ
تاريخ إضافة البحث :  May / 21 / 2023
عدد زيارات البحث :  533
تحميل  ( 530.700 KB )
ملخَّص
في سياق الكلام على الترتيب النُّزوليّ القرآنيّ، تأتي المقولات التي أنتجها الفكر الاستشراقيّ متمثِّلًا في نولدكه وبلاشير وغيرهما. ويظهر أنَّ هنالك تنظيمًا وحرصًا يحكم نظر المستشرقين وهم يرصدون آليَّات إنتاج القوائم النُّزوليَّة، فيعملون على المطالب المهمَّة التي رأيت أنَّهم منهمكون في تشكيلها تشكُّلًا منهاجيًّا كلِّيًّا تنظيميًّا، يحقِّق متابعة واعية لمفاصل النظر التفسيريّ التنمويّ، الذي يضع الإنسان والمجتمع أداة وهدفًا في ضوء الترتيب النُّزوليّ، بوصفه منهجًا كلِّيًّا، له أدواتُه الفاعلة التي تضع الاستعمال القرآنيّ نفسه فاعلًا تفسيريًّا واقعيًّا، له تطلُّعاته الإجرائيَّة الدلاليَّة التي لا يغيب عنها الكامن القرآنيّ؛ وصولًا إلى أثرها في إثراء النظر في هذه المسألة الحيويَّة في مضمار المعارف القرآنيَّة وإدامة النظر فيها، وإنتاج مقولات موازية يشتغل عليها المتأثِّرون بالفكر الاستشراقيّ، فضلًا عن أنَّ ذلك يفتح باب البحث والتأمُّل في هذه المسألة في أوساط الدارسين والباحثين على نحو عام.
لم يتَّفق المستشرقون على ترتيب نزوليّ بعينه للسور القرآنيَّة، واختلفوا في المراحل القرآنيَّة وأسمائها وسورها ومبادئ تقسيمها، مع لحاظ ردودهم على بعض في هذا السياق. إذ ينظر المستشرقون النُّزوليُّون إلى الخطاب القرآنيّ بوصفه خطابًا يواكب حركة الدعوة وأحداثها؛ لذلك يشتغلون على النظر فيه بلحاظ المراحل المكِّيَّة المتتابعة وتوصيفها وانتهاءً بالمرحلة المدنيَّة وخصائصها، وكان ذلك ما صنعه نولدكه. أمَّا بلاشير، فيشتغل في ضوء تقسيم الخطاب القرآنيّ على رسالتين، هما الرسالة القرآنيَّة المكِّيَّة والرسالة القرآنيَّة المدنيَّة.
ولعلَّ ما في هذا البحث يكون منوطًا بإجراء ترتيب النُّزول ومتطلَّبات مبدأ السُّلَّم النُّزوليّ للخطاب القرآنيّ، وتوظيفها منهاجيًّا بغية إنتاج مقولات تفسيريَّة كلِّيَّة، تؤسِّس لأدوات جديدة مؤثِّرة في الفهم القرآنيّ، ولا سيَّما أنَّنا أمام قراءة منهاجيَّة ذات وقفات متتبِّعة قرأت مقولات المستشرقين؛ بغية أنْ يكون أمام الدارسين خيارات تنظِّم الركون إلى لائحة نزوليَّة توافقيَّة تظهر أثناء العمل التطبيقيّ.

الكلمات المفتاحيَّة: الترتيب المصحفيّ، الترتيب النُّزوليّ، القوائم النُّزوليَّة، مقولات المحدثين، مقولات المستشرقين، القرآن المكِّيّ، القرآن المدنيّ، الفوائد التنمويَّة، المقولات الدلاليَّة، المقولات النقديَّة.

المقدِّمة
في نسق هذا البحث مجموعة مِن المطالب التحليليَّة التي بدا أنَّها بواعث مركزيَّة مؤثِّرة تأثيرًا كبيرًا في إنتاج فهم شامل ومركَّز لمقولات المستشرقين ولوائحهم، التي عبَّروا بها عن أفكارهم في سياق النظر النُّزوليّ للخطاب القرآنيّ وترتيب سوره المباركة؛ ذلك بأنَّني كرَّستُ العمل على جعل هذه اللوائح، وما رافقها مِن مقولات، مسارًا منهجيًّا نافعًا لأجل قراءة النظر النُّزوليّ القرآنيّ، وما يترتَّب عليه مِن وعي فوائده.

تتعاطى هذه المقاربة مع ترتيب السور القرآنيَّة المباركة في ضوء ثنائيَّة الترتيب المصحفيّ والترتيب النُّزوليّ تعاطيًا نوعيًّا مختلفًا، يكسبها أثرًا بالغًا في فهم المشروع القرآنيّ المجتمعيّ والفكريّ، فضلًا عن المشروع الدينيّ. وبدا أنَّه لا يليق في هذا السياق، الاكتفاء بالوصف للقضايا التي يكتنفها الترتيبان، بل ينبغي التطلُّع إلى قراءة تحليليَّة ناقدة ذات سبر عموديّ لآفاق هذين الترتيبين، مع لحاظ ضرورة التوسُّع في قضاياهما؛ وصولًا إلى الأهداف والضرورات مرورًا بالمعايير، وما يترتَّب على ذلك مِن متطلَّبات إنتاج فهم نوعيّ للقرآن العظيم في ضوء ترتيب النُّزول ومظاهر السُّلَّم النُّزوليّ، مع ضرورة العمل على دمجها في المهمَّة التفسيريَّة، مِن خلال ما تؤسِّس له مِن آليَّات داخلة في التمهيد لفهم الخطاب القرآنيّ، والمساعدة على إنتاج فهم ذي أهداف تنمويَّة كبرى.
وكانت الفكرة المركزيَّة التي تنطلق منها الأفكار الجزئيَّة في هذا البحث وتقوم عليها الفرضيَّات الممهِّدة للنتائج المتوخَّاة، تتمثَّل في حواريَّة فكريَّة منهجيَّة بين ثنائيَّة الترتيب المصحفيّ والترتيب النُّزوليّ لسور الخطاب القرآنيّ، وما آلت إليه الحال مِن تغليب -خارج هذه الدراسة- للترتيب المصحفيّ بملامحه المستغرقة في الشكليَّة على الترتيب النُّزوليّ ذي الملامح المضمونيَّة التكوينيَّة الكبرى، التي تقود إلى التفكير التفسيريّ الذي يشتغل على تلمُّس الخطوات الفاعلة في إعادة النظر في الأدوات المنهجيَّة التي يحتكم إليها المفسِّر لغرض إنتاج فهم للخطاب القرآنيّ؛ لذلك نعمد إلى قراءة مطالبه قراءة منهجيَّة تتطلَّع إلى التأسيس النوعيّ ذي الأهداف القرآنيَّة الكلِّيَّة التي تعمل على استلهام قيم المشروع القرآنيّ المجتمعيَّة والفكريَّة والدينيَّة.

وكانت المحاور التفصيليَّة في هذه المقاربة المنهجيَّة الفكريَّة، تتمثَّل في: بيان معايير الترتيب المصحفيّ ونقدها، وبيان معايير الترتيب النُّزوليّ، وتحديد معالم الترتيب النُّزوليّ وقوائمه المشهورة في ضوء مقولات المستشرقين ومَنْ أخذ عنهم مِن الدارسين العرب؛ انتهاءً إلى الدعوة الواعية إلى تغليب هذا الترتيب لما له مِن آثار فكريَّة كبرى في إنتاج الفهم القرآنيّ الكلِّيّ على أسس نزوليَّة تبقي النسق القرآنيّ كلًّا متَّصلًا يؤثِّر بعضه في بعض؛ فيكون مهيمنًا تفسيريًّا تظهر معارفه مترابطة آخذة مِن منهج النظر التفسيريّ الموضوعيّ مِن جهة، ومكرِّسة لأهمِّيَّة هذا النظر وحيويَّته وضرورته التنظيميَّة والدلاليَّة مِن جهة أخرى.
معنى هذا، أنَّ المطالب التي أجريت عليها هذا الفحص المنهاجيّ الكلِّي المؤسِّس لوعي المشروع القرآنيّ الإنسانيّ أو التكوينيّ، تتمثَّل في محور نظريّ عام يتكلَّم على الترتيب القرآنيّ بلحاظيه المصحفيّ والنُّزوليّ، ويدفع نحو تكريس الترتيب النُّزوليّ بوصفه أداة تحليليَّة ومنهجًا للفهم جديدًا. لقد كان هذا المحور يشتغل على استعراض مظاهر الترتيبين المصحفيّ والنزوليّ لسور الخطاب القرآنيّ ومعاييرهما الشكليَّة والمضمونيَّة؛ بغية الانتهاء إلى إخراج ذلك إخراجًا جديدًا، يدلُّ على فقدان التفسير لشيء كثير مع الترتيب المصحفيّ، على خلاف الترتيب النُّزوليّ الذي تحقِّق مزاولته كثيرًا للتفسير؛ لذلك كلِّه جاء البحث في أربعة محاور، تقرأ الترتيب القرآنيّ المصحفيّ ومعاييره الكمِّيَّة والإعلاميَّة، والترتيب النُّزوليّ ومظاهره، ومعايير المستشرقين في الترتيب النُّزوليّ، والترتيب النُّزوليّ بين نولدكه وبلاشير. وجاءت هذه المحاور بلحاظ تحليليّ يتخلَّله الكلام على فوائد الترتيب النُّزوليّ وآفاقه الفكريَّة والدلاليَّة.

الأوَّل- في الترتيب القرآنيّ المصحفيّ ومعاييره
يظلُّ ترتيب السور القرآنيَّة المباركة مظنَّة لاختلاف العلماء، إذ تختلف مقولاتهم في هذا المضمار بين مقولة الترتيب الإلهيّ التوقيفيّ والترتيب الاجتهاديّ، أو الترتيب التوقيفيّ الجزئيّ والترتيب الاجتهاديّ الجزئيّ (الصالح: 1977، ص70-73) أيضًا. ولكلِّ مقولة مِن هذه المقولات أدلَّتها التي تنهض بها وتقف خلفها؛ إذ يجد القائلون بالترتيب التوقيفيّ أدلَّتهم في ارتباط هذا الترتيب بالعرضة الأخيرة التي عرضها جبرائيل(عليه السلام) على النبيّ محمَّد(صلى الله عليه وآله وسلم) مِن جهة، وفي الموالاة في ترتيب الحواميم، والفصل بين المسبِّحات والطواسين، مع عدم رعاية التناسب في الطول والقصر بين السور مِن جهة ثانية (طه: 2010، ص37-38).

أمَّا القائلون بالترتيب الاجتهاديّ، فيجدون أدلَّتهم في ظهور اعتماد ضابط الطول والقصر في ترتيب السور القرآنيَّة؛ إذ يظهر أنَّ تدرُّجًا ترتيبيًّا هبوطيًّا في الطول، وهو منسجم مع بعض عادات الساميين (بلاشير: 1974، ص37)، واختلاف ترتيب مصاحف الصحابة وبعض الروايات التي تشير إلى عدم التزام ترتيب بعينه. ويجد القائلون بالترتيب المزدوج أدلَّتهم في غير رواية تشير إلى أنَّ النبيّ محمَّدًا(صلى الله عليه وآله وسلم)، قد قام بترتيب مجموعة مِن السور القرآنيَّة المباركة، وترك أمر ترتيب غيرها إلى الأمَّة (حسن: 2012، ص9-13).

وقيل إنَّ مقولة التوقيف الترتيبيّ كانت بسبب مِن التخُّوف مِن اتّساع الاختلاف بين المصاحف، إذ وجدت المؤسَّسة الدينيَّة، التي أنتجت المصحف الموحَّد في مقولة التوقيف، ما يمثِّل إقناعًا بوجوب توحيد المصاحف ونظام سوره وترتيبها الترتيب المصحفيّ المعروف. ومِن جهة أخرى تخلق مقولة التوقيف حالة مِن التقبُّل للعمل التوحيديّ وتعزيز هذا التقبُّل بربطه بالإعجاز والتناسق وتقديم هذا الترتيب على أساس أنَّه الترتيب المطابق للمكتوب في اللوح المحفوظ (ذيب: 2018، ص196). والغريب أنَّ هذه النظرة قد سرت إلى الدارسين الناظرين في آثار الترتيب النُّزوليّ وفوائده (عدلاويّ: 2013، ص85-89). وهذا قد يكون مؤشِّرًا إلى حالة التناقض، أو عدم التبنِّي الصميميّ لهذا الترتيب ووعي آثاره التنمويَّة. وقد يكون العذر في مثل هذه المواقف المتناقضة، أنَّ الترتيب المصحفيّ ترتيب مهيمن على العقل الإسلامي وأرواح المسلمين ومشاعرهم.

وعلى الرغم مِن أنَّ مسألة الترتيب النُّزوليّ لسور القرآن الكريم، قيل فيها إنَّها مسألة ليست ذات طائل، وتفتقر إلى الدقَّة، وقد لا تبدو مهمَّة، ومنضبطة (الصدر: 2012، ج1، ص45-46)، فضلًا عن صعوبتها الكبرى؛ إذ إنَّها تبدو غير مستطاعة لأحد مِن البشر (حسن: 2012، ص9)، غير أنَّها تظلُّ حاجة لم تحظ باهتمام يليق بها (بزركَان: 2015، ص33)، وتظلُّ مقاربتها لا تخلو مِن فائدة، وهي ليست ممنوعة؛ ذلك بأنَّها تعود على العمليَّة التفسيريَّة بفوائد جمَّة على المستوى المنهجيّ والمستوى المضمونيّ، ولا سيَّما آثارها في رصد القرآنيَّة المواكبة للحدث المجتمعيّ، والقرآنيَّة المواكبة لبناء الذات الإنسانيَّة وتسجيل محطَّات تدرُّجها الكماليّ والتنمويّ، فضلًا عن أثرها في مظاهر السيرة النبويَّة وتسجيل مواقف المواكبة القرآنيَّة في هذا الميدان والرصد القرآنيّ لحوادثها.

ومِن الجميل أنْ ننفتح في هذا السياق على الترتيبين القرآنيين النُّزوليّ والمصحفيّ بلحاظ أهدافهما، فللخطاب القرآنيّ (في ترتيبه النُّزوليّ منهج لتأسيس دعوة، وأسلوب إقناع بعقيدة، وطريقة تبشير وإنذار، ودحض كامل لمنطق الإلحاد، وهو في ترتيبه المصحفيّ أسلوب حياة، وبناء حضارة، ودستور للعالم كلِّه، محيط بكلِّ صغيرة وكبيرة مِن حاجاته ومطالبه) (حسن: 2003، ص3). مع الإشارة إلى أنَّ الكلام المتقدِّم ينظر في الترتيب النُّزوليّ في ضوء التنجيم القرآنيّ، ونحن هنا نتطلَّع إلى صياغة التفسير القرآنيّ في ضوء معطيات الترتيب النُّزوليّ؛ لكي ينتهي البون بين واقع السُّلَّم النُّزوليّ القرآنيّ وواقع التفسير القرآنيّ بأهدافه التنمويَّة والحضاريَّة، فضلًا عن أهدافه الدلاليَّة واللسانيَّة.

يمكن أنْ نقف هنا وقفة فاحصة بإزاء مقولات الترتيب المصحفيّ؛ لإنتاج مواقف نظريَّة وإجرائيَّة مهمَّة تقود إلى إنتاج نظرات نقديَّة تفسيريَّة .
قد قيل إنَّ الترتيب المصحفيّ يعتمد الترابط الموضوعيّ وأسرار الإعجاز والمناسبات البلاغيَّة وروابطها المتناسقة تناسقًا عجيبًا ذا سلاسة أخَّاذة (حسن: 2012، ص14-15). ويمكن أنْ يعود الترتيب المصحفيّ إلى الرغبة في صدارة السور المدنيَّة الطويلة ذات الطابع القانونيّ، وبما يتماشى مع حاجة الدولة الإسلاميَّة لها لتسيير شؤونها (أبو ساحلية: 2016، ص22) التنظيميَّة والإداريَّة.

ويبدو أنَّ معايير الترتيب المصحفيّ يظهر إيغالها الشكليّ الذي يمثِّل بحدِّ ذاته مشكلة كبرى؛ ذلك أنَّها لا تخدم بشيء العمل التفسيريّ الكاشف عن المضامين القرآنيَّة. معنى هذا، أنَّ الترتيب المصحفيّ ذا المعايير الشكليَّة، لا يقدِّم للعمليَّة التفسيريَّة ما يدفعها إلى الأمام نحو المضامين والمغازي، فلا يأتي منسجمًا بطبيعة الحال مع الأجواء القرآنيَّة التي هي أجواء مضمونيَّة.

ما يمكن أنْ ينظر إلى تقريره على نحو مِن اليقين كبير، أنَّ الترتيب المصحفيّ لسور الخطاب القرآنيّ هو ترتيب تعارفت عليه الأمَّة في وقت مِن الأوقات (الجابريّ: 2066، ص233)، واتَّخذ هذا الترتيب طابعًا رسميًّا جمعيًّا.

ومعايير الترتيب المصحفيّ متعدِّدة، أشهرها معيار الطول والقصر، ومعيار المكِّيّ والمدنيّ. إذ يلاحظ مِن النظر في الترتيب المصحفيّ للسور القرآنيَّة، أنَّه اعتمد -نوعًا ما- معيار التدرُّج مِن السور الطوال إلى السور القصار. بمعنى أنَّ هذا الترتيب بالنظر إلى حجوم السور القرآنيَّة المباركة، يظهر أنَّه المنحى المهيمن، ما يضمن بطبيعة الحال وجود استثناءات ما، وخروج لمجموعة مِن السور القرآنيَّة المباركة على هذا المعيار الكمِّيّ في الترتيب (الجابريّ: 2006، ص233-239).
ولا يخفى أنَّ المستشرقين قد وجدوا في هذا المعيار وما يكتنفه مِن استثناءات وعدم انتظام، ما يدعو إلى إعادة النظر في الترتيب المصحفيّ والتفكير في ترتيب آخر. وقريبٌ مِن هذا، ما يراه المستشرقون مِن أنَّ تقسيم القرآن العظيم على أجزاء متساوية، إنَّما جاء لبواعث عمليَّة، أقلُّها تسهيل تلاوته في المناسبات الدينيَّة (بلاشير: 1974، ص38)، ولا سيَّما تقسيمه على ثلاثين جزءًا تتلاءم مع عدد أيَّام شهر رمضان (حسن: 2012، ص15) المبارك. فضلًا عن أنَّ منهم مَنْ يرى أنَّه (يجب علينا ألَّا نأخذ المصحف كلًّا غير مجزَّأ تساق قراءته مِن البداية إلى النهاية بلا وقفات وتحديد معالم. إنَّ كلَّ اتصال بالمصحف يتطلَّب احتياطًا. وعلينا في المقدِّمة أنْ نكرِّر القول بأنَّ المصحف في حالته القانونيَّة الحاضرة، لا يسمح بمتابعة رسالة محمَّد(صلى الله عليه وآله وسلم) في توسُّعها) (بلاشير: 1974، ص42).

أمَّا المكِّيّ والمدنيّ، فهو معيار اختلفوا في ضابطه بين المكان والزمان في توزيع السور القرآنيَّة المباركة. غير أنَّ الأظهر فيه النظر إلى ما نزل قبل الهجرة، فهو مكِّي، وإنْ نزل بغير مكَّة. أمَّا ما نزل بعد الهجرة، فهو مدنيّ، وإنْ نزل بغير المدينة (الصغير: 1999، ص47). معنى هذا، أنَّه معيار يراعي الترتيب الزمانيّ في حقيقة الأمر، غير أنَّ الاسم الجامع فيه اسم مكانيّ.

وممَّا يتَّصل بهذه المسألة وعدم دقَّة التراثيّين في نتائجهم التي انتبهوا إليها في تقسيم السور القرآنيَّة المباركة على المكِّيّ والمدنيّ، أنَّهم اهتمُّوا بهذا التقسيم لأغراض فقهيَّة تتمثَّل في ضرورة التفريق بين الناسخ والمنسوخ والعامِّ والمقيَّد. معنى هذا، أنَّهم كانوا ينطلقون مِن منطلقات دلاليَّة ذات ارتباط باستنباط الأحكام. وهذا ما قاد إلى الوقوع في مجموعة مِن الاضطرابات المفهوميَّة الخاصَّة بالحدود الفاصلة بين المكِّيّ والمدنيّ بناءً ومضمونًا (أبو زيد: 2055، ص76). ومِن الدارسين المحدثين مَنْ يذهب، متأثِّرًا بآراء المستشرقين، إلى أنَّ نتائج المسلمين التقسيميَّة للسور القرآنيَّة مكِّيَّة ومدنيَّة، تدخل في باب الظنِّ والتخمين؛ ذلك أنَّها لا تعدو الوقائع الخارجيَّة والعلامات الاستعراضيَّة (ذيب: 2018، ص183).
ومهما يكن مِن شيء، فإنَّ النظر في آي الخطاب القرآنيّ وسوره المباركة في ضوء المكِّيّ والمدنيّ، يعتمد مجموعة مِن اللحاظات؛ فهو (ترتيب زمانيّ، وتحديد مكانيّ، وتبويب موضوعيّ، وتعيين شخصيّ) (الصالح: 1977، ص167). فمَنْ لحظ المكان فقط، أسقط الزمان وعدَّ ما نزل بمكَّة مكِّيًّا وإنْ نزل بعد الهجرة، وما نزل بالمدينة فهو مدنيّ. أمَّا مَنْ لحظ الخطاب، فعدَّ ما خوطب به أهل مكَّة مكِّيًّا وإنْ نزل في غيرها. أمَّا مَنْ اعتمد الموضوع، فيرى النازل بالمدينة مكِّيًّا إذا ما كان موضوعه يدخل في نسق الدعوة. ومع ذلك، فإنَّ مسألة الترتيب الزمنيّ هي الراجحة هنا؛ ذلك أنَّ تعيين الأشخاص والوقوف على خاصَّة الموضوعات، واقعان في أجواء الترتيب الزمنيّ (الصالح: 1977، ص167-169) هنا أيضًا.

وممَّا يعزِّز الزمنيَّة في المكِّيّ والمدنيّ، ما وقف عليه الدكتور صبحي الصالح مِن تطبيقات مهمَّة أظهرت نظره القرآنيّ النُّزوليّ على أساس مِن إنتاج مقولات تحليليَّة حيويَّة، تنطلق مِن قراءته للسور القرآنيَّة في ضوء توزيعها المرحليّ التفصيليّ؛ فيعمد إلى السور القرآنيَّة المباركة فيقسِّمها في ضوء المكِّيّ والمدنيّ تقسيمًا مرحليًّا دقيقًا، إذ يجنح إلى تقسيم السور المكِّيَّة على ثلاث مراحل، هي سور المرحلة المكِّيَّة الأولى، وسور المرحلة المكِّيَّة الثانية، وسور المرحلة المكِّيَّة الثالثة، وكذلك يفعل مع السور المدنيَّة. ويأتي ذلك في سياق محاولة هادفة غرضها (تقصِّي أطوار التنزيل لتعيين السابق منها والمسبوق، وإبراز الملامح الصريحة التي تعيننا على ترجيح الإطار الزمنيّ المتنزِّلة فيه طائفة مِن السور والآيات) (الصالح: 1977، ص230). والملاحظ أنَّ الدكتور الصالح لم يتقصَّ السور القرآنيَّة المباركة كلَّها في المراحل التي انتهى إليها، غير أنَّه أراد الدلالة على أنَّ هذا التوزيع يضعنا غير بعيد عن أنَّ السور القرآنيَّة ومراحلها قد حقَّقت ما يشبه منظومة علويَّة رائدة تملأ القلوب والآذان بتماسكها النسقيّ ووحدتها الموضوعيَّة غير المتغافلة عن التمهيد لبعضها (الصالح: 1977، ص185-233).
ولا ينبغي أنْ يأخذنا تقسيم السور القرآنيَّة المباركة على سور مكِّيَّة وأخرى مدنيَّة إلى أنَّ الخطاب القرآنيّ (مرتبط بشخصيَّة محمَّد(صلى الله عليه وآله وسلم) ومرحلتي حياته في مكَّة قبل الهجرة التي يمكن وصفها نوعًا ما بالمسالمة وذات طابع أخلاقيّ، وحياته بعد الهجرة في المدينة التي يمكن وصفها بالعنيفة وذات طابع تشريعيّ، ولذا لا بدَّ أنْ يعكس القرآن التحوّلات التي عاشها في المرحلتين) (أبو ساحليّة: 2016، ص24). ولا يمكن قبول مقولات تأتي في سياق هذا التقسيم أيضًا تقطع بأنَّ (القرآن تطوّر مِن نصٍّ أخلاقيّ إلى نصٍّ حربيّ عنيف يسنُّ على التمييز ضدِّ المرأة وغير المسلمين. وهذا التطوّر غير واضح البتَّة في الطبعة المعتادة للقرآن، التي ترتِّب السور بصورة تقريبًا تنازليَّة وفقًا لطولها) (أبو ساحليّة: 2016، ص5). ومثل هذا الرفض ينبغي أنْ يطال أفكار المفكِّر السودانيّ محمود محمَّد طه في ثمانينيَّات القرن العشرين؛ إذ يبني صاحبها (إصلاح المجتمع الإسلاميّ وإخراجه مِن الورطة الحاليَّة على تقسيم القرآن على قسم مكِّيّ وقسم مدنيّ، مطالبًا بالرجوع لقرآن مكَّة المسالم وترك قرآن المدينة العنيف الذي يخالف حقوق الإنسان) (أبو ساحليّة: 2016، ص24).

ولم يسلم الضابط التقسيميّ على المكِّيّ والمدنيّ مِن الاختلاف؛ فلقد اختلفوا في ثلاثين سورة مِن سور القرآن الكريم بين المكِّيَّة والمدنيَّة (الجابريّ: 2006، ص235–237)، وهي:
الفَاتِحَة، النِّسَاء، يونِس، الرَّعد، الحَج، الفُرقَان، يس، ص، مُحمَّد، الحُجُرات، الرَّحمن، الحديد، الصَّف، الجُمُعة، التَّغابن، المُلك، الإنسان، المُطفِّفِين، الفَجْر، البَلَد، اللَّيل، القَدْر، الزَّلزلة، العَادِيَات، التَّكاثر، المَاعون، الكَوثَر، الإخلاص، الفَلَق، النَّاس.

والملاحظ أنَّ الاختلاف هنا قد جعل هذا المعيار ليس دقيقًا، على الرغم مِن أنَّه معيار يراعي النزول بنسبة ما، ولا يحتكم إلى الشكل مطلقًا.
وواحد مِن أسباب الاختلاف هنا، أنَّ النبيّ مُحمَّدًا(صلى الله عليه وآله وسلم) لم يرد عنه شيء في ترتيب المكِّيّ والمدنيّ؛ لأنَّه ليس مِن الفرائض، ولم يؤمر به. ومِن جهة أخرى، يظهر أنَّه على الرغم مِن أنَّ المكِّيّ والمدنيّ موضوع روائيّ، غير أنَّ فيه بابًا كبيرًا للاجتهاد والرأي. ولعلَّ هذا ما دعا غير واحد مِن المستشرقين لأنْ يرى فيه رأيًا مغايرًا لما عليه علماء التراث مِن المشتغلين بعلوم القرآن (الصالح: 1977، ص178-181).
وعلى الرغم مِن أنَّ الدارسين يضعون المكِّيّ والمدنيّ مع معايير الترتيب القرآنيّ المصحفيّ (الجابريّ: 2006، ص235-237)، غير أنَّ ذلك لا يخلو مِن نظر؛ ذلك أنَّه معيار نزوليّ. ويمكن أنْ ينظر إليه هنا بوصفه معيارًا شكليًّا إعلاميًّا يرافق ترتيب المصحف؛ فتأتي الإشارة إلى المكِّيّ والمدنيّ مِن السور القرآنيَّة المباركة متلبِّسة بالترتيب المصحفيّ، مِن دون أنْ يبنى على ذلك أثر ترتيبيّ يراعي النُّزول وزمانه.
يظهر أنَّ الترتيب المصحفيّ قد فكَّك الجسد اللسانيّ للخطاب القرآنيّ، حتَّى كأنَّه قد وضع العوائق أمام النظام القرآنيّ التسلسليّ؛ ما دعا غير واحد مِن المفسِّرين والمشتغلين بعلوم القرآن إلى أنْ يجتهدوا ويجهدوا أنفسهم في إيجاد المناسبات الرابطة بين السور القرآنيَّة المصحفيَّة المباركة. وفي هذا مسألتان:

الأولى، أنَّ إحساسًا كبيرًا مِن هؤلاء أنَّ إيجاد مثل هذه المناسبات الرابطة والوصلات الدلاليَّة والمضمونيَّة، يمثِّل تعويضًا عن حالة التفكُّك التي أنتجها الترتيب المصحفيّ الشكليّ مِن جهة، ويمثِّل مِن جهة ثانية عملًا خادمًا للعمليَّة التفسيريَّة التي يتوخَّى أثرها التكوينيّ والوجوديّ بمعونة الترتيب التسلسليّ النُّزوليّ.

والثانية، أنَّ إحساسًا كبيرًا منهم أيضًا بأنَّ الترتيب التسلسليّ النُّزوليّ يحفظ على نحو أكيد التماسك المضمونيّ بين السور القرآنيَّة المباركة.
وفي ظلِّ الرغبة عن مثل هذه الاجتهادات، يأتي التفكير النُّزوليّ القرآنيّ ليمثِّل النظر الترابطيّ الفصل بنسبة ما. وهذا ما حدا بغير واحد مِن المشتغلين بالمعارف القرآنيَّة إلى النظر التفصيليّ في الترتيب النُّزوليّ القرآنيّ تنظيرًا وتطبيقًا، وكذلك وجد المستشرقون أنفسهم في هذا المضمار بين دارس علميّ يتوخَّى الحقيقة والنفع وآخر طاعن يروم إحداث الزعزعة الفكريَّة.

الثاني- الترتيب النُّزوليّ ومظاهره

ومِن الأمور المهمَّة التي ينبغي ذكرها في هذا المضمار، أنَّ العلماء قد اعتنوا عناية فائقة بمطالب الترتيب الزمنيّ، وخصُّوها بمقولات تفصيليَّة مهمَّة تدلُّ على وعيهم بأثره وأهمِّيَّته؛ فقد تتبَّعوا النازل مِن الخطاب القرآنيّ أبليل نزل أم بنهار؟ في حضر أم في سفر؟ في وقت سلم أم في غزوة مِن الغزوات؟ ولم يكتفوا بذلك، بل يظهر أنَّهم بالغوا في عنايتهم تلك، فراحوا إلى أجزاء الليل فذكروا أنَّ هذه الآية نزلت في أوَّله وهزيعه، وتلك نزلت في وسطه، وأخرى نزلت في آخره. وأشاروا إلى ما نزل بعد ذهاب ثلثيه. وذكروا أنَّ آية قد نزلت في الركعة الأخيرة مِن صلاة الصبح. ومِن الطريف أيضًا أنَّهم ذكروا ما نزل في ليلة شاتية، وما نزل في ليلة أخرى ذات حرٍّ شديد. وتكريسًا لاهتمامهم واستقصائهم الدقيق لمحطَّات النزول، ذكروا ما نزل بمواقع بعينها، مِن قبيل نزول خاتمة سورة النَّحل المباركة والنبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) يقف على حمزة حينما استشهد. وذكروا آية مباركة نزلت عشيَّة عرفة، وأخرى نزلت في الفضاء بين السماء والأرض ساعة المعراج. ولم يغفلوا عن آية نزلت ببيت المقدس ليلة الإسراء، أو آية نزلت والناس يقيمون، وأخرى نزلت وهم يسيرون (الصالح: 1977، ص171-173).
يمكن النظر في سُلَّم الترتيب النُّزوليّ لسور الخطاب القرآنيّ باعتماد الإشارة إلى منطلقات هذا الترتيب ومعاييره وأسسه الإجرائيَّة، التي تتمثَّل في تصوّرات عن أوائل ما نزل وأواخر ما نزل مِن سور قرآنيَّة مباركة مِن جهة، وتصوّرات عن النازل بمكَّة وبالمدينة مِن هذه السور مِن جهة ثانية، وتصوّرات عن السور القرآنيَّة ووقائع السيرة النبويَّة، ومراحل الدعوة بلحاظها السريّ والعلنيّ مِن جهة ثالثة، ومظاهر المواجهة وبداية الصراع مع قريش، والتعرُّض لأصنامهم مِن جهة رابعة (الجابريّ: 2006، ص239-240)، مع لحاظ عدم سلامة هذه المعايير والمنطلقات مِن الاختلاف. غير أنَّ الترتيب القرآنيّ النُّزوليّ المشهور (أبو ساحلية: 2016، ص25-27)، الذي عليه أغلب الباحثين (الصغير: 1999، 56-62) يتمثَّل في:

العَلَق، القَلَم، المُزَّمِّل، المُدَّثِّر، الفَاتِحَة، المَسَد، التَّكوير، الأعْلَى، اللَّيل، الفَجْر، الضُّحَى، الشَّرْح، العَصْر، العَادِيَات، الكَوْثَر، التَّكاثر، المَاعون، الكَافِرون، الفِيل، الفَلَق، النَّاس، الإخلاص، النَّجْم، عَبَسَ، القَدْر، الشَّمس، البُروج، التِّين، قُرَيش، القَارِعَة، القِيَامَة، الهُمَزة، المُرسَلَات، ق، البَلَد، الطَّارِق، القَمَر، ص، الأعْرَاف، الجِن، يس، الفُرقَان، فَاطِر، مَرْيَم، طَه، الوَاقِعَة، الشُّعراء، النَّمل، القَصَص، الإسْرَاء، يُونِس، هُود، يُوسِف، الحِجْر، الأنْعَام، الصَّافَّات، لُقْمَان، سَبَأ، الزُّمر، غَافِر، فُصِّلت، الشُّورى، الزُّخرُف، الدُّخان، الجَاثِيَة، الأحْقَاف، الذَّاريات، الغَاشِيَة، الكَهْف، النَّحل، نُوح، إبْرَاهِيم، الأنْبِيَاء، المُؤمِنُون، السَّجدة، الطُّور، المُلك، الحَاقَّة، المَعَارِج، النَّبأ، النَّازِعَات، الانفِطَار، الانشِقَاق، الرُّوم، العَنْكَبوت، المُطَفِّفِين، البَقَرَة (أوَّل ما نزل بالمدينة)، الأَنْفَال، آل عِمْرَان، الأحْزَاب، المُمتَحَنَة، النِّسَاء، الزَّلزلة، الحَدِيد، مُحمَّد، الرَّعد، الرَّحمن، الإنسَان، الطَّلاق، البيِّنة، الحَشْر، النُّور، الحَج، المُنافِقُون، المُجادَلَة، الحُجُرات، التَّحريم، التَّغابن، الصَّف، الجُمُعة، الفَتْح، المَائِدَة، التَّوبة، النَّصْر.
ومِن الباحثين مَنْ زاد على هذا الترتيب النُّزوليّ كلامًا فصَّل فيه محاور كلِّ سورة ومضامينها العامَّة، مع الإشارة إلى ما كان مدنيًّا مِن الآيات في السور المكِّيَّة المباركة، وما كان مكِّيًّا منها في السور المدنيَّة المباركة (عدلاويّ: 2013، 416–453). أمَّا ما يميِّز ترتيب الأزهر، فإنَّه ترتيب تفصيليّ يوازن بين ترتيبي نولدكه Noldeke وبلاشير Blachere؛ فتظهر بعض الاختلافات بينهما، ويذكر أرقام الترتيب المصحفيّ للسور القرآنيَّة المباركة أيضًا. ويحدِّد ما كان مكِّيًّا ومدنيًّا منها (أبو ساحلية: 2016، ص25–27).

ويقترح الدكتور مُحمَّد عابد الجابريّ ترتيبًا نزوليًّا جديدًا، يأتي متأثِّرًا بفكر المستشرقين في هذا المجال. ويضع له مجموعة مِن الأسس التي يرى أنَّها تعزِّزه. فهو يعتمد النظر النُّزوليّ المرحليّ الذي يرى أنَّه ينبغي أنْ يلحظ الموضوع الذي تركِّز عليه هذه المجموعة مِن السور القرآنيَّة أو تلك في تسلسلها الذي يبدو أنَّ تسلسلًا منطقيًّا يباطنه؛ لينتهي منه إلى أنَّ تساوقًا واضحًا بين مسار التنزيل ومسيرة الدعوة وأحداثها (الجابريّ: 2010، ص17). وترتيبه المقترح هذا، يتبنَّاه في كتابه «فهم القرآن الحكيم»، ويقيم الكتاب كلَّه عليه:
العَلَق (قسمها الأوَّل)، المُدَّثِّر (قسمها الأوَّل)، المَسَد، التَّكوير، الأعْلَى، اللَّيل، الفَجْر، الضُّحَى، الشَّرح، العَصْر، العَادِيَات، الكَوثَر، التَّكاثر، المَاعُون، الكَافِرون، الفِيل، الفَلَق، النَّاس، الإخْلَاص، الفَاتِحَة، الرَّحمن، النَّجْم، عَبَسَ، الشَّمس، البُروج، التِّين، قُريش، القَارِعَة، الزَّلزلة، القِيَامَة، الهُمَزة، المُرسَلَات، ق، البَلَد، العَلَق (قسمها الثاني)، المُدَّثِّر (قسمها الثاني)، القَلَم، الطَّارق، القَمَر، ص، الأعْرَاف، الجِن، يس، الفُرقَان، فَاطِر، مَرْيَم، طَه، الوَاقِعَة، الشُّعراء، النَّمل، القَصَص، يُونِس، هُود، يُوسِف، الحِجْر، الأنْعَام، الصَّافَّات، لُقمان، سَبَأ، الزُّمَر، غَافِر، فُصِّلت، الشُّورى، الزُّخرُف، الدُّخان، الجَاثِيَة، الأحْقَاف، نُوح، الذَّارِيَات، الغَاشِيَة، الإنْسَان، الكَهْف، النَّحل، إبْرَاهِيم، الأنْبِيَاء، المُؤمِنُون، السَّجدة، الطُّور، المُلك، الحاقَّة، المَعَارِج، النَّبأ، النَّازِعَات، الانفِطَار، الانشِقَاق، المُزَّمِّل، الرَّعد، الإسْرَاء، الرُّوم، العَنْكَبُوت، المُطَفِّفِين، الحِج، البَقَرَة (أوَّل ما نزل بالمدينة)، القَدْر، الأنْفَال، آل عِمْرَان، الأحزَاب، المُمتَحَنَة، النِّسَاء، الحَدِيد، مُحمَّد، الطَّلاق، البيِّنة، الحَشْر، النُّور، المُنافِقُون، المُجَادَلَة، الحُجُرات، التَّحريم، التَّغابن، الصَّف، الجُمُعة، الفَتْح، المَائِدَة، التَّوبة، النَّصْر.

والسُّلَّم النُّزوليّ لسور الخطاب القرآنيّ هو الترتيب الذي يطابقه الوصف بأنَّه قرآنيّ؛ ذلك أنَّه ترتيب يتوخَّى إنتاج تصوّر منطقيّ عن المسار التكوينيّ للنص القرآنيّ بلحاظ نزوله، فضلًا عن تقديم بيان قريب يراقب وقائع السيرة النبويَّة، وبما يحقِّق علاقة حميميَّة بين الخطاب القرآنيّ والنبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) (الجابريّ: 2010، ص17–18)؛ وصولًا إلى أنَّ ذلك يقود إلى أنْ (يندمج القارئ في جوِّ نزول القرآن وجوّ ظروفه ومناسباته) (ياسين: 2017، ص156)؛ لذلك يمكن التعويض عن عدم اعتماد هذا السُّلَّم في تسلسل السور القرآنيَّة المباركة باعتماد قراءة التفسير في ضوء التسلسل النُّزوليّ؛ ذلك أنَّ هذه القراءة تضعنا في أجواء الحدث القرآنيّ التصاعديّ الذي يراعي البناء الإنسانيّ، والكاشف عن عظيم الجهد الذي بذله النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) في إحداث التغيير وإنتاج الإصلاح في ظلِّ الهداية القرآنيَّة المتسلسلة. والكاشف قبل ذلك أيضًا عن الروح الكبرى وعظيم الاستعداد المُحمَّديّ لإحداث هذا التغيير، وتحمُّل أعبائه.
ومِن الباحثين مَنْ أجده متحفِّظًا في الدعوة للتفسير في ضوء الترتيب النُّزوليّ؛ خشية أنْ يذهب الظنُّ بأحدهم إلى أنَّ الحلول التي تقدِّمها الخطاب القرآنيّ حلول وقتيَّة للمشكلات التي كانت في عصر نزوله فقط (حسن: 2012، ص9)، أو أنْ (يوحي للبعض أنَّ آياته خاصَّة بتلك الوقائع والحوادث التي وقعت في زمنه(صلى الله عليه وآله وسلم) ثمّ زالت، فضلًا عن كونه مخالفًا لما أُجمع عليه، والقرآن الكريم كتاب الله الخالد للبشريَّة جميعًا لا يختصّ بعصر مِن العصور دون عصر) (حسن: 2003، ص3–4).

ويأتي باحثون آخرون يرون ضرورة الإعراض عن التفكير في الترتيب النُّزوليّ، ويعدُّونه مِن الدعوات المشبوهة ذات المفاسد العظيمة التي تجرُّ إلى الفتنة والاضطراب (طه: 2010، ص24). وهذه المقولات المتحفِّظة والرافضة كلُّها، لا تصمد أمام فوائد الترتيب النُّزوليّ، ولا سيَّما ما يتعلَّق منها بمسألة (تدبُّر النصوص التربويَّة والحركيَّة في طريق الإصلاح، وأساليب الدعوة وألوان الجهاد التي تكشف عن التدرُّج في الخطوات التربويَّة، والتكرير في استعمال العلاج التربويّ بغية تأثيره والحصول على الفائدة منه) (ياسين: 2017، ص155–156). ومِن هنا جاءت الرغبة في إنتاج طبعة قرآنيَّة خاصَّة بالباحثين تعتمد ترتيب النزول، ولا سيَّما أنَّ ذلك لا يمنعه مانع عقائديّ (أبو ساحليّة: 2016، ص22)؛ ذلك أنَّ إحساسًا دقيقًا يتمثَّل في خلق الحراك العلميّ في ضوء هذه الطبعة النُّزوليَّة. فضلًا عن أنَّ التفسير في ضوء المنهج التاريخي النُّزوليّ (هو أفضل منهج يمكن اعتماده في سبيل تقديم التفسير الصحيح والواضح للقرآن الكريم) (إسكندرلو: 2015، ص9)، فيوفِّر حماية للمفسِّر والمتدبِّر مِن الوقوع في أخطاء تفسيريَّة، ويحقِّق ذلك أيضًا اجتنابًا للمعنى البعيد؛ بما يمثِّل طلبًا للصواب في فهم النص القرآنيّ (ياسين: 2017، ص156–157).
ومِن المظاهر المهمَّة في هذا السياق، أنَّه (يمكن استثمار ذلكم الترتيب الكريم في عمليَّة استنهاض القوى المركوزة في نفوس المسلمين اليوم، فينطلقوا في ميادين الحياة الدينيَّة والدنيويَّة لاستئناف المدِّ الحضاريّ) (عدلاويّ: 2013، ص ت). ويظهر بشكل جليّ أنَّه ((على كلِّ ما في محاولة تتبُّع آيات القرآن وسوره وفق الترتيب الزمنيّ مِن قيمة ومِن مساعدة على تصوّر منهج الحركة الإسلاميَّة ومراحلها وخطواتها، فإنَّ قلَّة اليقين في هذا الترتيب تجعل الأمر شاقًّا، كما أنَّها تجعل النتائج التي توصَّل إليها تقريبيَّة ظنيَّة وليست نهائيَّة يقينيَّة) (قطب: 1985، ج3، ص1429). معنى ذلك، أنَّه (يعين كثيرًا في فهم الأحداث القرآنيَّة، كما يعين في تتبُّع المراحل الزمنيَّة للدعوة الإسلاميَّة) (عدلاويّ: 2013، ص120). وبالمقابل فإنَّ الترتيب المصحفيّ قد (يفسد نظام التسلسل الطبيعيّ للفكرة؛ لأنَّ القارئ إذا انتقل مِن سورة مكِّيَّة إلى سورة مدنيَّة، اصطدم صدمة عنيفة، وانتقل بدون تمهيد، إلى جوٍّ غريب عن الجو الذي كان فيه) (أبو ساحليّة: 2016، ص23).

ومِن الضرورة بمكان أنْ يُذكر في هذا السياق المنجز التفسيريّ النُّزوليّ الرائد في العصر الحديث مِن قبيل «بيان المعاني» للشيخ عبد القادر الملَّا حويش، و«التفسير الحديث» للشيخ مُحمَّد عزَّة درّوزة، و«معارج التفكُّر ودقائق التدبُّر» للشيخ عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني، و«فهم القرآن الحكيم» للدكتور مُحمَّد عابد الجابريّ. فضلًا عن الطبعة الرائدة «القرآن الكريم بالتسلسل التاريخي وفقًا للأزهر» المشفوعة بالحواشي التفسيريَّة، ووجوه القراءات القرآنيَّة، وبعض التعليقات العلميَّة النافعة.
والظاهر أنَّ أغلب أصحاب هذه التفاسير التي تبنَّت الترتيب النُّزوليّ، قد (لاحظوا فيه فلسفة البناء العقائديّ والسلوك الحضاريّ للفرد والمجتمع المسلم. ويعدُّ هذا أمرًا مستحدثًا في علم التفسير، وقصدهم وضع القارئ في الإطار التاريخيّ للتنزُّل الكريم مِن جهة، ومِن جهة أخرى استثمار خطَّة ترتيب النُّزول وحكمته وبركته في تربية الأمَّة روحيًّا وسلوكيًّا. وليس القصد معارضة الترتيب التوقيفيّ للقرآن الكريم، الذي يعدُّه العلماء أمرًا تعبُّديًّا يجب الالتزام به) (عدلاويّ: 2013، ص ث). والظاهر أيضًا أنَّ أصحاب المشاريع الفكريَّة والسياسيَّة والإصلاحيَّة يجدون في التفسير في ضوء منهج الترتيب النُّزوليّ أفقًا نافعًا يلامس أهدافهم وأدواتهم في التغيير والدعوة.

وتتعزَّز فوائد الترتيب النُّزوليّ بأنَّه يشتغل على اللفت إلى القيم الحضاريَّة الداخلة في بناء المنظومة المجتمعيَّة وأفرادها ودمجها بالقيم العقائديَّة، مِن قبيل إعلاء مقام القراءة والكتابة وتمجيد العلماء، وتطهير الروح والسرائر وتنقيتها مِن نجاستها المعنويَّة، ونبذ الحسد والحقد والنفاق، والتحذير مِن الطمع والانغماس الدنيويّ، وتكريس الصبر على ظلم أولي القربى؛ بغية جذبهم ودرء عداوتهم على نحو تدريجيّ، وتأكيد روح الإيمان بالغيب ومواجهة الدعوات الماديَّة بما يوقظ الضمير وينمِّي المدارك ويعمِّق الوعي والفكر، وضرورة تكريم الإنسان ونشر العدالة الاجتماعيَّة، والحثِّ على العمل والكسب والتنمية الاقتصاديَّة. ناهيك عن إبراز مظاهر السلوك الحضاريّ مِن نزاهة وحسن جوار وتواصل إيجابيّ والتدرُّج فيه، وصدق محبَّة، واهتمام بالفنون والبناء والعمران (عدلاويّ: 2013، ص 226-366).

والترتيب النُّزوليّ المستغرق في المظاهر المضمونيَّة التكوينيَّة يعود على العمليَّة التفسيريَّة بفوائد جمَّة على المستوى المنهجيّ والمستوى المضمونيّ، ولا سيَّما آثارها في رصد القرآنيَّة المواكبة للحدث المجتمعيّ، والقرآنيَّة المواكبة لبناء الذات الإنسانيَّة، وتسجيل محطَّات تدرُّجها الكماليّ والتنمويّ، فضلًا عن أثرها في تقديم الذات النبويَّة والتعريف بها تعريفًا قرآنيًّا يلحظ مسارات الدعوة وتحدِّياتها، وما كان عليه النبيّ الأكرم مُحمَّد(صلى الله عليه وآله وسلم) مِن استعداد كماليّ يجعله وحده القادر على التلقِّي أحسن التلقّي والتبليغ أحسن التبليغ.
ولهذا الترتيب مجموعة فوائد أخر، منها ما يتَّصل بعلوم القرآن مِن قبيل معرفة الناسخ والمنسوخ، وتقدُّم المنسوخ في هذا السياق؛ وصولًا إلى دقَّة النظر في تحديد ذلك. ومنها ما يتَّصل بأبرز حوادث الإسلام وعقائده، مثل حادثة الإسراء التي نزلت آياتها بمكَّة؛ ما يستلزم أنَّ الإسراء بالنبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) كان إسراء روحانيًّا جسديًّا؛ ذلك أنَّ رأي الإسراء الروحانيّ فقط يرتبط برواية عائشة زوج النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) التي تشير إلى أنَّه(صلى الله عليه وآله وسلم) لم يفارقها بجسده، ومِن المعروف أنَّه تزوَّج بها في المدينة. ومنها ما يتَّصل بإثبات فضيلة لأهل بيت النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) أو لواحد مِن الصحابة في ضوء تحديد مكِّيَّة هذه السورة أو مدنيَّتها ما يجعلها تنصرف إليه بلحاظ مكانيّ محدَّد. ومنها ما يتَّصل بمعرفة التسلسل التاريخيّ الدقيق لحوادث الإسلام (الدقيقيّ: 2009، ص301-304). فضلًا عن أنَّ هذا الترتيب يخلق حراكًا فكريًّا نافعًا، إذ يدفع التفكير في هذا الترتيب ومحاولة التطلُّع إليه نحو إعادة النظر في الروايات وما يكتنفها مِن مقولات نزوليَّة، مرورًا بضرورة التدقيق في مراحل النزول القرآنيّ، وانتهاءً بدمج عمليَّة الترتيب النُّزوليّ بالعمليَّة الرياضيَّة الإحصائيَّة، وما يمكن أنْ ينتجه هذا الدمج مِن مبادرات علميَّة تعزِّز المقولات في السياق مِن جهة، وتعزِّز محاولة التحوّل بهذه المسألة مِن النظر الفكريّ الظنيّ إلى النظر العلميّ النسبيّ أو القطعيّ.

الثالث- معايير المستشرقين في الترتيب النُّزوليّ
لا يخفى أنَّ الدكتور الجابريّ قد قرأ مقولات المستشرقين في هذا المضمار، إذ يأتي ترتيب المستشرقين للسور القرآنيَّة بوصفه واحدًا مِن صور الترتيب النُّزوليّ الذي علَّقوا عليه أهمِّيَّة كبرى (الصغير، أ: 1999، ص48). وهو يقوم عندهم على إنتاج قراءة موضوعيَّة لمراحل الوحي، وتصاعد الخطاب القرآنيّ، واستشعار الجانب الروحيّ للسيرة النبويَّة (الجابريّ: 2006، ص240-241)، وتصاعد أحداثها (بلاشير: 1974، ص42)، ومحطَّات الرسالة القرآنيَّة في مكَّة والمدينة بما تمثِّله مِن مقولات جيَّدة كاشفة عن الآثار الحضاريَّة والقيم التراثيَّة (بلاشير: 1974، ص45–89). على أنَّهم انتهجوا في عملهم هذا نهجًا مخصوصًا أبعدهم عن ضابط الرواية التي تعدُّ معينًا مهمًّا في هذا الباب (الصغير، أ: 1999، 49). وهذا يرتبط بطبيعة الحال بما يعمد إليه المستشرقون مِن التوسُّع في المنهج التاريخيّ والإغراب لتحقيق أغراضهم في الطعن بالخطاب القرآنيّ (الحمويّ: 2022، ص20)، إذ يظهر التساهل في تعاطيهم مع الروايات وتحليلها وتصنيفها قوَّة وضعفًا مِن جهة، وإصرارهم على ترتيب للنزول خارج الاعتبارات الإسلاميَّة مِن جهة ثانية.

وعلى الرغم مِن هذه القراءة الموضوعيَّة التي لا ينبغي أنْ تأخذنا إلى قبولها بالمطلق، بل تأتي ضرورة التعاطي معها بلحاظ نسبيّ لا يمنحها التأييد الخالص؛ ذلك أنَّها لا تخلو مِن التكلُّف مِن جهة، والابتعاد عن أجواء الفعل الروائيّ؛ بغية التمهيد للطعن بالقرآن العظيم بوصفه هدفًا استشراقيًّا مهيمنًا.

وتأتي في سياق الترتيب النزوليّ الاستشراقيّ أيضًا تقسيمات المستشرقين للمراحل القرآنيَّة على أربع مراحل أو طبقات محدَّدة، فجعلوا ثلاثًا في مكَّة وواحدة في المدينة (نولدكه: 2004، ص66)، أو ست مراحل، جعلوا خمسًا منها في مكَّة وواحدة في المدينة (الصالح: 1977، ص176-177). والملاحظ أنَّ تقسيماتهم الطبقيَّة هذه كانت قائمة في أغلبها على جملة آليَّات تتمثَّل في النظر إلى شروح الوقائع التاريخيَّة التي يوظِّفها الخطاب القرآنيّ، وذلك باستقاء هذه الشروح مِن مصادرها التاريخيَّة المعتبرة، والنظر إلى المضامين التي يشير إليها الوحي القرآنيّ وما يربطها بوظائف النبيّ محمَّد(صلى الله عليه وآله وسلم)، والنظر ثالثة في نظام الوحي وسياقه النغميّ والأسلوبيّ واختياراته اللفظيَّة (إسكندرلو: 2015، ص11).
ومِن جهة أخرى، فإنَّ تقسيماتهم قادتهم إلى بيان خصائص كلِّ طبقة على نحو تفصيليّ، وهذه الخصائص ذات جنبة تغليبيَّة ذوقيَّة. ومِن خصائص سور الطبقات المكِّيَّة، ابتداء أغلبها بالقسم، وقصر آياتها، ووحدة نسقها النغميّ الجميل، ونصوصها الموسَّعة ذات العناصر المختلفة، وتشابهها مع أقوال الكهنة، واهتمامها بالتصوير والتمثيل الشاعريّ الجاذب، وتضمُّنها الوعظ والشروع في العبادات وإحياء الليل والدعاء، واعتماد التعاليم القرآنيَّة مرجعيَّة فكريَّة في مواجهة المشركين، والإجابة عن إهانات الكافرين بالدليل والبرهان، والإشارة إلى الصفات الإلهيَّة، وصفات الجنَّة والنار، والعقاب الأخرويّ، وآيات الله تعالى في الطبيعة والخلق، وتعرُّضها لقصص الأنبياء، ووصفها حال النبيّ محمَّد(صلى الله عليه وآله وسلم) بالاضطراب والانفعال الشديد عند تلقِّي الوحي. أمَّا خصائص سور الطبقة المدنيَّة، فتتمثَّل في طولها وطول آياتها، وتضمُّنها الصور الباهرة والجذَّابة في خطابها المؤمنين والمجاهدين، مع الإشارة إلى سير أحداث ما بعد الهجرة، وإظهار التحوّل الأساس في حياة المسلمين المرتبط بالهجرة اجتماعيًّا ودينيًّا، وبيان مظاهر قوَّة النبيّ محمَّد(صلى الله عليه وآله وسلم) وقيادته الاجتماعيَّة والسياسيَّة وتشكيله النطاق الإداريّ للأمَّة ومجابهته الصعوبات، وبروز التشريع والأحكام والقوانين التنظيميَّة للأحوال الشخصيَّة، والكشف عن الموقف الإسلاميّ مِن الآخر الدينيّ، والارتباط الدائم بالاحتياجات الواقعيَّة للناس. والملاحظ هنا أنَّ غير واحدة مِن هذه الخصائص تقتضي النظر والنقاش، إنْ قبولًا وإنْ رفضًا، ومِن ذلك اضطراب النبيّ محمَّد(صلى الله عليه وآله وسلم) وانفعاله عندما يتلقَّى الوحي، والحقُّ أنَّه كان يكرِّر بسرعة ما يتلقَّاه خشية نسيانه (الصغير، ب: 1999، ص29-31). ويظهر أنَّ هذه الخصائص التي تلحظ الأسلوب تارة، والمضمون تارة أخرى، تمثِّل ثمرة مِن ثمار النظر النُّزوليّ القرآنيّ ومظهرًا مِن مظاهره المهمَّة.

وقد يرتبط ترتيب المستشرقين وميلهم إلى ترتيب النزول بمقولات (التشكيك والطعن في ترابط النص القرآنيّ، ووحدته وأسلوبه، ومِن ثَمَّ ادِّعاء تعرُّضه للتصرُّف البشريّ، الذي هو في حقيقة الأمر نوع مِن التحريف والتبديل) (حسن: 2012، ص14).

وممَّا تجدر العناية به، أنَّ مِن المستشرقين مَنْ خلص إلى أنَّ (القرآن وحده نقطة الانطلاق في تعاقب المراحل الإسلاميَّة، وترتيب السور، وتدرُّج التعاليم، وأنَّ سيرة الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) والأخبار التي يرويها الصحابة عنه، لا يمكن أنْ تستقلّ وحدها بإيضاح شيء سكت عنه القرآن، وإنَّما نكمل تكميلًا ثانويًّا ما جاء في نصّ القرآن) (الصالح: 1977، ص177)؛ ذلك أنَّ الترتيب النُّزوليّ (يلقي على المصحف أضواء مطمئنة، ويردُّ وضع النصوص إلى آفاق سهلة الإدراك؛ لكونها مقرونة إلى السياق التاريخي المعقول) (بلاشير: 1974، ص43). وهذا الضابط الترتيبيّ الحاسم يعبِّر عن موقف فكريّ نوعيّ دقيق، على الرغم مِن أنَّه قد قيل إنَّهم (قد اعتمدوا في الغالب لحن الآيات والسور وأسلوبها ملاكًا لمعرفة ذلك، واستندوا أحيانًا إلى الروايات الضعيفة. ومِن ثَمَّ فقد توصَّلوا مِن خلال ذلك إلى نتائج متناقضة لا تمتلك أساسًا مِن الصحَّة. فمضافًا إلى ما يلحظ مِن اختلاف نتائج دراساتهم في ترتيب السور مع الترتيب الروائيّ المشهور، نرى التناقض والاختلاف القائم فيما بينهم أيضًا، وهذه الملاحظة كافية بنفسها للإشارة إلى أنَّ المعايير والمباني المتعدِّدة لدى كلِّ واحد منهم، ليست سوى معايير ذوقيَّة ومجرَّد تخيُّلات وهميَّة) (إسكندرلو: 2015، ص9). ومِن جهة أخرى، جاءت مقولاتهم الترتيبيَّة النُّزوليَّة بدوافع تخطِّي القلق الذي ينتاب القارئ غير العربيّ للخطاب القرآنيّ بسبب مِن التداخل الموضوعاتيّ الذي يستشعره هذا القارئ؛ وصولًا إلى أنْ تتكرَّس في النصِّ مظاهر التغيُّر في جوِّه وفي آثار المجابهة بين المؤمنين والوثنيين؛ فتتعزَّز الوحدة النفسيَّة والتاريخيَّة بين القارئ والنصِّ (بلاشير: 1974، ص43).

وكان ترتيبهم تفصيليًّا يعتمد تقسيم الآيات في السورة الواحدة على نحو زمنيّ تقسيميّ؛ لهذا يتكرَّر لديهم موضع السورة الواحدة بلحاظ أقسامها النُّزوليَّة.

ويمكن الكلام على ترتيب نزوليّ يمثِّل عامَّة المستشرقين (الجابريّ: 2006، ص241)، وهذا الترتيب النُّزوليّ يتمثَّل في:
العَلَق (قسمها الأوَّل)، المُدَّثِّر (قسمها الأوَّل)، قُريش، الضُّحَى، الشَّرح، العَصْر، الشَّمس، المَاعُون، الطَّارِق، التِّين، الزَّلزلة، القَارِعَة، العَادِيَات، اللَّيل، الانفِطَار، الأَعْلَى، عَبَسَ، التَّكوير، الانشِقَاق، النَّازِعَات، الغَاشِيَة، الطُّور، الوَاقِعَة، الحَاقَّة، المُرسَلَات، النَّبأ، القِيَامَة، الرَّحمن، القَدْر، النَّجم، التَّكاثر، العَلَق (قسمها الثاني)، المعَارِج، المُزَّمِّل، الإنْسَان، المُطَفِّفِين، المُدَّثِّر (قسمها الثاني)، المَسَد، الكَوثَر، الهُمَزة، البَلَد، الفِيل، الفَجْر، البُروج، الإخلاص، الكَافِرون، الفَاتِحَة، الفَلَق، النَّاس، الذَّاريات، القَمَر، القَلَم، الصَّافَّات، نُوح، الدُّخان، ق، طه، الشُّعراء، الحِجْر، مَرْيَم، ص، يس، الزُّخرُف، الجِن، المُلك، المؤمِنُون، الأنبِيَاء، الفُرقان، النَّمل، الكَهْف، السَّجدة، فُصِّلت، الجاثية، الإسرَاء، النَّحل، الرُّوم، هُود، إبْرَاهِيم، يُوسِف، غَافِر، القَصَص، الزُّمر، العَنْكَبُوت، لُقمان، الشُّورى، يُونِس، سَبَأ، فَاطِر، الأعْرَاف، الأحْقَاف، الأنْعَام، الرَّعد، البَقَرَة، البيِّنة، التَّغابن، الجُمُعة، الأنفَال، مُحمَّد، آل عِمْرَان، الصَّف، الحَدِيد، النِّسَاء، الطَّلَاق، الحَشْر، الأحزاب، المُنافقون، النُّور، المُجَادَلَة، الحَج، الفَتْح، التَّحريم، المُمتَحَنَة، النَّصْر، الحُجُرات، التَّوبة، المَائِدَة.

الرابع- الترتيب النُّزوليّ بين نولدكه وبلاشير
سأقف على ترتيب السور القرآنيَّة المباركة الذي أنتجه مستشرقان بارزان قد خصَّا القرآن العظيم بدراسات نوعيَّة مؤثِّرة في نسق التفكير الاستشراقيّ القرآنيّ مِن جهة، ومؤثِّرة في نسق التفكير القرآنيّ الحداثيّ العربيّ مِن جهة ثانية.
يظهر هنا المستشرق الألمانيّ تيودور نولدكه (1836–1930م) الذي أنتج دراسات قرآنيَّة تاريخيَّة عميقة تتمثَّل في كتابه الرائد تاريخ القرآن، إذ عالج فيه بمنهج علميّ دقيق مسألة الترتيب النُّزوليّ للسور القرآنيَّة المباركة، فأنتج مقولات مهمَّة في سياق النظر إلى مضامين السور القرآنيَّة المباركة مكِّيَّة ومدنيَّة. ويظهر أيضًا المستشرق الفرنسيّ ريجي بلاشير (1900–1973م) الذي تختتم به الدراسة الاستشراقيَّة الرصينة لتاريخ القرآن العظيم، إذ يكرِّس في كتابه القرآن مقولات كاشفة عن الرسالة القرآنيَّة المكِّيَّة والرسالة القرآنيَّة المدنيَّة؛ ويؤكِّد ضرورة التقيُّد بالمراحل الزمنيَّة لفهم القرآن الكريم متوخيًا وصف هذه المراحل وصفًا تفصيليًّا يقود إلى الإحاطة بالمناخ الأدبي للخطاب القرآنيّ، فضلًا عن استشعار الآثار الحضاريَّة والعقديَّة في هذه السياقات المرحليَّة (الصغير، ب: 1999، ص22-31).

يستعرض تيودور نولدكه اللوائح الترتيبيَّة الزمنيَّة التي يذكرها التراثيُّون، وهي كثيرة وتختلف مِن عالم إلى آخر؛ لذلك يعمد نولدكه إلى نقدها واكتشاف اختلافها وتداخلها وضعف آليَّاتها ومعاييرها واضطراب تسلسلها الزمنيّ، وينتهي إلى أنَّ النظر فيها لن يقود إلى التوصُّل إلى نتائج مهمَّة؛ لذلك كلِّه يسعى إلى اعتماد وسيلة ترتيبيَّة مغايرة لها القدر الأكبر مِن الثقة، وهذه الوسيلة وحدها تجعل استعمال التراث والاحتكام إليه مثمرًا. وهذه الوسيلة تتمثَّل في المراقبة الدقيقة لمعنى القرآن ولغته (نولدكه: 2004، ص53–65) وخصائص أسلوبه وموضوعاته (الجابريّ: 2006، ص241). ويقوم نولدكه بتقسيم الخطاب القرآنيّ على أربع مراحل، هي (الدقيقيّ: 2009، ص313):
المرحلة المكِّيَّة الأولى (1–5 للبعثة). وسورها: العَلَق، المُدَّثِّر، المَسَد، قُريش، الكَوثَر، الهُمَزَة، المَاعون، التَّكَاثُر، الفِيل، اللَّيل، البَلَد، الشَّرح، الضُّحَى، القَدْر، الطَّارق، الشَّمْس، عَبَس، القَلَم، الأعْلَى، التِّين، العَصْر، البُروج، المُزَّمِّل، القَارِعَة، الزَّلْزَلَة، الانفطار، التَّكوير، النَّجم، الانشقاق، العَاديَات، النَّازِعَات، المُرْسَلَات، النَّبَأ، الغَاشِيَة، الفَجر، القِيامَة، المُطِففين، الحَاقَّة، الذَّارِيَات، الطُّور، الوَاقِعَة، المَعَارِج، الرَّحمن، الإخلاص، الكَافِرون، الفَلَق، النَّاس، الفَاتِحة.

المرحلة المكِّيَّة الثانية (5، 6 للبعثة). وسورها: القَمَر، الصَّافَّات، نُوح، الإنْسَان، الدُّخَان، ق، طَه، الشُّعَرَاء، الحِجْر، مَريم، ص، يَس، الزُّخْرُف، الجِن، المُلْك، المؤمِنُون، الأنبِيَاء، الفُرْقَان، الإسرَاء، النَّمْل، الكَهْف.
المرحلة المكِّيَّة الثالثة (7–13 للبعثة). وسورها: السَّجْدة، فُصِّلت، الجَاثِيَة، النَّحْل، الرُّوم، هُود، إبْرَاهِيم، يُوسِف، غَافِر، القَصَص، الزُّمَر، العَنْكَبُوت، لُقْمَان، الشُّورَى، يونِس، سَبَأ، فَاطِر، الأعْرَاف، الأحْقَاف، الأنْعَام، الرَّعْد.
المرحلة المدنيَّة. وسورها: البَقَرَة، البيِّنة، التَّغابن، الجُمُعة، الأنفال، مُحمَّد، آل عِمْرَان، الصَّف، الحَدِيد، النِّسَاء، الطَّلاق، الحَشْر، الأحزَاب، المُنافِقون، النُّور، المُجَادَلَة، الحَج، الفَتْح، التَّحريم، المُمتَحَنَة، النَّصْر، الحُجُرات، التَّوبة، المَائِدَة.

معنى هذا أنَّ ترتيب المستشرق الألمانيّ نولدكه النُّزوليّ الكلِّيّ يتمثَّل في:
العَلَق، المُدَّثِّر، المَسَد، قُريش، الكَوثَر، الهُمَزَة، المَاعون، التَّكَاثُر، الفِيل، اللَّيل، البَلَد، الشَّرح، الضُّحَى، القَدْر، الطَّارق، الشَّمْس، عَبَس، القَلَم، الأعْلَى، التِّين، العَصْر، البُروج، المُزَّمِّل، القَارِعَة، الزَّلْزَلَة، الانفطار، التَّكوير، النَّجم، الانشقاق، العَاديَات، النَّازِعَات، المُرْسَلَات، النَّبَأ، الغَاشِيَة، الفَجر، القِيامَة، المُطِففين، الحَاقَّة، الذَّارِيَات، الطُّور، الوَاقِعَة، المَعَارِج، الرَّحمن، الإخلاص، الكَافِرون، الفَلَق، النَّاس، الفَاتِحة، القَمَر، الصَّافَّات، نُوح، الإنْسَان، الدُّخَان، ق، طَه، الشُّعَرَاء، الحِجْر، مَريم، ص، يس، الزُّخْرُف، الجِن، المُلْك، المؤمِنُون، الأنبِيَاء، الفُرْقَان، الإسرَاء، النَّمْل، الكَهْف، السَّجْدة، فُصِّلت، الجَاثِيَة، النَّحْل، الرُّوم، هُود، إبْرَاهِيم، يُوسِف، غَافِر، القَصَص، الزُّمَر، العَنْكَبُوت، لُقْمَان، الشُّورَى، يونِس، سَبَأ، فَاطِر، الأعْرَاف، الأحْقَاف، الأنْعَام، الرَّعْد، البَقَرَة، البيِّنة، التَّغابن، الجُمُعة، الأنفال، مُحمَّد، آل عِمْرَان، التَّحريم، المُمتَحَنَة، النَّصْر، الحُجُرات، التَّوبة، المَائِدَة.
أمَّا بلاشير، فيقيم مقولاته في الترتيب النُّزوليّ على الإشادة بصنيع نولدكه وترتيبه الزمنيّ، ووصف الترتيب المصحفيّ بأنَّه ترتيب أحدث خللًا في الترتيب التاريخيّ؛ إذ إنَّ السور الطوال الموافقة للدعوة في المدينة تأتي في بداية المصحف، في حين تأتي السور القصيرة والمتوسُّطة الممثِّلة للمرحلة المكِّيَّة في نهاية المصحف (بلاشير: 1974، ص38-43). وينتهي في ضوء ذلك إلى النظر النُّزوليّ القائم على الفصل بين سور الرسالة القرآنيَّة المكِّيَّة وسور الرسالة القرآنيَّة المدنيَّة، مستغرقًا في الدلالة على مضامينهما التفصيليَّة في الفصلين الثاني والثالث مِن كتابه، متوخيًا (التنبيه إلى قدر التغيُّر الحاصل في أسلوب السور) (بلاشير: 1974، ص65). وهنا يعمد بلاشير إلى تقسيم الخطاب القرآني إلى رسالتين:
الرِّسالة القرآنيَّة المكِّيَّة. وسورها: العَلَق، المُدَّثِّر، قُريش، الضُّحَى، الشَّرْح، العَصْر، الشَّمس، المَاعُون، الطَّارق، التِّين، الزَّلزلة، القَارِعَة، العَادِيَات، اللَّيل، الانفِطَار، الأعلَى، عَبَسَ، التَّكوير، الانشِقَاق، النَّازِعَات، الغَاشِيَة، الطُّور، الوَاقِعَة، الحَاقَّة، المُرسَلَات، النَّبأ، القِيَامَة، الرَّحمن، القَدْر، النَّجم، التَّكاثر، المَعَارِج، المُزَّمِّل، الإنْسَان، المُطَّففين، المَسَد، الكَوْثَر، الهُمَزة، البَلَد، الفِيل، الفَجْر، البُروج، الإخلاص، الكَافِرون، الفَاتِحَة، الفَلَق، النَّاس، الجِن، الذَّاريات، القَمَر، القَلَم، الصَّافَّات، نُوح، الدُّخان، ق، طَه، الشُّعراء، الحِجْر، مَرْيَم، ص، يس، الزُّخرُف، الجِن، المُلك، المُؤمِنُون، الأنبِيَاء، الفُرقَان، النَّمل، الكَهْف، السَّجدة، فُصِّلت، الجَاثِيَة، الإسرَاء، النَّحل، الرُّوم، هُود، إبْرَاهِيم، يُوسِف، غَافِر، القَصَص، الزُّمر، العَنْكَبوت، لُقمان، الشُّورى، يُونِس، سَبَأ، فَاطِر، الأعرَاف، الأحقَاف، الأنعَام، الرَّعد.

الرِّسالة القرآنيَّة المدنيَّة. وسورها: الَبَقَرة، البيِّنة، التَّغابن، الجُمُعة، الأنفَال، مُحمَّد، آل عِمْرَان، الصَّف، الحَدِيد، النِّسَاء، الطَّلاق، الحَشْر، الأحْزَاب، المُنافِقون، النُّور، المُجَادَلَة، الحَج، الفَتْح، التَّحريم، المُمتَحَنَة، النَّصْر، الحُجُرات، التَّوبَة، المَائِدَة.
والترتيب النُّزولي للمستشرق الفرنسيّ بلاشير (ذيب: 2018، ص204-208)، وهو ترتيب تفصيليّ يتمثَّل في:
العَلَق (قسمها الأوَّل)، المُدَّثِّر (قسمها الأوَّل)، قُريش، الضُّحَى، الشَّرْح، العَصْر، الشَّمس، المَاعُون، الطَّارق، التِّين، الزَّلزلة، القَارِعَة، العَادِيَات، اللَّيل، الانفِطَار، الأعلَى، عَبَسَ، التَّكوير، الانشِقَاق، النَّازِعَات، الغَاشِيَة، الطُّور، الوَاقِعَة، الحَاقَّة، المُرسَلَات، النَّبأ، القِيَامَة، الرَّحمن، القَدْر، النَّجم، التَّكاثر، العَلَق (قسمها الثاني)، المَعَارِج، المُزَّمِّل، الإنْسَان، المُطَّففين، المُدَّثِّر (قسمها الثاني)، المَسَد، الكَوْثَر، الهُمَزة، البَلَد، الفِيل، الفَجْر، البُروج، الإخلاص، الكَافِرون، الفَاتِحَة، الفَلَق، النَّاس، الجِن، الذَّاريات، القَمَر، القَلَم، الصَّافَّات، نُوح، الدُّخان، ق، طَه، الشُّعراء، الحِجْر، مَرْيَم، ص، يَس، الزُّخرُف، الجِن، المُلك، المُؤمِنُون، الأنبِيَاء، الفُرقَان، النَّمل، الكَهْف، السَّجدة، فُصِّلت، الجَاثِيَة، الإسرَاء، النَّحل، الرُّوم، هُود، إبْرَاهِيم، يُوسِف، غَافِر، القَصَص، الزُّمر، العَنْكَبوت، لُقمان، الشُّورى، يُونِس، سَبَأ، فَاطِر، الأعرَاف، الأحقَاف، الأنعَام، الرَّعد، الَبَقَرة، البيِّنة، التَّغابن، الجُمُعة، الأنفَال، مُحمَّد، آل عِمْرَان، الصَّف، الحَدِيد، النِّسَاء، الطَّلاق، الحَشْر، الأحْزَاب، المُنافِقون، النُّور، المُجَادَلَة، الحَج، الفَتْح، التَّحريم، المُمتَحَنَة، النَّصْر، الحُجُرات، التَّوبَة، المَائِدَة.

ومِن غريب آراء المستشرقين في ترتيب النزول القرآنيّ ما ينقله نولدكه عن المستشرق الانكليزي وليم موير (1819-1905) مِن أنَّ بعضًا مِن السور القرآنيَّة المباركة جاءت قبل البعثة وضمَّت لاحقًا إلى القرآن العظيم. وهذه السور في ضوء رأي موير هي مِن الإنتاج الشخصيّ للنبيّ محمَّد(صلى الله عليه وآله وسلم)، ولم تكن ممَّا أنزله الله تعالى. ويأتي رأيه هذا في سياق ميله إلى تبرئة النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) مِن تهمة انتحال اسم الله تعالى في كلامه (نولدكه: 2004، ص70). ويتولَّى نولدكه نفسه الردَّ التفصيليّ على هذا الرأي بقوله: (هذا الرأي يخلو مِن الأسباب الإيجابيَّة ويناقض الروايات، لا بل يمكن دحضه مِن خلال بعض السور. فالسور التي يتكلَّم فيها محمَّد(صلى الله عليه وآله وسلم) ضدَّ أعداء الدين والخصوم الذين يكذِّبون به، رافعًا بالمقابل مِن شأن المؤمنين، لا يمكن أنْ تكون قد نشأت في وقت لم يكن فيه على بيِّنة مِن أمره، ولم يتأكَّد بعدُ مِن أنَّه نبيّ الله، ويدعو إلى الدين الجديد. حتَّى سورة العصر التي يعتبرها موير أقدم السور، لأنَّها بشكلها الحالي أقصرها، تتناول أعداء محمَّد(صلى الله عليه وآله وسلم) (الآية 2) وأتباعه المؤمنين الذين يدعو بعضهم بعضًا إلى الصبر تجاه الاضطهادات (الآية 3). هذه السورة لا يمكن، إذًا، أنْ تكون قد نشأت إلَّا مِن بعد أنْ جهر محمَّد(صلى الله عليه وآله وسلم) بدعوته، فاتَّضحت الأضداد) (نولدكه: 2004، ص70–71). ويقرأ نولدكه المسألة قراءة موازنة (ذيب: 2018، ص201–204)، يوازن فيها بين سورة العصر المباركة والسور القرآنيَّة الأخر. مع تحليله أسلوب التعبير عن الذات، فإنَّه (كثيرًا ما توجد مواضع مماثلة لها في السور التي يسمِّيها موير مثل سورة الانفطار؛ سورة الليل.. إلخ. تضاف إلى ذلك المواضع التي يتكلَّم فيها محمَّد(صلى الله عليه وآله وسلم) على اندثار أعداء الله في الأزمنة الغابرة كمثل ينذر به خصومه (سورة الفَجْر؛ وسورة الشَّمْس؛ وسورة الفِيل). وليس صحيحًا أنَّ الله لا يظهر أبدًا في هذه السور متكلِّمًا، فحتَّى لو وافقنا موير على أنَّ المواضع التي يخاطَب فيها محمَّدًا(صلى الله عليه وآله وسلم)، لا تحمل إلَّا مناجاته لنفسه، ولم نهتم لصيغ الأفعال التي تتحوَّل بوساطة تغيير التنقيط مِن صيغة المتكلِّم إلى صيغة أخرى (مثلًا «تفعل» بدل «نفعل» إلخ)، لتبقَّت لدينا المواضع الآتية: سورة البَلَد؛ الشَّرْح؛ الكَوثَر؛ التِّين. يعلن موير (أنَّ الله في هذه المواضع ليس إلَّا وهمًا شعريًّا... لا يجوز لنا أنْ ننجرَّ إلى طروحات لا يمكن تقديم برهان عليها، وذلك فقط بسبب الميل إلى فرضيَّة، لا يدعمها أيُّ سبب راسخ) (نولدكه: ٢٠٠٤، ص71). ويكرِّس نولدكه ردَّه بقوله (لهذا السبب لا نجد، في رأي موير على الأقلِّ، ما قد يدفعنا إلى التخلِّي عن الرواية المتعارف عليها لدى المسلمين. ومفادها أنَّ سورة العلق: 1-5 أقدم ما في القرآن، وأنَّها تتضمَّن أوَّل دعوة تلقَّاها محمَّد(صلى الله عليه وآله وسلم) للنبوَّة) (نولدكه: 2004، ص71).
وتأتي إشارة نولدكه في هذا السياق، وعلى نحو جليّ، إلى أنَّ المستشرقين قد اختلفوا في الترتيب النُّزوليّ للسور القرآنيَّة، واختلافهم لا يقتصر على المراحل التي قسَّموا عليها السور القرآنيَّة، بل يتعدَّاه إلى السور داخل كلِّ مرحلة، وإلى المبادئ التي يتمُّ في ضوئها تقسيم السور، فضلًا عن اختلافهم في تسمية المراحل (نولدكه: 2004، ص71). وعلى الرغم مِن اختلافهم هذا، فإنَّهم بنظرهم التفصيليّ المعمَّق في الترتيب القرآنيّ النُّزوليّ يكونون قد لفتوا الانتباه إلى فوائده وآثاره النوعيَّة، إنْ على مستوى المنهج، وإنْ على مستوى المضمون. ولا يخفى أنَّ هذه الفوائد كلَّها تأتي في ضوء الترتيب النُّزوليّ القرآنيّ في نظام دقيق، وهي تتوالى وتأخذ بأطراف بعض. وهذا ما يميِّز النظر النُّزوليّ، ويجعله محورًا تدور حوله تلكم الفوائد والخصائص التنمويَّة البنَّاءة ذات المشروع الفكريّ التكامليّ الذي ينبغي أنْ يأتي في سياق التغيير والإصلاح.

الخاتمة
على الرغم مِن أنَّ البحث أشار إلى غير واحدة مِن المظاهر المهمَّة التي يمكن الركون إليها في ظلِّ قراءة التفكير النُّزوليّ القرآنيّ الاستشراقيّ، منها أنَّ هذا التفكير يفتح باب البحث والتأمُّل في هذه المسألة في أوساط الدارسين والباحثين على نحو موسَّع، ولقد ظهر هذا التأثُّر في غير واحدة مِن الدراسات النوعيَّة. ناهيك عن أنَّ تكريس التفكير النُّزوليّ القرآنيّ يكون منوطًا بإجراء ترتيب النُّزول ومتطلَّبات مبدأ السُّلَّم النُّزوليّ للخطاب القرآنيّ، وتوظيفها منهاجيًّا بغية إنتاج مقولات تفسيريَّة كلِّيَّة تؤسِّس لأدوات جديدة مؤثِّرة في الفهم القرآنيّ، إذا ما جاء بلحاظ قراءة منهاجيَّة لها خياراتها التنظيميَّة التي تتوافر على نسيج مِن اللوائح النُّزوليَّة القرآنيَّة التي يأتي أكلها في العمل التطبيقيّ الذي يتوخَّى التفكير التحليليّ ذا المتطلَّبات الدلاليَّة. غير أنَّ في الكلام على الترتيب النُّزوليّ القرآني الاستشراقيّ نظرًا، يمكن أنْ يتجلَّى بمجموعة مِن المسائل التي ينبغي اللفت إليها بوصفها محطَّات ناقدة للتفكير الاستشراقيّ وما تأثَّر به مِن خطاب عربيّ في ميدان المعارف القرآنيَّة، رأيتُ أنْ أذكر أهمَّها في هذا الموضع مِن البحث:

وجد المستشرقون في مقولات الترتيب النُّزوليّ منطقة مناسبة لتكريس مقولاتهم النُّزوليَّة التي لا تخلو مِن التكلُّف مِن جهة، وتبتعد عن أجواء الفعل الروائيّ مِن جهة ثانية؛ ممَّا جعلهم يتحرَّرون في هذا المضمار مِن معايير الرواية وضوابطها ومرجعيَّاتها الحاكمة.
أظهر المستشرقون نزعة واضحة نحو التفكير النُّزوليّ القرآنيّ؛ ذلك أنَّهم وجدوا فيه مساحة اجتهاديَّة؛ بغية التمهيد للطعن بالقرآن العظيم بوصفه هدفًا استشراقيًّا مهيمنًا.

يفصل التفكير النُّزوليّ الاستشراقيّ فصلًا صارمًا بين مراحل النُّزول القرآنيّ، وصولًا إلى تقسيم الخطاب القرآنيّ في ظلِّ رسالتين قرآنيَّتين: الرسالة القرآنيَّة المكِّيَّة، والرسالة القرآنيَّة المدنيَّة. وقد يكون هذا التقسيم الصارم آتيًا في ظلِّ النظر إلى «بشريَّة الخطاب القرآنيّ» ولو على نحو مضمر. وهذا الأمر يقتضي أنْ يكون النظر إليه في ظلِّ التفكير التحليليّ بما ينسجم مع كشف آثار هذا الهدف وفضحه وإنْ كان مضمرًا.
الترويح لمقولة «تطور الخطاب القرآنيّ»، واستعمال أوصاف لها أهدافها الخطيرة، مِن قبيل المرحلة «المسالمة» والمرحلة «العنيفة»، والإشارة إلى أنَّ الخطاب القرآنيّ انتقل مِن تلك إلى هذه، والعمل في هذا السياق في ظلِّ التفكير النُّزوليّ؛ إذ إنَّ المتابعة المصحفيَّة المألوفة لا تضع اليد على مثل هذا الانتقال. معنى هذا، أنَّ مِن بين الغايات غير العلميَّة «المدسوسة» التي يسعى إليها منظِّرو التفكير النُّزوليّ المتأثِّر منهم بالمدِّ الاستشراقيّ، أنَّهم يجدون فيه فرصة للتعريض وإظهار نزعة العنف والتمييز ضدِّ المرأة وغير المسلمين. وأكبر مِن هذا ، تأتي الدعوة طلبًا للإصلاح لترك «القرآن المدنيّ»؛ لأنَّه القرآن «العنيف» الذي «يخالف» -زعمًا- مظاهر حقوق الإنسان ومبادئها.
ظهرت في ظلِّ التفكير النُّزوليّ الاستشراقيّ مقولات أقلُّ ما يقال عنها إنَّها غريبة، ولا تخدم التفكير النُّزوليّ بالقدر الذي تخدم فيه مشروع الاستشراق ومَن يتبنَّاه في «بشريَّة» الخطاب القرآنيّ. وفي هذا السياق تأتي مقولة السور القرآنيَّة التي قيل إنَّها تسبق البعثة.

لائحة المصادر والمراجع
أبو زيد، نصر حامد ٢٠٠٥: مفهوم النص - دراسة في علوم القرآن، ط٦، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب.
أبو ساحليّة، سامي عوض الذيب ٢٠١٦: القرآن الكريم بالتسلسل التاريخيّ وفقًا للأزهر، ط٣، مركز القانون العربيّ والإسلاميّ، سويسرا.
إسكندرلو، محمَّد جواد ٢٠١٥: تاريخ الآيات والسور القرآنيَّة في دراسات المستشرقين - نقد وتحليل، مجلَّة دراسات استشراقيَّة، العدد الثالث، العتبة العبَّاسيَّة المقدَّسة، كربلاء، العراق.
بزركَان، مهدي ٢٠١٥: القرآن في مسار تطوّره - في تحليل البنية اللفظيَّة والموضوعيَّة، ترجمة: كمال السيِّد، ط١، مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلاميّ، بيروت.
بلاشير، ريجي ١٩٧٤: القرآن - نزوله، تدوينه، ترجمته وتأثيره، ترجمة: رضا سعادة، ط١، دار الكتاب اللبنانيّ، بيروت.
الجابريّ، محمَّد عابد ٢٠٠٦: مدخل إلى القرآن الكريم - الجزء الأوَّل في التعريف بالقرآن، ط١، مركز دراسات الوحدة العربيَّة، بيروت.
الجابريّ، محمَّد عابد ٢٠١٠: فهم القرآن الحكيم - التفسير الواضح حسب ترتيب النزول، مركز دراسات الوحدة العربيَّة، بيروت.
حسن، سامي عطا ٢٠٠٣: الاتجاه العلمانيّ المعاصر في علوم القرآن الكريم – الجابريّ أنموذجًا، جامعة آل البيت، الأردن.
حسن، سامي عطا ٢٠١٢: المناسبات بين الآيات والسور - فوائدها وأنواعها وموقف العلماء منها، مجلَّة الشريعة والدراسات الإسلاميَّة، العدد الثالث والخمسون، جامعة الكويت.
الحمويّ، المنتصر بالله عمَّار ٢٠٢٢: ترتيب نص القرآن قراءة نقديَّة في أطروحة آرثر جفري، مجلَّة دراسات استشراقيَّة، العدد الثلاثون، المركز الإسلاميّ للدراسات الإستراتيجيَّة، العتبة العباسيَّة المقدَّسة، كربلاء، العراق.
الدقيقيّ، رضا محمَّد ٢٠٠٩: كتاب تاريخ القرآن للمستشرق الألماني تيودور نولدكه - ترجمة وقراءة نقديَّة، ط١، دار الميمان للنشر والتوزيع، قطر.
ذيب، فتيحة ٢٠١٨: في آليَّات فهم الخطاب الديني عند محمَّد عابد الجابري - مدخل إلى القرآن الكريم أنموذجًا، أطروحة دكتوراه، كلِّيَّة الآداب واللغات، جامعة محمَّد لمين دباغين، الجزائر.
الصالح، صبحي ١٩٧٧: مباحث في علوم القرآن، ط١٠، دار العلم للملايين، بيروت.
الصدر، محمَّد محمَّد صادق ٢٠١٢: منَّة المنَّان في الدفاع عن القرآن، ط١، دار ومكتبة البصائر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت.
الصغير، محمَّد حسين علي ١٩٩٩: تاريخ القرآن، ط١، دار المؤرِّخ العربيّ، لبنان.
الصغير، محمَّد حسين علي ١٩٩٩: المستشرقون والدراسات القرآنيَّة، ط١، دار المؤرِّخ العربيّ، بيروت.
طه، عابدين طه ٢٠١٠: ترتيب سور القرآن الكريم – دراسة تحليليَّة لأقوال العلماء، مجلَّة البحوث والدراسات القرآنيَّة، العدد التاسع، مجمَّع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، المملكة العربيَّة السعوديَّة.
عدلاويّ، علي عبد العزيز ٢٠١٣: أثر ترتيب نزول القرآن الكريم في البناء العقائديّ والسلوك الحضاريّ للأمَّة الإسلاميَّة، أطروحة دكتوراه، جامعة تلمسان، كلِّيَّة العلوم الإنسانيَّة والاجتماعيَّة، الجزائر.
قطب، سيِّد ١٩٨٥: في ظلال القرآن، ط١١، دار الشروق، بيروت.
نولدكه، تيودور ٢٠٠٤: تاريخ القرآن، ترجمة: د. جورج تامر، ط١، مؤسَّسة كونراد - أدناور، بيروت.
ياسين، إحسان طه ٢٠١٧: ترتيب النزول وأثره في تفسير القرآن الكريم، مجلَّة الأطروحة للعلوم الإنسانيَّة، العدد الثامن، دار الأطروحة العلميَّة، بغداد.

----------------
[1][*]- باحث في اللسانيَّات الدلاليَّة وتحليل الخطاب القرآنيّ، العراق - جامعة القادسيَّة.