الباحث : نبيل دبابش
اسم المجلة : دراسات استشراقية
العدد : 37
السنة : شتاء 2024م / 1445هـ
تاريخ إضافة البحث : January / 14 / 2024
عدد زيارات البحث : 1597
في مؤلَّف جماعيّ عنوانه ظهور ديانة عالميّة «Die EntstehungeinerWeltreligion VI» أُنجز تحت إشراف كلٍّ من ماركوس كروب Mrakus Krob وروبير كير Robert Kerr والصادر في ألمانيا سنة 2021م، نجد فصلًا خاصًّا يعرض أطروحة الباحث الفرنسيّ المختصّ في الإسلاميّات: غيوم دي Guillaume Dye، والذي هو في الأصل مداخلتان: ألقيت الأولى في جامعة ماينز Mayence سنة 2019م، والثانية في جامعة ستراسبورغ Strasbourg سنة 2020م. سنعمل على عرض بعض ما جاء في هذا الفصل1* ومن ثَمّ مناقشته وتفكيك الخلفيّات المعرفيّة التي تتضمنّها هاتان المداخلتان.
بالنّسبة لغيوم دي: السّؤال المرتبط بأصل القرآن La Genèse وجمع المصحف Le Corpus وكتابته ونشره في الأمصار يتضمّن بالضّرورة بحثًا على مراحل عدّة:
1. التّبليغ الشّفهيّ La Proclamation orale
2. كتابة مختلف النّصوص (أثناء حياة النّبيّ أو بعده)
3. جمع مختلف النّصوص لأجل إنجاز مخطوط Codex
4. توزيع المخطوط وتناقله.
ربّما لا تظهر هذه المراحل بوضوح دائمًا؛ إذ قد يحدث تناقل بعض أجزاء المخطوط قبل الانتهاء من إتمام إنجاز المصحف في الجزء الثّاني للقرن السّابع للميلاد. ويمكننا في نظر غيوم دي مقاربة هذا الموضوع من خلال الاهتمام بما تقدّمه الدراسات المختصّة بالعهد الجديدLes Etudes Néotestamentaires، وتحديدًا السّؤال أو الإشكال السّينوبتيكيّ La Question Synoptique.
التقاليد الموازية والإشكال السّينوبتيكيّ
إنّ السّؤال الأساس -في تصوّر غيوم دي- هو ليس: كيف نفسّر النّصوص؟ لإثبات عدم وجود تناقضات، وإنّما كيف يتشكّل النصّ وما هو تاريخه؟
إنّ الأناجيل الثلاث: مرقس، متّـى ولوقا، تتميّز بتشابه كبير في مضمونها وتتميّز عن إنجيل يوحنّا، سواء على مستوى التكوينComposition، من خلال تسلسل بعض الوحدات الأدبيّة (وعظ، أوامر ونواهي، معجزات، جدال) في مقابل استعمال يوحنّا لفصول سرديّة أوسع، أو على مستوى المضمون عينه، لهذه الوحدات الأدبيّة. إنّ هذا التّشابه أو الاختلاف هو ما يسمّى بالسؤال السّينوبتيكي، أي كلّ ما له صلة بدراسة العلاقات بين مختلف النّصوص والنظام الكرونولوجيّ لتدوينها، وما هي النّصوص التي يمكن اعتبارها مستنبطة من الأخرى أو التي يجمعها مرجع مشترك، وكيف تمّ ذلك؟
إنّ دفتر الشّروط المطلوب من كلّ محاولة لمعالجة الإشكال السينوبيتكي، يتطلّب الالتزام به، أيضًا، ما يلي: التّفسير الثلاثيّ للنّصوص المشتركة بين مرقس ومتّى ولوقا. التفسير الثّنائيّ للنّصوص المشتركة بين متّى ولوقا، والغائبة عند مرقس.
بداية من القرن الثّامن عشر للميلاد ظهرت عدّة محاولات لمقاربة السّؤال السينوبتيكي وأهمّها فرضيّة الإنجيل الأوّل l’Evangile Primitif التي مثّلها ليسينغ Gotthold Ephraim Lessing، إذ إنّه يفترض وجود إنجيل أوّل (ضائع)، يسمّيه إنجيل العبرانيّين أو إنجيل النّصارى، كُتب بالعبريّة أو الآراميّة، استنبطت منه الأناجيل السّينوبتيكيّة الثلاث. رغم أنّ الأناجيل السينوبيتكيّة الثلاث كُتبت باليونانيّة، إلّا أنّ ذلك لا يمنع افتراض كون أصحابها استمدّوا نصوصهم من إنجيل واحد. ولكن تبقى هذه الفرضيّة مقبولة عندما يتعلّق الأمر بوجود تشابه بين النّصوص المنسوبة إلى الأناجيل الثلاث، وعاجزة على تفسير بعض الاختلافات بين النّصوص مثل تلك المتعلّقة بـ«ولادة المسيح» أو «الحوار الأخير للسيّد المسيح».
في مقابل ذلك، توجد فرضيّة التقليد الشّفهيّ، المتعدّدة الرّوايات، والتي تقول بوجود تراث شفهيّ حيّ خلف تدوين الأناجيل، وأنّ سبب وجود توافق بين هذه الأناجيل السينوبتيكيّة يعود إلى تنظيم رسوليّ Régulation Apostolique للتّقليد الشّفهيّ، بينما تعود الاختلافات إلى المحيط الذي عاش فيه كلّ إنجيليّ ومدى انثنائه لمتطلّبات القرّاء. ولكن رغم ذلك لا تكفي هذه الفرضيّة أيضًا في إقناع غيوم دي في تفسير السّؤال الكبير.
يوجد تفسير آخر يعود إلى القرن الرّابع للميلاد والمسمّى بالنّموذج الجينيالوجيّ Le Modèle Généalogique ممثَّلًا في أطروحة القدّيس أوغسطين، والتي مفادها وجود إنجيل متّى كأقدم نصّ، ويليه تسلسلًا في الزّمن إنجيل لوقا الذي يستفيد منه، ثمّ يأتي إنجيل مرقس الذي يأخذ عنهما.
ما هي الدّروس المستخلصة من تاريخ السّؤال السينوبتيكيّ في دراسات العهد الجديد؟ إنّ الفرضيّات الأكثر إقناعًا -في تقدير غيوم دي- هي التي استطاع أصحابها التخلّص من سيطرة التّفسيرات التّقليدية، والتّركيز على الإشارات والعناصر الدّاخليّة التي تحتويها النّصوص لأجل ملء دفتر الشّروط، رغم كون بعض الباحثين الأوائل، تاريخيًّا، قد اعتمدوا، بشكل مركّز، في صناعة نظريّاتهم، على أعمال ونصوص بعض أباء الكنيسة مثل: بابياس من هيرابوليس de Hiérapolis Papias أو إكليمندس الإسكندريّ Clément d’Alexandrie إلخ.
إنّ السّؤال السينوبتيكيّ هو بمثابة محفّز رائع يسمح بفهم تاريخ الأناجيل والمسيحيّة، ومفتاح يسمح بفهم أصول الأناجيل، وكذا الوسائل والمنهجيّة التي ظهرت في إطار هذه المقاربة... لا يوجد توافق بين الباحثين، والنّتائج التي تمّ إنجازها لا تعدو عن كونها مجرّد فرضيّات، بالرغم من كلّ ذلك فهي مُهمّة ولا يمكن تجاهلها... إذ ماذا ستكون الحال لو اقتصرت الدّراسات على معطيات الرّواية التّقليديّة؟.
إنّ الدّراسات المتعلّقة بالعهد الجديد تشابه كثيرًا الدراسات القرآنيّة التي عرفت في الغرب، وإلى غاية فترات متأخّرة، متمثّلة في أعمال تيودور نولدكه Theodor Nöldeke وفرديريك شوالي Friedrich Zacharias Schwally، اللّذيْن سجّلا دورَ المقاطع المتوازية في إنجاز كرونولوجيا خاصّة بالنصّ القرآنيّ، ولكنّهما لم يستعملاها أبدًا وبقيا رهينا الرّؤية السُنيّة التّقليديّة.
السّؤال السّينوبتيكي في القرآن
يرى غيوم دي أنّ القرآن من وجهات عديدة هو نصّ تكراريّ، ينطبق ذلك بوجه خاصّ عندما يتعلّق الأمر بالقَصص. كثيرًا ما نجد أنفسنا أمام القصّة ذاتها مذكورة في مواضع عديدة من المصحف، مثلًا قصّة سجود الملائكة وعناد إبليس (سورة البقرة الآية 34، سورة الأعراف الآيات 11-18، سورة الحِجر الآيات 28-35، سورة الإسراء الآيات 61-65، سورة الكهف الآية 50، سورة طه الآية 116، سورة ص الآيات 71-78) أو ما تعلّق أيضًا بقصّة نوح (سورة الأعراف الآيات 59-64، سورة يونس الآيات 71-74، سورة هود الآيات 25-49، سورة المؤمنون الآيات 23-30، سورة نوح الآيات 1-28 إلخ..)، وينطبق الوصف ذاته على أشكال أدبيّة أخرى مثل النّصوص التّشريعيّة أو ما تعلّق بمحرّمات بعض أنواع الأكل وغيرها من الموضوعات. هذا التّكرار هو دليل على القيمة التي أعطيت لهذه الآيات والأفكار التي تحتويها، سواء بالنّسبة لناسخي المصحف أو بالنّسبة للمجتمعات التي شاركت في جمع القرآن. ولكن ليس لهذا التكرار الوظيفة ذاتها دائمًا؛ إذ إنّنا في بعض الحالات نجد الآيات المتكرّرة متطابقة، مثل (سورة البقرة الآية 173 وسورة النّحل الآية 115)، وفي حالات أخرى نلحظ تغيّرًا في التّعبير، الذي ربّما يشير إلى تطوّر أو تبدّل ذي دلالة ما. كيف نفسّر هذا التّوازي؟ وماذا يمكنه أن يخبرنا عن تاريخ تدوين القرآن؟ عديدة هي الفرضيّات الممكنة، نظريًّا.
التّفسير الأوّليّ لهذه الملاحظات هو ما يسمّى «التّفسير المنسجم Explication Harmonisante» والذي يقول إنّ القصّة الحقيقيّة يمكن الوصول إليها من خلال الجمع بين مختلف الرّوايات المذكورة في المصحف Corpus، وأنّ كلّ جزء، إذا ما أُخِذ على انفراد، لا يعطينا سوى شطر من المقصود. هذه المقاربة تقلّل من وجود التّناقضات بين مختلف الرّوايات؛ إذ إنّها تعتبر كلّ ما نسمّيه تناقضًا هو مجرّد المظهر الخارجيّ أو هو في بعض الجزئيّات البسيطة ليس إلّا. إذا كان طرد آدم وزوجه من الجنّة قد ذُكر مرّتين في سورة البقرة: الآيات 35-38. ولكن مرّة واحدة في سورتي (الأعراف الآية 24 وطه الآية 132)، فإنّ بعض المفسّرين يقولون إنّ الهبوط الأوّل كان من السّماء البعيدة إلى السّماء الأولى والهبوط الثّاني من السّماء الأولى إلى الأرض. نعم، من المؤكّد أنّها تفسيرات سطحيّة. وبشكل عامّ فإنّ التّفسير المنسجم يرى بأنّه لا يمكننا فهم النصّ بشكل واضح إلّا من خلال الجمع بين مختلف أجزائه وإعادة تركيبها.
التّفسير الثّاني هو الذي اقترحه ج. فونسبروغ John Wansbrough والذي يفترض أنّ سبب هذه المتوازيات الموجودة في القرآن يعود إلى تقاليد مستقلّة أو ربّما جهويّة أُضيفت كاملة إلى المصحف. هذه الأطروحة -في تقدير غيوم دي-تبقى عاجزة على تفسير التّشابه، وأحيانًا التّطابق في التّعبير بين الرّوايات المتوازية.
التّفسير الثّالث مثّله فريد دونير Fred.M.Donner ويرى أنّ سبب الرّوايات المتوازية هو دليل على وجود روايات شفهيّة عديدة لقصّة واحدة، بُني بعضُها على الأخرى في أوقات زمنيّة متقاربة، أي كتسجيلات متعدّدة لخطاب واحد، لرجل سياسيّ، تمّ عرضه في مناسبات عديدة خلال بضعة أيّام. إنّه بسبب الاختلافات الممكنة بين العديد من الرّوايات الشّفهيّة، وُجدت آيات عديدة تروى قصّة واحدة. إنّ فرضيّة دونير تسمح بتقديم تفسيرين اثنين، أو أنّها تحيل إلى ظاهرتين مختلفتين: وجود تعدّد في النقل الشفهيّ، من جهة، ومن جهة ثانية الأسلوب أو الطريقة التي تلقّى وفقهما المستمعُ الخبر ثمّ قام بنقله.
إنّ هذه الفرضيّة الشائعة تعترضها بعضُ الصّعوبات أهمُّها: أنّها تنطلق من مبدأ أنّ كلّ النّصوص المعالَجة تعود إلى نوع أدبيّ واحد هو الوعظ الشّفهيّ، وهنا يكمن الخلل، إذ إنّ العديد من النّصوص تنتمي إلى أشكال أدبيّة أخرى.
كما أنّه، بالنسبة للسُّور الطويلة، يتعذّر اعتبار النّقل الشّفهي مرجعًا في تدوينها. ولكنّنا نبقى في مواجهة الإشكال نفسه فيما يخصّ أشكال التّطابق والاختلاف. فالتشابهات هي في الغالب قريبة جدًّا من بعضها؛ ممّا يجعل تفسيرَها يقتصر فقط على وجود مرجع واحد مكتوب.
التّفسير الرّابع: وهو ما يعبّر عنه بالمراجعة والاستئناف المستمرّ Révisons et Reprises لقصّة واحدة، والتي قد يعاد استعمالها وتكييفها معدَّلة في إطار تركيب جديد. فنحن أمام إعادة كتابة وتركيب. يوجد سؤالان، يتعلّق الأوّل بفهم متى يمكن تحديد زمن هذا الوضع (المراجعة والاستئناف) ومَن هُم المسؤولون عنه، أثناء حياة «محمّد» والذي يشاركه فيه كتبة الوحي Scribes، أو أنّ ذلك حدث في الفترة الفاصلة بين وفاة «محمّد» وزمن تدوين المصحف.
انسجام، توتّر وتكامل
يدافع نيكولاي سيناي Nicolai Sinai في دراسات عديدة عمّا يسمّيه: القراءة الإجرائيّة للقرآن Lecture Processuelle du Coran، فهو يعتبر أنّ مختلف الروايات الموجودة لقصّة واحدة هي في الأصل روايات تكامليّة. وهو يؤسّس هذه القراءة الإجرائية على أساس حُجّتين:
1. استمرار تداول الرّوايات القديمة بالموازاة مع الرّوايات الجديدة، وهو ما يعني تمكّن الروايات القديمة من المحافظة على سلطة معيّنة.
2. أنّ النّصوص المتأخّرة تفترض نفس المعطيات الموجودة في النّصوص القديمة دون أن تكرّرها.
يبدو للوهلة الأولى، أنّ هذا التصوّر -في اعتقاد غيوم دي- قد حقّق شيئًا من المعقوليّة، ولكنّه معروف أيضًا أنّ الشّيطان يقيم في التّفاصيل. إنّ قراءة الرّوايات المتأخّرة مع أخذ الروايات القديمة بعين الاعتبار، هو شيء آخر، ولكن هذا يترك الطريق مفتوحًا أمام إمكانيّة تفسير وفهم الاختلافات والعلاقات بينها. وهو ما عملت فرضيّة سيناي على التّقليل من أهمّيّته.
لنبدأ بالحجّة الثانية، إذ إنّ الروايات المتأخّرة تفترض نفس المعطيات الموجودة في الروايات القديمة. إنّ القرآن هو بشكل عامّ نصّ إيحائيّ Allusif ويحتاج إلى الكثير من المعلومات الضّمنيّة لأجل فهمه بشكل كامل، وهذه المعلومات لا يمكن البحث عنها في نصوص قرآنيّة أخرى فقط. إنّ النّصوص القرآنيّة التي امتلكتها الجماعات الأولى للمؤمنين، ليست بالضّرورة نصوص سيحتويها القرآن، ربّما نجد في المقام الأوّل مجموعة التقاليد اليهوديّة والمسيحيّة التي تشكّل الخلفيّة النصيّة للكثير من البيريكوب Péricopes (مجموعة آيات متتالية ذات موضوع واحد) القرآنيّة والتي كانت معروفة عند منتجي النصّ وعند جزء من المستمعين. كما أنّ بعض ميزات النبوّة تمّ الاحتفاظ بها في القرآن، وبعضها الآخر تناقلها الحديث، وبعض الوقائع لم يتمّ تدوينها في القرآن ونُسيت.
نقطة أخرى مهمّة، إنّ جزءًا من الرّواية القديمة قد نسي في الرّواية الجديدة بسبب الاعتقاد أنّ جمهور المستمعين يعرفه، أو لأنّه يمثّل مشكلًا بالنّسبة لجزء من منتجي النصّ أو بالنّسبة لبعض مستقبليه.
في الكثير من الحالات، فإنّ القراءة المنسجمة قد تؤدّي إلى نتائج عكسيّة، لأنّ سيناي Sinai يساوي بين «الإقحام» و«إعادة الكتابة». نأخذ أنموذجنا من سورة مريم (السورة 19)، فنجد الآيات 34-40 هي بمثابة خلاف مع المسيحيّة وهي بمثابة إقحام، بينما لا يمكن اعتبار الآيات 1-33 نصًّا معاديًا للمسيحيّة، بل هي ربّما نصوص تقاربٍ مع المسيحيّين... قراءة الآيات 34-40 مع الآيات 1-33 لا تشكّل أيّ انسجام... وفق قراءة سيناي سنجد أنفسنا بصدد إسقاط النصّ القديم على النصّ الجديد، لأنّ صاحب النصّ يرسم حدودًا بين المؤمنين والمسيحيّين... فالقراءة المنسجمة تجعلنا نتبنّى النّصوص المتأخّرة، وبالتّالي ننزوى ضمن التصوّرات الأرثوذوكسيّة الدّينيّة القائمة على تأجيج الصّراعات. لنأخذ مثالًا آخر: وهو مثال خَلق الإنسان في التاريخ وسجود الملائكة، فعبارة الله نفخ من روحه في آدم لا توجد إلّا في الرّوايتين القديمتين (سورة ص الآية 72، سورة الحِجر الآية 29) وغائبة في روايات أخرى، بالخصوص في سورة الأعراف الآية 11، وهذا الغياب هو وفق تصوّر سيناي، ظاهرة غير ذات قيمة، أي جزء بسيط من التاريخ تمّ تركه جانبًا؛ لأنّ جمهور المستمعين يعرفونه مسبقًا وفي وسعهم تخمينه.
يعتقد غيوم دي أنّ غياب هذه العبارة ذو دلالة، ويمثّل عائقًا يشابه الذي وجد في القصص القرآنيّة المتعلّقة بيسوع، نشعر به في فهم دور الرّوح الإلهيّة في خلق (آدم والمسيح) والنتائج التّيولوجيّة التي يمكن استخلاصها حول طبيعة آدم والمسيح؛ إذ في وسع بعض الأفراد المستمعين اعتماد قراءة منسجمة بين الرّوايات القديمة مع الجديدة، واعتبار أنّ الله نفخ من روحه في آدم تبقى رواية قائمة، ولكن في المقابل فإنّ جزءًا آخر من المستمعين قد يرى الأمور من زاوية مختلفة، ويصبح في نظره أن منتجي الرّوايات الجديدة قد أهملوا عن قصد هذا الجانب من التاريخ التيولوجيّ.
فالتناقضات، ربما، ليست بالكثيرة ولكنّها موجودة بالفعل - إذ ماذا نقول في النّموذج التالي: (سورة المائدة الآيات 51-69-82-83) والتي لا تتضمّن تناقضًا ولكن يصعب وصفها بالمنسجمة، أو كذلك في النّموذج التالي: (سورة ص: الآيات 71-73، سورة الحجر: الآيات 28-30) أين يأمر الله الملائكة بالسّجود لآدم بعد أن يخلقه، ولكنّ آدم أثناء هذا الأمر الإلهيّ لم يُخلق بعد، بينما في السّور (الأعراف الآية 11 وسورة البقرة الآيات 30-34) يأمر الله الملائكة بالسّجود لآدم بعد تحقّق الخلق. ولكنّ السّؤال الأساس عند سيناي يكمن في وجود تكامل في النصّ القرآنيّ وتبرير لأجل اعتماد قراءة منسجمة وإجرائيّة. بينما -في تقدير غيوم دي- يجب الانطلاق من المبدأ عكسيًّا: إنّ نشاط النسّاخ في مراحل لاحقة، مبنيٌّ على قراءة منسجمة هو من عمل على تحقيق التّطبيع Normalisation بين النّصوص. إنّ قراءة سيناي الإجرائيّة التي تدّعي البعد عن أسلوب المدح هي في الأصل رهينة للنّظرة الأرثوذوكسيّة. فالتّعامل مع النصّ كما هو معطى يجرّ بالضّرورة إلى إعادة إنتاج الرؤية الأرثوذوكسيّة.
سورة ص الآيات 71-85 وسورة الحجر الآيات 26-45
يقول غيوم دي إنّه في وسعنا العودة إلى الأسئلة المتعلّقة بنقل النصّ القرآنيّ، وإلى التّفسيرات الممكنة للقصص القرآنيّ، أي ما ارتبط بالمراجعة والاستئناف المستمرّ، لقصّة واحدة. سأحاول الاهتمام ببعض مظاهر قصّة سجود الملائكة وعناد إبليس والتي ورد ذكرها سبع مرّات في القرآن. (سورة البقرة: الآية 34، سورة الأعراف: الآيات 11- 18، سورة الحجر: الآيات 28-35، سورة الإسراء: الآيات 61-65، سورة الكهف: الآية 50، سورة طه: الآية 116، سورة ص: الآيات 71-78).
يقترح علينا بوهلمان Pohlmann حججًا قويّة عند اعتماد الترتيب التالي: سورة ص، الآيات 71-85 ثمّ تليها سورة الحجر، الآيات 26-43، وبعدها سورة الأعراف، الآيات 11- 24 وتليها سورة طه الآيات 115-123، وأخيرًا سورة البقرة الآيات 30-38. هناك تقارب كبير بين سورة الحجر وسورة ص، مع وجود جزءين من سورة ص متضمّنة في سورة الحجر وبنفس الترتيب. إنّ رواية سورة الحجر تبدأ بما يمكن تسميته بإضافة لاحقة، وتغيير كلمة «طين» بكلمة «صلصال من حمأ مسنون» لتبيين سبب كبرياء إبليس.
يمكننا القول إنّ أطروحة بوهلمان القائلة بوجود نشاط للكتبة النسّاخ يعتمد على نصوص مكتوبة، جدّ مقنعة فيما يخصّ سورة البقرة الآيات 36-38 وسورة الأعراف الآية 24 وسورة طه الآية 123، ولكن ذلك لا يعني عدم وجود توافق نصّيّ حول بعض النّصوص القصيرة... فالنّصوص تمّ إعادة بنائها من خلال نصوص أخرى ولا يوجد دور مؤكّد للرّواية الشفهيّة. إنّ المحيط الذي شهد ولادة الأناجيل شهد أيضًا مولد القرآن، إنّها ثقافات تمنح للشفهيّ قيمة كبيرة، والنصوص في حاجة إلى إتقان شفهيّ وإلى تلاوة، ولكن اعتبار أنّ النصّ تمّ إعداده لأجل التلاوة لا يعني أنّه لم يستند في تدوينه إلى نصّ سابق. مهما يكن للشفهيّ من قيمة لدى هذه الجماعات، فهي القيمة عينها الممنوحة للمكتوب (إنّها ليست مجتمعات شفهيّة بالكامل- وجود الكثير من النّقوش الكتابيّة في جزيرة العرب).
إنّ ما يفسّر التّقارب القائم بين سورة ص الآيات 71-85 وسورة الحجر الآيات 26-43 هو بالأساس وجود نصّ مشترك، وهو ما يفسّر تقارب بنية سورة ص مع سورة الحجر. نعم، لا يمكننا التعميم، فكلّ من الشفهيّ والكتابيّ يتداخلان في تدوين المصحف القرآنيّ. ولكن علينا الأخذ بجديّة أنّ الطبيعة السينوبتيكيّة للقرآن هي عمل كتابيّ .Œuvre Scribale
هذه هي أهمّ النّقاط الواردة في المداخلتين اللّتين ألقاهما غيوم دي -قمنا بترجمتها بتصرّف– واللتان هما بمثابة شرح وتوسعة لأطروحته المعروفة بالكتابة والمراجعة المستمرّة للقرآن، والتي انتهت نسبيًّا زمن الخليفة الأمويّ عبد الملك بن مروان. فوجود نصوص أولى لا يعني وجود قرآن أوّل كامل ومُنتهٍ في الفترات الأولى من التاريخ التأسيسيّ.
المناقشة
إنّ القرآن -في نظر غيوم دي- ليس نصًّا متميّزًا عن بقية النّصوص الدّينيّة التي عرفت بها العصور القديمة المتأخّرة (اليهوديّة والمسيحيّة)l’antiquité tardive، ويظهر ذلك واضحًا من خلال تبنّيه للعديد من القصص التّوراتيّة والمسيحيّة وانخراطه في النّقاشات الكبيرة التي عرف بها، قبله زمنيًّا، التقليد اللاهوتيّ اليهوديّ والمسيحيّ، وخصوصًا فيما تعلّق بالجانب الايسكاتولولجيّ (القيامة، الحساب والعقاب...). إنّه نصّ يناقش تلك المسائل اللاهوتيّة الكبرى ويقدّم تفسيرات لها. كما أنّه أدبيًّا يتميّز ببعض التشابه مع ما سبقه من النصوص الدّينية الشّرعيّة أو المنحولة (سورة 55 الرحمان تشابه المزامير)، قصّة أهل الكهف ورحلة الإسكندر الأكبر، موجودة في التراث السّريانيّ... إلخ
و لكن -دون الخوض في فكر غيوم دي- بالحجم الذي لا يتطلّبه هذا البحث البسيط، نقول إنّه من المدافعين عن الفرضيّة التالية: لا يمكن أبدًا التّسليم بالمقولة التاريخيّة التي تضمّنتها كتب الأوائل، وبالخصوص صحيح البخاري، والتي مفادها أنّ المصحف الذي بين أيدينا هو عينه المصحف العثمانيّ، والذي -وفق الرواية الرسمية- تمّ تدوينه من قبل مجموعة من الصّحابة ترأسّها الصحابيّ زيد بن ثابت. بل هو -في اعتقاده- كتاب ساهم في إنجازه وجمع مكوّناته العديدة مجموعة كبيرة من النسّاخ بالاعتماد على نصوص مكتوبة، في مراحل تاريخيّة متتالية، انتهت نسبيًّا زمن الخليفة عبد الملك بن مروان. مضمون السّور يوحي - في نظره بهذا الإنجاز المتتالي للمصحف، كما أنّ الدّراسات التي أجريت بالاعتماد على الكربون 14 تبيّن بأنّ معظم المخطوطات التي عثر عليها تعود إلى الفترة المذكورة، أي نهاية القرن السابع للميلاد.* 2
لنحاول مناقشة مضمون المدخلتين وما تخفيه النصوص من معوّقات إبيستمولوجيّة يمكن تجاوزها في إطار البحث العلميّ:
إنّ غيوم دي يتعامل ظاهريًّا مع النصوص وبشكل مجرّد، ويسمّي هذا الاختيار بالبحث في الأصول، وكأن السُّور والآيات ولدت من ذاتها ولا تنتمي إلى بيئة اجتماعيّة جغرافيّة وتاريخيّة يمكن وصفها ومعرفتها ومن ثمّ فهم علاقتها بمحتوى النصّ.
إنّ أطروحة غيوم دي تتعامل مع الآيات كعناصر مجزَّأة من الإطار العامّ، وهو ما لا يسمح بتحقيق مقاربة دقيقة لها.
إنّ هذه القراءة للقرآن (السينوبتيكيّة) لا تسمح -في تقديرنا- بفهم النّصوص فهمًا جيّدًا بل هي تجعل منه وحدات مستقلّة تنسخ بعضها ومتكرّرة عبثيًّا، وبالتالي يصبح من السّهل ودون أيّ عناء تشبيهها بالإشكال السينوبتيكي المعروف في الأناجيل .
توجد قراءات أخرى للقرآن لا تتعامل مع ظاهر الآيات بل مع مضمونها، ودون تجزئتها، من خلال قراءة البيئة التي ولدت فيها، (ولكن غيوم دي غير مقتنع بجدوى هذا المنهج في المقاربة)، والتي نعتبرها أكثر معقوليّة في مناقشة مضمون السُّور دون تجزئتها، بل هي تقيم مقاربتها بناءً على فهم المحيط الجغرافيّ والاجتماعيّ لجزيرة العرب ومدى علاقته بمضمون الآيات. وهو ما عبّرت عنه بدقّة كبيرة الباحثة جاكلين شابيJacqueline Chabbi في كتابها «القرآن من دون تشفير، حضور الرّموز التّوراتيّة في جزيرة العرب.Le Coran décrypté, figures bibliques en Arabie». إنّ كلّ الرّموز التي تمثّلها الآيات القرآنيّة مستمدّة من البيئة الاجتماعيّة والجغرافيّة للواقع العربيّ ومن دون فهم هذا الواقع لن يصبح يسيرًا الوصول إلى دلالات صحيحة، بل ربما سنضيع في متاهات المعنى وفي إسقاطات غير مفيدة.
كما توجد العديد من القراءات الأخرى للنصّ القرآنيّ، ربّما أهمّها قراءة ميشيل كويبرس Michel Cyupers في كتابه «في نظم القرآن La Composition du Coran» الذي يرى في السّور القرآنيّة بنيات متكاملة تحتوي بنية خفيّة واحدة هي مفتاح النصّ، موجودة في كلّ سورة يجب البحث عنها لأجل فهم الدّلالة العميقة للسّورة. فالسّور القرآنيّة تنتمي إلى نظام البلاغة السّامية وأهمّ ما يميّزه هو الافتقاد إلى الصّورة الكلاسيكيّة الموجودة في الخطاب الإغريقيّ أي المقدّمة والموضوع والخاتمة. لا يوجد في نظر ميشيل كويبرس تكرار، بل إنّ كلّ آية لها دلالتها الخاصّة ضمن الإطار الذي وجدت فيه، يجب البحث وفهم تلك الدلالة ضمن النسق العامّ. وقد قام بإنجاز العديد من البحوث على بعض السُّور مثل سورة المائدة، سورة الإخلاص... إلخ، وهو ينفي وجود تناقض أو تكرار في القرآن، بل إنّه يعتبر آياته متماسكة بشكل جيّد ويصعب فصل بعضها عن بعض.
هذا العرض لغيوم دي يخفي إشكالًا كبيرًا -قيد النّقاش بين مختلف المدارس العلميّة المعاصرة اليوم- والذي مفاده السّؤال التالي: هل القرآن الذي وصلنا هو من مصحف عثمان؟ أم هو نتيجة مراجعة وتعديل مستمرّين انتهى نسبيًّا في زمن الخليفة عبد الملك بن مروان؟ ما السرّ في وجود ذلك التّشابه والتكرار في القرآن؟ التّفسير الوحيد الذي يقترحه هو «الكتابة والمراجعة المستمرّة» التي تتضمّن تعديلات أو إضافات، في كلّ فترة.
حاولنا -قدر الإمكان- من خلال هذا العرض المقتضب تقريب القارئ العربيّ من واقع البحوث المعاصرة حول القرآن والتراث الإسلاميّ، والتي يتمّ العمل بها في معاهد كبرى لدى مجتمعات ما وراء البحار، في زمن لا تزال البيئة العربيّة فيه تضفي الكثير من القداسة على الموروث الفقهيّ للقرون الوسطى وترفض كلّ انفتاح على البحث المعاصر وما يخفيه من أسرار وإشكالات. من المفترض أن تكون بيئة هذه البحوث هي الجامعات والمعاهد في الأوطان العربيّة.
المراجع
/1ص 234/ 260 من المرجع.
Hérésies: une construction d’identités religieuses/ Guillaume Dye/ 2 Editions de l’Université de Bruxelles 2015.
-------------------------------
[1][*]- باحث، الجزائر.