الباحث : حسن أحمد الهادي
اسم المجلة : دراسات استشراقية
العدد : 39
السنة : صيف 2024م / 1445هـ
تاريخ إضافة البحث : June / 4 / 2024
عدد زيارات البحث : 878
إذا كان الاستشراقُ كما قُدّم في الخطاب الأكاديمي الغربي، وفي السرديات الثقافيّة، واللغة المعجميّة، يعني دراسة ما يتعلّق بالشرق من النواحي الدينيّة والثقافيّة والاجتماعيّة، والتاريخيّة، والحضاريّة...، بهدف قراءة تراث الآخر ومعارفه وعلومه، والاستفادة من هذه العلوم والمعارف والتجارب الحضاريّة المتنوّعة على امتداد التاريخ، فهذه عمليّة غاية في النبل والشفافيّة العلميّة، وتنعكس إيجابًا على كلّ أطراف القضيّة، إذ مقتضى دراسة أيّ مجتمع أو حضارة استبيان حقيقته وواقعه، ما يكشف عن نقاط قوّته ونقاط ضعفه، حيث يمكن تعزيز عناصر القوّة ومعالجة موارد الضّعف في الآتي من الأيام.
أمّا أن يسعى المستشرقون وتعمل حركة الاستشراق الفكريّة بشكل حثيث لإعادة صياغة منظومة العلوم والمعارف، بالاستناد إلى الأدواة المنهجيّة المعتمدة عندهم وفق المنظور الغربي، وإسناد منظومة القيم الإسلاميّة إلى خلفيات الثقافات الغربيّة تحت عنوان التلاقي والتلاقح الثقافي والفكري، فهذا غاية السقوط المنهجي والغائي؛ لأنّه لا يتعدّى عمليّة سلب تراث الشعوب والحضارات بعد تزييفه وتشويه معالمه.
والأكثر استغرابًا في المقام أنّهم يحاولون تقديم نسخة جديدة من الإسلام بالاستعانة بطبقة خاصّة من المسلمين المستغربين، طبقًا لما تحمله هذه الثقافة من قيم تتناسب مع النسق الفكري والثقافي للعالم الغربي. علمًا بأنّ هؤلاء لم يطلبوا من المسلمين الابتعاد عن دينهم، بل قاموا بكل ما يمكن فعله لتقريب الإسلام إلى ثقافتهم وقيمهم ثم تقديمه على أساس أنّ هذا هو الإسلام الذي جاء به قرآن المسلمين ونبيّهم(صلى الله عليه وآله وسلم). وهذا ما يفسّر الاهتمام المفرط للمستشرقين في جميع أنواع الدراسات القرآنيّة والتاريخيّة الإسلاميّة والحديثيّة، إذ لم يتركوا مجالًا يرتبط بالقرآن أو بعلومه أو تفسيره وقراءة نصوصه... إلّا وتصدّى له العديد من الشخصيّات والمدارس الاستشراقيّة وفي مراحل زمنيّة ممتدّة. وهكذا الحال في دراسة التاريخ الإسلامي والسنة الشريفة، يقول رودي باريت في هذا السياق: «ونحن في هذا نطبّق على الإسلام وتاريخه، وعلى المؤلفات العربية التي نشتغل بها المعيار النقدي نفسه الذي نطبّقه على تاريخ الفكر عندنا وعلى المصادر المدونة لعالمنا نحن»[1]. وهذا ما عبّر عنه جملة من المستشرقين، يقول المستشرق «بلاشير» -على سبيل المثال-: «قلّما وجدنا بين الكتب الدينيّة الشرقيّة كتابًا بلبل بقراءته دأبنا الفكري أكثر مما فعله القرآن». فالقرآن كتاب مقلق ومحيّر لهؤلاء، وقد بلبل أفكارهم، بل قد تكون الحقيقة أعمق من ذلك بكثير لأن المأزق الذي يستشعره بلاشير، ونولدكه، وجولدتسيهر، وكبار علماء الاستشراق مع القرآن يمثّل في بدايته خطرًا استراتيجيًّا على النسيج الاجتماعي للغرب، وفي نهايته يمثّل خطرًا وجوديًّا يهدّد الكيان الغربي برمته.
وكان من بين هؤلاء المستشرقين المستشرق اليهودي المجري «جولد تسيهر»، والذي قام بدراسة الإسلام قرآنًا؛ وسنّة؛ وفِرقًا؛ وقد تنوّعت دراساته كمًا وكيفًا؛ إذ «كتب ثلاثین مقالاً في الموسوعة العلمیّة، ومائتین وعشر مقالات، وخمسة وثلاثین كتابًا». وقال بعض الباحثين إّنها قد بلغت ما يقارب 582 بحثًا. وبلغت حسب باحث آخر خمسمائة واثنتين وتسعين (592) بحثًا، ولكن بغضّ النظر عن العدد الدقيق لمقالاته وكتبه، فلقد اشتهر الرجل بغزارة إنتاجه عن الإسلام حتى عُدّ من أهم المستشرقين لكثرة إسهامه وتحقيقاته عن الإسلام ورجاله. وأشهر كتابين لجولدتسيهر وأهمهما تأثيرًا على الإطلاق هما كتاب «العقيدة والشريعة في الإسلام»، وكتاب «المذاهب الإسلاميّة في تفسير القرآن».
وقد صدّر جولد تسيهر ﻛﺘﺎﺑﻪ (مذاهب اﻟﺘﻔﺴﲑ اﻹﺳﻼﻣﻲ) ﺑﺘﻌﺮﻳﻒ ﻟﻠﻘﺮآن اﻟﻜﺮﱘ واﻟﺬي ﻗﺎل ﻓﻴﻪ: «ﻓﻼ ﻳﻮﺟﺪ ﻛﺘﺎب ﺗﺸﺮﻳﻌﻲ -اﻋﱰﻓﺖ ﺑﻪ ﻃﺎﺋﻔﺔ دﻳﻨﻴّﺔ اﻋﱰافًا عقديًّا ﻋﻠﻰ أﻧّﻪ ﻧﺺّ ﻣﻨـﺰل أو ﻣﻮﺣﻰ ﺑﻪ-... [فيه] من الاضطراب وعدم الثبات كما نجد في القرآن»[2]. وﰲ ﻛﺘﺎب (اﻟﻌﻘﻴﺪة واﻟﺸﺮﻳﻌﺔ ﰲ اﻹﺳﻼم) يعرّف اﻟﻘﺮآن بقوله: «القرآن هو الأساس الأول للديّن الإسلامي، وهو كتابه المقدّس، ودستوره الموحى به، وهو في مجموعه مزيجًا من الطوابع المختلفة اختلافًا جوهريًّا، والتي طَبَعت كلا العصرَين الأوّلين من عهد طفولة الإسلام»[3].
وإذا لاحظنا تعريفه للقرآن، فإنّنا نجده قد تأثّر بما يحمله من أفكار يهوديّة، فقد اعتبر أنّ القرآن الكريم فيه اضطراب وعدم ثبات، وأنّه مزيج مختلط من الثقافات المتعدّدة، وليس من عند الله. وهو بذلك ﱂ يستطع الخروج من تأثيرات العقيدة اليهودية. وبتعريفه ذاك ﺃﺭﺍﺩ أن يضفي على القرآن ما أضفاه أصحاب الديانات الأخرى من التغيير والتبديل، لأنّه على علم بما احتوته الكتب المقدّسة عند اليهود، سواء العهد القديم أم التلمود، من فروق واختلافات بين النُسَخ وتناقضات في الأخبار واضطراب في الألفاظ والأساليب البيانية.
ومن التطبيقات غير المبرّرة منهجيًّا عند المسلمين والتي قام بها «جولدتسيهر»، أنّه قد فسّر الحالات التي كانت تعتري النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) حين تلقي الوحي زعمه أنّ الوحي ليس حالة منفصلة عن النبي وتأتيه من الخارج، بل اعتبر الوحي ينبع من ذات محمد، وهذا بالتالي يعني إنكار الوحي والنبوة واعتبار القرآن الكريم كتابًا من عنديات محمد. وفي هذا المجال، يقول: «مـن أجـل هـذا علينـا أن نـذكر كلمـة ذات معنـى قالهـا (هارنـاك) عـن الأمراض التي تصيب الرجال الذين فوق البشر دون سواهم، والتي يـستقون منهـا حيـاة جديدة كانت قبل ذلك مجهولة، كما يتّخذون منهـا قـوّة تهـدم جميـع العقبـات، ومـن ذلـك حمية النبي أو الحواري»[4].
ونجده -على سبيل المثال- بعدما يصرّح بأنّ كتاب محمد(صلى الله عليه وآله وسلم) بأجمعه ليس إلّا مزيجًا منتخبًا من مجموعة معارف دينيّة، استقاها من هنا وهناك من عناصر يهوديّة ومسيحيّة وغيرها، يبدأ تحليلًا سيكولوجيًّا لنفسيّة النبي محمد لغرض تبرير مدّعاه، فيقول: إنّ النبيّ «تأثر بهذه الأفكار تأثرًا وصل إلى أعماق نفسه، وأدركها بإيحاء قوّته التأثيرات الخارجيّة، فصارت عقيدة انطوى عليها قلبه، كما صار يعتبر هذه التعاليم وحيًا إلهيًّا، فأصبح -بإخلاص- على يقين بأنّه أداة لهذا الوحي»[5].
ختامًا، إنّ الفهم الاستشراقي للقرآن يختلف كلّ الاختلاف عنه عند المسلمين عامّة، والباحثين المسلمين خاصّة، وذلك لاختلاف المنطلقات والخلفيات والمنهجيات، فالمستشرق الذي يدرس نص القرآن وعلومه لا ينطلق من الحقيقة المطلقة لدى المسلمين تجاه القرآن الكريم، أي أنّ هذا النصّ وحيّ منزّل، ومعجز نزل على رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، أي لا يدرسه من زاوية الإيمان، بل من زاوية العلم المنفصل عن جميع ما يدخل في باب الإيمان والعقيدة، ويعالج الاستشراق النص القرآني وفقاً لمعايير علوم الديانات العامة، ووفقًا لعلوم التاريخ، فنصّ القرآن في رأي المستشرقين ليس إلّا وثيقة تاريخيّة ثمينة، باعتباره مبدأً أساسيًّا في إيمان المسلمين وعقيدتهم، وهذا ما ينبغي على الباحثين المسلمين مراعاته عند القراءة في دراسات المستشرقين أو مناقشتهم حتى لا يحصل الخلل في الفهم والنتائج.
ويبدو أنّ للعقل الغربي أهدافًا استراتيجيّة توجّهه بعمق للتحذير من خطورة كتاب المسلمين (القرآن الكريم)، والذي يشكّل خطرًا وجوديًّا على المنظومة القيميّة والمفاهيميّة ونمط الحياة المادية الغربيّة، وبالتالي على النموذج الحضاري في الغرب. وهو ما يفسّر حالة التناقض أحيانًا، وحالة عدم الانسجام والتوازن أحياناً أخرى، في دراسة المستشرقين للقرآن الكريم. ففي الوقت الذي يدرس فيه هؤلاء القرآن دراسةً معمّقةً بعيدةً عن التعصّب والأهداف المسبقة، يتوقّفون مع بعض الأفكار غير المفهومة عندهم أو التي فسّرها بعضهم بتفسيرات مخالفة لما يريده القرآن، ويحاكمون القرآن والنبي(صلى الله عليه وآله وسلم) والإسلام في ضوئها. وهذا ما يدحض مقولة أنّهم على الحياد، أو أنّهم طلّاب معرفة وبحوث علميّة عن الشرق الإسلامي.
والحمد لله رب العالمين
------------------------------
[1]- زقزوق، محمود حمدي، الاستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضاري، القاهرة، دار المعارف، 1997م، لا.ط، ص81.
[2]- جولدزيهر: مذاهب التفسير الإسلامي، ترجمة: عبد الحليم النجار، بيروت، دار اقرأ، ط2، 1403هـ، ص4.
[3]- جولدزيهر: العقيدة واﻟﺸﺮﻳﻌﺔ ﰲ اﻹﺳﻼم، ترجمة: محمد موسى وآخرين، اﻟﻘﺎﻫﺮة: دار اﻟﻜﺘﺐ اﳊﺪﻳﺜﺔ، ط2، ص22.
[4]- جولدتسيهر: العقيدة والشريعة، ص12.
[5]- انظر: أبو رية، رائد محمد عبد الوهاب، السيرة النبوية في فكر مونتغمري واط وكارين ارمسترونج – دراسة تحليلية تقويمية، رسالة ماجستير – جامعة الأزهر – كلية أصول الدين والدعوة بطنطا، ص297.