الباحث : إشراف: سماحة السيد عبد الكريم الحيدري ـ إعداد: حمزة جعفر
اسم المجلة : دراسات استشراقية
العدد : 39
السنة : صيف 2024م / 1445هـ
تاريخ إضافة البحث : June / 4 / 2024
عدد زيارات البحث : 1118
الملخّص
تتناول هذه المقالة ترجمةً ونقدًا لمقالة من تأليف المستشرق وليد أحمد أوردها في كتاب «وجهات نظر جديدة حول القرآن، القرآن في سياقه التاريخي الجزء الثاني»، حيث يقارب الكاتب قصّة لوط(عليه السلام) مع قومه عبر عدسة التقابل النصّيّ، معتقدًا بوجود علاقة بين القرآن الكريم والكتاب المقدّس، فيبحث في القصة الواردة في الكتاب المقدّس ويقارنها بالقصة القرآنيّة، محاولًا التوصّل إلى نتيجة تجيب على سؤال: «هل قدّم لوط(عليه السلام) بناته لقومه من غير تقييد بزواج؟»، فيرجّح -بناءً على ما ورد صريحًا في الكتاب المقدّس، وصامتًا (حسب رأيه) في القرآن الكريم- احتمال أن يكون عرض لوط(عليه السلام) من غير تقييد بزواج، موردًا في استدلاله بعضَ النقاط التي تحتاج إلى جواب. وفي الردّ على آرائه، اعتمدنا على منهج تفسير القرآن بالقرآن، مبيّنين وجه الاستفادة من هذا المنهج في الردّ على من لا يؤمن بالقرآن أساسًا.
وأمّا النتائج المتمخّضة عن النقد فهي: إثبات أنّ لوطًا(عليه السلام) قدّم بناته لقومه مقيِّدًا عرضه بالزواج الشرعيّ، مع توضيح الغاية من هذا العرض، والردّ على بعض آراء المفسّرين التي تُذكر عادةً في توجيه هذه الحادثة.
الكلمات المفتاحية: الاستشراق، القرآن في سياقه التاريخي، قصّة لوط، بنات لوط، وليد أحمد، الكتاب المقدّس.
المبحث الأوّل: ترجمة المقالة
على الرغم من أنّ القصّة القرآنيّة لدمار مدينة سدوم لديها إجمالًا البنية نفسها لنظيرتها الأقدم في الكتاب المقدّس، إلا أنّها قصّة مختلفة، فعلى سبيل المثال يعتبر القرآن أنّ لوطًا رسولٌ لله. ولكننا في هذه الدراسة مهتمون بالبحث حول عنصر مشترك بين القصّتين، وهو ما حدث عندما عرض لوط بناته للسدوميّين من أجل إقناعهم بعدم التعدّي جنسيًا على ضيوفه الذكور. يحكي القرآن القصّة في ثلاث آيات فقط:
(قَالَ هَٰؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ) (الحجر: 71).
(وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ ۚ قَالَ يَا قَوْمِ هَٰؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ ۖ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي ۖ أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ) (هود: 78-79).
سنحاول في الصفحات القليلة الآتية تطبيق تحليل التقابل النصّيّ على هذه الآيات. إنّ الهدف الأساس هو اكتشاف الحوار بين القرآن ومحيطه الثقافيّ بطريقة تشرح جيّدًا النشوء المتتابع في هذه الآيات في النصّ، وتُظهر أهمّيتها. وقبيل نهاية المقالة، سأقوّم ما ورد في التفاسير الإسلاميّة المتقدّمة فيما يتعلّق بهذه الآيات وأقارنها بالنتائج التناصّيّة التي توصّلت إليها.
إطار البحث
بالرغم من الاهتمام الكبير الذي أُعطي للقصص القرآنيّة في الأبحاث المعاصرة، إلّا أنّ العلماء لم يبادروا إلى التركيز بشكل أساسيّ على وجوه الشبه و/ أو الافتراق بين هذه القصص وأسلافها اليهوديّة والمسيحيّة إلّا مؤخّرًا. ثمّة مقاربة مشهورة وهي أنّ تُعزل عناصر النص التي تصف شخصية معيّنة في القرآن، ومن ثمّ دمجها في عمليّة فحص، وبعدها يتمّ تركيبها مع قصة تلك الشخصية في المصادر اليهوديّة والمسيحيّة. ولكن خلال تشكيل هذه التركيبات، لا يُعطى اهتمامٌ -أو يُعطى اهتمامٌ قليلٌ- للظهور المتتابع والتدريجيّ لعناصر هذه القصّة في القرآن. إضافةً إلى ذلك، عند استخراج هذه العناصر القصصيّة من النصوص الأصليّة، تكتسب هذه العناصر -ولو جزئيًّا- أهميّة جديدة بسبب تأثّرها بإطارها النصّيّ والمحيطيّ الجديد في التركيب. بالتالي، فصَلَت بشكل كبير هذه الدراسات -بالفعل- التحاليل للقصص القرآنيّة عن تاريخ النصّ القرآنيّ، وعلاوةً على ذلك، قد أخرجت عناصر القصص من سياقها بشكل جوهريّ.
سنفحص تمثيل القرآن لحادثة بنات لوط ضمن إطار الرواية الإسلاميّة التقليديّة، آخذين بعين الاعتبار تاريخ النصّ القرآنيّ. في هذا الإطار، سنهتم بشكل أساس بالترتيب الزمنيّ للفقرتين القرآنيّتَين اللتين تشملان الآيات الثلاثة التي ذكرت بنات لوط، أي سورة الحجر الآية 15، وسورة هود الآيات 69 إلى 83. ونظرًا إلى فقدان أدلة تاريخيّة معتبرة، فإننا سنناقش الترتيب الزمنيّ لهاتين الفقرتين وفقًا للنصوص.
إنّ كلا الفقرتين في سورة الحجر وسورة هود يحكي عن قصة زيارة الملائكة لإبراهيم ولوط. إضافةً إلى ذلك، كلّ واحدة من الفقرتين هي نصٌّ متماسك بنفسه. إذا أخذنا هذه الميزات بعين الاعتبار، يمكن تصوّر تسلسل لهاتين الفقرتين القصصيّتَين في الوحي القرآنيّ نسبةً لبعضها البعض.
عمومًا، يمكن اعتبار الآيات 51 إلى 77 من سورة الحجر خلاصةً مختصرةً للقصة التوراتيّة الموازية في سفر التكوين الإصحاح 18، الآيات 1 إلى 19، والآية 29. إلا أنّ هذه الفقرة القصصية رغم أنّها حافظت على هيكل القصّة التوراتيّة السالفة، ولكنّها تتجاهل الكثير من العناصر الموجودة فيها. على سبيل المثال، لا تروي أنّ إبراهيم جهّز طعامًا لرسل الله أي الملائكة، ولا أنّه تضرّع لله نيابةً عن السدوميّين. كما توجد فوارق أخرى بين فقرة سورة الحجر وفقرة سفر التكوين. فمثلًا، تفيد فقرة سورة الحجر أنّ إبراهيم خاف من رسل الله في بادئ الأمر[2]، كما تقول إنّ إبراهيم أُخبر بمصير زوجة لوط[3]. بالمقارنة مع فقرة سورة الحجر، نجد أنّ فقرة سورة هود هي نموذج أشمل إلى حدّ ما، إذ إنّها لا تدعم نظيرتها في سورة الحجر بالمزيد من التفاصيل -والتي لها نظائر في القصة التوراتية- فحسب، بل إنّها تُدخل عناصر قصصيّة جديدة غير موجودة في سورة الحجر أو في النسخة اليهوديّة للقصّة.
ولا بأس في هذا المجال من ذكر بعض الأمثلة، ففي الوقت الذي لا تذكر الفقرة من سورة الحجر تجهيز إبراهيم وليمةً لرسل الله، تقول سورة هود الآية 69 إنّ إبراهيم قد هيّأ طعامًا لهم، وتحديدًا كان عجلًا مشويًا. كذلك، ورد في سورة الحجر الآية 52 بشكل مختصر ريبةُ إبراهيم تجاه الرسل، بينما تبرّر الآية 70 من سورة هود هذا الأمر عبر تأكيدها أنّ إبراهيم ازداد ريبةً من ضيوفه عندما رأى أن أيديهم لا تصل إلى العجل المشوي الذي أعدّه لهم ليأكلوا، وهو تفصيل غير مذكور في المصادر اليهوديّة. إضافةً إلى ذلك، تذكر الآية 53 من سورة الحجر بشارة مولود ذَكَر جديد لإبراهيم دون تسميته، في الوقت الذي ذكرت الآية 71 من سورة هود اسم المولود، وهو تفصيل آخر غير موجود في النسخ اليهوديّة للقصّة. ثمّة إضافة أخرى في الحكاية التي أوردتها سورة الحجر، ألا وهي ذِكر تدخّل إبراهيم لصالح السدوميّين في سورة هود الآيات 74 إلى 76. وأخيرًا، تحكي الآية 79 في سورة هود ردّ السدوميّين على لوط عندما عرض لهم بناته، وهو توسعة لقضية بنات لوط الواردة في الآية 71 من سورة الحجر.
إذا ما أخذنا بعين الاعتبار السياق النصيّ الذي ظهرت فيه الفقرة من سورة هود -خصوصًا وأنّها في سورة متماسكة مثيرة للجدل تقول بإنّ محمّدًا لا يأتي بهذه الإلهامات من نفسه-، يمكن وصف التوسّعات المتعلّقة بزيارة الرسل لإبراهيم ولوط في الفقرة من سورة هود على أنّها تعديلات متأخّرة على النسخة التي حُكي عنها مسبقًا في الآيات 51 إلى 77 من سورة الحجر.
أمّا فيما يتعلّق بالمصادر (النصوص السابقة) التي تشكّلت على أساسها الرواية القرآنيّة لحادثة بنات لوط، توجد حالتان يجب أن نأخذهما بعين الاعتبار في تحليلنا. في الحالة الأولى، سنفترض أنّ الحكاية القرآنيّة للحادثة تشكّلت على أساس سياق ثقافيّ (شفويّ في الغالب) متوافق مع رواية المصادر اليهوديّة والمسيحيّة للحادثة. في الحالة الثانية، سندرس إذا ما كان ثمّة سرد شفويّ مختلف عمّا في هذه المصادر هو الخلفية للحكاية القرآنيّة للحادثة، خصوصًا ما يخصّ عرض لوط بناته للسدوميّين.
إنّ المراجعة الشاملة للمصادر اليهوديّة والمسيحيّة التي يعود تاريخها إلى ما قبل القرن الثامن تكشف أنّ -على ما يبدو- المصادر المسيحيّة أهملت رواية –أو إعادة رواية- هذه القصّة. بالمقابل، نجد أنّ جميع المصادر اليهوديّة التي تمّت مراجعتها متّفقة على أنّ لوطًا عرّض بناته للشهوات الجنسيّة بتقديمهنّ للسدوميّين، وذلك من أجل أن يحمي ضيوفه الذكور من الاعتداء الجنسيّ، وهذا ما تقوله القصّة التوراتيّة بشكل مباشر. مع وجود هذا التفسير الموحّد بهذه الحادثة في النصوص اليهوديّة، ليس ضروريًا أن نأخذ بعين الاعتبار جميع المصادر اليهوديّة التي تمّت مراجعتها في تحليلنا بصفتها نصوصًا سابقة. ليس همّنا أن نبحث في المصادر الأقرب إلى القرآن، بل نحن مهتمّون بشكل أساس بالمعنى. بالتالي، سأستخدم الفقرة التي وردت في سفر التكوين الإصحاح 18 الآيات 1 إلى 19 والآية 29، وهي القصة التي كانت المصدر السابق الذي طوّرت على أساسه بقية النصوص اليهوديّة سردها للحكاية.
دراسة الحالة الأولى
تقول الآية 71 من سورة الحجر:
(قَالَ هَٰؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ).
من الواضح جدًّا -حتى بقراءة سطحيّة- أنّ هذه الآية وحدها لا توصل معنى محدّدًا. إنّها لا تفسّر ما قصده لوط عندما قدّم بناته للسدوميّين، أي لا تخبر عن طبيعة هذا العرض. وعلى مستوى النصّ لا تخبر الآيات التي قبلها وبعدها عن هذا الأمر كذلك.
بالرغم من أنّ النحويّين العرب مصرّون على أنّ المقطع الأول من الآية أي عبارة: (هَٰؤُلَاءِ بَنَاتِي)، هي جملة تامّة مؤلّفة من مبتدأ وخبر، إلا أنّهم اعترفوا أيضًا أنّها لا توصل المعنى المحدد وحدها. على سبيل المثال، في كتابه: الدرّ المصون في علوم الكتاب المكنون، يؤكّد السمين الحلبيّ (المتوفى 596هـ/ 1199-1200م) أنّه من الضروريّ دعم هذه الآية بعنصر إضافيّ لكي توصل المعنى المحدد («لا بُدّ من شيء محذوف تتمّ به الفائدة»). وقال النحويّون إنّ هذا العنصر بالرغم من أنّه محذوف إلا أنّه مقدّر. وقد قدّموا اقتراحين لحلّ هذه المسألة؛ في أحد هذين الحلّين المقدّر المحذوف هو فتزوجوهنّ أو فانكحوهنّ. بالتالي، يصير معنى الآية 71: «هؤلاء بناتي فتزوجوهنّ». في الحلّ الثاني، اعتبروا أنّ المحذوف هو فعل أمر تقديره «تزوجوّهن» أو «انكحوهنّ» في بداية الآية، حيث اعتبرت «هؤلاء» مفعولًا به لهذا الفعل، و«بناتي» بدلًا عن «هؤلاء»، فإذن في هذه الحالة سيكون معنى الآية 71: «تزوّجوا بناتي هؤلاء».
تشير الآية بكل تأكيد إلى عنصر خارجيّ (أو عناصر) من أجل إيصال المعنى المحدّد للمخاطَب. في الواقع، يتطلّب الأمر قراءة على طريقة التقابل النصّيّ. يجب الأخد بعين الاعتبار أنّه -وباستثناء الآية 71 من سورة الحجر والآيتين 78 و79 من سورة هود- لا توجد أي اشارة إلى بنات لوط في القرآن، وأنّ الآيتين 78 و79 من سورة هود حسب الترتيب الزمنيّ الذي تبنّيناه- أُنزلتا بعد الآية 71 من سورة الحجر. وإذا ما أريد فهم الآية 71 من سورة الحجر في زمن نزولها، كان يجب فهمها عبر عملية تقابل نصّيّ مع مصدر سابق خارج القرآن.
ورد في سفر التكوين الإصحاح 19 الآية 8: «هوذا لي ابنتان لم تعرفا رجلًا. أخرجهما إليكم فافعلوا بهما كما يحسن في عيونكم. وأمّا هذان الرجلان فلا تفعلوا بهما شيئًا، لأنهما قد دخلا تحت ظلّ سقفي». تتبيّن بعض الأمور بالمقارنة بين ما ورد في سفر التكوين وبين الآية 71 من سورة الحجر. في سورة الحجر، رغم أنّ عبارة (هَٰؤُلَاءِ بَنَاتِي) لا تحدّد عدد بنات لوط ولا تشير إلى بكارتهن من عدمها، إلّا أنّها تلمّح إلى جملة: «هوذا لي ابنتان لم تعرفا رجلًا. أخرجهما إليكم» الواردة في سفر التكوين. كذلك، استبدلت عبارة سفر التكوين «فافعلوا بهما» بـ: (إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ)، في سورة الحجر. وأخيرًا، لم تتكرّر–بشكل صريح على الأقلّ- في الآية 71 من سورة الحجر عبارة سفر التكوين التي حدّد فيها لوط شروط عرضه «كما يحسن في عيونكم». أمّا بقية ما ورد في سفر التكوين الإصحاح 19 الآية 8 تكرر صداه في الآية 68 من سورة الحجر السابقة للآية 71. إذن، على العموم، تشير الآية 71 من سورة الحجر إلى ما ورد في سفر التكوين 19: 8 من عرض لوط وفعل منسوب إلى السدوميّين. يجب اعتبار الآية 71 من سور الحجر تلميحًا لما ورد في سفر التكوين 19: 8. توجد علامة تلميحيّة واضحة جدًّا في الآية 71، وهي الإشارة الصريحة إلى عرض لوط: (هَٰؤُلَاءِ بَنَاتِي).
ولكن لاستيعاب المعنى الكامل لهذا التلميح، لا يكفي التشخيص الصحيح لما تدلّ عليه العلامات التلميحيّة؛ لأنّ هذه العبارة لا تحدّد طبيعة عرض لوط (أخرجهما إليكم). إنّ معنى هذا التلميح ليس المعنى نفسه المدلول عليه، بل هو الخصائص والمدلولات المترافقة مع هذا المعنى الموجود في المصدر السابق.
قبل أن نحاول حلّ هذه القضيّة، لا بدّ من أن نشير أولًا إلى تأثير الحكاية قبل علامة التلميح على معنى القصّة. تقول الآية 67 من سورة الحجر: (وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ). لا شكّ في أنّ هذه الآية بنفسها لا تفيد أنّه لماذا استبشر السدوميّون من خبر قدوم ضيوف لوط الذكور. ولكن ما ورد في سفر التكوين، الإصحاح 19، الآية 5 («فَنَادَوْا لُوطًا وَقَالُوا لَهُ: «أَيْنَ الرَّجُلاَنِ اللَّذَانِ دَخَلاَ إِلَيْكَ اللَّيْلَةَ؟ أَخْرِجْهُمَا إِلَيْنَا لِنَعْرِفَهُمَا (جنسيًّا)») تعتبر أنّ القرّاء يعلمون مسبقًا أنّ سبب فرح السدوميّين هو أنّهم متشوّقون للتعدّي الجنسيّ على ضيوف لوط الذكور. والآية 68 من سورة الحجر تؤكّد هذا الأمر. وتروي أنّ لوطًا ترجّى السدوميّين ألّا يفضحوه أمام ضيوفه: (قَالَ إِنَّ هَٰؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ).
إذن، لا يدفع القصور في المعنى في العلامة التلميحيّة وصياغتها الخاصّة القرّاءَ إلى أن يتذكّروا المدلولات المرافقة لقصّة عرض لوط لبناته في التوراة فحسب، بل يقدّم النصُّ التلميحيّ -الوارد قبل العلامة التلميحيّة- كذلك خصائص مراد النصّ المصدر من أجل إتمام معنى العلامة التلميحيّة؛ بالتالي قُدّم عرض لوط في الآية 71 من سورة الحجر على أنّه حلّ وضعه لوط نفسه من أجل تفادي التعدّي الجنسيّ على ضيوفه. بمجرّد أن يتذكّر القرّاء ما يلي في سفر التكوين الإصحاح 19، الآية 8، أي «فَافْعَلُوا بِهِمَا كَمَا يَحْسُنُ فِي عُيُونِكُمْ»، يكتشف القرّاء أن عرض لوط للسدوميّين كان بلا قيود. إذا كانت نيّة السدوميّين منذ البداية هو التعدّي جنسيًّا على ضيوف لوط، وعرض لوط بناته كبديل من غير قيود على الإطلاق، يكون لوط قد عرّض بناته بلا شك للرغبات الجنسيّة للسدوميّين عبر تقديمهن لهم.
ويؤكّد هذا الفهم عبارة (إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ) مباشرةً بعد العلامة التلميحيّة في الآية 71. وهذه العبارة تكرار لصدى عبارة سفر التكوين 19: 8 «فَافْعَلُوا بِهِمَا»، وستعني على ضوء الفقرة الكاملة في سفر التكوين في الإصحاح 19 من الآية 1 إلى 29: «... إذا ما أصرّيتم على نيّتكم التعدّي جنسيًّا على ضيوفي».
ومن المؤكّد أنّ فهم هذه الحادثة بهذه الطريقة في هذه الحالة لا يتوافق مع قانون الأخلاق الإسلاميّة؛ فقد سبق ذلك تأكيد القرآن أنّ لوطًا رسول الله، إضافةً إلى ذلك، من الممكن أن تكون بعض الآيات التي حرّمت الزنا قد نزلت في زمن نزول سورة الحجر. قد تكون هناك رواية شفويّة تمّمت القصة القرآنيّة للحادثة، والتي حلّت ما يبدو أنّه تناقض.
ولا بدّ في المقام من أن نمنح المزيد من الاهتمام لرواية قصّة بنات لوط في سورة هود.
الآيتان 78 و79 من سورة هود
تقول الآية 78: (وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ ۚ قَالَ يَا قَوْمِ هَٰؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ ۖ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي ۖ أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ).
تتضمّن هذه الآية تلميحًا لا لبس فيه لحادثة بنات لوط التي وردت في كلٍّ من سفر التكوين الإصحاح 19 و/ أو سورة الحجر (وقد أشرنا إلى أنّ دلالات الكتاب المقدّس حول هذه الحادثة موجودة في سورة هود). وعبارة (هَٰؤُلَاءِ بَنَاتِي) هي بكلّ تأكيد علامة تلميحيّة.
نحويًّا، تجعل عبارة (هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ) في الآية 78 العلامة التلميحيّة خبرًا، إلا أنّ هذه العبارة يمكن أن تُفهم بطريقتَين. فإذا ما كان المقصود من كلمة «أَطهَر» معنىً غير مادّيّ أيّ طهارة القلب من الذنب، حينها قد لا تكون عبارة (هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ) متوافقة مع دلالات الكتاب المقدّس لعرض لوط. وسنبحث لاحقًا هذا الاحتمال في دراسة الحالة الثانية. أمّا الاحتمال الثاني، فهو أنّ عبارة «أَطهَر» في هذه الآية كانت للقرّاء الأوائل للقرآن تُفهم بمعنى «أنظف»، أي معنى مادّيّ (نظافة جسديّة). في هذه الحالة، لا تعارض عبارة (هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ) دلالات الكتاب المقدّس لعرض لوط. بمعنى أنّ لوطًا كان يقول بكل بساطة للسدوميّين إنّ العلاقة الجنسيّة مع بناته «أنظف» من العلاقة الجنسيّة مع ضيوفه الذكور.
وتتابع الآية 79 في سورة هود سرد القصّة، قائلة: (قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ).
المسألة هنا هي أنّه إذا كان لوط يقدّم بناته للسدوميّين بلا أيّ قيود، كما هو الحال في القصّة التوراتيّة، لماذا كان جوابهم على هذا النحو؟ إنّ النصوص القرآنيّة صامتة فيما يتعلّق بهذا السؤال، ولكن على ضوء النصوص اليهوديّة نستفيد أنّ هذا الجواب يدلّ على أنّ عرضَ لوط لم يكن متوافقًا مع أعراف السدوميّين. فقد شرّع السدوميّون في عرفهم الحقّ لأنفسهم في التعدّي على الغرباء، ولا يحق للوط بصفته نزيلًا مؤقتًا أن يغيّر هذا العرف عبر تقديم بناته لهم. وبالتالي، يكون جواب السدوميّين على الشكل التالي: إنّك تعلم أنّه ليس لنا حقّ في بناتك لأنّه حسب عرفنا ليس لنا حقّ إلا في ضيوفك.
دراسة الحالة الثانية
بالنظر إلى تركيب الآية 71 من سورة الحجر والآيتين 78 و79 من سورة هود، يبدو أنّ افتراض وجود رواية شفويّة خارجيّة تُكمّل الحكاية الواردة في هاتَين المجموعتَين معقولًا، وهي تختلف عن دلالات الكتاب المقدّس لعرض لوط، ومن شأنها أن تحدّد طبيعة هذا العرض. يجب أن تقدّم هذه الرواية الشفويّة عرض لوط على أنّه بديل عمّا كان ينوي السدوميّون فعله من اعتداء على ضيوف لوط، ولكن يجب أن تجعل هذا العرض مقيّدًا بشروط وضعها لوط بنفسه أيضًا، لا أن تكون متوقّفة على رغبات السدوميّين، وإلا كان تفسيرها متطابقًا مع دلالات الكتاب المقدّس. لا يمكننا إلا اللجوء إلى التفاسير الإسلاميّة؛ لأنّها المصدر الوحيد الذي يقدّم لنا الفرضيّة لطبيعة عرض لوط في هذا السيناريو.
يرجّح الكثير من المفسّرين المسلمين أنّ لوطًا قدّم بناته للسدوميّين للزواج. وعلى ما يبدو أنّ هذا ينسجم مع المعايير التي ذكرناها أعلاه. إضافةً إلى ذلك، يتّفق مع معنى «أطهر» في الآية 78 من سورة هود في معناها غير الماديّ. لو كان هذا التفسير لعرض لوط في الرواية الشفويّة التي تشكّلت على أساسها القصّة القرآنيّة لحادثة بنات لوط، حينها ستفيد العلامة التلميحيّة (هَٰؤُلَاءِ بَنَاتِي) في الآية 71 من سورة الحجر والآية 78 من سورة هود أنّ لوطًا عرض للسدوميّين بناته للزواج (أي هؤلاء بناتي، فتزوجوهنّ).
ولكنّ المشكلة الرئيسة في فرضيّة الزواج هذه أنّها لا تتلاءم مع جواب السدوميّين على عرض لوط في الآية 79 من سورة هود[4]. قدّم المفسّرون المسلمون العديد من التفاسير لهذه الآية؛ التفسير الأوّل هو أنّ معنى جواب السدوميّين هو: «لقد علمت ما لنا في بناتك من حقّ، فهنّ لسن زوجات لنا»، إلا أنّ هذا غير منطقيّ إذا ما كان لوط قد عرض للسدوميّين بناته للزواج فعلًا. يقول الرازي (متوفى 606هـ/ 1209م) في التفسير الكبير إنّ الاحتمال الثاني هو أنّ جواب السدوميّين نتج عن إصرار لوط على أن يؤمنوا، أي يؤمنوا برسالته، لكي يتمكّنوا من الزواج منهنّ. وبالتالي، بناءً على الفرضيّة، كان لوط يعلم أنّهم لن يؤمنوا، كان جوابهم على هذه الطريقة: «لقد علمت ما لنا في بناتك من حق لأنّنا لن نصبح مؤمنين (وأنت تعلم ذلك)». بينما أورد القرطبي (متوفى 671هـ/ 1272م) تفسيرًا ثالثًا، نقلًا عن مصدر مجهول يقول إنّ قوم لوط كانوا قد طلبوا الزواج من بناته سابقًا ولكنّ لوطًا رفض طلبهم. ويقول القرطبيّ إنّه في عرف السدوميّين -والذي كان لوط مطّلعًا عليه-، إذا تقدّم شخص للزواج من امرأة ورُفض طلبه، فلا يحقّ له أن يتزوّجها لاحقًا، وهذا معنى عبارة (قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ).
وبعض المفسّرين المسلمين يرجّح تفسيرًا آخر لجواب السدوميّين. يقول مقاتل بن سليمان (متوفى 150هـ/ 767م) إنّ عبارة (مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ) تعني «لا حاجة» أو «لا رغبة» لنا في بناتك، ويقدّم بعض المفسّرين المتأخّرين تبريرًا لهذا الرأي. يقول الرازي إنّه عندما يحتاج أحد إلى شيء فإنّه بمثابة أن يكون له حقّ فيه. برأي الرازي، «والتقدير أنّ من احتاج إلى شيء فكأنّه حصل له فيه نوع حقّ؛ فلهذا السبب جعل نفي الحقّ كنايةً عن نفي الحاجة». ولكنّ هذا انحراف كبير لا يستوعبه النصّ. إنّ كلمة حقّ في القرآن تُستخدم دائمًا لتعني «العدالة» أو «الانصاف» أو «الحقيقة». وقد قبل الرازي بهذا عندما قال إنّ هذا التفسير ليس المعنى الظاهر، ولكنّه محمول على معنى الآية. إلا أنّ هذا دور صريح لأنّه بمجرّد إعمال التبرير الاعتقاديّ في الآية، سيُفسّر النصّ ليتوافق مع هذا التبرير.
إنّ جميع التفاسير الإسلاميّة لجواب السدوميّين على عرض لوط لا تبدو معقولة، فكلّها مبنيّة على التبرير الاعتقاديّ لعرض لوط أيّ الزواج، بالتالي، إنّهم إمّا يأتون بعناصر قصصيّة جديدة لتفسير هذا الجواب وإمّا ينحرفون كثيرًا عن معناه الظاهريّ. وفي نهاية المطاف، تساعد هذه التفسيرات على إبطال تفسير الزواج لعرض لوط.
من الضروريّ في المقام إجراء مناقشة تفصيليّة للموادّ التفسيريّة المتعلّقة بهذه الحادثة من أجل تقويم استنتاجات التناصّ التي قدّمتها في هذه المقالة على ضوء الأدلّة التاريخيّة المتوفّرة.
بنات لوط في التفاسير
توجد اختلافات كبيرة بين المفسرين المسلمين الذين تبنّوا تفسير الزواج لعرض لوط. تؤكّد مجموعة من المفسرين أنّ لوطًا عرض على السدوميّين بناته من أجل الزواج. ينقل فخر الدين الرازي والطبرسيّ (متوفى 565هـ/ 1169-70م) أنّ قتادة بن دعامة السدوسيّ (متوفى 118هـ/ 736م) قد تبنّى هذا الرأي، وهو مفسّر من الجيل الذي تعلّم من صحابة النبيّ (وهم معروفون في المصادر الإسلاميّة بالتابعين). كذلك عبّر مقاتل بن سليمان عن الرأي نفسه، ولكن يوجد غيرهم من المفسرين من شكّك في مدى واقعيّة فرضيّة الزواج هذه، قائلين إنّه نظرًا لعدد السدوميين الكبير مقارنةً بعدد بنات لوط المحدود، فإنّ هذا العرض يبدو غير واقعيّ. وقد لعبت الآية 36[5] من سورة الأحزاب دورًا مهمًا في هذا النقاش، تقول الآية:
(النَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ۖ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ) (الأحزاب: 6).
وبالاستناد إلى قراءة غير رسميّة لهذه الآية منسوبة إلى عبد الله بن مسعود (متوفى 32هـ/ 3-652م) والتي تزيد على الآية عبارة: «وهو (أي النبي) أبوهم» بعد عبارة (وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ)، اقتنع المفسّرون بأنّه ينبغي عدم فهم عبارة «بناتي» في الآية 71 من سورة الحجر وفي الآية 78 من سورة هود وفق معناها الحرفيّ. لأنّ لوطًا نبيّ قومه، وبالتالي فهو أب لكل نساء أمّته أيضًا، فكان لوط يقدّم إلى السدوميين جميع نساء قومه للزواج، وليس فقط بناته هو. على ما يبدو أنّ هذا الرأي قد نشأ منذ زمن بعض التابعين، تحديدًا مجاهد بن جبر (متوفى 104هـ/ 722م) وسعيد بن جبير (متوفى 95هـ/ 712م)؛ لذلك اكتسبت الكثير من القبول لدى المفسرين المسلمين.
كما يوجد رأي ثالث، والذي على ما يبدو ظهر ردًا على الرأيَين الأولَين، منسوب إلى ابن عباس (متوفى 68هـ/ 8-687م). فقد روى القرطبيّ عن ابن عباس أنّ رؤساء السدوميّين كانوا قد طلبوا من لوط أن يزوّجهم بناته مرارًا، إلا أنّ لوطًا لم يجبهم أو أنّه كان يرفض دائمًا. حسب هذا الرأي، عندما هجم السدوميّون على بيت لوط، عرض لوط بناته لرؤسائهم من أجل الزواج، آملًا أن يؤدّي هذا العمل أن يسحب فتيل النزاع وينقذ ضيوفه.
على الرغم من أنّ نظريّة الزواج في تفسير عرض لوط هي الأكثر رواجًا من بين المفسرين المسلمين، توجد بعض التفاسير الأخرى المنسوبة إلى مفسرين من جيل التابعين. وقد أورد الطبريّ في تفسيره نقلًا عن ابن أبي نجيح (متوفى 131هـ/ 9-748م) -وهو تلميذ مجاهد- مؤكدًا أنّ لوطًا لم يقدّم بناته للنكاح أو الزواج. كما ونجد مثلًا آخر في تفسير القرطبيّ الذي يروي عن عكرمة (متوفى 105هـ/ 4-723م) -وهو من أتباع ابن عباس- والذي يؤكّد أنّ لوطًا لم يقدّم بناته أو نساء أمته بشكل جدّي إلى السدوميّين، بل «لم يعرض عليهم بناته ولا بنات أمّته، وإنما قال لهم هذا لينصرفوا». كما ويذكر القرطبيّ أنّ أبا عبيدة -على ما يبدو أنّه أبو عبيدة معمر بن المثنى التيميّ والذي توفي بين (207هـ/ 822م) و(213هـ/ 828م)- عبّر عن رأي مشابه لرأي عكرمة إلى حدّ بعيد. حسب القرطبيّ، قد تبنّى هذا الرأي طائفة من المفسّرين الأوائل. يؤكّد أبو عبيدة أنّ عرض لوط كان وسيلة «دفاعيّة» ولم يكن ينوي أن ينفّذه («إنما كان الكلام مدافعةً ولم يُرد إمضاءه»). وفقًا لهذا الرأي، قدمّ لوط عرضه بهدف إحراج السدوميّين أمام أنفسهم وللتعبير عن اشمئزازه من تصرّفهم. يقول القرطبيّ: «كما يُقال لمن يُنهى عن أكل مال الغير: الخنزير أحلّ لك من هذا».
من الملفت أنّ أحدًا من المفسرين الذين تناولوا تفسير عرض لوط لم يذكر النبيّ أو أي أحد من الصحابة من أجل توثيق وجهة نظره، ما عدا الرواية المنسوبة إلى ابن عباس والذي كان من صحابة النبيّ. إضافةً إلى ذلك، الاختلافات الواضحة في النماذج العديدة لنظريّة الزواج تبدو أنّها ناتجة عن جهود المفسرين المسلمين للخروج بتفسير لحادثة بنات لوط في القرآن.
لذلك، يبدو أنّ نظريّة الزواج ليست مناسبة لفهم الحادثة ضمن سياق نشوء القرآن –وهو ادّعاء أيّدته عملية المقارنة النصيّة التي قدّمناها في الحالتين في هذا البحث. كما وترجّح هذه الاختلافات المعتدّ بها أنّ يكون هناك محاولة متعمّدة من قبل أغلبيّة المفسرين المسلمين لتحويل تفسير الحادثة بعيدًا عن المعاني التي تفيدها القصّة في الكتاب المقدّس. وإنّ عدم شهرة بعض الآراء كرأيي ابن أبي نجيح وعكرمة يؤيّد هذا الادّعاء.
إذا ما قُرِأت رواية قصّة بنات لوط في القرآن بمعزل عن المصدر السابق (أو المصادر السابقة)، فإنّ رأي ابن أبي نجيح يكون صائبًا، فالقرآن لا يذكر إذا ما كان لوط عرض الزواج أو الزنا للسدوميّين. ولكنّ الآراء المنسوبة إلى عكرمة وأبي عبيدة ملفتة، فإنّها تعكس معرفةً قويّةً بكلّ من الروايات التوراتيّة (المنحولة منها وغيرها) والرواية القرآنيّة للقصّة. وليس البحث هنا في صحّة نسبة هذه الآراء إلى هذه الشخصيّات. إذا ما صحّت هذه النسبة يمكن القول إنّ تاريخ هذه الآراء يعود كحدّ أقصى إلى السنوات الأولى للنصف الثاني للقرن الإسلاميّ الأوّل، أي بعد أربعين سنة من وفاة النبيّ. من العجيب أنّ هذه الآراء لا تتناقض مع زعم أنّ المسلمين الأوائل كانوا يفهمون قصّة بنات لوط في سورة الحجر وسورة هود بخلفيّة يهوديّة سالفة. في الواقع، إنّ آراء عكرمة وأبي عبيدة وتبرير القرطبيّ لهذه الآراء تمنح نظرةً عن كثب على المعلومات الشفويّة التي يمكن أن تكون أتت مصاحبة للرواية القرآنيّة للحادثة في سياق نشوء القرآن. يمكن أن نقول إنّ العقيدة الإسلاميّة حول عصمة الأنبياء هي تطوّر لاحق لنشوء القرآن. بالتالي، من المنطقيّ للمسلمين الأوائل أن يستنتجوا أنّ لوطًا كان يريد إيهام القوم عمدًا. فهو لم يكن جادًا عندما عرض بناته للسدوميّين كما أثبتنا في دراسة الحالة الأولى.
الخاتمة
إنّ التحليل الذي قدّمته في هذه الدراسة يدعو إلى فحص دقيق للقصّة القرآنيّة بعدسة التقابل النصّيّ وضمن المحيط الثقافيّ الذي نشأ فيه القرآن. كما ويُظهر هذا التحليل أنّ التركيز على الخطاب والمعنى -مقابل التركيز على النقد المبتني على تأثير المصادر- يمكن أن يكون مفيدًا، خصوصًا إذا ما أُخذ بعين الاعتبار النشوء التدريجيّ للمتن القرآنيّ. إنّ المقارنة بين هذا التحليل الذي قدّمته وتفسير قصّة لوط في القرآن في مقال لـ«فريد ليمهويس»[6] تحت عنوان «لوط وقومه في القرآن والتفاسير الأولى»، تُظهر أنّ منهج ليمهويس لم يمكّنه من اكتشاف المعنى الذي يمنحه التقابل النصّيّ الموجود في الآية 71 من سورة الحجر والآيتين 78 و79 من سورة هود. في الواقع، يتجاهل تركيب قصّة لوط في مقال ليمهويس الآية 71 من سورة الحجر، ممّا يرجّح أن يكون ليمهويس يعتقد أنّ معنى الآية متضمّن في الآية 78 من سورة هود. إنّ أهمّية حادثة بنات لوط مهمّة على نحو متساوٍ في كلّ من الآية 71 من سورة الحجر والآيتين 78 و79 من سورة هود كما أثبتنا في دراسة الحالة الأولى. فهي ليست مشتركة في هذه الآيات فحسب، بل هي نتاج لـ«تفاعل» الجمهور مع القصّة التوراتيّة الموازية، والنصوص القرآنيّة السالفة عليها، و-ربّما- خطاب شفويّ مصاحب لها.
حتى الآن، انصبّ اهتمام العلماء المعاصرين بشكل أساس على تحديد كيفيّة تطوّر التفسير السرديّ للنصّ في الأدب التفسيريّ الإسلاميّ أو على تشخيص الإضافات اللاحقة على الروايات القرآنيّة في هذا الأدب. إنّ هذا العمل يستحقّ المتابعة فعلًا، ولكنّ الأدب التفسيريّ الإسلاميّ -كما تُظهر هذه الدراسة- حتى لو كان متأخرًا بشكل كبير عن نشوء القرآن، إلا أنّه مهمّ في تقويم أهميّة القصص القرآنيّة ضمن سياق المحيط الثقافيّ الأوّل للقرآن، وربّما هو بمستوى أهمّيّة المصادر التوراتيّة والمنحولة التي أثّرت في هذا السياق. ولكنّ اللجوء إلى التفاسير القرآنيّة يجب أن يكون محدودًا وينبغي ألّا تأخذ الأولويّة على التحليل السياقيّ للنصوص القرآنيّة نفسها. مع أخذ هذا بعين الاعتبار، يمكن للاهتمام بالأدب التفسيريّ الإسلاميّ أن يدعم التحليل التناصّيّ لقصص الأنبياء في القرآن.
المبحث الثاني: نقد المقالة
عرض لوط(عليه السلام) بناته للزواج لا للفاحشة
يقول الكاتب إنّ الآية 71 من سورة هود: (قَالَ هَٰؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ) (الحجر: 71) لا يمكن فهمها إلا عبر عمليّة تقابل نصيّ مع مصدر غير القرآن الكريم، مضيفًا أنّ قصّة لوط(عليه السلام) في سورة هود توسعة لما ورد من القصّة في سورة الحجر وفقًا لرأيه في ترتيب السور.
أوّلًا، لم يذكر الكاتب دليله على ترجيحه ترتيب السور الذي تبنّاه ولم يأتِ على ذكر الضابطة التي اعتمد عليها. ثانيًا، إنّ سورة هود نزلت قبل سورة الحجر، بل بينهما سورة يوسف، فترقيم سورة هود في التنزيل 52 بينما سورة الحجر54 [7]، فكيف يكون ما ورد في سورة هود توسعة لما ورد في سورة الحجر!؟
ثمّ إنّه يقول إنّه لا يمكن فهم الآية المذكورة أعلاه إلا بالرجوع إلى التقابل النصّيّ وفهمها عبر ما ورد في مصادر أخرى. كيف، وقد سبقت قصّة قوم لوط في سورة هود ما ورد في قصّة سورة الحجر، وجاءت أكثر إسهابًا، حيث ورد تفصيل ما أجملته الآية 71 من سور الحجر، في قوله تعالى:
(قَالَ يَا قَوْمِ هَٰؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ ۖ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي ۖ أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ) (هود: 78-79).
ثالثًا، لماذا يقبل الكاتب وأمثاله بتفسير الآيات القرآنيّة من مصادر أخرى كالكتاب المقدّس، والأولى أن يقبلوا بأنّ يفسّر القرآن بعضه ببعض، حتى وإن لم يؤمنوا بقدسيّته، تأسيًا بأيّ كتاب بشريّ يريدون محاكمته، فالناقد ينظر إلى النصّ كوحدة متامسكة ويحاكمه على هذا الأساس. فلا يصح الحكم على جزء مبهم أو مشكِل من كتابٍ ما وقد يكون ورد في جزء آخر منه ما يرفع الإشكال والإبهام. فإنّهم لو عاملوا القرآن هكذا ونزّلوه منزلة الكتاب العاديّ، لوجدوا أنّ أكثر إشكالاتهم غير واردة؛ لأنّ الآيات تفسّر بعضها بعضًا، لكنّهم انطلقوا من فكرة أنّ القرآن نسخة معدّلة ومهذّبة عن الكتاب المقدّس، وفيه تناقضات وهو ساقط عن اعتبارهم، وأخذوا بدراسته بناءً على هذه الفكرة المسبقة.
إن لم يحصل المفسّر أو الناقد على جواب يرجِّحُ احتمالًا معيّنًا من الاحتمالات بالحد الأدنى، فإنّ الآيات ستنفي له بعض الاحتمالات الباطلة، كما في هذه الحالة، حيث يدور الأمر بين أن يكون لوط(عليه السلام) عَرَضَ بناته على قومه للزواج أو الزنا (والعياذ بالله)، فيُلجأ إلى الآيات التي تثبت أولًا أنّ الزنا فاحشة: (وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا ۖ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا) (الإسراء: 32).
ومن ثمّ تلك التي تقول إنّ الله لا يأمر بالفحشاء: (وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا ۗ قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ ۖ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) (الأعراف: 28).
بل إنّ من يأمر بالفحشاء هو الشيطان: (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ ۖ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا ۗ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (البقرة: 268).
وأنّ الله يصرف الفحشاء عن المخلَصين من عباده كنبيّه يوسف(عليه السلام): (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ ۖ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَىٰ بُرْهَانَ رَبِّهِ ۚ كَذَٰلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ ۚ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ) (يوسف: 24).
وبالآية التالية نعرف أن المخلَصين هم من لا سبيل للشيطان على غوايتهم: (قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) (الحجر: 39-40).
ومن الطبيعيّ أن يكون الأنبياء والرسلb في طليعة المخلَصين الذين لا يستطيع أن يغويهم الشيطان اللعين، وبالتالي، يصرف الله السوء والفحشاء عنهم جميعًا كما فعل بيوسف(عليه السلام). ومن صُرفت عنه الفحشاء فلن يحب أن يراها في غيره، فضلًا عن أن يأمر بها:
(إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۚ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) (النور: 19).
فينتفي -وبكل بساطة- بهذه الآيات احتمال أن يكون قد أمر رسول الله لوط(عليه السلام) قومَه بالفاحشة، بل بقرينة (هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ) في الآية نفسها يُعرف أنّ المراد ليس إلا الزواج الشرعيّ المحلّل الطيّب الطاهر، لا الفاحشة والزنا والاعتداء الجنسيّ.
يقول العلّامة السيد الطباطبائي e في تفسير الميزان:
«وتقييد قوله: (هَٰؤُلَاءِ بَنَاتِي) بقوله: (هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ) شاهد صدق على أنّه إنما عرض لهم مسّهنّ عن نكاح لا عن سفاح، وحاشا مقام نبيّ الله عن ذلك، وذلك لأنّ السفاح لا طهارة فيه أصلًا. قد قال تعالى: (وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا ۖ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا) (الإسراء: 32)، وقال: (وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ)... ومن هنا يظهر فساد قول من يقول: إنّه عرض عليهم بناته من غير تقييده بنكاح. ولست أدري ما معنى علاج فحشاء بفحشاء غيرها؟ وما معنى قوله حينئذ: (فَاتَّقُوا اللَّهَ)؟ ولو كان يريد دفع الفضيحة والعار عن نفسه فقط لاكتفى بقوله: (وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي)»[8].
ويقول الكاتب إنّ لوطًا(عليه السلام) قدّم بناته لقومه من أجل وضع حلّ لتجنّب التعدّي الجنسيّ على ضيوفه، وبناءً على ما ورد في الكتاب المقدّس "فَافْعَلُوا بِهِمَا كَمَا يَحْسُنُ فِي عُيُونِكُمْ"، يفهم القارئ أن عرض لوط(عليه السلام) كان بلا قيد الزواج وعرّضهنّ للرغبات الجنسية للسدوميّين.
فيُقال في الرد: إنّ أساس المشكلة في مقاربة الكاتب لقصة قوم لوط(عليه السلام) بشكل عامّ أنّه اعتمد التقابل النصّيّ فجعل النصّين (القرآن الكريم والكتاب المقدّس) نصًا واحدًا، يفصّل الثاني إجمال الأوّل، كما فعل هنا حيث تساءل عن مراد قوله تعالى: (إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ) (الحجر: 71)، فلجأ إلى سفر التكوين لتبيين المعنى، فخرج بنتيجة أنّ لوطًا(عليه السلام) عرض بناته على قومه بلا قيود. لكنّه لو تمعّن قليلًا لوجد أنّ هذا المعنى منافٍ للهدف الذي من أجله قدّم لوط(عليه السلام) هذا العرض وهو ألّا يُخزوه في ضيفه ولا يفضحوه. فإن كان إكرام الضيف واحترامه من المروءة والشهامة، فإنّ الحفاظ على العِرض ليس بأقلّ شأنًا منه، فلو تزاحمًا، لا يُعمد إلى تقديم أحدهما فداءً للآخر. هذا، إن لم نقل إنّ الحفاظ على النساء والعِرض هو أرفع مكانةً وأولى بالاهتمام من إكرام الضيوف من الرجال وحمايتهم.
ثمّ يقول الكاتب إنّه على الرغم من أنّ تقديم البنات للرجال من غير زواج أي للزنا لا يتوافق والأخلاق الإسلامية فلوط رسول لله، إلا أنّه يمكن تبرير ذلك إذا ما أُخذ بعين الاعتبار أنّ الآيات التي حرّمت الزنا قد نزلت بعد نزول قصّة لوط(عليه السلام) كما يدّعي.
فيُردّ على هذا الكلام بالتالي: لن ندخل في حرمة الزنا ما قبل الإسلام وقبحه عرفًا وعقلًا، وسنحاكم كلامه تماشيًا مع ما يدّعيه، حيث يقول إنّ الآيات التي حرّمت الزنا أتت في زمن متأخر عن زمن نزول سورة الحجر، بينما نجد أنّ أقدم الآيات التي حرّمت هذه الفاحشة نزلت قبل سورتَي هود والحجر[9]، أعني الآية التالية من سورة الإسراء: (وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا ۖ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا) (الإسراء: 32).
إلّا أنّ من العجيب تلميح الكاتب بأنّ الزنا لم يكن محرّمًا إسلاميًا حين نزول الآيات التي روت قصّة قوم لوط(عليه السلام) -حسب فرضيّته-، وبالتالي فإنّ هذا يشكّل تبريرًا لاحتمال أن يكون لوط(عليه السلام) عرض بناته بغير قيد الزواج، أي للزنا. (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا) (الإسراء: 43).
ويقول الكاتب إنّه إن كان عرض لوط(عليه السلام) بلا قيد الزواج، فلماذا كان جواب القوم هكذا أي قالوا بأنّهم ليس لهم حقّ في بناته. فيقول إنّ القرآن لا يجيب على هذا التساؤل، ولكنّ النصوص اليهودية تفيد بأنّ عرض لوط(عليه السلام) لم يكن متوافقًا مع أعراف السدوميّين، لأنّهم كانوا يرون أنّه يحقّ لهم التعدّي على الغرباء فقط، ولوط ليس غريبًا بل هو نزيلهم، لذلك لا يحق لهم الاقتراب من بناته كما لا يحق له تغيير هذا العُرف.
فنقول: إنّ تعدّيهم على الغرباء لم يكن يشمل نساء الغرباء، فهم لم يكن لديهم أي رغبة وميل تجاه النساء، كما ذكر القرآن الكريم:
(أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ ۚ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) (النمل: 55).
(إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاءِ ۚ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ) (الأعراف: 81).
(أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ ۚ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ) (الشعراء: 165-166).
فهم لم يرفضوا بنات لوط(عليه السلام) لأنّه نزيلهم، بل السبب في الحقيقة هو أنّهم لا يشتهون إلّا الذكور، فقولهم: (مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ) (هود: 79) يعني إنّك تعلم يا لوط أنّه ليس في عرفنا وسيرتنا ما يتيح لنا مقاربة النساء، لأنّه لا رغبة لنا فيهنّ، بل تكتفي الذكور بالذكور وحسب، إذ صار المعروف عندهم منكرًا والمنكر معروفًا، كما كان استضافة الضيوف وإيواؤهم منكرًا لديهم حتى استنكروا ذلك على نبيّهم عندما وجدوا ضيوفًا عنده:
(وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ قَالَ إِنَّ هَٰؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ) (الحجر: 67-70).
يعني أَوَلَم نمنعك من الغرباء أن تستضيفهم؟
وكذلك كانوا يغضبون من النبيّ لوط(عليه السلام) ويهددونه وأهله عند إرشادهم إلى الطريق القويم ونهيه إيّاهم عن فعلتهم الشنيعة تلك، بل كانوا يستنكرون على لوط وآله أنّهم يتطهّرون، وأرادوا إخراجهم من القرية بسبب ذلك.
(وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ ۖ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ) (الأعراف: 82).
(قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ) (الشعراء: 167).
من المقصود بهؤلاء بناتي؟
هنا يُطرح سؤال: من هنّ البنات المقصودات في الآية؟
ذكر الكاتب أنّ ثمّةَ وجهين، فإمّا أن يكون المراد هو بنات لوط اللاتي من صلبه، وإمّا نساء الأمة، فَنَبِيُّ كلّ أمّةٍ أبوها كما قالوا.
لا شكّ أنّ ظاهر لفظ بناتي والمتبادر منه هو بنات لوط من صلبه لا غيرهنّ، كما وأنّه يَرِدُ على الاحتمال الثاني أي كَون المقصود هو نساء أمّته أمور:
أولًا: لا يمكن صرف النظر عن المتبادر من لفظ بناتي بلا قرينة صارفة، فهي مفقودة هنا سوى ما ظنّه بعض المفسّرين من كون عرض بنات لوط على هؤلاء القوم أمرًا قبيحًا لا يليق بساحة أصحاب المروءة، فكيف بالأنبياء. قال الفخر الرازي في تفسيره «مفاتيح الغيب»: «...إقدام الإنسان على عرض بناته على الأوباش والفجار أمر متبعّد لا يليق بأهل المروءة، فكيف بأكابر الأنبياء؟»[10].
كذلك، صرفوا النظر عن هذا الرأي لأنّ عدد بنات لوط محدود فكيف يعرضهنّ للزواج من الجمع الكبير الذي هرع إلى بيته؟
وسيأتي الرد على هذين القولين لاحقًا إن شاء الله.
ثانيًا: لم يرد في كتاب الله العزيز ما يفيد بأنّ كلّ نبيّ أو رسول هو أبو أمّته، إنّما ورد ذلك بحق النبيّ الخاتمs خاصّة، وحتى من غير تصريح في قوله تعالى:
(النَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) (الأحزاب: 6).
فإن كانت زوجات النبيّs هنّ أمّهات المؤمنين، فيكون النبيّ أبوهم، فهذا خاصّ بالنبيّ محمدs، إذ لا يمكن تعدية هذه الصفة إلى غيره من الأنبياء(عليه السلام) بلا قرينة ودليل. بل قد وصف القرآن الكريم النبيَّ المرسَل أنّه أخٌ للمرسَل إليهم لا أنّه أبٌ لهم:
(وَإِلَىٰ عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا) (الأعراف: 65)؛ (وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا) (الأعراف: 73)؛ (وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا) (الأعراف: 85).
بل ذكر القرآن الكريم صريحًا أنّ قوم لوط هم إخوانه:
(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ) (ق: 12-13).
ثالثًا: لو فرضنا أنّ المقصود نساء الأمّة، فإنّ القوم غير مؤمنين بنبوّة لوط(عليه السلام)، فكيف لهم أن يعرفوا ويعتقدوا أنّه أبو نسائهم؟
(كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ) (الشعراء: 160)؛ (كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ) (القمر: 33).
يقول العلامّة السيد الطباطبائيّ(قدس سره) نافيًا هذا الاحتمال: «وربما قيل: إن المراد بقوله: (هَٰؤُلَاءِ بَنَاتِي) (هود: 78) الإشارة إلى نساء القوم؛ لأن النبيّ أبو أمته فنساؤهم بناته كما أن رجالهم بنوه، يريد أن قصد الإناث وهو سبيل فطري خير لكم وأطهر من قصد الذكور من طريق الفحشاء. وهو تحكّم لا دليل عليه من جهة اللفظ البتة...
على أن قولهم في جوابه: (لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ) (هود: 79) لا يلائم كون المراد بالبنات في كلامه إنما هي نساؤهم لا بناته من صلبه، فإنهم ما كانوا مؤمنين به حتى يعترفوا بكون نسائهم بناته، إلا أن يكون المراد التّهكّم ولا قرينة عليه"[11].
وقد أشكل على الرأي الأوّل بأنّ عدد بنات لوط(عليه السلام) غير كافٍ للجمع الكبير، وأن تزويج الرجل بناته من الأوباش يخدش مروءته وينقص من شأنه.
نقول: سبق وأن دعاهم لوط(عليه السلام) إلى أن يرغبوا في النساء وأن يتّخذوهنّ زوجات لهم، ولكنّ قومه قابلوه في كلّ مرّة بالتعنيف والتوبيخ والترهيب والتهديد بإخراجه من قريتهم. فلا معنى أن يدعوهم مجددًا للأمر نفسه الذي سبق أن رفضوه مرارًا وتكرارًا، وهو يعلم مسبقًا أنّ جوابهم سيكون الرفض، وقد أظهروا تبرّمهم من إصراره على دعوتهم إلى ترك فاحشتهم كما قال تعالى:
(قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ) (الشعراء: 167).
وبقرينة أنّ القوم كلّهم بما فيهم النساء قد هلكوا بعذاب الله، يعني هذا أنّ النساء أيضًا كنّ مبتلات بسكرة الشذوذ الجنسيّ، فحين يعزف الرجال عن النساء، فإنّ النتيجة الطبيعيّة لهذا أن تلجأ النساء إلى النساء. من هنا نفهم لماذا عرض لوط(عليه السلام) بناته على قومه للزواج، لأنّهنّ طبيعيّات وصاحبات فطرة سليمة ولم تتلوّث سريرتهنّ بالأجواء الفاسدة المحيطة بهنّ في المدينة، فهنّ البنات الوحيدات اللاتي يمكن لهنّ أن يكنّ زوجات لهؤلاء الرجال. (فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ الْمُسْلِمِينَ) (الذاريات: 35-36)، أي بيت نبيّ الله لوط وآله.
إذًا جاء عرض لوط(عليه السلام) على هذا النحو لإنحصار الخيارات أمامه. وكان لوط(عليه السلام) يريد من القوم أن يكفّوا أذاهم عن ضيفه، فكان لا بُدّ له أن يقدّم لهم عرضًا جديدًا لم يسبق أن عرضه عليهم سابقًا، فكان عرض بناته للزواج من هؤلاء.
أمّا أنّ عدد بنات لوط(عليه السلام) لا يكفي بطبيعة الحال لجميع من هرع إلى داره، فقد كان عرض لوط(عليه السلام) من باب إتمام الحجّة عليهم وآخر وأقصى ما يمكن أن يفعله مع قومٍ كذّبوه وعاندوه وعصوه على مرّ سنين طويلة، فإنّه لم يكن يملك سوى هذا الخيار، فلا ناصر له من القوم: (أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ) (هود: 78)، ولا عشيرة له لكي يقاتلهم وينهاهم عن الفساد بقوة السيف: (قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَىٰ رُكْنٍ شَدِيدٍ) (هود: 80). فحاله حال موسى الكليم(عليه السلام) حين خذله قومه وتخلّوا عنه وعصوه وخالفوه، عندها قال(عليه السلام): (قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي ۖ فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ) (المائدة: 25)، وكأنّ حال لوط(عليه السلام) يقول: ربّ إنّي لا أملك إلا نفسي وبناتي.
ومن شأن المرسلين أن يقدّموا كلّ ما يملكون من أجل هداية العباد إلى ما فيه صلاحهم، وأن يسعوا في إرشادهم ونهيهم عمّا فيه هلاكهم، ويحتملوا كلّ أذى من المعاندين حتى إنّه قد يصل الأمر إلى التضحية بأرواحهم المقدّسة من أجل هذه الغاية. فتزويج لوط بناته هو من هذا الباب، أي من باب التضحية وتقديم كلّ ما يملك في سبيل هداية قومه. فلو كان يملك بنات بعدد رجال قومه لعرضهنّ كلّهنّ للزواج. فالمروءة كلّ المروءة في التضحية في سبيل الله، وخصوصًا وأنّ الزواج لا عيبَ ولا حراجةَ فيه؛ فهو أمر راجح ومَرْضيّ في نفسه، بل واجب في هذه الحالة إذا توقّف الأمر عليه لقطع دابر فاحشة قبيحة تفتك بالمجتمع. فإنّه لو أدّى تزويجهنّ إلى انتهاء بعض هؤلاء عن الفحشاء سيكون ذلك نجاحًا نسبيًا وخطوة في الاتّجاه الصحيح وبذرة خير يمكن أن تنمو في المستقبل حتى تتّسع ويتأثّر بها الآخرون ويُقضى على تلك الظاهرة السيّئة في المجتمع ولو بعد حين. فإنّ التغيّرات التي تحصل في عادات وأعراف واعتقادات المجتمع –إصلاحًا وإفسادًا- لا تحدث دفعةً واحدة عادةً، وإنّما تحصل بالتدريج وعلى مرّ سنوات مديدة؛ ولأنّ عملية الإصلاح تستغرق وقتًا طويلًا، قد وعد الله عز وجل الصبر على المذنبين والتعامل معهم بحلمه شرط وجود الصالحين المصلحين أو أن يكون المذنبون في حالة استغفار، أي إصلاح لما يصدر منهم من فساد.
(وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ ۚ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) (الأنفال: 33).
(وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَىٰ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ) (هود: 117).
ولكن هيهات! أنّى لقوم لوط أن يصلحوا أنفسهم وعاداتهم، وهم سكارى الشهوة وقلوبهم منكوسة، فلا عجب أن يقلب الله عز وجل قريتهم رأسًا على عقب تماهيًا مع باطنهم وعملهم الذي قلب المنكر فصيّره معروفًا. (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) (الحجر: 72).
لائحة المصادر والمراجع
القرآن الكريم
الكتاب المقدّس
الطباطبائي، محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، الطبعة الثانية، 2011م.
الفخر الرازي، محمد بن عمر، "التفسير الكبير (مفاتيح الغيب)"، دار إحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الثالثة، 1420هـ.
معرفت، محمد هادي، التمهيد في علوم القرآن، دار التعارف للمطبوعات، بيروت، 2011م.
----------------------------------
[1][*]- المقالة تأليف وليد أحمد (Waleed Ahmed)، موجودة تحت عنوان:
“Lot’s daughters in the Qur’an: an investigation through the lens of intertextuality”,
في كتاب: «وجهات نظر جديدة حول القرآن - القرآن في سياقه التاريخيّ (الجزء الثاني)»؛
New Perspectives on the Qur’an; The Qur’an in its historical context 2, p.411- 424.
[**]- عضو في الهيئة التدريسية في جامعة مصطفى العالمية.
[***]- باحث في الفكر الإسلامي ـ لبنان.
[2]- سورة الحجر، الآية 52.
[3]- سورة الحجر، الآية 60.
[4]- (قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ).
[5]- ورد في النص هكذا، والصحيح أنّها الآية 6.
[6]- Fred Leemhuis.
[7]- معرفت، محمد هادي، التمهيد في علوم القرآن، ج1، ص169.
[8]- الطباطبائيّ، محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن، ج10، ص339.
[9]- معرفت، محمد هادي، التمهيد في علوم القرآن، ج1، ص169.
[10]- الفخر الرازي، محمد بن عمر، التفسير الكبير (مفاتيح الغيب)، ج18، ص379.
[11]- طباطبائي، محمد حسين، ج10، ص339.