البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

تفكيك مغالطات المستشرق الإنجليزي (همفري بريدو)

الباحث :  د. مكي سعد الله
اسم المجلة :  دراسات استشراقية
العدد :  39
السنة :  صيف 2024م / 1445هـ
تاريخ إضافة البحث :  June / 4 / 2024
عدد زيارات البحث :  728
تحميل  ( 695.822 KB )
الملخّص
لقد تأسّست صورة النبيّ محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) في المنظومة الفكريّة الغربيّة ومخيالها الأدبي ووعيها الجمعي بناءً على تصوّرات نمطيّة ورؤى مشوّهة وعدوانيّة مركّبة من فوبيا متوهِّمةً عقائد عنصريّة متطرفة وأيديولوجيات إقصائية ومركزيات ثقافيّة ومعرفيّة متمركزة حول منجزها وعرقها، معتقدةً بتفوّقه المعرفي والعرقي ومؤمنة بدونيّة «الآخر» وفقدانه قدرات التفكير والإبداع والتطوّر، وملكة التمدّن بتفاصيله وتجلّياته من ثقافة للتسامح والتعايش وذكاء في الإبداع والإنتاج واختزاله في معادلات جاهزة تجمع صفات الوحشيّة والبربريّة والاستجابة الغرائزيّة.

وقد خاض في موضوع سيرة المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) حشد هائل من المستشرقين ونخب فكريّة بمختلف توجّهاتها وانتماءاتها، من أدباء وتعليميّين ديداكتيكيّين وعسكريّين بمناهج مختلفة ومقاربات متنوّعة، ولكن أحادية المرجعيّة وقطبيّتها التي وحّدت مصادر المعرفة ومواردها ومناهلها ولَّدت كتابات واحدة لباحثين متعدّدين، اتّسمت بتحريف التاريخ وتزوير الوقائع وتشويه الجميل وتدنيس المقدّس.

يسعى الباحث في هذا البحث إلى تفكيك مثل هذه المغالطات، ولا سيّما مغالطات المستشرق الإنجليزي (همفري بريدو) (Prideaux, Humphrey) من خلال كتابه : حياة محمّد أو حين نكتشف الحقيقة الكاملة للدجل، حيث يجري مقاربة نقدية في المنهج والمضمون تكشف انحراف الفكر والتصوّر ومزالق التأويل.

الكلمات المفتاحية: صورة النبيّ محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم)، همفري بريدو، سيرة المصطفى، رسالة الدجالين الثلاثة، قرآن محمّد.

مقدّمة
استكمالًا لسلسة البحوث والدراسات الاستشراقيّة التي تناولت سيرة المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) بالطعن والتشويه المتعمّد والمقصود والفاقد لكل مصداقيّة علميّة وموضوعيّة، ورؤية حجاجيّة عميقة في تحليل المواقف والسلوكيات، تأتي رؤية المسترق الإنجليزي هامفري بريدو (Prideaux, Humphrey) (1724-1648) لتكشف عن الإدراك السطحي لمفهوم الغيريّة وثقافة الاختلاف عامة وفكر النبوّة ودلالاتها وقدسيّتها خاصّة، وعن القصور العقلي في فهم معاني القرآن ورسالته، فجاءت الأطروحات جوفاء، ساذجة، وسطحيّة من حيث البنية والدلالة، كاشفة عن نيات وأفكار مسبقة (préjugés) مستخلصة تارة من مرويّات قديمة، اعتمدت على تكرار شبهات واهية لا تقوم على مبدأ وحجّة وبرهان وتارة أخرى على تأويلات وتفسيرات واستنتاجات محدودة في الطرح والمقاربة، ذلك أن اصطفاء محمّد –ص- للرسالة الإسلاميّة يستوجب استنطاق السيرة ومقاربتها بعقلانيّة وفق مناهج تحليليّة وعلوم بينيّة لسبر الأغوار وفكّ الرموز وتفسير المواقف وفق مرجعيّات تفرضها سياقات الدعوة وأنساق التاريخ والجغرافيا.

لم تؤسّس هذه الكتابات وتؤصّل للفكر النقدي وفق معايير العلوم الإنسانيّة والفلسفيّة والتيولوجيّة، فكانت عبارة عن رفض وجداني وإنكار عاطفي لا يرتبط بالقطيعة الإبيستيمولوجيّة مع فكر العصر الوسيط في عدوانيّته للقرآن ورسوله، فجاءت الأبحاث عبارة عن فكر انطباعي وذاتي مرتبط بالإيدولوجيا الإنكاريّة التي تتحوّل فيها العنصريّة ودونيّة «الآخر» إلى آليّات وأدوات للنقد والتقويم.
فاقترنت الكتابات بمنطق الضرورة والمصلحة والتطرّف والأدلجة العقائديّة، فلم تخضع المقولات والأحكام إلى معايير المناهج النقديّة العلميّة المستندة على فلسفات الحجاج والبرهان اليقيني. فقد أنتجت إمبراطوريّة الكتابة المركزيّة، سلطة لخطابين متباينين ومتناقضين منهجًا ومقاربة وأفكارًا، الأوّل انتقائي لشواهد معزولة ومحرَّفة، والثاني تدليسي مشوَّه مقصود، مرتبط بالإضافات والتأويل استجابة لخلفيات ثقافية ومرجعيّات مركزيّة متعدّدة المشارب والتوجّهات، موحّدة في الأهداف والغايات.

تشكِّل هذه الملاحظات والاستنتاجات أرضيّة معرفيّة للانطلاق نحو تفكيك خطاب الكراهية والأيديولوجيّة وتبيان أسبابه ودوافعه ودعوة للبحث العلمي الأكاديمي إلى فتح آفاق دراسات المراجعات، بتبنّي الروح العلميّة والدافعيّة نحو البحث عن الحقيقة، لإعادة بناء رؤية وموقف علمي جديد، يتسم بالصدق والعقلانيّة، بالاحتكام إلى المواثيق الصحيحة والمرجعيات الدقيقة في استقصاء الأخبار من مصادرها الدقيقة واعتماد المناهج النقدية ذات الآليات والمعايير الموضوعيّة.

خطابات متعدّدة لرسالة واحدة
تحوّلت السيرة النبويّة إلى فوبيا ورهاب خوفٍ غير عقلاني وغير مبرّر، يكشف عن انشقاقات ذهنيّة وتوتّرات سيكولوجيّة، ويكشف عقدًا نفسيّة مركّبة وأمراضًا وهميّة امتلكت «الذات» وسكنتها بهيمنة وسلطة متخيّلة تعتقد في نهايتها الحضاريّة والإنسانيّة. فأصبحت لا ترى نفسها ووجودها وكينونتها إلّا في مرآة سيرة محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم)، فهو تمثُّلٌ وانعكاسٌ للعدوانية التي تهدّد ماديّتها وعلمانيّتها وتطرّفها اللاهوتي.

وجنَّدت لتحقيق رسالتها وأهدافها كل الوسائل والأجهزة، عسكريّة كانت أو أيديولوجيّة منتجة لخاطب الكراهية، وهو خطاب نخبويّ موجّه، حيث وظّف فيه الكتَّاب والباحثون مكاسبهم ومعارفهم وأرصدتهم الثقافية وآلياتهم المنهجيّة وأدواتهم التحليليّة لتسويق خطابات عدائية مشوّهة، تفتقد لكل مقوّمات البحث التاريخي العلمي؛ لأنه استند وتأسّس أساسًا على سلطتين متحيّزتين هما الخطاب الكنسي اللاهوتي والخطاب العسكري الوظيفي الإجرائي.
فاستعانت المؤسّسة الاستشراقيّة والمنظومة المركزيّة الغربيّة في رسالتها للتاريخ للسنّة الشريفة بأبحاث ودراسات اللاهوت الكنسي والقادة العسكريّين لتقويض مثالية الرسالة وجماليات الدعوة من قيم التسامح والإنسانيّة وقدسيّة الإيمان، فجهّزت واستعانت وتعاونت وموّلت وروّجت لكلّ ما يتنافى والبحث العلمي الموضوعي من مغالطات وأراجيف وشبهات، بالانتقاء والحذف من المواقف النبوية فعلًا وقولًا.

وقد ساهمت هذه الأرضيّة الفكريّة وهذا المناخ العدائي والفضاء الإقصائي، المتنكّر للحق والتاريخ والموضوعيّة والعقلانيّة المزعومة في الفكر التنويري ومناهجه البحثيّة إلى اعتبار محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) «واهمًا وحالمًا، يستمدّ أفكاره وتشريعاته من سيكولوجيّته الخاصّة، فيختلي بنفسه للتأمّل، ربما لأنّه مصاب بداء عصبي، فتحوّل إلى شخص كثير الرؤى، اللاإراديّة والهلوسات المرضيّة، التي آمن بها كحقائق سيطرت على سلوكياته فيما بعد»[2]. ولا يخفى دور المعاجم المتخصّصة في الترويج للمعلومات ونشرها بحكم استخداماتها الأكاديميّة واستعانة الباحثين بها، بالعودة إليها في البحث والتفسير والاستفسار والاستفهام، فتأخذ هذه الأخطاء الشائعة والأغلاط المقصودة موضع الأفكار الصائبة، فتنتشر وتشيع بالتكرار وكثرة التداول.
فقد تحوَّل محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) في اعتقادهم بعد نجاح الدعوة وانتشار الإسلام إلى حاكم مستبدّ يشرّع وفق أهوائه وما يتوافق مع دوام إمبراطوريّته واستمرارها «نراه يمارس نزوات الحاكم، يشكّل حريمًا، يدشّن ويؤسّس سياسة ماكرة، تجسّد الطموحات، والانتقام، فهو الذي يملي حاليًا على الملك جبريل الآيات التي يراها نافعة، فتحوّلت نبوءته إلى أوامر مفروضة على الله»[3].

وعلى الرغم من الألقاب العلميّة العالية والمناصب الأكاديميّة الراقية والمهام العلميّة والدينيّة الكبيرة والمناصب التعليميّة والدبلوماسيّة والعسكريّة الفائقة، إلّا أنّ فكرة تكرار المغالطات ونقلها دون تمحيص وتقويم، بقيت سائدة، فمحمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) هو مؤلّف القرآن الذي جمعه واستقى أفكاره من الديانتين النصرانيّة واليهوديّة «فقد احتضن العالم بطموح جريء مقرّرًا استبدال مختلف الديانات في بلاده بدين جديد، وهو خليط فسيفسائي بين معتقدات قديمة وعبادات مسيحيّة التي طالما ما حاربها العرق العربي ودفعها للتراجع»[4]. وعلى الرغم من الإقرار والاعتراف بقوّة بيان القرآن وبلاغة خطابه وقدسيّة أحكامه وعمق أبعاده وسموّ غاياته ومقاصده، إلّا أنّ الجحود بنفي صفة الإلهيّة عنه بقيت مهيمنة، بإيمان مطلق، بأن محمّدًا (صلى الله عليه وآله وسلم) هو مؤلّفه «أصبح القرآن هو الشريعة المقدّسة ومصدر كل التشريعات، فخم الشكل، بروعة ألفاظه، يأسر الخيال، ويمجّد الشجاعة، فإلى جانبه المثالي، احتواء كبير للعواطف الإنسانيّة. ولكنه بقي في الوقت نفسه أداة سياسيّة مناسبة تمامًا لترسيخ السلطة المؤقتة لمؤلفه»[5].

تعتقد منظومة التدليس والتحريف والتشويه، بأن محمّدًا (صلى الله عليه وآله وسلم) درس المجتمع العربي بعقلانيّة وبصيرة أثناء رحلاته التجاريّة وتواصله المباشر مع أصحاب الديانات السماويّة السابقة من أحبار ورهبان ليتسنّى له كتابة القرآن وفق مقدّسات عربيّة تسكن وجدانهم وتثير اهتمامهم وتستشعر عواطفهم: «ألَّف محمّد القرآن ومنحه طابعًا قدسيًّا إلهيًّا، وهو العارف بالعرب، فأراد إغراءهم بأسلوبه وبيانه، وروعة تصويره ووعوده للمؤمنين المعتنقين... ولإثبات ألوهية القرآن ادّعى الأميّة وجعل من جبريل ناقلًا للوحي»[6]؛ ولأن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) قد صنّف ضمن المشرّعين والكتّاب وقادة الجيوش والفلاسفة وكبار البلاغيّين والمبدعين، فهو في عرف الكاتب الفرنسي لويس جاكوليو (Louis Jaccolliot) (1837-1890) مشرّع للنصوص الدينيّة والقوانين الشخصيّة يشبه موسى(عليه السلام) ومانو (نسبة إلى ماني (Manu) صاحب مذهب المانوية)[7]، فالتشريع الديني عندهم يشمل قضايا الحياة الدنيا وعوالم المابعديات وهي لا تعدو أن تكون اجتهادات شخصيّة وتجميع وتضمين من نصوص أسطوريّة وكتب ديانات قديمة، تدعي في مجموعها إنقاذ الإنسانيّة وإسعاد البشريّة. فقد جمعت شخصيّة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) من منظورهم واعتقادهم صفات التناقض والازدواجيّة، بشموليّة مطلقة لكل السلبيّات التي تؤهّله للحيلة والمكر، من رسمهم لمسار خاصّ لا يستند إلى مرجعيّات تاريخيّة ولا إلى منطق عقلاني، فجاءت سيرته كتابًا جامعًا للشخصيّة الانتهازيّة، التوسعيّة، الحاقدة والساعية لتحقيق المآرب والمنافع الذاتية، وخلاصة ذلك أن محمّدًا (صلى الله عليه وآله وسلم) «محارب ونبيّ ومؤسّس دين، وكبير المشرعين، وكاتب كبير، فهو شخص جامع متكامل!؟»[8].

إن المستقرئ لكتابات القرن السابع عشر وما يليه من قرون، وصولًا إلى الأنوار الغربية وسيطرة العقلانية يدرك بواقعية مدى المكانة التي احتلّتها السيرة النبوية في مصنَّفات الكتّاب والمؤرّخين والرحّالة والمستشرقين الفرنسيين، باختلاف مناهجها ومنابعها ومقارباتها التي تعلن التزامها بالمنهج العلمي والموضوعيّة واستقاء المعلومات من مصادرها الإسلاميّة توخّيًا للدقّة العلميّة، ولكن باستعراض المؤلّفات يلاحظ الباحث اتفاق الأهداف ووحدة الغايات والتوافق الشامل والكلي في اعتماد التشويه والتحريف منهجًا ومسارًا واتّجاهًا، ويتجلّى ذلك من خلال تكرار المغالطات وترويج الشبهات وإثارة الشكوك، باعتماد الوسائل والآليات المادية الناكرة للوحي والعقيدة والغيب والمعجزة، فقد كتب جاك أبادي (Jacques Abbadie) (1654-1727) سنة 1684 في كتابه «رسالة في حقيقة الديانة المسيحية» (Traité La Vérité de la religion chrétienne) متّهمًا فيه الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بالقائد العسكري التوسّعي، صاحب المشاريع الاقتحاميّة، منكرًا إنسانيّة الدعوة وسلميّة وسائلها ونبل غاياتها وقيمها الراقية وتشريعاتها الكونيّة.

استهوى عنوان «رسالة الدجّالين الثلاثة» (Traité des trois imposteurs) والمقصود بهم المسيح عيسى وموسى(عليه السلام) ومحمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) العديد من الكتّاب والمؤرّخين وعلماء التيولوجيا، فكتبوا مصنّفات تشترك في التحريف والتقوّل والتدليس وتشويه الحقائق والسيرة، بول هنري المعروف ببارون هولباخ (Paul Henri Thiry, baron d’Holbach) (1723-1789) واصفًا الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بالأمير وقرآنه بالوهم المتخيّل «كما أقول إن قرآن محمّد، لا يفهمه أحد، فهو غامض للغاية، فاسد التصوّر... فجميع قوانينه ليست سوى خيال بشري، وأوهام محضة ظهرت للوجود، من قبل الشياطين والأرواح الشريرة، التي استغلّها الأمراء والكهنة لتحصين سلطتهم والسيطرة على الجهلاء»[9] بينتم يعتقد ماكسيميلين وبيتر فريديريش مؤلِّفَا الكتاب الثاني الحامل للعنوان ذاته، بأن أتباع محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) من الأميّين والمهمّشين الذين يعتقدون بالخرافات ويؤمنون بالخوارق نظرًا لتدنّي مستوياتهم العقليّة والتعليميّة «يتبع محمّدًا حشدٌ من الحمقى، يعتقدون بأنه رجل رباني، مستعملًا الصدى المنعكس من بئر، لإيهام الناس بأنه صوت الله ليقنعهم بنبوّته»[10].

جسّدت ثقافة المركزيّات الإقصائيّة نظريّات في فنّ الإنكار والتشويه، فتصدّت للرؤى العقلانيّة والوثائق التاريخيّة بالتشكيك في مصادرها وأخبارها وبالطعن في مؤرّخيها واتهامهم بالتحيّز الأيديولوجي والوفاء للانتماء العقائدي، ممّا أنتج حسب زعمهم تاريخًا مزوّرًا لا يمكن الاستناد إليه أو الوثوق في معلوماته «لا ينبغي البحث عن السيرة الحقيقيّة لموسى والمسيح ومحمّد في كتاباتهم وخطبهم، فحياتهم فيها من أعظم وأكبر الخدع التي تم الكشف عنها والتي وجب على الجميع معرفتها إن أرادوا الوصول إلى الحقيقة»[11].

لقد أفرزت مركزيّة التاريخ ومصادرة المقاربات العلميّة الموضوعيّة أنساقًا ثقافيّة عاكسة للمرايا الأيديولوجيّة المصطنعة الساعية إلى بسط الهيمنة والنفوذ على العلوم والمعارف والتاريخ والسيرة، وهو نوع من الاستعمار الثقافي والمعرفي، باقتحامه الحقول الفكريّة والثقافيّة وتشويهها وفرض معاييره الخاصّة في البحث، بمناهج تؤصّل لرؤيتها وتوجّهاتها وترسّخ معالم منظومتها الخاصة، فتتحوّل عقيدة التوحيد الجامعة بين الرسالات السماويّة إلى ميدان للعداوات والمشاكسات والنزاعات العدائيّة حسب ظنونهم «جاء موسى أوّلًا، ثمّ المسيح عيسى مؤسّسًا قوانينه على آثاره، محافظًا على بعضها ولاغيًا للباقي، ثم ظهر على الساحة محمّد أخيرًا، فأخذ دينه منهما ثم أعلن العداء عليهما»[12].

لقد توصّل الباحث رينو تيرم (Renaud TERME) في أطروحته الموسومة ﺑــ»تلقّي النخبة الفرنسية للإسلام بين 1830-1914)[13] إلى جملة من النتائج المهمّة والمثيرة والدالّة على الارتجال الفكري والموحية بالتحيّز من خلال التكرار الفاضح للمغالطات التاريخيّة المقصودة والإراديّة «لم يتمكّن الفرنسيّون من حجب صورة الإسلام التي غرسها مسيحيّو العصور الوسطى في نفوسهم وعقولهم، بين 1100 و1140، فجاءت النصوص والتعقيبات عن محمّد والإسلام ذات طبيعة خياليّة بحتة»[14]. ويواصل الباحث بأنّ الأحكام والرؤى المشكّلة حول الإسلام ورسوله الكريم هي نتائج لقراءات متحيّزة تستند في بنائها إلى الأساطير الفلكلوريّة والقصص البيزنطيّة المتخيّلة التي تمّ إسقاطها بقصديّة على بنية الإسلام وتشريعاته، بمباركة الكنيسة المسيحيّة «إنّ النصوص التي تم إنجازها تمثّل القاعدة المعرفيّة المسيحيّة للإسلام حتى نهاية القرن السابع عشر، وبطريقة إراديّة أو لا إراديّة، فإن هذه الترجمات غالبًا ما تكون محرّفة ومضلّة؛ لأنها تشوِّه وتحتقر وتسخر من الرسول وأحكام الوحي الإسلامي»[15].

يتعلّل الدارسون الغربيّون ويتحجّجون بأسباب محاولين تسويغ وتبرير تطاولهم على الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بدراسات سطحيّة انفعاليّة مؤدلجة لا ترقى لمصاف الدراسات العلميّة والأكاديميّة، رغم تسلّحهم بأدوات المناهج العلميّة، من منهجيّة في التحليل والدراسة ومناهج بحث معاصرة وحداثية ترفع الموضوعيّة كشعار ومبدأ أساسي لكل بحث رصين، ومن أبرز الأسباب المقدمة لعمليات التجنّي والتحريف والتشويه ضعف المراجع العربيّة حول السيرة النبويّة وقلّتها وندرتها وغموضها، بالإضافة إلى صعوبة الوصول إليها والاطّلاع عليها، وهي في واقع الأمر أسباب واهية لا تقوم على بنية علميّة ورؤية موضوعيّة «يواجه المؤرّخ الراغب في دراسة القرون الأولى للإسلام تحدّيات منهجيّة هائلة، ولا سيّما نقص المصادر المتاحة، وهي الصعوبات نفسها التي يواجهها الباحثون المعاصرون، وخاصّة ضعف التوثيق وانعدام المراجع الوثائقية لدراسة هذا الموضوع»[16].

الكاتب والكتاب
صاحب الكتاب هو القسّ الأنجليكاني همفري بريدو (Humphrey Prideaux) (1724-1648) مستشرق إنجليزي وأحد تلاميذ المستشرق إدوارد بوكوك (Edward Pococke) (1604-1691) نشر دراسات متخصّصة حول الكتاب المقدّس، مضيفًا العديد من المنشورات المناهضة للإلحاد والكنيسة الكاثوليكية. ألّف كتابه الموسوم «كشف الحقيقة الطبيعية بشكل كلي لدجل حياة محمّد» (The True Nature of Imposture, Fully Displayed in the Life of Mahomet) والذي ترجم إلى الفرنسيّة تحت عنوان (La vie de Mahomet, où l’on découvre amplement la verité de l’imposture) (1697) ويأتي الكتاب استجابة لمصطلح «الدجل» و«الدجّال» الذي ساد الدراسات في القرن السادس عشر والتي تبنّت الفكر الإلحادي في إنكار النبوّات والأديان السماويّة، فانتشرت سلسلة من الكتب والمنشورات تتهم الأنبياء الثلاثة محمّد s والمسيح وموسى(عليه السلام) بالدجل والخداع والمكر للتأسيس لملك ذاتي وهيمنة سياسيّة شخصيّة بتشريع قوانين وطقوس والادّعاء بقدسيّتها الإلهيّة، ولعلّ هذه الكتب سلسلسة «الدجّالين الثلاثة؛ محمّد والمسيح عيسى وموسى» (les trois imposteurs (Moïse, Jésus Christ, Mahomet).

عتبات الكتاب
يرى الناقد الفرنسي جيرار جينيت (Gérard Genette) (1930-2018) في كتابه «عتبات» (Seuils) (1987)[17] إنّ عتبات النصّ، نصوص موازية تحمل إرساليّات فكريّة ودلالات ثقافيّة عميقة ومفاتيح للولوج إلى المعاني والأفكار، بخطابَيها المرئي والمقروء. فالعتبة هي ما يحيط بالكتاب من صور وأشكال وخطابات بصريّة ولغويّة والتي تمنح للنصّ المركزي هويّة، بالإضافة إلى أنّها دعوة للمتلقّي للتواصل مع المضمون.

وكتاب هامفري بريدو يرتكز على عتبة مرئية تجسّدها صورة الغلاف لقائد عسكري يرمز لشخصية محمّد –ص- يحمل سيفًا بيده اليمنى وهلالًا باليسرى، داهسًا برجله اليمنى الصليب وباليسرى الكرة الأرضية وسط حشود بشرية.
تذهب سيميائيّة الصورة إلى تفكيك العلامات باعتبارها محمولات ثقافيّة ورموزًا لدلالات عميقة، فالسيف المحمول باليمنى إيحاء وتأكيد وتكرار للصورة النمطيّة الكامنة في المنظومة المركزيّة الغربيّة حول عنف الإسلام واعتماده القوّة والحرب كأدوات للتوسّع والانتشار، فرائحة العنف وإنكار السلميّة والتّسامح والحريّة العقائديّة تفوح من المرويات الغربيّة الكبرى ومرجعيّاتها الفكريّة والدينيّة، من خلال الانتقاء التاريخي للمشاهد والأقوال والأفعال، جاحدين جماليات التشريع الإنسانيّة والقيم السلميّة ونبل الوسائل وسموّ المبادئ عبادة ومعاملة. في حين يشير الهلال إلى هويّة الدين الإسلامي، فالهلال رمز يستخدمه المسلمون للتقويم وشعارًا لهويّتهم مقابل الصليب للديانة النصرانيّة ونجمة داوود للديانة اليهوديّة.

وتشير حدّة النظرة والتحديق الدقيق والعضلات المفتولة إلى القوّة والإصرار والتحدّي في تحقيق الأهداف وعدم الخوف من الصعوبات، فالرهان يتمثّل في الهيمنة والسيطرة وبسط النفوذ، في حين يبتعد اللباس كليًّا عن اللباس العربي والإسلامي المتداول في شبه الجزيرة العربيّة، فمتخيّل الكاتب وجهله بالثقافة العربيّة دفعه لإنتاج صورة نمطيّة لرجل الدين المسيحي، فجاء اللباس مشابهًا لبذلات القساوسة والرهبان وملابس الكهنوتيّة في الأديرة والكنائس.

وتُمثِّل القدم اليسرى فوق الكرة الأرضيّة على طموح الإسلام في احتلال العالم وإخضاعه لأحكامه وتشريعاته، فهو مشروع توسّعي يهدف إلى الهيمنة الكلّية على العالم، باستخدام وتوظيف جميع الوسائل، عسكريّة باعتماد الحروب، وأيديولوجيّة باستخدام الدعوة، فالرسالة ليست محليّة ولا عرقيّة، بل عالميّة؛ ولذلك وجب التوسّع والانتشار. وتحيط بمحمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) ويجتمع حوله ثلّة من الرجال، كلٌ يؤدّي وظيفة محدّدة من الكتابة إلى الاستشارة إلى التخطيط في انسجام وتوافق، يوحي بالاندماج العقائدي والتضامن المطلق في تنفيذ المشروع الإسلامي العالمي.
المحور الثاني من عتبة الغلاف، خطاب مقروء ينقسم إلى قسمين، الأوّل متعلّق بالمنهج يتمثّل في عبارة «الكشف»، والثاني بالماهية من خلال لفظة «الدجّال»، فالمنهج العلمي في جميع الدراسات الإنسانيّة والعلميّة يتقيّد بمعالم وضوابط تحارب العاطفة والهوى والاندفاع الأيديولوجي والانتماء القومي والمذهبي الذي يحجب أنوار الحق والحقيقة، فجاءت أفكار الكتاب مجانبة ومجافية للحقيقة وفاقدة لآليات الإقناع والحجاج والموثوقية العلميّة، واكتفت برصد وشحن الأراجيف والمغالطات دون توثيق علمي للوقائع والمشاهد، ودون مراعاة لقوانين التقويم والتأويل والشرح، فقد هيمنت الذاتية والتحيّز والإنكار وتحريف التاريخ على جميع مقاربات الكتاب من وصف وعرض واقتباس؛ مما أحدث فجوات مضلّة ونقائص غير منطقية وانحرافات عقلانية لا يمكن أن تَصدق وتُصدَّق على الإنسان الطبيعي، فما بالك بالأنبياء والرسل.

أمّا مفاهيم الدجل والدجالة والدجّال، فهي ألفاظ سادت المنظومة الإلحاديّة والأدبيّة والاجتماعيّة في القرن السابع عشر، وشملت المسرح والأدب والدين، فأصبح الدجّال «الدجّال هو الذي يكذب حول هويّته، متظاهرًا بما ليس له أو فيه، سواء أكان الكذب متعلّقًا باسمه أو بصفة مفترضة ينسبها لنفسه عن طريق الاحتيال؛ لذلك فهو منافق بالمعنى الأوّل للمصطلح، أي ممثل، وشخصية مقنَّعة، وتتضح مظاهره كما في العديد من العروض المسرحية»[18].

فباستعراض مصنّفات القرن السابع عشر والأنوار الغربيّة يلاحظ الحضور القوي لمصطلح «الدجل» و«الدجّالين»، فقد تمكّنوا من الانتشار في مفاصل الدولة والمنظومات الفكريّة والدينيّة لدرجة اعتبارهم من «المغامرين» «إنّ عصر التنوير هو بامتياز عصر المغامرين، ويؤكّد ذلك العديد من الدراسات التاريخيّة والاجتماعيّة، التي لاحظت الروابط القويّة بين حضارة القرن الثامن عشر والمغامرين سلوكًا وفكرًا»[19]، وانعكس هذا الحضور القوي على الأبحاث الاجتماعيّة والنفسية، فتناولت الظاهرة تعريفًا وتحليلًا للوقوف على الأسباب والنتائج، فأصبح «الدجّال هو من يغتصب الهوية، ويبتدع لنفسه قصصًا ليست له، ويتظاهر بتقمُّصه الجديد ويستمرّ وكأنها حقيقة ثابتة»[20]. فالدجل نوع من الاحتيال الذكي الذي يستغلّ فيه الدجّال قدراته وإمكاناته الذهنيّة والفكريّة للترويج لظاهرة أو فكرة بقصد الإغواء والاستغلال، وتتنوّع الحيل حسب الظروف وملابسات العصر. «الدجّال هو خائن للثقة، ولسذاجة الآخرين، من خلال خطب كاذبة ينتفع بها، وعن طريق تقمّص هوية أخرى مستغلًّا كفاءاتها لتحقيق غايات شخصيّة»[21].

ويتطابق المفهوم والدلالة مع المعاني المعجمية، فقد دلَّت الشروحات المعجميّة على أنّ الدجال هو «المخادع، المحتال، المضلّل والمفتري، يتجلّى بمظاهر خادعة، وهمية وكاذبة»[22] ولا تختلف المعاجم العربيّة عن نظيرتها الغربيّة في التأكيد على الصفات السلبية للدجّال من كذب وقذف وافتراء وتقمّص لأدوار وهميّة لتحقيق أهداف مادية، «وَدَجَلَ الرَّجُلُ وَسَرَجَ، وَهُوَ دَجَّالٌ: كذَبَ، وَهُوَ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّ الْكَذِبَ تَغْطِيَةٌ، وَبَيْنَهُمْ دَوْجَلَةٌ وَهَوْجَلَةٌ وَدَوْجَرَةٌ وَسَرْوَجَةٌ: وَهُوَ كلَامٌ يُتَنَاقَلُ وَنَاسٌ مُخْتَلِفُونَ. وَالدَّاجِلُ: الْمُمَوِّهُ الْكَذَّابُ، وَبِهِ سُمِّيَ الدَّجَّالُ. وَالدَّجَّالُ: هُوَ الْمَسِيحُ الْكَذَّابُ، وَإِنَّمَا دَجْلُهُ سِحْرُهُ وَكَذِبُهُ»[23].

يثير انتقال مفهم «الدجال» (L’Imposteur) من حقوله المعجميّة إلى ميادين العلوم الإنسانيّة والدراسات الدينيّة تساؤلات منهجيّة ومعرفية خاصّة حول توظيفه كنعت وصفة ملازمة للأنبياء والرسل، فإذا كانت الديانتان النصرانيّة واليهوديّة قد تعرّضتا للتحريف والتزوير والتبديل لتناسِب وتلائم بعض الأيديولوجياّت وتحقّق الأهداف والرغبات المادية، خاصّة بعض القساوسة والرهبان في الاستيلاء على الأراضي والأموال، فإنّ التجنّي على الرسولs وضمّه وتصنيفه تارة مع أصحاب الملل والنحل كما في دراسة لويس جاكوليو (Louis Jacolliot,) «مانو، موسى ومحمد» (Manou, Moïse – Mahomet) (1876)، وتارة مع القادة العسكريّين كما في كتاب نارسيس سيليه (Narcisse Cellier) «موسى، محمد، بنابرت» (Moïse, Mahomet, Bonaparte... parallèle) (1841)، ثم تأتي منظومة الإنكار ومشروع التشكيك بهيكلة وتنظيم مقصود، نافيًا النبوّة والوحي، لاغيًا للرسالة وتشريعاتها، حاشدًا كل صفات الأذى المادي والمعنوي، ملخّصًا خطابه في صفتي «الاحتيال» و«الدجل» وفاءً لعقيدة مركزية متطرفة وفكر عنصري إقصائي، واستجابة لفكر إلحادي وهيمنة مادية خالصة.

وما ينطبق على صورة الغلاف والعتبة المركزيّة من تشويهات وتزوير للواقع والوقائع يسري على بقية الصور التي تشكّل فصول الكتاب، فلا تعدو أن تكون صورًا لأشخاص بملامح عثمانيّة أو أندلسيّة[24] وبنايات مخالفة للنمط العمراني العربي في شبه الجزيرة العربيّة[25]، بالإضافة إلى اللباس الذي لا يعكس الأسلوب الثقافي العربي في عصر صدر الإسلام[26]، وكذا الأمر بالنسبة للأسلحة، فهي نسخ لنماذج وأنواع الأسلحة الرومانيّة[27]، في حين تكشف الألبسة العسكريّة والخوذات النحاسية الواقية على انتماء الجيش إلى ثقافة غير عربيّة/ إسلاميّة، وبذلك يكون الخطاب المرئي قد عبَّر عن مُتخيَّل وهمي، ونمطي مُثبَّت في كتابات شكّلت مرجعية أساسية في التأصيل لصورة الجيش المحمّدي.

بداية الارتجال والارتجاج
قد تنطلق الدراسة من النتائج لتبرير منهجها وتحديد خطواتها ومراحلها؛ ذلك أن جميع أفكار الأثر تستوجب الوقوف والتأمّل والردّ ودحض المتقولات من تصويبات تاريخيّة ومراجعات للمصادر والموارد والمناهل، لتفكيك الانتقادات السطحيّة للمقاربة، فجاءت العروض مرتجلة، منتقاة، متحيّزة ابتداء من تحذير المقدمة، فقد نبّه الكاتب في تحذيره للقراء في شكل توضيح معرفي حول اشتقاق الأسماء العربية ومعانيها «ﻓــ«عبد» تعني خادم (Serviteur) -في اعتقاده- فعبد الله تعني خادم الله وعبد شمس خادم الشمس»[28]. لا يجد المتلقّي سببًا منهجيًّا لهذا التحذير ولا يعثر على سياق دلالي لاستحضار هذا التنبيه، سوى الخلفيّة المرجعيّة للفكر الكنسي الذي يعتقد أن لفظ (عبد) مشتق دلاليًّا من الرقّ والاستعباد وإثبات الملكيّة البشريّة، وهذا مخالف ومناف للمعجميّة العربيّة التي ترى في العبوديّة الإسلاميّة مجرد استجابة إيمانيّة للتعاليم الإلهيّة، دون إقحام للفكر والسلوك البشري، قال ابن منظور «يقال: فلان عبد بين العبودة والعبوديّة والعبديّة وأصل العبوديّة الخضوع والتذلل»[29] والخضوع بمعنى الطاعة والاستسلام لله وتشريعه وأحكامه وأوامره ونواهيه ولا علاقة له بالبشر، فالانقياد والخشية والإنابة سلوكيات عقائديّة في حب الله والإيمان به.

لم يكن ولوج الكاتب لسيرة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بريئًا، فبعد التحريفات التي طالت طفولته من خلال إشاعة وترويج أخبار اتّصاله برهبان النصرانيّة وأحبار اليهوديّة استعدادًا لإعلان دينه الجديد وحفظه عنهم التعاليم الكنسية والتلموديّة التي مهّدت الطريق أمامه لادّعاء النبوة، جاءت مرحلة تأويلاته وقراءاته وتفسيراته لأحداث طفولة محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) وشبابه قبل الدعوة، والتي تستوجب التفنيد العلمي وإعادة القراءة والبناء بكشف عجز المنهج المستخدم وتحيُّز المرجعيّة والخلفيّة المعرفيّة. فإنّ غياب العقل الأخلاقي أنتج إسقاطات لا عقلانية «يسعى محمّد إلى السلطة والثروة التي حُرم منها وهو يتيم يُقيم مع جدّه، فالتقت هذه المؤشّرات مع الطموحات... ليظهر الدجّال الذي عانى العالم من ضرره وأذاه»[30]، فثورات الجياع والمتشرّدين مقارنة ما لا يقارن (Comparer l’incomparable) بتعبير الكاتب الفرنسي مارسيل ديتيان (Marcel Detienne)؛ ذلك أن السياقات التاريخيّة والمعرفيّة وصيرورة الوقائع واختلاف الأسباب وتباين الأفكار تحول دون إسقاط الثورات الوضعيّة والزعامات البشريّة على الدعوة الإلهيّة المقدّسة التي أثمرت آخر الأديان السماويّة بقيم نبيلة وتشريعات إنسانيّة راقية أبهرت الفلاسفة والتنويريّين الغربيّين قبل غيرهم.

كما لم تمكّن الباحث من التخلّص من سلطة فكر الإمبراطوريّات والفلسفات الماديّة التي تؤمن بأنّ القوّة والثورة هي سبيل بناء المجتمعات فكريًّا وعقائديًّا وحضاريًّا. «استطاع محمّد ادعاء دجله وإعلان احتياله اعتمادًا على قوّة قبيلته وعائلته، فهي حاميته ومشجّعته ومساندته»[31]. ما تجاهله الكاتب أنّ الدعوة الإسلاميّة بتشريعاتها ومبادئها الإنسانيّة الراقية تتجاوز الوسائل المادية للثورات، فالمال وقود ووسيلة مؤقّتة ومحدودة الفعاليّة والنتيجة، لا يمكنها الصمود والخلود أمام قداسة الهدف ونظافة الوسيلة وطهارتها.

لعبت البورجوازيّة كمنظومة مالية طاغية أدوارًا مركزيّة في تسيير أنظمة الحكم في أوروبا خلال القرنين السابع والثامن عشر، بتمويل الثورات وحركات التمرّد، بالإضافة إلى إذكاء العداوات الداخلية داخل الأنظمة الملكيّة والمدنيّة، وتواطأت مع الإقطاع والكنيسة، وأصبحت تهيمن على السياسات والإدارات وتتحكّم في التشريعات والمناصب، وقد انعكس هذا الضرب من الاستراتيجيّات السياسيّة على عقول المفكّرين، فاعتقدوا بقوة النفوذ المالي، وتحوّل إلى وسيلة ومنهج تفسيري لكل دعوة أو ثورة أو حركة تصحيحيّة، وهو ما أسقطه الكاتب على سيرة المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) «ظهرت طموحات محمّد بعد زواجه من خديجة، فأصبح بثروته مالكًا للمدينة والوطن معًا»[32].

الموقف من القرآن؛ تكرار واجترار وهذيان فكري
لا يرتبط الهذيان الفكري بالاضطرابات العصبيّة الفيسيولوجيّة بقدر ما يتجلّى في الخطاب المنجز، فيتحول التفكير إلى تشويش ذهني يعتقد فيه المُصاب بالاعتزاز بالنفس في تفكيرها ورؤيتها للأشياء، ويؤدّي هذا الاضطراب الشكليّ للفكر إلى تزوير المحتويات وتحريف المضامين بإضفاء تفسيرات ذاتيّة وتأويلات مرضيّة لحالات ومواقف ومشاهد وأحداث واقعيّة لا يمكن نفيها وإلغاؤها. فكل فعل إنكاري ينتج عوالم فنتازيّة وخطابات غرائبيّة معاكسة للحقيقة الكائنة والموجودة ومنافية للعقلانيّة والموضوعيّة العلميّة.

ينتج الخطاب الاستشراقي منذ الترجمات الأولى للقرآن الكريم جملة من المصنّفات والمؤلّفات والرسائل، تحمل في طياتها سلسلة من التشويهات والمغالطات تنكر من خلالها الوحي الإلهي ونبوءة محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) ونزول الوحي المقدس، وتشترك هذه الأعمال سواء المترجمة للقرآن أو الدراسات التي تناولت القرآن والوحي بالادّعاء ببشريّة القرآن. لم يخالف بريدو (Prideaux) سلفه من المستشرقين ولا منظومته الفكريّة والعقائديّة، متبعًا نهجهم ودربهم قائلًا «يؤمن محمّد بالعهدين القديم والجديد، كما يؤمن بموسى وعيسى بأنهما مرسلان من الله... ولذلك جاءت أغلب فصول القرآن مقتبسة من العهدين»[33].
إنّ فكرة الاقتباس فكرة قديمة وشائعة في عقائد الاستشراق ووعيهم، بمختلف مدارسه ومشاربه وضروبه، فلا يكاد يخلو منجز حول القرآن إلّا واستدعى تهمة التضمين والتناص من الكتب السماويّة النصرانيّة واليهوديّة، في إرادة قصديّة للتشويه وإثارة الريب والشك، ففي خلدهم أن محمّدًا (صلى الله عليه وآله وسلم) قد اطّلع على مضامين الكتب السماويّة واصطفى منها وانتقى ما يناسب مذهبه أثناء رحلاته التجاريّة إلى الشام ولقاءاته المتكرّرة مع رجال الدين المسيحي واليهودي، وهو ما أهّله فيما بعد لانتقاد العقيدة المسيحية، «ينكر محمّد التثليث وألوهية مخلِّصنا (المسيح)، ومكذّبًا كتبنا التي تثبت هذه الحقائق»[34]. ويأتي هذا الترويج الباطل في سياق اكتساب تعاطف وتضامن النصرانيّين، لتأجيج مشاعر الكراهية والحقد على الرسول الكريم وقرآنه المجيد وعقيدته السمحاء.

يحاول الكاتب من خلال إصدار هذه الأحكام الجائرة والأخبار المدلّسة إلى محاربة الإسلام، وهي الثقافة التي سادت القرون الوسطى وامتدت حتى إلى فكر الأنوار، فقد شغلت موضوعات الوحي ونزوله، ونبوءة محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) الفكر والثقافة والعقيدة، وسخَّرت المنظومة الكنسية والإمبراطوريّات السياسيّة المدعمة للمركزيّات الثقافيّة كل الوسائل الماديّة والمعرفيّة لنشر كل ما يوهم المتلقّي الغربي بدجل الرسول الكريم، ففي عمليات التعميم محاولة للانتشار وتوسيع دائرة التحيّز والتشويه لتنال فئات كبيرة من المثقفين والمتلقّين الذين تستهويهم الأخبار العجائبية، خاصة حينما تقترن بالأسطورة والخرافة «إن فصول القرآن كتاب المحمّديّين (المسلمين) موجودة في أرشيف وخزائن السماء، وإنّ الملك جبريل أحضر له نسخة، مقسّمة على مراحل... والحقيقة أنّ هذا الكتاب محاكاة للتابوت أو الصندوق المقدس عند اليهود»[35].

أفكار كثيرة في ثنايا الكتاب تتناول القرآن الكريم بالطعن والتشكيك، ولكن سطحيّة الطرح وسذاجة المقاربة، تدفع الدارس إلى تجاوزها، من ذلك ما زعمه من أن القرآن سلسلة من الأقاويل والتقسيمات البلاغية والشعرية تشبه القصائد الغنائية للشاعر اليوناني هوميروس (Homère)[36]. وإنّ الرسول الكريم كان شاعرًا وقصاصًا واسع الخيال، ينتج المشاهِدَ والأحداث بإبداع كبير ليجمع الناس حوله «إن القصص التي يرويها، هي خرافات من إبداعه»[37]. يسقط الكاتب اهتمام المجتمعات الغربيّة بأدب المتخيّل العجائبي الذي اطّلعوا عليه من خلال ترجمة المستشرق الفرنسي أنطوان غالان (Antoine Galland) (1646-1715) لقصص «ألف ليلة وليلة» على سيرة الرسول الأعظم وهو يروي قصص الأوّلين كما أوحى بها الله له، فيعتقد بتشابه الموقفين؛ وذلك سبب لالتفاف الناس حوله: «يروي لهم خرافات شعيب النبي العربي القديم، الذي أرسل إلى قبيلة مدين، ساردًا لهم كيف انتهت بالرعد لأنها لم تؤمن بنبوّته، وبسبب هذه الحكايات المكررة كثيرًا في القرآن يجتمع الناس حوله ويستمعون إليه»[38].

من الإسلام بالسيف إلى الغارة على القوافل التجاريّة
جدليّة الإسلام والسيف ثنائيّة هيمنت على الكتابات المتعلّقة بانتشار الإسلام، وساهم الفكر الاستشراقي في تهويلها وإبقائها ضمن المحاور المركزيّة في تفسير انتشار الإسلام واعتناق الغرب له، فلم تتمكّن المنظومة الاستشراقيّة بتواطؤ المركزيّات العلمانيّة والعقلانيّة من استيعاب التوسّع العقائدي المؤسّس على القيم الفاضلة وخطاب الفطرة. فالانتشار العالمي المتواصل للإسلام حقيقة واقع تقرُّ به الإحصاءات؛ وهذا ما أغضب مناوئي العقيدة الإسلاميّة، فلم يعثروا في محاربته إلّا على إثارة بعض الشبهات والتي يأتي على هرمها الإساءات للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) من خلال التشكيك في نجاح دعوته، فالفتوحات الإسلاميّة لم تكن مطلقًا استعمارًا ولا احتلالًا ولا نشرًا لعقيدة الإسلام بالإكراه بين الأمم والشعوب كما يُزعم تحريفًا وإشاعة، فما زالت الأبحاث الموضوعيّة الحداثيّة المعاصرة تثبت عكس ادّعاءاتهم وتدحض تهمهم وافتراءاتهم[39].

ينطلق المستشرق بريدو (Prideaux) في تبيان رؤيته حول انتشار الإسلام واتساع رقعته وتزاحم الناس على اعتناقه في شبه الجزيرة العربيّة، ويرى السبب في عاملين هما: القوة والمال، فالقوّة نتجت بانتماء فرسان مولعين بالقتل والمغامرة ومشبعين بالعنصرية القبلية التي تدفعهم لحماية ابن عائلتهم وقبيلتهم، في حين يأتي التمويل المالي من الغارات المتكرّرة على القوافل التجارية «أرسل محمّد عمه حمزة مع ثلاثين فارسًا للاستيلاء على قوافل قريش العائدة من سوريا، لكن العملية فشلت بسبب حماية القوافل من قبل حراس مسلحين، وقد أعاد هذه الغارت والهجومات مرات متعددة باءت كلها بالفشل»[40]. وقد وضع الكاتب عنوانًا استفزازيًّا في مقارباته لغزوات الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) ووصفها بوسم «سرقات محمد»، معتبرًا أن غنائم المسلمين سرقات، وأن أتباع محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) من اللصوص وقطّاع الطرق ومحترفي السرقة والسبي، وهم يمارسون أفعالهم الشنيعة بمباركته بعد حصوله على نصيبه «سنَّ محمّد قانون الخمس من الغنائم لنفسه بينما يُقسَّم الباقي بين مكوّنات جيشه»[41].

وعطفًا على تهمة السرقة، يفسّر الكاتب انتصارات الجيش المحمّدي ببدر وغيرها من الغزوات الإسلاميّة بكثرة العدد وخبرة المحاربين في الحروب الجاهليّة، بالإضافة إلى خطاب الجنة ومكانة الشهيد وضمان الانتصار، فهم يقاتلون بتضامن ومشاركة الملائكة «إنّ الله قد أرسل جيوشًا من الملائكة في نصرة محمّد، ويتجاوز عددها الثلاثة آلاف، ولا يراهم سواه، أمّا نحن فلسنا مجبرين على تصديق هذا الدجل وغيره»[42]. وهو بذلك ينكر قوله تعالى ومعجزته في نصرة رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ﴾ (الأنفال: 9) يحاول الكاتب إثارة الارتباك والشكّ حول غزوة «أحد»، فيصفها وصفًا مؤدلجًا متحيّزًا، كاشفًا عن نيّات ومقاصد مادية، منتهجًا آليات الإنكار العشوائي المرتجل، بعيدًا عن الحجاجيّة الإقناعيّة، فجاءت تساؤلاته سطحيّة فاقدة للمنطق العقلاني «كيف له وهو رسول الله، أن ينهزم من جيش كافر، أفقده أصدقاءه، وقد فسَّر (محمد) هذه الهزيمة بالمعاصي التي ارتكبها بعض أتباعه»[43] والمعروف عن ابتلاء غزوة «أُحد» مخالفات إستراتيجيّة لسيرورة المعركة، وهفوات بشريّة متعلّقة بتغيير الأماكن والمناصب ومخالفة لتعليمات الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ولا علاقة لنتائج المعركة بدرجات الإيمان، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ ۖ حَتَّىٰ إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ ۚ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ۚ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ ۖ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ ۗ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾ (آل عمران: 152).

يخلط الكاتب في مواضع كثيرة بين الحياة العربيّة في الجاهليّة وبين ما تميّزت به حياتهم من غارات قبلية وشرب للخمر وانتشار ألعاب الحظ والقمار، وكثيرًا ما ينتج عن هذه الممارسات خصومات فرديّة وأخرى جماعيّة قبليّة، فيقوم بإسقاط هذا الفضاء بتناقضاته وثقافته على الحياة الإسلاميّة، فيجعل منها نسخة ومطابقة في تشابه غير منطقي، ضاربًا بذلك مواثيق التاريخ التي تثبت الاختلاف والقطيعة بين نموذجين اختلفا بفعل الدعوة الإسلاميّة اختلافًا جذريًّا، متناسيًا أخلاقيّات البحث العلمي الذي يدعو إلى تقصي الحقائق وتبنّي الموضوعيّة في الطرح والتحليل والتأويل «انشغل جيش محمّد بالحملات العسكريّة وبقي بعض أنصاره في المدينة منشغلين بلعب الميسر وشرب الخمر، مما أدى إلى حدوث مناوشات وخصومات؛ ولذلك منع محمّد الخمر وألعاب القمار نهائيًّا»[44].

يؤدّي الاضطراب الفكري إلى التذبذب في القول والفعل، وينتج خطابًا مزدوجًا، متناقضًا وثنائيًّا، يجمع بين المدح والذم، القبح والجمال، الصدق والدجل، الإيمان والكفر وغيرها من الخطابات المركّبة. يرى النفسانيّون أنّ الأسباب تعود إلى سيكولوجيّة منهكة ومتعبة لمحمولاتها الفكريّة والعقائديّة، فاقدة لقدرات التمييز بين الصواب والخطأ، بين الحق والباطل وهذا نتيجة التدافع والتصادم الحاصل بين الحقائق الثابتة وبين الأيديولوجيّات وأوهامها والانفعالات الوجدانيّة، وكل هذا يؤثر على العقل ويمنعه من التفكير السليم وإدراك الأشياء وصناعة التوازن بين الذات الباطنة والوعي بالكائن والموجود.

فقد عانى بريدو (Prideaux) في كتابته لهذه السيرة من اضطرابات فكريّة أنتجت نصًّا متناقضًا يجمع في أغلب أقسامه قذفًا وانتقادًا وإنكارًا لدعوة الرسول محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم)، متجاهلًا الحقائق ومتناسيًا الوقائع والتاريخ، ولكن الفطرة الباطنة والضمير المضمر، قد يطفو على مستوى التفكير لا إراديًّا وعفويًّا، فيعترف مُقرًّا ومناديًا، صادحًا بالحق «بالعودة إلى محمّد، فقد كان متزنًا في شخصيّته، صاحب نظرة ثاقبة، يشبه إبراهيم، له حضور ذهني، حكيم، له قدرة كبيرة على امتلاك العقول والقلوب، وبهذه الصفة الأخيرة نجح مشروعه»[45]. لا يمكن للذهنيّة المضطربة والفكر المشتّت الثبات حول موقف ورؤية محددة ناتجة عن إدراك للحقائق متجاوزة الأنانيّة والذاتيّة ومُتحدية للأيدولوجيا وملتزمة بالموضوعيّة، ولكنها رهنت القيم العلميّة لسلطة التحيّز، فأصبحت سمتها الجوهريّة الانتقال العشوائي يمينًا ويسارًا، مدحًا وهجاءً، وضمن هذا السلوك المرضي ينتقل الكاتب بريدو (Prideaux) من المدح الى الذم، في سياق متناقض غير مبرر، والسلوك التناقضي لا علاقة له ﺑــ«نظرية التناقض الذاتي» (Self-discrepancy theory) التي طوّرها إدوارد طوني هينجز (Edward Tory Higgins) والتي تدلّ على أنّ الأفراد يقارنون ذاتهم الفعليّة بالمعايير الداخليّة الانفعالية لذوات مثالية، فيحدث تضارب بين الشخصيّة الواقعيّة والنماذج المثاليّة المتخيّلة.

لم تتمكّن نفسه من البقاء ثابتة على موقف طيبة قلبه (صلى الله عليه وآله وسلم) ورهافة حسّه ونبل خلقه وحسن معاملته، فانفلتت العدوانيّة وأفصحت عن قبحها بالترويج والتكرار لمغالطات قديمة «ميزتان سيطرتا على محمد، الطموح والشهوة، فهو يستخدم جميع الوسائل لتحقيق طموحاته، وعدد النساء دليل على شهواته، وتشكّل هاتان الصفتان ركائز دينه»[46].
وفي جدليّة الفرع والأصل، يتجلّى محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) في عرفه صورة لنموذج ثقافي عام، ووعي سوسيو-معرفي وأنثربولوجي واحد، فهم منتج لمجتمع متوحّش يعشق السرقة والقتل، فلا يمكنه إلا أن يكون وفيًّا لأصوله وجذوره، كما لا يمكنه أن يتحرّر من هويّته وتنشئته الاجتماعيّة والثقافيّة والسياسيّة «قضى محمّد القسم الأوّل من حياته في التجاوزات والانحرافات، مستمتعًا بالسرقة والنهب والقتل، وهذه عادة العرب الذين تتميّز حياتهم بالحروب فيما بينهم بهدف النهب»[47].

الطعن بالقرآن ومصدره
بعد الخلط بين ثقافة المجتمع العربي في الجاهلية وتعاليم الدين الإسلامي ومبادئ القرآن الكريم ومشروع التأويل اللاعقلاني لمواقف الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) في محاولة تصوير النبي بمتخيّل سرابي كرمز لفكر الدجل المتعطش للسلطة تحت دافعيّة الشهوة والانتقام. وبعيدًا عن الحجية المنطقيّة والأدلة الموضوعيّة والشواهد التوثيقيّة التجأ الكاتب إلى عمليات «الإسقاط» كآلية للتفسير والتأويل، فاستمدّ مبرّراته من تاريخ الصراع الدموي الأوروبي بين الكنيسة والإقطاع والبورجوازيّة، ناسخًا نموذجه من حوادثها ومآسيها، معمّمًا صراع القادة والقساوسة والسياسيّين على قدسيّة سيرة المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) ممّا جعل مقارباته ومطارحاته فاقدة للمصداقيّة والروح العلميّة.
التفت بريدو (Prideaux) إلى القرآن الكريم مجهزًا عدّة وعتادًا للطعن والازدراء، فاتّخذ عنوانًا مثيرًا في أحد فصوله، واضعًا عتبة كخطاب موازٍ لاستفزاز القارئ وإثارة انتباهه موسوم ـ»تناقضات القرآن»، وموهمًا المتلقّي بفتوحات جديدة واكتشافات جوهريّة. وباستقراء مضمون العرض يكتشف الدارس الاجترار لشبهات قديمة، متعلّقة بزيجات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ووضعيّة المرأة عامّة في المجتمع العربي، بالإضافة إلى إشكاليّة الرقّ وعلاقته بالبنية الاجتماعيّة والثقافيّة والاقتصاديّة. فيذهب المستشرق البريطاني إلى تدليس وتزوير فاضح للتاريخ، بإقراره أنّ القرآن الكريم يحرّم على المسلمين عامّة زواج الأخ بأخته وابنة أخيه والأصول عامّة من عمّات وخالات، ولكنه يستثني محمّدًا –ص- من ذلك ويمنحه ترخيصًا خاصًّا بالزواج ممّن يشاء: «في الفصل الرابع من قرآنه الموسوم ﺑــ«النساء» يحرّم محمّد على المسلمين الزواج من أمّهاتهم وأمّهات نسائهم... ولكنه يسمح لنفسه بالزواج من ابنة أخيه وابنة أخته، ويستبيح لنفسه أيّة امرأة أخرى بشرط أن تكون من الموحّدين»[48] لم يثبت تاريخيًّا هذا الادّعاء المتوهّم لا في كتب السيرة العربيّة ولا في غيرها، ولم يورد المؤرّخون، باختلاف توجّهاتهم وأهوائهم ومناهجهم وانتماءاتهم الأيديولوجيّة والعقائديّة، أخبارًا تثبت حقيقة هذه الأقاويل التي لم تقم عليها حجة ولا برهان.

لا يتضمّن مبحثه حول تناقضات القرآن أفكارًا تتعلّق بالقرآن في قصصه وأحكامه وتشريعاته ومقاصده العباديّة والمعاملاتيّة، فما نكتشفه عبارة عن شبهات حول زوجات النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وأحكام القرآن في لباس المرأة وعلاقاتها بالغرباء، وبعض التوجيهات لنساء الرسول باعتبارهن نماذج وقدوة للمسلمات والتي يفسرها الكاتب بالغيرة الذكوريّة على نسائه[49].
ويرى أنّ كلّ التشريعات المتعلّقة بتنظيم الحياة الزوجيّة، ولباس المرأة المسلمة وصلتها بالرجال تستند إلى شخصية محمد: «الأمثلة التي عرضتها تعبّر بشكل كبير عن شخصية محمّد، وعن كيفية استخدامه لدجله وجشعه ويمكن القول إن قرآنه كله بهذا الشكل»[50].

إنّ عدم القدرة على استيعاب وإدراك المسائل القرآنيّة الكبرى في التوحيد والوحي والتشريع وقيم الاعتدال والتسامح وعدم الإكراه العقائدي، أفقدت الكاتب صفة العلميّة وخاصيّة الموضوعيّة والإقرار بالحقيقة، فتحوّلت قراءاته للسيرة النبويّة إلى خطاب إنشائي، يفتقر للدقّة والفائدة المعرفيّة، فقد هيمنت عليه التناقضات والأحكام الجزافيّة واضطراب المفاهيم، بالإضافة إلى سطحيّة العرض، خاصة حين يزعم أن القرآن «يُخوّل ويُحلّل لمحمّد بأن يأخذ كل امرأة أعجبه جمالها»[51]. فبعد تكرار وإعادة بعث ادّعاءات المركزيّة الأوروبيّة وشبهات المكتبة الاستشراقيّة حول علاقة الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) بالنساء ولباسهن والترويج لأوهام الشبقية، يتّجه الكاتب إلى إنكار الوحي واعتبار الملك جبريل(عليه السلام) شخصيّة أسطوريّة متخيّلة، وأنّ القرآن الكريم مجرّد افتراءات مختلقة ومتصنّعة، ألَّفها محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بهدف السيطرة على المجتمع تلبية لرغبات خاصّة انتقاميّة من وضعيّات أسريّة واجتماعيّة عايشها. يعتقد بريدو (Prideaux) أنّ الملك جبريل يستحضره الرسول الكريم في سياق أوّلي ومبدئي، يُهيّئ من خلاله العرب لتقبُّل خطابه ثم يتخلّص منه ومن ذكره ويبدأ في الكشف عن مشروعه التدميري «يوهمهم بالوحي الإلهي من الملك جبريل الذي يُقدّم له الإجابات عن التساؤلات، ولكنه يتجاوزه فيما بعد ليُشرِّع لنفسه حسب الظروف والأوضاع وما يتوافق مع مشروعه»[52].

لا تخلو صفحة من صفحات الكتاب عن ذكر سذاجة وطعن شنيع علمًا وخلقًا، فالبحث ينأى عن تكرار تلك الحماقات، فجماليّات التكرار البلاغيّة وأغراضه توكيد المعنى وتجميله وتحسينه وترسيخه، ولكن ما ذكره بريدو (Prideaux) لا يعدو أن يكون معجمًا لغويًّا يجمع كل قبيح، يفتقد للموضوعيّة والمصداقيّة التاريخيّة، ممّا يؤكّد مؤامرة المشروع الاستشراقي الكنسي على القرآن والسنّة الطاهرة الشريفة، رغم زعمه الاعتماد على المصادر العلميّة المستقاة من أرقى المصنَّفات التي تناولت الإسلام والسيرة بالبحث والدراسة «ألّفتُ الكتاب بعناية فائقة، وبعقيدة صادقة معتمدًا على أشهر الكتّاب الذين كشفوا... عن إغراء هذا الرجل لقسم كبير من الجنس البشري»[53].

خاتمة
أدركت المنظومات الدينيّة والفلسفيّة والتنويريّة في الغرب الأوروبي حقيقة الإسلام، بجمال تشريعاته ومشروعيّة أحكامه ونبل قيمه وإنسانيّة بنيته ومراعاته لمقتضى الحال وتكيُّفه مع الإنسان في الزمان والمكان، وبرحمته وتيسيره للعسر وتسامحه واحترامه لإنسانيّة الإنسان، وغيرها من الأوصاف والنعوت التي نجدها عند كبار فلاسفتهم الموضوعيّين.
أنتجت فلسفة الأنوار والخطاب الكنسي المؤدلج والمرويّات الكبرى صدامًا ثقافيًّا وعسكريًّا بين العالم الإسلامي والعالم الغربي، بسبب إنكار النخب لحقيقة الإسلام، فانبرت الانتلجنسيا الأوروبيّة تهوّل من مخاطر الإسلام على الوحدة الأوروبيّة والديانة الكاثوليكيّة، وجنّدت المؤسّسات السياسيّة المستشرقين والأنثربولوجيّين ورجال الدين الكنسيين، للترهيب من تشريع الإسلام، فخلقوا فوبيا متخيّلة متوهّمة أنتجها المخيال، لتناسب الفهم السطحي للإسلام بالانتقاء من آياته ما يبرّر ويسوّغ أطروحاتهم استنادًا على ترجمات محرّفة ومشوّهة وقراءات تأويليّة لمشاهد ومواقف مبتورة عن سياقاتها وأنساقها، بالإضافة إلى سرديات رحليّة ومرويّات شكّلت مرجعيّات علميّة وأكاديميّة.

جاءت سيرة بريدو (Prideau) للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) مطابقة لمرجعيّاته الفكريّة وبيبليوغرافيّات السيرة المحرّفة التي تملأ رفوف المكتبات الغربيّة، والتي لم تتمكّن من تجاوز شبهات محدّدة تتعلّق وترتبط بأفكار وحالات سيكولوجيّة عدائيّة تحاول في جميع تمظهراتها الإساءة للنبوّة والوحي وسيرة المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقد عكست انتقاداتهم وشبهاتهم عن قصور في الفكر، وعجز في المنهج، وتحيّز في التحليل، وارتجال في التأويل، وانتقاء مبتور للمشاهد والأقوال، وتفسير مادي غرائزي للروحانيّات والعقائد الإيمانيّة.


لائحة المصادر والمراجع
ابن منظور، أبو الفضل جمال الدين محمّد بن مكرم، لسان العرب، دار صابر، بيروت.
بلعيد، عبد الحق، عتبات (جيرار جينيت من النص إلى المناص) ط1، منشورات الاختلاف (الجزائر)، الدار العربي للعلوم ناشرون (بيروت) 2008.

المراجع الأجنبيّة
Andrée Bauduin, Psychanalyse de l’imposture, Paris, PUF, 2007.
Anne-Marie Callet-Bianco, L’imposture romantique en quelques exemples, in L’imposture dans la literature, Presses universitaires de Rennes, 2011.
Borrut Antoine. La fabrique de l’histoire et de la tradition islamique. In Écriture de l’histoire et processus de canonisation dans les premiers siècles de l’islam. Revue des mondesmusulmans et de la Méditerranée. Ne129, juillet 2011.
Dictionnaire de L’Académie Française, première partie, POURRAT Frère, Editeurs, Paris, 1836.
Jacolliot, Louis, Manou, Moïse, Mahomet: les législateurs religieux ,Librairie Internationale, A.LACROIX et Cie Editeurs, PARIS, 1876.
Jean Maximilien Lucas, Peter Friedrich Arpe, Traité des trois imposteurs, Verlag nichtermittelbar, 1775.
Marius Fontane, Histoire universelle, Mahomet (de 395 à 632 ap. J.-C.) Alphonse Lemerre ,Editeur, Paris, MDCCCXCVIII.
N-h. Cellier-dufayel, Moise, mahomet, bonaparte, parallele, Bureau du journal le législateur, Paris, 1841.
Paul Henri Thiry, baron d’Holbach, TRAITÉ DES TROIS IMPOSTEURS Moïse, Jésus-Christ, Mahomet, Éditions de l’idéelibre (Première edition, 1777), Paris.
Renaud TERME, La perception de l’islam par les élites françaises (1830- 1914) THÈSE DE DOCTORAT EN HISTOIRE MODERNE ET CONTEMPORAINE, Université Bordeaux Montaigne, 2016.
Sylvie Ducas, L’imposture chez Pierre Michon: une posture auctoriale inédite, in L’imposture dans la literature, Presses universitaires de Rennes, 2011.
Victor Imberdis, Mahomet et l’Islam: étude historique TYPOGRAPHIE L. DENIS SÈNÉ, PHILIPPEVILLE, 1867.
Vincent Denis, Imposteurs et policiers au siècle des Lumières, Revue Politix 2006/ 2 (n° 74).
Wetzer, Welte, Dictionnaire encyclopédique de la Théologie catholique, Tome XIV, Gaume Frères et J. Duprey, 1862.
M. Prideaux, La vie de Mahomet, où l’on découvre amplement la verité de l’imposture, George Gallet, Amesterdam, 1699.


------------------------------------
[1][*]- جامعة الشهيد العربي التبسي، تبسه.
[2]- Wetzer, Welte, Dictionnaire encyclopédique de la Théologie catholique, Tome XIV, Gaume Frères et J. Duprey, 1862, p.117.
[3]- Marius Fontane, Histoire universelle, Mahomet (de 395 à 632 ap. J.-C.) Alphonse Lemerre, Editeur, Paris, MDCCCXCVIII, p.342.
[4]- Victor Imberdis, Mahomet et l’Islam: étude historique TYPOGRAPHIE L. DENIS SÈNÉ, PHILIPPEVILLE, 1867, pp.48- 49.
[5]- IBID, pp.126- 127.
[6]- N-h. Cellier-dufayel, Moise, mahomet, bonaparte, parallele, Bureau du journal le législateur, Paris, 1841, p.24.
[7]- Jacolliot, Louis, Manou, Moïse, Mahomet: les législateurs religieux, Librairie Internationale, A. LACROIX et Cie Editeurs, PARIS, 1876.
[8]- N-h. Cellier-dufayel, Moise, mahomet, bonaparte, parallele, p.34.
[9]- Paul Henri Thiry, baron d’Holbach, TRAITÉ DES TROIS IMPOSTEURS Moïse, Jésus-Christ, Mahomet, Éditions de l’idée libre (Première edition, 1777), Paris, p.20.
[10]- Jean Maximilien Lucas, Peter Friedrich Arpe, Traité des trois imposteurs, Verlag nicht ermittelbar, 1775, p.69.
[11]- Paul Henri Thiry, baron d’Holbach, TRAITÉ DES TROIS IMPOSTEURS Moïse, Jésus-Christ, Mahomet.
[12]- IBID, p.32.
[13]- ناقش الباحث أطروحة دكتوراه موسومة ﺑــ«تلقي النخبة الفرنسية للإسلام (1830-1914) (La perception de l’islam par les élites françaises (1830-1914))» بتارخ 16 جانفي 2016 بجامعة بورد مونتاني (Université Bordeaux Montaigne) وتحت إشراف البروفيسور مارك اغوستينو (Marc Agostino).
[14]- Renaud TERME, La perception de l’islam par les élites françaises (1830 -1914) THÈSE DE DOCTORAT EN HISTOIRE MODERNE ET CONTEMPORAINE, Université Bordeaux Montaigne, 2016, p.448.
[15]- IBID, p.448.
[16]- Borrut Antoine. La fabrique de l’histoire et de la tradition islamique. In Écriture de l’histoire et processus de canonisation dans les premiers siècles de l’islam. Revue des mondesmusulmans et de la Méditerranée. Ne129, juillet 2011, p.17.
[17][1]- بلعيد، عبد الحق، عتبات (جيرار جينيت من النص الى المناص).
[18]- Anne-Marie Callet-Bianco, L’imposture romantique en quelques exemples, in L’imposture dans la literature, Presses universitaires de Rennes, 2011, p158.
[19]- Vincent Denis, Imposteurs et policiers au siècle des Lumières, Revue Politix 2006/ 2 (n° 74) p.11.
[20]- Andrée Bauduin, Psychanalyse de l’imposture, Paris, PUF, 2007, p. 11.
[21]- Sylvie Ducas, L’imposture chez Pierre Michon: une posture auctoriale inédite, in L’imposture dans la literature, Presses universitaires de Rennes, 2011, p.249.
[22]- Dictionnaire de L’Académie Française, première partie, POURRAT Frère, Editeurs, Paris, 1836, p.456.
[23]- ابن منظور، أبو الفضل جمال الدين محمّد بن مكرم، لسان العرب، ج11، ص236.
[24]- المدونة، ص4.
[25]- م.ن، ص13.
[26]- م.ن، ص27.
[27]- م.ن، ص83.
[28]- M. Prideaux, La vie de Mahomet, où l’on découvre amplement la verité de l’imposture, George Gallet, Amesterdam, 1699, p.2.
[29]- ابن منظور، لسان العرب، ج10، ص9.
[30]- المدونة، ص15.
[31]- م.ن، ص9.
[32]- م.ن، ص13.
[33]- المدونة، ص23-24.
[34]- المدونة، ص25.
[35]- م.ن، ص26.
[36]- م.ن، ص28.
[37]- م.ن، ص35.
[38]- المدونة، ص36.
[39]- كتب خوان كول -المؤرخ وأستاذ تاريخ الشرق الأوسط في جامعة ميشيغان- كتابه الموسوم بـ"محمد: نبي السلام في زمن صراع الإمبراطوريات" (Muhammad: Prophet of Peace Amid the Clash of Empires ) حاول فيه إثبات انتشار الإسلام بواسطة الدعوة، نافيًا العنف والاضطهاد، مبينًا احترام الإسلام للحريات العقائديّة والاختلاف الثقافي، داعيًا إلى تعايشها المشترك.
[40]- المدونة، ص102-103.
[41]- المدونة، ص104.
[42]- م.ن، ص104.
[43]- المدونة، ص116.
[44]- م.ن، ص119.
[45][1]- المدونة، ص154.
[46][2]- م.ن، ص155.
[47]- المدونة، ص154-155.
[48]- المدونة، ص170-171.
[49]- م.ن، ص170.
[50]- م.ن، ص173-174.
[51]- المدونة، ص172.
[52]- م.ن، ص174.
[53]- م.ن، ص184.