الباحث : جوزيف إلياس
اسم المجلة : دراسات استشراقية
العدد : 41
السنة : شتاء 2025م / 1446هـ
تاريخ إضافة البحث : December / 28 / 2024
عدد زيارات البحث : 99
الملخّص
يناقش المستشرق الإسرائيلي «جوزف إلياس» في هذا المقال استنتاجات المستشرق المجري اليهوديّ «أجناس جولدزيهر» القائمة على أساس أنّ علماء الإماميّة يعارضون النصّ القرآني العثمانيّ باعتباره غير مطابق للمصحف الذي نزل على النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)، لأنّه حُذِفت منه الآيات والسور التي تتحدث عن ولاية عليّ (عليه السلام)، من ضمنها سورتا النورين والولاية. كما يناقشه في قوله بأنّ النسخة الأصليّة للقرآن كانت موجودة عند علي(عليه السلام)، وهي نفسها تحمل اسم «مصحف فاطمة»، ولكن مع معارضة الشيعة النسخة العثمانية، إلّا أنّه عليهم قبولها إلى أن يظهر المهدي(عجل الله تعالى فرجه).
ومن جملة الملاحظات التي يسجلها «إلياس» على «جولدزيهر» أنه اعتمد على بعض المصادر السنيّة، وأنه استند إلى مخطوطة قرآنيّةً شيعيّةً تمّ اكتشافها في الهند عام 1912م تحتوي على السورتين المذكورتين سابقًا، مع أنّه ليس ثمة دليل يمكن لـ«جولدزيهر» تقديمه على أنّ الشيعة تتبنى هاتين السورتين وإن تضمّنت أنّ عليًّا(عليه السلام) خليفة محمد(صلى الله عليه وآله وسلم) المنصوب من قبل الله.
كما يناقش «إلياسُ» «جولدزيهر» في اعتماده على أحاديث شيعية تنصّ على أنّ القرآن لم يجمعه كله أحد إلّا علي والأئمة من ولده(عليه السلام) كدليل على أنّ الشيعة تقول بتحريف القرآن وامتلاك علي وأبنائه النسخة الأصلية، ويناقش «إلياس» «جولدزيهر» في أنّ هذه الأحاديث لا تنص على التحريف، بل يُقصد بها القراءات المتعدّدة، والعلم بالترتيب الصحيح للآيات والسور حسب النزول، والحواشي التفسيريّة التي كتبها عليّ(عليه السلام). أمّا «مصحف فاطمة» الذي يقول «جولدزيهر» أنّه دليل على كون الشيعة يملكون مصحفًا خاصًّا، فيقول «إلياس» إنّه غير القرآن، بل هو ما كان الملك يحدّث به فاطمة وفيه علم ما يكون.
الكلمات المفتاحية
جوزيف إلياس، جولدزيهر، المصحف العثماني، الشيعة الإمامية، قرآن علي(عليه السلام)، مصحف فاطمة(عليها السلام)، تحريف القرآن، سورة النورين، سورة الولاية.
مقدّمة التعريب
ثمة دراسات عدّة خطّتها يد المستشرقين عن عقيدة الشيعة حول النص العثماني للقرآن الكريم، وكذلك عن ما يطلق عليه اسم: «مصحف الشيعة»، وعن «مصحف علي» و«مصحف فاطمة»، مثل:
- دراسة تيسدال تحت عنوان: «الإضافات الشيعية على القرآن»
(SHI’AH ADDITIONS TO THE KORAN by Wiliam St. Clair Tisdall).
- ودراسة تيد لاوسون تحت عنوان: «مذكرة حول دراسة قرآن الشيعة»
(NOTE FOR THE STUDY OF A SHI’I QUR’AN by TODD LAWSON).
- ودراسة بار أشر تحت عنوان: «القراءات المتعدّدة وإضافات الشيعة الإمامية على القرآن»
(VARIANT READINGS AND ADDITIONS OF THE IMAMI SHI’A TO THE QURAN by M. Bar-Asher).
- ودراسة جون وينتر تحت عنوان: «قرآن الشيعة في الدراسات الغربية»
(Sh’i Qur’an: An Examination of Western Scholarship by Jonah Winters)[2].
ومنها هذا المقال للمستشرق الإسرائيلي جوزيف إلياس[3] المنشور تحت عنوان: قرآن الشيعة: مراجعة في تفسيرات «جولدزيهر» (THE ŠÏITE QUR' N: A Reconsideration of Goldziher's Interpretation) حيث ركّز فيه على مناقشة ما نسبه المستشرق المجري اليهودي جولدزيهر[4] إلى الشيعة من القول بتحريف القرآن ومعارضتهم النسخة العثمانية للقرآن باعتبار حذف الآيات والسور المرتبطة بولاية علي بن أبي طالب(عليه السلام) انطلاقًا من أهداف عقائدية وسياسية.
وهذا المقال -وغيره ممّا تقدّم ذكره- يوضح إلى حدّ بعيد كيف أنّ كبار الباحثين الغربيين والمستشرقين أمثال «جولدزيهر» لديهم قصر نظر في فهم عقائد الشيعة، بل يتعمّدون تشويه الحقائق والافتراء على الإمامية بأن ينسبوا إليهم آراء ووجهات نظر غير مطابقة للواقع. ورغم ما تحمله أبحاثهم من افتراءات وشبهات وأفكار خاطئة، إلّا أنّ تسليط الضوء على دراساتهم يعتبر أمرًا مهمًّا لفهم منهجية تفكيرهم حول عقائدنا ومفاهيمنا[5].
نص المقالة
في إطار الحديث عن الموقف الشيعيّ من القرآن، لا بدّ من مواجهة مسائل متعدّدة، كمفهوم كون القرآن كلام اللّه المخلوق، والخلاف مع المفسّرين السنّة حول أسباب التنزيل، وبالتالي الاختلاف في التفسير أيضًا. إلّا أنّني في هذا العرض حاولت دراسة موقف فقهاء (علماء) الشيعة الإماميّة من النصّ العثمانيّ. لكنني فضّلت ألّا أركّز النقاش حول معارضتهم المستندة على القراءات المتعدّدة، إنّما على ادّعاءاتهم المرتكزة على أسس عقائديّة وسياسيّة، حيث يزعمون أنّ النصّ القرآنيّ تمّ تحريفه عمدًا لأهدافٍ سياسيّةٍ ترمي إلى الإضرار بحقوق أهل البيت، الذين يمتلكون نسخة أصليّة تختلف عن تلك النسخة التي قنّنها الخليفة الثالث واعتمدها[6].
كرّس «جولدزيهر» جزءًا كبيرًا من محاضراته التي تتناول موضوع تفاسير القرآن -والتي ألقاها في جامعة «أوبسالا» عام 1913م[7]- لمناقشة هذه المسألة، كما تناولها في كتابه «محاضرات في الإسلام» في الجزء المتعلّق بالطوائف[8]. تمّ اعتماد استنتاجاته من قبل الباحثين الإسلاميّين دون تردّد، هذه الاستنتاجات التي يمكن تلخيصها كالآتي:
- يدّعي الشيعة أنّ مصحف عثمان غير مطابق للقرآن الذي نزّله اللّه على النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)[9]، وأنّ بعض الآيات والسور التي تعظّم شأن عليّ(عليه السلام) وتبرز مكانته -وعائلته- تمّ حذفها من قِبل عثمان، ومن ضمن هذه السور المحذوفة: سورة النورين (المكوّنة من 41 آية)[10]، وسورة الولاية (المكوّنة من 7 آيات). كما أنّ المتبقّي من القرآن، تمّ التلاعب بترتيب آياته وتغيير تسلسلها.
- يمتلك عليّ(عليه السلام) نسخة قرآنيّة أصليّة وكاملة، حجمها يعادل ثلاثة أضعاف مصحف عثمان، حيث إنّها تحتوي على حواشٍ تفسيريّةٍ تمّ تدوينها تحت إشراف النبيّ. تحمل هذه النسخة اسم «مصحف فاطمة»[11] كان قد أعطاها محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) لابنته قبيل وفاته، وتمّ الاحتفاظ بها سرًّا من قبل عليّ(عليه السلام) والأئمّة(عليهم السلام) من بعده. غابت تلك النسخة مع الإمام الثاني عشر، الذي سيأتي بها ويكشف عنها للمؤمنين عند ظهوره[12].
- في غضون ذلك، يجب على المؤمنين القبول بالنسخة العثمانيّة، إلى حين ظهور الإمام المغيّب[13].
وفي سياق التحقيق في مصادر «جولدزيهر»، نجد بعض المصادر السنيّة، بالإضافة إلى كتاب «تاريخ اليعقوبيّ»[14] (المؤيّد والموالي لعليّ(عليه السلام))، كما نجد مخطوطةً قرآنيّةً شيعيّةً كان قد تمّ اكتشافها في بانكيبوري- الهند عام 1912م، تحتوي على نصّ السورتين اللّتين جئنا على ذكرهما مسبقًا[15]، ومقالتين متمحورتين حول «سورة النورين» تمّ نشرها تباعًا من قبل «غارسين دي تاسي»[16] و«كاظم بيغ»[17]. بجانب هذه المصادر، نجد أنّ «جولدزيهر» يرجع إلى «أصول الكافي» للـ«كليني»[18]، في مناقشته للمسائل الشيعيّة الأخرى، كالحديث الشيعيّ على وجه الخصوص.
تناقش مقالات «غارسين دي تاسي» و«كاظم بيغ» «سورة النورين» التي كان «غارسين دي تاسي» قد ترجمها ونشرها للمرّة الأوّلى بلغةٍ أوروبيّةٍ، وهو بدوره كان قد اقتبسها من كتاب «دبستان المذاهب» المنسوب لـ«محسن فاني»، الذي نُشِرَ قبل أعوامٍ (من عمل دي تاسي) في الهند[19].
تحمل السورة اسم «سورة النورين»[20] بالإشارة إلى محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) وعليّ(عليه السلام). وردت في «دبستان المذاهب» باللّغة العربيّة على الشكل الآتي:
الآيات 1-2: «يا أيّها الّذين آمنوا آمِنوا بالنّورين أنزلناهما يتلوان عليكم آياتي ويحذّرانكم عذاب يوم عظيم * نوران بعضهما من بعض وإنّا لسميع عليم».
الآيات 4-5: «والّذين كفروا من بعد ما آمنوا ينقضهم ميثاقهم وما عاهدهم الرسول عليه يقذفون في الجحيم * ظلموا أنفسهم وعصوا لوصيّ الرسول أولئك يُسقون من حميم».
الآيات 17-20: «وإنّ عليًّا لمن المتّقين * وإنّا لنوفيه حقّه يوم الدّين * وما نحن عن ظلمه بغافلين * وكرّمناه على أهلك أجمعين».
الآية 23: «قل للّذين كفروا بعد ما آمنوا طلبتم زينة الحياة الدنيا واستعجلتم بها ونسيتم وعدكم اللّه ورسوله ونقضتم العقود بعد توكيدها وقد ضربنا لكم الأمثال لعلّكم تهتدون».
الآية 32: «وجعلنا لكم منهم وصيًّا لعلّهم يرجعون».
الآيات 34-36: «يا أيّها الرسول قد جعلنا لك في أعناق الّذين آمنوا عهدًا وكم من الشاكرين * إنّ عليًّا قانتًا باللّيل ساجدًا يحذر الآخرة ويرجو ثواب ربّه قل هل يستوي الّذين ظلموا وهم بعذابي يعلمون * سنجعل الأغلال في أعناقهم وهم على أعمالهم يندمون».
السورة الأخرى التي اقتبسها «جولدزيهر» من نفس المخطوطة المذكورة مسبقًا، هي «سورة الولاية» التي نشرها «تيسدال» الذي أشار إلى أنّ تلك المخطوطة تحتوي أيضًا على آيات جديدة أخرى لم ترد في المصحف العثمانيّ، كما بيّن أنّ عمر المخطوطة التي تمّ شراؤها من قبل «النّواب» -في لوكناو- يتراوح بين 200 إلى 300 عام[21]. وكما ذكرنا مسبقًا، تحتوي السورة على 7 آيات تنصّ على ما يلي:
«بسم اللّه الرحمن الرحيم
يا أيّها الّذين آمنوا آمِنوا بالنبيّ وبالوليّ الَّذَيْنِ بعثناهما يهديانكم إلى صراط مستقيم * نبيٌّ ووليٌّ بعضهما من بعض وأنا العليّ الخبير * إنّ الّذين يوفون بعهد اللّه لهم جنّات النعيم * والّذين إذا تليت عليهم آياتنا كانوا بآياتنا مكذّبين * إن لهم في جهنّم مقامًا عظيمًا إذا نوديَ لهم يوم القيامة أين الظالمون المكذّبون المرسلين * ما خلقهم المرسلين إلّا بالحقّ وما كان اللّه ليظهرهم إلى أجل قريب * وسبّح بحمد ربّك وعليّ من الشاهدين».
كان «كلير تيسدال» قد أثبت سابقًا أنّ هذه الإضافات مزوّرة، لكن من المهمّ هنا النظر فيما إذا كانت هذه المصادر التي استند إليها «جولدزيهر» يمكن تقديمها كدليلٍ على نفي الشيعة الإماميّة سلامة النصّ العثمانيّ. إنّ محتوى السورتين في الواقع، يدعم ادّعاءات الشيعة التي تشير إلى أنّ عليّ(عليه السلام) وليّ اللّه، وأنّه الخليفة المباشر لمحمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) المنصّب من قبل اللّه. لكن من أجل التثبّت من أنّ هذه الأدلّة شيعيّة، لا بدّ لنا من برهنة أنّ الشيعة الإماميّة ينظرون إلى هذه السور التي تمّ حذفها من النسخة العثمانيّة، باعتبارها صادقة وصحيحة.
وبالنسبة للمخطوطة التي اكتُشِفَت في «بانكيبور»، فإنّ صِلَتها الوحيدة بالشيعة هي الادّعاء القاضي بأنّه تمّ شراؤها من «نوّاب» «لوكناو» التي كانت مركزًا شيعيًّا للتعليم في الهند، وهذا وحده ليس كافيًا لاعتبارها جزءًا من القرآن الرسمي والموثوق في الأوساط الشيعيّة.
أمّا فيما يخصّ «دبستان المذاهب»، من المهمّ الإشارة إلى أنّ الكاتب لا يعرّف نفسه كشيعيّ. كان كتابه عبارة عن دراسة تتناول 12 ديانة كانت منتشرة في ذلك الوقت في الهند، وكرّس بعضًا من صفحات كتابه للإضاءة على الشيعة تحت عنوان «الطائفة الإسلاميّة الثانية المعروفة بالشيعة»[22]. استهلّ الكاتب هذا الجزء بالعبارات التالية: «إنّ الكاتب اطّلع على بعض المعلومات من خلال علماء هذه الطائفة»، «إنّ الكاتب نقل ما تعلّمه من ملّا محمّد معصوم، محمّد مؤمن وملّا إبراهيم الذين عاشوا في لاهور عام 1053هـ»[23]. كما صرّح في مستهلّ «سورة النورين» بالآتي: «يقول بعض الشيعة إنّ عثمان أحرق النسخ القرآنيّة واستبعد بعض السور التي تشير إلى مكانة عليّ(عليه السلام)وأفضليته»[24]. تمّ تحرير وترجمة نصّه للّغة الإنجليزيّة عام 1843م[25]، والجدير بالذكر أنّ محرّريه ليسوا متأكّدين من هوية الكاتب، إلّا أنّهم أشاروا إلى كونه «محسن فاني» المتوفّى عام 1081هـ، الذي عرّفوا عنه كـ«فيلسوف صوفيّ، من أصولٍ كشميريّة، واحدٌ من أهل العلم، وشاعرٌ مرموقٌ تتلمذ علي يد ملّا يعقوب (واحد من علماء الصوفيّة في كشمير)»[26]، لكنّهم لم يشيروا إلى كونه مرجعًا شيعيًّا، بالتالي لا يمكن اعتبار «دبستان المذاهب» مصدرًا شيعيًّا، كما لا يمكن وصف الكاتب بالشيعيّ[27].
ورد في «أصول الكافي» للكليني عدّة أحاديث يمكن[28] -للوهلة الأولى- أن تفسّر استنتاجات «جولدزيهر»، منها حديثان يعودان إلى عهد الإمام الخامس «محمّد الباقر(عليه السلام)» تنصّ على التالي: «ما ادّعى أحدٌ من الناس أنّه جمع القرآن كلّه كما أُنزِلَ إلّا كذّاب وما جمعه وحفظه كما أنزله اللّه تعالى إلّا عليّ بن أبي طالب(عليه السلام) والأئمّة من بعده(عليه السلام)»، «ما يستطيع أحد أن يدّعي أنّ عنده جميع القرآن كلّه ظاهره وباطنه غير الأوصياء»[29]. لكن بعد دراسةٍ أعمق وبالنظر إلى الاطّلاع على المصطلحات الفقهيّة الإماميّة، يتضح أنّ الكليني وغيره من الفقهاء والمحقّقين الشيعة بإشارتهم إلى مثل هذه الأحاديث لا يقصدون ادّعاء تحريف محتوى المصحف العثمانيّ، إنّما يلمّحون إلى بعض الاختلافات النصّيّة الناجمة عن القراءات المتعدّدة، خصوصيّة بعض اللّهجات العربيّة، والتغيير الذي طرأ على ترتيب وتسلسل بعض الآيات والسور[30].
يدّعي الشيعة أنّ عليًّا(عليه السلام) والأئمّة الأحد عشر(عليهم السلام) من بعد محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) هم من يعلمون الترتيب الصحيح، وأنّ عليًّا(عليه السلام) كانت بحوزته نسخة قرآنيّة بالترتيب الصحيح، بالإضافة إلى احتوائها على حواشٍ تفسيريّةٍ تتوافق مع النصّ المنزل، تم تدوينها من قبل عليّ(عليه السلام). هذه النسخة، تتواجد الآن مع الإمام الثاني عشر الذي سيُخرِجها لدى ظهوره[31].
أمّا موقفهم إزاء المصحف العثمانيّ فيظهر جليًّا في كلمات «الصدوق» الذي قال: «اعتقادنا أنّ القرآن الذي أنزله اللّه تعالى على نبيّه محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) هو ما بين الدفّتين، وهو ما في أيدي الناس، ليس بأكثر من ذلك، والذي يزعم أنّنا نقول أنّه أكثر من ذلك فهو كاذب»[32]. وقال الشيخ المفيد أنّ اختلافات آراء الشيعة في هذا الموضوع وغيره انتشرت بفعل «بنو نوبخت»[33]، هذه الاختلافات تعود إلى فترة ما قبل غيبة الإمام الثاني عشر، وقد أثّرت في تفكير واعتقاد الشيعة الإماميّة، إلّا أنّها لم تصبح جزءًا منها.
وفي حديث آخر نقله الكليني يعود إلى عهد الإمام جعفر الصادق(عليه السلام)، يحدّد موقف الشيعة الإماميّة من القرآن، نصّ على: «إنّ القرآن ليس بناطقٍ يأمر وينهى، ولكن للقرآن أهلٌ يأمرون وينهون»[34].
يستخدم الفقهاء الشيعة بعض المصطلحات بمعانيها غير الشائعة أو المتداولة، فعلى سبيل المثال، قد يستخدمون كلمة «تأليف» للتعبير عن ترتيب تسلسل الكلمات كما في الكلام الآتي: «واتّفقوا (أي الشيعة) على أنّ أئمّة الضلال خالفوا في كثير من تأليف القرآن وعدلوا فيه موجب التنزيل وسنّة النبيّ»[35].
ومصطلح «غير مخلوق» يُستَخدَم للتعبير عن «غير مكذوب» (أي لا كذب فيه)[36]، كما في حديث الإمام جعفر الصادق(عليه السلام): «القرآن كلام اللّه مُحدَث غير مخلوق»[37].
والحديث المرويّ عن الإمام الصادق(عليه السلام): «القرآن واحد، نزّل من عند الواحد، على نبيٍّ واحد، إنّما الاختلاف في القراءات يعود إلى تعدّد الرواة»[38]، يلخصّ موقف فقهاء (علماء) الشيعة تجاه مصحف عثمان.
وفي سياق البحث في الأحاديث المرويّة عن النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)، والتي تُعتَبَرُ وحيًا، قال الإمام الصادق(عليه السلام): «يوجد العديد من هذه الأحاديث، كلّها وحي، لكن ليست جزءًا من القرآن، ولو كانت جزءًا منه، لكانت وردت فيه»[39].
يدرج فقهاء (علماء) الشيعة الحواشي التفسيريّة التي كتبها عليّ(عليه السلام) في النسخة القرآنيّة الخاصّة به، في هذا النوع من الأحاديث، حيث إنّهم يدّعون أنّها منبثقة عن كلام النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) المنقول عن عليّ(عليه السلام).
أمّا بالنسبة إلى «مصحف فاطمة» المشار إليه من قبل «جولدزيهر» على أنّه نسخة قرآنيّة يبلغ حجمها ثلاثة أضعاف النسخة العثمانيّة، فيبدو واضحًا من خلال الأحاديث المرويّة عن الكلينيّ، أنّ كلمة «مصحف» تعبّر عن «كتاب» وليس «الكتاب» (أي القرآن)، وهذا ما أشار إليه الإمام الصادق في قوله: «مصحف فيه مثل قرآنكم هذا ثلاث مرّات، فيه علم ما كان وما هو كائن إلى أن تقوم الساعة»[40]، «ما فيه من قرآنكم حرف واحد»[41].
كما أنّه يشير إلى ظروف جمع «مصحف فاطمة» كما يلي: «إنّ اللّه تعالى لما قبض نبيّه(صلى الله عليه وآله وسلم) دخل على فاطمةh من وفاته من الحزن ما لا يعلمه إلّا اللّه عزّ وجلّ، فأرسل اللّه إليها ملكًا يسلّي غمّها ويحدّثها، فشكت ذلك إلى أمير المؤمنين(عليه السلام) فقال: إذا أحسست بذلك وسمعت الصوت قولي لي، فأعلمته بذلك، فجعل يكتب كلّ ما سمع حتّى أُثبِتَ من ذلك مصحفًا، ثمّ قال: أما إنّه ليس فيه شيء من الحلال والحرام ولكن فيه علم ما يكون»[42].
خاتمة[43]
أما بالنسبة إلى موقف فقهاء (علماء) الشيعة من القرآن يوصَى بـ/ يُقترَح تعديل استنتاجات «جولدزيهر» المشار إليها أعلاه على النحو التالي:
-إنّ القرآن المقبول عند السنّة ككتابٍ مقدّس، أُنزِلَ على النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)، هو نفسه المقبول عند الشيعة الإماميّة.
-تعتقد الشيعة الإماميّة أنّ ترتيب بعض السور والآيات قد تمّ تحريفها في النسخة العثمانيّة، إنّما المضمون لم يطرأ عليه التحريف. مع الأخذ بعين الاعتبار، بعض الاختلافات الناتجة عن تعدّد القراءات.
-تعتقد الشيعة الإماميّة أنّ عليًّا(عليه السلام) والأئمّة الأحد عشر -بعد النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)- هم الوحيدون الذين يعرفون الترتيب الصحيح للآيات والسور. وأنّ نسخة عليّ(عليه السلام) تحتوي على الآيات والسور بالترتيب الذي أنزلت فيه. ولا تتضمّن أي آيات أو سور جديدة (غير واردة في النسخة العثمانيّة)، بل تحتوي على حواشٍ تفسيريّة فقط دوّنها عليّ(عليه السلام). ويعتبر الشيعة أنّ هذه الحواشي تعدّ بمستوى أهميّة النصّ المنزَل.
وفي ّسياق البحث في مسألة سلامة النصّ العثمانيّ من قبل علماء الشيعة المتأخّرين، فقد أكّدوا وجود رأيٍ -يعود لبعض العلماء الأوائل- يدحض ويرفض النصّ العثمانيّ. لكنّ الرأي السائد بين العلماء المتأخّرين -من بعد الكلينيّ- هو القائل بقبول النصّ العثمانيّ.
يحظى تفسير القرآن المنسوب لعليّ(عليه السلام) بأهميّة كبرى لدى الشيعة، توازي أهميّة النصّ المُنزَل، إلّا أنّهم يشاركون الأمّة الإسلاميّة العامّة في تقدير شأن القرآن، معلنين أنّ تفسيره الموثوق والمنزّه عن الخطأ، محفوظ مع الإمام الثاني عشر الغائب، وسيكون في متناول المؤمنين فقط في نهاية الزمان.
-----------------------------------------
[1](*)- جوزيف إلياس (Joseph Eliash) مستشرق وُلد في القدس عام 1932. عمل في جامعة كاليفورنيا وفي كلية أوبرلين، حيث أسس قسم الدراسات اليهودية والشرق أوسطية. توفي عام 1981 عن عمر يناهز 49 عامًا.
ركزت أبحاث إلياس على المذهب الشيعي وفكره، حيث ترجم ونشر مجموعة من روايات "الكافي". من أبرز أعماله كتاب غير منشور بعنوان "الشيعة الإمامية كما في نصوصهم الروائية"، ومقالات مثل "آراء فقهاء الشيعة في المرجعية الفقهية والسياسية" و"الانطباع الخاطئ عن المكانة القانونية لعلماء إيران".
ساهم إلياس أيضًا في كتابة مقالات لدائرة المعارف الإسلامية، منها مقال عن الإمام الحسن العسكري.
ـ تعريب: زينة الجمال، تعليق ونقد: الشيخ سامر عجمي.
[2]- نشرت هذه المقالة بتعريب زينة الجمال في العدد 40 من مجلة دراسات استشراقية، خريف 2024م/ 1446هـ.
[3]- ومن جملة المستشرقين الذين ناقشوا جولدزيهر هو جوزيف إلياس (1931-1981م)، وهو مستشرق يهودي إسرائيلي ولد في القدس، وهو من المهتمّين بعقائد الشيعة، وأطروحته لنيل درجة الدكتوراه كانت بعنوان: «علي بن أبي طالب في العقيدة الاثني عشرية» (Ali b. Abi Talib in Ithna Ashsri Shii belie) كما نشر بحثًا عن الإمام المهدي ونظرية الفقه والولاية السياسية والشرعية عند الإمامية الإثني عشرية تحت عنوان: (The Ithna ashari-Shia Juristic Theory of Political and Legal Authority ) وغيرها من الدراسات عن الشيعة.
[4]- أجناس جولدزيهر (1850-1920م) مستشرق مجري من أصول يهوديّة، له شهرة واسعة، ويُعتَبر من أهمّ المستشرقين الّذين اشتغلوا على التراث الإسلاميّ عقيدة وشريعة وتاريخًا...، ومن جملة اهتماماته الدراسات القرآنيّة ومدارس التفسير ومذاهبه ومناهجه خصوصًا كتابه «مذاهب التفسير الإسلامي». ويمكن اعتبار أن حركة الدراسات الاستشراقية بعد جولدزيهر اتّخذت مسارًا مختلفًا، ولذا تشكّل دراسة جولدزيهر مدخلًا رئيسًا لفهم الاستشراق، وكثير من الأفكار التي طرحها جولدزيهر قد تعرّضت للدراسة النقدية، سواء من المستشرقين أنفسهم أم من المسلمين، ومن جملة الأفكار التي طرحها جولدزيهر وتستحق القراءة النقدية والنقاش ما نسبه إلى الشيعة من آراء ووجهات نظر تصل إلى حدّ الافتراءات التي سبق أن وردت على لسان أعداء الشيعة وخصومهم.
[5]- إنّ إدارة التحرير قد ذكرت بعض الهوامش التوضيحية حول رأي علماء الشيعة في بعض المغالطات والافتراءات التي ورد ذكرها في النص.
[6]- يلاحظ قارئ دراسات المستشرقين وأبحاثهم حول علاقة الشيعة الإمامية بالقرآن الكريم أنهم ينسبون إليهم معارضة النسخة العثمانية للنص القرآني والقول بتحريف القرآن المدوّن والمتداول بين أيدي المسلمين اليوم، ويعتمدون في ذلك على أدلة ضعيفة لا تنهض لإثبات وجهة نظرهم التي يمكن اعتبارها افتراءً، ومن جملة الأدلة التي يعتمدونها في ذلك: أوّلًا: وجود ما يصطلح عليه مصحف علي(عليه السلام)، وثانيًا: مصحف فاطمة، وثالثًا: بعض الأحاديث الموجودة في كتب الشيعة التي تصرّح بتحريف القرآن -حسب وجهة نظرهم-، ورابعًا: تصريح بعض علماء الشيعة الإمامية بتحريف القرآن وتأليفهم بعض الكتب في هذا المجال. ولكن هذه الأدلة كلّها قد تمّت مناقشتها من قبل علماء الإماميّة منذ العصور الأولى للتشيع. نتحدث في هذا التعليق عن خصوص مصحف عليّ(عليه السلام)، ونؤجل البحث عن باقي النقاط إلى هوامش أخرى. تعتقد الشيعة أنّ مصحف عليّ(عليه السلام) ليس قرآنًا مستقلًّا في مقابل القرآن المدوّن والمتداول بين أيدي المسلمين اليوم، بل هو عبارة عن القرآن نفسه، لكن يختلف عن النسخة المتداولة من حيث كيفية ترتيب السور، ومن حيث اشتماله على بيان التفسير والتأويل، والمحكم والمتشابه، والناسخ والمنسوخ... وغيرها من الخصائص التي يتميّز بها مصحف علي(عليه السلام) دون أن تجعله قرآنًا خاصًّا مقابل النسخة المتداولة من القرآن الكريم. (انظر: المفيد، المسائل السرورية، ص79).
وقد عمد الإمام علي(عليه السلام) إلى تدوين هذه النسخة تنفيذًا لوصية الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) في قوله له: «يا علي، القرآن خلف فراشي في الصحف والحرير والقراطيس فخذوه واجمعوه ولا تضيّعوه...» (القمي، علي بن إبراهيم، تفسير القمي، ج2، ص451).
هذه الوصية النبوية تنطلق مما قام به النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) من تربية علي(عليه السلام) بشكل شامل، ومنها التربية القرآنيّة، عن الإمام علي(عليه السلام)، قال: «ما نزلت على رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) آية من القرآن إلّا أقرأنيها وأملاها عليّ، فكتبتها بخطي وعلمني تأويلها وتفسيرها وناسخها ومنسوخها ومحكمها ومتشابهها...» . (انظر: الصدوق، عيون أخبار الرضا، ج2، ص67. والعياشي، تفسير العياشي، ج1، ص253). فعلي علي السلام امتثل وصية النبي وجمع القرآن في ضوء ما علّمه النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) من أصول التفسير والتأويل والمحكم والمتشابه والناسخ والمنسوخ... إلخ، وجاء به إلى القوم وقال: «هذا كتاب ربكم كما نزل على نبيكم لم يزد فيه حرف ولم ينقص منه حرف» (الصدوق، الاعتقادات في دين الإمامية، ص86)، ولكن القوم رفضوه قائلين: «لا حاجة لنا فيه، ونحن مستغنون عنه بما عندنا» (الطبرسي، الاحتجاج، ج1، ص383)، وذلك لمعرفتهم أو حدسهم بأنّ في نسخة علي(عليه السلام) من التفسير والتأويل ما لا يتوافق مع أهدافهم السياسية ومخططاتهم فيما يتعلق بالإسلام عقيدة وشريعة خصوصًا قضية الولاية والإمامة.
والخلاصة أن «مصحف علي(عليه السلام)» هو القرآن نفسه الذي نزل على النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، والمتداول بين المسلمين اليوم، مع اختلاف الخصائص. قال الشيخ المفيد: «إنه لم ينقص من كلمة ولا آية ولا من سورة ولكن حذف ما كان مثبتًا في مصحف أمير المؤمنين(عليه السلام) من تأويله وتفسير معانيه على حقيقة تنزيله، وذلك كان ثابتًا منزلًا وإن لم يكن من جملة كلام الله تعالى» (المفيد، أوائل المقالات، ص81).
والنسخة الأصلية لمصحف علي(عليه السلام) قد ورثها الأئمة(عليهم السلام) يدًا بيد إمامًا بعد إمام إلى أن انتهت إلى صاحب العصر والزمان الإمام المهدي(عجل الله تعالى فرجه) حيث يُخرجها إلى الناس مع ما فيها من علوم جدّه علي(عليه السلام) (الهلالي، سليم بن قيس، كتاب سليم، ص212). فوجود مصحف علي(عليه السلام) لا يعني اعتقاد الشيعة بتحريف القرآن أو معارضتهم للنسخة العثمانية، فهذا افتراء، والدليل على ذلك هو تصريح كبار علماء الشيعة على مدى تاريخهم بأنّ هذه النسخة من القرآن الكريم المتداولة بين أيدي الناس هي عينها ما جاء به النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)، كالصدوق، والمفيد، والطوسي، والمرتضى، والطبرسي، والبهائي، وشرف الدين، والبلاغي، والخوئي، والطباطبائي، والبروجردي، والأمين، والحكيم، وكاشف الغطاء، والخميني... وغيرهم من كبار العلماء، نكتفي بنقل قول الشيخ الصدوق: «اعتقادنا في القرآن أنه كلام الله ووحيه وتنزيله وقوله وكتابه وأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه... اعتقادنا أن القرآن الذي أنزله الله تعالى على نبيّه محمد(صلى الله عليه وآله وسلم) هو ما بين الدفتين وهو ما في أيدي الناس ليس بأكثر من ذلك» (الصدوق، الاعتقادات، ص88). وكيف يقول الشيعة بتحريف القرآن وهم يعتقدون بأنّه المصدر الأول للتشريع واستنباط الأحكام الشرعية؟!! وكيف تقول الشيعة بتحريف القرآن وهم يعتقدون بأنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) قال إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي؟!! وكيف يعتقدون بتحريف القرآن وهم يؤمنون بأن معيار صحة الحديث بعرضه على القرآن الكريم وإذا لم يوافق القرآن يضرب به عرض الجدار؟!! (التحرير)
[7]- Goldziher, Die Richtungen der islamischen Koranauslegumg, especially 263-309, reprinted, Leiden 1952.
[8]- Goldziher, Vorlesungen uber den Islam, 78-201, Heidelberg 1910.
[9]- ذكرنا في حاشية سابقة أنّ علماء الشيعة يصرحون بخلاف ما ذكره جولدزيهر، وهذا يدل على أن هذه النسبة هي افتراء محض، وقد ذكرنا بعض أقوالهم، وننقل بعضًا آخر مما يدل على اعتقاد الشيعة بأن القرآن الموجود بين أيدي المسلمين اليوم هو عينه الذي نزل على النبي وبلّغه إلى الناس:
يقول السيد المرتضى: «إن العلم بصحة نقل القرآن كالعلم بالبلدان والحوادث العظام والكتب المشهورة وأشعار العرب، فإن العناية اشتدّت والدواعي توفّرت على نقله وحراسته، وبلغت إلى حد لم تبلغه فيما ذكرناه، لأن القرآن معجزة النبوة ومأخذ العلوم الشرعية وعلماء المسلمين قد بلغوا في حفظه وحمايته الغاية حتى عرفوا كل شيء اختلف فيه من إعرابه وقراءته وحروفه وآياته فكيف يجوز أن يكون مغيرًا أو منقوصًا مع العن - آية الصادقة والضبط الشديد».
ويقول السيد عبد الحسين شرف الدين: «والقرآن الحكيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه إنما هو ما بين الدفتين وهو ما في أيدي الناس لا يزيد حرفًا ولا ينقص حرفًا ولا تبديل فيه لكلمة بكلمة ولا لحرف بحرف وكل حرف من حروفه متواتر في كل جيل تواترًا قطعيًّا إلى عهد الوحي والنبوة». (الفصول المهمة في تأليف الأمة، ص175).
ويقول الشيخ محمد رضا المظفر: «يعتقد أن القرآن هو الوحي الإلهي المنزل من الله تعالى على لسان نبيّه الأكرم ... لا يعتريه التبديل والتغير والتحريف وهذا الذي بين أيدينا هو نفس القرآن المنزل على النبي ومن ادعى فيه غير ذلك فهو مختلق أو مغالط أو مشتبه». (عقائد الإمامية، فصل عقيدتنا في القرآن الكريم، ص85).
ويقول الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء : «إنّ الكتاب الموجود في أيدي المسلمين هو الكتاب الذي أنزله الله إليه للإعجاز والتحدّي ولتعليم الأحكام وتمييز الحلال من الحرام، وإنّه لا نقص فيه ولا تحريف ولا زيادة، وعلى هذا إجماعهم». (أصل الشيعة وأصولها، ص220).
[10]- يلاحظ أي ناظر في التراث الشيعي الروائي والتفسيري والتاريخي... أنّه لا وجود لا من قريب أو بعيد لما يسمى سورة النورين أو سورة الولاية فلم يرد ذكرهما في أي مصدر من المصادر الإمامية المعتبرة، بل وغير المعتبرة أيضًا، ولا يعثر الباحث على أي نص لهما في أي مخطوطة شيعية قديمة أو كتاب حديث، بل قد ظهرتا في عصر متأخر في الهند، ويمكن القول بشكل قاطع بأنّهما سورتان مكذوبتان تمّ اختراعهما ونسبتهما إلى الشيعة كذبًا وافتراء وبهتانًا، ولو كانت هاتان السورتان من القرآن الكريم لما خفي أمرهما لمئات السنين على كبار علماء الشيعة ثم ظهرا فجأة في هذه العصور المتأخرة، فكيف لمثل هكذا أمر أن يختفي لمئات السنين، فلو كان لظهر وبان، ولو في المصادر الضعيفة وغير المعتبرة في الحدّ الأدنى، وعلى كل حال بغض النظر عن النقاش هذا، يبقى أن المتأمل في هاتين السورتين وأسلوبهما وتركيبهما اللغوي ومفرداتهما يرى أنهما غريبتين عن أسلوب القرآن ونصه وتعبيره ولغته، ممّا يدل بشكل واضح على وضعهما واختلاقهما.
[11]- خلط بعض الباحثين بين مصحف عليّ(عليه السلام) -أي المصحف الذي قام بجمعه علي بن أبي طالب(عليه السلام) امتثالًا لوصية النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) كما أشرنا سابقًا- وبين مصحف فاطمة(عليها السلام)، ولعل هذا الخلط منشؤه ما ورد في بعض الروايات من أنّ مصحف فاطمة هو بخط علي(عليه السلام). وعلى كلّ حال، لا علاقة بين مصحف علي ومصحف فاطمة، فمصحف فاطمة مدوَّنة مستقلة عن مصحف علي، كما أنّه لا علاقة لمصحف فاطمة بالقرآن أصلًا، بل هو كتاب مستقل، (وللتفصيل حول هذا الموضوع انظر: بركات، أكرم، حقيقة مصحف فاطمة)، ونذكر بعض الروايات الشيعية التي تبيّن حقيقة مصحف فاطمة:
عن أبي عبد الله الإمام جعفر الصادق(عليه السلام) قال: «إنَّ فاطمة عليها السلام مكثت بعد رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) خمسة وسبعين يومًا، وكان دخلها حزنٌ شديدٌ على أبيها، وكان جبرئيل(عليه السلام) يأتيها فيُحسن عزاءها على أبيها، و يُطيب نفسَها، ويُخبرها عن أبيها ومكانِه، ويُخبرها بما يكون بعدها في ذرِّيتِها، وكان علي(عليه السلام) يكتب ذلك، فهذا مصحف فاطمة(عليها السلام)». (الكليني، الكافي، ج1، ص599، ح5).
وعن حماد بن عثمان سأل أبا عبد الله(عليه السلام): ما مصحف فاطمة؟ قال(عليه السلام):» إن الله تعالى لما قبض نبيّه(صلى الله عليه وآله وسلم) دخل على فاطمة(عليها السلام) من وفاته من الحزن ما لا يعلمه إلا الله عزّ وجلّ، فأرسل الله إليها ملكًا يسلي غمها ويحدثها، فشكت ذلك إلى أمير المؤمنين(عليه السلام) فقال: إذا أحسست بذلك وسمعت الصوت قولي لي فأعلمته بذلك، فجعل أمير المؤمنين(عليه السلام) يكتب كلّما سمع، حتى أثبت من ذلك مصحفًا.
قال: ثم قال: أما إنه ليس فيه شيء من الحلال والحرام ولكن فيه علم ما يكون». (م.س، ح2).
وبهذا يتبيّن أن مصحف فاطمة هو عبارة عن مدونة بخطّ عليٍّ(عليه السلام) فيها ما كان يحدّث به الملك فاطمة(عليها السلام) لتطيب نفسها بعد وفاة أبيها(صلى الله عليه وآله وسلم)، ولا علاقة له بمصحف علي وإن خطّه علي بيده، كما أنّه لا علاقة له بالقرآن الكريم. وقد صرّحت الروايات بذلك، منها:
عن أبي بصير قال: دخلت على أبي عبد الله(عليه السلام): «...وإن عندنا لمصحف فاطمة عليها السلام وما يدريهم ما مصحف فاطمة(عليها السلام)؟ قال: قلت: وما مصحف فاطمة(عليها السلام)؟ قال: مصحف فيه مثل قرآنكم هذا ثلاث مرات، والله ما فيه من قرآنكم حرف واحد...». (م.س، ح1).
وعن محمد بن مسلم، عن أحدهما عليهما السلام أي الباقر أو الصادق، قال: «...وخلّفت فاطمة مصحفًا ما هو قرآن، ولكنه كلام من كلام الله اُنزل عليها، إملاء رسول الله وخط علي(عليه السلام)». (الصفار، بصائر الدرجات، ص176، ح14).
[12]- idem, 277-8.
[13]- CF. NOLDEKE-SCHWALLY, Geschichte des Qurans, 102-3, Leipzig 1909; A. JEFFERY, The Qur’anic Readings of Zaid b. Ali, in Rivistadegli studi Orientali 1936, 249; BUHL, Koran, in ed; D. RAHBAR, Relation of Shi’a Theology to the Qur’an, in The Moslem World, LI, no (July 1961), 92-8, LII, no 1 (Jan, 1962), 124-8; and HOLLISTER, The Shi’a of India, 28-9, London 1955.
[14]- Ed. HOUTSMA, 197, 152-4.
[15]- W. ST. CLAIR TISDALL, Shi’a additions to the Koran, in The Moslem World, vol 3 (1913), 227-41.
[16]- Chapitre inconnu du Coran, in Journal Asiatique (1842), 431-9.
[17]- Observations sur Chapitre inconnu du Coran, idem, (1843), 371-421.
[18]- Vorlesungen uber den Islam, ibid.
[19]- Luchnow 1294/ 1877.
[20]- Idem, 272.
[21]- Idem.
[22]- ibid, 270.
[23]- Idem.
[24]- ibid, 270.
[25]- The Dabistan or School of Manners, Trans. By D. Shea and A.Troyer, 3 vols, Paris 1843.
[26]- idem, vol 1, p.7
[27]- قال «هوروفيتز»: «من الخطأ اعتبار تحديد محسن فاني ككاتبٍ لدبستان المذاهب، يبدو أنّ الكاتب ينتمي إلى طائفة فاسيّة تنويريّة».
[28]- إن البحث عن الروايات التي استدل بها البعض على وقوع التحريف في القرآن لا تختص بالكافي، بل تشمل غيره من الكتب الحديثية، وبغض النظر عن خصوص الروايات الواردة في الكافي، بل بالنظر إلى الروايات مطلقًا، قسم الإمام الخميني تلك الروايات إلى أقسام:
الروايات ضعيفة السند التي لا يمكن الاعتماد عليها مطلقًا.
الروايات المختلقة والموضوعة.
الروايات صحيحة السند، ولكنها متنًا لا يفيد مضمونها التحريف اللفظي بل المعنوي أي تحريف الحقائق والمفاهيم القرآنية الصحيحة.
يقول الإمام الخميني في نفي التحريف عن النسخة المتداولة بين أيدي المسلمين اليوم والتي هي النسخة العثمانية، وفي الرد على المستدلين بالروايات الواردة في كتب الشيعة: «إنّ الواقف على عناية المسلمين بجمع الكتاب وحفظه وضبطه قراءة وكتابةً، يقف على بطلان المزعمة وأنّه لا ينبغي أن يركن إليه ذو مسكة. وما وردت فيه من الأخبار، بين ضعيف لا يستدلّ به، إلى مجعول يلوح منها أمارات الجعل، إلى غريب يقضى منه العجب، إلى صحيح يدلّ على أنّه مضمونه تأويل الكتاب وتفسيره، إلى غير ذلك من الأقسام التّي يحتاج بيان المراد منها إلى تأليف كتاب حافل.
ولولا خوف الخروج عن الطور الكتاب لأرخينا عنان البيان إلى بيان تاريخ القرآن وما جرى عليه طيلة قرون، وأوضحنا عليك أنّ الكتاب هو عين ما بين الدفّتين، والاختلافات الناشئة بين القّراء ليس إلّا أمرًا حديثًا لا ربط له بما نزل به الروح الأمين على قلب سيّد المرسلين». (السبحاني، تهذيب الأصول، تقرير بحث السيد الخميني، ج2، ص165).
ويقول الفيض الكاشاني : «قال الله عز وجل: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ} (فصلت: 42). وقال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحجر: 9) فكيف يتطرق إليه التحريف والتغيير، وأيضا قد استفاض عن النبيّ صلّى الله عليه وآله حديث عرض الخبر المرويّ على كتاب الله ليعلم صحّته بموافقته له، وفساده بمخالفته، فإذا كان القرآن الّذي بأيدينا محرّفاً فما فائدة العرض، مع أنّ خبر التحريف مخالف لكتاب الله، مكذّب له، فيجب ردّه، والحكم بفساده». (تفسير الصافي، ج1، ص51).
فأخبار التحريف على فرض صحتها سنداً هي معارضة لنص القرآن فيضرب بها عرض الحائط. فإن كان هناك روايات استفاد منها بعض علماء الشيعة وجود تحريف في القرآن، ولكن لا يتجاوز عددهم أصابع اليد الواحدة، فلا يركن إلى قولهم الشاذ النادر وينسب إلى عموم الإمامية، إلّا أن أعداء الشيعة وخصومهم والمغرضين قد استغلوا هذا الرأي الشاذ النادر ونسبوا إلى الشيعة القول بتحريف القرآن، مع أنّ علماء الشيعة كما أشرنا سابقًا قديمًا وحديثًا قولًا وعملًا يثبتون أن القرآن الكريم غير محرّف، وقد ناقشوا في هذه الروايات سندًا ومتنًا، بحيث تكون النتيجة أن لا شيء من هذه الروايات يفيد تحريف القرآن.
ومن النماذج على ذلك: ما رواه الكليني عن علي بن سويد قال: كتبت إلى أبي الحسن موسى(عليه السلام) وهو في الحبس كتابًا وذكر جوابه(عليه السلام) إلى أن قال: «أؤتمنوا على كتاب الله فحرّفوه وبدّلوه» (الكليني، الكافي، ج8، ص125)، مع أن التحريف والتبديل لا يعني بالضرورة التحريف والتبديل اللفظي في الكلمات والسور والآيات، بل يفيد التحريف المعنوي في فهم القرآن وتفسيره على غير الوجه المراد من معنى الآية مع معرفتهم بالمراد بها، وهو عبارة عن حمل معنى ألفاظ الآية على غير المعنى المراد منها لأغراض سياسية وغيرها، فالتحريف والتبديل والتغيير كما تطلق ويراد بها التحريف اللفظي كذلك تطلق ويراد بها صَرْف اللفظ عن المراد الجدي للمتكلم إلى معنى آخر غير مراد له، فقد يتم الحفاظ على اللفظ بحروفه مع عدم إقامة حدوده، فيطلق على ذلك التحريف، كما في بعض الروايات: «وكان من نبذهم الكتاب أن أقاموا حروفه وحرّفوا حدوده»، (الكافي، الكليني، ج8، ص52).
ومنها: ما رواه الكليني عن أبي بصير عن أبي عبد الله(عليه السلام) في قول الله تعالى: (من يطع الله ورسوله [في ولاية علي والأئمة من بعده] فقد فاز فوزًا عظيمًا) (الأحزاب: 77) هكذا نزلت. (الكليني، الكافي، ج1، ص414).
حيث استفاد بعضٌ أن هذه الآية نزلت متضمنة لقول: «في ولاية علي»، ولكن تم حذف هذه العبارة من القرآن، فالقرآن إذًا محرّف وقد حذف منه ما يتعلق بولاية علي(عليه السلام)، ولكن أجاب العلماء عن هذه الرواية وأمثالها بأنها على فرض صحتها السندية فإنها ناظرة إلى التفسير والتأويل، حيث إن التنزيل قد يطلق ويراد منه ليس النص في ذاته بل النص بلحاظ المراد منه، أي أن هذه الآية نزلت والمراد منها ولاية علي(عليه السلام)، ومن الشواهد على ذلك، علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، وعلي بن محمد، عن سهل بن زياد أبي سعيد، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن ابن مسكان، عن أبي بصير قال: سألت أبا عبد الله(عليه السلام) عن قول الله عزّ وجل: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ} (النساء: 59) فقال: نزلت في علي بن أبي طالب والحسن والحسين(عليه السلام). فقلت له: إن الناس يقولون: فما له لم يسم عليا وأهل بيته(عليهم السلام) في كتاب الله عزّ وجل؟ قال: فقال: قولوا لهم: إن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) نزلت عليه الصلاة ولم يسم الله لهم ثلاثا ولا أربعا، حتى كان رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) هو الذي فسر ذلك لهم. ونزلت عليه الزكاة ولم يسم لهم من كل أربعين درهما درهم، حتى كان رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) هو الذي فسر ذلك لهم. ونزل الحج فلم يقل لهم: طوفوا أسبوعًا حتى كان رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) هو الذي فسر ذلك لهم. ونزلت (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) ونزلت في علي والحسن والحسين، فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) في علي: من كنت مولاه، فعلي مولاه». (الكليني، الكافي، ج1، ص286).
يقول السيد الخوئي بهذا الخصوص: «إن بعض التنزيل كان من قبيل التفسير وليس من القرآن نفسه، فلا بدّ من حمل هذه الروايات على أن ذكر أسماء الأئمة(عليهم السلام) في التنزيل من هذا القبيل، وإذا لم يتم هذا الحمل فلا بدّ من طرح هذه الروايات لمخالفتها للكتاب والسنة والأدلة المتقدمة على نفي التحريف». (البيان في تفسير القرآن، ص230).
[29]- Ibid.
[30]- See the authoritative Shi’i (Imami) tafsir, the Mgma’ al-Bayan fi Tafsir al-Qur’an, by Fadl b. Hasan al-Tabrasi, 1, 15, Tehran 1371/ 1951, and Maglisi, Bihar al-Anwar, 19-20. Lithographed ed, Persia 1301-15/ 1883-97.
[31]- bihar, ibid.
[32]- Risalat al-I’tiqadat al-Imamiyya, English trans. By Fyzee, A Shi’ite Creed, 85, London 1942.
[33]- Awa’il al-Maqalat fi l-Madahb al Mukhtarat, 56, Tabriz 1364/ 1944.
[34]- Usul al Kafi, idem, 246.
[35]- Awa’il, 13, see also Bihar, 18-19.
[36]- علّق «وولفسون» على استخدام علماء الكلام لمصطلحات «محدَث» و»غير مخلوق» قائلًا: إنّ السبب وراء استبدال مصطلح «محدَث» بمصطلح «مخلوق» لوصف عدم قدم القرآن (حدوثه) يعود إلى الاعتقاد بعدم مشروعيّة استخدام كلمة «مخلوق» لوصف أصل القرآن ككلام مكنون في الذات الإلهيّة، أمّا كلمة «محدث» فتُستَخدَم للتعبير عن حدوث القرآن كوجود خارجي (أي الأوراق والصفحات والكلمات).
[37]- بحار الأنوار، ج54، ص84. وفي تعليق الشيخ الصدوق على الحديث قال: «كلام مخلوق أي كلام مكذوب، قال اللّه تبارك وتعالى {إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا} أي كذبًا». وأضاف الشيخ الصدوق: «اعتقادنا في القرآن أنّه كلام اللّه، ووحيه وكتابه، نُزّلَ من قبله، لا يناله الباطل من أمامه أو من خلفه، تنزيل الحكيم الحميد». الرسالة 84-5.
[38]- الرسالة 87 (لم نجد هذا الحديث مرويّ عن الإمام الصادق، بل عن الإمام الباقر وهو على الشكل التالي: «إنّ القرآن واحد نزل من عند الواحد ولكن الاختلاف يجيء من قبل الرواة»).
[39]- لم نجد نصًّا لهذا الحديث في الكتب المعتبرة، على الرغم من أنّ الفكرة صحيحة وهي تدور حول السنّة النبويّة والأحاديث القدسيّة.
[40]- أصول الكافي، ج1، ص240.
[41]- Idem.
(إنّ المصادر المذكورة في النسخة الإنجليزيّة من قبل الكاتب غير دقيقة، ويبدو أنّه جمع عدّة أحاديث في حديثٍ واحد).
[42]- Idem.
[43]- تتضمن توصية جوزيف إلياس بتعديل استنتاجات جولدزيهر.