البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

مكتبة سيرة «محمد صلى الله عليه وآله وسلم» الاستشراقية

الباحث :  د. مكي سعد الله
اسم المجلة :  دراسات استشراقية
العدد :  41
السنة :  شتاء 2025م / 1446هـ
تاريخ إضافة البحث :  December / 28 / 2024
عدد زيارات البحث :  102
تحميل  ( 676.579 KB )
الملخّص
لقد بلغت بيبليوغرافيات ترجمات القرآن الكريم والسيرة النبويّة حجمًا لا يمكن حصره وضبطه، كما بلغت الدراسات والأبحاث آفاقًا كبيرة من حيث الكمّ والتنوّع. وقد حظي الرسول محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وسيرته المعطرة من سيرة وفتوحات وتشريعات وأحكام باهتمام الباحثين ورجال الدين والمستشرقين، فلم يحظَ كاتب ولا شخصية سياسيّة ولا قائد جيش عناية واهتمامًا أكاديميًّا وتاريخيًّا، كحضور محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) في مختلف البيبليوغرافيات على اختلاف عصورها ولغاتها ومنظوماتها الفكرية والأيديولوجية، حيث شكّلت المكتبة الاستشراقية الاستثناء بكمٍ ومنجز مكثّف وكبير على امتداد التاريخ ومراحله وتناقضاته المعرفية ومقارباته النقدية، فمن تعصب القرون الوسطى وهيمنة الفكر اللاهوتي إلى التنوير الأوروبي وثقافة التسامح والمناهج العقلانية، ووصولًا إلى الحداثة وما بعدها، فقد ظلّ محمّدًا (صلى الله عليه وآله وسلم) دائم الحضور، بشخصه وفكره وتشريعاته، ولازم صداه كل علاقة بين الشرق والغرب وكل جدليات الأنا والآخر.

ومن الكتب المرجعية في المركزية الغربية التي تستثمرها في الدراسات والأبحاث حين يتعلق الأمر بتمثُّلات الإسلام ونبيِّه وعقيدته وتشريعاته كتاب «باثولوجيا الإسلام ووسائل تدميره؛ دراسة نفسية»

(La pathologie de l’Islam et les moyens de le détruire: étude psychologique) لدانييل كيمون (Daniel Kimon) (1860-1910).

كلمات مفتاحية
محمد(صلى الله عليه وآله وسلم)، دانييل كيمون، التشريع، التفوّق العرقي والديني، جنون الشك، الزخم الوهمي، ترجمة القرآن، باثولوجيا الإسلام، النصّ القرآني.

المدونة؛ توصيف عام
يُنسب الكتاب إلى الكاتب والصحفي الفرنسي اليوناني الأصل والمولد قبل انتقاله لفرنسا ملتحقًا بأخيه، واسمه الحقيقي كيمون تيدمنترياد (Kimon Demetriades) ويعتقد الباحثون أن الاسم مستعار، وهو ما كان يعرف بـ«اسم الريشة» (nom de plume) وهو تقليد كان سائدًا في الكتابات.

ولد سنة 1860م بالقسطنطينية وهاجر إلى فرنسا في سن السابعة عشرة، وتفتقد الدراسات التاريخية والبيوغرافية إلى الكثير من مراحل حياته، وتقتصر على بيان أنه تخصّص في القانون واشتهر بمعاداته للسامية والفكر اليهودي والإسلام، بدأ مقالاته بجريدة «الكلمة الحرة» (La Libre Parole) التي تأسست سنة 1892م، المناهضة لليهودية وامتداداتها وتغلغلها في المجتمع الفرنسي، ثم بالجريدة الوطنية «الشارة» (La Cocarde) (1888) بإدارة وإشراف موريس باريس (Maurice Barrès) المعروف بمواقفه الوطنية ومناهضته لليهود. أسس كيمون سنة 1889م «دائرة الدراسات الاجتماعية المعادية للسامية» (Cercle antisémitique d’études sociales) (CAES). وبعد سلسلة المحاضرات والمقالات حول اليهود والسامية ألّف كتابه «السياسة الإسرائيليّة: السياسيّون والصحفيّون والمصرفيّون واليهوديّة وفرنسا: دراسة نفسية» (La politique israélite: politiciens, journalistes, banquiers, le judaïsme et la France: étude psychologique) (1889) ومصنَّفه الآخر: «النفوذ اليهودي منتج تلقائي عام، مقارنة بعض الثروات الفرنسية مع الثروات اليهودية الهائلة» (‘Influence juive produit l’automatisme général. Comparaison de quelques fortunes françaises contre de colossales fortunes juives) (1898) وكتاب «الحرب ضد اليهود» (La Guerre antijuive) (1898) والكتاب الذي لم يصدر «إسرائيل: حقد - كذب - جريمة» (Israël: haine - mensonge – crime) ثم كتاب «باثولوجيا الإسلام ووسائل تدميره؛ دراسة نفسية» (La Pathologie de l’Islam et les moyens de le détruire) (1897). وقد استعار دانييل كيمون اسمه بعدما أصبح رمزًا للوطنية في فرنسا، من الموروث اليوناني الذي يراه الفكر التنويري للإنسانية قاطبة من سيرة القائد العسكري والسياسي «كيمون» (KimȎn) الذي تذهب الدراسات إلى أنه عاش ما بين (507-449ق.م)، وإليه تعود انتصارات الأسطول اليوناني على الفرس ويعد رمزًا للوطنية في التاريخ اليوناني.

يكشف الكتاب من خلال الدراسة الوصفية للعتبات عن وجود تخبّط منهجي وفوضى في المفاهيم والمصطلحات من خلال الخلط أوّلًا بين الإسلام كمصدر للتشريع من خلال الكتاب والسنّة وبين الممارسات السياسية والاقتصادية للأشخاص على اختلاف مذاهبهم وطوائفهم وانتماءاتهم، ثم بين الإسلام وبين الحكم العثماني الذي ساد سياسيًّا في العديد من الدول العربية، ويمكن حصر مباحث الكتاب كما وردت في الأبواب التالية مع وجود مباحث مرقّمة دون عناوين.

يقع الكتاب في مئتين وخمس عشرة صفحة مرتبطة بالبحث والدراسة، وملاحق إضافية تعريفية بمؤلَّفات الكاتب، وتوزّعت الأبحاث على الشكل الآتي:
تعريف المجتمعات الآرية والمجتمعات السامية (Définition des société aryennes et des société sémitique) (ص1) الإسلاموية (l’islamisme) «النمط النفسي للإسلام أو الإسلاموية المتعارض مع فرنسا والمسيحية» (L’islamisme; le type psychologique de l’islam ou de l’islamisme opposé à celui de la France et du christianisme) (ص25) و«الإسلام» (L’Islam) (ص26) و«محمد» (Mahomet) (ص36).

ثم «القرآن» (Le Koran) (ص50) و«القدرية» (Le Fatalisme) (ص74) و«العثمانية» (L’osmanisme) وأخيرًا «ميكانيزم العثمانية» (le mecanisme de l’osmanisme) (ص162).

نظرية التفوق العرقي والديني
يوظّف الكاتب في فاتحة كتابه كعتبة مركزية افتتاحية للإيقاع بالمتلقّي وإيهامه بالبراديغم النموذجي والمثالي، مصطلح المجتمع الآري، ذلك المجتمع الخرافي والمتخيَّل الذي يتأسس على رؤى ونظريات التفوق العرقي والبيولوجي، المؤمن بتفوق السلالات البيضاء على غيرها من الأعراق والأجناس والدماء والثقافات والحضارات، والمصطلح مرتحل أيديولوجيًّا، فقد انحرف عن الأصل الدال على التصنيفات اللغوية إلى المفاهيم العرقية كمنظومة عنصرية متطرفة تكرِّس التفوق والاستعلاء كمميزات وصفات للرجل الأبيض.

وقد أصّلت لهذه النظرية فلسفات أرسطو في نظرية «الكيوف الأرسطية» حين نسب الشجاعة والذكاء لليونانيين واستخفّ بقدرات الشعوب الأخرى، لتتطور النظرية البيولوجية الاستعلائية مع الفكر الكولونيالي والاستشراقي ودراسة أرثور دي غوبينو (Arthur de Gobineau) (1816-1882م) في كتابه الموسوم «مقال عن التفاوت بين الأجناس البشرية» (Essai sur l’inégalité des races humaines) (1853) والنظرية الآرية مفهوم سرابي متوهم وتخيلي حول التفوّق العرقي والجنسي «أصل ومنشأ النظرية «الآرية»، أو «النوردية» التي تُنادي بعقيدة التفوّق الجنسي، وقد تولّدت عن هذه النظرية عدة نظريات أُخرى ثانوية، مثل «نظرية تفوق العنصر الجرماني» التي نشأت في ألمانيا، و«نظرية العنصر الأنجلوساكسوني» التي نشأت في كل من بريطانيا، والولايات المتحدة الأمريكية، «نظرية الكلتيين» التي نشأت في فرنسا»[2].
ينطلق الكاتب من طرح إشكالية رافضة لكل مثاقفة، والحقيقة هي حكم ونتيجة مسبقة وجاهزة، فالمنهج العلمي يقتضي عرض الأسباب وتحليل الظواهر ثم استنباط واستخلاص النتائج والأحكام، يقول «إنه من الصعوبة إقناع فرنسا وتعريفها بمكوّنات الإسلام ومحمّد والديانة الإسلاميّة وسياسة الأتراك»[3]. إن المتداول بشكل متكرر كرواسب من المكتبات الاستشراقية وأبحاثها الخلط المعرفي والعشوائية في توظيف المصطلحات بين محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) كرسول ونبي مرسل مكلف بتبليغ رسالة سماوية، وبين ديانة بتشريعاتها وأحكامها، وبين شعب تركي انتمى واعتنق الإسلام وطبّقه وفق ما تقتضيه ظروفه وملابسات سياسته وامتداداته في العالم العربي والإسلامي. وهذه الإشكالات دفعت بالكاتب إلى الاعتقاد بأن الإسلام دين آسيوي خاص بفضاء جغرافي له بنيته الثقافية والأنثربولوجية الخاصة، فتساءل حول كيفية «تعليم الجمهور الفرنسي من قبل شعب آسيوي ذي بنية نفسية مختلفة»[4].

يعتقد «كيمون» أن البنية النفسية واختلاف الثقافات وحتى الموقع الجغرافي تشكِّل معوقات موضوعية للتواصل الحضاري والإنساني بين الديانات والثقافات والحضارت، فالاحتكاك والمثاقفة والتبادلات الفكرية اللامتوازنة كفيلة بإضعاف الروح العلمية والمعنوية للشعوب المتطورة والذكية «أُمَّتان تفقد وجودها وضميرها ووعيها الوطني، وتبتعد عن المدار، وتفقد الطريق كأنها في حالة سكر، تاركة القيادة للأعداء القتلى، أحد هذه الشعوب، الشعب اليوناني والآخر الشعب الفرنسي»[5].

يتطلّع المتلقّي إلى معرفة الأسباب وإدراك الأبعاد التي تحوْل دون التواصل وتؤثر على القدرات الذكائية والفكرية للأمتين اليونانية والفرنسية، فلا يعثر إلا على هراءٍ وتصورات متوهَّمة مرتبطة بالتعالي وإنكار «الآخر» المختلف في وجوده الإنساني والمعرفي والثقافي تحت أقنعة الدونية والتفوق العرقي. ويتخيَّل الكاتب حوارًا بين فرنسا والأفكار الوافدة، وأهمّها الإسلام وتشريعاته وعقيدته، باعتبارها أفكارًا لا تتجانس مع البيئة والمنظومة الفرنسية في الفكر والثقافة والدين، فيسأل من فرنسا؟ ويُجيب «إنها أمّة تحكمها الأفكار الفلسفية، المستخلَصة من المسيحية الكاثوليكية، والتي انبثقت بدورها مباشرة من الفكر الفلسفي والفنّي والعسكري اليوناني وروما القديمة»[6] فمرجعيات الثقافة الفرنسية ومكوناتها الهوياتية يونانية ورومانية المورد والمنهل، بالإضافة إلى الموروث المسيحي/ الكاثوليكي، في تجاوز وإنكار صريح للمكون والمشترك الإنساني في بناء الحضارات والذي ساهمت في إنجازه حضارات المشافهة والنقوش والكتابات الإفريقية والفرعونية والسريالية وغيرها.
يصف الكاتب المجتمع الإسلامي بالمجتمع الهامشي الفاقد لمقوّمات الحياة من طموح وحب للعمل، فهو غير نافع وغير منتج يسوده الكسل والتواكل؛ ولذلك فلا يمكنه أن يسود ويتواجد إلا في المناطق والبيئات الغنية، ففي سؤاله عن المجتمعات الطفيلية يجيب الكاتب بأن القائمة طويلة، ومنها «الإسلام، طفيلي وعنيف، مدمر ودموي، فالإسلام لا يمكن أن يتواجد إلا في إقليم خصب وثري»[7].

يحمل هذا المبحث عنوان المجتمع الآري، ولكن عند تصفّح المضمون، فإن المتلقّي لا يعثر على صفات هذا المجتمع النموذجي في اعتقاده، وإنما يقرأ ويطالع جملة من الاتهامات والإشاعات والشبهات حول الإسلام ورجاله وتاريخه ومبادئه وقوانينه، وهي أفكار مكرّرة ومتناثرة في مصنَّفات سابقيه من مستشرقين ولاهوتيّين وعسكريّين ورحَّالة «ركائز الإسلام (الإسلاموية) العنف والهدم والتعددية وممثله شيخ الإسلام أو السلطان هو المخطط البارع للتهديم، لكل من يعترض نفوذه، فهو جلاد دموي، والمتمتّع الذي لا يُضاهى، مالك أكبر عدد من النساء فوق الأرض»[8].

الإسلام في مواجهة فرنسا المسيحية
يذهب الباحث الفرنسي مارسيل ديتيان (Marcel Detienne) في كتابه «مقارنة اللامقارن» (Comparer l’incomparable) (2009م) إلى أن المقارنة لها أصولها ومبادئها وضوابطها، وخاصة موضوعاتها وحقولها وميادينها، فهي تشمل المتقارب والمتشابه والمختلف اختلافًا موضوعيًّا وفنيًّا، أما المقارنات العشوائية والارتجالية من حيث الموضوعات والمناهج، فتعد ضربًا من الترف الفكري والوهم والاضطراب المنهجي والفوضى المعرفية، ولذلك فالإسلام لم يكن رسالة مناهضة ولا مضادة لأي ديانة سماوية أخرى، فالأديان التوحيدية تشترك جميعها في عقيدة التوحيد وإخلاص العبادة للواحد القهار، كما أن التشريعات الإسلامية ومقاصدها تتميز بالعالمية والقابلية للتكيف والتطبيق في جميع الفضاءات الجغرافية على اختلافها وتنوّعها؛ لأنها تراعي الخصوصية وتكرّس حرّية المعتقد، فهي ليست في حرب مع الملل والنحل والمنظومات الفكرية والدينية الوضعية، فهي تقدّم بديلًا عقلانيًّا دون إكراه وضغط وإجبار حتمي.

يعتقد الكاتب أن فرنسا دولة دستورية بتشريعاتها التي اعتمدتها في تكوينها انبثاقًا من المبادئ الفلسفية للمسيحية والأسس العقلانية للفكر اليوناني والروماني، والمنجزات الفكرية والعلمية والعمرانية شاهد قائم كدليل مادي على وجود هذه الأمة، في حين أن الإسلام «عاجز عن إنتاج أي عمل، من بناء مدينة واحدة وخدمة أرض وحفر قناة وملاحة/ ولا إبداع صناعة ورفع معلم ودراسة علم وتقديم نجدة وعلاج مريض ومقاومة وباء وإنجاز طرقات... وكل عبقريّته تتلخّص في ثلاث كلمات: هيمنة واستغلال وتهديم»[9] فهو بهذه الشهادة ينفي عن المسلمين المساهمة في بناء الحضارات، تحت تأثير وسيطرة التطرف الكنسي والتعصّب السياسي، فقد فنّد مقولاته العديد من المستشرقين والعلماء الغربيّين حين أقروا بالدور الريادي للفكر العربي والإسلامي عبر العصور «إن الوسائل الفكرية التي وضعها العرب في متناول الأوروبيّين، كأفضل ما تكون من الوسائل، كانت في الواقع، أكثر أهمية من مجالات التقدّم الكبير والاكتشافات العلمية العظيمة التي حقّقها العلماء العرب في رصدهم للسماء وحلّ أحاجيها، أشد أثرًا من اختراعاتهم الفيزيائية والتقنية التي كانت أحد شروط تفنّنهم في هذين الحقلين الواسعين. لقد كان العرب أساتذة خلاَّقين في علم الرياضيات، على خلاف الرومانيّين الذين لم يأتوا، في هذا الميدان، إلّا بنتائج قليلة ضعيفة»[10].

يواصل كيمون هجوماته الوحشية والعنيفة على الإسلام بكل حقد وتعصب دون تعليل منطقي ولا حجية عقلانية، وإنّما يسوق الشبهات والتهم جزافًا، فلم يترك منقصة ولا تهكمًا ولا تهويلًا وتخويفًا إلا ورماه به، خالقًا فوبيا لدى المتلقّي الغربي من تعاليمه وأسسه وأصوله ومقاصده ونبيِّه وقرآنه. وقد حاول تحليل ظاهرة الإسلام من المنظور النفسي كما تتوهم دراسته فأنتج ما يلي: «يمارس الإسلام على العقل البشري أثرًا يشبه السم المخدر، الذي يتلف بسرعة فائقة خلايا الذاكرة، مع تآكل في الفصّ المخّي الذي يُفقِد النظام العقلي الطبيعي، ممّا يؤدي إلى فقدان الماضي الموروث للإنسان ويتحوّل بعده إلى نوع من الحيوانات المتوحشة»[11].

لا يبالغ الباحث الموضوعي إذا جزم بأنه لا يوجد دين سماوي ولا فلسفة وضعية تحرِّض العقل وتقدسه وتدعوه إلى التأمل والتفكر والتبصّر وتحثّه على الابتعاد عن الإيمان بالمسلمات اليقينية تأثّرًا وتعاطفًا وتصديقًا وجدانيًّا كالقرآن الكريم، فكل آياته تخاطب أصحاب العقول والنهى وأولي الألباب، فعقلانية القرآن تحارب الخرافة والظنون والأوهام وتعتمد البرهان والحجة «فالعقلانيّة الإسلاميّة نابعة من الدين وليست غريبة عن الدين ولا هي ثورة عليه والكتاب المؤسس لهذه العقلانية هو القرآن الكريم، الكتاب المؤسس للدين والأمة والحضارة في تاريخ الإسلام ورسالة العقل والعقلانية هي الانتصار للإسلام وليست الثورة على هذا الدين»[12].

إن مقام العقل أمر مشهود ومتداول كآلية تطبيقية ومفهوم مركزي في المشهد الإسلامي ويشهد التاريخ الإسلامي حضور العقل في مسائل التفسير والتأويل والقياس، بالإضافة إلى فلسفات وقضايا المجتمع، وما شبهات «كيمون» سوى إنكار غير منهجي، أنتجته أيديولوجيا التعصب والتطرف والجهل بالتاريخ «مما يلفت النظر في تراث الإسلام شيوع الإعلاء لمقام العقل والعقلانية في تراث الأغلبية العظمى لمذاهب الإسلام.. فباستثناء بعض ((أهل الحديث)) الذين برعوا في صناعة ((الرواية)) وتحفّظوا كثيرًا على النظر العقلي و((الدراية)) ومن ثمّ حرموا الاشتغال بعلم الكلام. فإننا واجدون للعقلانية الإسلامية مقامًا عاليًا ومكانًا ملحوظًا ووضعًا متميزًا وممتازًا في عموم تراث مذاهب الإسلام، على امتداد تاريخ هذا التراث، وعلى تنوع أئمته وأعلامه»[13] والمستقرئ لتاريخ الاستشراق يعثر على شهادات متعددة لمستشرقين أبرزوا قيمة العقل في الإسلام وعملوا على توظيفه كمنهج علمي تطبيقي في العديد من المسائل الدينية، ومنها علم التوحيد، ووصولًا إلى القضايا الكلامية والفكرية والتشريعية، ومنهم الإنجليزي توماس وولكر آرنولد (Thomas Walker Arnold) (1864-1930م) والفرنسي إدوارد مونتيه (Edouard Montet) (1817-1894م) وغيرهما.

علاقة الإسلام بالديانات السماوية والوضعية
ينفي «كيمون» عن الإسلام كل مظهر وصفة دينيّة مقدّسة، سواء أكانت إلهيّة أم وضعيّة، فهو يُقصيه من الروح الدينية ويُنكر تشريعه الإنساني وقيَمه البشريّة الراقية، فحوَّله إلى فوبيا ومنظومة قاتلة وهدّامة، واصفًا أحكامه بالوحشيّة، ومعتنقيه بالغلاة الفاشلين المتطرّفين (وهي الصورة التي تناقلتها المركزيات الغربيّة، وردّدتها في مختلف المراجع والكتب المدرسية، حتى ترسَّخت كتصوُّر يقيني في الوعي الجمعي الأوروبي)، ويُكرّر الكاتب اتهاماته، ويَسُوق الإشاعات ويسوق الشبهات دون تقديم قرائن وشواهد برهانية وعقلانية حجاجية يمكنها تبرير وتسويغ النفي والإنكار والإقصاء، ويتجاوز النفي أقصاه دون شواهد إثباتية ومنهج علمي عقلاني يفسّر عدوانية الهجوم على الإسلام وأصوله وتشريعه وفلسفته وجماليات قيمه ورقي معاملاته ومقاصده، في حين يقابل هذا الصدّ والمكر تمتُّع الديانات الأخرى ومختلف الملل والنحل الوضعية بالإطراء والمدح والثناء والتمجيد «الإسلام أو الإسلاموية أو المحمدية ليست صراحة دينًا كالمسيحية واليهودية والبوذية والصنمية لهذه الديانات القابلية للتحوُّل، ولكنها أبدية، لأنها منحدرة من أفكار وحدس ومبادئ وعادات متطورة وقوية بفضل التراكم الوراثي، وهي عادات موجودة منذ 50 إلى 100 قرن، مكونة من تقاليد متماسكة، متبلورة ومتضامنة»[14].

ينطلق الكاتب في توصيفه للإسلام من توترات أيديولوجية متعصّبة، أغمضت عينيه وأعمت بصيرته ووعيه عن شهادات أكاديميين غربيين من مفكرين ومستشرقين معتدلين حول الإسلام وفلسفته في التوحيد التي ألغت الوساطة بين الخالق والمخلوق وأبعدت الاستغلال الديني بدفع الرسوم والقرابين، وارتقت بالعبادة من المادية الدنيوية الزائلة إلى التوازن بين المادة والروح، وبين الدنيا والآخرة، وذلك من خلال تحديد وظيفة الإنسان ورسالته في الوجود، بالإضافة إلى نقاء المقاصد والغايات من محافظة على الدين والعقل والنسل والمال والعرض وغيرها، تقول المستشرقة الإيطالية لورا فيشيا فاجليري (Laura Veccia Vaglieri) (1893-1989م): «نشأ الإسلام مثل ينبوع من الماء الصافي النمير، وسط شعب همجي يحيا في بلاد جرداء بعيدة عن ملتقى طرق الحضارة والفكر الإنساني، وكان ذلك الينبوع غزيرًا إلى درجة جعلته يتحوّل وشيكًا إلى جدول، ثم إلى نهر، ليفيض آخر الأمر فتتفرَّع منه آلاف القنوات تتدفق في البلاد. وفي تلك المواطن التي ذاقَ فيها القوم طعم تلك المياه الأعجوبية، سُوِّيَّتْ المنازعات وجُمِعَ شمل الجماعات المتناحرة. وبدلاً من الثأر الذي كان هو القانون الأعلى والذي كان يشدّ العشائر المتحدرة من أصل واحد في رابطة متينة، ظهرت عاطفة جديدة هي عاطفة الأخوة بين أناس تشدّ بعضهم إلى بعض مُثُلٌ عُليا مشتركة من الأخلاق والدين»[15] ويتربع القرآن الكريم على عرش وهرم الإعجاز البياني والعلمي والتشريعي «إن معجزة الإسلام العظمى هي القرآن الذي تنقل إلينا الرواية الراسخة غير المنقطعة، من خلاله، أنباءً تتصف بيقين مطلق، إنه كتاب لا سبيل إلى محاكاته، إن كلًّا من تعبيراته شامل جامع، ومع ذلك فهو ذو حجم مناسب، ليس بالطويل أكثر مما ينبغي، وليس بالقصير أكثر مما ينبغي، أما أسلوبه فأصيل فريد، وليس ثمة أي نمط لهذا الأسلوب في الأدب العربي، الذي تحدّر إلينا من العصور التي سبقته»[16].

تتواصل عمليات الاجترار للتراكمات النمطية والصور الجاهزة والمقولات المرتجلة، المكرّرة عبر موروث قطبي وأحادي النظرة والتصوّر والمفهوم من أحكام عشوائية واعتباطية، نشأت عن ردود فعل غير منهجية منافية للمنطق ومناقضة للعقلانية الموضوعية، فهي استجابات أيديولوجية متطرّفة ومتعصّبة أو باثولوجيا عدائية أو خدمات لمؤسسات لاهوتية وسياسية. فالإسلام في تصوّرات المكتبة الاستشراقية دجل وتجميع للأساطير القديمة واقتباسات من اليهودية والمسيحية (يأتي حضور اليهودية كدين سماوي في مقابلة نفي صفة الدين الإلهي عن الإسلام، وما عدا ذلك فالكاتب يناصبها العداء المطلق) «الإسلام ليس منتِجًا للفكر الإنساني ولا نتيجة عمل جامع لعادات وتقاليد ومبادئ جماعة بشرية، ولا هو منجز أجيال متعاقبة، فالإسلام فعل عدوى لذكاء واحد متمركز، مناهضًا للأخلاق، لأنه عمل دجّال ضالّ»[17]. تبدو الأفكار متداولة وقديمة من حيث العرض، سطحية من حيث المقاربة، فاقدة للمصداقية والموثوقية بالمعايير التاريخية، فالتاريخ والبحث الرصين في الإسلام وتاريخه يرى غير ذلك، يقول المستشرق الأمريكي «وقبل كل شيء يجب أن لا يغيب عن بالنا أن الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) لم يدّع أنه جاء بدين جديد، بل جاء لإعادة الناس إلى دين الله الحق القديم ((سنّة إبراهيم حنيف)) كما يؤكّد القرآن»[18] و«القرآن الكتاب الأساسي العظيم لإيضاح هذا الإيمان، نزل بأوقات متفرقة اتصلت بأحداث أثارت مشاعر الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) فرَضتها ظروف وهو ليس من صنع محمد(صلى الله عليه وآله وسلم)، بل وحي إلهي نقل كلام الله نفسه – حول هذه الظروف»([19]).

محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) والقرآن؛ ركائز الإسلام
انتظر المتلقي في باب «محمد» دراسة ومقاربة عقلانية لسيرة ومسيرة شكَّلت ركيزة في البحث الاستشراقي بالاستحسان أو الاستهجان بالقبول أو الرفض، وجوهرًا في رؤى الدراسات اللاهوتية، وتيمة أساسية في فكر التنوير ومراجعاته وجدلياته. ولكن يتفاجأ القارئ بمضمون شطحي، بعدما راوغته افتتاحية الكاتب بقوله: «محمّد والقرآن هما العمودان الفريدان أو الركيزتان اللتان يستند عليهما صرح الإسلام، فإذا انهدم أحدهما زال الصرح الهش، ولا ينتج عن هذا الانهيار أي ثورة ورد فعل أو انتفاضة، وبالتالي استحالة إعادة البناء»[20].

بعد التأكيد على ثنائية محمد والقرآن مع قناعة شخصية يقينية بتأليف محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) للقرآن ونفي صفة الوحي عنه، ينحرف في بحثه إلى خصائص ومميزات الدولة الفرنسية كنموذج للدولة الناجحة، خاصّة في منهجها العلماني والتنويري وعلاقاتها بالأديان وثقافاتها العامة وخصوصياتها الهوياتية المرتكزة على المنظومة المسيحيّة والموروث اليوناني/ الروماني، وهي اللبنات التي هيأتها لاحتلال الصدارة والمراكز الأولى في هرم الدول المتقدمة، وبناءٌ على هذه المؤشّرات تحوّلت التربة والفضاء الفرنسي إلى أرض غير إسلامية بفضل دعواتها للعمل والإبداع والأخلاق، والحضارة والإسلام بمبادئه الرجعية يتنافى مع هذه القيم، مقدمًا نموذجًا تطبيقيًا حسب رأيه يتمثّل بالجزائر التي حاولت فرنسا جعلها منطقة فرنسية تشبه أكبر حواضرها، ولكنها تمرَّدت بعدما تمسَّكت بالإسلام الذي منعها من التكيُّف والتأقلم والتفاعل مع قيم المدنية والحضارة.

والحقيقة أنّ هذه الصور النمطية والأفكار الجاهزة معهودة في كتب الاستشراق ومقاربات المستشرقين وتاريخهم للإسلام والمسلمين، يقول المستشرق الإنجليزي مونتغمري وات: «أدت الحملات الصليبية إلى زيادة اهتمام الأوروبيّين بالإسلام كدين. عرفت أوروبا أشياء عن الإسلام قبل ذلك عن طريق البيزنطيين والتواصل بين المسيحيين والمسلمين في إسبانيا، ولكن شابَ هذه المعرفة معلومات مغلوطة. وساد الاعتقاد بأنّ المسلمين وثنيون يعبدون محمدًا، أو أن محمدًا ساحر أو شيطان – ولاحظ مثلًا الكلمة الإنكليزية (Mahound) أو ((ماهوند))[21]، والتي تعدّ تحريفًا لاسم النبي محمد(صلى الله عليه وآله وسلم) ، كما ساد الاعتقاد بأن الإسلام يبيح الفسق والفوضى الجنسية»[22]. ويقترح لإبعاد الجزائريين عن دينهم وهويّتهم وتمكينهم من الحضارة الفرنسية ورقيها ومزاياها تكوين هيئة مسيحية في باريس حيث يتمّ انتداب أعضائها واختيارهم من الذين تمكّنوا من دراسة الإسلام والعالم الآسيوي؛ لتكون مهمّته الأساسية تجديد القرآن وإخراجه في تصميم وسبك معاصر ومناسب لمتطلَّبات التكيّف مع العالم الغربي/ المسيحي «يتأسس التصميم الجديد للقرآن بحذف كل الأفكار المتعلقة بالقتل والذبح والحرق بالنار أو الماء الساخن والتسميم والحقد والانتقام والنهب والإبادة والتدمير والمعاشرة والمداهنة، وعلى العموم كل ما يتعلق بالفظاعة والرعب التي تُكوِّن الأصل في هذا الكتاب وتبديلها بأفكار الإحسان والأخوة وحسن المعاشرة»[23].

إن المتأمّل في هذه المقولات ونماذجها كثيرة في ثنايا الكتاب، حيث الهيمنة المطلقة وسلطة الخطاب المتعصّب والمُنحاز والبعيد عن المنطق العلمي والمنهج العقلاني، فجاءت انطباعات الكاتب وتصوراته عن القرآن مبتذلة وشبهاته مكرّرة وسطحية وسوقية في أحيان أخرى، فلا تعدو أن تكون أحكامًا نمطية غير مبررة، بالإضافة إلى إسناد مسائل اجتماعية وأنظمة أُسرية عائلية لا يقرِّها الإسلام، باعتبار أن منظومة الزواج مضبوطة وفق تشريعات دقيقة. أما نظام العقوبات في الإسلام فله مقاصده ومعاييره وأنواعه التي لم يُعرف منها ما يَسُوقه الكاتب ويُسوِّقه من أراجيف وأكاذيب مرتبطة بالذبح والتسميم والحرق بالنار والماء الساخن، ففلسفة العقوبة في الإسلام ليست غاية في ذاتها، بقدر ما هي وسيلة وآلية ترتكز على حماية الفرد والمجتمع والممتلكات بالدعوة أولًا، والتعزير ثانيًا، ثم تطبيق الحدود في مرحلة نهائية للمحافظة على الاستقرار الاجتماعي والنفسي والعقائدي ضمن مجتمع مثالي تسوده الأخلاق، «تهدف العقوبات التي وردت في الشريعة الإسلامية إلى تحقيق الاستقرار والنظام في العلاقات بين الأفراد ونشر العدالة والقضاء على مظاهر الفساد والجريمة في المجتمع، والصفة الرادعة للعقوبات لا تتمثل فيما تصيب الإنسان في هذه الدنيا، بل بما يلحق من عذاب أشد وأبقى في الآخرة أيضا. وقد أتت العقوبات بصفة عامة مختلفة في احكامها عن تلك المقررة في التشريعات الوضعية، واعتمدت كأساس شامل ومتكامل حلَّ محل الثأر والانتقام الفردي الذي جرَّ الويلات على الجماعات الإنسانيّة قبل ظهور الشريعة الإسلاميّة»[24]، وتتجلّى فلسفة العقوبة في الإسلام في العدل ووضوح المقصد ومشروعية الحكم ونزاهة القضاء، «فالعقوبات في الإسلام بشكل عام أساسها المساواة بين الجرم وعقابه؛ ولذلك تسمّى قصاصًا، ولوحظ فيها أن تكون النتيجة للقصاص هي الرحمة بالناس وأن تكون الحياة هادئة مطمئنة سعيدة، لا يعكّرها أذى، ولا تعبث فيها الآثام؛ ولذا قال سبحانه: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} أي هادئة رافهة مطمئنة لا فساد فيها ولا بغي ولا عدوان»[25].

وبعد الفشل في نقد القرآن والسيرة النبوية بالقرائن الموضوعية والحجة البائنة اتجه إلى وصف المسيحية والفكر الآري والموروث الفلسفي اليوناني، باعتبار هذه المكونات في اعتقاده مصدر الإلهام الإنساني والكنز المعرفي الحضاري للبشرية، لأنها تمجِّد العقل وتحارب السامية وتميز بين الخبيث والطيب[26]، وبعد سلسلة الشبهات الفاشلة والبحث المتواصل عن التناقض بين القرآن كوحي والرسالة كبعث ودعوة، يتّجه كيمون إلى الرحلات الاستشراقية إلى الجزيرة العربية بحثًا عن نقائص وإشاعات يدعم بها أطروحاته، فوجد بعض الأكاذيب في رحلة بالغريف (Palgrave) كالحكمة من إباحة الخمر من قبل المسيح وتحريمه في الإسلام، وتحريم التصوير والتماثيل الذي يتنافي في اعتقاده مع الموروث اليوناني ورحالة الإنجليزي «ويليام غيفورد بالغريف» (William Gifford Palgrave) (1888-1926م) المزعومة «عامٍ من الرحلات عبر وسط الجزيرة العربية» (Une année de voyage dans l’Arabie centrale) (1862-1863م) والتي أنكرها العديد من الباحثين وحتى المستشرقين ومنهم هاري سانت جون بريدجر فيلبي ‏ ‏(1885-1960م)، والمعروف أيضًا باسم «جون فيلبي» (John Bridger Phillby) أو «الشيخ عبد الله» والرحلة في الغالب عمل أدبي متخيل: «من الراجح أن بلجريف لم تطأ قدمه الجزيرة العربية قط، ومن المرجوح أنه زار الجزيرة وكتب رحلته إلا أنه شحنها بالأكاذيب، ومن المحتمل أن رحلته لم تتجاوز حائل، وعلى التقديرات الثلاثة ففي رحلة بلجريف أشياء كاذبة بيقين لا يشوبه احتمال»[27].

القرآن؛ اجترار المقولات والأحكام النمطيّة
ينتهز الكاتب المناسبة ويستغلّ حضور مصطلح القرآن لينفث سمومًا متوارَثة في المصنَّفات الاستشراقية والبيبليوغرافيات اللاهوتية القديمة التي لا ترى في القرآن الكريم سوى نصوصًا وخطابات عنيفة لا عقلانيّة، وعبادات مقتبَسة بعد تعديلها من كتب سماوية سابقة، وقصص أسطورية عتيدة «مؤلَّف محمّد حشد من الأفكار المفكّكة والمشوّشة، غير منسّقة، وحشيّة وقاتلة، كل فصل يمكن تشبيهه باللعبة النارية المنشطرة والتي تطلق صواريخ متتالية، متعدّدة الألوان لتمتصّ الذكاءات وتسمّمها...»[28]. إن هذه الأحكام صدرت عن كاتب، لم نعثر في سيرته عن اطّلاع كلّي أو جزئي على النصوص القرآنية سواء أكان في لغتها الأصلية أم المترجمة، بالإضافة إلى عجزه التكويني في المناهج التحليلية والتأويلية التي تؤهّله لاستصدار الأحكام والقيم بعلمية وموضوعية، فقد اعتمد في بناء أفكاره كمصادر لبحثه على كتب ومصنَّفات غير متخصصة وغير موضوعية وغير موثوق في بحوثها واستقصاءاتها، فهي إمّا دراسات لرجال سياسة ودبلوماسيّين وعسكريّين وملحَقين بجيوش بلادهم أو رحّالة تنتقي أعينهم المناظر والمشاهد والأفكار أو مستشرق متعصب ومتحيّز، أو مؤرخ لاهوتي جاحد ومؤدلَج يكتب ويعمل لمركزيات ومرجعيات معادية ومناهضة للإسلام.

تحوّلت هستيريا الكاتب إلى هوس ورهاب ذهني وفوبيا عدوانية لا تتأسّس على منطق وتاريخ وحجاج عقلاني، وإنّما حشدٌ لمعجم لفظي يجمع كل صفة ذميمة ووصف قبيح، مشتملًا على كل نعت يرمز للسلبيّة ويوحي بالدونيّة والوحشيّة ويهدف إلى إثبات التزييف والتحريف «الإسلام عمل رجل واحد هو محمد، وكتاب واحد هو القرآن، وهو ليس دينًا وإنما فكرة غريبة لدجّال أو لمنحطِّ ينشط في وسط روحاني، تتنافس فيه الأديان وكل الأنظمة الدينيّة على احتلال مكانة بعينها»[29]. باستقراء واستعراض المصنّفات الاستشراقية حول القرآن والوحي النبوي والسيرة النبوية، يدرك مدى تكرار نماذج هذه الشبهات والمغالطات منذ الترجمات الأولى للقرآن التي سادت فيها خطابات الإنكار والنكران لألوهية الوحي، وشيوع القراءات المتحيّزة والتأويلات السطحية لفلسفات الإسلام ورؤيته لقضايا الجهاد ومسائل الزواج والعلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، يقول الطبيب الفرنسي موريس بوكاي مفنِّدًا موروثات المركزيات الغربية «اليهود والمسيحيون والملاحدة في البلدان الغربية يلتقون على رأي واحد (وبدون أي دليل) ليعلنوا أن محمّدًا (صلى الله عليه وآله وسلم)كتب أو استكتب القرآن مقلدًا التوراة. وهذا الموقف هو بنفس خفة ذلك الذي يوصل إلى القول بأن عيسىA خدع معاصريه أيضًا بسبب تأثره بالعهد القديم»[30].

تسيطر سلطة الأيديولوجيا وقوة المتخيَّل السرابي على آراء الكاتب وأطروحاته ومقارباته كلما حضر مصطلح القرآن الكريم، فيتهيّأ هائجًا ومندفعًا ومنفعلًا بحماسة كبيرة محاولًا النيل من قدسيته، فبعد الهجومات والتقوّلات والأباطيل حول مضامينه وقيمه وأصوله وتشريعاته يتجه نحو بيئته وفضاء النزول معتقدًا أن الفراغ الروحي والأوضاع الاجتماعية والضعف الثقافي والفلسفي وغياب الصراعات الفكرية والأيديولوجية كلها عوامل هيأت المناخ لبروز الفكر الإسلامي، فخلوّ الساحة من المناظرات السياسيّة والصراعات الدينيّة والمطارحات الثقافيّة والأدبيّة، أنتج حرية وأتاح متنفَّسًا لقيام نمط ونظام ديني جديد هو دين محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) «لم يصطدم محمّد بالمعارضين والروحانيّين وغيرهم ولم يلق مقاومة أو قوة فكرية تقف وتمنع نهضته ومواصلة فساده... ومن الناحية العلمية فالإسلام لا يمثِّل بعدًا دينيًّا بقدر ما يُحيل إلى مرض عقلي»[31]. تكشف هذه الرؤية عن منظومتين متباينتين من حيث البنية والتكوين، فمن حيث البنية هي اجترار وتكرار مقولات قديمة تحتضنها المكتبة الاستشراقية في القرون الوسطى، تلاشت وفقدت بريقها وحيويتها بفضل الردود العقلانية التي فنَّدت الإشاعة والشبهة، أما من حيث التكوين فتقتضي المنهجية العلمية التدقيق والتمحيص في المقولات والمقاربات واستصدار الأحكام بتوظيف معايير علمية دقيقة ومضبوطة واعتماد قرائن حجاجية مقنعة، لأنّ المستقرئ لتاريخ العرب السياسي والاجتماعي والديني خاصة يدرك مدى نسبة الاختلاط والتبادل على مختلف الصعد بين العرب وأكبر الإمبراطوريات السائدة آنذاك من روم وفرس، بالإضافة إلى الاحتكاك الديني بين العرب وبقايا الديانات السماوية ومختلف العقائد من ملل ومذاهب، والتي أنتجت فكر التأمّلات في الطبيعة وعوالم الفضاء وفلسفات الخلق والوجود وغيرها[32].

يُحوِّل الكاتب الإعجاز البياني والعلمي والتشريعي للإسلام إلى عيوب ومساوئ، فيرى أن قوة الكلمة وبلاغتها في القرآن تخدير، والتشريع الراقي بقيمه وقوانينه الإنسانية مجرد نظريات طوباوية مثالية، ونهاية الحياة الدنيا والانتقال إلى عوالم الآخرة والمابعديات أساطير عجائبية. ولا يعدو هذا الضرب من التفكير والتأويل أن يكون إلّا تعبيرًا صريحًا عن فشل فكري وعجز منطقي وتخبّط منهجي في قراءة النص القرآني ومضامينه، ففي الفصل الموسوم بـ«هوس الكلمة» (L’obsession du mot) يعتقد أن هاجس الكلمة يستحوذ على مشاعر المسلمين لولعهم بالشعر وفن الكلِم، محاولًا التقليل من شأن البيان القرآني وإعجازه، فيقول: «نلاحظ عند اللامتوازنين وغير الطبيعيين هوس مرضي بنفوذ وقوة الكلمات باستمرار، ويطلق المنبوذون على هذه الكلمات ((سحر الكلمات)) والتي تشكل نسقًا متجانسًا عند جميع المسلمين»[33].

يتجاهل الكاتب قوة الكلام البليغ والخطاب البديع وتأثيراته في النفس والعقل والوجدان، ويتميز الخطاب القرآني باللفظ الرصين والبليغ، فجمالياته تخترق العقول والقلوب مشكّلة قوة للفكرة والدلالة؛ مما يستميل النفس ويدعوها إلى التأمّل والتبصّر في اللفظ والمعنى الذي لا يناقض الفطرة والعقل. فالكلام القرآني مؤسس على ثنائية اللفظ والمعنى الذي يلامس فلسفة القبول في نفس المتلقّي ويدفعه للإيمان والقبول من خلال وظائف اللفظة من إيحاء وتصوير وتشخيص ومراعاة للمقام وجمالية في البناء والتركيب، لقد «أفاض الله سبحانه عليها (الكلمات) هذا الفيض، ونفخ فيها من روحه، كما نفخ في عصا موسى، لكنه مع ذلك أبقى على تلك الكلمات طبيعتها التي يعرفها الناس منها، كما أبقى على عصا موسى طبيعتها»[34].
ولأن موضوع الكتاب أمراض المسلمين ومقدّساتهم من قرآن وسنّة، فقد جمع الكاتب جميع الأمراض والعيوب والعقد النفسية التي عرفها الطب والتحليل النفسي وأحصاها في مكتباته، وكل أنواع الفوبيات ليهيكلها ويوثّقها لينسبها إلى الهوية الإسلامية لتكون من مُكوِّنًا من مُكوّناتها دون حجية يقينية يبرّر بها اتهاماته ومغالطاته.

فيطلق على الأدلة العقلانية لإثبات التوحيد ومشروعية التنزيل ومصداقيته مصطلح «جنون الشك» (folie du doute) أمّا أحكام الكفر وأخلاق النفاق والفواحش بأنواعها التي تنخر النفس والمجتمع، فهي في اعتقاده «هذيان الشتائم» (Délire d’imprécations) في حين يعتبر وعود الآخرة وجزاء الأعمال الصالحة نوعًا من «الزخم الوهمي» (Impulsions délirantes). ويرى في الاستجابات الجماعية لخطاب التوحيد والعقل والعقيدة صورة للاندفاع الاجتماعي اللاعقلاني؛ لأنه تعبير من العامة ويصفها بـ«الانفجارات الجماعية (Explosions collectives)»، ويتجاهل الكاتب متعمدًا أدوارَ بقايا الديانات السماوية في بعث روح الشك والريبة في العقيدة المحمدية، بتقديمهم الأسئلة والألغاز والشبهات لإثبات الدجل وإنكار الرسالة الإلهية، وهي المؤامرة التي دحضها العقل وفنّدتها القرائن والحجج والبراهين، ولكن الكاتب يعتبر ثقافة المناظرات مجرد نموذج من «الغضب الحسي» (Fureur voluptueuse). ويتحوّل التفكير في الآخرة وعوالم ما بعد المادة إلى فوبيا، والإيمان بالقيم الفاضلة والإنسانية إلى خرف، أما الاستجابة للخالق وتشريعاته فهو ضرب من الاضطهاد والجبرية «الفوبيا، الخرف، وهم منطق الاضطهاد» (Phobies, sénilité, délire de persécution raisonnant)[35].

ويحشد الكاتب سلسلة من الاتهامات والشبهات والعقد النفسية التي لا يمكن ان تتحقق وتتواجد إلا في معجم تفسيري للأمراض النفسيّة، أما أن تكون في دين سماوي وفي مجتمع إنساني متنوع ومتعدد الثقافات، فهذا منطق مقلوب وعدوانية فكرية وإقصاء إرادي ورفض لكل حوار موضوعي ورفض لكل مناظرة علمية تدعو لتحري الحقيقة والموضوعية والإقرار بالمصداقية والمشروعية، فيرى أنّ النص القرآني ضرب من «الجنون الغنائي أو الجنون الصوفي» (Folie lyrique ou folie mystique) و«الهوس المنهجي» (Manies systématisées) و«الحزن المزمن» (lypémanie) و«تنظيم لأفكار القسوة» (Systématisation d’idées de cruauté) بالإضافة الى «الانحراف الجنسي» (Perversion sexuelle) و«الهلوسات السمعية» (Hallucinations auditives)[36].

ويخلص بعد هذا التحليل إلى استنتاج يتعلّق بصورة المسلمين وعلمائهم والذين فازوا بالاستحقاقات المرضية التي صنّفها الكاتب وجعلها من مميزات وخصائص شخصيّتهم، والتي لا تعدو أن تكون أوهامًا لجملة من العقد النفسية والرهاب الفكري والعصبي «نجد في كل مسلم هذه الأنواع من الجنون وبجرعات معتبرة، وحينما يتجذَّر الهوس والجنون بقوة، يتحوَّل المُصاب إلى قدّيس ويصبح درويشًا صاخبًا، ويلقب بـ«أبو» أو «المهدي» أو اسمًا آخر وفقًا للرؤية الصوفية أو للكثافة السكانية لمنطقته»[37].

ولأن الترجمة خيانة بالمعنى الإيطالي في منظومتها الأدبيّة، (Traduttore, traditore) (المترجم خائن)، والمتفق عليه في محيط وفضاء ترجمة القرآن إلى مختلف اللغات غير العربية يُفقد المتن المقدس بيانه ورونقه وجمالياته، فالقرآن كما يقول الزمخشري «...قرآنًا غير ذي عوج مفتاحًا للمنافع الدينيّة والدنيويّة، مصدقًا لما بين يديه من الكتب السماوية، معجزًا باقيًا دون كل معجز على وجه كل زمان، دائرًا بين سائر الكتب على كل لسان في كل مكان، أفحم به من طولب بمعارضته من العرب العرباء، وأبكم به من تحدى به من مصاقع الخطباء، فلم يتصد للإتيان بما يوازيه أو يدانيه واحد من فصحائهم، ولم ينهض لمقدار أقصر سورة منه ناهض من بلغائهم، على أنهم كانوا أكثر من حصى البطحاء، وأوفر عددًا من رمال الدهناء...»[38].

من لغو الايديولوجيا إلى خزي الأهواء
انتظر المتلقّي وهو يكتشف من العتبة المركزيّة «باثولوجيا الإسلام وكيفيّة القضاء عليه» مقاربات معمّقة تستند إلى المنهج العلمي بسياقاته وأنساقه ليرى أطروحات علميّة ومنطقيّة تقوم على الحجّة والدليل والبرهان والاستقراء المنطقي والتأويل البيني متعدّد التخصّصات وعابر المناهج والتحليل التفكيكي الذي يقوّض الأطروحات والجدليات، ويعيد تركيبها لينسف المغالطات ويؤسّس للرؤى الجديدة التي تكشف وتبين عن نقائص وعيوب هذا الدين الجديد الذي امتدّ من جزيرة العرب إلى القارّة العجوز ويُهدّد مكوّناتها الهويّاتيّة، ويُفقد تنويرها المصداقيّة والمشروعيّة والموثوقيّة. خاصة وأن الكاتب وعد القرّاء بحلول تخلِّصُ الإنسانية عامة والفرنسيين خاصة من القيم والتشريعات النبيلة القائمة على العقل في محافظته على المقاصد المشتركة للإنسان من عقل ومال ونفس ونسَب ودين، وهي القيم الثابتة القائمة على معادلة التوازن بين عوالم المادة وفضاءات الروح، قيمة الروح دون رهبنة تسجن وترهن العقل وتفشل الجسد، ومادة تغتال الذات الباطنية في وجودها وكينونتها ورسالتها.

يصطدم المتلقّي متفاجئًا بمادة سردية سطحية من حيث الطرح، ضحلة من وجهة الفكرة، منحرفة وخائنة ومخادعة من جانب التوثيق التاريخي والمصداقية العقلانية، شاذّة من باب التأويل والتحليل لعدم خضوعها لأي منهج علمي وأخلاقي وفني، فهي عبارة عن خواطر مرضية أملتها ملابسات الأيديولوجيا وعدوانية الأهواء والشهوات، فجمعت كل نعت وصفة سلبية وكل مرض نفسي احتوته معاجم وقواميس وموسوعات الطب النفسي والعصبي واضطرابات الشخصية.

على الرغم من دعوات منظّري العقلانية وفقهاء الفكر التنويري في وجوب الالتزام بالموضوعية وإخضاع التصورات إلى الفحص العقلاني، باعتبار المعرفة ممارسة إنسانية تكشف عن تجلّيات تطوّر الفكر ومستويات الوعي ومدى التحكم في المناهج النقدية، إلّا أن المتصفّح لمضامين الكتاب وأفكاره يدرك حجم التعميم والسطحية والسقوط في الأحكام الانطباعيّة في منهج العرض والتحليل، حيث غلبت الارتجاليّة وهيمنت الأحكام العشوائيّة والاعتباطيّة مع غياب مطلق للمعايير العلميّة والمنهجيّة وتكرار المغالطات، ومنها ما تعلّق بالقرآن الكريم خاصّة، «القرآن أو التربية القرآنيّة والثقافة القرآنية هي السبب الحقيقي للحالة العقلية والأخلاقية لجميع المسلمين، لأنها جنون خاص، شرير ومؤذٍ، مجهول إلى يومنا هذا، فهو خليط من أنواع كثيرة من الجنون والأوهام المتشابكة، المقنعة بمظاهر العقلانية»[39] تصب مختلف رؤى الكاتب ومقارباته في سرديات الوهم المتخيَّل والجهل التاريخي بسيرورة الأحداث وتاريخ الأديان المقارن، فالقرآن الكريم من أوائل الكتب التي اطلع عليها الغرب كفضاء للاختلاف فضولًا معرفيًّا وتعصّبًا لاهوتيًّا وفكرًا استشراقيًّا «وكانت إسبانيا، بحكم دورها كنقطة اتصال بين العالم الإسلامي والغرب المسيحي، مهد الترجمات الأولى في العصور الوسطى. وبصرف النظر عن بعض الجهود العرضية، التي اقتصرت على ترجمة أجزاء صغيرة من النص، فإن المشروع الكبير الذي رعاه بطرس المبجل، رئيس دير كلوني، أدى إلى ترجمة لاتينية للقرآن في عام 1143م»[40].

ينتقي الكاتب من التاريخ المشاهد الوظيفية التي تخدم منطق أحكامه وتبرّر مغالطاته وتحكم رسالته في التشويه والتزوير والتدليس، فيجعل من التركيز والخشوع في الصلاة والتلاوة ضربًا من الجنون والهوس السحري الانفصامي عن الواقع، كما يصطفي من كتب التاريخ مواقف وأقوال وأحلام لمؤرخين اتصفوا بتعصبهم في مقاومة الإسلام بكراهية وعدوانية غير مبررة وغير واضحة، مجافية للمنطق والواقع، فيجعلهم حجة في وصف الإسلام والمسلمين، متجاهلًا بقصدية المعتدلين من المستشرقين والمفكرين الذين أنصفوا الدين الجديد، فأعلوا من قدسية قرآنه وزكوا تعاليمه وأشادوا بنبيِّه وتشريعه، يقول المستشرق الفرنسي جاك. س. ريسلر (Risler, Jacques C) (1893-1971م) «فقد كُتب ليُقرأ ويُتلى بصوت عال. ولا تستطيع أي ترجمة أن تعبّر عن فروقه الدقيقة المشبعة بالحساسية الشرقية. ويجب أن تقرأه في لغته التي كُتب بها لتتمكّن من تذوّق جمله وقوّته وسموّ صياغته. ويخلق نثره الموسيقى والمسجوع سحرًا مؤثّرًا في النفس حيث تزخر الأفكار قوة وتتوهج الصور نضارة. فلا يستطيع أحد أن ينكر أن سلطانه السحري وسموه الروحي يسهمان في إشعارنا بأن محمّدًا(صلى الله عليه وآله وسلم) كان ملهمًا بجلال الله وعظمته»[41].

لم يتمكّن كيمون من إيجاد مغالطات جديدة وشبهات تكتسي وتصطنع بالمنطقيّة والقبول بإمكانها تدعيم أطروحاته الباطلة والسطحيّة المتحاملة والمشبعة بالتعصّب الأيديولوجي واللاهوتي، فاتجه إلى مسألة قديمة في الجدليات التيولوجية والإشكالات الفلسفية تتعلّق بـ«القضاء والقدر» وقضايا «الجبرية» ومستقبل الإنسان بين التخيير والتسيير، فيقول: «من المستحيل إحصاء ما كتبه الأدباء وعلماء الدين خلال الاثني عشرة قرنًا في كل دول العالم وعبر كل الأزمنة حول القدر عند المسلمين، كلهم دون استثناء قد أجمعوا على أنه يشكل ركنًا دينيًّا يجب على كل مسلم الالتزام به»[42]. يعتقد الكاتب أنّ الإيمان بالقضاء والقدر الذي يمثّل ركنًا من أركان العقيدة الإسلامية يقوّض الحرية الشخصية في التحكم في الأسباب والمسببات، متناسيًا أن القدر جزءٌ من قانون السببيّة، وقد ردّ محمد عبده بأنّ هذه القضية قديمة ومشتركة بين جميع الديانات السماويّة، وهي لا تنفي الاختيار والحرية، وهي لا تعدو أن تكون «تقرير السنن الإلهية المعروفة بنواميس الكون»[43]، في حين يرى الشيخ عبد الحميد بن باديس أن القدر «قد ربط الله بين الأسباب ومسبباتها خلقًا وقدرًا بمشيئته وحكمته لنهتدي بالأسباب إلى مسبباتها ونجتنبها باجتناب أسبابها»[44].

بعد تأكيد الفشل والعجز في إيجاد قرائن وانتقادات تقنع المتلقّي بأمراض الإسلام ورسوله ينحرف الكاتب وبدرجة ونسبة عالية وفائقة نحو قضايا لا تتعلّق بالإسلام وتشريعاته وعقيدته ولا تتصل به اتصالًا مباشرًا أو غير مباشر، ومنها تخصيصه لفصل طويل يمتدّ على صفحات متعددة حول الدولة العثمانية وسياستها معتقدًا أنّها النموذج التطبيقي والواقعي للإسلام[45]، ويحشد مشاهد تأويلية متخيَّلة للسلاطين العثمانيين ليسقطها على الإسلام، ويعتبرها نتيجة لتطبيق تعاليمه والالتزام بمبادئه، «ذبح السلطان سليم خلال فترة حكمه زهاء عشرة ملايين شخص، وكانت آثار هذا الذبح والقتل والتسميم هلاك ملايين آخرين»[46]، ويخلص مستنتجًا أن صفة القتل والإبادة التي اتصف بها السلاطين العثمانيين مكتسب إسلامي وخُلُق أصيل فيهم، نتيجة الإيمان بالتشريعات الإسلامية وفلسفة القرآن الكريم التي تحثّ وتشجّع القتل، وهو في هذا يكرّر أفكار القرون الوسطى من مرويّات كبرى وخرافات أدبيّة وأساطير، توهم المتلقّي الأوروبي بالتشكيك في أصول التسامح العقائدي الذي نادى به القرآن من حيث الابتعاد عن الإكراه في الإيمان وحفظ حقوق مريدي الديانات الأخرى في إقامة شعائرهم دون خوف أو ضغط، فيرى كيمون أنه «يجب أن لا ننسى أن السلاطين العثمانيين عمومًا والإسلامين ينتمون إلى المرجعية والمدرسة نفسها، حيث تشبّعوا بالتعاليم المحمدية»[47]. ويتجلى تخبّط الكاتب العشوائي واللامنهجي حين يربط بين المسألة الأرمينية والدولة العثمانية، محاولًا الوصول إلى قناعة مسؤولية الإسلام عن كل هموم الإنسانية والتاريخ البشري عامة، رغم إنكاره الإرادي للحقائق التاريخية التي أقرّها وأوردها التاريخ الموضوعي المنصف والمتّصف بالأمانة العلمية كمشاهد وشواهد عن مناخ التعايش والتسامح الذي ساد بين جميع الديانات في الأندلس «تحوّل الإسبان بالقوة إلى مسلمين وأُرغموا على تغيير أسمائهم، والتجأ الأسبان من فنّانين وقساوسة وعلماء ورجال علم ومعماريين ومهندسين وأطباء وصناعيين وفلّاحين إلى اليهود ليتوسّطوا لهم عند السلطة»[48].

يجافي الكاتب الحقيقة في هذا المشهد، فالمستعرِض لتاريخ الأندلس يدرك ويعثر على الحجم الهائل والكبير من الشهادات التي ذكرها مؤرّخين غربيّين ومستشرقين حول نماذج التسامح والتعايش بين مختلف الأعراق والثقافات والحضارات والديانات «منذ فتح المسلمين للأندلس، تعايشت الديانات السماوية الثلاث الإسلام والمسيحية واليهودية جنبًا إلى جنب، رغم ما كان يطرأ على صفو العلاقات بين معتنقي هذه الديانات من غيوم عابرة - فالديانة اليهودية خرجت من طور الاضطهاد الذي لزمها خلال العصر القوط، إلى طور التسامح... أما بالنسبة لحرية المعتقد بالنسبة لمسيحيي الأندلس، فإن السلطة الإسلامية كفلت لهم حريتهم الدينية منذ بداية الفتح الإسلامي للأندلس، وكذلك استمر الأمر خلال عصر الولاة والإمارة والخلافة»[49].

خاتمة
لقد كانت عتبة الكتاب المركزية خادعة للمتلقّي ومجافية للحقيقة، فقد انتظر القارئ تحليلًا سيكولوجيًّا للمسلم وعلاقته بتعاليم دينه وانعكاس التشريعات على قدراته العقلية، ليصطدم بسلسة من المغالطات والشبهات المكررة والمتداولة في المكتبة الاستشراقية عمومًا. أما الحلول التي وعد بها للقضاء على الأمراض النفسية للإسلام والمسلمين، فقد اندثرت في ركام الأيديولوجيا والتعصب الديني، فلا يعثر الباحث في مضامين الكتاب إلا على جرد وحشد لأهمّ المصطلحات النفسية والعقد السيكولوجية المرتبطة باضطراب الشخصية وتقديمها دون مبرر ترتكز عليه لتؤسس صورة تمثِّل الإسلام والمسلمين.
سقط الكاتب من خلال بنائه لسياقات ثقافية ودينية متنافية ومتناقضة مع أحداث التاريخ وأنظمته في حالة من الهستيريا العدوانية غير المبررة والتي تستوجب المراجعة والعلاج للتخلص من فوبيا متخيَّلة تعلّقت بثقافة «الآخر» ودينه، وسكنت ذهنه ووعيه، وانعكست في كتابه ومحاوره ومضامينه.

لائحة المصادر والمراجع
- المراجع باللغة العربية
أبو زهرة، محمد، الجريمة والعقوبة في الفقه الإسلامي، دار الفكر العربي، القاهرة، 1998م.
ايرفينج، واشنطن، محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وخلفاؤه، ط1، ترجمة: ومقارنة، هاني يحي نصري، المركز الثقافي العربي، بيروت، الدار البيضاء، 1999م.
بن باديس، عبد الحميد محمد، تفسير ابن باديس في مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير، جمع وترتيب: توفيق محمد شاهين، الصالح رمضان، دار الكتب العلمية، بيروت، (1416هـ/ 1995م).
بوتشيش، إبراهيم القادري، محطات في تاريخ التسامح بين الأديان في الأندلس، مجلة دراسات أندلسية، العدد 31، جويلية 2004.
بوكاي، موريس، التوراة والإنجيل والقرآن والعلم، ط3، ترجمة: الشيخ حسن خالد، المكتب الإسلامي، (1411هـ/ 1990م)، بيروت.
جعفر، علي محمد، فلسفة العقوبات في القانون والشرع الإسلاميّ، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، (1417هـ/ 1997م)، بيروت.
الخطاب، عبد الكريم، إعجاز القرآن في دراسة كاشفة لخصائص البلاغة العربية ومعاييرها، دار الفكر العربي، 1965م.
ريسلر، جاك .س، الحضارة العربية، ترجمة: غنيم عبدون، الدار المصرية للتأليف والترجمة، القاهرة (د ت).
الزمخشري، جار الله أبي القاسم محمود بن عمر، (467/ 538هـ)، الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيوب الاقاويل في وجوه التأويل، تحقيق: عادل أحمد عبد الموجود، علي محمد معوض، ط1، مطبعة العبيكان، (1418هـ/ 1998م)، الرياض.
الظاهري، أبو عبد الرحمن بن عقيل، مسائل من تاريخ الجزيرة العربية، ط1، منشورات دار الأصالة للثقافة والنشر والإعلام، الرياض، (1413هـ/ 1993).
عبده، محمد، الإسلام بين العلم والمدنية، تحقيق طاهر الطناجي، كتاب الهلال، القاهرة، (د ت).
عمارة، محمد، مقام العقل في الإسلام، ط1، نهضة مصر للطباعة والنشر، القاهرة، 2008م.
فاجليري، لورا فيشيا، دفاع عن الإسلام، ط5، ترجمة: منير البعلبكي، بيروت دار العلم للملايين، 1981م.
كوماس، جوان، خرافات عن الأجناس، ترجمة: محمد رياض ومراجعة محمد عوض محمد، مؤسسة هنداوي، المملكة المتحدة، 2016م.
هونكه، زيغريد، شمس العرب تسطع على الغرب، أثر الحضارة الأوروبية في أوروبة، نقله فاروق بيضون وكما دسوقي، دار الجيل ودار الآفاق الجديدة، بيروت، ط8، (1413هـ/ 1993م).

المراجع باللغة الفرنسية
D. Kimon, La Pathologie de l’Islam et les moyens de le détruire, étude psychologique, L’auteur, Paris, 1897.
Enki Baptiste, «GÜRSEL Nedim, La seconde vie de Mahomet. Le Prophète dans la littérature, CNRS Éditions, Paris, 2018», Revue des mondes musulmans et de la Méditerranée [En ligne], 147 | 2020, mis en ligne le 15 janvier 2019, consulté le 17 mai 2024. URL :http://journals.openedition.org/remmm/12305; DOI: https://doi.org/10.4000/remmm.12305
François Berriot, Remarques sur la découverte de l’Islam par l’Occident, à la fin du Moyen-Age et à la Renaissance, Réforme, Humanisme, Renaissance Année 1986, Ne 22.
François Déroche, La réception du Coran en Occident in Le Coran, Presses Universitaires de France, Paris, 2009.
GÜRSEL Nedim, La seconde vie de Mahomet. Le Prophète dans la littérature, CNRS Éditions, Paris, 2018.
J. J. Rousseau, Du Contrat Social, FELIX ALCAN EDITEUR, PARIS, 1896, livre IV, Chap VIII.
John Tolan, Mahomet l’Européen, Histoire des représentations du Prophète en Occident. Albin Michel, 2018.
Herbelot, Barthélemy, bibliothèque orientale, ou Dictionnaire universel contenant généralement tout ce qui regarde la connaissance des peuples de l’Orient, La Compagnie des Libraires, Paris, M.DC.XCVII
Le traité des trois imposteurs/ trad. du latin par Philomneste junior, librairie de l’académie des bibliophiles, Paris, 1867 .
M. De Pastoret, Zoroastre, Confucius et Mahomet, comparés comme Sectaires, Législateurs et Moralistes; avec le tableau de leurs dogmes, de leurs lois et de leur morale, 1787, Paris, Buisson, 1 vol, M.DCC.LXXXXVIII
Peter Friedrich Arpe, Vroes, Jean Maximilien Lucas, Traité des trois imposteurs, Imprimerie philosophique, Suise, 1793.
ristan Vigliano, «John Tolan, Mahomet l’Européen. Histoire des représentations du Prophète en Occident», Mélanges de la Casa de Velázquez [En ligne], 49-2 | 2019, mis en ligne le 18 octobre 2019, consulté le 17 mai 2024.
http://journals.openedition.org/mcv/11929.

-------------------------------------------------
[1](*)- جامعة الشيخ الشهيد العربي التبسي، تبسه – الجزائر.
[2]- كوماس، جوان، خرافات عن الأجناس، ص43.
[3]- D. Kimon, La Pathologie de l’Islam et les moyens de le détruire, étude psychologique, L’auteur, Paris, 1897, p.2.
[4]- IBID, p.2.
[5]- IBID, p.4-5.
[6]- IBID, D. Kimon, La Pathologie de l’Islam et les moyens de le détruire, p.7.
[7]- IBID, p.12.
[8]- IBID, D. Kimon, La Pathologie de l’Islam et les moyens de le détruire, p.17.
[9]- IBID, p.26-27.
[10]- هونكه، زيغريد، شمس العرب تسطع على الغرب، أثر الحضارة الأوروبية في أوروبة، ص157.
[11]- IBID, D. Kimon, La Pathologie de l’Islam et les moyens de le détruire, p.28.
[12]- عمارة، محمد، مقام العقل في الإسلام، ص8.
[13]- م.ن، ص27.
[14]- IBID, D. Kimon, La Pathologie de l’Islam et les moyens de le détruire, p.32.
[15]- فاجليري، لورا فيشيا، دفاع عن الإسلام، ص21.
[16]- م.ن، ص56.
[17]- D. Kimon, La Pathologie de l’Islam et les moyens de le détruire, étude psychologique, p.33.
[18]- ايرفينج، واشنطن، محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وخلفاؤه، ص127.
[19]- م.ن، ص127.
[20]- D. Kimon, La Pathologie de l’Islam et les moyens de le détruire, étude psychologique, p.36
[21]- (Mahound) (ماهوند) تعني الشيطان المتجدّد، ويعتبر برنارد لويس أن مصطلح ماهوند تطوّر دلاليًّا ليدل ويصور محمّدًا على أنه شيطان، وفي أنشودة رولان يدلّ مصطلح ماهوند على إله مزيف في ثالوث غير مقدس...
[22]- واط، وليام مونتغمري، تأثير الإسلام في أوروبا العصور الوسطى، ص130-131.
[23]- D. Kimon, La Pathologie de l’Islam et les moyens de le détruire, étude psychologique, p.39-40.
[24]- جعفر، علي محمد، فلسفة العقوبات في القانون والشرع الإسلاميّ، ص39.
[25]- أبو زهرة، محمد، الجريمة والعقوبة في الفقه الإسلامي، ص9.
[26]- D. Kimon, La Pathologie de l’Islam et les moyens de le détruire, étude psychologique, p.41.
[27]- بن عقيل الظاهري، أبو عبد الرحمن، مسائل من تاريخ الجزيرة العربية، ص196.
[28]- D. Kimon, La Pathologie de l’Islam et les moyens de le détruire, étude psychologique, p.49.
[29]- Ibid, p.50.
[30]- بوكاي، موريس، التوراة والإنجيل والقرآن والعلم، ص152-153.
[31]- D. Kimon, La Pathologie de l’Islam et les moyens de le détruire, étude psychologique, p.51.
[32]- للمزيد من التعمق في الموضوع ينر كتاب: محمود، محمود عرفة، العرب قبل الإسلام، أحوالهم السياسية والدينية وأهم مظاهر حضارتهم، ص223.
[33]- D. Kimon, La Pathologie de l’Islam et les moyens de le détruire, étude psychologique, p.55.
[34]- الخطاب، عبد الكريم، إعجاز القرآن في دراسة كاشفة لخصائص البلاغة العربية ومعاييرها، ج2، ص295.
[35]- D. Kimon, La Pathologie de l’Islam et les moyens de le détruire, étude psychologique, p.61.
[36]- IBID, D. Kimon, La Pathologie de l’Islam et les moyens de le détruire, p.56-58.
[37]- IBID, p.62.
[38]- الزمخشري، جار الله أبي القاسم محمود بن عمر (467/ 538ﻫ)، الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيوب الأقاويل في وجوه التأويل، ج1، ص95.
[39]- D. Kimon, La Pathologie de l’Islam et les moyens de le détruire, étude psychologique, p.70.
[40]- François Déroche, La réception du Coran en Occident in Le Coran, Presses Universitaires de France, Paris, 2009, p.111.
[41]- جاك .س. ريسلر، الحضارة العربية، ص31.
[42]- D. Kimon, La Pathologie de l’Islam et les moyens de le détruire, étude psychologique, p.74.
[43]- عبده، محمد، الإسلام بين العلم والمدنية، ص177.
[44]- بن باديس، عبد الحميد محمد، تفسير ابن باديس في مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير، ص158.
[45]- D. Kimon, La Pathologie de l’Islam et les moyens de le détruire, étude psychologique, p.119.
[46]- IBID, p.177-178.
[47]- D. Kimon, La Pathologie de l’Islam et les moyens de le détruire, étude psychologique, p.178-179
[48]- IBID, p.126
[49]- بوتشيش، إبراهيم القادري، محطات في تاريخ التسامح بين الأديان في الأندلس، مجلة دراسات أندلسية، العدد 31، جويلية 2004، ص73-74.